ﰡ
٩٣ - إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ | فذاك أمانةَ الله الثريدُ |
والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها، حُذِف حرف القسم، وبقي
فتلخَّص ممَّا تقدم: أن في «الم» ونحوها ستةَ أوجه وهي: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، أو لها محلٌّ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم.
وأمَّا «ذلك الكتاب» فيجوز في «ذلك» أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه، والجملةُ خبرُ «ألم»، وأغنى الربطُ باسمِ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ «الم» مبتدأً و «ذلك» خبره و «الكتاب» صفةٌ ل «ذلك» أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان، وأن يكونَ «ألم» مبتدأً و «ذلك» مبتدأ ثان، و «الكتاب» : إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له.
و ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ خبرٌ عن المبتدأ الثاني، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول، ويجوز أن يكونَ «ألم» خبرَ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هذه ألم، فتكونُ جملةً مستقلةً بنفسها، ويكونُ «ذلك» مبتدأ ثانياً، و «الكتابُ» خبرُه، ويجوز أن يكونَ صفةً له أو بدلاً أو بياناً و ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هو الخبرُ عن «ذلك»، أو يكون «الكتابُ» خبراً ل «ذلك» و ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ خبرٌ ثانٍ، وفيه نظرٌ من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ٢٠] إذا قيل إنَّ «تَسْعَى» خبرٌ، وأمَّا إن جُعِل صفةً فلا.
وقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه، ويجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والعاملُ فيه معنى الإِشارة،
٩٤ - فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسيفِه... فقال: ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ
وقيل: بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ، وبيانُه في غير هذا الكتابِ.
وزعم الزجاج أنَّ حركةَ «لا رجلَ» ونحوِه حركةُ إعراب، وإنما حُذِف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ، كقوله:
٩٥ - ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً | يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ |
فإن لم يكن مفرداً - وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو: «لا خيراً من زيد» ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة، وأمًّا نحوُ:
٩٦ - تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ | بريءٌ من الحُمَّى سليمُ الجوانِحِ |
٩٧ - أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ | نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ |
٩٨ - لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي... وقولِه عليه السلام: «لا قريشَ بعد اليوم، إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه» فمؤولٌ.
و «ريبَ» اسمُها، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو «فيه»، إلا أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريبَ كائنٌ، ويكون الوقف على «ريب» حينئذ تاماً، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها، قالوا: لا عليك، أي لا بأسَ عليك، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي عاملةٌ في الخبر.
ولها أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو.
واعلم أن «لا» لفظٌ مشتركٌ بين النفي، وهي فيه على قسمين: قسمٌ تنفي فيه الجنسَ فتعملُ عمَل «إنَّ» كما تقدم، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ عملَ ليس، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في ﴿وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧].
واختلف النحويون في ذا: هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ البصريين. ثم اختلفوا: هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً، وقُلبت العينُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ، والمبني لا يدخله تصريف.
وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه، ومنه:
٩٩ - أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه | تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا |
١٠٠ - بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً | أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها |
١٠١ - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها | كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ |
١٠٢ - وَفْراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها | مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ |
١٠٣ - لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به | على قُلوصِك واكتبْها بأَسْيارِ |
والرَّيْبُ: الشكُّ مع تهمة، قال:
١٠٤ - ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ | إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ |
وقال بعضهم: في الريب ثلاثةُ معانٍ، أحدُها: الشكُّ. قال ابن الزبعرى:
١٠٥ - ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ... وثانيها التهمةُ: قال جميل بثينة:
١٠٦ - بُثَيْنَةُ قالت: يا جميلُ أَرَبْتَني... فقلت: كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ
وثالثها الحاجةُ، قال:
١٠٧ - قََضَيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ | وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا |
وقد تقدَّم معنى «الهدى» عند قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٦]، و «هُدَى» مصدرٌ على فُعَل، قالوا: ولم يَجىءْ من هذا الوزن في المصادر إلا: سُرى وبُكى وهُدى، وقد جاء غيرُها، وهو: لَقِيْتُه لُقَى، قال:
١٠٨ - وقد زعموا حِلْماً لُقاك ولم أَزِدْ | بحمدِ الذي أَعْطَاك حِلْماً ولا عَقْلا |
و «في» معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: زيدٌ في الدار،
{وَلَكُمْ
والهاءُ في «فيه» أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين، وقد قرأ حمزة: «لأهلهُ امكثوا» وحفص في «عاهد عليهُ الله»، «وما أنسانيهُ إلا» بلغةِ الحجاز، والمشهورُ فيها - إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو: فيه ومنه - الاختلاسُ، ويجوز الإِشباعُ، وبه قرأ ابن كثير، فإنْ تحرَّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً.
وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ، قال علقمة:
١٠٩ - تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها | وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ تَدْويمُ |
والثاني: أنه مخصوصٌ، والمعنى: لا ريبَ فيه عند المؤمنين، والثالث: أنه خبرٌ معناه النهيُ، أي لا تَرْتابوا فيه. والأول أحسنُ.
و «المتقين» جمعُ مُتَّقٍ، وأصلُهُ مُتَّقْيِيْن بياءين، الأولى لامُ الكلمة والثانيةُ علامةُ الجمع، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِف إحداهما، وهي الأولى، ومتَّقٍ من اتَّقَى يتَّقِي وهو مُفْتَعِل من الوقاية، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تاءً نحو: اتَّعَدَ من الوَعْد، واتَّسَرَ من اليُسْر، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ، قالوا: اتَّزر واتَّكل من الإِزار والأكل.
ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً: الاتخاذ نحو: اتَّقى، والتَّسَبُّب نحو: اعْتَمَلَ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو: اضطرب، والتخيُّر نحو: انتخب، والخطف نحو: اسْتَلَبَ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو: انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ، ومطاوعةُ فَعَّل نحو: عَمَّمْتُه فاعتمَّ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو: اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ، وموافقةُ المجرد نحو: اقتَدَرَ بمعنى قَدَر، والإِغناءُ عنه نحو: استلم الحجرَ، لم يُلفظ له بمجردٍ.
والوِقايةُ: فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه، ومنه: فرسٌ واقٍ
١١٠ - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه | فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ |
وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي، فالهمزة
وأصلُ «يُؤْمِنون» : يُؤَأْمِنُون بهمزتين، الأولى: همزةُ أَفْعَل، والثانيةُ: فاء الكلمةِ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو: أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو: أنا أُكرم. الأصل: أُأَكْرِمُ بهمزتين، الأولى: للمضارَعةِ، والثانيةُ: هَمزَةُ أَفْعل، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أولى بالمحافظةِ عليه، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك، إلا في ضرورة كقوله:
١١١ - فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ | بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ ومِعْصَمِ |
١١٢ - فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما | ........................ |
ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي: يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه.
وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبْدَلَ حرفاً/ مجانساً نحو: راس وبير ويُؤمن، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرى وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن.
و «يُقيمون» عطفٌ على «يُؤمنون» فهو صلةٌ وعائدٌ. وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في «مستقيم»، وقد تقدَّم في الفاتحة. ومعنى يُقيمون: يُدِيمون أو يُظْهِرون، قال الشاعر:
١١٣ - أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ ال | طِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً |
١١٤ - وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا | حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ |
١١٥ - تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا | يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا |
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي | يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا |
١١٦ - لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها | وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما |
١١٧ - لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ الل | هُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي |
١١٨ - فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ | فما صلى عَصاكَ كمُسْتديمِ |
١١٩ - وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ | لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها |
١٢٠ - رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه | إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا |
و «مِنْ» هنا لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أُخر: بيانُ الجنس: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠]، والتعليل: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ [البقرة: ١٩]، والبدلُ: ﴿بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨]، والمجاوزةُ: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٢١]، وانتهاء الغاية قريبٌ منه، والاستعلاءُ: {وَنَصَرْنَاهُ
والهمزةُ في «أَنْفَقَ» للتعدية، وحُذِفَتْ من «ينفقون» لِما تقدَّم في ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٣].
١٢١ - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ | وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ |
١٢٢ - يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال | صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ |
و «بما أُنْزِلَ» متعلِّقٌ به و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، و «أُنْزِلَ» صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: «لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل».
و «إليك» متعلِّقٌ ب «أُنزل»، ومعنى «إلى» انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]، والتبيين: ﴿رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ [يوسف: ٣٣]، وموافقة اللام وفي ومِنْ: ﴿والأمر إِلَيْكِ﴾ [النمل: ٣٣] أي لك: وقال النابغة:
١٢٣ - فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني | إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ |
١٢٤ -.............................
أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: «تهوى إليهم» بفتح الواو.
والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ [الصافات: ١٧٧] أي حلَّ ووَصَل، و «ما» الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على «ما» الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على «ما» التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ.
و «مِنْ قبلِك» متعلِّقٌ ب «أُنْزِلَ»، و «مِنْ» لابتداء الغاية، و «قبل» ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ «بعد»، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإِعرابِ قولُه:
١٢٥ - فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً | أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ |
١٢٦ - ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ | فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا |
واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم، وقرئ: «بما أَنْزَلَ إليك» مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ، وقُرئ أيضاً: أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله:
١٢٧ - إنما شِعْريَ مِلْحٌ | قد خُلْط بجُلْجُلانْ |
و «بالآخرةِ» متعلِّقٌ بيوقنون، و «يُوقنون» خبرٌ عن «هم» وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] لذلك، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ: ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون.
والإِيقانُ: تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال: يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل.
والآخرة: تأنيث آخِر المقابل لأوَّل، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى
١٢٨ - أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى | وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ |
١٢٩ - فلا وأبي الطيرِ المُرِبَّة بِالضُّحى | على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ |
و «أولئك» : اسمُ إشارةٍ يشترك فيه جماعةُ الذكور والإِناث، وهو مبنيٌّ على الكسر لشبِهْه بالحرفِ في الافتقار، وفيه لغتان: المدُّ والقَصْر، ولكنَّ الممدود للبعيد، وقد يقال: أولا لِك، قال:
﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ :«أولئك» مبتدأ و «هم» مبتدأ ثانٍ، و «المفلحون» خبره، والجملةُ خبر الأول، ويجوز أن يكونَ «هم» فصلاً أو بدلاً، والمفلحون: الخبر. وفائدةُ الفصل: الفرقُ بين الخبرِ والتابعِ، ولهذا سُمِّيَ فَصْلاً، ويفيدُ أيضاً التوكيدَ، وقد تقدَّم أنه يجوز أن يكون «أولئك» الأولى أو الثانية خبراً عن «الذين يؤمنون»، وتقدَّم تضعيفُ هذين القولين. وكَرَّرَ «أولئك» تنبيهاً أنهم كما ثَبَتَت لهم الأُثْرَةُ بالهُدَى ثَبَتت لهم بالفلاح، فجُعِلت كلُّ واحدةٍ من الأُثْرَتَيْنِ في تميُّزِهم بها عن غيرِهم بمثابةِ لو انفردت لَكَفَتْ مُمَيِّزة على حِدَتها.
وجاء هنا بالواو بين جملةِ قوله: ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون﴾ بخلافِ قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون﴾ [الأعراف: ١٧٩] لأن الخبرَيْن هنا متغايران فاقتضى ذلك العطفَ، وأما تلك الآيةُ الكريمةُ فإن الخبريْن فيها شيءٌ واحدٌ، لأن التسجيلَ عليهم بالغفلةِ وتشبيهَهم بالأنعام معنى واحدٌ وكانَتْ عن العطف بِمَعْزِل، قال الزمخشري: «وفي اسم الإِشارة الذي هو» أولئك «إيذانٌ بأنَّ ما يَرِد عقيبَه والمذكورين قبله أهلٌ لاكتسابِه من أجل الخصال التي عُدِّدَت لهم، كقول حاتم:» وللهِ صعلوكٌ «، ثمَ عَدَّد له خِصالاً فاضلة، ثم عقَّبَ تعديدها بقوله:
١٣٠ - أُولا لِك قومي لم يكونوا أُشَابَةً | وهل يَعِظُ الضِّلِّيلَ إلا أُولا لِكَا |
١٣١ - فذلك إن يَهْلِكْ فَحُسْنى ثناؤُه | وإن عاش لم يَقْعُدْ ضعيفاً مُذَمَّماً |
١٣٢ - لاَ تَبْعَثَنَّ إلى ربيعةَ غيرَها | إن الحديدَ بغيرِه لا يُفْلِح |
١٣٣ - لو أن حَيَّاً مُدْرِكُ الفَلاحِ | أَدْرَكه مُلاعِبُ الرِّماحِ |
١٣٤ - نَحُلُّ بلاداً كلُّها حَلَّ قبلَنا | ونرجو الفَلاَح بعد عادٍ وحِمْيَرِ |
١٣٥ - لكلِّ هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ | والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَح معه |
و ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ اسمُها، و «كفروا» صلةٌ وعائدٌ و «لا يؤمنون» خبرُها، وما بينهما اعتراضٌ، و «سواءٌ» مبتدأ، و «أأنذرتهم» وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ، والتقدير: سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ. ويجوز أن يكون سواءٌ «خبراً مقدماً، و» أنذرتهم «بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه: الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ. وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو» لا يؤمنون «كما تقدَّم، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن، وجملة» لا يؤمنون «في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك، ويجوز أن يكونَ» سواءٌ «وحده خبرَ إنَّ، و» أأنذرتَهُم «وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له: والتقديرُ: استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه، و» لا يؤمنون «على ما تقدَّم من الأوجه، أعنى الحالَ والاستئناف، والدعاءَ والخبريةَ.
والهمزةُ في» أأنذرتَهُمْ «الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ، إذ المرادُ التسويةُ، و» أأنْذَرْتَهم «فعل وفاعل ومفعول.
و» لم «حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ [مريم: ٤] ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣]، وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى، أم المعنى دونَ اللفظ؟ قولان أظهرهُما الثاني، وقد يُحْذَفُ مجزومُها.
والكَفْر: السِّتْر، ومنه سُمِّي الليل كافراً، قال:
١٣٦ - أَفْلِحْ بما شِئْت فقد يُبْلَغُ بال | ضَّعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريب |
١٣٧ - فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ | وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ |
١٣٨ -..........................
وقال آخر:
١٣٩ -...................... | في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها |
١٤٠ - مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها | والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ |
١٤١ - وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته | سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها |
١٤٢ - أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها | يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ |
١٤٣ - سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه | أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ |
١٤٤ -....................... | سواءٌ صحيحاتُ العيون وعُورُها |
١٤٥ - أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل | قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو |
والهمزةُ في» أَنْذَرَ «للتعدية، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ، فقال ابن عطية:» لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ، وإنما جرى عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ، ألا ترى أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً: «سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ»، وإذا قلتَ مستفهماً: «أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ» ؟ فقد استوى الأمران عندكَ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً «وهو كلامٌ حسنٌ.
إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله: «أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر» بما معناه: أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ.
ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ «أم لم تُنذِرْهم» والابتداء بقوله: «لا يؤمنون» على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في «الوقف والابتداء» له.
١٤٦ - أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ | وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ |
١٤٧ - تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ | فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ |
وقُرئ: «غِشاوةً» نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، الأولُ: على إضمار فعلٍ لائق، أي: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]. والثاني: الانتصابُ على إِسقاط حرف
١٤٨ - تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا | كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ |
وقال الفارسي: «قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ: إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه» خَتَم «تقديره: وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً، فيجيء الكلامُ من باب:
١٤٩ - يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا | متقلِّداً سيفاً ورُمْحا |
وقُرئ» غشاوة «بفتح العين وضَمِّها، و» عشاوة «بالمهملة. وأصوبُ القراءاتِ المشهورةُ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة.
والخَتْمُ لغةً: الوَسْمُ بطابع وغيره و» القلبُ «أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا العضوُ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها، عليه، ولهذا قال:
١٥٠ - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً | حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها |
١٥١ - ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه | فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْويلِ |
والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِع، وقد يستعمل بمعنى الاستماع، قال:
١٥٢ - وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ | بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ كَذِبُ |
١٥٣ - كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا | فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ |
١٥٤ - لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها | فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ |
١٥٥ - لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا | في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا |
والأَبْصار: جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ، قالوا: وليس بمصدر لجَمْعِه، ولقائلٍ أن يقولَ: جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما تقدَّم في قلوب جمع قَلْب، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به، ويجوز أن يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً كما تقدَّم.
والغِشاوى الغِطَاءُ، قال:
١٥٦ - تَبِعْتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ | فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَلومُها |
١٥٧ - هَلاَّ سألْتِ بني ذُبْيان ما حَسْبي | إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرِمَا |
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ :«لهم» خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «عذابٌ» مبتدأ مؤخر، و «عظيمٌ» صفته، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم، لأنَّ للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه، فهو نظير: ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ [الأنعام: ٢] من حيث الجوازُ.
والعَذابُ في الأصل: الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ، وقيل: أصلُه المنعُ، وهذا هو الظاهرُ، ومنه قيل للماء: عَذْب، لأنه يمنع العطشَ، والعذابُ يمنع من الجريمة. و «عظيمٌ» اسمُ فاعلٍ من عَظُم، نحو: كَريم من كَرُم غيرَ مذهوبٍ به مذهبَ الزمان، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ، ثم قد توصفُ به المعاني، وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ، والكبيرَ يقابل الصغيرَ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ؟ قولان.
وفعيل له معانٍ كثيرةٌ، يكون اسماً وصفةً، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ، والمفردُ
١٥٨ - رُبَّ مَنْ أنْضَجْتُ غيظاً قلبَه | قد تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ |
١٥٩ - فكفى بنا فضلاً على مَنْ غيرُنا | ............................ |
١٦٠ - يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ له | حَرُمَتْ عليَّ ولَيْتَها لم تَحْرُمِ |
و» مِنْ «في» مِنَ الناس «للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها للبيان وهو غَلَطٌ لعدم تقدُّم ما يتبيَّن بها. و» الناس «اسمُ جمع لا واحدَ له مِنْ لفظه، ويرادفُهُ» أناسِيٌّ «جمع إنسان أو إِنْسِيّ، وهو حقيقةٌ في الآدميين، ويُطْلق على الجن
١٦١ - وما سُمِّي الإِنسانُ إلا لأُِنْسِه | ولا القلبُ إلا أنه يَتَقَلَّبُ |
١٦٢ - إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ | نَ على الأُناس الآمنينا |
١٦٣ - وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ | ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فهو سارِبُ |
١٦٤ - وكلُّ أُناسٍ سوف تَدْخُل بينهم | دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ |
١٦٥ - فإنْ نَسِيْتَ عُهوداً منك سالفةً | فاغفرٍ فأولُ ناسٍ أولُ الناس |
١٦٦ - لا تَنْسَيَنْ تلك العهودَ فإنما | سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسِي |
و «يقول» : فعل مضارع وفاعله ضميرٌ عائد على «مَنْ»، والقولُ حقيقةً: اللفظُ الموضوعُ لمعنىً، ويُطْلَقُ على اللفظِ الدالِّ على النسبةِ الإِسناديةِ وعلى الكلام النفساني أيضاً، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨]، وتراكيبه الستة وهي: القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تَدُلُّ على الخفَّةِ والسرعةِ، وإنْ اختصَّتْ بعضُ هذه الموادِّ بمعانٍ أُخَرَ. والقولُ أصلُ تعديتِه لواحدٍ نحو: «قُلْتُ خطبةً»، وتحكى بعده الجملُ، وتكون في حلِّ نصب مفعولاً بها إلا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الظن فيعملَ عَمَلَه بشروطٍ عند غير بني سُلَيْم مذكورةٍ في كتب النحو، كقوله:
١٦٧ - متى تقولُ القُلُصَ الرواسِما | يُدْنِيْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما |
١٦٨ - قالتْ وكنتُ رجلاً فطيناً | هذا لَعَمْرُ اللهِ إسرائينا |
واعلم أن «مَنْ» وأخواتها لها لفظٌ ومعنىً، فلفظُها مفردٌ مذكَّرٌ، فإن أريد بها غيرُ ذلك فلك أن تراعيَ لفظها مرةً ومعناها أخرى، فتقول: «جاء مَنْ قام وقعدوا» والآيةُ الكريمة كذلك، روعي اللفظُ أولاً فقيل: «مَنْ يقول»، والمعنى ثانياً في «آمَنَّا»، وقال ابن عطية: «حَسُن ذلك لأنَّ الواحدَ قبلَ الجمعِ في الرتبة، ولا يجوزُ أن يرجِعَ متكلمٌ من لفظِ جَمْعٍ إلى توحيدٍ، لو قلت: ومن
١٦٩ - لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو | ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي |
و «الآخِر» صفةٌ لليوم، وهو مقابِلُ الأولِ، ومعنى اليومِ الآخر أي عن الأوقات المحدودة.
و ﴿مَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ ما نافية، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ «هم» اسمَها، وبمؤمنين خبرَها، والباء زائدةٌ تأكيداً وأن تكونَ التميميةَ، فلا تعملَ شيئاً، فيكونُ «هم» مبتدأ و «بمؤمنين» الخبرَ والباءُ زائدةٌ أيضاً، وزعم أبو علي الفارسي وتبعه الزمخشري أن الباءَ
١٧٠ - لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حَقِّه | ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ |
١٧١ - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ | تَصِل الجيوشُ إليكمُ أَقْوادَها |
أبناؤُها متكنِّفَون أباهُمُ | حَنِقُو الصدورِ وما هُمُ أولادَها |
١٧٢ - إنَّ عليَّ اللهَ أن تُبايعا | تُؤْخَذَ كَرْهاً أو تَجِيءَ طائِعا |
١٧٣ - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا | تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجَا |
والخِداعُ أصلُه الإِخفاء، ومنه الأَخْدَعان: عِرْقَان مستبطنان في العُنُق ومنه مَخْدَع البيت، فمعنى خادع أي: مُوهِمٌ صاحبَه خلافَ ما يريد به من المكروه، وقيل: هو الفساد، قال الشاعر:
١٧٤ - أبيضُ اللونِ لذيذٌ طَعْمُهُ | طَيِّبُ الرِّيقِ إذا الريقُ خَدَعْ |
المعنى: أعجبني كرمُ زيد، وإنما ذُكر «زيدٌ» توطئةً لذِكْر كرمه «وجَعَل ذلك نظيرَ قوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] ﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧]. وهذا منه غيرُ مُرْضٍ، لأنه إذا صَحَّ نسبةُ مخادعتِهم إلى الله تعالى بالأوجهِ المتقدمة فلا ضرورة تدعو إلى ادِّعاء زيادةِ اسم اللهِ تعالى، وأمَّا» أعجبني زيدٌ وكرمُه «فإنَّ الإِعجابَ أُسْنِدَ إلى زيدٍ بجملتِه، ثم عُطِفَ عليه بعضُ صفاتِه تمييزاً لهذه الصفةِ مِنْ بينِ سائرِ الصفاتِ للشرفِ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقولِه تعالى: ﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
وفَاعَلَ له معانٍ خمسةٌ: المشاركةُ المعنويةُ نحو:» ضاربَ زيدٌ عمراً «وموافقةُ المجرد نحو:» جاوَزْتُ زيداً «أي جُزْتُه، وموافقةُ أَفْعَل متعدياً نحو:» باعَدْتُ زيداً وأَبْعدته «، والإِغناءُ عن أَفْعل نحو:» وارَيْتُ الشيءَ «، وعن المجردِ نحو: سافَرْت وقاسَيْت وعاقَبْت، والآيةُ فيها فاعَلَ يحتمل المعنيين الأَوَّلَيْنِ. أمَّا المشاركةُ فالمخادعةُ منهم لله تعالى تقدَّم معناها، ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا، ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم، وأمَّا كونُه بمعنى المجرد فيبيِّنه قراءةُ ابن مسعود وأبي حيوة:» يَخْدَعون «.
١٧٥ - لم تَدْرِ ما لا ولستَ قائلَها | عُمْرَكَ ما عِشْت آخرَ الأبدِ |
ولم تُؤامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً | فيها وفي أختِها لم تَكَدِ |
١٧٦ - يؤامِرُ نَفْسَيْهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ | أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبانَ أَمْ لا يَطورُها |
[التوبة: ٣٢]، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥]، وللاستثناء أحكامٌ كثيرة تأتي مفصلةً في غضون الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقُرئ: «وما يُخْدَعون» مبنياً للمفعول، وتخريجُها على أنَّ الأصلَ وما يُخْدَعون إلا عن أنفسِهم، فلمّا حُذِف الحرف انتصبَ على حدٍّ:
١٧٧ - تَمُرُّون الديار ولم تَعُوجوا | ............................. |
﴿وَمَا يَشْعرونَ﴾ هذه الجملةُ الفعليةُ، يُحتمل ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعراب، لأنها استئنافٌ، وأن يكونَ لها محلٌّ وهو النصبُ على الحال من فاعل «يَخْدعون»، والمعنى: وما يَرْجِعِ وبالُ خِداعِهم إلا على أنفسِهم غيرَ شاعِرين بذلك. ومفعولُ «يَشْعُرون» محذوفٌ للعلم به، تقديرُه: وما يشعرون أنَّ وبالَ خداعِهم راجعٌ على أنفسِهم، أو اطِّلاعِ اللهِ عليهَم، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ لأنَّ الغرضَ نفيُ الشعورِ عنهم البتةَ من غير نظرٍ إلى مُتَعَلِّقِهِ، والأولُ يُسَمَّى حذفَ الاختصارِ، ومعناه حَذْفُ الشيءِ لدليلٍ، والثاني يُسَمَّى حذفَ الاقتصار، وهو حَذْفُ الشيءِ لا لدليلٍ.
١٧٨ - في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ | فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ |
وقوله: ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ : هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها، مُتَسَبِّبَةٌ عنها، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى. و «زاد» يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: زاد المال، فهذا لازمٌ، وزِدْتُ زيداً خيراً، ومنه ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ «وزدتُ
﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ نظير قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] وقد تقدَّم. وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم، كقوله:
١٧٩ - ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ | يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ |
و ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في «لهم» أي: استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و «ما» يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ ل «كان» مصدراً، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر:
١٨٠ - بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى | وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ |
وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ، قال: «لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على» الذي «لا على المصدرِ» وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ، إذ لقائلٍ أن يقولَ: لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة، حتى يلزمَ جَعْلُ «ما» اسميةً، بل مَنْ قرأ «يَكْذِبون» مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي: بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف. وقرأ الكوفيون: «يَكْذِبون» بالفتح والتخفيفِ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ.
ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمْيُ بكذا، ومنه الآيةُ الكريمةُ، والتعديةُ نحو: فَرَّحْتُ زيداً، والتكثير نحو: قَطَّعْتُ
١٨١ - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها | مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا |
و «الكذب» اختلف الناسُ فيه، فقائلٌ: هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا. وقيل: الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا، والصدقُ نقيضُه، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ.
١٨٢ - تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي | ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ |
١٨٣ - واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى | تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ |
١٨٤ - إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها | خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ |
١٨٥ - فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ | وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ |
وقولُه تعالى: «قيل» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ، وأصلُه: قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً، وهذه أفصحُ اللغاتِ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإِشمامُ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم، نحو: قُوْلَ وبُوعَ، قال الشاعر:
١٨٦ - ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ | ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ |
١٨٧ - حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ | تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ |
واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس، هكذا قال بعضُهم، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك، وأشمَّ الكسائي: ﴿قيل﴾ [البقرة: ١١]، ﴿وغيض﴾ [هود: ٤٤] ﴿وجيء﴾ [الزمر: ٦٩]، ﴿وحيل بينهم﴾ [سبأ: ٥٤]، ﴿وسيق الذين﴾ [الزمر: ٧١]، ﴿وسيىء بهم﴾ [هود: ٧٧]، ﴿وسيئت وجوهُ﴾ [الملك: ٢٧]، وافقه هشام في الجميع، وابنُ ذكوان في «حيل» وما بعدها، ونافع في «سيئ» و «سيئَتْ» والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع. والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في «يوسف» إن شاء الله تعالى عند ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا﴾ [يوسف: ١١] فإنه أليقُ به.
قال هذا القائل: «والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك:» إذا قمت فعمورٌ قائمٌ «، ووقوعُ» إذا «الفجائية جواباً لها، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما. وهو اعتراضٌ ظاهر.
وقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ » إنَّ «حرفٌ مكفوفٌ ب» ما «الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم. وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن» إنما «مركبة من» إنَّ «التي للإِثبات و» ما «التي للنفي، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ. واعلم أنَّ» إنَّ «وأخواتِها إذا ولِيَتْها» ما «الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ، إلا» ليت «فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قولَ النابغة:
١٨٨ - وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا | ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ |
١٨٩ - قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا | إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ |
و» نحن «مبتدأ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم، ومن معه، أو المعظِّمِ نفسه، و» مصلحون «خبرُه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا. والجملة الشرطيةُ وهي قولُه:» وإذا قيلَ لهم «عطفٌ على صلة مَنْ، وهي» يقولُ «، أي: ومن الناس مَنْ يقول، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا:. وقيل: يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإِعراب لما تقدم، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على» يَكْذِبُون «الواقع خبراً ل» كانوا «، فيكونَ محلُّها النصبَ. وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي» ما «مِنْ قوله ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ خطأٌ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، إذ لا عائدَ فيها يعود على» ما «الموصولةِ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج. والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما
و «إنهم» «إنَّ» واسمُها، و «هم» تَحْتمل ثلاثةَ أوجه، أحدها: أن تكون تأكيداً لاسم «إنَّ» لأنَّ الضميرَ المنفصلَ المرفوعَ يجوز أن يؤكَّد به جميعُ ضروبِ الضميرِ المتصلِ، وأن تكون فصلاً، وأن تكونَ مبتدأ و «المفسدون» خبره، وهما خيرٌ ل «إنَّ»، وعلى القَولَيْن الأَوَّلَيْن يكونُ «المفسدون» وحده خبراً لإِنَّ. وجيء في هذه الجملة بضروبٍ من التأكيد، منها: الاستفتاحُ والتنبيه والتأكيدُ بإنَّ وبالإِتيانِ وبالتأكيدِ أو الفصلِ بالضميرِ وبالتعريفِ في الخبر مبالغةً في الردِّ عليهم فيما ادَّعَوه من قولهم: إنما نحن مصلحون، لأنهم أَخْرجوا الجوابَ جملةً
قوله تعالى: ﴿ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ الواوُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلها و «لكن» معناها الاستدراكُ، وهو معنىً لا يفارقها، وتكون/ عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلا بين ضِدَّيْن أو نقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ، نحو: «ما قام زيدٌ لكن خرج بكر»، واستدلَّ بعضُهم على ذلك بقولِ طرفة:
١٩٠ - ولستُ بحَلاَّلِ التِّلاعِ لِبَيْتِهِ | ولكن متى يَسْترفدِ القومُ أَرْفِدِ |
ومعنى الاستدراكِ في هذه الآيةِ يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّلٍ ونَظَر، وذلك أنهم لَمَّا نُهُوا عن اتخاذِ مثلِ ما كانوا يتعاطَوْنه من الإِفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر تعالى بأنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يَعْلَموا أن ذلك كما أخبر تعالى وأنهم لا يَدَّعُون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتَهم من عدمِ الشعورِ بذلك، ومثلُه قولك:» زيدٌ جاهلٌ ولكن لا يعلم «، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل، وصار الجهلُ وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يَعْلَمَ بهذا الوصفِ من نفسه، لأن الإِنسانَ ينبغي
ومفعول» يَشْعرون «محذوف: إمَّا حذفَ اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإمَّا حذفَ اقتصار، وهو الأحسنُ، أي ليس لهم شعورٌ البتة.
والكافُ في قوله: ﴿كَمَآ آمَنَ الناس﴾ في محلِّ نصبٍ. وأكثرُ المُعْرِبينَ يجعلون ذلك نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمانِ الناس، وكذلك يقولون في: «سِرْ عليه حثيثاً»، أي سيراً حثيثاً، وهذا ليس من مذهب سيبويه، إنما مذهبُه في هذا ونحوِه أن يكونَ منصوباً على الحالِ من المصدرِ المضمرِ المفهومِ من الفعلِ المتقدمِ.
وإنما أَحْوَجَ سيبويهِ إلى ذلك أنَّ حَذْفَ الموصوفِ وإقامةَ الصفةِ مُقامَه لا يجوز إلا في مواضعَ محصورةٍ، ليس هذا منها، وتلك المواضعُ أن تكونَ الصفةُ خاصةً بالموصوفِ، نحو: مررت بكاتبٍ، أو واقعةً خبراً نحو: زيد قائم، أو حالاً نحو: جاء زيدٌ راكباً، أو صفةً لظرف نحو: جلستُ قريباً منك، أو مستعمَلةً استعمالَ الأسماء، وهذا يُحْفَظُ ولا يقاس عليه، نحو: الأَبطح والأَبْرق، وما عدا هذه المواضعَ لا يجوزُ فيها حذفُ الموصوف، ألا ترى أن
و «ما» مصدريةٌ في محلِّ جر بالكاف، و «آمَنَ الناسُ» صلتُها. واعلم أن «ما» المصدريةَ تُوصَلُ بالماضي أو المضارعِ المتصرِّف، وقد شَذَّ وصلُها بغيرِ المتصرِّف في قوله:
١٩١ -..................... | بما لَسْتُما أهلَ الخيانةِ والغَدْرِ |
١٩٢ - واصِلْ خليلَك ما التواصلُ مُمْكِنٌ | فلأَنْتَ أو هُو عن قليلٍ ذاهبُ |
١٩ - ٣- أحلامُكم لِسَقامِ الجَهْل شافيةٌ | كما دماؤُكُمُ تَشْفي من الكَلَب |
١٩ - ٤- فإنَّ الحُمْرَ من شرِّ المَطايا | كما الحَبِطاتُ شَرُّ بني تميمِ |
وقوله: ﴿كَمَآ آمَنَ السفهآء﴾ : القولُ في الكافِ و» ما «كالقول فيهما فيما تقدَّم، والألفُ في السفهاء تحتمل أن تكونَ للجنسِ أو للعهدِ، وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها للغلَبةِ كالعَيُّوق، لأنه لم يَغْلِبْ هذا الوصفُ عليهم، بحيث إذا قيل السفهاءُ فُهِمَ منهم ناسٌ مخصوصون، كما يُفْهم من العيُّوق/ كوكب مخصوص.
والسَّفَهُ: الخِفَّةُ، تقول: «ثوبٌ سفيه» أي خفيفُ النَّسْج. وقوله: ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ كقولِه فيما تقدَّم: ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] فلا حاجة إلى إعادتِه. ومعنى الاستدراكِ كمعناه فيما تقدَّم، إلا أنه قال هناك: «لا يشعرون»، لأن المثبتَ لهم هناكَ هو الإِفسادُ، وهو ممَّا يُدْرَكُ بأدنى تأمُّلٍ لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكرٍ كبير، فَنَفَى عنهم ما يُدْرَكُ بالمشاعرِ وهي الحواسُّ مبالغةً في تَجْهيلهم وهو أنَّ الشعور الذي قد ثَبَتَ للبهائم منفيٌّ عنهم، والمُثْبَتُ هنا هو السَّفَهُ والمُصَدَّرُ به هو الأمرُ بالإِيمان وذلك ممَّا يَحتاج إلى إمعان فكرٍ ونظرٍ تامٍ
١٩ - ٥- نخافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحلامُنا | فنجهلَ الجهلَ مع الجاهلِ |
وقد سُمع في مصدر «لَقي» أربعة عشر وزناً: لُقْياً ولِقْيَةً بكسر الفاء وسكون العين، ولِقاء ولِقاءة [ولَقاءة] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة، ولَقَى ولُقَى بفتح القافِ وضمها، ولُقْيا بضم الفاء وسكون العين ولِقِيَّا بكسرهما والتشديد، ولُقِيَّا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم الفاء وكسرها، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً، وتِلْقاء.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا﴾ تقدَّم نظيرُه، والأكثرُ في «خلا» أن يتعدَّى بالباء، وقد يتعدَّى بإلى، وإنما تعدَّى في هذه الآية بإلى لمعنى بديعٍ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما: الانفرادُ، والثاني: السخرية والاستهزاءُ، تقول: «خَلَوْتُ به» أي سَخِرْتُ منه، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط، أو تقول: ضُمِّن خَلا معنى صَرَف فتعدَّى بإلى، والمعنى: صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم، أو تضمَّن معنى ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق:
١٩٦ - ألم تراني قالِباً مِجنِّي | قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي |
والأصل في خَلَوْا: خَلَوُوْا، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها، فبقيَتْ ساكنةً، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ، فالتقَى ساكنان، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليهَا.
قوله تعالى: ﴿قالوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ إنَّ واسمُها و «معكم» خبرُها، والأصل في إنَّا: إنَّنا، كقوله تعالى: ﴿إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً﴾ [آل عمران: ٩٣]، وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني «إنَّ» لَمَّا اتصلت بنونِ ن، تخفيفاً، وقال أبو البقاء: «حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في» إنَّ «إذا خُفِّفَتْ.
و» مع «ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم، فيتعلَّقُ بمحذوف، وهو ظرفُ مكانٍ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ. قالوا: لأنه يَدُلُّ على الصحبةِ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ، وأمَّا كونُه ظرفَ مكانٍ فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو:» زيدٌ معك «، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلَم أنَّ» مع «لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله:
١٩٧ - وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ | وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما |
١٩٨ - حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ | مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما مَعَا |
قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ كقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١]، وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم، كأنهم لمَّا قالوا لهم: «إنَّا معكم» توجَّه عليهم سؤالٌ منهم، وهو فما بالُكم مع المؤمنين تُظاهِرونهم على دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ، وقيل: محلُّها النصب، لأنها بدلٌ من قولِه تعالى: «إنَّا معكم». وقياسُ تخفيفِ همزةِ «مستهزئون» ونحوِه أن تُجْعَلَ بينَ بينَ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي
وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ «في طُغيانهم» و «يَعْمَهون» حالَيْن من الضميرِ في «يَمُدُّهُمْ»، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في حالين، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ ذلك لا لِما ذكره أبو البقاء، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ حالاً، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ، أعني يَمُدُّهُمْ أو يَعْمَهُونَ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ.
وقال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في العُمْرِ والإِملاءِ والإِمهالِ؟ قلت: كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير وابنِ محيصن:» ويُمِدُّهم «وقراءةُ نافعِ» «وإخوانُهم يُمِدُّونهم» على أنَّ الذي بمعنى أمهله إنما هو «مَدَّ له» باللام كأَمْلى له «.
١٩٩ - قد هَزِئَتْ مني أمُّ طَيْسَلَهْ... قالَتْ: أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ
وقيل: أصلُه الانتقامُ، وأنشدَ:
٢٠ - ٠- قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ | سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ جُثَّمُ |
فقيل: المعنى يُجازيهم على استهزائهم، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ الكلامُ، ومنه: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤]. وقال عمرو ابن كلثوم:
٢٠١ - ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا | فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا |
والمشهورُ ضَمُّ واو «اشتروا» لالتقاءِ الساكنين، وإنما ضُمَّتْ تشبيهاً بتاءِ الفاعل. وقيل: للفرقِ بين واوِ الجمع والواوِ الأصليةِ نحو: لو استطعنا. وقيل: لأن الضمة هنا أخفُّ من الكسرةِ لأنها من جنسِ الواو. وقيل حُرِّكَتْ بحركة الياءِ المحذوفةِ، فإنَّ الأصلَ اشْتَرَيُوا كما سيأتي. وقيل هي للجمع فهي مثل: نحن. وقُرئ بكسرِها على أصلِ التقاء الساكنين، وبفتحِها: لأنه أخفُّ. وأجاز الكسائي همزَها تشبيهاً لها بأَدْؤُر وأَثْؤُب وهو ضعيف، لأن
وأصل اشْتَرَوا: اسْتَرَيُوا، فتحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليها، وقيل: بل حُذِفَت الضمة من الياءِ فَسَكَنَتْ، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَت الياءُ لالتقائِهما. فإن قيل: فواوُ الجمع قد حُرِّكَت فينبغي أن يعودَ الساكنُ المحذوفُ، فالجوابُ أن هذه الحركةَ عارضةٌ، فهو في حكمِ الساكنِ، ولم يجيءْ ذلك إلا في ضرورةِ شعرٍ، أنشد الكسائي:
٢٠٢ - يا صَباحِ لَمْ تنامِ العَشِيَّا | فأعاد الألفَ لمَّا حُرِّكَتِ الميمُ حَركةً عارضةً. |
٢٠٣ - بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكرَ جِلْدَه | وَعجَّتْ عَجيجاً من جُذامَ المَطارِفُ |
٢٠٤ - ولَمَّا رأيتُ النَّسْرَ عَزَّ ابنُ دايةٍ | وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جاشَ له صَدْري |
٢٠٥ - فما أُمُّ الرُّدَيْنِ وإنْ أَدَلَّتْ | بعالمةٍ بأخلاقِ الكرامِ |
إذا الشيطانٌ قصَّع في قَفاها | تَنَقَّفْناه بالحَبْل التُّؤامِ |
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ هذه الجملةُ معطوفةٌ على قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾، والرِّبْحُ: الزيادةُ على رأس المال، والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، وافتعل هنا للمطاوعة، ولا يكونُ افْتَعَل للمطاوعة إلا من فِعْلٍ متعدٍ. وزعم بعضُهم أنه يجيء من اللازم، واستدلَّ على ذلك بقول الشاعر:
٢٠٦ - حتى إذا اشْتَال سُهَيْلٌ في السِّحَرْ | كشُعلةِ القابِس تَرْمِي بالشَّرَرْ |
٢٠٧ - أَتَنْتَهُون ولن ينهى ذوي شَطَط | كالطَّعْن يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُل |
٢٠٨ - وَرُحْنا بكابْنِ الماء يُجْنَبُ وَسْطَنا | تَصَوَّبُ فيه العينُ طوراً وتَرْتقي |
٢٠٩ - وَزَعْتُ بكالهَراوةِ أَعْوَجِيٍّ | إذا جَرَت الرياحُ لها وِثابا |
٢١٠ - فَصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مأكولْ | .......................... |
و «الذي» في محلِّ خَفْضٍ بالإِضافة، وهو موصولٌ للمفردِ المذكرِ، ولكن المرادَ به هنا جَمْعٌ، ولذلك رُوعي معناه في قوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأَوْلى أن يقال إن «الذي» وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه، والتقديرُ: مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ، ويكون قد رُوعي الوصفُ مرةً، فعادَ الضميرُ عليه مفرداً في قوله: «استوقد» و «حَوْلَه»، والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليهِ مجموعاً في قوله: «بنورِهم، وتركَهم».
ووهِم أبو البقاء فَجَعَل هذه الآيةَ من باب ما حُذِفَتْ منه النونُ
٢١١ - وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهم | هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ |
وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآيةَ مثلُ قولِه تعالى: ﴿كالذي خاضوا﴾ /، واعتلَّ لتسويغِ ذلك بأَمْرين: أحدُهما أنَّ «الذي» لمَّا كانَ وُصْلَةً لوصفِ المعارفِ ناسَبَ حَذْفَ بعضِه لاستطالتِه، قال: «ولذلك نَهَكُوه بالحَذْفِ، فحذَفوا ياءَه ثم كَسْرَتَه ثم اقتصروا منه على اللامِ في أسماء الفاعِلِين والمفعولين». والأمرُ الثاني: أنَّ جَمْعَه ليس بمنزلةِ جَمْعِ غيرِه بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادةِ الدلالةِ، ألا ترى أن سائرَ الموصولاتِ لَفْظُ الجمع والمفردِ فيهنَّ سواءٌ. وهذا القولُ فيه نَظَرٌ مِنْ وجهين، أحُدهما: أنَّ قول ظاهرٌ في جَعْلِ هذه الآيةِ من باب حَذْف نون «الذين»، وفيه ما تقدَّم من أنه كان ينبغي أن يطابقَ الضميرَ جَمْعاً كما في الآية الأخرى التي نَظَّر بها. والوجهُ الثاني: أنه اعتقدَ كونَ أل الموصولةِ بقيةَ «الذي»، وليس كذلك، بل أل الموصولةُ اسمٌ موصولٌ مستقل، أي: غيرُ مأخوذٍ من شيءٍ، على أن الراجحَ
وفي «الذي» لغاتٌ: أشهرُها ثبوتُ الياء ساكنةً. وقد تُشَدَّد مكسورةً مطلقاً، أو جاريةً بوجوهِ الإِعرابِ، كقوله:
٢١٢ - وليسَ المالُ فاعلَمْهُ بمالٍ | وإنْ أرضاكَ إلا ِللَّذيِّ |
يَنالُ به العَلاءَ ويَصْطَفيه | لأقربِ أَقْرِبيه وللقَصِيِّ |
٢١٣ - فلم أَرَ بيْتاً كان أكثرَ بهجةً | مِنَ اللذْ به من آلِ عَزَّةَ عامرُ |
واستوقَدَ استفْعَلَ بمعنى أفْعَلَ، نحو: استجاب بمعنى أَجاب، وهو رأي الأخفش، وعليه قولُ الشاعر:
٢١٤ - واللذِ لو شاء لكانَتْ بَرّاً | أو جبلاً أَصَمَّ مُشَمْخِراً |
٢١٥ - وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى | فلم يَسْتَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيبُ |
والفاء في «فلمَّا» للسبب. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «كمثل الذين» بلفظِ الجمع، «استوقد» بالإِفراد، وهي مُشْكِلةٌ، وقد خَرَّجوها على أوجهٍ أضعفَ منها وهي التوهُّمُ، أي: كانه نطق بمَنْ، إذا أعاد ضميرَ المفرد على الجمع كقولهم: «ضربني وضربتُ قومَك» أي ضربني مَنْ، أو يعودُ على اسمِ فاعلٍ مفهومٍ من اسْتَوْقََد، والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ، وإن لم يَكْمُلْ شرطُ الحذفِ، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم، وهذه القراءة تُقوِّي قولَ مَنْ يقولُ: إن أصلَ الذي: الذين، فَحُذِفَتِ النونُ.
و «لَمَّا» حرفُ وجوب لوجوب هذا مذهبُ سيبويه. وزعم الفارسي
وتكون «لَمَّا» أيضاً جازمةً لفعلٍ واحد، ومعناها نفيُ الماضي المتصلِ بزمنِ الحال، ويجوزُ حَذْفُ مجزومها، قال الشاعر:
٢١٦ - فجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولَمَّا | فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ |
و «أضاء» يكونُ لازماً ومتعدياً، فإن كان متعدياً ف «ما» مفعولٌ به، وهي موصولة، و «حولَه» ظرفُ مكانٍ ومخفوضٌ به، صلةٌ لها، ولا يَتَصَرَّفُ، وبمعناه: حَوال، قال الشاعر:
ويجوز أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً، و «حولَه» صفتُها، وإن كان لازماً فالفاعلُ ضميرُ النار أيضاً، و «ما» زائدةٌ، و «حوله» منصوبٌ على الظرفِ العاملُ فيهِ «أضاء». وأجاز الزمخشري أن تكون «ما» فاعلةً موصولةً أو نكرةً موصوفةً، وأُنِّثَ/ الفِعلُ على المعنى، والتقدير: فلمَّا أضاءَتِ الجهةُ التي حولَه أو جهةٌ حولَه.
وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكونَ منصوبةً على الظرف، وهي حينئذٍ إمَّا بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، التقدير: فلمَّا أضاءت النارُ المكانَ الذي حوله أو مكاناً حوله، فإنه قال: «يُقال: ضاءَتِ النارُ وأَضاءَتْ بمعنىً، فعلى هذا تكون» ما «ظرفاً وفي» ما «ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن تكونَ بمعنى الذي. والثاني: هي نكرة موصوفةٌ أي: مكاناً حوله، والثالث: هي زائدةٌ» انتهى.
وفي عبارتِه بعضُ مناقشةٍ، فإنه بَعْدَ حُكْمِه على «ما» بأنَّها ظرفيةٌ كيف يجوزُ فيها والحالةُ هذه أن تكونَ زائدةً، وإنما أراد: في «ما» هذه من حيث الجملةُ ثلاثةُ أوجهٍ: وقولُ الشاعر:
٢١٧ - وأنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا | ........................... |
٢١٨ - أضاءَت لهم أحسابُهم ووجُوهُهم | دجى الليلِ حتى نَظَّم الجَزْعَ ثاقِبُهْ |
و «بنورهم» متعلِّقٌ ب «ذَهَبَ»، والباءُ فيها للتعدية، وهي مرادِفَةٌ للهمزة في التعديةِ، هذا مذهبُ الجمهورِ، وزَعَمَ أبو العباس أنَّ بينهما فَرْقاً، وهو أن الباءَ يلزَمُ معها مصاحبةُ الفاعل للمفعولِ في ذلك الفعلِ الذي فَعَلَه به والهمزةُ لا يَلْزَمُ فيها ذلك. فإذا قلتَ: «ذهبْتُ بِزيد» فلا بد أن تكونَ قد صاحَبْتَه في الذهاب فذهبْتَ معه، وإذا قلت: «أَذْهَبْتَه» جاز أن يكونَ قد صَحِبْتَه وألاَّ يكونَ. وقد رَدَّ الجمهورُ على المبرِّد بهذه الآية لأنَّ مصاحَبَتَه تعالى لهم في الذهابِ مستحيلةٌ. ولكن قد أجاب أبو الحسنِ ابنُ عصفور عن هذا بأنه يجوزُ أن يكونَ تعالى قد أَسْنَدَ إلى نفسِه ذهاباً يليقُ به كما أَسْند إلى نفسِه المجي والإِتيان على معنى يليقُ به، وإنما يُرَدُّ عليه بقولِ الشاعر:
٢١٩ - ديارُ التي كانت ونحن على مِنى | تَحِلُّ بنا لولا نَجاءُ الرَّكائِب |
٢٢٠ - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عن حالِ مَتْنِه | كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ |
والضميرُ في «بنورِهم» عائدٌ على معنى «الذي» كما تقدَّم، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على مضافٍ محذوفٍ تقديرُه: كمثلِ أصحابِ الذي استوقدَ، واحتاج هذا القائلُ إلى هذا التقديرِ قال: «حتى يتطابقَ المشبَّهُ والمشبَّهُ به، لأنَّ المشبَّهَ جمعٌ، فلو لم يُقَدَّرْ هذا المضافُ وهو» أصحاب «لَزِم أن يُشَبِّه الجمعَ بالمفردِ وهو الذي استوقد» انتهى.
ولا أدري ما الذي حَمَلَ هذا القائلَ على مَنْعِ تشبيه الجمعِ بالمفردِ في صفةٍ جامعةٍ بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبَّهَ المشبَّهَ به إنما هو القصتان، فلم يقع التشبيهُ إلا بين قصتين إحداهما مضافةٌ إلى جمع والأخرى إلى مفردٍ.
قولُه تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ هذه جملةٌ معطوفةٌ على قوله «ذَهَبَ الله». وأصل الترك: التخليةُ، ويُراد به التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين على الصحيح، كقولِ الشاعر:
٢٢١ - أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به | فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ |
٢٢٢ - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصَرفَتْ له | بشِقٍّ وشِقٍّ عندنا لم يُحَوَّلِ |
ويجوز إذا جَعَلْنا «لا يُبْصِرون» هو المفعولَ الثانيَ أن يتعلَّقَ «في ظلمات» به أو ب «تَرَكهم»، التقدير: «وتَرَكهم لا يُبْصرون في ظلماتٍ». وإن كان «تَرَكَ» متعدياً لواحد كان «في ظلمات» متعلَّقاً بتَرَكَ، و «لا يُبْصرون» حالٌ مؤكِّدة ويجوز أن يكونَ «في ظلمات» حالاً من الضمير المنصوب في «تَرَكهم»، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و «لا يُبْصرون» حالٌ أيضاً: إمَّا من الضميرِ المنصوب في «تَرَكَهم»
٢٢٣ - ينامُ بإحدى مُقْلَتَيْهِ ويتَّقي | بأخرى المَنايا فهو يَقْظانُ هاجِعُ |
وقُرئ بنصبها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه حالٌ، وفيه قولان، أحدُهما: هو حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «تَرَكَهم»، والثاني من المرفوع
٢٢٤ - سَقَوْني النَّسْءَ ثم تَكَنَّفوني | عُدَاةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ |
والصَّمَمُ داءٌ يمنعُ من السَّماع، وأصلُه من الصَّلابة، يقال: «قناةٌ صَمَّاء» أي صُلبة، وقيل: أصلُه من الانسدادِ، ومنه: صَمَمْتُ القارورةَ أي: سَدَدْتُها. والبَكَم داءٌ يمنع الكلامَ، وقيل: هو عدمُ الفَهْمِ، وقيل: الأبكم مَنْ وُلِد أخرسَ.
وقولُه: ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ جملةٌ خبريةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الخبريةِ قبلها، وقيل: بل الأُولى دعاءٌ عليهم بالصَّمَم، ولا حاجةَ إلى ذلك. وقال أبو البقاء: «وقيل: فهم لا يَرْجِعُون حالٌ، وهو خطأٌ، لأن الفاء تُرَتِّبُ، والأحوالُ لا ترتيبَ فيها». و «رَجَعَ» يكونُ قاصراً ومتعدياً باعتبَارَيْنِ، وهُذَيْل تقول: أَرْجَعَهُ غيرُهُ فإذا كان بمعنى «عاد» كان لازماً، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعدياً، والآية الكريمةُ تحتمل التقديرينِ، فإنْ جَعَلْنَاه متعدياً فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُهُ: لاَ يَرْجِعُون جواباً، مثلُ قوله: ﴿إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطارق: ٨]. وَزَعَمَ بعضُهم أنه يُضَمَّن معنى صار، فيرفعُ الاسم وينصِبُ الخبر، وجَعَل منه
٢٢٥ - جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً | كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ |
٢٢٦ - بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى | وصورتِها أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ |
و «كصيبٍ» معطوفٌ على «كَمَثَل»، فهو في محلِّ رفع، ولا بُدَّ من حذف مضافَيْنِ، ليصِحَّ المعنى، التقدير: أو كمثل ذَوي صَيِّب، ولذلك رَجَعَ عليه
٢٢٧ - فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ | تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ |
٢٢٨ - فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ | سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ |
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملةَ من قوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ استئنافيةٌ ومن قوله ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أنها من وصف المنافقين كانتا/ جملتي اعتراضٍ
٢٢٩ - لَعَمْرُكَ والخُطوبُ مُغَيِّراتٌ | وفي طولِ المُعَاشَرَةِ التَّقالي |
لقد بالَيْتُ مَظْعَنَ أمِّ أَوْفَى | ولكنْ أمُّ أَوفَى لا تُبالي |
والسماءُ: كلُّ ما عَلاَك من سقف ونحوه، مشتقةٌ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ والأصل: سَماوٌ، وإنما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لوقوعِها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ، وهو بدلٌ مطَّرد، نحو: كِساء ورِدَاء، بخلافِ نحو: سِقاية وشَقاوة، لعدم تطرُّفِ حرفِ العلة، ولذلك لَمَّا دَخلت عليها تاءُ التأنيث صَحَّتْ نحو: سَماوة، قال الشاعر:
٢٣٠ - طيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفَا | سَماوَةَ الهلالِ حتى احْقَوْقَفَا |
٢٣١ - فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً | لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ |
٢٣٢ -................................ | ............. فوق سَبْعِ سَمَائِيا |
قولهُ تعالَى: «فيه ظلماتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ» يَحْتمل أربعةَ أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ صفةً ل «صَيِّب». الثاني: أن يكونَ حالاً منه، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِهِ: إِمَّا بالعملِ في الجار بعدَه، أو بصفةٍ بالجارِ بعده. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في «مِن السماء» إذا قيل إنه صفةٌ لصيِّب، فيتعلَّقُ في
واعلم أنَّ جَعْلَ الجارَّ صفةً أو حالاً، ورفعَ» ظلماتٌ «على الفاعلية به أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِ» فيه ظلماتٌ «جملةً برأسِها في محلِّ صفةٍ أو حالٍ، لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفردِ من الجملة، وأصلُ الصفةِ والحال أن يكونا مفرَدَيْنِ.
» وَرَعْدٌ وبَرْقٌ «معطوفانِ على ظُلُماتٌ» بالاعتبارين المتقدمين، وهما في الأصل مصدران تقول: رَعَدت السماء تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ بَرْقاً، قال أبو البقاء: «وهما على ذلك [مُوَحَّدَتان] هنا»، يعني على المصدريَّة، ويجوز أن يكونا بمعنى الراعِد والبارِق نحو: رجل عَدْلٌ، والظاهرُ أنهما في الآية ليس المرادُ بهما المصدرَ بل جُعِلاَ اسماً للهزِّ واللمعَانِ، وهو مقصودٌ الآيةِ، ولا حاجةَ حينئذٍ إلى جَعْلِهِمَا بمعنى اسمِ فاعل.
قولُه تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم﴾ هذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها، كأنه قيل: ما حالُهم؟ فقيل: يَجْعَلون. وقيل: بل لها
وأصابِعُهم جمعُ إصْبَع، وفيها عشرُ لغاتٍ، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء، والعاشرة: أُصْبوع بضمِّ الهمزة. والواوُ في «يَجْعلون» تعود للمضاف المحذوف كما تقدم إيضاحُهُ. واعلمْ أنَّه إذا حُذِفَ المضافُ جاز فيه اعتباران، أحدهما: أن يُلْتفت إليه، والثاني ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه، وقد جُمِع الأمران في قوله تعالى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]، التقدير: وكم من أهل قرية فلم يُرَاعِه في قوله: ﴿أَهْلَكْنَاهَا [فَجَآءَهَا﴾ ] وراعاه في قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ /. و ﴿في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ كلاهما متعلقٌ بالجَعْل، و «مِنْ» معناها التعليل. والصواعِقُ: جمع صاعقة، وهي الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها القطعة من النار، ويقال: ساعِقة بالسين، وصاقِعة بتقديمِ القاف وأنشد:
٢٣٣ - ألم تَرَ أنَّ المجرمين أصابَهُمْ | صواقِعُ، لا بل هُنَّ فوق الصواقِعِ |
٢٣ - ٤-
يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ | تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ |
٢٣٥ - تَرى النُّعَراتِ الزُرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ | أُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْهَا صواهِلُهْ |
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: يَحْذَرُونَ حَذَراً مثلَ حَذَرِ الموت، والحَذَرُ والحِذار مصدران لحَذرِ أي: خافَ خوفاً شديداً.
واعلم أنَّ المفعولَ مِنْ أجله بالنسبةِ إلى نَصْبِهِ وجرِّه بالحرف على ثلاثةِ أقسام: قسم يكثُر نصبُه وهو ما كان غَيْرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافٍ نحو: جِئْت إكراماً لك، وقسم عكسُه، وهو ما كان معرَّفاً بأل. ومِنْ مجيئه منصوباً قولُ الشاعر:
٢٣٦ - لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجَاءِ | ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ |
٢٣٧ - وَأَغْفِرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخَارَهُ | وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا |
٢٣٨ - بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ | عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي |
٢٣٩ - فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً | فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ |
٢٤٠ - وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ | والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ |
٢٤١ - فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً | وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ |
٢٤٣ - أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ | جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ |
إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ | وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ |
٢٤٤ - إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ | رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ |
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ، وقالوا: هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه.
واعلم أَنَّ خَبَرَ «كاد» وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى، فإنها للترجِّي، تقول: «عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه»، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأمَّا قولُه:
٢٤٥ - وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي | فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ |
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه | تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ |
٢٤٦ - وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني | ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ |
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً | فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر |
ووزن كاد كَودِ بكسر العين، وهي من ذواتِ الواو، كخاف يَخاف، وفيها لغةٌ أخرى: فتحُ عينها، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها، فتقولُ: كُدْت وكُدْنا مثل: قُلْت وقُلْنا، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر، كقوله:
٢٤٧ - وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي | وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ |
و «البرق» اسمها، و «يخَطف» خبرُها، ويقال: خَطِف يَخْطَفُ بكسر عين الماضي وفتح المضارع، وخَطَف يخطِف، عكسُ اللغة الأولى، وفيه قراءاتٌ كثيرة، المشهورُ منها الأولى. الثانية: يَخْطِف بكسر الطاء.
والخَطْفُ: أَخْذُ شيءٍ بسرعة، وهذه الجملةُ - أعني قولَه: يكاد البرق يَخْطَف - لا محلَّ لَها، لأنها استئنافٌ، كأنه قيل: كيف يكونُ حالُهم مع ذلك البرقِ؟ فقيل: يكاد يَخْطَف، ويحتمل أن يكون في محلِّ جر صفةً لذوي المحذوفة، التقدير: أو كذوي صيبٍ كائدٍ البرقُ يَخْطَف.
قوله تعالى: / ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ :«كل» نَصْبٌ على الظرفية، لأنها أُضيفت إلى «ما» الظرفية، والعاملُ فيها جوابُها، وهو «مَشَوا». وقيل: «
و «فيه» متعلِّق بمَشَوا، و «في» على بابها أي: إنه محيطٌ بهم: وقيل: هي بمعنى الباء، ولا بدَّ من حذف على القَوْلين، أي: مَشَوا في ضوئِه أي بضوئِه، ولا محلَّ لجملةِ قولهِ «مَشَوا» لأنها مستأنفةٌ.
واعلم أنَّ «كُلاًّ» من ألفاظِ العموم، وهو اسمُ جمعٍ لازمٌ للإِضافة، وقد يُحْذَفُ ما يضاف إليه، وهل تنوينُه حينئذٍ تنوينُ عوضٍ أو تنوينُ صَرْفٍ؟ قولان. والمضافُ إليه «كل» إن كانَ معرفةً وحُذِفَ بقيتْ على تعريفها، فلهذا انتصَبَ عنها الحالُ، ولا يَدْخُلها الألفُ واللامُ، وإن وقع ذلك في عبارةِ بعضِهم، وربما انتَصَبَتْ حالاً، وأصلُها أن تُسْتَعْمَل توكيداً كأجمعَ، والأحسنُ استعمالُها مبتدأً، وليس كونُها مفعولاً بها مقصوراً على السماعِ، ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعم ذلك. وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ أو معرفةٍ بلامِ الجنسِ حَسُنَ أن تَلِي العواملَ اللفظيةَ، وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ تعيُّنَ اعتبارُ تلك النكرة فيما لها من ضميرٍ وغيره، تقول: كلُّ رجال أتَوْكَ فأكرِمْهم، ولا يجوزُ أن يراعى لفظ «كل» فتقول: كلُّ رجال أتاكَ فأكرمه، و [تقول:] كلُّ رجلٍ أتاك فأكرمه، ولا تقول: أَتَوْك فأكرِمْهم، اعتباراً بالمعنى، فأما قوله:
وقُرئ «ضاء» ثلاثياً، وهي تَدُلُّ على أنَّ الرباعيَّ لازمٌ. وقرئ: «وإذا أُظْلِم» مبنياً للمفعول، وجَعَلَه الزمخشريُّ دالاَّ على أنَّ أَظْلَمَ متعدٍ، واستأنَسَ أيضاً بقول حبيب:
٢٤٨ - جادَتْ عليه كلُّ عَيْن ثَرَّةٍ | فتركْنَ كلَّ حدَيقةٍ كالدرهم |
٢٤٩ - هما أَظْلما حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا | ظَلامَيْهِما عن وجهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ |
وإنما صُدِّرت الجملةُ الأولى بكلما، والثانيةُ بإذا، قال الزمخشري: «لأنهم حِراصٌ على وجودِ ما هَمُّهم به معقودٌ من إمكان المشي وتأتِّيه، فكُلَّما صادفوا منه فرصةً انتهزوها، وليسَ كذلك التوقُّفُ والتحبُّسُ» وهذا الذي قاله
٢٥٠ - إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي | أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ أَبْتَرِدُ |
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ «لو» حرفٌ لِما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارةُ سيبويه، وهي أَوْلى من عبارة غيره: / حرفُ امتناع لامتناع لِصحّةِ العبارة الأولى في نحو قوله تعالى:
﴿لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر﴾ [الكهف: ١٠٩]، وفي قوله عليه السلام: «نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يُعْصِه»، وعدم صحةِ الثانية في ذلك كما سيأتي محرِّراً، ولفسادِ نحو قولهم: «لو كان إنساناً لكان حيواناً» إذ لا يلزم مِنْ امتناعِ الإِنسانِ امتناعُ الحيوان، ولا يُجْزَمُ بها خلافاً لقوم، فأمَّا قولُه:
٢٥١ - لو يَشَأْ طارَ به ذو مَيْعَةٍ | لاحِقُ الآطالِ نَهْدٌ ذو خُصَلْ |
٢٥٢ - تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ | إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانا |
٢٥٣ - ولَوْ أَنَّ ليلى الأخيليَّةَ سَلَّمَتْ | عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصَفائِحُ |
لسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَوْزَقَا | إليها صَدَىً مِنْ جانبِ القبرِ صائحُ |
و «شاء» أصلُه: شَيِئَ علَى فَعِلَ بكسر العين، وإنما قُلِبت الياءُ ألفاً للقاعدةِ المُمَهَّدةِ. ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه: ولو شاء الله إذهابَ، وكَثُر حَذْفُ مفعولِه ومفعولِ «أراد» حتى لا يَكاد يُنْطَق به إلاَّ في الشيءِ المستغرَبِ كقولِه:
٢٥٤ - ولو شِئْتُ أن أبكي دَماً لبكَيتُه | عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ |
واللامُ في «ذهب» جوابُ لو. واعلم أنَّ جوابَها يَكْثُر دخولُ اللامِ عليه مثبتاً، وقد تُحْذَفُ، قال تعالى: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة: ٧٠]، ويَقِلُّ دخولُها
٢٥٥ - لا يُلْفِكَ الراجُوك إلا مُظْهِراً | خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيماً |
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذه جملةُ مؤكِّدةٌ لمعنى ما قبلَها، و «على كل شيء» متعلِّقٌ بقدير، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل مشتقٌ من القُدْرَة وهي القُوة والاستطاعةُ، وفعلُها قَدَر بفتح العين، وله ثلاثةَ عشَرٍ مصدراً: قدرة بتثليث القاف، ومَقْدرة بتثليث الدال، وقَدْرَاً وقَدَراً وقُدَراً وقَداراً وقُدْراناً ومَقْدِراً ومَقْدَراً. وقدير أَبْلَغُ مِن قادر قاله الزجاج، وقِيل: هما بمعنى، قاله الهروي. والشيءُ: ما صَحُّ أن يُعْلَمَ من وجه، ويُخْبَرَ عنه، وهو في الأصل مصدرُ شاء يشاء/، وهل يُطْلق على المعدومِ والمستحيل؟ خلافٌ مشهور.
٢٥٦ - ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ | .............................. |
٢٥٧ - يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كُلِّهمِ | والصالحينَ على سِمْعانَ من جارِ |
ولا يجوزُ وَصْفُ «أيّ» هذه إلا بما فيه الألفُ واللامُ، أو بموصولٍ هما فيه، أو باسم إشارة نحو: ﴿ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر﴾ [الحجر: ٦]، وقال الشاعر:
٢٥٨ - ألا أيُّهذا النابِحُ السِّيدَ إنني | على نَأْيها مُسْتَبْسِلٌ مِنْ ورائِها |
و «الناسُ» صفةٌ لأي، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقدَّم من الخلاف. و «اعبدوا رَبَّكُمُ» جملةٌ أمرية لا محلَّ لها لأنها ابتدائيةٌ.
قولُه تعالى: ﴿الذي خَلَقَكُمْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: نصبهُ على النعتِ لِرَّبكم. الثاني: نصبُه على القَطْع. الثالثُ: رَفْعُه على القطعِ أيضاً، وقد تقدَّم معناه.
قوله تعالى: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ محلُّه النصبُ لعطفِه على المنصوبِ في «خَلَقَكم»، و «مِنْ قبلكم» صِلةُ الذين، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر، و «مِنْ» لابتداء الغاية. واستشكلَ بعضُهم وقوعَ «مِنْ قبلكم» صلةً من حيث
وقرأ زيدٌ بنُ علي: «والذين مَن قَبْلِكُمْ» بفتح الميم. قال الزمخشري: ووجهُها على إشكالِها أن يقالَ: أَقْحَمَ الموصولَ الثاني بين الأول وصلتِه تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله:
٢٥٩ - يَا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبَالكُمُ | ................................. |
إلا أنَّ بعضَهم يَرُّدُّ هذا القولَ ويجعلُه فاسداً، مِنْ جهةِ أنه لا يُؤكَّدُ الحرفُ إلا بإعادةِ ما اتصل به فالوصولُ أَوْلَى بذلك، وخَرَّجَ الآية والبيتَ على أنَّ» مَنْ قبلكم «صلةٌ للموصولِ الثاني، والموصولُ الثاني وصلتُه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والمبتدأُ وخبرُه صلةُ الأول، والتقديرُ: والذينَ هُمْ قبلكم، وكذا البيتُ، تَجْعَلُ» إذا «وجوابَها صلةً للذين، والذين خبرٌ لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأُ وخبرُه صلةٌ لِلاَّءِ، ولا يَخْفَى ما في هذا من التعسُّفِ.
والخَلْق يقال باعتبارين، وأحدهما: الإِبداع والاختراع، وهذه الصفةُ ينفردُ بها الباري تعالى. والثاني: التقديرُ: قال زهير:
٢٦٠ - من النَفَر اللاءِ الذين إذا هُمُ | يَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ قَعْقَعُوا |
٢٦١ - ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ | ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري |
وهذه الصفةُ لا يختصُّ بها اللهُ تعالى، وقد غَلِط أبو عبد الله البصري في أنه لا يُطْلق اسمُ الخالقِ على الله تعالى، قال: لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسويةَ في حق الله تعالى ممتنعان، لأنهما عبارةٌ عن التفكُّر والظنِّ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: ﴿هُوَ الله الخالق البارىء﴾ [الحشر: ٢٤] {الله خَالِقُ كُلِّ
قولُه تعالى:» لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «لعلَّ واسمُها وخبرُها، وإذا وَرَدَ ذلك في كلام الله تعالى، فللناسِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّ» لَعَلَّ «على بابها من الترجِّي والإِطماع، ولكنْ بالنسبةِ إلى المخاطَبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائِِكم وطمعِكم، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ أي: اذهبا على رجائكما. والثاني: أنها للتعليل، أي اعبدوا ربَّكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب والطبري وغيرُهما وأنشدوا:
٢٦ - ٢- وقُلْتُمْ لنا كُفُّوا الحروبَ لَعَلَّنا | نَكُفُّ ووَثَّقْتُمْ لنا كلَّ مَوْثِقِ |
فلمّا كَفَفْنَا الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ | كَلَمْعِ سَرابٍ في المَلاَ مُتَألِّقِ |
وقال ابن عطية: «يتَّجِهُ تعلًُّقُها ب» خَلَقَكم «، أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ فهو بحيِثُ يُرْجى أَنْ يكونَ مُتَّقِياً، إلاَّ أنَّ المهدويَّ مَنَع من ذلك، قال:»
وفي» لعلَّ «لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها، قال:
٢٦٣ - لَعلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ علينا | بشيء أنَّ أمَّكُمُ شَرِيمُ |
٢٦٤ - لَعَلَّكَ يوماً أن تُلِمَّ مُلِمَّةٌ | .................................... |
وأصلُ تَتَّقُون: تَوْتَقِيُون لأنه من الوقاية، فأُبْدِلَتْ الواوُ تاء قبل تاء الافتعالِ، وأُدْغِمَتْ فيها، وقد تقدَّم ذلك في ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ثم اسْتُثْقِلَت الضمةُ على الياء فَقُدِّرَتْ، فَسَكَنَتْ الياءُ والواوُ بعدَها، فحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين، وضُمَّت القافُ لتجانِسَها، فوزنُه الآن: تَفْتَعُونَ. وهذه الجملةُ أعني» لعلكم تتقونَ «لا يجوزُ أن تكونَ حَالاً لأنها طلبيةٌ، وإن كانَتْ عبارةُ بعضِهم تُوهم ذلك. ومفعولُ تَتَّقون محذوفٌ أي» تَتَّقون «الشِرْك أو النارَ.
و «جَعَل» فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لمفعولين فيكونُ «الأرضُ» مفعولاً أولَ، و «فراشاً» مفعولاً ثانياً. الثاني: أن تكونَ بمعنى «خَلَقَ» فتتعدَّى لواحد وهو «الأرضَ» ويكونُ «فراشاً» حالاً.
«والسماء بِنَآءً» عطف على «الأرض فراشاً» على التقديرين المتقددِّمين، و «لكم» متعلِّق بالجَعْل أي لأجلكم. والفراشُ ما يُوْطَأُ ويُقْعَدُ عليه. والبِنَاءُ مصدرُ بَنَيْتُ، وإنما قُلِبت الياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ، وقد يُرادُ به المفعولُ. و «أَنْزل» عطفٌ على «جَعَلَ»، و «من السماء» متعلِّقٌ به، وهي لابتداءِ الغاية. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن يكونَ حالاً مِنْ «ما» لأنَّ صفة النكرة إذا قُدِّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً، وحينئذٍ معناها التبعيضُ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من مِياه السماءِ ماءً.
وأصل ماء مَوَه بدليل قولهم: «ماهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوه» وفي جَمْعه:
وقوله: «فَأَخْرَجَ» عطفٌ على «أَنْزَل» مُرَتَّبٌ عليه، و «به» متعلِّقٌ بِه، والباءُ فيه للسببية. و «من الثمرات» متعلقٌ به أيضاً، ومِنْ هنا للتبعيضِ.
وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلها زائدةً لوجهين، أحدُهما: زيادتُها في الواجبِ، وكَونُ المجرور بها معرفةً، وهذا لا يقولُ به بصريٌّ ولا كوفيٌّ إلا أبا الحسن الأخفش. والثاني: أن يكونَ جميعُ الثمراتِ رزقاً لنا، وهذا يخالف الواقعَ، إذ كثيرٌ من الثمرات ليس رزقاً. وجعلها الزمخشري لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ، إذ لم يتقدَّمْ ما يُبَيِّنُ هذا، وكأنه يعني أنه بيانٌ لرزقاً من حيث المعنى، و «رزقاً» ظاهرُه أنه مفعولٌ به، ناصبُه «أَخْرَجَ». ويجوز أن يكونَ «من الثمرات» في موضع المفعول به، والتقديرُ: فأخرجَ ببعض الماء بعضَ الثمرات. وفي «رزقاً» حينئذ وجهان أحدُهما: أن يكونَ حالاً على أنَّ الرزقَ بمعنى المرزوقِ، كالطِّحْنِ والرِّعْي. والثاني: أن يكونَ مصدراً مَنْصُوباً على المفعولِ مِنْ أجلِه، وفيه شروطُ النصبِ موجودةٌ. وإنما نَكَّر «ماء» و «رزقاً» ليفيدَ التبعيضَ، لأنَّ المعنى: وأنزل من السماءِ بعض ماءٍ فَاَخْرَجَ به بعضَ الثمراتِ بعضَ رزقٍ لكم، إذ ليس جميعُ رزقِهم هو بعضَ الثمراتِ، إنَّما ذلك بعضُ رزقِهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «من الثمراتِ» حالاً مِنْ «رزقاً» لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ، وجعلَ الزمخشري «من الثمرات»
٢٦٥ - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحى | وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَما |
و «لكم» يَحْتملُ التعلُّقَ ب «أَخْرَج»، ويَحْتملُ التعلُّقَ بمحذوفٍ، على أن يكونَ صفةً ل «رِزْقاً»، هذا إنْ أريد بالرزقِ المرزوقُ، وإنْ أُريد به المصدرُ فيحتملُ أن تكونَ الكافُ في «لكم» مفعولاً بالمصدرِ واللامُ مقويةً له، نحو: «ضربت ابني تأديباً له» أي: تأديبَه.
قولُه تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾ الفاءُ للتسبُّب، تَسَبَّبَ عن إيجادِ هذه الآياتِ الباهرة النهيُ عن اتخاذِكم الأندادَ. و «لا» ناهية و «تَجْعلوا» مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حَذْفُ النونِ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّروا. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ بمعنى تُسَمُّوا. وعلى القولين فيتعدَّى لاثنين أولُهما: أنداداً، وثانيهما: الجارُّ والمجرورُ قبلَه، وهو واجبُ التقديمِ. و «أنداداً» جمع نِدّ،
والنِّدُّ: المقاوِمُ المضاهي، سواء كان [مثلاً] أو ضِدَّاً أو خلافاً وقيل: هو/ الضدُّ عن أبي عبيدة، وقيل: الكُفْء والمِثْل، قال حسان:
٢٦٦ - أَتَهْجُوه ولستَ له بِنِدٍّ | فشرُّكما لخيركما الفِداءُ |
٢٦٧ - نَحْمَدُ الله ولا نِدَّ له | عندَه الخيرُ وما شاءَ فَعَلْ |
٢٦٨ - أَتَيْماً تَجْعَلونَ إليَّ نِدَّاً | وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نَدِيدُ |
٢٦٩ - لِكيلا يكونَ السَّنْدَرِيُّ نديدتي | وأَجْعَلُ أَقْواماً عُموماً عَماعِمَا |
قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب على الحال، ومفعولُ العِلْم متروكٌ لأنَّ المعنى: وأنتم من أهلِ العِلم، أو حُذِف اختصاراً أي: وأنتم تعلمونَ بُطْلانَ ذلك. والاسمُ من» أنتم «قيلَ: أَنْ، والتاءُ حرفُ خطاب يتغيَّرُ بحَسبِ المخاطب. وقيل: بل التاءُ هي الاسمُ وأَنْ عمادٌ قبلها. وقيل: بل هو ضميرٌ برُمَّتِه وهو ضميرُ رفعٍ منفصلٌ، وحكمُ ميمِه بالنسبة إلى السكونِ والحركةِ والإِشباعِ والاختلاسِ حكمُ ميم هم، وقد تقدَّم جميعُ ذلكَ.
٢٧٠ - قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ... كانَ فقيراً مُعْدِماً قالَتْ: وإنْ
وزعم المبردُ أنَّ ل «كان» الناقصةِ حكماً مع «إنْ» ليس لغيرها من الأفعالِ الناقصةِ فزعم أن لقوةِ «كان» أنَّ «إنْ» الشرطية لا تَقْلِبُ معناها إلى الاستقبال، بل تكونُ على معناها من المضيِّ، وتبعه في ذلك أبو البقاء، وعَلَّلَ ذلك بأنه كثُر استعمالُها غيرَ دالَّةٍ على حَدَثٍ. وهذا مردودٌ عند الجمهورِ لأن التعليقَ إنما يكون في المستقبلِ، وتأوَّلوا ما ظاهرُه غيرُ ذلك، نحو: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ﴾ [يوسف: ٢٦] : إمَّا بإضمار «يَكُنْ» بعد «إنْ»، وإمَّا على التبيين، والتقديرُ: إنْ يكُنْ قميصُه أو إن يَتبيَّنْ كونُ قميصِه، ولمَّا خَفِيَ هذا المعنى على بعضهم جَعَل «إنْ» هنا بمنزلة «إذْ».
وقوله: «في ريبٍ» مجازٌ من حيث إنه جَعَلَ الريبَ ظرفاً محيطاً بهم، بمنزلةِ المكانِ لكثرةِ وقوعِه منهم. و «مِمَّا» يتعلقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لريب فهو في محلِّ جَرٍّ. و «مِنْ» للسببية أو ابتداءِ الغاية، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ، ويجوز أن تتعلَّق بريب، أي: إن ارتَبْتُمْ من أجل، ف «مِنْ» هنا
وقولُه «غالباً» لأنه قد جاء التضعيفُ دالاًّ على الكثرة في اللازم قليلاً نحو: «مَوَّت المالُ» وأيضاً فالتضعيفُ الدالُّ على الكثرةِ لاَ يَجْعَلُ القاصرَ متعدياً كما تقدَّم في موَّت المال، ونَزَّل كان قاصراً فصار بالتضعيفِ متعدِّياً، فدلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضاً كان يَحْتاج قولُه/ تعالى: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] إلى تأويل، وأيضاً فقد جاء التضعيفُ حيث لا يمكنُ فيه التكثيرُ نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ [الأنعام: ٣٧] ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥] إلا بتأويل بعيدٍ جداً، إذ ليس المعنى على
وفي قوله: «نَزَّلْنا» التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلُّمِ لأنَّ قبلَه: ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ﴾، فلو جاء الكلامُ عليه لقيل: ممَّا نَزَّلَ على عبدِه، ولكنه التفت للتفخيمِ. و «على عبدنا» متعلِّقٌ بنزَّلنا، وعُدِّي ب «على» لإفادتها الاستعلاءَ، كأنَّ المُنَزَّل تَمَكَّنَ من المنزولِ عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثرُ القرآن بالتعدِّي بها، دونَ «إلى»، فإنها تفيدُ الانتهاء والوصولَ فقط، والإِضافة في «عبدِنا» تفيدُ التشريف كقوله:
٢٧١ - يا قومِ قلبي عندَ زهْراءِ | يَعْرِفُه السامعُ والرائي |
لا تَدْعُني إلاَّ بيا عبدَها | فإنه أَشْرَفُ أسمائي |
قوله تعالى: «فَأْتُواْ» جوابُ الشرط، والفاءُ هنا واجبةٌ لأنَّ ما بعدها لا يَصِحُّ أن يكونَ شرطاً بنفسِه، وأصلُ فأْتُوا: اإْتِيُوا مثل: اضْربوا فالهمزة الأولى همزةُ وصلٍ أُتي بها للابتداءِ بالساكنِ، والثانيةُ فاءُ الكلمةِ، اجتمع همزتان، وَجَبَ قَلْبُ ثانيهما ياءً على حدِّ «إيمان» وبابِه، واستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ التي هي لامُ الكلمةِ فَقُدِّرَتْ، فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدها واوُ الضميرِ ساكنةٌ فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ، وضُمَّتِ التاءُ للتجانُسِ فوزنُ ايتوا: افْعُوا، وهذه الهمزةُ إنما يُحتاجُ إليها ابتداءً، أمَّا في الدَّرْجِ فإنه يُسْتَغْنى عنها وتعودُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ لأنها إنما قُلِبَت ياءً للكسر الذي كان قبلها،
٢٧٢ - فإنْ نحنُ نَنْهَضْ لكم فَنَبُرَّكُمْ | فَتُونا فعادُونا إذاً بالجرائمِ |
قوله تعالى: ﴿مِّن مِّثْلِهِ﴾ في الهاء ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها تعودُ على ما نَزَّلنا، فيكون مِنْ مثله صفةً لسورة، ويتعلّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر، أي: بسورةٍ كائنةٍ من مثلِ المنزَّل في فصاحتِه وإخبارِه بالغُيوبِ وغيرِ ذلك، ويكونُ معنى» مِنْ «التبعيضَ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدةً، ولا تجيء إلا على قول الأخفش.
الثاني: أنها تعودُ على «عبدِنا» فيتعلَّقُ «من مثله» بأْتُوا، ويكون معنى «مِنْ» ابتداءَ الغاية، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكونَ صفةً لسورة، أي: بسورةٍ كائنة من رجلٍ مثلِ عبدِنا. الثالث: قال أبو البقاء: «إنها تعود على الأنداد بلفظِ المفرد كقوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [النحل: ٦٦] قلت: ولا حاجةَ تَدْعو إلى ذلك، والمعنى يَأْباه أيضاً.
والسُّورة: الدرجةُ الرفيعة، قال النابغة:
٢٧٣ - ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سُورةً | ترى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ |
٢٧٤ - فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا | دِ صَدْعاً على نَأَيِها مُسْتطيرا |
قوله تعالى: ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم﴾ هذه جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها، فهي في محلِّ جَزْم أيضاً. ووزنُ ادْعُوا: افْعُوا لأن لام الكلمةِ محذوفٌ دلالةً على السكونِ في الأمر/ الذي هو جَزْم في المضارع، والواوُ ضميرُ الفاعِلِين و» شهداءَكم «مفعولٌ به جمعُ شهيد كظريف، وقيل: بل جمعُ شاهد كشاعر والأولُ أَوْلى لاطِّراد فُعَلاء في فَعِيل دونَ فاعلِ والشهادةُ: الحضور.
و ﴿مِّن دُونِ الله﴾ متعلقٌ بادْعُوا، أي: ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم، ويُحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ ب» شهداءَكم «، والمعنى: ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم، أو أعوانكم مِنْ دون أولياء الله، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله. أو يكونُ معنى» مِنْ دونِ الله «بين يدي الله كقوله:
٢٧٥ - تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه | لوجهِ أخيها في الإِناءِ قُطُوبُ |
واختار أبو البقاء أن يكون ﴿مِّن دُونِ الله﴾ حالاً من» شهداءكم «، والعاملُ فيه محذوفٌ، قال:» تقديرُه: شهداءَكم منفردين عنِ الله أو عن أنصارِ الله «.
و» دونَ «مْنِ ظروف الأمكنة، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ ب» مِنْ «، وزعم الأخفش أنها متصرِّفة، وجَعَل من ذلك قولَه تعالى: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن: ١١] قال:» دونَ «مبتدأ، و» منَّا «خبرُه، وإنما بُني لإِضافتِه إلى مبني، وقد شَذَّ رفعُه خبراً في قولِ الشاعر:
٢٧٦ - ألم تَرَ أنِّي قد حَمَيْتُ حقيقتي | وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها |
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ هذا شرطٌ حُذِفَ جوابُه للدلالة عليه، تقديره: إنْ كنتم صادِقين فافعلوا، ومتعلَّقُ الصدقِ محذوفٌ، والظاهرُ تقديرُه هكذا: إنْ كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزَّل على عبدِنا أنه من عندنا. وقيل: فيما تَقْدِرون عليه من المعارضة، وقد صَرَّح بذلك عنهم في آية أخرى حيث قال تعالى حاكياً عنهم: ﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾ [الأنفال: ٣١]. والصدقُ
وقوله: «فاتَّقوا» جوابُ الشرطِ، ويكونُ قولُه: «ولَنْ تفعلوا» جملةً معترضةً بين الشرطِ وجزائه. وقال جماعةٌ من المفسرين: معنى الآيةِ: وادعوا شهداءَكم مِنْ دونِ اللهِ إنْ كنتم صادِقين، ولَنْ تَفْعلوا فإنْ لم تَفْعلوا فاتَّقوا النار. وفيه نظرٌ لا يَخْفى. وإنما قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ فَعَبَّر بالفعلِ عن الإِتْيانِ لأن الفعلَ يجري مَجْرى الكناية، فيُعَبَّر به عن كلِّ فعلٍ ويُغْني عن طول ما تَكْني به. وقال الزمخشري: «لو لم يَعْدِلْ من لفظِ الإِتيانِ إلى لفظِ الفعلِ لاسْتُطِيل أن يقال: فإنْ لم تأتوا بسورةٍ من مثله ولَنْ تأتوا بسورةٍ مِنْ مثلِه». قال الشيخ: «ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه لو قال:» فإنْ لم تأتوا ولَنْ تأتوا «كان المعنى على ما ذَكَر، ويكونُ قد حَذَفَ ذلك اختصاراً، كما حَذَف اختصاراً مفعولَ ﴿لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾، ألا ترى أنَّ التقدير: فإنْ لم تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مِثله، ولن تفعلوا الإِتيانَ بسورةٍ من مثله».
و «لَنْ» حرفُ نَصْبٍ معناه نَفْيُ المستقبل، ويختصُّ بصيغةِ المضارع ك «لم»، ولا يقتضي نََفْيُه التأبيدَ، وليس أقلَّ مدةً مِنْ نفي لا، ولا نونُه بدلاً من
٢٧٧ - لن يَخِبْ لانَ مِنْ رجائِك مَنْ حَرْ | رَكِ مِنْ دونِ بابِك الحَلَقَهْ |
٢٧٨ -............................ | فلن أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ |
قوله تعالى: ﴿فاتقوا النار﴾ هذا جوابُ الشرطِ كما تقدم، والكثير في لغة العرب: «اتقى يتَّقي» على افْتَعَل يَفْتَعِلُ، ولغة تميم وأسد: تَقَى يَتْقي مثل: رَمَى يَرْمي، فيُسكِّنون ما بعد حرفِ المضارعة، حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم مَنْ يُحَرِّكُ ما بعد حرف المضارعة، وأنشدوا:
٢٧٩ - تَقُوه أيُّها الفِتْيانُ إنّي | رأيتُ الله قد غَلَبَ الجُدودا |
٢٨٠ -.................. | تَقِ الله فينا والكتابَ الذي تتلو |
٢٨١ - شُغِفَتْ بك اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمثلُ ما | بك ما بها مِنْ لَوْعةٍ وغَرامِ |
٢٨ - ٢- فقلْ لِلَّتْ تَلُومُك إنَّ نَفْسي | أراها لا تُعَوَّذُ بالتَّميمِ |
﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ [التحريم: ٦].
والمشهورُ فتحُ واوِ الوَقود، وهو اسمُ ما يُوقَدُ به، وقيل: هو مصدر كالوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور. ولم يجىءْ مصدرٌ على فَعُول غيرُ هذه الألفاظِ فيما حكاه سيبويه. وزاد الكسائي: الوَزُوع، وقُرئ شاذاً في سورة (
والهاءُ في الحجارةِ لتأنيثِ الجمع.
قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ﴾ فعلُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والقائمُ مَقَامَ الفاعلِ ضميرُ «النار» والتاء واجبة، لأن الفعلَ أُسْنِدَ إلى ضمير المؤنث، ولا يُلتفت إلى قوله:
٢٨٣ - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها | ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها |
٢٨٤ - أَعْدَدْتَ للحَدَثان سا | بِغَةً وعَدَّاءً عَلَنْدى |
٢٨٥ - تُناغي غَزالاً عند بابِ ابنِ عامرٍ | وَكَحِّلْ أماقِيكَ الحسانَ بإِثْمِدِ |
٢٨ - ٦- وإنَّ شفائي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ | وهل عند رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ |
وقرئ: «وبُشِّرَ» ماضياً مبنياً للمفعولِ. وقال الزمخشري: «وهو عطف على أُعِدَّت». قيل: «وهذا لا يتأتَّى على إعرابِ» أُعِدَّتْ «حالاً لأنها لا تَصْلُحُ للحاليَّةِ».
والبِشارةُ: أولُ خبرٍ من خيرٍ أو شرٍّ، قالوا: لأنَّ أثرَها يَظْهَرُ في البَشَرة وهي ظاهِرُ جلدِ الإِنسان، وأنشدوا:
٢٨٧ - يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أهلي... فقُلْتُ له: ثَكِلْتُكَ مِنْ بشيرِ
٢٨٨ - وبَشَّرْتَنِي يا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي | جَفَوْنِي وأنَّ الوُدَّ موعدُهُ الحَشْرُ |
[وقرأ زيدٌ بنُ علي رضي الله عنهما «وبُشِّرَ» : ماضياً مبنياً للمفعول
وفاعلُ» بَشِّرْ «: إِمَّا ضميرُ الرسولِ عليه السلام، وهو الواضحُ، وإمَّا كلُّ مَنْ تَصِحُّ منه البشارةُ. وكونُ صلةِ» الذين «فعلاً ماضياً دونَ كونِهِ اسمَ فاعلٍ دليلٌ على أَنْ يستحقَّ التبشيرَ بفضلِ الله مَنْ وَقَعَ منه الإِيمانُ وتَحَقَّقَ به وبالأعمالِ الصالحةِ.
والصالحاتُ جمعُ صالحة وهي من الصفاتِ التي جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ في إيلائِها العواملَ، قال:
٢٨٩ - كيفَ الهجاءُ وما تَنْفَكُّ صالِحَةٌ | مِنْ آلِ لأَْمٍ بظهرِ الغَيْبِ تَأْتِينِي |
قولُه تعالى: ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ جناتٍ اسمُ أنَّ، و «لهم» خبرٌ مقدمٌ، ولا يجوز تقديمُ خبرِ «أنَّ» وأخواتِها إلا ظرفاً أو حرفَ جَرٍّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جَرّ عند الخليل والكسائي ونصبٍ عند سيبويهِ والفراء، لأن الأصلَ «: وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم، فحُذِفَ حرفُ الجر مع أَنَّ، وهو حَذْفٌ
٢٩٠ - وما زُرْتُ ليلى أنْ تَكُونَ حبيبةً | إليَّ لا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ |
٢٩١ - تَمُرُّونَ الديارَ وَلَمْ تَعُوجوا | كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرَامُ |
٢٩٢ - إذا قيلَ:
أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ | أَشَارتْ كليبٍ بالأَكفِّ الأصابعُ |
٢٩٣ -...........................
أي: إلى الأعلام.
والجَنَّةُ: البُسْتَانُ، وقيل: الأرضُ ذاتُ الشجرِ، سُمِّيَتْ بذلك لسَتْرِها مَنْ فيها، ومنه: الجنين لاستتارِه، والمِجَنُّ: التُرْس، وكذلك» الجُنَّة «لأنه يَسْتُر صاحبَه، والجِنَّة لاستتارِهم عن أعينِ الناسِ.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ هذه الجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ لأنها صفةٌ لجنَّات، و» تَجْرِي «مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه ضمةٌ مقدرةٌ في الياءِ استثقالاً، وكذلك تُقَدَّرُ في كلِّ فعلٍ معتلٍ نحو: يَدْعو ويَخْشَى إلاَّ أَنَّها في الألِفِ تُقَدَّرُ تعذُّراً.
والأنهارُ جمع نَهْر بالفتح، وهي اللغة العالية، وفيه تسكينُ الهاءِ، ولكن» أَفْعال «لا ينقاسُ في فَعْل الساكنِ العينِ بل يُحْفظ نحو: أَفْراخ وأَزْنَاد وأَفراد.
والنهرُ دونَ البحرِ وفوقَ الجدولِ، وهل هو مجرى الماءِ أو الماءُ الجاري نفسُه؟ والأولُ أظهرُ، لأنه مشتقٌّ من نَهَرْت أي: وسَّعْتُ، قال قيس بن الخطيم يصفُ طعنةِ:
و ﴿مِن تَحْتِهَا﴾ متعلقٌ بتجري، و» تحت «مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ، وهو نقيضُ» فوق «، إذا أُضيفا أُعْرِبَا، وإذا قُطِعَا بُنِيَا على الضم. و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ وقيل: زائدةٌ، وقيل: بمعنى في، وهما ضعيفان.
واعلمْ أنه إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشجرِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: من تحتِ عَذْقِها أو أشجارِها.
وإن قيل بأنها الشجرُ نفسَه فلا حاجةَ إلى ذلك. وإذا قيل بأنَّ الأنهارَ اسمٌ للماءِ الجاري فنسبةُ الجَرْيِ إليه حقيقةٌ. وإنْ قيلَ بأنه اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه فنسبةُ الجَرْي إليه مجازٌ كقول مهلهل:
٢٩٤ - مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأنْهَرْتُ فَتْقَها | ..................... |
٢٩٥ - نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بعدكَ أُوْقِدَتْ | واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ |
والألف واللامُ في» الأنهار «للجنس، وقيل: للعَهْدِ لِذِكْرِها في سورة
٢٩٦ - رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رفيقةٌ | بجَسِّ الندامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ |
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ﴾ تقدَّم الكلامُ في» كُلَّما «، والعاملُ فيها هنا:» قالوا «، و» منها «متعلِّق ب» رُزِقوا «، و» مِنْ «لابتداء الغاية وكذلك» مِنْ ثمرةٍ «لأنها بَدَلٌ من قولِه» منها «بدَلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ،
و» رِزْقاً «مفعولٌ ثانٍ ل» رُزِقوا «وهو بمعنى» مَرْزوقٍ «، وكونُه مصدراً بعيدٌ لقولِه: ﴿هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ والمصدرُ لا يؤتى به متشابهاً، وإنما يُؤْتى بالمرزوق كذلك.
قوله:» قالوا: هذا الذي رُزِقْنا مِنْ قبلُ «» قالوا «هو العاملُ في» كلما «كما تقدَّم، و ﴿هذا الذي رُزِقْنَا﴾ مبتدأ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ بالقول، وعائدُ الموصولِ محذوفٌ لاستكمالِهِ الشروطَ، أي: رُزِقْناه. و» مِنْ قَبلُ «متعلِّقٌ به. و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ولَمَّا قُطِعَتْ» قبلُ «بُنِيَتْ، وإنما بُنِيَتْ على الضَّمةِ لأنها حركةٌ لم تكنْ لها حالَ إعرابها.
واختُلِفَ في هذه الجملةِ، فقيل: لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ لأنَّها استئنافيةٌ، كأن قيل لَمَّا وُصِفَت الجناتُ: ما حالُها؟ فقيل: كلما رُزِقوا قالوا. وقيل: لَهَا محلٌّ، ثم اختُلِفَ فيه فقيل: رفعٌ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، واختُلِفَ في ذلك المبتدأ، فقيل: ضميرُ الجنات أي هي كلما. وقيل: ضميرُ الذين آمنوا أي: هم كلما رُزقوا قالوا ذلك. وقيل:
قوله: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ الظاهرُ أنها جملةٌ مستأنفةٌ. وقال الزمخشري فيها: «هو كقولِكَ: فلانٌ أَحْسِنْ بفلان، ونِعْمَ ما فعل، ورأى من الرأي كذا، وكان صواباً، ومنه: ﴿وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤] وما أشْبَه ذلك من الجملِ التي تُساق في الكلام معترضةً فلا محلَّ لها للتقرير». قلت: يعني بكونها معترضةً أي بين أحوالِ أهل الجنة، فإنَّ بعدها: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ﴾، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها أيضاً. وقيل: هي عطفٌ على «قالوا»، وقيل: محلُّها النصبُ على الحالِ، وصاحبُها فاعلُ «قالوا» أي: قالوا هذا الكلامَ في هذه الحالِ، ولا بُدَّ من تقديرِ «قد» قبل الفعلِ أي: وقد أُتوا، وأصلُ أُتُوا: أُتِيُوا مثل: ضُرِبوا، فَأُعِلَّ كنظائرِه. وقرئ: وأتَوا مبنياً للفاعل، والضميرُ للوِلْدان والخَدَمْ للتصريحِ بهم في غير موضع. والضميرُ في «به» يعودُ على المرزوق الذي هو الثمرات، كما أنَّ «هذا» إشارةٌ إليه. وقال الزمخشري: «يعودُ إلى المرزوق في الدنيا
قلت: يَعْني بقولِه: «انطوى تحتَه ذِكْرُ ما رُزِقوه في الدارَيْن» أنه لمَّا كان التقديرُ: مثل الذي رُزِقْناه كان قدِ انطوى على المرزوقَيْنِ معاً كما أنَّ قولَكَ: «زيدٌ مثل ُ حاتم» مُنْطَوٍ على زَيد وحاتم. قال الشيخ: «وما قالَه غيرُ ظاهر، لأنَّ الظاهر عَوْدُه على المرزوق في الآخرةِ فقط، لأنه هو المُحَدَّثُ عنه، والمشبَّهُ بالذي رُزقوه من قبلُ، لا سيما إذا فسَّرْتَ القبلِيَّةَ بما في الجنة، فإنه يتعيَّن عَوْدُه على المَرزوق في الجنةِ فقط، وكذلك إذا أَعْرَبْتَ الجملةَ حالاً، إذْ يَصيرُ التقديرُ: قالوا: هذا [مثلُ] الذي رُزقنا من قبل وقد أُتُوا به [متشابهاً]، لأنَّ الحاملَ لهم على هذا القول كَونُه أُتُوا به متشابهاً وعلى تقديرِ أن يكونَ معطوفاً على» قالوا «لا يَصِحُّ عَوْدُهُ على المرزوقِ في الدارَيْنِ لأنَّ الإِتيانَ إذ ذاك يستحيل أن يكونَ ماضياً معنًى، لأنَّ العاملَ في» كلما «وما في حَيِّزها يتعيَّنُ هنا أن يكونَ مستقبلَ المعنى، لأنها لا تَخْلُو من معنى الشرط، وعلى تقديرِ كونها مستأنفةً لا يظهرُ ذلك أيضاً لأنَّ هذه الجملَ مُحَدَّثٌ بها عن الجنة وأحوالِها».
٣٠١ - ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي | محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ |
٣٠٢ - إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه | كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ |
واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ، وقيل: مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا: «أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ» قوبل قولُهم ذلك بقوله: «إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ»، ونظيرُه قول أبي تمام:
٣٠٣ - مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها | أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ |
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ، تقول: اسْتَحْيَتْهُ، وعليه: «إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ» البيت، واستَحْيَيْتُ منه، وعليه: «ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ» البيت، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى «أَنْ يضربَ» بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى
و «يَضْرِبَ» معناه: يُبَيِّنَ، فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين نحو: «ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً»، وقال بعضُهم: «لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة»، فعلى القول الأول يكونُ «مَثَلاً» مفعولاً و «ما» زائدةٌ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً، ونظيرُه قولُهم: «لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه» وقولُ امرئ القيس:
٣٠٤ - وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا | وحديثٌ ما على قِصَرِهْ |
٣٠٥ - يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ | ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ |
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في «ما» ثلاثةَ أوجه: زائدةٌ، صفةٌ لما قبلَها، نكرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في «مَثَلاً» ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ، مفعولٌ ثانِ، حالٌ
وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع «بعوضةٌ»، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو «ما» على أنها استفهاميةٌ، أي: أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه. وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً ل «ما» لكونِها بمعنى الذي، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا في «أيّ» خاصةً لطولِها بالإِضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو ضرورةٌ، كقراءةِ: ﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٤]، وقولِه:
قولُه: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى، وهو قولٌ مرجوجٌ جداً. و «ما» في ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ إن نَصَبْنا «بعوضةً» كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى الذي، وصلتُها الظرفُ، أو موصوفةً وصفتُها الظرفُ أيضاً، وإنْ رَفَعْنَا «بعوضةٌ»، وجَعَلْنَا «ما» الأولى موصولةً أو استفهاميةً فالثانيةُ معطوفةٌ عليها، لكنْ في جَعْلِنا «ما» موصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ المفرداتِ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ، وإنْ جَعَلْنَا «ما» زائدةً أو صفةً لنكرة و «بعوضةٌ» خبراً ل «هو» مضمراً كانت «ما» معطوفةً على «بعوضة».
والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٌ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع، وكذلك البَضْعُ والعَضْب، قال:
٣٠٦ - مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ | ولا يَحِدْ عن سَبيلِ الحَمْدِ والكَرمِ |
٣٠٧ - لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار | إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا |
قوله: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ﴾ «أمَّا» : حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ وفِعْله، كذا قدَّره سيبويه، قال: «أمَّا» بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ «. وقال
٣٠٨ - فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ | ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ |
﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩]، ولا يجوز الفصلُ بين أمَّا والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء.
و ﴿الذين آمَنُواْ﴾ في محلِّ رفع بالابتداء، و ﴿فَيَعْلَمُونَ﴾ خبرُه. قوله: ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ الفاءُ جوابُ أمَّا، لِما تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و «أنَّه الحقُّ» سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند الجمهورِ، ومَسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي: فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً. وقال
وقوله: ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن «الحق» أي: كائناً وصادراً مِنْ ربهم، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ. وقال أبو البقاء: «والعامل فيه معنى الحقِّ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه» أي: في الحق، لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً.
قوله: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله﴾ اعلَمْ أنَّ «ماذا صنعت» ونحوَه له في كلامِ العربِ ستةُ استعمالات: أن تكون «ما» اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ، و «إذا» اسمُ إشارةٍ خبرهُ. والثاني: أن تكونَ «ما» استفهاميةً وذا بمعنى الذي، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله:
والثالث: أن يُغَلَّبَ حكمُ «ما» على «ذا»، فَيُتْرَكا ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ منه كقولِه: ﴿مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ في قراءة غير أبي عمروٍ، و «ماذا أَنْزَلَ ربُّكم، قالوا: خيراً: عند الجميع، ومنه قوله:
٢٠٩ - ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ | أَنَحْبٌ فيقضى أم ضَلالٌ وباطِلُ |
٣١٠ - يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم | لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنانَا |
٣١١ - دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه | ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئِيني |
[والإِرادةُ لغةً: طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه، وقد تتجرَّدُ للطلبِ، وهي التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي: طَلَب، فأصلُ أراد أَرْوَدَ مثل أَقام، والمصدرُ الإِرادةُ مثلُ الإِقامةِ، وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث].
قوله:» مَثَلاً «نصبٌ على التمييزِ، قيل: جاءَ على معنى التوكيدِ، لأنه من حيث أُشير إليه ب» هذا «عُلِم أنه مثلٌ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم الذي أُشير إليه. وقيل: نصبٌ على الحال، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل: اسمُ الإِشارةِ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ، وقيل: اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً بذلك، وقيل: على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، ومعناه عندهم: أنه
٣١٢ - سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ | وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ أَحْمَرَا |
قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ » الباء «للسببيةِ، وكذلك في ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ ب» أمَّا «، وهما من كلام الله تعالى، وقيل: في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً، أي: مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين، وهما على هذا من كلامِ الكفار وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي: مُضِلاً به كثيراً وهادياً به كثيراً.
وجَوَّزَ ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ من كلام الكفار، وجملةُ قوله: ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهرٍ، لأنه إلباسٌ في التركيب. والضميرُ في «به» عائدٌ على «ضَرْب» المضاف تقديراً إلى المثل، أي: بِضَرْب المَثَل، وقيل: الضمير الأول للتكذيبِ، والثاني للتصديق، ودلَّ على ذلك قُوَّةُ الكلام.
وقُرئَ: ﴿يُضِلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثيرٌ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون﴾ بالبناء للمفعول، وقُرئَ أيضاً: {يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِه
٣١٣ - إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ | قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ كَثُروا |
قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾. الفاسقين: مفعولٌ ل «يُضِلُّ» وهو استثناءٌ مفرغٌ، وقد تقدَّم معناه، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه: وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين كقوله:
والفِسْقُ لغةً: الخروجُ، يقال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها، أي: خَرَجَتْ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى، يقال: فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ. وزعم ابن الأنباري أنه لم يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ، وهذا عجيب، قال رؤبة:
٣١٤ - نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه | ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومِئْزَرا |
والنَّقْضُ: حَلُّ تركيب الشيءِ والرجوعُ به إلى الحالة الأولى. والعهدُ في كلامِهم على معانٍ منها: الوصيةُ والضمانُ والاكتفاءُ والأمرُ. والخَسار: النقصانُ في ميزان أو غيره، قال جرير:
٣١٥ - يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً | فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً |
٣١٦ - إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ | أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ |
و «مِنْ بعد» متعلقٌ ب «يَنْقْضُون»، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء. و «ميثاقَه» الضميرُ فيه يجوزُ أن يعودَ على العهدِ، وأن يعودَ على اسم الله تعالى، فهو على الأول مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، وعلى الثاني مضافٌ للفاعل، والميثاقُ مصدرٌ كالميلادِ والميعادِ بمعنى الولادةِ والوَعْد، وقال ابنُ عطية: «وهو اسمٌ في موضعِ المصدرِ كقولِهِ:
٣١٧ - أكُفْراً بعدَ رَدِّ الموتِ عني | وبعد عطائِك المئةَ الرِّتاعا |
٣١٨ - حِمىً لا يَحُلُّ الدهرُ إلا بإذنِنا | ولا نَسْأَل الأقوامَ عهدَ المَيَاثِقِ |
قوله: ﴿أَن يُوصَلَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: الجرُّ على البدلِ من الضمير في «به» أي: ما أمرَ اللهُ بوَصْلِهِ، كقول امرئ القيس:
٣١٩ - أمِنْ ذِكْرِ ليلى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ | فَتَقْصُرُ عنها خَطْوَةً وتَبُوصُ |
و ﴿يُفْسِدُونَ﴾ عطفٌ على الصلةِ أيضاً و ﴿فِي الأرض﴾ متعلِّقٌ به. وقولُه ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾ كقولِهِ: ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [البقرة: ٥]. وقد تقدَّم أنه يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ خبراً عن ﴿الذين يَنقُضُونَ﴾ إذا جُعِلَ مبتدأً، وإنْ لم يُجْعَلْ مبتدأ فهي مستأنفةٌ فلا محلَّ لها حينئذٍ. وتقدم معنى الخَسار، والأمرُ: طلبُ الأعلى من الأدنى.
وفي الكلام التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قولِه:» وأمَّا الذين كفروا «إلى آخره، إلى الخطاب في قولِهِ:» تَكْفُرون، وكُنْتُم «. وفائدتُهُ أنَّ الإِنكارَ إذا توجَّه إلى المخاطبِ كان أبلغَ. وجاء» تكفرونَ «مضارعاً لا ماضياً لأنَّ المُنْكَرَ الدوامُ على الكفرِ، والمضارعُ هو المُشْعِرُ بذلك، ولئلا يكونَ ذلك تَوْبيخاً لمَنْ آمَنَ بعد كُفْر.
و» كَفَرَ «يتعدَّى بحرف الجر نحو: ﴿تَكْفُرُونَ بالله﴾ ﴿تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ [آل عمران: ٧٠] ﴿كَفَرُواْ بالذكر﴾ [فصلت: ٤١]، وقد تعدَّى بنفسه في قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾ [هود: ٦٨] وذلك لمَّا ضُمِّن معنى جَحَدوا.
قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ الواوُ واوُ الحالِ، وعلامتُها أن يَصْلُح موضِعَها» إذ «، وجملَةُ ﴿كُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال، ولا بد من إضمار» قد «ليصِحَّ وقوعُ الماضي حالاً. وقال الزمخشري:» فإن
ثم قال: «فإنْ قلتَ: بعضُ القصةٍ ماضٍ وبعضُها مستقبلٌ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يَصِحُّ أن يقعَ حالاً حتى يكونَ فعلاً حاضراً وقتَ وجودِهَا هو حالٌ عنه فما الحاضرُ الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلمُ بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرونَ وأنتم عالمونَ بهذه القصة بأولِها وبآخرها» ؟ قال الشيخُ ما معناه: هذا تَكَلُّفٌ، يعني تأويلَه هذه الجملةَ بالجملةِ الاسمية. قال: «والذي حَمَله على ذلك اعتقادُه أنَّ الجملَ مندرجةٌ في حكمِ الجملةِ الأولى». قال: «ولا يتعيَّن، بل يكونُ قولُه تعالى: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ وما بعده جملاً مستأنفةً أَخْبَرَ بها تعالى لا داخلةً تحت الحالِ، ولذلك غايَرَ بينها وبين ما قبلَها من الجملِ بحرفِ العطفِ وصيغةِ الفعل السابقَيْنِ لها في قولِهِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾.
والفاءُ في قولِه:» فَأَحْيَاكُمْ «على بابِها مِن التعقيبِ، و» ثم «على بابها
والجمهورُ على قراءة» تُرْجَعُون «مبنياً للمفعولِ، وقُرِئَ مبنيّاً للفاعل حيث جاء، ووجهُ القراءتين أنَّ» رَجَع «يكونُ قاصراً ومتعدياً، فقراءةُ الجمهورِ من المتعدِّي وهو أرجحُ؛ لأنَّ أصلَها:» ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجِعُكُمْ «لأنَّ
وأَمْوات جمعُ» مَيِّت «وقياسُه على فعائِلِ كسَيّد وسَيَائِدِ، والأَوْلَى أن يكون أموات جمع مَيْت مخفَّفاً كأقوال في جمع قَيْل، وقد تقدَّمت هذه المادةُ.
٣٢٠ - وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها | وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ |
٣٢١ - فَبَيْنَاهُ يَشْرِي........... | ...................... |
قوله: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أصل «ثُمَّ» أن تقتضيَ تراخياً زمانياً، ولا زمانَ هنا، فقيل: إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ. وقيل: لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ.
واستوى معناه لغةً: استقامَ واعتدلَ، مِن استوى العُود. وقيل: عَلاَ وارتفع قال الشاعر:
٣٢٢ - فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ | وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى |
٣٢٣ - قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ | مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ |
٣٢٤ - فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ | تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ |
والثاني: أنه سَوَّى سبع سماوات، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه.
قوله: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ في نصبه خمسةُ أوجه، أحسنُها: أنه بدلٌ من الضميرِ في ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ العائدِ على السماءِ كقولِكَ: أخوك مررتُ به زيدٍ. الثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده. وهذا يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري، وقد تقدَّم آنِفاً. الثالث: أنه مفعولٌ به، والأصلُ: فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سماواتٍ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٥] أي: مِنْ قومه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهذا ضعيفٌ
قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ «هو» مبتدأ و «عليمٌ» خبره، والجارُّ قبلَه يتعلَّق به.
واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء «هو» و «هي» بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم، نحو: ﴿فَهِيَ كالحجارة﴾ [البقرة: ٧٤]، ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة﴾ [القصص: ٦١] ﴿لَهُوَ الغني﴾ [الحج: ٦٤] ﴿لَهِيَ الحيوان﴾ [العنكبوت: ٦٤]، تشبيهاً ل «هو» بعَضْد، ول «هي» بكَتْف،
٣٢٥ - فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي | سُلُوٌّ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً مُتَيَّمَا |
٣٢٦ - فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي | فقلتُ أَهْيَ سَرَتْ أم عادني حُلُمُ |
فإن قيل: عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء، وكان مِنْ حقِّه إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية، وإذا تأخَّرَ
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ [الحديد: ٦] وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به. وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو: أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب، ومنه ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]، وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو: أنا أصبرُ على كذا، وأنا صبورٌ عليه، وأزهدُ فيه منك، وزهيدٌ فيه. وهذا مقررٌ في علم النحو.
٣٢ - ٧- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ | بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ |
و ﴿قَالَ رَبُّكَ﴾ جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها.
واعلم أنَّ «إذ» فيه تسعةُ أوجه، أحسنُها أنه منصوبٌ ب ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ أي: قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، وهذا أسهلُ الأوجهِ. الثاني: أنه منصوبٌ ب «اذكُرْ» مقدراً وقد تقدَّم أنه
و «للملائكة» متعلِّقٌ ب «قال» واللامُ للتبليغ. وملائكةٌ جمع مَلَك. واختُلِف في «مَلَك» على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط. وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان
٣٢٨ - أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً | غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ |
٣٢٩ - وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه | بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ |
٣٣ - ٠- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا | أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري |
٣٣١ - فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ | تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ |
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو: صَلادِمة. وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً، قال الشاعر:
٣٣٢ - أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ... قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ هذه الجملة معمولُ القولِ، فهي
٣٣٣ - إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ | نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر |
و «إنَّ» على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ يجب فيه كَسْرُها، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان، وليس هذا موضعَ تقريرِه، بل يأتي في غضون السور، ولكن الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو: بلغني أنك قائمٌ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في هذا الضابطِ.
و «جاعلٌ» فيه قولان، أحدُهما أنه بمعنى خالق، فيكونُ «خليفةً» مفعولاً به، و «في الأرض» فيه حينئذ قولان، أحدُهما وهو الواضح أنه
وقرئ: «خليقةً» بالقاف.
و «خليفةً» منصوبٌ ب «جاعل» كما تقدَّم، لأنَّه اسمُ فاعل. واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية.
٣٣٤ - ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا | وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ |
والجمهورُ على رَفْعِهِ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار» أَنْ «كقوله:
٣٣٥ - أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى | وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ |
والسَّفْكُ: هو الصَّبُّ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ، وقال ابن فارس، والجوهري: «يُستعمل أيضاً في الدمع». وقال المَهدوي «ولا يُستعمل السفك إلا في الدَّمِ، وقد يُستعمل في نثرِ الكلامِ، يقال: سَفَكَ الكلامَ أي: نثره».
والدِّماء: جمعُ دَمٍ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين، فلا بدَّ له من ثالث محذوفٍ هو لامُه، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً، لقولِهم في التثنيةِ: دَمَوان ودَمَيان، قال الشاعر:
٣٣ - ٦- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا | جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين |
٣٣٧ - كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها | أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً |
غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه | فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً |
٣٣٨ - أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه | يا عمروُ بَغْيُكَ إصراراً على الحَسَد |
قولُه: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ الواوُ للحال، و ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبر، في محلِّ النصب على الحال، و «بحمدك» متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ أيضاً، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين بحمدك، نحو: «جاء زيد بثيابِه» فهما حالان متداخلتان، أي حالٌ في حال. وقيل: الباءُ للسببية، فتتعلَّق بالتسبيح. قال ابن عطية: «ويُحْتمل أن يكونَ قولُهم:» بحمدِكَ «اعتراضاً بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح
والحمدُ هنا: مصدرٌ مضاف لمفعولِه، وفاعلُه محذوف تقديره: بحمدِنا إياك. وزعم بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه، على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو: ضرباً زيداً، هل يَتَحَّملُ ضميراً أم لا؟ وقد تقدَّم.
و «نُقَدِّسُ» عطف على «نُسَبِّح» فهو خبر أيضاً عن «نحن» ومفعولُه محذوفٌ أي: نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك، و «لكم» متعلِّقٌ بِه أو ب «نُسَبِّح»، ومعناها العلةُ، وقيل: هي زائدةٌ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه، وهو ضَعيفٌ إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً، وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ نحو: سجدت لله، وقيل: هي للبيان، كهي في قولك: سُقْياً لك، فعلى هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: تقديسُنا لك.
وهذا التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم: «أعني» لأنه أليقُ بالموضِع. وأبعدَ مَنْ زَعَم أنَّ جملةَ قولِه «ونحنُ نسبِّح» داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ تقديرُه: وأنحن
٣٣٩ - طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ | ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَب |
٣٤٠ - أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ | أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً |
٣٤١ - فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً | بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ |
٣٤٢ - أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ | سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر |
والتقديسُ: التَطْهير، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ، وبيت المَقْدِس، وروحُ القُدُس، وقال الشاعر:
٣٤٣ - فَأَدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنَّسا | كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ المَقْدِسِ |
قوله تعالى: ﴿قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أصلُ إنِّي: إنني فاجتمع
والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ، و «أعلمُ» يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً وهو الظاهرُ، و «ما» مفعولٌ به، وهي: إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي: تعلمونَه، وقال المهدوي، ومكي وتبعهما أبو البقاء: «إنَّ» أعلمُ «اسمٌ بمعنى عالم» كقوله:
٣٤٤ - لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ | على أيِّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ |
وقيل: «أعلمُ» على بابها من كونِها للتفضيلِ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، أي: أعلمُ منكم، و «ما» منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل، أي: علمتُ ما لا تعلمون، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ
٣٤٥ - فلم أَرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبَّحاً | ولا مثلَنا يومَ التَقَيْنَا فوارِساً |
أَكَرَّ وأحمى للحقيقةِ منهمُ | وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا |
وقُرئ: «عُلِّم» مبنياً للمفعول، و «آدمُ» رفعا لقيامهِ مَقامَ الفاعلِ. و «كلَّها» تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم. وقولُه «الأسماء كلَّها» الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ، لأنَّ المعنى: وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ، [ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً، بل دَلَّ كلُّها على الشمولِ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ]، وإنْ لم يَعْلَمْ مُسَمَّياتِها، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ. وقيل: لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه، فقيل: تقديرُه: أسماءَ المسمَّيات، فَحُذِفَ المضافُ إليه
ونحوُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] تقديرُه: أو كذي ظُلُمات، فالهاءُ في «يَغْشَاه» تعودُ على «ذي» المحذوفِ.
قوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة﴾ «ثم» حرفٌ للتراخي كما تقدَّم، والضميرُ في «عَرَضَهُمْ» للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإِطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ المسمَّيات، كما تقدَّم. وقيل: يعودُ على الأسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ: «عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ» إلا أنَّ في هذا القول جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ، أو نقول: إنما قال ابن عباس ذلك بناءً منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ. و «على الملائكة» متعلق ب «عرضهم».
٣٤٦ - هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْ | تَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ |
٣٤٧ - تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا | بكَى لَمَّا بكى أَسَفا عليكما |
قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قد تقدَّم نظيره، وجوابُه محذوف أي: إنْ كنتمْ صادقين فأنبئوني، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ، وهو مردودٌ بقولِهِم: «أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ» لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت الفاءُ
٣٤٨ - أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه | سُبْحَانَ مِنْ علقَمَةَ الفاخِرِ |
٣٤٩ - سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به | وقبلَنَا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ |
قوله: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ كقوله تعالى: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] و «إلاَّ» حرفُ استثناء، و «ما» موصولةٌ، و «علَّمتنا» صلتُها، وعائدُها محذوفٌ، على أن يكونَ «عِلْم» بمعنى مَعْلُوم، ويجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً وهي في محلِّ نصب على الاستثناءِ، [ولا يجوزُ أن تكونَ منصوبةً بالعِلْم الذي هو اسمُ لا لأنه إذا عَمِل كان مُعْرباً]، وقيل: في محلِّ رفعٍ على البدلِ من اسم «لا» على الموضع. وقال ابن عطية: «هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم:» لا إلهَ إلا اللهُ «وفيهِ نظرٌ، لأن الاستثناءَ إنما هو من المحكومِ عليه بقيدِ الحكم لا مِن المحكومِ به. وَنقَل هو عن الزهراوي أنَّ» ما «منصوبَةٌ بعلَّمْتَنَا بعدَها، وهذا غيرُ معقولٍ لأنه كيف ينتصِبُ الموصولُ بصلتِه وتَعْمَلُ فيه؟ قال الشيخُ:» إلا أَنْ يُتَكَلَّف لَه وجهٌ بعيدٌ، وهو أن يكونَ استثناءً منقطعاً بمعنى
قولُه: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم﴾ أنتَ يَحتمِلُ ثلاثةَ أوجهٍ، أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ فيكونَ منصوبَ المحلِّ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه ما بعده والجملةُ خبرُ إنَّ، وأن يكونَ فَصْلاً، وفيه الخلافُ المشهورُِ، وهل له محلُّ إعرابٍ أم لا؟ وإذا قيل: إنَّ له محلاًّ، فهل بإعرابِ ما قبلَه كقولِ الفراء فيكونُ في محلِّ نصبٍ، أو بإعراب ما بعده، فيكونُ في محلِّ رَفعٍ كقول الكسائي؟ و «الحكيمُ» خبَرٌ ثانٍ أو صفةٌ للعليم، وهما فَعِيل بمعنى فاعِل، وفيهما من المبالغةِ ما ليس فيه.
والحُكْم لغةً: الإِتقانُ والمَنْع من الخروجِ عن الإِرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابَّة وقال جرير:
٣٥٠ - أبني حَنِيفَةَ أحْكِموا سفهاءَكُمْ | إني أخافُ عليكُمُ أَنْ أغْضَبَا |
٣٥١ - يَا أبْجَرَ بنَ أَبْجَرٍ يا أَنْتا | أنتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جُعْتَا |
٣٥٢ - أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ | ندامَاي مِنْ نجرانَ ألاَّ تلاقِيا |
و «أَنْبِئْهُمْ» فعلُ أمر وفاعلٌ ومفعولٌ، والمشهورُ: أَنْبِئْهُمْ مهموزاً مضمومَ الهاء، وقُرئ بكسر الهاءِ وتُرْْوى عن ابنِ عامر، كأنه أَتْبَعَ الهاءَ لحركةِ الباء
إذا تقرَّر ذلك فللنَّحْويين في حرف العلة المبدلِ من الهمزةِ نظرٌ في أنه هل يجري مَجْرى حرفِ العلةِ الأصلي أم يُنْظرُ أصله؟ ورتَّبوا على ذلك أحكاماً ومِن جملتها: هل يُحْذَفُ جَزْماً كالحرف غيرِ المُبْدل [أم لا] نظراً إلى أصلِه، واستدلَّ بعضُهم على حَذْفِه جَزْماً بقول زهير:
٣٥٣ - جريءٍ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بظُلْمِه | سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ |
و» بأسمائِهم «متعلِّق بأَنْبِئْهُمْ، وهو المفعولُ الثاني كما تقدَّم، وقد يتعدَّى ب» عن «نحو: أنبأْتُه عن حالِه، وأمَّا تعديتُه ب» مِنْ «في قوله تعالى:
﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ [التوبة: ٩٤] فسيأتي في موضعه إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
قوله: ﴿قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ﴾ الأية. «قال» جوابُ «فلمَّا» والهمزةُ للتقرير إذا دَخَلَتْ على نفي قَرَّرَتْهُ فيَصيرُ إثباتاً نحو: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ [الانشراح: ١] أي: قد شرحنا و «لم» حرفُ جزمٍ وقد تَقَدَّمَ أحكامُها، و «أَقُلْ» مجزومٌ بها حُذِفَتْ عينُه وهي الواوُ لالتقاءِ الساكنين. و «لكم» متعلقٌ به، واللامُ للتبليغِ. والجملةُ من قوله: «إني أَعْلَمُ» في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ. وقد تقدَّم نظائرُ هذا التركيبِ فلا حاجةَ إلى إعادتِه.
قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ كقولِه: ﴿أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ من كونِ «أَعْلَمُ» فعلاً مضارعاً أو أفْعَل بمعنى فاعِل أو أَفْعَل تفضيل، وكونِ «ما» في محل نصبٍ أو جرٍ وقد تقدَّم. والظاهرُ: أن جملةَ قولِه: «وأعلمُ» معطوفةٌ على قولِه: ﴿إني أَعْلَمُ غَيْبَ﴾، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقال أبو البقاء: «إنه مستأنفٌ وليسَ محكيَّاً بالقولِ»، ثم جَوَّزَ فيه ذلك.
٣٥٤ -..................... | بَدا لَكَ في تلك القَلوصِ بَداءُ |
والمشهورُ جَرُّ تاءِ «الملائكة» بالحرفِ، وقرأ أبو جعفر بالضمِّ إتباعاً
و «اسجُدوا» في محلِّ نصبٍ بالقولِ، واللامُ في «لآدمَ» الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل: بمعنى إلى، أي: إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم، والسجودُ لله. وقيل: بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ، وقيل: اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك.
و «فسجدوا» الفاءُ للتعقيبِ، والتقديرُ: فسَجدوا له، فَحُذِفَ الجارُّ للعلمِ به. قوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ [إلا] حرفُ استثناءٍ، و «إبليس» نصبٌ على الاستثناء.
وهل نصبُه بإلاَّ وحدها أو بالفعلِ وحدَه أو به بوساطة إلا، أو بفعلٍ محذوف أو ب «أنَّ» ؟ أقوالٌ، وهل هو استثناءٌ متصلٌ أو منقطعٌ؟ خلافٌ مشهورٌ، والأصحُّ أنه متصلٌ. وأمَّا قولُه تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن﴾ [الكهف: ٥٠] فلا يَرُدُّ هذا لأنَّ الملائكة قد يُسَمَّوْنَ جِنَّاً لاجْتِنانِهم قال:
٣٥٥ - وسَخَّر مِنْ جِنِّ الملائِكِ تسعةً | قياماً لَديْهِ يَعْمَلون بلا أَجْرِ |
واعلم أَنَّ المستثنى على أربعةِ أقسامٍ: قسمٍ واجبِ النصبِ، وقسم واجبِ الجرِّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والجرُّ، وقسمٍ جائزٍ فيه النصبُ والبدلُ مِمَّا قبله والرجحُ البدلُ. القسم الأول: المستثنى من الموجبِ والمقدَّمُ والمكررُ والمنقطعُ عند الحجاز مطلقاً، والواقعُ بعد لا يكون وليس ما خلا وما عدا عند غيرِ الجرميّ، نحو: قام القومُ إلا زيداً، ما قَام إلا زيداً القومُ، وما قام أحد إلا زيداً إلا عَمْراً، وقاموا إلا حماراً، وقاموا لا يكون زيداً وليس زيداً وما خلا زيداً وما عدا زيداً. القسم الثاني: المستثنى بغير وسِوى وسُوى وسَواء. القسم الثالث: المستثنى بعدا وخلا وحاشا. القسمُ الرابع: المستثنى من غيرِ الموجب نحو: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦].
والسجودُ لغةً: التذلُّلُ والخضوعُ، وغايتُه وَضْعُ الجبهةِ على الأرضِ، وقال ابن السكيت: «هو المَيْلُ» قال زيدٌ الخيل:
٣٥٦ - بجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ في حَجَراته | ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحَوافِرِ |
٣٥٧ -.......................... | سُجودَ النصارى لأَِحْبارِها |
٣٥٨ - فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ | سُجودَ النَّصارى لأرْبابها |
٣٥٩ - وقُلْنَ له أسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجدا | ........................... |
٣٦٠ -.................................. وافى بها كدَراهمِ الأَسْجادِ... وإبليس اختُلِفَ فيه فقيل: [إنه] اسمٌ أعجمي مُنِعَ من الصَّرْفِ
٣٦١ - وفي الوُجوهِ صُفْرَةٌ وإبْلاسْ | ........................ |
٣٦٢ - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا | قال نَعَمْ أَعْرِفُه وأَبْلَسَا |
قوله: ﴿أبى واستكبر﴾ الظاهرُ أنَّ هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمَنْ قال: فما فعلَ؟ والوقفُ على قولِه: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ تامٌّ. وقال أبو البقاء: «في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه: تَرَك السجودَ كارهاً
والإِباء: الامتناعُ، قالَ الشاعر:
٣٦٣ - وإما أَنْ يقولوا قَدْ أَبَيْنا | وشَرُّ مواطِنِ الحَسَبِ الإِباءُ |
واستكبر بمعنى تكبَّر وإنما قدَّم الإِباءُ عليه وإنْ كان متأخِّراً عنه في
٣٦٤ - بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها | قطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها |
٣٦٥ - قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزهرٌ تَهادى | كنعاجِ الفَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا |
والسكونُ والسُّكْنى: الاستقرارُ. ومنه: المِسْكينُ لعدَمِ استقراره وحركتِه وتصرُّفِه، والسِّكِّينُ لأنها تَقْطَعُ حركةَ المذبوحِ، والسَّكِينة لأنَّ بها يَذْهَبُ القلقُ.
قوله: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾ هذه الجملةُ عَطْفٌ على «اسكُنْ» فهي في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، وأصلُ كُلْ: أُأْكُلْ بهمزتين: الأولى همزةُ وصلٍ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل: اُوكُلْ بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مجانساً لحركةِ ما قبلَها، إلا أنَّ العربَ حَذَفَتْ فاءَه في الأمرِ تخفيفاً فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوزنُه عُلْ، ومثلُه: خُذْ ومُرْ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها لا تقول من أَجَر: جُرْ. ولا تَرُدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول: قم وخذ وكُلْ، إلا «مُرْ» فإنَّ الكثيرَ رَدُّ فائِه بعد الواوِ والفاءِ قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ﴾ [الأعراف: ١٤٥] و ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ﴾ [طه: ١٣٢]، وعدمُ الردِّ قليلٌ، وقد حَكَى سيبويه: «اؤْكُلْ» على الأصلِ وهو شاذٌّ.
وقال ابن عطية: «حُذِفَتِ النونُ من» كُلا « [للأمر] » وهذه العبارةُ مُوهِمةٌ لمذهبِ الكوفيين من أنَّ الأمرَ عندهم مُعْربٌ على التدريجِ كما تقدَّم، وهو عند البصريين محمولٌ على المجزومِ، فإن سُكِّنَ المجزومُ سُكِّن الأمرُ منه، وإنْ حُذِفَ منه حرفٌ حُذِفَ من الأمر.
وقُرئ: «رَغْداً» بسكون الغينِ وهي لغةُ تميمٍ. وقال بعضُهم: كل فعلٍ حلقيٍّ العين صحيحِ اللامِ يجوزُ فتحُ عينِه وتسكينها نحو: نهر وبحر. وهذا فيه نظرٌ بل المنقولُ أنَّ فعْلاً بسكونِ العينِ إذا كانت عينُه حلقيةً لا يجوزُ فتحُها عند البصريين إلا أَنْ يُسَمَعَ فَيُقْتَصَرَ عليه، ويكون ذلك على لغتين لأنَّ إحداهما مأخوذةٌ من الأخرى. وأمَّا الكوفيون فبعضُ هذا عندهم ذو لغتين، وبعضُه أصلُه السكونُ ويجوز فتحُه قياساً، أمَّا أنَّ فعَلاً المفتوحَ العينِ الحلقِيَّها يجوزُ فيه التسكينُ فيجوز في السَّحَر: السَّحْر فهذا لا يُجيزه أحد. والرغَدُ: الواسِعُ الهنيءُ، قال امرؤ القيس:
٣٦٦ - بينما المرءُ تراهُ ناعماً | يَأْمَنُ الأحداثَ في عيشٍ رَغَدْ |
قوله: ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ حيث: ظرفُ مكانٍ، والمشهور بناؤُها على الضم لشَبَهِها بالحرفِ في الافتقارِ إلى جملةٍ، وكانت حركتُها ضمةً تشبيهاً ب «قبل» و «بعد». ونقل الكسائي إعرابَها عن فَقْعَس، وفيها لغاتٌ: حيث بتثليث الثاء
٣٦٧ - أَمَا تَرى حيثُ سهيلٍ طالِعا | ......................... |
٣٦٨ - وَنَطْعَنُهم تحت الحُبَى بعد ضَرْبهم | ببيضِ المواضي حيثُ لَيِّ العَمائم |
٣٦٩ - للفتى عَقْلٌ يَعيشُ به | حيث تَهْدي ساقَهُ قَدَمُهْ |
قوله: «شِئْتُمَا» : الجملةُ في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها. وهل الكسرةُ التي على الشين أصلٌ كقولِك: جِئْتُما وخِفْتُما، أو مُحَوَّلة من فتحة لتدلَّ على ذواتِ الياءِ نحو: بِعْتما؟ قولان مبنيَّان على وزنِ شَاءَ ما هو؟ فمذهب المبرد أنه: فَعَل بفتحِ العينِ، ومذهبُ سيبويه فَعِل بكسرِها ولا يخفى تصريفُهما.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ لا ناهيةٌ، و «تَقْرَبا» مجزومٌ بها حُذِفَتْ نونُه. وقُرئ: «تِقْرَبا» بكسر حرف المضارعة، والألفُ فاعلٌ، و «هذه» مفعولٌ به اسمُ إشارةِ المؤنث، وفيها لغاتٌ: هذي وهذهِ [وهذهِ] بكسرِ الهاء بإشباعٍ ودونِهِ، وهذهْ بسكونِه، وذِهْ بكسر الذالِ فقط، والهاءُ بدلٌ من الياءِ لقُرْبِهَا منها في الخَفَاءِ. قال ابنُ عطية ونُقِلَ أيضاً عن النحاس «وليس في الكلام هاءُ تأنيثٍ مكسورٌ ما قبلَها غيرُ» هذه «. وفيه نظرٌ، لأن تلك الهاء التي تَدُلُّ على التأنيث ليستْ هذه، لأن تيكَ بدلٌ من تاءِ التأنيث في الوقف، وأمَّا
٣٧٠ - تعلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْدا | وأنَّ لتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَاراً |
٣٧١ - خَليليَّ لولا ساكنُ الدارِ لم أُقِمْ | بتا الدارِ إلاَّ عابرَ ابنِ سبيلٍ |
٣٧٢ - يا رَبِّ إنْ كنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتِجْ | فلا يَزالُ شاحِجٌ يأتيكَ بِجْ |
٣٧٣ - إذا لم يكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى | فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ من شِيَرَاتِ |
وتقول: قَرِبْتُ الأمرَ أقرَبه بكسرِ العين في الماضي، وفتحِها في المضارع أي: التبَسْتُ به، وقال الجوهري:» قَرُب بالضمِّ يقرُبُ قُرْباً أي: دَنَا، وقَرِبْتُهُ بالكسر قُرْبَاناً دَنَوْتُ [منه]، وقَرَبْتُ أقرُبُ قِرابَةً مثل: كَتَبْتُ أكتُبُ
وقيل: إذا قيل: لا تَقْرَبْ بفتح الراء كان معناه لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ وإذا قيل: لا تَقْرُب بالضمِّ كان معناه: لاَ تَدْنُ منه «.
قوله: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ فيه وجهان: أحدُهما: أَنْ يكونَ مجزوماً عطفاً على» تَقْرَبَا «كقولِهِ:
٣٧٤ - فقلت له:
صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ | فَيُذْرِكَ من أُخرى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ |
و ﴿مِنَ الظالمين﴾ خبرُ كان. والظُلْمُ: وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه ومنه قيل للأرضِ التي لم تستحقَّ الحفرَ فتُحْفَر: مظلومةٌ، وقال النابغة الذبياني:
٣٧٥ - إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا | والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ |
٣٧٦ - ظَلَمَ البطاحَ له انهِلاَلُ حَرِيصةٍ | فصفَا النِّطافُ له بُعَيْدَ المُقْلَعِ |
٣٧٧ - بأبِهِ اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَمْ | ومَنْ يشابِهْ أَبَه فما ظَلَمْ |
٣٧٨ - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ | كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ |
و ﴿مِمَّا كَانَا﴾ متعلِّقٌ بأَخْرَجَ، و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، أي: من المكانِ أو النعيمِ الذي كانا فيه، أو من مكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه، فالجملةُ مِنْ كان واسمِها وخبرِها لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ.
وقوله: «اهبِطوا» جملةٌ أمريةٌ في محلِّ نصبٍ بالفعلِ [قبلها]. وقُرئ: «اهبُطوا» بضم الباء وهو كثيرٌ في غيرِ المتعدِّي، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط، وجاء في مضارعِهِ اللغتان، والمصدرُ: الهُبوط بالضم، وهو النزولُ. وقيلَ: الانتقال مطلقاً. وقال المفضل: «الهبوطُ: الخروجُ من البلد، وهو أيضاً الدخولُ فيها فهو من الأضداد». والضمير في «اهبطوا»
قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وفيها قولان، أَصَحُّهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: اهبِطوا مُتعادِيْن. والثاني: أنها لا محلَّ لها لأنها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة. وأُفْرِدَ لفظُ» عدو «وإِنْ كان المرادُ به جَمْعَاً لأحدِ وجهَيْنِ: إِمَّا اعتباراً بلفظِ» بعض «فإنه مفردٌ، وإِمَّا لأن» عَدُوَّاً «أشْبَهَ المصادرَ في الوزنِ كالقَبول ونحوِهِ. وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأن بعضهم جعل عَدُوّاً مصدراً، قال في سورة النساء:» وقيلَ: عَدُوٌّ مصدرٌ كالقَبول والوَلوعِ فلذلك لم يُجْمَعْ «، وعبارةُ مكي قريبةٌ من هذا فإنَّه قال:» وإنما وُحِّدَ وقبلَه جمعٌ لأنه بمعنى المصدرِ تقديرُهُ: ذوي عَداوة «. [ونحوُه: {فَإِنَّهُمْ
واللامُ في» لِبعض «متعلقةٌ ب» عَدُوّ «ومقوِّيةٌ له، ويجوزُ أن تكونَ في الأصلِ صفةً ل» عدُوّ «، فلمَّا قُدِّمَ عليه انتصَبَ حالاً، فتتعلَّقُ اللامُ حينئذٍ بمحذوفٍ، وهذه الجملةُ الحاليةُ لا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ واوِ الحالِ منها، لأنَّ الربطَ حَصَلَ بالضميرِ، وإن كان الأكثرُ في الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً أن تقترنَ بالواوِ.
والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قطعه فأُطْلِقَ على القطعةِ من الناسِ لأنها قطعةٌ منه، وهو يقابِلُ» كُلاًّ «، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإِضافةِ معنىً وأنه مَعرفةٌ بنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه أل وينتصِبُ عنه الحال. تقول:» مررت ببعضٍ جالساً «وله لفظٌ ومعنًى، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ» كُل «.
قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ﴾ هذه الجملةُ يجوز فيها الوجهان المتقدِّمان في الجملةِ قبلَها من الحاليةِ والاستئنافِ، كأنه قيل: اهبِطوا مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ الاستقرارَ. و «لكم» خبرٌ مقدمٌ. و ﴿فِي الأرض﴾ متعلقٌ بما تعَلَّقَ
قوله: ﴿إلى حِينٍ﴾ الظاهرُ أنه متعلقٌ بمتاع، وأنَّ المسألة من بابِ الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ: ﴿مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ يَطْلُبُ قولَه « ﴿إلى حِينٍ﴾ من جهةِ المعنى. وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني
٣٨٠ - أنا ابنُ مَأوِيَّةَ إذ جَدَّ النُّقُرْ... و» مستقر «يجوز أن يكونَ اسمَ مكانٍ وأن يكونَ اسم مصدرٍ، مُسْتَفْعَل من القَرار وهو اللُّبْثُ، ولذلك سُمِّيَتِ الأرضُ قَرارَةٌ، قال الشاعر:
٣٧٩ - يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ | ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ |
٣٨١ -.......................... | فَتَرَكْنَ كلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ |
والحينُ: القطعةُ من الزمان طويلةً كانت أو قصيرةً، وهذا هو المشهورُ،
٣٨٢ - وإنَّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ | من الدهرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها |
٣٨٣ - العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ | والمُطْعِمُون زمانَ أين المُطْعِمُ |
و ﴿مِن رَّبِّهِ﴾ متعلِّقٌ به، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ في الأصلِ صفةً لكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، و «كلماتٍ» مفعول به.
وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ «آدم» ورفعِ «كلمات»، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ. وقيل: لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً. ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مؤنثاً [لأنه غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً] مجازياً.
قولُه تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ عَطْفٌ على ما قبلَه، ولا بُدَّ من تقديرِ جملةٍ قبلَها أي: فقالَها. والكلماتُ جمع كلمة، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله تعالى: {
٣٨٤ - ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ | وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ |
والتوبةُ: الرجوعُ، ومعنى وَصْفِ اللهِ تعالى بذلك أنه عبارةٌ عن العطفِ على عبادِه وإنقاذِهم من العذابِ، ووصفُ العبدِ بها ظاهرٌ لأنه يَرْجع عن المعصيةِ إلى الطاعةِ، والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ، ولا يختصَّان بالباري تعالى. قال تعالى: ﴿يُحِبُّ التوابين﴾ [البقرة: ٢٢٢]، ولا يُطْلَقُ عليه «تائب» وإن صُرِّحَ بفعلِه مُسْنَداً إليه تعالى، وقُدِّم التوابُ على الرحيم لمناسبةِ «فَتَاب عليه» ولأنه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم.
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ نظير قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم﴾ [البقرة: ٣٢]. وأدغم أبو عمرو هاء «إنه» في هاء «هو». واعتُرِض على هذا بأن بين المِثْلَيْنِ ما يمنع [من] الإِدغام وهو الواوُ، وأُجيب بأنَّ الواوَ صلةٌ زائدةٌ لا يُعْتَدُّ بها بدليلِ سقوطِها في قوله:
٣٨٥ - لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّه صوتُ حادٍ | إذا طَلَبَ الوسِيقَةَ أو زَمِيرُ |
٣٨٦ - أو مُعْبَرُ الظهرِ يُنْبي عن وَلِيَّتِه | ما حَجَّ في الدنيا ولا اعْتَمَرا |
و «جميع» في الأصل من ألفاظِ التوكيد، نحو: «كُل»، وبعضُهم عَدَّها معها. وقال ابنُ عطية: «وجميعاً حالٌ من الضميرِ في» اهبِطوا «وليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، ولكنه عِوَضٌ منهما دالٌّ عليهما، كأنه قال:» هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً «كأنه يعني أنَّ الحالَ في الحقيقةِ محذوفٌ، وأنَّ» جميعاً «تأكيدٌ له، إلا أنَّ تقديرَه بالمصدرِ يَنْفي جَعْلَه حالاً إلا بتأويلٍ لا حاجةَ إليه. وقال بعضُهُم: التقديرُ: قُلْنا اهبِطوا مجتمِعِين فهبطوا جميعاً، فَحُذِفَ الحالُ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وحُذِفَ العاملُ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، وهذا تكلُّفٌ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ.
قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِع﴾... الآية. الفاءُ مُرَتَّبَةٌ معقِّبةٌ. و» إمَّا «أصلُها: إن الشرطيةُ زِيدَتْ عليها» ما «تأكيداً، و» يأتينَّكم «في محلِّ
٣٨٧ - فإمَّا تَرَيْني كابنةِ الرَّمْلِ ضاحياً | على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ |
٣٨٨ - يا صاحِ إمَّا تَجِدْني غيرَ ذي جِدَةٍ | فما التَخلِّي عن الخُلاَّنِ من شِيَمي |
٣٨ - ٩- زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّني إمَّا أَمُتْ | يَسْدُدْ أُبَيْنُوها الأَصاغِرُ خُلَّتي |
٣٩ - ٠- فإمَّا تَرَيْني ولِي لِمَّةٌ | فإنَّ الحوادثَ أودى بِها |
٣٩ - ١- فإمَّا تَرَيْني لا أُغَمِّضُ ساعةً | مِن الدهرِ إلا أَنْ أَكِبَّ فَأَنْعَسَا |
٣٩٢ - إمَّا تَرَيِْني اليومَ أمَّ حَمْزِ | قارَبْتُ بينَ عَنَقي وجَمْزِي |
٣٩٣ - مَنْ نَثْقَفَنْ منهم فليس بآئِبِ | أبداً وقتلُ بني قُتَيْبَةَ شافي |
و» مَنْ «يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً، ودَخَلَت الفاءُ في خبرِها تشبيهاً لها بالشرطِ، ولا حاجةَ إلى هذا.
فإن كانتْ شرطيةً كان «تبع» في محل جزم، وكذا: «فلا خَوْفٌ» لكونِهما شرطاً وجزاءً، وإنْ كانت موصولةً فلا محلَّ ل «تَبِع». وإذا قيل بأنَّها شرطيةٌ فهي مبتدأٌ أيضاً، ولكنْ في خبرها خلافٌ مشهور: الأصحُّ أنه فعلُ الشرطِ، بدليل أنه يَلزُم عودُ ضميرٍ مِنْ فعلِ الشرط على اسمِ الشرط، ولا يلزَمُ ذلك في الجوابِ، تقول: مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً، [فليس في «أُكرم زيداً» ضميرٌ يعودُ على «مَنْ» ولو كان خبراً للزِمَ فيه ضميرٌ]، ولو قلتَ: «مَنْ يَقُمْ زيداً أُكْرِمْه» وأنت تعيدُ الهاءَ على «مَنْ» لم يَجُزْ لخلوِّ فعلِ الشرطِ من الضمير. وقيل: الخبرُ الجوابُُ، ويلزُم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائدٍ على اسمِ الشرطِ، فلا يَجُوزُ عندهم: «مَنْ يَقُمْ أُكْرِمْ زيداً» ولكنه جائز، هذا ما أورده أبو البقاء. وسيأتي تحقيقُ القول في لزوم عَوْدِ ضميرٍِ مِنَ الجوابِ إلى اسمِ الشرطِ عند قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧]. وقيل: مجموعُ الشرطِ والجزاءِ هو الخبرُ لأنَّ الفائدةَ إنما تَحْصَلُ منهما. وقيل: ما كان فيه ضميرٌ عائدٌ على المبتدأِ فهو الخبرُ.
٣٩٤ - سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ | فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ |
قولُه: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ جواباً للشرطِ، فيكونَ في محلِّ جزم، وأن يكونَ خبراً ل «مَنْ» إذا قيل بأنها موصولةٌ، وهو أَوْلَى لمقابلتِه بالموصولِ في قولِه: ﴿والذين كَفَرواْ﴾ فيكونَ في محل رفع، و «لا» يجوز أَنْ تكونَ عاملةً عملَ ليس، فيكونَ «خوفٌ» اسمها، و «عليهم» في محلِّ نصبٍ خبرَها، ويجوز أن تكونَ غيرَ عاملةٍ فيكونَ «خوفٌ» مبتدأ، و «عليهم» في محل رفع خبرَه. وهذا أَوْلَى مِمَّا قَبْله لوجهين،
٣٩٥ - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً | ولا وَزرٌ ممَّا قضى اللهُ واقِيَا |
٣٩٦ - وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً | سِواها في حُبِّها مُتَراخِيا |
وقُرِئَ: «فلا خَوْفُ» بالرفعِ مِنْ غيرِ تنوين، والأحسنُ فيه أَنْ تكونَ الإِضافةُ مقدرةً أي: خوفُ شيءٍ، وقيلَ: لأنه على نيةِ الألفِ واللامِ، وقيل: حَذَفَ التنوينَ تخفيفاً. وقرئ: «فلا خوفَ» مبنياً على الفتح، لأنها
قولُه تعالى: ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ تقدَّم أنه جملةٌ منفيةٌ وأنَّ الصحيحَ أنَّها غيرُ عاملةٍ، و «يَحْزنون» في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ، وعلى هذا القولِ الضعيفِ يكون في محل نصب.
والخوفُ: الذُّعْرُ والفَزَع، يقال: خافَ يخاف فهو خائِفٌ والأصل: خَوِف بزون عَلِمَ، ويتعدَّى بالهمزةِ والتضعيف. قال تعالى: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ﴾ [الإسراء: ٦٠]، ولا يكونُ إلا في الأمر المستقبل. والحزنُ ضدُّ السرورِ، وهو مأخوذٌ من
و «فيها» متعلقٌ ب «خالدون». قالوا: وحُذِف من الكلام الأول ما أُثْبِتَ في الثاني، ومن الثاني ما أُثْبِتَ في الأول، والتقدير: فَمَنْ تبع هُدايَ فلا خوفٌ ولا حُزْنٌ يَلْحَقُه وهو صاحبُ الجنةِ، ومَنْ كَفَر وكَذَّب لَحِقَه الحزنُ والخوفُ وهو صاحبُ النار لأنَّ التقسيمَ يقتضي ذلك، ونظَّروه بقولِ الشاعر:
٣٩٧ - وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ فَتْرَةٌ | كما انتفَضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ |
٣٩٨ - تَوَهَمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها | لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابِعُ |
٣٩٩ - خَرَجْنا مِن النَّقْبَيْنِ لا حَيَّ مِثْلُنا | بآياتِنا نُزْجي اللِّقاحَ المَطافِلاَ |
ومذهبُ الكسائي أن وَزنَها آيِيَة على وزن فاعِلة، فكانَ القياسُ أن يُدْغَمَ فيقال: آيَّة كدابَّة إلا أنه تُرِكَ ذلك تخفيفاً، فحذَفُوا عينَها كما خفَّفوا كَيْنونة والأصل: كيَّنونة بتشديد الياء، وضَعَّفُوا هذا بأنَّ بناءَ كيَّنونة أثقلُ فناسَبَ التخفيفُ بخلافِ هذه.
ومذهبُ الفرَّاء أنَّها فَعْلةٌ بسكونِ العين، واختاره أبو البقاء قال: «لأنها من تَأَيَّا القوم أي اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء، فَظَهَرَتِ الياءُ [الأولى]، والهمزةُ الأخيرةُ بدلٌ من ياء، ووزنُه أَفْعال، والألفُ الثانيةُ بدلٌ من همزةٍ هي فاءُ الكلمة، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع، آواء، ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الساكنةَ ألفاً على غيرِ قياس» انتهى. يعني أنَّ حرفَ العلَّةِ لا يُقْلَبُ حتى يَتَحَرَّكَ وينفتحَ ما قبله.
٤٠٠ - قالَتْ بنو عامِرٍ خالُوا بني أَسَدٍ | يا بؤسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ |
٤٠١ - وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ | أباً بَرًّا ونحنَ له بنينُ |
وإسرائيل: خَفْضٌ بالإِضافةِ، ولا يَنْصَرِفُ للعلَمِيَّة والعُجْمة، وهو مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ مثل: عبد الله، فإنَّ «إسْرا» هو العبدُ بلغتِهم، و «إيل» هو اللهُ تعالى. وقيل: «إسْرا» مشتقٌ من الأسْرِ وهو القوة، فكأن معناه: الذي قَوَّاه الله. وقيل لأنه أُسْرِي بالليلِ مُهاجراً إلى اللهِ تعالى. وقيل: لأنه أَسَرَ جِنِّيَّاً كان يُطْفِئُ سِراج بيتِ المَقْدِس. قال بعضُهُم: فعلى هذا يكونُ الاسمِ عربياً وبعضُه أعجمياً، وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ بلغاتٍ كثيرةٍ أفصَحُها لغةُ القرآنِ وهي قراءةُ الجمهور. وقرأ أبو جعفر والأعمش، «إسْرايِل» بياءٍ بعد الألف من غيرِ همزةٍ، ورُوِي عن ورش: إسْرائِل بهمزةٍ بعد الألف دونَ ياءٍ، واسْرَأَلَ بهمزةٍ مفتوحةٍ بين الراء واللام [واسْرَئِل بهمزة مكسورةٍ بين الراء واللام] وإسْرال بألفٍ محضة بين الراءِ واللامِ، قال الشاعر:
٤٠٢ - لا أرى مَنْ يُعْينُني في حياتي | غيرَ نفسي إلا بني إسْرالِ |
٤٠٣ - قالَتْ وكنتُ رجلاً فَطِينا | هذا وربِّ البيتِ إسرائينا |
قوله: ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ اذكروا فعلٌ وفاعلٌ، ونعمتي مفعولٌ، وقال ابن الأنباري: «لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه: شُكْرَ نِعْمتي. والذِّكر والذُّكر بكسرِ الذال وضَمِّها بمعنىً واحدٍ، ويكونان باللسانِ وبالجَنانِ. وقال الكسائي:» هو بالكسر لِلِّسان وبالضمّ للقلب «فضدُّ المكسور: الصمتُ، وضدُّ المضمومِ: النِّسْيان، وفي الجملةِ فالذكرُ الذي محلُّه القلبُ ضدُّه النسيانُ، والذي محلُّه اللسانُ ضِدُّه الصمتُ، سواءً قيل: إنهما بمعنىً واحدٍ أم لا.
والنِّعْمَةُ: اسمٌ لِما يُنْعَمُ به وهي شبيهةٌ بفِعْلٍ بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْح ورِعْي، والمرادُ بها الجمعُ لأنها اسمُ جنسٍ، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ
و «عليكُمْ» متعلِّقٌ به، وأتى ب «على» دلالةً على شمولِ النعمةِ لهم.
قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي﴾ هذه جملةٌ أمريةٌ عطْفٌ على الأمريَّةِ قبلَها، ويقال: أَوْفَى وَوَفَى وَوَفَّى مشدَّداً ومخففاً، ثلاثُ لغاتٍ بمعنىً، قال الشاعر:
٤٠٤ - أمَّا ابنُ طَوْقٍ فقد أَوْفَى بذِمَّتِه | كما وَفَى بقِلاصِ النَّجْمِ حادِيها |
٤٠٥ - رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ | تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ |
قوله: «أُوْفِ» مجزومٌ على جوابِ الأمر، وهل الجازمُ الجملةُ الطلبيةُ
و «بعَهْدِكم» متعلِّقٌ به، وهو محتمِلٌ للإِضافةِ إلى الفاعلِ أو المفعولِ كما تقدَّم.
قولُه: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ «إيَّاي» ضميرٌ منصوبٌ منفصلٌ، وقد عُرِفَ ما فيه من الفاتحة. ونصبُه بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ الظاهرُ بعدَه، والتقديرُ: «وإياي ارهبوا فارهبون» وإنما قَدَّرْتُه متأخراً عنه، لأنَّ تقديرَه متقدِّماً عليه لا يَحْسُنُ لانفصالِه، وإن كان بعضُهم قَدَّره كذلك. والفاءُ في «فارهبون» فيها قولان للنحويين، أحدُهما: أنها جوابُ أمر مقدَّر تقديرُه: تَنَبَّهوا فارهبون، وهو نظيرُ قولِهم: «زيداً فاضرب» أي: تنبَّهْ فاضربْ زيداً، ثم حُذِف: تَنَبَّه فصار: فاضْرِب زيداً، ثم قُدِّم المفعولُ إصلاحاً للَّفْظِ، لئلا تقعَ الفاءُ صدراً، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لتربِطَ هاتين الجملتين.
والقولُ الثاني في هذه الفاءِ: أنها زائدةٌ. وقال الشيخ بعد أن حكى القولَ الأولَ: «فتحتملُ الآيةُ وجهين أحدُهما: أن يكونَ التقديرُ: وإياي ارهبوا تنبَّهُوا فارهبون، فتكونُ الفاء دَخَلَتْ في جواب الأمر وليست مؤخرةً من تقديم. والوجهُ الثاني أن يكونَ التقديرُ: وتنبَّهوا فارهبون، ثم قُدِّم المفعولُ فانفصلَ وأُتِي بالفاء حين قُدِّم المفعول،
والرَّهَبُ والرَّهْبُ والرَّهْبةُ: الخوفُ، مأخوذٌ من الرَّهابة وهي عَظْْمٌ في الصدر يؤثِّر فيه الخوف.
٤٠٦ - فإنْ تَكُ أَذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ | فَلَنْ يَذْهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ |
قوله: ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ «أولَ» خبرُ «كان» قبلَه، وفيه أربعة أقوال، أحدُها وهو مذهبُ سيبويهِ أنه أَفْعَل، وأنَّ فاءَه وعينَه واوٌ، وتأنيثَه أُوْلى، وأصلُها: وُوْلى، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً وجوباً، وليست مثلَ «وُوْرِيَ» في عَدَمِ قَلْبها لسكونِ الواوِ بعدَها، لأنَّ واوَ «أُولَى» تَحَرَّكت في الجمعِ في قولهم «أُوَل»، فحُمِلَ المفردُ على الجمعِ في ذلك. ولم يَتَصَرَّفْ من «أوَّل» فِعْلٌ لاستثقاله. وقيل: هو مِنْ وَأَل إذا نجا، ففاؤُه واوٌ وعينُه همزةٌ، وأصلُه أَوْ أَل، فَخُفِّفَت بأَنْ قُلِبَتِ الهمزةُ واواً، وأُدْغِم فيها الواوُ فصار: أوَّل، وهذا ليسَ بقياس تخفيفِه، بل قياسُه أن تلقى حركةُ الهمزةِ على الواو الساكنة
واعلم أَنَّ «أَوَّل» أَفْعَلُ تفضيلٍ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى نكرةٍ كان مفرداً مذكراً مطلقاً.
ثم النكرةُ المضافُ إليها أَفْعل: إمَّا أن تكونَ جامدةً أو مشتقةً، فإنْ كانَتْ جامدةً طابقَتْ ما قبلها نحو: الزيدان أفضلُ رجلَيْن، الزيدون أفضلُ رجال، الهنداتُ أفضلُ نسوةٍ. وأجاز المبردُ إفرادَها مطلقاً ورَدَّ عليه النَّحْويون. وإن كانَتْ مشتقةً فالجمهورُ أيضاً على وجوبِ المطابقةِ نحو: «الزيدُون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين»، وأجازَ بعضُهم المطابقةَ وعدَمَها، أنشد الفراء:
٤٠٧ - وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ | وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ |
إذا تقرَّر هذا فكان ينبغي على قولِ الجمهور أن يُجْمع «كافر»، فأجابوا عن ذلك بأوجهٍ: أَجْوَدُها: أَنَّ أَفْعَل في الآية وفي البيتِ مضافٌ لاسمٍ مفردٍ مُفْهِمٍ للجمع حُذِفَ وبَقيتْ صفتُه قائمةً مَقامَه، فجاءت النكرةُ المضافُ إليها أفْعَل مفردةٍ اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف، والتقديرُ: ولا تكونوا أولَ فريقٍ أو فوجٍ كافرٍ، وكذا: فَالأَمُ فريقٍ طاعمٍ، وقيل: لأنه في تأويل: أوَّلَ مَنْ كفر به، وقيل: لأنه في معنى: لا يكُنْ كلُّ واحدٍ منكم أولَ كافرٍ، كقولِك: كساناً حُلَّةً أي: كلَّ واحدٍ منا، ولا مفهومَ لهذهِ الصفةِ هنا فلا يُراد: ولا تكونوا أولَ كافرٍ بل آخرَ كافر. ولمَّا اعتقدَ بعضُهم أنَّ لها مفهوماً احتاجَ إلى تأويل جَعْلِ «أول» زائداً، قال: تقديرُه ولا تكونوا كافرين به، وهذا ليس بشيء، وقدَّره بعضُهم بأَنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: ولا تكونوا أولَ كافرٍ به ولا آخرَ كافرٍ، ونصَّ على الأول لأنه أَفْحَشُ للابتداءِ به، وهو نظيرُ قولِه:
٤٠٨ - مِنْ اُناسٍ ليسَ في أَخْلاقِهِمْ عاجلُ | الفُحْشِ ولا سوءُ الجَزَعْ |
٤٠٩ - كما اشْتَرَى المسلمُ إذا تَنَصَّرا... وقول الآخر:
٤١٠ - فإنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم | فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدكِ بالجَهْلِ |
يعني أنه إذا لم يكُنْ في الكلامِ درهمٌ ولا دينارٌ صَحَّ أن يكونَ كلُّ من العِوَضَيْن ثمناً ومثمَّناً، لكن يَخْتَلِفُ [ذلك] بالنسبةِ إلى المتعاقِدَيْن، فَمَنْ نَسَب الشراءَ إلى نفسِه أَدْخَلَ الباءَ على ما خَرَج منه وزال عنه ونَصَب ما حَصَل له، فتقولُ: اشتريتُ هذا الثوبَ بهذا العبدِ، وأمَّا إذا كان ثَمَّ دراهمُ أو دنانيرُ كان ثَمَناً ليس إلاَّ، نحو: اشتريْتُ الثوبَ بالدرهمِ، ولا تقول: اشتريتُ الدرهمَ بالثوبِ. وقدَّر بعضُهم [مضافاً] فقال: بتعليمِ آياتي لأنَّ الآياتِ نفسَها لا يُشْتَرى بِها، ولا حاجةَ إلى ذلك، لأنَّ معناه الاستبدال كما تقدَّم.
و «ثَمناً» مفعولٌ به، و «قليلاً» صفتُه. و ﴿وَإِيَّايَ فاتقون﴾ كقوله ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]. وقال هنا: [فاتقون، وهناك فارهبون لأنَّ تَرْكَ المأمورِ به هناك معصيةٌ وهي تَرْكُ ذِكْر النعمةِ والإِيفاءِ بالعَهْدِ، وهنا] تَرْكُ الإِيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً كفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهَب هناك لأنه أخفُّ يجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً، وذَكَر التقوى هنا لأنه كُفْرٌ لا يجوز العفو عنه، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ الوقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه.
قوله: ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ فيه وجهان، أحدُهما وهو الأظهرُ: أنَّه مجزومٌ بالعطفِ على الفعلِ قبلَه، نهاهم عن كلِّ فِعل على حِدَتِه أي: لا تفعلوا لا هذا ولا هذا. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «في جوابِ النهي بعد الواو التي تقتضي المعيةَ، أي: لا تَجْمَعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكتمانِه، ومنه:
واللَّبْسُ: الخَلْطُ والمَزْجُ، يُقال: لَبَسْتُ عليه الأمرَ أَلْبِسُه خَلَطْتُ بيِّنَه بمُشْكِله، ومنه قولُ الخَنْساء:
٤١١ - لاَ تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثْلَه | عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عظيمُ |
٤١٢ - ترى الجلِيسَ يقولُ الحقَّ تَحْسَبُه | رُشْداً وهيهاتَ فانظُرْ ما به التبسا |
صَدِّقْ مقالتَه واحذَرْ عَداوَتَهُ | والبِسْ عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا |
٤١٣ - لَمَّا لَبَسْنَ الحقَّ بالتجنِّي | غَنِيْنَ واسْتَبْدَلْنَ زيداً مِنِّي |
٤١٤ - وقد لَبَسْتُ لهذا الأمرَ أَعْصُرَهُ | حتى تَجَلَّل رأسي الشيبُ فاشْتَعلا |
٤١ - ٥-
ألا إنَّ بعدَ العُدْمِ للمَرْءِ قُِنْوَةً | وبعدَ المشيبِ طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا |
٤١٦ - وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ | حتى إذا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لها يَدِي |
والباطلُ ضدُّ الحقِّ، وهو الزائلُ، كقولِ لبيد:
٤١٧ - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ | ................................... |
وقد بَطُل [بالضم] يَبْطُل بُطولاً وبَطالة أي: صارَ شجاعاً. قال النابغة:
٤١٨ - لَهُمْ لِواءٌ بأيدي ماجدٍ بَطَلٍ | لا يقطَعُ الخَرْقَ إلا طَرْفُه سامي |
قولُه: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نَصْبٍ على
وقُرئ شاذاً: «وَتَكْتُمونَ» بالرفع، وخَرَّجوها على أنها حالٌ. وهذا غيرُ صحيحٍ لأنه مضارعٌ مُثْبَتٌ، فمِن حَقِّه الاَّ يقترنَ بالواوِ، وما وَرَد من
٤١٩ - فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ | نَجَوْتُ وأَرْهُنُهُمْ مالِكَا |
قوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ هذه الجملةُ وما بعدَََهَا عطفٌ على الجملةِ قبلَها، عطفَ أمراً على نَهْي. وأصلُ أَقيموا: «أَقْوِمُوا» فَفُعِل به ما فُعِلَ
وألفُ» الزكاة «من واو لقولهم: زَكَوات، وزَكا يَزْكُو، وهي النُمُوُّ، وقيل: الطهارةُ، وقيل: أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه» زَكَّى القاضي الشهودَ «، والزَّكا: [الزوجُ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه. والخَسا: الفَرْدُ: قال:
٤٢٠ - كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ | لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ تَعْتِلجُ |
٤٢١ - أُخَبِّرُ أَخْبارَ القرونِ التي مَضَتْ | أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ راكِعُ |
٤٢٢ -...
كَعَ يوماً والدهرُ قَدْ رَفَعَهْ...
وألفُ " الزكاة " من واو لقولهم : زَكَوات، وزَكا يَزْكُو، وهي النُمُوُّ، وقيل : الطهارةُ، وقيل : أصلُها الثناءُ الجميلُ ومنه " زَكَّى القاضي الشهودَ "، والزَّكا :[ الزوجُ ] صارَ زَوْجاً بزيادةِ فردٍ آخرَ عليه. والخَسا : الفَرْدُ : قال :
كانوا خَسَاً أوزَكاً من دون أربعةٍ *** لَمْ يَخْلُقوا وجُدودُ الناسِ تَعْتِلجُ
قوله :﴿ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ منصوبٌ باركَعوا. والركوعُ : الطمأنينةُ والانحناءُ، ومنه قوله :
أُخَبِّرُ أَخْبارَ القرونِ التي مَضَتْ *** أَدِبُّ كأِّني كُلَّما قُمْتُ راكِعُ
وقيل : الخضوعُ والذِّلَّة، ومنه قولُ الشاعر :
٤٢٢ *** لا تُهينَ الفقيرَ علَّكَ أَنْ تَرْ
كَعَ يوماً والدهرُ قَدْ رَفَعَهْ
٤٢٣ - أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به | فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ |
٤٢٤ - لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا | يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا |
٤٢٥ - أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه | وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ |
قوله: «وَتَنْسَوْن» داخلٌ في حَيِّز الإِنكار، وأصلُ تَنْسَوْن: تَنْسَيُون، فأُعِلَّ
٤٢٦ - ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ | وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ |
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ [يونس: ٥١]، والنيَّةُ بها التأخيرُ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول: ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ. وزعم
والعَقْلُ: الإِدراكُ المانعُ من الخطأ، وأصلُه المَنْعُ: ومنه: العِقال، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى، قال علقمة:
٤٢٧ - عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ | كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ |
قوله: ﴿واستعينوا بالصبر﴾ هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل. وأصلُ «استعينوا» اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل
٤٢٨ - فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً | فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ |
٤٢٩ - إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ | وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً |
٤٣٠ - رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه | ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ |
فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً | فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ |
إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ | وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً |
رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه | ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ |
٤٣١ - فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ | سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ |
٤٣٢ - رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ | وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ |
والقولُ الثاني: أنَّ الظنَّ على بابِه وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما ذَكَره المهدوي والماوَرْدي وغيرُهما: أن يُضْمَر في الكلام «بذنوبهم» فكأنهم يتوقَّعون لقاءَه مُذْنِبين. قال ابن عطية: «وهذا تعسُّفٌ» والثاني من التأويلين:
و ﴿مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ من باب إضافةِ اسم الفاعل لمعموله إضافةً تخفيفٍ لأنه مستقبلٌ، وحُذِفَتِ النونُ للإِضافة، والأصلُ: مُلاقونَ ربِّهم. والمفاعلةُ هنا بمعنى الثلاثي نحو: عافاك الله، قاله المهدوي: قال ابن عطية: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ «لَقِيَ» يتضمَّن معنى «لاقى». كأنه يَعْني أن المادةَ لذاتها تقتضي المشاركةَ بخلافِ غيرِها من: عاقَبْت وطارقت وعافاك. وقد تقدَّم أن في الكلام حَذْفاً تقديرُه: ملاقو ثوابِ ربِّهم وعقابِه. قال ابن عطية: «ويَصِحُّ أن تكونَ الملاقاةُ هنا الرؤيةَ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ وورد بها
٤٣٣ - لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ | عني ولا أَنْتَ دَيَّاني فَتَخْزَوني |
٤٣٤ - وَجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً | كفَضْلِ ابنِ المَخَاضِ على الفَصيلِ |
قوله: ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ﴾ التنكيرُ في «نفسٌ» و «شيئاً» معناه أنَّ نفساً من الأنفس لا تَجْزي عن نفس مثلِها شيئاً من الأشياء، وكذلك في «شفاعةٌ» و «عدلٌ»، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «يوماً» والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: لا تَجْزي فيه، ثم حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لأنَّ الظروفَ يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها، وهذا مذهبُ سيبويه. وقيل: بل حُذِفَ بعد حرفِ الجرِّ ووصولِ الفعل إليه فصار: «لا تَجْزيه» كقوله:
٤٣٥ - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً | قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ |
٤٣٦ - وما أَدْري:
أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءِ | وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا |
٤٣٧ - مَضَتْ مِئَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه | وعَشْرٌ بعدَ ذاكَ وحِجَّتانِ |
٤٣٨ - يَجْزِيه ربُّ العرشِ عَنِّي إذْ جَزَى | جناتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلَى |
٤٣٩ - وأجْزَأْتَ أمرَ العالمينَ ولم يكُنْ | لِيُجْزَأَ إلا كاملٌ وابنُ كاملِ |
٤٤٠ - فإنَّ الغَدْرَ في الأقوام عارٌ | وإنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بالكُراعِ |
قوله: «شيئاً» نصبٌ على المصدرِ، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاءَ شيءٌ، فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ «تَجْزِي» بمعنى «تَقْضي»، أي: لا تَقْضي [نفسٌ] من غيرِها شيئاً من الحقوقِ، والأولُ أظهَرُ.
والشفاعةُ مشتقةٌ من الشَّفْع، وهو الزوجُ، ومنه: الشُّفْعَةُ، لأنها ضَمُّ مِلْكٍ إلى غيره، والشافعُ والمشفوعُ له، لأنَّ كلاًّ منهما يُزَوِّجُ نفسَه بالآخر، وناقةٌ شَفُوع: تَجْمَع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبةٍ واحدةٍ، وناقةٌ شافِع إذا اجتمع لها حَمْلٌ وولدٌ يَتْبَعُها، والعَدْل بالفتح الفِداء، وبالكسر المِثْل، يقال: عَدْل
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبر، معطوفةٌ على ما قبلَها وإنما أُتي هنا بالجملةِ مصدرةً بالمبتدأ مُخْبَراً عنه بالمضارعِ تنبيهاً على المبالغةِ والتأكيدِ في عَدَمِ النُّصْرة. والضميرُ في قوله «ولا هُمْ» يعود على النفس؛ لأنَّ المرادَ بها جنسُ الأنفس، وإنما عادَ الضميرُ مذكَّراً وإن كانَتِ النفسُ مؤنثةً لأنَّ المراد بها العِبادُ والأناسيُّ. قال الزمخشري: «كما تقول ثلاثةُ أنفسٍ» يعني: إذا قُصِد بها الذكورُ، كقوله:
والنَّصْرُ: العَوْنُ، والأنصار: الأعوان، ومنه: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ [آل عمران: ٥٢] والنصر أيضاً: الانتقامُ، انتصر زيد أي: انتقم. والنَّصْرُ أيضاً: الإِتيان نَصَرْتُ أرضَ بني فلان أتيتُها، قال الشاعر:
٤٤١ - ثلاثةُ أَنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ | ............................. |
٤٤٢ - إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي | بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامرِ |
٤٤٣ - إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً | لَقائِلٌ يا نصرُ نَصْرٌ نَصْرا |
و «من آلِ» متعلِّقٌ به، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. و «آل» اختُلِف فيه على ثلاثةِ أقوال، قال سيبويه وأتباعُه: إنَّ أصلَه أَهْلٌ، فأُبْدِلَتِ الهاءُ همزةً لقُربها منها، كما قالوا: ماء وأصلُه: ماه، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ألفاً، لسكونِها بعد همزةٍ مفتوحةٍ نحو: آمَنَ وآدَم، ولذلك إذا صُغِّر رَجَعَ إلى أصله فتقول: أُهَيْل. قال أبو البقاء: «وقال بعضُهم: أُوَيْل، فأُبدلت الألفُ واواً، ولَم يَرُدَّه إلى أصله، كما لَم يَرُدُّّوا» عُيَيَدْ «إلى أصله في التصغير». يعني فلم يقولوا «عُوَيد» لأنه من عاد يعود، قالوا: لئلا يلتبسَ بعُود الخَشَب. وفي هذا نظر، لأنَّ النحْويين قالوا: مَنِ اعتقد كونَه من «أهل» صَغَّره على أُهَيْل، ومَنِ اعتقد كونَه من آل يَؤُولُ أي رَجَع صغَّره على أُوَيْل. وذهب النحاس إلى أنَّ أصلَه «أَهْلَ» أيضاً، إلا أنه قَلَب الهاءَ ألفاً من غير أَنْ يَقْلِبَها أولاً همزة، وتصغيرُه
٤٤٤ - فلاَ تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ | عليٌّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ |
«آلي كلُّ تقيّ
٤٤٥ - لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ | نَعُ رَحْله فامنَعْ حَلالَكْ |
وانصُرْ على آل الصَّلي | ب وعابِديه اليومَ آلَكْ |
٤٤٦ - أنا الفارسُ الحامي حقيقةَ والدي | وآلي كما تَحْمي حقيقةَ آلِكا |
هذا كلُّه في «آل» مراداً به الأهلُ، أمَّا «آل» الذي هو السَّراب فليس مِمَّا نَحْنُ فيه في شيء، وجَمْعُه أَأْوال، وتصغيرُه أُوَيْل ليس إلاَّ، نحوُ: مال وأَمْوال ومُوَيْل.
قوله: «فِرْعَون» خفضٌ بالإِضافةِ، ولكنه لا يَنْصَرِفُ للعُجْمة والتعريف. واختُلِفَ فيه: هل هو علمُ شخصٍ أو علمُ جنسٍ، فإنه يُقال لكلِّ مَنْ مَلَك القِبْطَ ومصرَ: فرعون، مثلَ كِسْرى لَكَلِّ مَنْ مَلَك الفرس، وقيصرُ
٤٤٧ - قد جاءَهْ الموسى الكَلُومُ فَزَاد في | أَقْصَى تَفَرْعُنِه وفَرْطِ عُرَامِه |
قولُه:» يَسُومونكم «سوءَ العذابِ» هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحالِ مِنْ «آل» حالَ كونِهم سائِمين. ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً لمجردِ الإِخْبارِ بذلك، وتكون حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، قال بمعناه ابن عطية، وليس بظاهر. وقيل: هي خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: هم يَسُومونكم، ولا حاجةَ إليه
٤٤٨ - إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفاً | أَبَيْنا أَنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فِينا |
والمعنى: يُديمونَ تعذيبكم، وسوءُ العذابِ أشدُّهُ وأفظعهُ وإنْ كان كَلُّه سيئاً، كأنه أقبحُهُ بالإِضافة إلى سائرِه. والسوءُ: كلُّ ما يَعُمُّ الإِنسانَ من أمرٍ دنيوي وأُخْرَوي، وهو في الأصل مصدرٌ، ويؤنَّثُ بالألفِ، قال تعالى: ﴿أَسَاءُواْ السواءى﴾ [الروم: ١٠]. وأجاز بعضُهم أن يكونَ «سوء» نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: يَسُومونكم سَوْماً سيئاً كذا قدَّره، وقال أيضاً: «ويجوزُ أن يكونَ بمعنى سَوْم العذاب»، كأنه يريد بذلك أنه منصوبٌ على نَوْعِ المصدرِ، نحو: «قَعَدَ جلوساً»، لأن سُوء العذابِ نوعٌ من السَّوْمِ.
قولُه تعالى: «يُذَبِّحُون» هذه الجملةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ مفسِّرةً للجملة قبلَها، وتفسيرُها لها على وجهين: أحدُهما أن تكونَ مستأنفةً، فلا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعرابِ، كأنه قيل: كيف كان سَوْمُهم العذابَ؟ فقيل: يُذَبِّحُون. والثاني: أنْ تكونَ بدلاً منها كقولِه:
٤٤٩ - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في ديارنا | ..................... |
فإنْ قيل: لِمَ لَم يُؤْتَ هنا بواو العَطْفِ، كما أُتِي بها في سورة إبراهيم؟ فالجوابُ أنه أُرِيدَ هنا التفسيرُ كما تقدَّم، وفي سورة إبراهيم معناه: يُعَذِّبونكم بالذَّبْح وبغيرِ الذبحِ. وقيل: يجوز أن تكونَ الواوُ زائدةً فتكونَ كآيةِ البقرة، واستدلَّ هذا القائلُ على زيادةِ الواوِ بقوله:
٤٥٠ - فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحةَ الحِّي وانْتَحَى | ........................... |
والذَّبْحُ: أصلُه الشَّقُّ، ومنه: «المَذابحُ» لأخاديدِ السيول في الأرض. و «أبناء» جمع ابن، رَجَع به إلى أصله، فَرُدَّت لامُه، إمَّا الواوُ أو الياءُ حَسْبما تقدَّم. والأصلُ: «أَبْناو» أو «أبناي»، فَأُبْدِل حرفُ العلةِ همزةً لتطرُّفِه بعد ألفٍ زائدةٍ، والمرادُ بهم الأطفالُ، وقيل: الرجالُ، وعَبَّر عنهم بالأبناءِ اعتباراً بما كانوا.
قوله: ﴿وَيَسْتَحْيُونَ﴾ عطفٌ على ما قبله، وأصلُه: يَسْتَحْيِيُون، فَأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ بعد حَذْفِ حركتها وقد تقدَّم بيانُه، فوزتُه يَسْتَفْعُون. والمراد بالنساءِ الأطفالُ، وإنما عَبَّر عنه بالنساءِ لمآلِهِنَّ إلى ذلك. وقيل: المرادُ غيرُ الأطفالِ، كما قيل في الأبناء. ولامُ النساءِ الظاهرُ أنَّها من واوٍ لظهورها في مرادِفِه وهو نِسْوَان ونِسْوَة، ويُحْتمل أن تكونَ ياءً اشتقاقاً من النِّسْيان، وهل نساء جمعُ نِسوةٍ أو جمعُ امرأةٍ مِنْ حيث المعنى؟ قولان.
قوله: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، و «بلاءٌ» مبتدأ. ولامُه واوٌ لظهورِها في الفعلِ نحو: بَلَوْتُه، أَبْلُوه، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٥]، فأُبْدِلَتْ همزةً. والبلاءُ يكون في الخيرِ والشرِّ، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] لأنَّ الابتلاءَ امتحانٌ فيمتحِنُ اللهُ عباده بالخيرِ ليشكُروا، وبالشرِّ ليصبِروا، وقال ابن كَيْسان: «أبلاهُ وبَلاه في الخير» وأنشد:
إلى المَلِكِ القَرْم وابنِ الهُمَامِ | ........................... |
٤٥٢ - جَزَى اللهُ بالخَيراتِ ما فَعَلا بكم | وأَبْلاهُمَا خيرَ البلاءِ الذي يَبْلُو |
٤٥٣ - إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى | وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ |
٤٥٤ -.......................... | تَدُوس بنا الجماجِمَ والتَّريبا |
والفَرْقُ والفَلْقُ واحدٌ، وهو الفصلُ والتمييز، ومنه ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٠٦] [أي: فَصَلْناه] وميَّزناه بالبيانِ، والقرآنُ فرقانٌ لتمييزه بين الحقِّ والباطل وفَرْقُ الرأسِ لوضوحِه، والبحرُ أصله: الشِّقُّ الواسعُ، ومنه: البَحِيرة لشَقِّ أذُنها. والخلافُ المتقدِّمُ في النهر في كونِه حقيقةً في الماء أو في الأخدُودِ جارٍ هنا فَلْيُلْتَفَتْ إليه. وهل يُطْلَقُ على العَذْبِ بَحْرٌ، أو هو مختصٌّ بالماءِ المِلْحِ؟ خلافٌ يأتي تحقيقُه في موضِعِه. ويقال: أَبْحَرَ الماءُ أي: صار مِلْحاً قال نُصَيْب:
٤٥٥ - وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزادني | إلى مَرَضي أَنْ أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ |
٤٥٧ -........................... | ألا لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ |
٤٥٨ - إذا غَرَّقْتَ أرباضُها ثِنْيَ بَكْرَةٍ | بتَيْهاءَ لم تُصْبِحْ رَؤوماً سَلُوبُها |
و «وعدَ» يتعدَّى لاثنين، فموسى مفعولٌ أولُ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف، أي: تمامَ أربعين، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مجرى جَمْعِ المذكر السالم، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه:
وموسى اسمٌ أعجمي [غيرُ منصرفٍ]، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ، والأصل: مُوشى بالشين لأنَّ «ماء» بلغتهم يقال له: «مُو» والشجر يقال له «شاء» فعرَّبته العربُ فقالوا موسى، قالوا: وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ.
واختلافُهم في موسى: هل هو مُفْعَل مشتقٌّ من أَوْسَيْتُ رأسَه إذا حلقتُه فهو مُوسى، كأعطيتُه فهو مُعْطَىً، أو هو فُعْلَى مشتقٌّ من ماسَ يميس أي: يتبخترُ في مِشْيَته ويتحرَّكُ، فقُلِبَتِ الياءُ واواً لانضمامِ ما قبلَها كمُوْقِن من اليقين، [وهذا] إنما هو [في] مُوسى الحديدِ التي هي آلةُ الحَلْق، لأنها تتحرَّك وتضطربُ عند الحَلْقِ بها، وليس لموسى اسمِ النبي عليه السلام اشتقاقٌ لأنه أعجميٌّ.
قوله: ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل﴾ اتَّخذ يتعدَّى لإِثنينِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي: ثم اتخذتم العجلَ إلهاً. وقد يتعدَّى لمفعولٍ واحد إذا كان معناه عَمِل وجَعَل نحو: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ [البقرة: ١١٦]، وقال بعضُهم: تَخِذَ واتَّخَذَ يتعدَّيانِ لاثنين ما لَمْ يُفْهِمَا كَسْباً، فيتعدَّيان لواحدٍ. واختُلِفَ في اتَّخَذَ فقيل: هو افْتَعَلَ من الأخْذ والأصلُ: اأتخذ الأوُلى همزةُ وصلٍ والثانيةُ فاءُ الكلمةِ فاجتمعَ همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ بعد أخرى، فَوَجَبَ قلبُها ياءً كإيمان،
٤٥٩ - وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني | وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ |
٤٦٠ - وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا | نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ |
والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما، وابن كثير وعاصم في رواية حَفْصٍ بالإِظهار، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو: اتَّخَذْتُ، والجمع نحو: اتَّخَذْتُم، وأتى في هذه الجملة ب «ثُمَّ» دلالةً على أنَّ الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ.
قوله: «مِنْ بعدِه» متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ يعودُ على موسى، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: مِنْ بعدِ انطلاقِه أو مُضِيِّهِ، وقال ابنُ عطية: «يعودُ على موسى [وقيل: على انطلاقِه للتكليمِ، وقيل: على الوَعْد، وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ، فإنَّ قولَه:» وقيل يعودُ على انطلاقِه «يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ مُتَصَوَّرٍ.
٤٦١ - فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها | لِما نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وشَمَأْلِ |
٤٦٢ - …….............................. | إذا ردَّ عافي القِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُهَا |
وقوله: ﴿تَشْكُرُونَ﴾ في محلِّ رفعٍ خبرُ» لعلَّ «، وقد تقدَّم تفسيرُ الشكر عند ذكر الحَمْدِ. وقال الراغب:» وهو تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وأظهارُها، وقيل: هو مَقْلُوبٌ عن الكَشْرِ أي الكَشْف وهو ضدُّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النِّعْمَةِ. وقيل: أصلُه من عَيْن شَكْرى أي ممتلئةٌ، فهو على هذا الامتلاءُ مِنْ ذِكر المُنْعَمِ عليه «. وشَكَر من الأفعالِ المتعدِّيَة بِنفسِها تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى وليسَ أحدُهما أصلاً للآخَر على الصحيحِ، فَمِنَ المتعدِّي بنفسِه قولُ عمرو ابن لُحَيّ:
٤٦٣ - همُ جَمَعُوا بؤسى ونعمى عليكُمُ | فَهَلاَّ شكرْتَ القومَ إذ لم تُقاتِلِ |
٤٦٤ - إلى المَلِك القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ | ................................. |
٤٦٥ - فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لراهِشَيْهِ | وأَلْفَى قولَها كَذِباً وَمَيْنَا |
٤٦٦ -............................... | وهندٌ أتى مِنْ دَوْنِها النَّأْيُ والبُعْدُ |
٤٦٧ -.................................. | أَقْوَى وأَفْقَرَ بعدَ أُمِّ الهَيْثَمِ |
والفُرْقُانُ في الأصلِ مصدرٌ مثلُ الغُفْران. وقد تقدَّمَ معناهُ في ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ [البقرة: ٥٠]. وقيل: الفرقانُ هنا اسمُ للقرآنِ، قالوا: والتقديرُ: ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتابَ ومحمداً الفرقانَ. قال النحاس: «هذا خطأٌ في الإِعرابِ والمعنى، أمَّا الإِعرابُ فلأنَّ المعطوفَ على الشيءِ مثلُه، وهذا يخالِفُه، وأمَّا المعنى فلقولِه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان﴾ [الأنبياء: ٤٨].
٤٦٨ - ولَسْتُ بِراجعٍ ما فاتَ مِنِّي | بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَنِّي |
والقومُ: اسمُ جمعٍ، لأنَّه دالٌّ على أكثرَ مِن اثنين، وليس له واحدٌ من لفظِهِ ولا هو على صيغةٍ مختصَّةٍ بالتكسيرِ، ومفردُه رَجُل، واشتقاقُه من قام بالأمرِ يَقُوم به، قال تعالى: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ [النساء: ٣٤]، والأصلُ في إطلاقِه على الرجال، ولذلك قُوبل بالنساءِ في قولهِ: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ... وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ﴾ [الحجرات: ١١] وفي قولِ زهير:
٤٦٩ - وما أَدْرِي وسوفُ إخالُ أَدْرِي | أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ |
قوله: ﴿باتخاذكم العجل﴾ الباءُ للسببيةِ، متعلِّقَةٌ ب «ظَلَلْتُم» وقد تقدَّم الخلافُ في هذه المادةِ: هل أصلُها أَخَذَ أو تَخِذَ. و «العجل» مفعولٌ أولُ والثاني محذوفٌ أي: إلهاً كما تقدَّم. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعِلِ وهو أحسنُ الوجهينِ، فإنَّ المصدَرَ إذا اجتمع فاعلُه ومفعولُه فالأَوْلَى إضافتُه إلى الفاعل لأنَّ رُتْبَته التقديمُ، وهذا من الصورِ التي يَجِبُ فيها تقديمُ الفاعل. فأمَّا: ﴿قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧] فسيأتي [القول فيها مُشْبعاً] إن شاء الله تعالى.
والعِجْلُ معروفٌ وهو وَلَدُ البقرة. قال الراغب: «العِجْلُ وَلَدُ البقرةِ لِتَصوُّرِ عَجَلَتِها التي تَعْدَمُ منه إذا صارَ ثَوْراً». وقيل: إنما سُمِيَّ عِجْلاً لأنهم تَعَجَّلُوا عبادتَه قبل مجيء موسى، ويُرْوى عن عليّ، وهذا لا يَصِحُّ عنه فإنَّ هذا الاسمَ معروفٌ قبلَ ذلك، والجمع عَجاجِيل وعُجُول.
قوله: «إلى بارِئِكم» متعلِّقٌ ب «تُوبوا» والمشهورُ كَسْرُ الهمزة، لأنها حركةُ إعرابٍ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ: الاختلاسُ، وهو
٤٧٠ - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ | إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ |
٤٧١ -................................ | ونهرُ تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ |
٤٧٣ - قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا... وقول الآخر:
٤٧٤ - إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ... وقول الآخر:
٤٧٢ - رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما | وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ |
٤٧٥ - إنما شِعْريَ شَهْدٌ | قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ |
٤٧٦ - وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ | لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ |
٤٧٧ - كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً | ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ |
والبارئ هو الخالقُ، بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ أي خَلَقَهم، وقد فَرَّق بعضُهم بين الخالق والبارئ بأنَّ البارئَ هو المُبْدِعُ المُحْدِثُ، والخالِقُ هو المُقَدِّرُ الناقلُ من حالٍ إلى حال. وأصَلُ هذه المادةِ يَدُلُ على الانفصالِ والتميُّزِ، ومنه: بَرَأَ المريضُ بُرْءاً وبَرْءاً وبَرِئْتُ وَبَرَأْتُ أيضاً من الدَّيْن بَراءةً، والبَرِيَّةُ الخَلْق، لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجودِ، إلا أنَّه لا يُهْمَزُ، وقيل: أصلُه من البَرَى وهو التراب، وسيأتي تحقيقُ القَوْلَيْنِ في موضعِه إن شاء الله تعالى.
قوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ قال بعضُهم: «ذلكم» مفردٌ واقعٌ موقعَ «ذانكم»
٤٧٨ - بلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ... ومثلُه شَرّ، لا يجوز أَشَرّ، إلا في ندور، وقد قُرىء: ﴿مَن الكّذَّابُ الأَشَرُّ﴾ [القمر: ٢٦] وإذا بُني من هذه المادةِ فعلُ تعجُّبٍ على أَفْعَل فلا تُحْذَفُ همزتُه إلا في ندورٍ كقولِهم: «ما خَيْرَ اللبنِ للصحيحِ، وما شَرَّه للمبطونِ» فخيرٌ وشَرٌّ قد خَرَجَا عن نظائرهما في بابِ التفضيل والتعجُّب، و «خَيْر» أيضاً مخفَّفَةٌ من خَيَّر على فَيْعِل ولا يكونُ من هذا البابِ، ومنه: «فيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» قال بعضهم: «مُخَفَّف من خَيِّرات». والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ به، أي: خيرٌ لكم من عدم التوبة. ولأَفْعَلِ التفضيلِ أحكامٌ كثيرةٌ وشروطٌ منتشرةٌ لاَ يَحْتملها [هذا] الكتابُ، وإنما نأتي منها بما نضطرُّ إليه.
قولُه تعالى: «جَهْرَةً» فيه قولان: أحدُهما: أنها مصدرٌ وفيها حينئذٍ قولان، أحدُهما أنَّ ناصبَها محذوفٌ، وهو من لفظِها، تقديرُه: جَهَرْتُمْ جَهْرةً نقله أبو البقاء، والثاني: أنها مصدرٌ من نوعِ الفعلِ فَتَنْتَصِبُ انتصابَ
وقرأ ابنُ عباس «جَهَرَةً» بفتح الهاء وفيها قولان، أحدُهما: أنها لغةٌ في جَهْرة، قال ابن عطية: «وهي لغةٌ مسموعةٌ عند البصريين فيما فيه حَرْفُ الحلقِ ساكنٌ قد انفتح ما قبله، والكوفيون يُجيزون فيه الفتحَ وإنْ لَمْ يَسْمعوه»، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ في ذلِك. والثاني: أنها جمعُ «جاهر»، نحو: خادِم وخَدَم والمعنى: حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر، وهي تُؤَيِّدُ كونَ «جهرةً» حالاً من فاعل «نَرى».
والغَمامُ: السَّحابُ لأنه يَغُمُّ وجهَ السماء، أي يستُرُها، وكلُّ مستورٍ مغموم أي مُغَطَّى، وقيل: الغمامُ: السحابُ الأبيضُ خاصةً، ومثلُه الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنونِ، وفي الحديثِ «إنه لَيُغَانُ على قَلْبِي»، وواحدتُه غَمامةٌ فهو اسمُ جنسٍ.
والمَنُّ قيل: هو التَّرَّنْجِبين والطَّرَّنْجِيِِن بالتاء والطاء، وقيل: هو مصدرٌ يعني به جميعَ ما منَّ الله تعالى به على بني إسرائيل من النِّعَمِ، وكذلك قِيل في السَّلْوى، إنها مصدرٌ أيضاً، أي: إنَّ لهم بذلك التَّسَلِّيَ، نقلَه الراغبُ، والمَنُّ أيضاً مِقْدارٌ يُوزَنُ به، وهذا يجوزُ إبدالُ نونِه الأخيرةِ حرفَ
٤٧ - ٩- وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ سَلْوَةٌ | كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ |
٤٨٠ - وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ | أَلَذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها |
قوله: «كُلُوا» هذا على إضمار القَوْلِ، أي: وقُلْنَا لهم: كُلوا: وإضمارُ القولِ كثيرٌ في لسانِهم، ومنه: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣-٢٤] أي: يقولونَ سلامٌ، «والذينَ اتَّخَذوا من دونِهِ أولياءَ ما نعبدُهم
قوله: ﴿مِن طَيِّبَاتِ﴾ » مِنْ «لابتداءِ الغايةِ أو للتبعيضِ، وقال أبو البقاء:» أو لبيانِ الجنسِ والمفعولُ محذوفٌ أي: كُلوا شيئاً من طيبات «وهذا غيرُ مُرْضٍ، لأنه كيف يُبَيَّنُ شيءٌ ثم يُحْذَفُ؟
قوله: ﴿مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ يجوزُ في» ما «أن تكونَ بمعنى الذي، وما بعدها صلةٌ لها والعائدُ محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً. فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّها الجرُّ على الثاني، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم، وأن تكونَ مصدريةً والجملةُ صلتُها، ولم يُحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عُرِفَ قبلَ ذلك، ويكونُ هذا المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ، أي: مِنْ طيباتِ مَرْزُوقِنا.
قوله تعالى: ﴿أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ » أنفسَهم «مفعولٌ مقدَّمٌ، و» يَظْلِمُون «في محلِّ النصْبِ لكونِه خبرَ» كانوا «، وقُدِّم المفعولُ إيذاناً باختصاصِ الظلم بهم وأنَّه لا يتعدَّاهم. والاستدراكُ في» لكنْ «واضحٌ. ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قبل قوله ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾، فقدَّره ابنُ عطية: فَعَصَوْا ولم يقابلوا النِّعَمَ بالشكر. وقال الزمخشري:» تقديرُه: فَطَلمُونا بأَنْ كفروا هذه النِّعَمَ وما ظلمونا، فاختصرَ الكلامَ بحذْفِه لدلالةِ ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ عليه.
٤٨١ - جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه | رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ |
٤٨٢ - عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ | .................................. |
قولُه تعالى: ﴿الباب سُجَّداً﴾ » سُجَّدا «حالٌ من فاعلِ» ادْخُلوا «، وهو جمع ساجدِ. قال أبو البقاء:» وهو أَبْلَغُ من السجود «يعني أنَّ جَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول، وفيه نَظَرٌ. وأصلُ» باب «: بَوَب لقولهم أَبْواب، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِية لازدواجِ الكلامِ، قال الشاعر:
٤٨٣ - هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ | يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ والِّلْينا |
وقال النحاس: «الرفعُ أَوْلى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل، قال أحمد بن يحيى:» يقال: بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينَه وشخصَه كقوله:
٤٨٥ - عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ... وقال تعالى: ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ﴾ [يونس: ١٥]، ولحديث ابن مسعود «
وقرأ ابنُ أبي عبلة «حِطَّةً» بالنصب، وفيها وجهان: أحدُهما: أنها مصدرٌ نائبٌ عن الفعلِ، نحو: ضَرْباً زيداً، والثاني: أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي: قولوا هذا اللفظَ بعينِه، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ بالفعلِ المقدِّرِ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ، ورجَّحَ الزمخشري هذا الوجهَ.
والحِطَّةُ: اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة، وقيل: هي لفظةٌ أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها، وقيل: هي التوبةُ، وأنشد:
٤٨٤ - شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى | صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى |
٤٨٦ - فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ الل | هُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا |
قوله: «خَطَايَاكُمْ» : إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه، أو مرفوعٌ حَسْبما تقدَّم من القراءاتِ، وفيها أربعةُ أقوال، أحدُها: وهو قولُ الخليل رحمه الله أن أصلَها: خطايِئٌ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ، لأنها جمعُ خطيئة مثل: صحيفة وصحايف، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل يُفْعَلُ بها كذا، على ما تقرَّر في علمِ التصريف، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع همزتان [بأنْ] قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأَخَّر عنها المَدَّة فصارت: خَطائِي،
الثاني وعزاه أبو البقاء إليه أيضاً إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل الجمعُ بين الهمزتين، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه: فعالِئ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً، فتنقلبَ ياءً فتصيرَ فَعالِئ، ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما قالوا: يا لَهَفى ويا أسفى، فصارت الهمزةُ بين ألفين، فأُبْدل منها ياءٌ لأن الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ. فعلى هذا فيها خمسةُ تغييراتٍ: تقديمُ اللامِ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً، ثم إبدالُها ألفاً، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً. والقولُ الأولُ أَوْلَى لقلةِ العملِ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان.
الرابع: قولُ الفرَّاء، وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما هو جمعٌ لخَطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا، ورَكِيَّة ورَكايا، قال الفراء: «ولو جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءَا»، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل بَقَّوها على حالِها، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ، ولكنه لم يَقُله العربُ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز. وقال الكسائي: ولو جُمِعَت مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل: دَوابّ. وقُرئ «يَغْفِرْ لكم خطيئَاتكم» و «خطيئَتكم» بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و «خَطَأْيَاكم» بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ، وبالعكسِ. والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم.
والغَفْرُ: السِّتْرُ، ومنه: المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس، وغُفْرانُ الذنوب لأنها تُغَطِّيها. وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو. والغِفار خِرْقَةٌ تَسْتُر الخِمار [أن]
٤٨٧ - وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ | هَيْفاً دَبُوراً بالصَّيا والشَّمْأَلِ |
والإِبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ، وقد يُقال التبديل: التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة العين، إلا أنه قُرئ: ﴿عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا﴾ [القلم: ٣٢] ﴿فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ [الكهف: ٨١] بالوجهين، وهذا يَقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما]، والبديلُ، والبدل بمعنى واحدٍ، وبَدَّله غيرُه. ويُقال: بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل ونَكَل، قال أبو عبيدة: «لم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ».
قوله: ﴿مِّنَ السمآء﴾ [يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ متعلِّقاً بأَنْزلنا، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، أيْ: من جهةِ السماء، وهذا الوجهُ] هو
٤٨٨ - تَعَرَّقَنِي الدَّهرُ نَهْساً وحَزَّاً | وأَوْجَعَني الدَّهْرُ قَرْعاً وغَمْزَا |
٤٨٩ - ليتَ الغُرابَ غداةَ يَنْعَبُ دائِباً | كان الغرابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ |
٤٩٠ - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ | نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا |
والرِّجْزُ: العَذَابُ، وفيه لغةٌ أخرى وهي ضَمُّ الراءِ، وقُرِئ بهما وقيل: المضمومُ اسمُ صَنَمٍ، ومنه: ﴿والرجز فاهجر﴾ [المدثر: ٥] وذلك لأنَه سببُ العذابِ. وقال الفراء: «الرِّجْزُ والرِّجْسُ بالزاي والسين بمعنَىً كالسُّدْغِ والزُّدْغِ، والصحيحُ أن الرِّجْزَ: القَذَرُ وسيأتي بيانُه، والرَّجَزُ داءٌ يُصيبُ الإِبلِ فترتعشُ منه، ومنه بَحْر الرَّجَز في الشعر.
قوله:» بما كانوا يفسُقُون متعلِّق ب ﴿أَنزَلْنَا﴾ والباءُ للسببية و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وهو الظاهرُ أي: بسببِ فِسْقِهم، وأن تكونَ موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوفٌ على التدريجِ المذكور في غير موضعٍ، والأصلُ يَفْسُقُونَه، ولا يَقْوى جَعْلُها نكرةً موصوفَةً، وقال في سورة الإِعراف: ﴿يَظْلِمُونَ﴾ [الآية: ١٦٢] تنبيهاً [على] أنهم جامِعُون بين هذين الوصفينِ القبيحين. وقد
٤٩١ - سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى | نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ |
و «لقومِه» متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة، أي: لأجلِ، أو تكونُ للبيان لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم «سُقْياً لك» فتتعلَّقُ بمحذوفٍ كنظيرتِها «.
قوله: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ﴾ الإِدغام [هنا] واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مِثْلان
٤٩٢ -............................ | على عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ |
٤٩٣ - فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى | كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ |
٤٩٤ - إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا | فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ |
والانفجارُ: الانشقاقُ والتفتُّح، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ، وفي الأعرافِ، ﴿فانبجست﴾ [الآية: ١٦٠]، فقيل: هما بمعنى، وقيل: الانبِجاس أضيقُ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً.
قوله: ﴿اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ فاعل» انفجرت «، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد له من لفظِه، وكذلك مذكَّرهُ» اثنان «ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى، تقول:
٤٩٥ - كأنَّ خِصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ | ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتا حَنْظَل |
وقُرئ: «عَشِرة» بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ، قال النحاس: «وهذا عجيبٌ فإنَّ لغةَ تميم عَشِرة بالكسر، وسبيلُهم التخفيفُ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون وسبيلُهم التثقيلُ». وقرأ الأعمش: عَشَرة بالفتح. والعينُ اسم مشتركٌ بين عَيْنِ الإِنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ
[قوله: ﴿كُلُّ أُنَاسٍ﴾ قد تقدَّم الكلام على أنه أصلُ الناس. وقال الزمخشري في سورة الأعراف: إنه اسمُ جَمْعٍ غيرُ تكسير، ثم قال: «ويجوز أن يكونَ الأصلُ الكسرَ، والتكسيرُ والضمةُ بدلٌ من الكسرةِ، كما أُبْدِلَتْ في سُكَارى من الفتحة وسيأتي تحريرُ البحث معه إن شاء الله تعالى في السورةِ المذكورة].
قوله: ﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ مفعولٌ ل» عَلِمَ «بمعنى عَرَف، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ عيناً لا يَشْرَكُهُ فيها [سِبْطُ] غيرُه. وقيل: هو نفسُ المشروب. فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به.
قوله: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ، تقديرُه: وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا، وقد تقدَّم تصريفُ» كل «وما حُذِف منه.
قولُه: ﴿مِن رِّزْقِ الله﴾ هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ، والتقديرُ: وكُلوا منه.
قوله: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أصلُ» تَعْثَوا «: تَعْثَيُوا، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ، أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى، فوزنُه تَفْعُون.
والعِثِيُّ والعَيْثُ: أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان. وقال بعضُهم: «إلاَّ أنَّ العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً، يقال: عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً، وليس عاثَ مقلوباً من عثى
و» مُفْسدين «حالٌ من فاعل» تَعْثَوْا «، وهي حالٌ مؤكِّدةٌ، لأنَّ معناها قد فُهِم من عامِلها، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين، ومثله: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥]، هكذا قالوا: ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ أخصُّ كما تقدَّم، ولهذا قال الزمخشري:» فقيل لهم: لا تَتَمادَوا في الفسادِ في حالِ فَسادِكم، لأنهم كانوا متمادِيْنَ فيه، فغايَر بينهما كما ترى.
و ﴿فِي الأرض﴾ يَحْتمل أن يتعلَّق ب «تَعْثَوْا» وهو الظاهرُ، وأن يَتَعلَّقَ بمفسدين.
والطعامُ: اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ، ومنه ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر، وفي حديث الصدقة: «أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير»، والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ، تقول: طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل، قال أبو خراش:
٤٩٦ - أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه | وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ |
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي | إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ |
٤٩٧ - نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو | دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما |
٤٩٨ - دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ...... | ................................. |
قوله «يُخْرِجْ» مجزومٌ في جوابِ الأمر، وقال بعضُهم: «مجزومٌ بلام الأمرِ مقدرةً، أي: لِيُخْرِجْ، وضَعَّفه الزجاج، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ الأمرِ إن شاء الله تعالى.
و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ، أي: من الذي تُنْبِتُه أو من شيءٍ تُنبته، ولا يجوزُ جَعْلُها مصدريةً لأن المفعولَ المحذوفَ لا يُوَصَفُ بالإِنباتِ، لأن الإِنباتِ مصدرٌ والمُخْرَجَ جَوْهَرٌ، وكذلك على مذهبِ الأخفش لأنَّ المُخْرَجَ جَوْهَرٌ لا إنبات.
قوله: ﴿مِن بَقْلِهَا﴾ يجوزُ فيه وجهان: أحدُهما: أن يكونَ بَدلاً من «ما» بإعادةِ العامل، و «مِنْ» معناها بيانُ الجنس، والثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على «ما» أي: مما تُنْبته الأرضُ في حالِ كَوْنه مِنْ بقلها و «مِنْ» أيضاً للبيان. والبقلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ من النَّجْم أي: مِمَّا لا ساقَ له، وجمعُه: بُقول. والقِثَّاء معروف، الواحدُ: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقمحة، وفيها لغتان: المشهورةُ كَسْرُ القافِ،
٤٩٩ - تفُورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمُها | ونَفْثَؤُها عَنَّا إذا حَمْيُها غَلا |
٥٠٠ - قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً | نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ |
قوله:» أَدْنى «فيه ثلاثةُ أقوال، أحدُها وهو الظاهرُ، وهو قول أبي إسحاق الزجاج أنَّ أصلَه: أَدْنَوُ من الدُّنُوِّ وهو القُرْب، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان: أحدُهما: أنه أقربُ لقلةِ قيمته وخَساسته. والثاني: أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو خيرٌ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ، والثاني قولُ علي بن سليمان الخفش: أنَّ أصلَه أَدْنَأُ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة، وهو الشيء الخسيس، إلا أنه خُفِّفَ همزهُ كقوله:
٥٠١ -.................................... | فارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ |
الثالث: أنَّ أصلَه أَدْوَنُ
قوله: «مِصْراً» قرأه الجمهورُ منوناً، وهو خَطُّ المصحف، فقيل: إنهم أُمِروا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف، وقيل: أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما صُرِف لخفَّته، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد، وأنشد:
٥٠٢ - لم تَتَلَفَّعْ فَضْلِ مِئْزَرِها | دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ |
٥٠٣ - وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ | بين النهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا |
٥٠٤ - سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً | ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ |
قولُه: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ » ضُرِبت «مبنيٌّ للمفعولِ،» الذِّلَّةُ «قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ، ومعنى» ضُرِبَتْ «أي: أُلْزِموها وقُضِيَ عليهم بها، من ضَرْب القِباب، قال الفرزدقُ لجرير:
وقال الراغب: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ فالميمُ في ذلك زائدةٌ في أصحِّ القولين «وإيرادُ هذا الخلافِ يُؤْذِنُ بأنَّ النونَ زائدةٌ، وأنه من مَسَك».
قوله: «وباؤُوا» ألفُ «باءَ بكذا» منقلبةٌ عن واو لقولهم: «باء يَبُوء» مثل: قال يقول: ، قال عليه الصلاة والسلام «أبُوْءُ بنعمتِك عليّ» والمصدرُ البَواء، وباءَ معناه رَجَعَ، وأنشد بعضهم:
٥٠٥ - ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها | وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ |
٥٠٦ - فآبُوا بالنَّهائِبِ والسَّبايا | وأُبْنا بالمُلوكِ مُصَفَّدينا |
٥٠٧ - ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي | محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَّمِ |
٥٠٨ - أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها | ................................... |
قوله: بغضب «في موضعِ الحالِ من فاعِل» باؤوا «: أي: رَجَعوا مغضوباً
قوله» مِن الله «الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بغضبٍ كائنٍ من اللهِ. و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وقيل: هو متعلِّقٌ بالفعلِ نفسِه أي: رَجَعوا من الله بغضب، وليس بقويٍّ.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ » ذلك «مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنة والخلافةِ بالغضب. و» بأنهم «الخبرُ. والباءُ للسببية، أي: ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرِهم. وقال المهدوي:» الباءُ بمعنى اللام أي: لأنهم «ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ باءَ السببيةِ تفيدُ التعليلَ بنفسِها. و» يكفرون «في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وكانَ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لأنَّ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء. والباءُ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم.
قوله «بآيات الله» متعلِّقٌ بيكفرون، والباءُ للتعدية.
قوله «ويقتُلون» في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان، وقرئ: «تَقْتُلون» بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأولِ بعد الغَيْبة، و «يُقَتِّلونَ» بالتشديدِ للتكثيرِ.
قوله: «الأنبياءَ» مفعولٌ به جمع نبيّ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في
٥٠٩ - يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ | بالخيرِ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا |
ونظيرُ ذلك نَهْيُه للمؤمنين عن قولهم: «راعِنا»، لَمَّا وَجَدَتِ اليهودُ بذلك طريقاً إلى السبِّ به في لغتهم، أو يكونُ حَضَّاً منه عليه السلام على تحرِّي أفصحِ اللغاتِ في القرآنِ وغيرِه.
وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه من المهموزِ ولكِنْ خُفِّفَ، وهذا أَوْلى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم: تَنَبَّأ مُسَيلَمَةُ، وقولِه: «يا خاتَم النُّبآء». والثاني: أنه أصلٌ آخرُ بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع، ولا شك أن رتبة النبيِّ مرتفعةٌ ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق، والأصلُ: نَبِيْوٌ وأَنْبِواء، فاجتمع الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِم، كميِّت في مَيْوِت، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلبت ياءً، فصار أنبِياء. والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ
٥١٠ - لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا | مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ |
٥١١ - لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى | مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ |
قوله: ﴿ذلك بِمَا عَصَواْ﴾ مثلُ ما تقدَّم. وفي تكريرِ اسم الإِشارة قولان، أحدهما: أنه مُشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول إليه على سبيل التأكيد. والثاني ما قالَه الزمخشري: وهو أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء، على معنى أنَّ ذلك بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما «. و» ما «مصدريةٌ والباءُ للسببيَّة، أي بسبب عِصْيانهم، فلا محلَّ ل» عَصَوا «لوقوعِه صلةً، وأصلُ عَصَوْا عَصَيُوا، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها، قُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان هي والواوُ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين، وبَقيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها فوزنه فَعَوْا.» وكانوا يعتدُون «في محلِّ نصبٍ خبراً ل» كان «، وكانَ وما بعدها عطفٌ على صلةِ» ما «المصدرية.
وأصلُ العِصيان: الشِّدَّةُ، اعتصَتِ النَّواةُ، اشتدَّت، والاعتداءُ على المجاوزُ من عدا يعدُو، فهو افتعالٌ منه، ولم يَذْكُرْ متعلَّقَ العِصيان والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويعتدى فيه.
وقوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ خبرُ «إنَّ الذين»، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ، وهذا عند غيرِ الأخفش، وأمَّا الأخفش فنُقِل عنه أنَّه إذا نُسِخ المبتدأ ب «إنَّ» يمتنعُ ذلكَ فيه، فمحلُّ قولِه ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ رفعٌ على هذا
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ «عند» ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً، والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي تضمَّنه «لهم»، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «أجرُهم» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم. والعِنْديَّة مجازُ لتعالِيه عن الجهةِ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً، ومنه قولُه عليه السلام: «إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى» والمشهورُ كسرُ عَيْنِها، وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ.
والذين هادُوا هم اليهودُ، وهادُوا في أَلِفه قولان: أحدُهما أنه من واو، والأصلُ: هاد يهودُ أي تاب، قال الشاعر:
٥١٢ - إنِّي امرؤٌ من حُبِّه هائِدُ... أي: تائبٌ، ومنه سُمِّي اليهودُ لأنَّهم تابُوا عن عبادةِ العِجْلِ، وقال تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] أي تُبْنَا، وقيل: هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار، وأنشدوا:
٥١٣ - وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى | قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد |
والنَّصارى جمعٌ، واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة وندامى، قاله سيبويه وأنشد:
٥١٤ - فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها | كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ |
٥١٥ - يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً | ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ |
٥١٦ - صَدَّتْ كما صَدَّ عما لا يَحِلُّ له | ساقي نصارى قُبَيْل الفِصْحِ صُوَّامِ |
٥١٧ - لَمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصارا | شَمَّرْتُ عن رُكْبَتيَ الإِزارا |
٥١٨ - أَلِمَّا بسَلْمى عنكما إنْ عَرَضْتُما | وقولا لها عُوجِي على مَنْ تَخَلَّفوا |
والأجْرُ في الأصلِ مصدرٌ يقال: أَجَرَهُ الله يأجِرُهُ أَجْراً، وقد يُعَبَّر به عن نفس الشيء المُجَازَى به، والآيةُ الكريمة تحتملُ المعنيين.
وقرأ أبو السَّمَّال: ﴿والذين هَادَوْا﴾ بفتحِ الدال كأنها عنده من المفاعَلَةِ والأصلُ: «هادَيُوا» فأُعِلَّ كنظائره.
والطُّور: اسمٌ لكلَّ جبل، وقيل لما أَنْبَتَ منها خاصةً دونَ ما لم يُنْبِتْ، وهل هو عربي أو سُرْياني؟ قولان، وقيل: سُمِّي بطور ابنُ اسماعيل عليه السلام، وقال العجَّاج:
٥١٩ - داني جَنَاحَيْهِ من الطُّور فَمَرّْ | تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ |
قوله: ﴿مَآ آتَيْنَاكُم﴾ مفعولُ «خُذوا»، و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي لا نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ محذوفٌ أي: ما آتيناكموه.
قوله: «بقوةٍ» في محلِّ نَصْبٍ على الحال. وفي صاحِبها قولان، أحدهما: أنه فاعلُ «خُذوا» وتكونُ حالاً مقدرة، والمعنى: خُذوا الذي آتيناكموه حالَ كونكم عازمين على الجِدِّ بالعمل به. والثاني: أنه ذلك العائدُ المحذوف، والتقدير: خُذوا الذي آتيناكُموه في حالِ كونه مشدَّداً فيه أي: في العمل به والاجتهادِ في معرفته، وقوله «ما فيه» الضميرُ يعود على «ما آتيناكم». والتولِّي تَفَعُّل من الوَلْي، وأصلُه الإِعراضُ عن الشيء بالجسم، ثم استُعْمِل في الإِعراض عن الأمورِ والاعتقاداتِ اتساعاً ومجازاً، و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من رفعِ الطور وإيتاء التوراة.
٥٢٠ - ولولا يَحْسِبون الحِلْم عَجْزاً | لَمَا عَدِم المُسيئون احتمالي |
٥٢١ - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى | ............................... |
٥٢٢ - يُذيبُ الرُّعْبُ منه كلَّ عَضْبٍ | فلولا الغِمْدُ يُمْسِكُه لَسالا |
٥٢٣ - فلولا بَنُوها حولَها لَخَبَطْتُها | ................................ |
قوله: ﴿لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين﴾ اللامُ جوابُ لولا. واعلم أنَّ جوابَها إن كان مُثْبَتَاً فالكثيرُ دخولُ اللامِ كهذه الآيةِ ونظائِرها، ويَقِلُّ حَذْفُها، قال:
٥٢٤ - لَوْلا الحياءُ وباقي الدينِ عِبْتُكُما | ببعضِ ما فيكما إذْ عِبْتُما عَوَري |
٥٢٥ - قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَّراً أناملُه | كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرصادِ |
٥٢٦ - قَدْنيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدي | .................................. |
٥٢٧ - أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا | لمَّا تَزُلْ برِحالِنا وكَأنَّ قَدِ |
قوله: «منكم» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في «اعتدَوا» ويجوز أن يكونَ من «الذين» أي: المعتدين كائنين منكم، و «مِنْ» للتبعيض.
قوله: ﴿فِي السبت﴾ متعلِّقٌ باعتَدَوا، والمعنى: في حُكْم السبت، وقال أبو البقاء: وقد قالوا: اليومَ السبتُ، فجعلوا «اليومَ» خبراً عن السبت، كما يقال، اليومَ القتالُ، فعلى ما ذكرنا يكونُ في الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه في يوم السبت «. والسبتُ في الأصل مصدرُ سَبَتَ، أي: قَطَعَ العمل. وقال ابن عطية:» والسَّبتُ: إمَّا مأخوذٌ من السُّبوت الذي هو الراحة والدَّعَة،
قوله: ﴿قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ يجوز فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها أن يكونا خبرين، قال الزمخشري: «أي: كونوا جامعين بين القِرَدِيَّة والخُسُوء» وهذا التقديرُ بناءً منه على على أنَّ الخبرَ لا يتعدَّدُ، فلذلك قَدَّرهما بمعنى خبرٍ واحدٍ من باب: هذا حُلْوٌ حامِضٌ، وقد تقدَّم القول فيه. الثاني: أن يكون «خاسئين» نعتاً لقِردة، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ مِنْ حيث إن القردةَ غيرُ عقلاءَ، وهذا جَمْعُ العقلاء. فإنْ قيل: المخاطبون عُقَلاء. فالجوابُ أنّ ذلك لا يُفيد، لأنَّ التقديرَ عندكم حينئذٍ: كونوا مثلَ قِرَدةٍ مِنْ صفتِهِم الخُسُوء، ولا تعلُّقَ للمخاطَبِين بذلك، إلا أنه يمكنُ أَنْ يقالَ إنهم مُشَبَّهون بالعقلاء، كقوله: {لِي
ومادة القرد تدل على اللصوق والسكون، تقول: «قَرَد بمكان كذا» أي: لَصِق به وسكن، ومنه الصوفُ القَرَد «أي المتداخلُ، ومنه أيضاً:» القُراد «هذا الحيوانُ المعروف. ويقال: خَسَأْتُه فَخَسَأَ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو: زاد وغاض، وقيل: يُقال خَسَأْتُه فَخَسِىءَ وانْخَسَأَ؛ والمصدر الخُسُوء والخَسْءُ. وقال الكسائي:» خَسَأْتُ الرجلَ خَسْئاً، وخَسَأَ هو خُسُوءاً ففرَّقَ بين المصدَرَيْن، والخُسُوءُ: الذِّلَّة والصَّغارُ والطَّرْدُ والبُعْدُ ومنه خَسَأْتُ الكلبَ.
٥٢٨ - فارمِ على أَقْفائِهم بِمَنْكَلِ | ............................ |
قوله: ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ عطفٌ على ﴿نَكَالاً﴾ وهي مَفْعِلَة من الوعظ وهو التخويف، وقال الخليل: «التذكيرُ بالخيرِ فيما يَرِقُّ له القَلْبُ، والاسمُ: العِظَةُ كالعِدَة والزِنَة. و» للمتقين «متعلقٌ بِمَوْعِظة. واللامُ للعلة، وخُصَّ المتقين بالذِّكْرِ، وإن كانَتْ موعظةً لجميعِ العالَم: البَرِّ والفاجِرِ، لأن المنتفعَ بها هم هؤلاء دونَ مَنْ عَدَاهم، ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ مقويةً، لأنَّ» موعظة «فَرْعٌ على الفِعْلِ في العملِ فهو نظيرٌ ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]، فلا تعلُّق لها لزيادتها، ويجوز أَنْ تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ لأنها صفةٌ لموعظةً، أي: موعظةً كائنةً للمتقين.
قوله: ﴿أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ «أَنْ» وما في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ ليَأْمركم، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصباً وإن يكونَ جرَّاً حَسْبَما مضى من ذِكْرِ الخلافِ، لأنَّ الأصلَ على إسقاطِ حرفِ الجرّ أي: بأَنْ تَذْبَحوا، ويجوزُ أن يُوافِقَ الخليلُ هنا على أَنَّ موضِعَها نَصبٌ لأنَّ هذا الفعلَ يجوز حذفُ الباءِ معه، ولو لم تكنِ الباءُ في «أَنْ» نحو: أمرتُكَ الخيرَ.
والبقرةُ واحدة البَقَر، تقعُ على الذكَرِ والأنثى نحو حَمامة، والصفةُ تُمَيِّزُ الذكر من الأنثى، تقول: بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى، وقيل: بقرةٌ اسمٌ للأنثى خاصةً من هذا الجِنس مقابلةً لثور، نحو: ناقةٌ وجَمَل، وأَتان وحمار، وسُمِّي هذا الجنسُ بذلك لأنه يَبْقُر الأرض أي يَِشُقُّها بالحرث، ومنه: بَقَر بطنَه، والباقر أبو جعفر لشَقِّه العلمَ، والجمع: بَقَر وباقِر وبَيْقُور وبَقِيرِ.
قوله: ﴿هُزُواً﴾ مفعول ثان ل « ﴿أَتَتَّخِذُنَا﴾. وفي وقوعِ» هُزُوا «مفعولاً ثانياً ثلاثةُ أقوالٍ. أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ أي ذوي هُزْء. الثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي مَهْزُوءاً بنا. الثالث: أنهم جُعِلوا نفس الهُزْءِ
وفي ﴿هُزُواً﴾ قراءاتٌ سِتٌّ، المشهورُ منها ثلاثٌ: هُزُؤاً بضمتين مع الهمز، وهُزْءاً بسكونِ العين/ مع الهمز وَصْلاً وهي قراءة حمزة رحمه الله، فإذا وَقَفَ أبدلَها واواً، وليس قياسَ تخفيفها، وإنما قياسُه إلقاءُ حركتِها على الساكنِ قبلَها. وإنما اتَّبع رسمَ المصحف فإنها رُسِمَتْ فيه واواً، ولذلك لم يُبْدلها في» جزءاً «واواً وقفاً، لأنها لم تُرْسَمْ فيه واواً كما سيأتي عن قريب، وقراءتُه أصلُها الضمُّ كقراءةِ الجماعةِ إلا أنه خُفِّفَ كقولِهم في عُنُق: عُنْق. وقيل: بل هي أصلٌ بنفسِها، ليست مخففةً من ضم، حَكَى مكي عن الأخفش عن عيسى بن عمر:» كلُّ اسمٍ ثلاثي أولُه مضمومٌ يجوزُ فيه لغتان: التثقيل والتخفيفُ «.
و «هُزُواً» بضمتين مع الواوِ وَصْلاً وَوَقْفاً وهي قراءةُ حَفْص عن عاصم، كأنه أَبْدَلَ الهمزةَ واواً تخفيفاً، وهو قياسٌ مطَّرد في كلِّ همزة مفتوحةٍ مضمومٍ ما قبلَها نحو جُوَن في جُؤَن، و ﴿السفهآء ولا إِنَّهُمْ﴾ [البقرة: ١٣] وحكمُ «كُفُواً» في قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] حكمُ «هُزُواً» في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً. و «هُزَاً» بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها
قوله: ﴿أَعُوذُ بالله﴾ تقدَّم إعرابُه في الاستعاذَةِ، وهذا جوابٌ لاستفهامِهم في المعنى كأنه قال: لا أَهْزَأُ مستعيذاً باللهِ من ذلك فإنَّ الهازِئَ جاهِلٌ. وقوله ﴿أَنْ أَكُونَ﴾ أي: مِن أَنْ أكونَ، فيجيءُ فيه الخلافُ المعروف. و «مِن الجاهلين» خبرُها، وهو أَبْلَغُ من قولِك: «أن أكونَ جاهِلاً، فإنَّ المعنى: أن أنتظمَ في سلكِ قَوْمٍ اتَّصفوا بالجهل.
قوله: ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ﴾ لا نافيةٌ، و» فارضٌ «صفةٌ لبقرة، واعترض ب» لا «بين الصفةِ والموصوفِ، نحوٍ: مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: لا هي فارضٌ. وقولُه: {
٥٢٩ - وأنتَ امرؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لغيرِنا | حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ |
٥٣٠ - قَهَرْتَ العِدَى لا مُسْتَعيناً بعُصْبَةٍ | ولكنْ بأنواعِ الخدائعِ والمَكْرِ |
والفارضُ: المُسِنَّةُ الهَرِمة، قال الزمخشري:» كأنَّها سُمِّيَتْ بذلك لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي قَطَعَتْها وبَلَغَتْ آخرَها «قال الشاعر:
٥٣١ - لَعَمْرِي لقد أَعْطَيْتَ جارَك فارِضاً | تُساقُ إليه ما تقومُ على رِجْلِ |
٥٣٣ - يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ عليَّ فارضِ... له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
وقال الراغب:» سُمِّيَتْ فارِضاً لأنها تقطعُ الأرضَ، والفَرْضُ في الأصل: القَطْع وقيل: لأنها تحملُ الأحمَالَ الشاقةَ. وقيل: لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّة، قال: فعلى هذا تكونُ الفارضُ اسماً إسلامياً «ويقال فَرَضَتْ تفرِضُ بالفتح فُروضاً، وقيل: فَرُضَتْ بالضمِّ أيضاً. والبِكْرُ ما لم تَحْمِل، وقيل: مَا وَلَدَتْ بطناً واحداً وذلك الولدُ بِكْرٌ أيضاً، قال:
٥٣٤ - يا بِكْرَ بَكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ... أصبحْتَ مني كذراعٍ من عَضُدْ
والبِكْرُ من الحيوان: مَنْ لم يَطْرُقْه فَحْل، والبَكْر بالفتح: الفَتِيُّ من الإِبل، والبَكارة بالفتح: المصدر.
قوله: ﴿عَوَانٌ﴾ صفةٌ لبقرة، ويجوز أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي: هي عوانٌ، كما تقدَّم في ﴿لاَّ فَارِضٌ﴾ والعَوانُ، النَّصَفُ، وهو التوسُّطُ بين الشيئينِ، وذلك أقوى ما يكونُ وأحسنُه، قال:
٥٣٥ -.................................. نواعِمُ بين أبكارٍ وعُونِ
٥٣٢ - شَيَّبَ أصداغِي فرأسي أبيضُ | محامِلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ |
٥٣٦ - إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ | ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ |
٥٣٧ -....................... | .... في الأكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ |
قوله: ﴿بَيْنَ ذلك﴾ صِفةٌ لعَوان، فهو في محلِّ رفعٍ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ بين ذلك، و «بين» إنما تُضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضافَ هنا إلى مفرد، لأنه يُشارُ بِهِ إلى المثنى والمجموع، كقوله:
٥٣٨ - إنَّ للخيرِ وللشَّرِّ مَدَى | وكِلا ذلك [وَجْهٌ وقَبَلْ] |
٥٣٩ - فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ | كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ |
قوله: ﴿مَا تُؤْمَرونَ﴾ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ تقديره: تُؤْمَرون بِه، فحُذِفَت الباءُ وهو حذفٌ مطَّردٌ، فاتصل بالضميرِ فحُذِفَ. وليس هو نظيرَ ﴿كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩] فإنَّ الحذف هناك غيرُ مقيسٍ، ويضعُف أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً. قال أبو البقاء: «لأنَّ المعنى على العُمومِ وهو بالذي أَشْبَهُ»، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً أي: أَمَرَكم بمعنى مأمورَكم، تسميةً للمفعولِ بالمصدرِ كضَرْبِ الأمير، قاله الزمخشري. و «تُؤْمَرون» مبنيٌّ للمفعول والواوُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لوقوعِها صلةً.
٥٤٠ - كلَّ يومٍ تتلوَّنْ | غيرُ هذا بك أَجْمَلْ |
٥٤١ - مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ | أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسِمِ |
٥٤٢ - وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَه | كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ |
٥٤٣ - تلك خَيْلِيْ منه وتلكَ رِكابي | هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزَّبيبِ |
قوله: ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ «البقر» اسمُ إنَّ وهو اسمُ جنسٍ كما تقدَّم. وقرئ «الباقِرُ» وهو بمعناه كما تقدم. و «تَشَابه» جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ، وقرئ: «تَشَّابَهُ» مشدَّداً ومخففاً وهو مضارعٌ، فالأصلُ: تَتَشابهُ بتاءين، فَأُدْغِمَ وحُذِفَ منه أخرى، وكِلا الوجهين مقيس. وقُرئ أيضاً: يَشَّابَهُ بالياء من تحت وأصله يتشابه فَأُدغم أيضاً، وتذكيرُ الفعل وتأنيثُه جائزان لأن فاعلَه اسمُ جنس وفيه لغتان: التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحافة: ٧] فَأَنَّث، و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] فذكَّر، ولهذا موضعٌ نستقصي منه، يأتي إن شاء الله تعالى. وتَتَشَابَهُ بتاءين على الأصل، وتَشَّبَّهُ بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصلُ: تَتَشَبَّهُ. وتَشَّابَهَتْ،
٥٤٤ -....................... | ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها |
قوله: ﴿إِن شَآءَ الله﴾ هذا شرطٌ جوابُه محذوفٌ لدلالةِ إنْ وما في حَيِّزها عليه، والتقدير: إن شاء اللهُ هدايتَنا للبقرة اهتدَيْنا، ولكنهم أَخرجُوه في جملةٍ اسميةٍ مؤكَّدة بحرفَيْ تأكيدٍ مبالغةً في طَلَب الهداية، واعترضوا بالشرطِ تيمُّناً بمشيئةِ الله تعالى. و «لمهتدونَ» اللامُ لامُ الابتداءِ داخلةٌ على خبرِ «إنَّ»، وقال أبو البقاء: «جوابُ الشرط إنَّ وما عملت فيه عند سيبويه، وجاز ذلك
قوله: ﴿تُثِيرُ الأرض﴾ في هذه الجملةِ أقوالٌ كثيرٌ، أظهرهُا أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في «ذلول» تقديرُه: لا تُذَلُّ حالَ إثارتِها [الأرضَ]. وقال ابن عطية: «وهي عند قومٍ جملةً في موضعِ الصفةِ لبقرة، [أي] : لا ذلولٌ مثيرةٌ، وقالَ أيضاً: ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ في موضعِ الحالِ لأنها من نكرةٍ»، أمَّا قولُه: «في موضع الصفةِ» فإنه يلزم منه أنَّ البقرةَ كانت مثيرةً للأرض، وهذا لم يَقُلْ به الجمهور، بل قال به بعضُهم، وسيأتي بيانُه قريباً. وأمَّا قولُه: «لا يجوز أن تكونَ حالاً يعني من» بقرة «لأنها نكرةٌ. فالجوابُ: أنَّا لا نُسَلِّم أنها حالٌ من بقرة، بل من الضميرِ في» ذلولٌ «كما تقدَّم شرحه، أو نقولُ: بل هي حالٌ من النكرة قد وُصِفَتْ وتخصَّصَتْ بقوله ﴿لاَّ ذَلُولٌ﴾ وإذا وُصِفَت النكرةُ ساغَ إتيانُ الحالِ منها اتفاقاً. وقيل: إنها مستأنفةً، واستئنافُها على وجهين، أحدُهما: أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي: هي تثير، والثاني: أنها مستأنفةٌ بنفسِها من غير تقديرِ مبتدأ، بل تكونُ جملةً فعليةً ابتُدئ بها لمجرد الإِخبار بذلك.
وقد مَنَعَ من القول باستئنافها جماعةٌ، منهم الأخفش علي بن سليمان، وعلَّل ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ بعدَه: ﴿وَلاَ تَسْقِي الحرث﴾ فلو كان مستأنفاً لما صَحَّ دخولُ» لا «بينه وبين الواوِ. الثاني: أنها لو كانت تثير الأرضَ لكانَتِ
٥٤٥ - يُهيلُ ويُذْري تُرْبَهُ ويُثيرُه | إثارةَ نَبَّاثِ الهَواجِرِ مُخْمِسِ |
قوله: ﴿وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ الكلام في هذه كما تقدم فيما قبلها من كونِها صفةً لبقرة أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ. وقال الزمخشري: ولا الأولى للنفي يعني الداخلةَ على «ذلولٌ» والثانيةُ مزيدة/ لتوكيدِ
وقُرئ» تُسْقي «بضم التاء من أَسْقى. وإثارةُ الأرضِ تحريكُها وبَحْثُها، ومنه ﴿وَأَثَارُواْ الأرض﴾ [الروم: ٩] أي: بالحرثِ والزراعةِ، وفي الحديث:» أثيروا القرآن، فإنه عِلْمُ الأولين والآخرِين «، وفي روايةٍ،» مَنْ أرادَ العِلمَ فَلْيُثَوِّرِ القرآن «ومُسَلَّمةٌ من سَلِمَ له كذا أي: خَلُص. و» شية «مصدرٌ وَشَيْتُ الثوبَ أَشِيْهُ وَشْياً وشِيَةً، فحُذفت فاؤها لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ في المضارع، ثم حُمِلَ باقي البابِ عليه، ووزنُها: عِلة، ومثلُها: صِلة وعِدة وزِنة، وهي عبارةٌ عن اللمعةِ المخالفةِ للَّوْنِ، ومنه ثَوْبٌ مَوْشِيٌّ أي منسوجٌ بلونينِ فأكثرَ، وثور مَوْشِيُّ القوائم أي: أَبْلَقُها قال الشاعر:
٥٤٦ - من وحشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكارِعُه | طاوِي المصيرِ كسَيْفِ الصيْقَلِ الفَرِدِ |
قوله: ﴿الآن جِئْتَ﴾ » الآن «منصوبٌ بجِئْتَ، وهو ظرفُ زمانٍ يقتضي الحالَ ويُخَلِّصُ المضارع له عند جمهور النحويين، وقال بعضُهم: هذا هو
واختُلِفَ في علَّة بِنائِه، فقال الزجاج: «لأنَّه تضمَّن معنى الإِشارة، لأنَّ معنى أفعلُ الآن أي: هذا الوقتَ». وقيل: لأنه أَشْبَهَ الحرفَ في لزومِ لفظٍ واحدٍ، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ. وقيل: لأنَّ تضمَّن معنى حرفِ التعريفِ وهو الألفُ واللامُ كأمسِ، وهذه الألفُ واللامُ زائدةٌ فيه بدليلِ بنائِه ولم يُعْهَدْ معرَّفٌ بأل إلاَّ مُعْرباً، ولَزِمَت فيه الألفُ واللامُ كما لَزِمَت في الذي والتي وبابهما، ويُعْزى هذا للفارسي. وهو مردودٌ بأنَّ التضمينَ اختصار، فكيف يُخْتصر الشيءَ، ثم يُؤْثى بمثلِ لفظِه. وهو لازمٌ للظرفيَّة ولا يَتَصَرَّفُ غالباً، وقد وَقَع مبتدأ في قوله عليه السلام: «فهو يَهْوى في قَعْرِها الآنَ حينَ انتهى» فالآن مبتدأ وبني على الفتح لِما تقدَّم، و «حين» خبره، بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ، ومجروراً في قوله:
٥٤٧ - أإلى الآن لا يَبِينُ ارْعِواءُ | ...................... |
٥٤٨ - كأنَّهما مِلآْنِ لم يتَغَيَّرا | وقد مَرَّ للدارَيْنِ من بعدنا عَصْرُ |
وقُرئ «قالوا الآن» بتحقيق [الهمزةِ] من غير نَقْل، وهي قراءةُ الجمهورِِ، و «قالُ لان» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها وحَذْفِ الهمزة، وهو قياسٌ مطَّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلافٍ عنه، و «قالو لاَن» بثبوتِ الواوِ مِنْ قالوا لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاءِ الساكنين وقد تحرَّكَتِ اللامُ لنقلِ حركةِ الهمزةِ إليها، واعتدُّوا بذلك كما قالوا في الأحمر: «لَحْمَر». وسيأتي تحقيقُ
قوله: «بالحقِّ» يجوزُ فيه وجهانِ، أحدُهما أن تكونَ باءَ التعدية كالهمزة كأنه قيل: أَجَأْتَ الحقَّ أي: ذَكَرْتَه. الثاني: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ «جِئْتَ» أي: جِئْتَ ملتبساً بالحقِّ أو ومعك الحقُّ.
قوله ﴿وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ كادَ واسمُها وخبرُها، والكثيرُ في خبرها تَجَرُّدُه من أَنْ، وشَذَّ قولُه:
٥٤٩ - قد كادَ من طولِ البِلى أَنْ يَمْحَصا... عكسَ عسى، ومعناها مقاربةُ الفعلِ، وقد تقدَّم جملةٌ صالحةٌ من أحكامِها، وكونُ نفيها إثباتاً وأثباتِها نفياً، والجوابُ عن ذلك عند قوله: ﴿يَكَادُ البرق﴾ [البقرة: ٢٠] فَلْيُلْتَفتْ إليه.
قوله: ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ » الله «رفعٌ بالابتداء و» مُخْرجٌ «خبرُه، وما موصولةٌ منصوبةٌ المحلِّ باسمِ الفاعلِ، فإنْ قيل: اسمُ الفاعلِ لا يَعْمَل بمعنى الماضي إلا مُحَلَّى بالألف واللام. فالجواب/ أنَّ هذه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، واسمُ الفاعل فيها غير ماضٍ، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ [الكهف: ١٨]، والكسائي يُعْمِلُه مطلقاً ويستدلُّ بهذا ونحوهِ. و» ما «يجوز أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً، فلا بد من عائدٍ، تقديره: مُخْرِجُ الذي كنتم تكتمونَه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعول به أي مُخْرِجٌ مكتومَكم، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لأنها معترضةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهما:» فادَّارَأْتم «» فقلنا اضرِبوه «قاله الزمخشري. والضميرُ في» اضربوه «يعودُ على النفس لتأويلِها بمعنى الشخص والإِنسان، أو على القتيلِ المدلولِ عليه بقوله: والله مُخْرِجٌ ما كنتم تكتمون». والجملةُ من «اضربوه» محلِّ نصبٍ بالقولِ.
٥٥٠ - أُري عَيْنَيَّ ما لم تَرْأَياهُ | كِلانا عالمٌ بالتُّرَّهاتِ |
٥٥١ - أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً | وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا |
وقُرئ «أشدَّ» بالفتح، ووجهُها أنه عَطَفَها على «الحجارة» أي: فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها. قال الزمخشري مُوَجِّهاً للرفعِ: «وأشدُّ معطوفٌ على الكاف: إمَّا على معنى: أو مثلُ أشدَّ فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وتَعْضُده قراءة الأعمش بنصبِ الدال عطفاً على الحجارة». ويجوز على ما قاله أن يكونَ مجروراً بالمضافِ المحذوفِ تُرِكَ على حاله، كقراءة: ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾ [الأنفال: ٦٧] بجرِّ الآخرةِ، أي: ثوابَ الآخرةِ، فيحصُلُ من هذا أنَّ فتحةَ الدالِ يُحْتَمَلُ أن تكونَ للنصبِ وأن تكونَ للجرِّ. وقال الزمخشري أيضاً: «فإنْ قلت: لِمَ قيل» أشدُّ قسوةً «وفعلُ القسوةِ ممَّا يخرُج منه أفعلُ التفضيلِ وفعلُ التعجبِ؟ يعني أنه مستكملٌ للشروطِ مِنْ كونِه ثلاثياً تاماً غيرَ لَونٍ ولا عاهةٍ متصرفاً غيرَ ملازمٍ للنفيِ ثم قال:» قلت: لكونِه أَبْيَنَ وأدلَّ على فرطِ القسوةِ، ووجهٌ آخرُ وهو أنه لا يَقْصِدُ معنى الأقسى، ولكنه قَصَد وصفَ القسوةِ بالشدة، كأنه قيل: اشتدَّتْ قسوةُ الحجارةِ وقلوبُهم أشدُّ قسوةً «وهذا كلامٌ حسنٌ جداً، إلا أنَّ كونَ القسوةِ يجوزُ بناءُ التعجبِ منها فيه نظرٌ من حيثُ إنَّها من الأمورِ الخَلْقيَّةِ أو من العيوبِ، وكلاهما ممنوعٌ منه بناءُ البابَيْنِ. وقُرئ: قَساوة.
قوله: ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ﴾ اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم» إنَّ «، لتقدُّمِ
وقرأ مالك بن دينار: «يَنْفَجِرُ» من الانفجار. وقرأ قتادة: ﴿وَإِنْ مِنَ الحجارة﴾ بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين «إنْ» النافية، وكذلك ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ﴾ وهذه القراءة تحتمل أن تكونَ «ما» فيها في محل رفع وهو المشهورُ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ لأنَّ «إنْ» المخففة سُمع فيها الإِعمالُ والإِهمالُ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١] في قراءة مَنْ قرأه. وقال في موضع آخر: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ [يس: ٣٢] إلاَّ أنَّ المشهورَ الإِهمالُ. و ﴿يَشَّقَّقُ﴾ أصلُه: يَتَشَقَّقُ، فأُدْغم، وبالأصلِ قرأ الأعمشُ، وقرأ طلحة بن مصرف: «لَمَّا» بتشديد الميم في الموضعين، قال ابن عطية: «وهي قراءة غير متجهة» وقرأ أيضاً: «يَنْشَقُّ» بالنون، وفاعلُه ضمير «ما» وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ» يَشَّقَّقُ «يجوز أن يُجْعَلَ للماء على
قوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ منصوبُ المحلِّ متعلقٌ ب «يَهْبِط». و «مِنْ» للتعليل، وقال أبو البقاء: [ «مِنْ» ] في موضع نصب بيهبط، كما تقول: يهبط بخشيةِ الله، فجعلَها بمعنى الباء المُعَدِّية، وهذا فيه نظرٌ لا يَخْفَى. وخشية مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه: مِنْ أن يَخْشَى اللهَ.
وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ، كقوله:
٥٥٢ - لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ | سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ |
قوله: ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بغافل، و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، فلا بد من عائدٍ أي: تعملونه، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه، أي عن عملِكم، ويجوز أن يكونَ واقعاً موقعَ المفعولِ به، ويجوز ألاَّ يكون. وقُرِئ «يعملون» بالياءِ والتاءِ.
قوله: ﴿وَقَدْ كَانَ﴾ الواو للحالِ. قالَ بعضُهم: «وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ موضعَها» إذ «والتقدير: أفتطمَعُون في إيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون لكلام الله تعالى. و» قد «مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً. و» يَسْمَعُون «خبراً كان، و» منهم «في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ، أي: فريقٌ كائنٌ منهم. وقال بعضُهم: ﴿يَسْمَعُونَ﴾ في محلِّ رفعٍ صفةً لفريق، و» منهم «في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وهذا ضعيفٌ. والفريق اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه كرهط وقوم، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم. وقُرئ ﴿كَلِمَ الله﴾ وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم، بأنَّ الكلامَ شرطُه الإِفَادَةُ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ
٥٥٣ -........................... | وجُرْحُ اللسانِ كجُرْحِ اليَدِ |
٥٥٤ - إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ | رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ |
٥٥٥ - إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما | جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا |
قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ متعلِّقٌ ب ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾. والتحريفُ: الإِمالة والتحويلُ، و» ثم «للتراخي: إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ، و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أي: ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي فَهِموه وعَرفوه. ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في» عَلَقوه «يعودُ حينئذٍ على الكلامِ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه. قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ، وفي العاملِ فيها قولان، أحدهما: ﴿عَقَلُوهُ﴾، ولكنْ يلزَمُ منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً،
وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وجهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ مستأنفةً كاشفةً عن أحوال اليهودِ والمنافقين. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ معطوفةً على الجملة الحالية قبلها وهي: «وقد كان فريقٌ» والتقدير: كيف تطمعون في إيمانِهم وحالُهم كَيْتَ وكَيْتَ؟ وقرأ ابن السَّمَيْفَع: لاقُوا، وهو بمعنى لَقوا، فَاعَل بمعنى فَعِل نحو: سافر وطارَقْتُ النعل.
قوله: ﴿بِمَا فَتَحَ الله﴾ متعلِّقٌ بالتحديث قبلَه، وما موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي: فَتَحَه الله. وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً أو مصدريةً، أي: شيءٌ فَتَحه، فالعائدُ محذوفٌ أيضاً، أو بفتحِ الله عليكم. وفي جَعْلِها مصدريةً إشكالٌ من حيثُ إن الضميرَ في قولِه بعد ذلك: ﴿لِيُحَآجُّوكُم بِهِ﴾ عائدٌ على «ما» هذا هو الظاهرُ، وما المصدريةُ حرفٌ لا يعودِ عليها ضميرٌ على المشهورِ خلافاً للأخفشِ وأبي بكر بن السراج، إلا أَنْ يُتَكَلَّفَ فيُقال: الضميرُ يعودُ على المصدرِ المفهومِ من قوله: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم﴾ أو من قوله فَتَح، أي: لِيحاجُّوكم بالتحديثِ الذي حُدِّثْتُمُوه، أو بالفتح
قوله: ﴿لِيُحَآجُّوكُم﴾ هذه اللامُ تُسَمَّى لامَ كي بمعنى أنها للتعليل، كما أنَّ» كي «كذلك، لا بمعنى أنها تَنْصِبُ ما بعدَها بإضمار ب» كي «كما سيأتي، وهي حرفُ جرٍّ، وإنما دَخَلَتْ على الفعل لأنه منصوبٌ بأَنْ المصدريةِ مقدرةً بعدها، فهو معها بتأويل المصدرِ أي للمُحاجَّةِ، فلم تَدْخُلْ إلا على اسم لكنه غيرُ صريح. والنصبُ بأَنْ المضمرةِ كَما تقدَّم لا بكَيْ خلافاً لابن كيسان والسيرافي وإن ظَهَرَتْ بعدها نحو قولِه تعالى: ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ﴾ [الحديد: ٢٣] لأن» أَنْ «هي أُمُّ البابِ، فادِّعاءُ إضمارِها أَوْلَى مِنْ غيرِها. وقال الكوفيون:» النصبُ باللامِ نفسِها، وأَنَّ ما يظهر بعدَها من كي وأَنْ إنما هو على سبيلِ التأكيد «، وللاحتجاجِ موضعٌ غيرُ هذا من كتب النحو. ويجوز إضمارُ أَنْ وإظهارُها بعد هذه اللامِ إلاَّ في صورةٍ واحدةٍ وهي ما إذا وقع بعدها» لا «نحو قوله: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩]، ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٥٠]، وذلك لِما يَلْزَمُ من توالي لاَميْن فيثقُل اللفظُ. والمشهورُ في لغةِ العربِ كَسْرُ هذه اللامِ لأنها حرفُ جر وفيها لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ وهي الفتح.
وهذه اللامُ متعلقةٌ بقوله: «أَتُحَدِّثُونهم». وذهب بعضُهم إلى أنَّها متعلقةٌ ب «فَتَحَ»، وليس بظاهرٍ، لأنَّ المُحاجَّةِ ليست علة للفتح، وإنما هي
قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ظرفٌ معمولٌ لقولِه: ﴿لِيُحَآجُّوكُم﴾ بمعنى لِيحاجُّوكم يومَ القيامة، فًَكَنَى عنه بقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، وقيل: «عندَ» بمعنى في، أي: ليحاجُّوكم في ربكم، أي: فيكونون أَحَقَّ به منكم. وقيل: ثَمَّ مضَافٌ محذوفٌ أي: عند ذِكْرِ ربِّكم، وقيل: هو معمولٌ لقولِه: ﴿بِمَا فَتَحَ الله﴾ أي بما فتح اللهُ مِنْ ربكم ليحاجُّوكم، وهو نَعْتُه عليه السلام وأَخْذُ ميثاقِهم بتصديقِه. ورجَّحه بعضُهم وقال: «هو الصحيح، لأنَّ الاحتجاجَ عليهم هو بما كانَ في الدنيا» وفي هذا نظرٌ مِنْ جهةِ الصناعة، وذلك أنَّ ﴿لِيُحَآجُّوكُم﴾ متعلقٌ بقوله: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم﴾ على الأظهرِ كما تقدَّم فيلزَمُ الفَصْلُ به بين العاملِ وهو فَتَح وبين معمولِه وهو عند ربك وذلك لا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ منهما.
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ تقدَّم الكلامُ على نظيرَتِها. وفي هذه الجملةِ قولان: أحدُهما [أنها] مندرجَةٌ في حَيِّز القولِ. والثاني أنها من خطابِ الله تعالى للمؤمنين بذلك فَمَحَلُّها النصبُ على الأولِ ولا محلَّ لها على الثاني، ومفعولُ ﴿تَعْقِلُونَ﴾ يجوزُ أن يكونَ مراداً ويجوزُ ألاَّ يكونَ.
وقرأ ابن أبي عبلة:» أُمِّيُون «بتخفيف الياء، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ تضعيفين.
قوله: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ هذا استثناءٌ منقطعُ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ الكتابِ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه، وهذا هو المنقطعُ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ دخولُه بوجهٍ ما كقولِه: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن﴾ [النساء: ١٥٧] / وقولِ النابغة:
٥٥٦ - حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ | ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ |
واعلمْ أنَّ المنقطعَ على ضَرْبَيْن: ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو:» جاء القومُ إلا حماراً «وضربٍ لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون:» ما زاد إلا ما نَقَصَ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ «فالأول فيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِبْهِهِ النصبُ والإِتباعُ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول، فيَحْتملُ نصبُها وجهين، أَحَدُهُما: على الاستثناء المنقطع، والثاني: أنه بدلٌ من الكتاب، و» إلا «في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين ب» لكن «وعند الكوفيين ب» بل «. وظاهرُ كلام أبي البقاء أن نَصْبَه على المصدرِ بفعلِ محذوفٍ، فإنَّه قال: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ استثناء منقطع، لأنَّ الأمانيَّ ليس من جنسِ العلم، وتقديرُ» إلاَّ «في مثلِ هذا ب» لكنْ «، أي: لكنْ يتَمنَّونه أمانيَّ، فيكونُ عندَه من بابِ الاستثناء المفَرَّغِ المنقطعِ، فيصيرُ نظيرَ:» ما علمتُ إلا ظناً «وفيه نظرٌ.
وقال أبو البقاء: «يجوز تخفيفُها فيهما». وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءَين، تخفيفاً، قال الأخفش: «هذا كما يُقال في جمعِ مفتاح: مفاتح ومفاتيح»، قال النحاس: «الحَذْفُ في المعتلِّ أكثرُ» وأنشد قول النابغة:
٥٥٧ - وهل يُرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العمى | ثلاثُ الأَثافي والرسومُ البلاقِعُ |
٥٥٨ - تَمَنَّى كتابَ اللهِ آخرَ ليلِهِ | تَمَنِّىِ داودَ الزبورَ على رِسْلِ |
٥٥٩ - تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ | وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ |
٥٦٠ - لا تأْمَنَنَّ وأنْ أمْسَيْت في حَرَمٍ | حتى تُلاقِي ما يَمْني لكَ الماني |
قولُه: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ » إنْ «نافيةٌ بمعنى ما، وإذا كانت نافيةً فالمشهورُ أنها لا تعملُ عملَ» ما «الحجازيةِ، وأجاز بعضُهم ذلك ونَسَبه لسيبويهِ
٥٦١ - إنْ هُوَ مستولياً على أَحَدٍ | إلاَّ على أَضْعَفِ المجانين |
واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي: وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ بأفعالٍ من غير لفظِها، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإِضمارِ، لا يجوز
ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشر قاله الخليل، وقال الأصمعي: الوَيْلُ: التفجُّع، والوَيْل: الترحُّم. وقال سيبويه:» وَيْل، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة، ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك «وقيل: الويلُ الحُزن، وهل ويْل ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ؟ خلافٌ، وقد تقدَّم ما فرَّق به سيبويه في بعضِها. وقال قومٌ: وَيْلٌ في الدُّعاء عليه، ووَيْحٌ وما بعدَه ترحُّمٌ عليه. وزعم الفرّاء أن أصلَ وَيْل: وَيْ أَي حُزْن، كما تقول: وَيْ لفلان، أي حُزْن له، فَوَصَلَتْه العربُ باللام، وقَدَّرَتْ أنَّها منه فَأَعْرَبوها وهذا غريبٌ جداً. ويقال: وَيْل وويلَة بالتاء، وقال امروء القيس:
٥٦٢ - له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ | لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشْكُرا |
فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل كما زَعَم ابن عطية/ لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ والتاءِ لا يَنقَاسُ.
قوله ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ متعلِّقٌ بيكُتبون، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من» الكتاب «، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب، فنصبُه على المفعولِ به، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ مصدراً على بابِه، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ، ونحوُه:
﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨]، ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: ١٦٧]. وقيل: فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم، فإنَّ قولَك: فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه أمر بفعلِه ولم يُباشِرْه، نحو: بنى الأميرُ المدينةَ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا المجازِ. وقيل: فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم، فإنَّ المباشِرَ للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه. وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز. وقال ابن السَّرَّاج: «ذِكْرُ الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم» وهذا الذي قاله لا يَلْزَمُ.
والأيدي جمعُ يَدٍ، والأصلُ: أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو: بِيْض جمعَ أَبْيض، والأصلُ: بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر، وهذا رأيُ سيبويه، أعني أنه يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه، وسيأتي تحقيقُ مذهَبَيْهما عند ذِكْرِ «معيشة» إنْ شاء الله تعالى.
٥٦٤ - يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا | تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفَّ اليَدا |
٥٦٥ - يَدَيَان بَيْضَاوان عِندَ مُحَلِّمٍ | قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرا |
قوله: ﴿لِيَشْتَرُواْ﴾ اللامُ لامُ كي، وقد تقدَّمت. والضميرُ في» به «يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم: ﴿هذا مِنْ عِنْدِ الله﴾ و» ثمناً «مفعولُه، وقد تقدَّم
قوله: ﴿مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر، و» مِنْ «للتعليلِ، و» ما «موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ، ويجوزُ أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس كقوةِ الأولِ والعائدُ أيضاً محذوفٌ أي: كَتَبَتْهُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَتْبِهم، و ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ مثلُ ما تقدَّم قبلَه، وإنما كرَّر» الوَيْل «ليُفيدَ أنَّ الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ، وإنَّما قَدَّم قولَه:» كَتَبَتْ «على» يَكْسبون «لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ فنتيجتُها كسبُ المالِ، فالكَتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ، فجاء النَّظْمُ على هذا.
قوله: ﴿أَتَّخَذْتُمْ﴾ الهمزةُ للاستفهامِ، ومعناهُ الإِنكارُ والتقريعُ، وبها استُغْنِيَ عن همزةِ الوصل الداخلةِ على «اتَّخَذْتُم» كقوله: ﴿أفترى عَلَى الله﴾ [سبأ: ٨]، ﴿أَصْطَفَى﴾ [الصافات: ١٥٣] وبابه. وقد تقدَّم القولُ في تصريفِ ﴿اتخذتم﴾ [البقرة: ٦٧] وخلافُُ أبي علي فيها. ويُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ هنا متعديةً لواحد. قال
قوله: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ الله﴾ هذا جوابُ الاستفهامِ المتقدِّمِ في قوله: ﴿أَتَّخَذْتُمْ﴾ وهل هذا بطريقِ تضمينِ الاستفهامِ معنى الشرطِ، أو بطريقِ إضمار الشرطِ بعدَ الاستفهامِ وأخواتِهِ؟ قولان، تقدَّم تحقيقُهما. واختار الزمخشري القولَ الثاني، فإنه قال: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: إن اتَّخَذْتُمْ عندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عهدَه «. وقال ابنُ عطية:» فلن يُخْلِف اللهُ عهدَه: اعتراضٌ بين أثناءِ الكلامِ. كأنه يَعْني بذلك أنَّ قولَه: «أم تَقُولون» مُعادِلٌ لقولِه: «أَتَّخَذتم» فَوَقَعَتْ هذه الجملةُ بين المتعادِلَيْنِ معترضةً، والتقديرُ: أيُّ هذين واقعٌ؟ اتِّخاذِكم العهدَ أم قولِكم بغيرِ علمٍ، فعلى هذا لا محلَّ لها من الإِعراب، وعلى الأول محلُّها الجَزْمُ.
قوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ أمْ «هذه يجوزُ فيها وجهانِ، أحدُهما: أَنْ تكونَ متصلةً فتكونَ للمعادلةِ بين الشيئين، أي: أيُّ هذين واقعٌ، وأَخْرَجَهَ مُخْرَجَ المتردِّدِ فيه، وإنْ [كان] قد عُلِم وقوعُ أحدِهما، وهو قولُهم على اللهِ
٥٦٦ - وَليْتَ سليمى في المَنَامِ ضَجيعتي | هنالِكَ أَمْ في جنةٍ أَمْ جَهَنَّمِ |
قوله: ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ «ما» منصوبةٌ بتقولون، وهي موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفةٌ، والعائدُ على كِلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ، أي: ما لا تعلمونه، فالجملة لا محلَّ لها على القولِ الأولِ، ومحلُّها النصبُ على الثاني ولا يَجُوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً.
٥٦٧ - أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أُمَّ عمروٍ | وإيَّانا فَذَاكَ بِنا تَدانِي |
نَعَمْ وترى الهلالَ كما أَراه | وَيعْلُوها النهارُ كما عَلاني |
قولُه: ﴿مَن كَسَبَ﴾ يجوزُ «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والخبرُ قولُه: «فأولئك»، وجازَ دخولُ الفاءِ في الخبر لاستكمالِ
و «سَيِّئَةً» مفعولٌ به، وأصلُها: سَيْوِئةَ، لأنَّها من ساءَ يسُوِء، فوزنُها فَيْعِلة، فاجتمعَ الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فأُعِلَّتْ إعلالَ سَيّد وميّت، وقد تقدَّم. وراعى لفظ «مَنْ» مرةً فأفرَدَ في قوله «كسب»، و «به» و «خطيئته»، والمعنى مرةًً أخرى، فَجَمَع في قوله: ﴿فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وقرأ نافعٌ وأهلُ المدينة: «خطيئاتُه» بجمعِ السلامة، والجمهور: «خطيئتُه» بالإِفراد. ووجهُ القراءتين ينبني على مَعرفة السيئة والخطيئة. وفيهما أقوالٌ «، أحدُهما: أنهما عبارتان عن الكفر بلفظَيْن مختلفين. الثاني: السيئةُ الكفرُ، والخطيئةُ الكبيرةُ. الثالث: عكسُ الثاني. فوجْهُ قراءةِ الجماعة على الأولِ والثالث أنَّ المرادَ بالخطيئةِ الكفرُ وهو مفردٌ، وعلى الوجهِ الثاني أنَّ المرادَ به جنسُ الكبيرةِ. ووجهُ قراءِة نافعٍ على الوجهِ الأول والثالثِ أَنَّ المرادَ بالخطيئات أنواعُ الكفرِ المتجَدِّدَة في كلِّ وقتٍ، وعلى الوجه الثاني أَنَّ المرادَ به الكبائرُ وهي جماعةٌ. وقيل: المرادُ بالخطيئةِ نفسُ السيئةِ المتقدِّمة فسمَّاها بهذين الاسمين تقبيحاً لها، كأنَّه قال: وأَحاطَتْ به خطيئتُه تلك، أي السيئة، ويكونُ المرادُ بالسيئةِ الكفرَ، أو يُراد بهم العصاةُ، ويكونُ أرادَ بالخلودِ المُكْثَ الطويلَ، ثم بعد ذلك يَخْرُجُون.
قوله: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ﴾ قُرئ بالياءِ والتاء، وهو ظاهرٌ. فَمَنْ قَرَأَ بالغَيْبة فلأنَّ الأسماءَ الظاهرةَ حكمُها الغَيْبة، ومَنْ قَرَأَ بالخطابِ فهو التفاتٌ، وحكمتُه أنَّه أدعى لقبولِ المخاطبِ الأمرَ والنهيَ الوارِدَيْنِ عليه، وجَعَل أبو البقاء قراءةَ الخطابِ على إضمارِ القَوْلِ. قال: «يُقْرَأُ بالتاء على تقدير: قُلْنا لهم: لا تَعْبُدون إلا الله» وكونُه التفاتاً أَحْسَنُ، وفي هذه الجملةِ المنفيَّةِ من الإِعرابِ ثمانيةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: أنَّها مفسِّرةٌ لأخْذِ الميثاقِ، وذلك أنه لمَّا ذَكَرَ تعالى أنه أَخَذَ ميثاقَ بني إسرائيل كانَ في ذلك إيهامٌ للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملةِ مفسِّرةً له، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من «بني إسرائيل» وفيها حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها حالٌ مقدَّرة بمعنى أَخَذْنا مِيثاقَهم مقدِّرين التوحيدَ أبداً ما عاشُوا. والثاني: أنها حالٌ مقارِنةٌ بمعنى: أَخَذْنا ميثاقَهم ملتزمين الإِقامةَ على التوحيد، قالَه أبو البقاء، وسَبَقَه
الثامن: أن يكونَ التقديرُ: أَنْ لا تعبدون، وهي» أَنْ «المفسِّرة، لأنَّ في قوله: ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ إيهاماً كما تقدَّم، وفيه معنى القول، ثم حُذِفَتْ» أَنْ «المفسِّرة، ذكره الزمخشري. وفي ادِّعاء حَذْفِ حرفِ التفسيرِ نَظَرٌ لا يخفى.
وقوله: ﴿إِلاَّ الله﴾ استثناءٌ مفرغ، لأنَّ ما قَبله مفتقرٌ إليه وقد تقدَّم تحقيقُه أولاً. وفيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة، إذ لو جرى الكلامُ على نَسقَه لقيل: لا تَعْبدون إلا إيانا، لقوله» أَخَذْنَا «. وفي هذا الالتفاتِ من الدلالةِ على عِظَمِ هذا الاسم والتفرُّدِ به ما ليس في المُضْمر، وأيضاً الأسماءُ الواقعةُ ظاهرةٌ فناسَبَ أنْ يُجاوِرَ الظاهرُ الظاهرَ.
قوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تتعلَّقَ الباء ب» إحساناً «، على أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر، والتقديرُ: وأَحْسِنوا بالوالدَيْنِ، والباءُ ترادِفُ» إلى «في هذا المعنى، تقول: أَحْسَنْتُ به وإليه، بمعنى أَنْ يكونَ على هذا الوجهِ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌُ، أي: وأَحْسنوا بِرَّ الوالدَيْن بمعنى: أَحْسِنوا إليهما بِرَّهما.
قال ابن عطية: «يَعْتَرِضُ هذا القولَ أَنْ يتقدَّمَ على المصدرِ معمولُه» وهذا الذي جَعَله ابنُ عطية اعتراضاً على هذا القولِ لا يتِمُّ على مذهب الجمهور، فإنَّ مذهبَهَم جوازُ تقديم معمولِ المصدرِ النائبِ عن فِعْل الأمر عليه، تقول: ضرباً زيداً، وإنْ شئْتَ: زيداً ضرباً، وسواءً عندهم إنْ جَعَلْنَا العملَ للفعلِ المقدَّرِ أم للمصدرِ النائبِ عن فِعْلِه فإنَّ
والوالدان: الأبُ والأمُ، يُقال لكلِّ واحدٍ منهما والد، قال:
٥٦٨ - أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى | وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي |
٥٦٩ - ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ لَهُ أبٌ | وذي وَلَدْ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ |
قوله: ﴿وَذِي القربى﴾ وما بعدَه عطفٌ على المجرورِ بالباءِ، وعلامةُ الجرِّ فيها الياءُ؛ لأنَّها من الأسماءِ الستةِ تُرْفَعُ بالواو وتُنْصَبُ بالألف وتُجَرُّ بالياء بشروطٍ ذكرها النحويون، وهل إعرابُها بالحروفِ أو بغيرها.
عشرةُ مذاهبِ للنحْويين فيها، ليس هذا موضعَ ذِكْرِها، وهي من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنًى إلى أسماءِ الأجناس ليُتَوَصَّل بذلك إلى وَصْف النكرة باسمِ الجنسِ، نحو: مَرَرْتُ برجلٍ ذي مالٍ، وإضافتُه إلى المضمرِ ممنوعةٌ إلا في ضرورةٍ أو نادرِ كلام كقوله:
٥٧٠ - صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ | أبانَ ذوي أَرُومَتِها ذَوُوها |
٥٧١ - إنما يَعْرِفُ المَعْ | روفَ في الناس ذَوُوه |
٥٧٢ - وإنَّا لَنَرْجُو عاجلاً منكَ مثلَ ما | رَجَوْناه قِدْماً من ذَويك الأفاضلِ |
و «القُرْبى» مضافٌ إليه وأَلِفُه للتأنيث وهو مصدرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى، ويُطْلق على قَرابة الصُّلب والرَّحِم، قال طَرَفة:
٥٧٣ - وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً | على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ |
قوله: ﴿واليتامى﴾ وزنُه فَعالى، وألفهُ للتأنيثِ وهو جَمْعِ يتيم كنديم ونَدامى ولا يَنْقاسُ هذا الجمعُ، واليُتْمُ: الانفراد، ومنه «اليَتيم» لانفرادِه عن أبويه أو أحدِهما، ودُرَّةٌ يتيمةٌ: إذا لم يكنْ لها نظيرٌ. وقيل: اليُتْم الإِبطاءُ ومنه صبيٌّ يتيم لأنه يُبْطِئُ عنه البِرُّ. وقيل: هو التغافل لأن الصبيَّ يُتَغافل عمَّا يُصْلِحُه. قال الأصمعي: «اليُتْمُ في الآدميين مِنْ قِبَل فَقْد الآباء وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأُمهات». وقال الماوردي: «إن اليُتْمَ في الناس أيضاً من قِبَل فَقْد الأمَّهات» والأولُ هو المعروفُ عند أهلِ اللغةِ يقال: يَتُم يَيْتُم يُتْماً مثل: كرُم يكرُم وعَظُم يَعْظُم عُظْماً، ويَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثلَ: سَمِعَ يَسْمَع سَمْعاً، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء، ويقال: أَيْتمه اللهُ إيتاماً أي فَعَل به ذلك. وعلامةُ الجرِّ في القربى واليتامى كسرةٌ مقدَّرة في الألفِ، وإن كانَتْ للتأنيثِ، لأنَّ ما لا ينصرفُ إذا أُضيف أو دَخَلَتْه أل انجرَّ بالكسرة، وهل يُسَمَّى حينئذٍ منصرفاً أو مُنْجرَّا؟ ثلاثةُ أقوالُ يُفَصَّل في الثالث بين أن يكونَ أحدَ سببيه العلميةُ فيُسَمَّى منصرفاً نحو: «يَعْمُرُكمْ» أو لا فيُسَمَّى منجرَّا نحو: بالأحمر، والقُرْبى واليتامى من هذا الأخير.
قوله: «والمساكين» جمعُ مِسْكين، ويُسَمُّونه جَمْعاً لا نظيرَ له في الآحاد وجَمْعاً على صيغةِ منتهى الجموع، وهو من العِلَل القائمةِ مَقامَ عِلَّتين، وسيأتي تحقيقُه قريباً في هذه السورةِ.
وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقِه عند ذِكْرِ المَسْكَنة واختُلِف فيه: هل هو بمعنى الفقيرِ أو أسوأُ حالاً منه كقوله: {
٥٧٤ - وَقرَّبْتُ بالقُرْبى وجَدِّك إنه | متى يَكُ أَمْرٌ للنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ |
٥٧٥ - أمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُه | وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ |
قوله: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ هذه الجِِملةُ عَطْفٌ على قولِه ﴿لاَ تَعْبُدُونَ﴾ في المعنى، كأنه قال: لا تَعْبدوا إلا الله وأَحْسِنوا بالوالدين وقُولوا، أو على «أَحْسِنوا» المقدَّر كما تقدَّم تقريرُه في قوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾، وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقولٍ محذوف تقديرُه: «وقلنا لهم قولوا. وقرئ: حَسَناً بفتحتين وحُسُناً بضمتين، وحُسْنى من غير تنوين كحُبْلى، وإحساناً من الرباعي.
فامَّا قراءة» حُسْناً «بالضم والإِسكان فيَحْتمل أوجهاً، أحدُها وهو الظاهرُ: أنه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه: وقولوا للناسِ قَوْلاً حُسْناً أي: ذا حُسْن. الثاني: أن يكونَ وُصِفَ به مبالغةً كأنه جُعِلَ القولُ نفسُه حَسَناً. الثالث: أنه صفةٌ على وزن فُعْل وليس أصلُه المصدرَ، بل هو كالحُلْو والمُرّ،
وأمَّا قراءةُ» حَسَناً «بفتحتين وهي قراءةُ حمزة والكسائي فصفةٌ لمحذوف، تقديرُه: قولاً حَسَناً كما تقدَّم في أحد أوجه» حُسْنا «.
وأمَّا» حُسُناً «بضمَّتين فضمةُ السينِ للإِتباعِ للحاءِ فهو بمعنى» حُسْناً «بالسكون وفيه الأوجهُ المتقدمةُ.
وأمَّا مَنْ [قَرَأَ] » حُسْنى «بغير تنوين، فَحُسْنَى مصدرٌ كالبُشْرى والرُّجْعى. وقال النحاس في هذه القراءةِ:» ولا يجوزُ هذا في العربية، لا يُقال من هذا شيءٌ إلا بالألفِ واللامِ نحو: الكُبْرى والفُضْلَى، هذا قول سيبويه، وتابعه ابنُ عطية على هذا، فإنه قال: «وردَّه سيبويه لأن أَفْعَل وفُعْلى لا يجيء إلا معرفةً، إلا أن يُزال عنها معنى التفضيل، ويَبْقى مصدراً كالعُقْبى فذلك جائزٌ وهو وجهُ القراءةِ بها. انتهى وقد ناقشهَ الشيخ، وقال:» في كلامِه ارتباكٌ لأنه قال: لأنَّ أفْعَل وفُعْلى لا يَجِيءُ إلا معرفةً، وهذا ليس بصحيح. أمَّا «أَفْعَل» فله ثلاثةُ استعمالاتٍ، أحدُها: أن يكونَ معه «مِنْ» ظاهرةً أو مقدرةً، أو مضافاً إلى نكرةً، ولا يَتَعرَّفُ في هذين بحالٍ. الثاني: أن يَدْخُلَ عليه أَلْ فيتعرفَ بها، الثالث: أن يُضَاف إلى معرفةٍ فيتعرَّفَ على الصحيح. وأمَّا «فُعْلى» فلها استعمالان، أحدُهما بالألفِ واللام، والثاني: الإِضافةُ لمعرفةٍ وفيها الخلافٌُ السابقُ. وقولُه: «إلا أَنْ يُزال عنها معنى التفضيلِ ويبقى مصدراً»
ثم أجابَ الشيخُ عن هذا الثاني بما معناه أنَّ الضميرَ في قولِه «عنها» عائدٌ إلى «حُسْنى» لا إلى فُعْلى أنثى أَفْعل، ويكون استثناءً منقطعاً كأنه قال: إلا أَنْ يُزال عن حُسْنى التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويَصير المعنى: إلا أَنْ يُعْتقد أنَّ «حُسْنى» مصدرٌ لا أنثى أَفْعَل، وقولُه: «وهو وجهُ القراءة بها» أي: والمصدرُ وَجْهُ القراءة بها. وتخريجُ هذه القراءةِ على وجهين، أحدُهما: المصدرُ كالبشرى وفيه الأوجهُ المتقدمة في «حُسْناً» مصدراً إلا أنه يَحْتاج إلى إثباتُ حُسْنى مصدراً من قولِ العرب: حَسُنَ حُسْنَى، كقولهم: رَجَع رُجْعى، إذ مجيء فُعْلى مصدراً لا يَنْقَاس. والوجهُ الثاني أن تكونَ صفةً لموصوفٍ محذوفٍ؛ أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنى أو مقالةً حُسْنى. وفي الوصف بها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للتفضيلِ، ويكونُ قد شَذَّ استعمالُها غيرَ معرَّفةٍ بال ولا مضافةٍ إلى معرفةِ كما شَذَّ قولٌه:
٥٧٦ - وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ | يَوْماً سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا |
وأمَّا مَنْ قرأ» إحساناً «فهو مصدرٌ وَقَع صفةً لمصدرٍ محذوف أي قولاً إحساناً، وفيه التأويلُ المشهورُ، وإحساناً مصدرٌ من أَحْسَن الذي همزتُه للصيرورةِ أي قولاً ذا حُسْنٍ، كما تقولُ:» أَعْشَبَتِ الأرضُ «أي: صارت ذا عشبٍ. وقوله: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ [البقرة: ٤٣] تقدَّم نظيره.
قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قال الزمخشري:» على طريقةِ الالتفات «وهذا الذي قاله إنما يَجيءُ على قراءةِ» لا يَعْبدون «بالغيبة، وأمَّا على قراءةِ الخطابِ فلا التفاتَ البتةَ، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ بالالتفاتِ الخروجَ مِنْ خطابِ بني إسرائيل القدماءِ إلى خطابِ الحاضرين في زمنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قيل بذلك، ويؤيِّده قولُه تعالى: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ﴾ قيل: يعني بهم الذي أسْلموا في زمانِه عليه السلام كعبدِ الله بن سَلاَّم وأضرابه، فيكونُ التفاتاً على القراءَتين. والمشهورُ نَصْبُ» قليلاً «على الاستثناء لأنه مِنْ/ موجب. ورُوِي عن أبي عمرو وغيره:» إلا قليلٌ «بالرفع.
وفيه ستةُ أقوال، أصحُّها: أنَّ رفعه على الصفة بتأويل «إلا» وما بعدها بمعنى غَيْر. وقد عَقَد سيبويه رحمه الله في ذلك باباً في كتابه فقال: «هذا بابٌ ما يكونُ فيه» إلاَّ «وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل»، وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا إلا رجلٌ
٥٧٧ - في سَعْي دُنْيا طالما قَدْ مُدَّتِ | ................................ |
٥٧٨ -.......................... | قليلٌ بها الأصواتُ إلا بُغامُها |
٥٧٩ - وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخوه | لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ |
٥٨٠ - وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه | لِوَصْلِ خليلٍ صارمٌ أو معارِزُ |
٥٨١ - لدَمٍ ضائِعٍ تغيَّبَ عنه | أَقْربوه إلا الصَّبا والجَنُوبُ |
٥٨٢ - وبالصَّريمةِ منهم منزلٌ خَلَقٌ | عافٍ تَغَيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتِدُ |
و «منكم» صفةٌ لقليلاً، فهي في محلِّ نصبٍ أو رفعٍ على حَسَب القراءتين. والظاهرُ أن القليلَ مرادٌ بهم الأشخاصُ لوَصْفِه بقوله «منكم». وقال ابن عطية: «ويُحتمل أَنْ تكونَ القلةُ في الإِيمان، أي: لم يَبْقَ حينَ عَصَوا وكَفَر آخرُهم بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا إيمانٌ قليلٌ إذ لا ينفعهم، والأولُ أقوى» انتهى. وهذا قولٌ بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تَوَلَّيْتُم». وفيها قولان، أحدُهما: أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ التولِّيَ والإِعراضَ مترادفان. وقيل: مبيِّنةٌ، فإن التولِّيَ بالبدنِ والإِعراضَ بالقلبِ، قاله أبو البقاء: وقال بعدَه: «وقيل: تَوَلَّيْتم يعني آباءهم، وأنتم مُعْرِضُون يعني أنفسَهم، كما قال: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ [الأعراف: ١٤١] أي: آباءَهم» انتهى. وهذا يُؤَدِّي إلى [أنّ] جُمْلَةَ قوله ﴿وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ لا تكون حالاً، لأنَّ فاعلَ التولِّي في الحقيقة ليس هو صاحبَ الحال والله أعلم. وكذلك تكون مبيِّنةً إذا اختَلَفَ متعلَّقُ التولِّي والإِعراضِ كما قال بعضُهم: ثم تَوَلَّيْتم عن أَخْذِ ميثاقكم وأنتم مُعْرِضون عن هذا النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: التولِّي والإِعراضُ مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سَلَكَ طريقاً ورجَع عَوْدَه على بَدْئِه سُمِّي ذلك تولِّياً، وإنْ سَلَكَ في عُرْضِ الطريقِ سُمِّي إعراضاً وجاءَتِ الحالُ جملةً اسميةً مصدَّرةً ب «أنتم» لأنه آكد. وجيء بخبرِ المبتدأ اسماً لأنه أدلُّ على الثبوتِ فكأنه قيل: وأنتم عادَتُكم التولِّي عن الحقِّ والإِعراضُ عنه.
قوله: ﴿مِّن دِيَارِكُمْ﴾ متعلِّقٌ بتُخْرِجُون ومِنْ لابتداءِ الغايةِ. ودِيار جمع دَار والأصل: دَوَر، لأنها من دَار يدُور دَوَراناً، وأصلُ دِيار: دِوار، وإنما قُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلَها، واعتلالِها في الواحدِ. وهذه قاعدةٌ مطَّردة في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيحِ اللام قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علةٍ نحوُ: دار ودِيار وثِياب، ولذلك صَحًّ «رِواء» لاعتلال لامه، و «طِوال» لتحرُّكِ عينِ مفردِه وهو طويلٍ، فأمَّا «طِيال» في طِوال فشاذٌّ. وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو: قامَ قِياماً وصامَ صِياماً، ولذلك صَحَّ «لِواذ» لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم: لاوَذ، وأمَّا «دَيَّار» فهو من لفظة الدَّار، وأصلُه دَيْوار، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه: فَيْعال لا فَعَّال، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل: دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام. والدارُ مجتمعُ القومِ من الأبنية. وقال الخليل: «كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس، وإن لم يكن أبنيةً».
وقرئ: «تَسْفُكُون» بضم الفاء، و «تُسَفِّكون» من سَفَّك مضعفاً، «وتُسْفِكون» من أَسْفك الرباعي.
وقوله: ﴿دِمَآءَكُمْ﴾ يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه، أحدها: إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبَّب، أي: إذا سَفَكْتُمْ
٥٨٣ - سَقَيْناهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها | ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا |
قوله: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ قال أبو البقاء: «فيه وجهان، أحدُهما أنَّ» ثُمَّ «على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي. والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه: فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم. والثاني: أن تكونَ» ثُمَّ «جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر عنه، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ﴾ [يونس: ٤٦].
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ كقوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ [البقرة: ٨٣].
الثاني: أن» أنتم «أيضاً مبتدأٌ، و» هؤلاء «خبرُه، ولكنْ بتأويل حذفِ مضافٍ تقديرُه: ثم أنتم مثلُ هؤلاء، و» تقتلونَ «حالٌ أيضاً، العاملُ فيها معنى التشبيه، إلا أنَّه يلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين، لأن المرادَ بهم أسلافُهم على هذا، وقد يُقال: إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ.
الثالث: وَنَقَله ابنُ عطية عن شيخِه ابن الباذش أن» أنتم «خبرٌ مقدمٌ، و» هؤلاء «مبتدأٌ مؤخرٌ، وهذا فاسدٌ؛ لأن المبتدأ والخبرَ متى استويا تعريفاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدُّمُ الخبرِ، وإنْ وَرَد [منه] ما يُوهِم فمتأوَّلٌ.
الرابع: أنَّ» أنتم «مبتدأٌ، و» هؤلاء «منادى حُذِفَ منه حرفُ النداءِ، و» تقتلون «خبرُ المبتدأ، وفَصَلَ بالنداءِ بين المبتدأ وخبرِه. وهذا لا يُجيزه جمهورُ البصريين، وإنما قال به الفراءُ وجماعةٌ وأنشدوا:
٥٨٤ - إنَّ الأُولى وُصِفُوا قومي لَهُمْ فَبِهِمْ | هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداك مَخْذولا |
٥٨٥ - هَذِي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رَسيسا | ثم انصرَفْتِ وما شَفَيْتِ نَسيسا |
الخامس: أنَّ «هؤلاء» موصولٌ بمعنى الذي. و «تَقْتُلون» صلتُه، وهو خبرٌ عن «أنتم» أي: أنتم الذين تقتلونَ. وهذا أيضاً ليس رأيَ البصريين، وإنما قالَ به الكوفيون، وأنشدوا:
٥٨٦ - عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ | أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ |
السادسُ: أن «هؤلاء» منصوبٌ على الاختصاصِ، بإضمارِ «أعني» و «أنتم» مبتدأٌ، وتقتلونَ خبرُه، اعترَض بينهما بجملةِ الاختصاصِ، وإليه ذهب ابن كيسان. وهذا لا يَجُوز؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنَّ الاختصاصَ لا يكون بالنكراتِ ولا أسماءِ الإِشارةِ، والمستقرأُ مِنْ لسانِ العرب أنَّ المنصوبَ على الاختصاصِ: إمَّا «أيُّ» نحو: «اللهم اغْفِر لنا أَيَّتُها العِصابةَ»، أو معرَّفٌ بأل [نحو] : نحنُ العربَ أَقْرى الناس للضيفِ، أو بالإِضافةِ نحو: «نحن معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ» وقد يَجِيءُ عَلَما كقولِه:
السابع: أن يكونَ ﴿أَنْتُمْ هؤلاء﴾ [على] ما تقدَّم مِنْ كونِهما مبتدأ وخبراً، والجملةُ من «تقتلون» مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها، يعني أنتم هؤلاء الأشخاصُ الحَمْقَى، وبيانُ حماقتِكم أنكم تقتلون أنفسَكم وتُخْرِجون فريقاًَ منكم من ديارِهم، وهذا ذكره الزمخشري في سورة آل عمران في قوله: ﴿هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ﴾ [آل عمران: ٦٦] ولم يَذْكُرَه هنا، وسيأتي بنصِّه هناك إنْ شاء الله تعالى.
قوله: ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ هذه الجملةُ في محل نصب على الحال من فاعل ﴿تُخْرِجُونَ﴾ وفيها خمسُ قراءات: «تظَّاهرون» بتشديد الظاء، والأصل: تَتَظاهرون فأُدْغِم لقُرْبِ التاء من الظاء، و «تَظَاهرون» مخفَّفاً، والأصل كما تقدَّم، إلا أنَّه خفَّفَه بالحذف. وهل المحذوفُ الثانية وهو الأَوْلى لحصول
٥٨٨ - تَعَاطَسُون جميعاً حولَ دارِكُمُ | فكُلِّكم يا بني حمدانَ مَزْكُومُ |
٥٨٩ - تَظَاهَرْتُمُ أَسْتاهَ بيتٍ تَجَمَّعَتْ | على واحدٍ لا زِلْتُمُ قِرْنَ واحِدِ |
ويَحْتَمِلُ أن يُتَجَوَّزَ به عَمَّا يُوجِبُ الاثمَ إقامةً للسَّبب مُقَامَ المُسَيَّب كقول الشاعر:
٥٩٠ - شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي | كذاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ |
قوله: ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ﴾ إنْ شرطيةٌ ويَأْتوكم مجزومٌ بها بحَذْفِ النونِ والمخاطبُ مفعولٌ، و «أُسارى» حالٌ من الفاعل في «يأتوكم». وقرأ الجماعةُ غيرَ حمزة «أُسارى»، وقرأ هو أَسْرَى، وقُرئ «أَسارى» بفتح الهمزة. فقراءةُ الجماعة تحتمل أربعة أوجه، أحدُها: أنه جُمِعَ جَمْعَ كَسْلان لِمَا جَمَعَهما مِنْ عدمِ النشاطِ والتصرُّف، فقالوا: أَسير وأُسارى [بصم الهمزة] كَكَسْلان وكُسَالى وسَكْران وسُكارى، كما أنه قد شُّبِّه كَسْلان وسَكْران به فجُمِعا جَمْعَه الأصليَّ الذي هو على فَعْلَى فقالوا: كَسْلان وكَسْلى، وسَكْران وسَكْرى كقولهم: أَسير وأَسْرى. قال سيبويه: «فقالوا في جمع كَسْلان كَسْلَى شبَّهوه بأَسْرى كما قالوا أُسارى شبَّهوه بكُسالى»، ووجهُ الشبه أن الأَسْر يَدْخُل على المَرْءِ كَرْهاً، كما يَدْخُل الكسل، قال
الثاني: أن أُسارى جمعُ أَسير، وقد وَجَدْنا فَعِيلاً يُجْمع على فُعَالى قالوا: شيخٌ قديم وشيوخٌ قُدامى، وفيه نظرٌ فإن هذا شاذٌّ لا يُقاس عليه.
الثالث: أنه جَمْعُ أسير أيضاً وإنما ضَمُّوا الهمزةَ من أُسارى وكان أصلُها الفتح كنديم ونَدامى [كما ضُمَّتِ الكافُ والسينُ من كُسَالى وسُكارى] وكان الأصلُ فيهما الفتحَ نحو: عَطْشَان وعَطَاشى.
الرابع: أنه جَمْعُ أَسْرى الذي [هو] جمعُ أسير فيكونُ جَمْعَ الجمعِ.
وأمَّا قراءةُ حمزةَ فواضحةٌ؛ لأن فَعْلى ينقاس في فَعيل بمعنى مُمَات أو مُوْجَع نحو: جَريح وجَرْحى وقَتيل وقَتْلى ومَريض ومَرْضى.
وأما «أَسارَى» بالفتح فلغةٌ ليست بالشاذة، وقد تقدَّم أنها أَصْلُ أُسارى بالضم [عند بعضهم]، ولم يَعْرف أهلُ اللغة فَرْقاً بين أُسارى وأَسْرى إلا ما حكاه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: «ما كان في الوَثاق فهم الأُسارى وما كان في اليدِ فهم الأَسْرَى. ونَقَلَ عنه بعضُهم الفرقَ
والأسيرُ مشتق من الإِسار وهو القَيْدُ الذي يُرْبط [به المَحْمَلُ، فسُمِّي الأسير أسيراً لشدة وَثاقه، ثم اتُّسِعَ فيه فَسُمِّي كلُّ مأخوذٍ بالقَهْرِ أَسيراً وإن لم يُرْبَط]. والأسْر: الخَلْق في قوله تعالى ﴿وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ﴾ [الإنسان: ٢٨]، وأُسْرَة الرجل مَنْ يتقوَّى بهم، والأُسْرُ احتباسُ البولِ، رجلٌ مَأْسورٌ [أذا] أصابَه ذلك: وقالت العرب: «أَسَرَ قَتَبه» أي: شَدَّه. قال الأعشى:
٥٩١ - وقَيَّدني الشِّعْرُ في بيتِه | كما قَيَّد الآسِراتُ الحمارا |
قوله: ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ قرأ نافع وعاصم والكسائي: «تُفادُوهم»، وهو جوابُ الشرطِ فلذلك حُذِفَت نونُ الرفعِ، وهل القراءتان بمعنىً واحدٍ، ويكونُ معنى فاعَلَ مثلَ معنى فَعَل المجرد نحو: عاقَبْت وسافَرْت، أو بينهما
٥٩٢ - ولكنِّني فادَيْت أمِّي بعدما | عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ |
بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما | لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ |
٥٩٣ - قفي فادِي أسيرَكِ إنَّ قومي | وقومَك لا أرى لهمُ اجتماعا |
٥٩٤ - مَهْلاً فِداءً لكَ الأقوامُ كلُّهمُ | وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ |
٥٩٥ -................................. | فِدَىً لَكَ مِنْ رَبٍّ طَريفي وتالدي |
قوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ﴾ هذا موضعٌ يَحْتاجُ لفضلِ نَظَرٍ، والظاهرُ من الوجوهِ المنقولةِ فيه أن يكونَ «هو» ضميرَ الشأنِ والقصةِ فيكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «مُحَرَّمٌ» خبرٌ مقدمٌ وفيه ضميرٌ قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، و «إخراجُهم» مبتدأ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبرِ في محلِّ رفعِ خبراً لضميرِ الشأن، ولم يَحْتَجْ هنا إلى عائدٍ على المبتدأ لأنَّ الخبرَ نفسُ المبتدأ وعينُه.
وهذه الجملةُ مفسِّرةٌ لهذا الضمير، وهو أحدُ المواضعِ التي يُفَسَّرُ فيها المضمرُ بما بعدَه، وقد تقدَّمَتْ وليس لنا من الضمائرِ ما يُفَسَّر بجملةٍ غيرُ هذا الضمير، ومِنْ شَرْطِه أن يؤتى به في مواضعِ التعظيم وأنْ يكونَ معمولاً للابتداءِ أو نواسِخه فقط،
الوجهُ الثاني: أن يكونَ «هو» ضميرَ الشأنِ أيضاً، و «مُحَرَّمٌ» خبرُه، [و «إخراجُهم» مرفوعٌ] على أنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه. وهذا مذهبُ الكوفيين وتابَعهم المهدوي، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول، لأنَّ عندهم [أنَّ الخبرَ المحتمِّل ضميراً] مرفوعاً لا يجوزُ تقديمُه على المبتدأ فلا يُقال: «قائمٌ زيدٌ» على أن يكونَ «قائمٌ» خبراً مقدَّماً، وهذا عند البصريين [ممنوعٌ لِمَا عَرَفْتَه أنَّ ضميرَ] الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، والاسمُ المشتقُّ الرافعُ لِما بعدَه من قبيلِ المفرداتِ لا الجملِ فلا يُفَسَّر به ضميرُ الشأنِ.
الثالث: أن يكونَ «هو» كنايةً عن الإِخراجِ، وهو مبتدأ، و «مُحَرَّمٌ» خبرُه، و «إخراجُهم» بدلٌ منه، وهذا على أحدِ القولين وهو [جوازُ إبدالِ الظاهرِ من] المضمرِ قبله ليفسِّرَه، واستدلَّ مَنْ أجازَ ذلك بقوله:
٥٩٦ - على حالةٍ لَوْ أنَّ في القومِ حاتِماً | على جُودِه لَضَنَّ بالماءِ حاتِمِ |
الرابع: أن يكونَ «هو» ضميرَ الإِخراجِ المدلولَ عليه بقوله «وتُخْرِجون»، و «مُحَرَّمٌ» خبره و «إخراجُهم» بدلٌ من الضميرِ المستترِ في «مُحَرَّمٌ».
السادس: أجاز الكوفيون أن يكونَ «هو» عماداً وهو الذي يُسَمِّيه البصريون ضميرَ الفصل قُدِّم مع الخبر لِما تقدَّم، والأصلُ: وإخراجُهم هو مُحَرَّمٌ عليكم، فإخراجُهم مبتدأ، ومُحَرَّم خبره، وهو عِمادٌ، فلمَّا قُدِّمَ الخبرُ قُدِّمَ معه.
قال الفراء: «لأن الواوَ هنا تَطْلبُ الاسمَ، وكلُّ موضعٍ تطلب فيه الاسمَ فالعمادُ جائزٌ» وهذا عند البصريين ممنوعٌ من وجهين: أحدُهما: أن الفصلَ عندهم مِنْ شرطِهِ أن يَقَعَ بين معرفَتَيْن أو بين معرفةٍ ونكرةٍ قريبةٍ من المعرفةِ في امتناع دخول أل كأَفْعَل مِنْ، ومثلٍ وأخواتها. والثاني: أنَّ الفصلَ عندهم لا يجوز تقديمُه مع ما اتصل به. ولهذه الأقوالِ مواضعُ يُبْحث فيها عنها.
السابع: قال ابن عطية: «وقيل في» هو «إنه ضميرُ الأمرِ، والتقديرُ: والأمرُ مُحَرَّم عليكُم، وإخراجُهُمْ في هذا القولِ بدلٌ من» هو «انتهى. قال الشيخ:» وهذا خطأٌ من وجهين، أحدُهما: تفسيرُ ضميرِ الأمرِ بمفردٍ وذلك
الثامن: قال ابنُ عطية أيضاً: «وقيل» هو «فاصلةٌ، وهذا مذهبٌ الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و» مُحَرَّم «على هذا ابتداءٌ، و» اخراجُهم «خبرٌ». قال الشيخ: «والمنقولُ عن الكوفيين عكسُ هذا الإِعرابُ، أي: يكونُ» إخراجُهم «مبتدأ مؤخراً، و» مُحَرَّم «خبرٌ مقدمٌ، قُدِّم معه الفصلُ كما مرَّ، وهو الموافِقُ للقواعدِ، وألاَّ يَلزَم منه الإِخبارُ بمعرفةٍ عن نكرةٍ من غير ضرورةٍ تَدْعو إلى ذلك.
التاسع: نَقَله ابنُ عطية أيضاً عن بعضِهم أن» هو «الضميرَ المقدَّرَ في» مُحَرَّم «قُدِّمَ وأُظْهِر، قال الشيخ:» وهذا ضعيفٌ جداً، إذ لا ضرورةَ تدعو إلى انفصالِ هذا الضميرِ بعد استتارهِ وتقديمهِ، وأيضاً فإنه يلزَمُ خُلُوُّ اسمِ المفعولِ مِنْ ضميرٍ، إذ على هذا القولِ يكونُ «مُحَرَّم» خبراً مقدَّماً و «إخراجُهم» مبتدأ، ولا يُوجد اسمُ فاعلٍ ولا مفعولٍ خالياً من الضمير إلا إذا رَفَعَ الظاهرَ، ثم يبقى هذا الضميرُ لا ندري ما إعرابُه؟ إذ لا يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ولا فاعلاً مقدَّماً «وفي قول الشيخ:» يَلْزَمُ خُلُوُّه من ضميرٍ «نظرٌ، إذ هو ضميرٌ مرفوعٌ به فلم يَخْلُ منه، غايةُ ما فيه أنه/ انفصلَ للتقديم، وقوله:»
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ محذوفةً من الجملِ المذكورة قبلَها، وذلك أنه قد تقدَّم ذكرُ أربعةِ أشياءَ كلُّها مَحُرَّمةٌ، وهي قولُه: «تَقْتُلون أنفسَكم، وتُخْرِجُون، وتُظاهرون، وتُفادون، فيكونُ التقدير: تقتلون أنفسَكم وهو مُحَرَّمٌ عليكم قتلُها، وكذلك مع البواقي. ويجوز أن يكونَ خَصَّ الإِخراجَ بذكر التحريمِ وإنْ كانَتْ كلُّها حَراماً، لِما فيه من مَعَرَّة الجلاءِ والنفي الذي لا ينقطعُ شرُّه إلا بالموت والقتلِ، وإنْ كان أعظمَ منه إلا أنَّ فيه قطعاً للشرِّ، فالإِخراجُ من الديارِ أصعبُ الأربعةِ بهذا الاعتبار.
والمُحَرَّمُ: الممنوعُ، فإنَّ الحرامَ هو المَنْعُ من كذا. والحَرامُ: الشيءُ الممنوعُ منه يُقَالُ: حَرامٌ عليك وحَرَمٌ عليك، وسيأتي تحقيقُه في الأنبياء.
قوله: ﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ﴾ :» ما «يجوز فيها وجهان، أحدُهما أن تكونَ نافيةً و» جزاء «مبتدأ، و» إلاَّ خِزْيٌ «» خبرُه «وهو استثناءٌ مفرغٌ، وبَطَلَ عَمَلُ» ما «عند الحجازيين لانتقاضِ النفي ب إلاَّ، وفي ذلك خلافٌ طويلٌ وتفصيلٌ منتشرٌ، وتلخيصُه أنَّ خبرَها الواقعَ بعد» إلاَّ «: جمهورُ البصريين على وجوبِ رَفْعِه مطلقاً، سواءً كان هو الأولَ أو مُنَزَّلاً منزلَته أو صفةً أو لم يكُنْ، ويتأوَّلون قوله:
قوله:: منكم» في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ «يفعل» فيتعلَّقُ بمحذوف أي: يفعلُ ذلك حالَ كونِه منكم.
قوله: ﴿فِي الحياة﴾ يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «خزي»، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: خِزْيٌ كائنٌ في الحياة، والثاني: أن يكونَ محلُّه النصبَ على أنه ظرفٌ للخِزْي فهو منصوبٌ به تقديراً.
والجَزاءُ: المقابَلَةُ، خيراً كان أو شراً، والخِزْيُ: الهَوانُ، يُقال: خَزِيَ بالكسر يخزى خِزْياً فهو خَزْيانُ، وامرأة خَزْيا والجمع خَزايا، وقال ابن السكيت: «الخِزْيُ الوقوعُ في بَلِيَّة، وخَزِيَ الرجلُ في نفسِه يَخْزَى خَزَايَةً إذا استحيا».
والدُّنْيا فُعْلَى تأنيثُ الأدْنى من الدُنُوِّ، وهو القُرْب، وألِفُها للتأنيثِ، ولا تُحْذَفُ منها أل إلا ضرورةً كقوله:
٥٩ - ٧- وما الدهرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بأَهْلِه | وما صاحبُ الحاجاتِ إلاَّ مُعَذِّبَا |
٥٩٨ - يومَ ترى النفوسُ مَا أعَدَّتِ | في سَعْي دُنْيَا طالمَا قد مُدَّتِ |
٥٩٩ - أداراً بحزوى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً | فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ |
وقُرئ:» يُرَدُّون «بالغَيْبَةِ على المشهورِ. وفيه وجهان: أحدُهما: أن يكونَ التفاتاً فيكون راجعاً إلى قوله:» أفتؤمنون «فَخَرَج من ضميرِ الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، والثاني: أنَّه لا التفاتَ فيه، بل هو راجِعٌ إلى قولِه:» مَنْ يفعَل «، وقرأ الحسن» تُرَدُّون «بالخطابِ، وفيه الوجهانِ المتقدِّمان، فالالتفاتُ نظراً لقولِه:» مَنْ يفعل «وعدمُ الالتفات نظراً لقوله:» أفتؤمنون «.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ يجوز في «هم» وجهانِ، أحدُهما: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وما بعده خبرُه، ويكون قد عَطَفَ جملةً اسميةً على جملةٍ فعليةٍ وهي: ﴿فلا يُخَفَّفَ﴾. والثاني: أن يكونَ مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرهُ هذا الظاهرُ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ، ويكونُ كقولِه:
٦٠٠ - وإنْ هُو لم يَحْمِلْ على النفسِ ضَيْمَها | فليسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ |
وقَفَّينا أصله: قَفَّوْنا، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً، واشتقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه، ثم اتُّسع فيه، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع، وقال أمية:
٦٠١ - قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ | وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ |
و ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ متعلِّقٌ به، وكذلك «بالرُسل»، وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غيرُ مَقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن، والضمُّ لغةُ تميم، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى «ن» أو «كم» أو «هم» فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ.
قوله: «عيسى» عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضع، فقال سيبويه: «وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى» يَعْني بالياءِ الألفَ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ. وقال الفارسي: «أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرةِ». وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي: «وزنه فِعْلَل» فالألفُ عنده
قوله: «ابنَ مريم» عطفُ بيان أو بدلٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ «ابن مريم» جرى مَجْرَى العلم له. وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى، وتقدَّم اشتقاقُ «ابن» وأصلُه.
ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم ينصرِفْ، وفي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِرُ مخالطَة الرجال كالزِّير من الرجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ، قال رؤبة:
٦٠٢ - قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ | ...................................... |
قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ معطوفٌ على قوله: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى﴾. وقرأ الجمهور/ أيَّدْناه على فَعَّلْناه، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروي عن أبي عمرو «آيَدْنَاه» على: أَفْعَلْناه، والأصلُ في أَاْيَدَ بهمزتين، ثانيتُهما ساكنةٌ فوجَبَ إبدالُ الثانيةِ ألفاً نحو: أَأْمَنَ وبابِه، وصححت العينُ وهي الياءُ كما صَحَّتْ في «أَغْيَلَت» و «أَغْيَمَت»، وهو تصحيحٌ شاذٌّ إلا في فِعْل التعجب نحو: ما أَبْيَنَ
وقال الزمخشري في المائدة: «آيَدْتُك على أَفْعَلْتُك» وقال ابن عطية: «على فاعَلْتُك» ثم قال: «ويَظْهَرُ أن الأصلَ في القراءتين: أَفْعَلْتُك ثم اختَلَفَ الإِعلالُ». انتهى.
والذي يظهر أن «أيَّد» فَعَّل لمجيء مضارِعِه على يُؤَيِّدُ بالتشديدِ، ولو كان أَيَّد بالتشديد بزنة أَفْعَلَ لكان مضارعُه يُؤْيِدُ كيُؤْمِنُ من آمَنَ، وأمَّا آيَدَ يعني بالمَدِّ فيُحتاج في نَقْلِ مضارعه إلى سَماعٍ، فإنْ سُمِعَ يُؤايِدُ كيُقاتِل فهو فاعَل، فإنْ سُمع يُؤْيِدُ كيُكْرِمُ فآيد أَفْعَل، ذكر ذلك جميعَه الشيخُ في
والأَيْدُ: القوَّةُ، قال عبد المطلب:
٦٠٣ - الحمدُ للهِ الأَعزِّ الأكرمِ | أَيَّدَنا يومَ زُحوفِ الأشْرَمِ |
قوله: ﴿بِرُوحِ القدس﴾ متعلِّق بأيَّدْناه. وقرأ ابن كثير:» القُدْس «بإسكانِ الدال، والباقون بضمِّها، وهما لغتان: الضمُّ للحجاز، والإِسكانُ لتميم، وقد تقدَّم ذلك، وقرأ أبو حَيْوة:» القُدُوس «بواوٍ، وفيه لغةُ فتحِ القاف والدال ومعناه الطهارةُ أو البركةُ كما تقدَّم عند قولِه:» ونقدِّسُ لك «. والروح في الأصل: اسمٌ للجزءِ الذي تَحْصُلُ به الحياةُ في الحيوان قاله الراغب،
٦٠٤ - وجبريلٌ رسولُ الله فينا | وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ |
قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ الهمزةُ هنا للتوضيحِ والتقريعِ، والفاءُ للعطفِ عَطَفَتْ هذه الجملةَ على ما قبلَها، واعتُنِيَ بحرفِ الاستفهام فقُدِّمَ، وقد مَرَّ تحقيقُ ذلك، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّر بين الهمزةِ وحرفِ العطْفِ جملةً ليَعْطِفَ عليها. وهذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلها من غيرِ حَذْفِ شيء، كأنه قال: ولقد آتَيْنا يا بني إسرائيلَ أنبياءَكم ما آتيناهُمْ فكلما جاءَكم رسُولٌ. ويجوز أَنْ يُقَدَّر قبلَها محذوفٌ أي: فَفَعَلْتُم ما فَعَلْتُم فكلما جاءَكم رسولٌ. وقد تقدَّم الكلام في» كلما «عند قولِه:
﴿كُلَّمَا أَضَآءَ﴾ [البقرة: ٢٠]. والناصبُ لها هنا «استكبرتم»، و «رسول» فَعُول بمعنى مَفْعُول أي مُرْسَل، وكونُ فَعُول بمعنى المَفْعُول قليلٌ، جاء منه الرَّكُوب والحَلُّوب أي: المَرْكُوب والمَحْلُوب، ويكون مصدراً بمعنى الرسالة قاله الزمخشري. وأنشد:
٦٠٥ - لقد كَذَبَ الواشون ما فُهْتُ عندَهم | بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برَسول |
قوله: ﴿بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ﴾ متعلِّق بقوله «جاءكم»، و «جاء» يتعدى بنفسِه تارةً كَهذِه الآية، وبحرفِ الجرِّ أُخْرى نحو: جِئْتُ إليه، و «ما» موصولةٌ
٦٠٦ - في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ | لا يُبْصِرُ الكلبُ في ظَلْمائها الطُّنُبا |
قوله: ﴿فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ﴾ الفاءُ عاطفةٌ جملةَ» كَذَّبْتم «على» استكبرتم «و» فريقاً «مفعولٌ مقدَّم قُدِّم لتتفقَ رؤوسَ الآي، وكذا ﴿وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾، ولا بُدَّ من محذوفٍ أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرةُ فَرِيقٍ من الرسلِ بالتكذيب ومبادَرَةُ آخرين بالقتلِ، وقَدَّم التكذيبَ لأنه/ أولُ ما يفعلونه من الشرِّ ولأنه مشتركٌ بين المقتولِ وغيره، فإنَّ المقتولِين قد كذَّبوهم أيضاً، وإنما لم يُصَرِّحْ به لأنه ذَكَرَ أقبحَ منه في الفعلِ. وجيء ب» تقتلون «مضارعاً: إمَّا لكونِه مستقبلاً لأنهم كانوا يَرُومون قَتْلَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولِما فيه من مناسبة رؤوسِ الآيِ والفواصِل، وإمَّا أن يُرادَ به الحالُ الماضيةُ أن الأمرَ فظيعٌ فأُريد استحضارُه في النفوس وتصويرُه في القلوب. وأجازَ الراغب أَنْ يكونَ ﴿فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ﴾ معطوفاً على قوله» وأَيَّدْناه «ويكونُ» أفكلما «مع ما بعده فَصْلاً بينهما على سبيلِ الإِنكار، والأظهرُ هو الأولُ، وإنْ كان ما قاله محتملاً.
قوله: ﴿بَل لَّعَنَهُمُ الله﴾ «بل» حرفُ إضرابٍ، والإِضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق. والإِضرابُ على قسمين: إبطالٍ وانتقالٍ، فالأول نحو: ما قام زيدٌ بل عمروٌ، ولا تَعْطِفُ «بل» إلا المفردات، وتكونُ في الإِيجاب والنفي والنهي، ويُزاد قبلها «لا» تأكيداً. واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والبُعْدُ، ومنه: شَأْوٌ لعين أي بعيد: قال الشمَّاخ.
٦٠٧ - ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه | مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ |
قوله: ﴿فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ في نصبِ «قليلاً» ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو الأظهرُ: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: فإيماناً قليلاً يُؤمنون. الثاني: أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي: فيؤمنونه أي الإِيمانَ في حالِ قلَّته، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره. الثالث: أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله: ﴿آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ﴾ [آل عمران: ٧٢]. الرابع: أنه على إسقاطِ الخافض والأصل: فبقليل يؤمنون، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب، ويُعْزَى لأبي عبيدة.
الخامس: أن يكونَ حالاً من فاعل «يؤمنون»، أي فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون أي المؤمِنُ فيهم قليلٌ، قال معناه ابنُ عباس وقتادة. إلا أن المهدوي قال: «ذهب قتادة إلى أنَّ المعنى: فقليلٌ منهم مَنْ يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كانَ كذلك لَلَزِمَ رفعُ» قليل «. قلت: لا يلزمَ الرفعُ مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لِما تقدَّم من أنَّ نصبَه على الحالِ وافٍ بهذا المعنى: و» ما «على هذه الأقوالِ كلها مزيدةٌ للتأكيد. السادس: أن تكونَ» ما «نافيةً أي: فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، ومثلُه: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠]، ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣]، وهذا قويٌ من جهة المعنى، وإنما يَضْعُفُ شيئاً من جهةٍ تقدُّم ما في حَيِّزها عليها، قاله أبو البقاء، وإليه ذهب ابن الأنباري، إلا أنَّ تقديمَ
والجمهورُ على رفع «مُصَدِّقٌ» على أنه صفةٌ ثانيةٌ، وعلى هذا يُقال: قد وُجِدَ صفتان إحداهُما صريحةٌ والأخرى مؤولةٌ، وقد قُدِّمَتِ المؤولةُ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك غيرُ ممتنع وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً. والذي حَسَّنَ تقديمَ غير الصريحة أنَّ الوصفَ بكينونَتِه مِنْ عندِ الله آكدُ، وأنَّ وصفَه بالتصديقِ ناشىءٌ عن كونه من عندِ الله. وقرأ ابن أبي عبلة «مُصَدِّقاً» نصباً، وكذلك هو في مصحفِ أُبيّ، ونصبُه على الحال، وفي صاحِبها قولان، أحدُهما أنه «كتاب». فإنْ قيل: كيفَ جاءت الحالُ مِن النكرة؟ فالجوابُ أنها قد قَرُبَتْ من المعرفة لتخصيصِها بالصفةِ وهي ﴿مِّنْ عِندِ الله﴾ كما تقدَّم. على أنَّ سيبويهِ أجاز مجيئَها منها بلا شرطٍ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري. والثاني: أنه الضمير الذي تَحَمَّله الجارُّ والمجرورُ لوقوعِه صفةً، والعاملُ فيها إمَّا:
٦٠٨ - لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ | يَلُوح كأنَّه خِلَلُ |
قوله: ﴿وَكَانُواْ﴾ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «جاءهم» فيكونُ جوابُ «لَمَّا» مرتَّباً على المجيءِ والكونِ. والثاني: أن يكونَ حالاً أي: وقد كانُوا، فيكونُ جوابُ «لَمَّا» مرتَّباً على المجيءِ بقيدٍ في مفعولِه وهم كونُهم يَسْتَفْتِحون. قال الشيخ: «وظاهرُ كلامِ الزمخشري أن» وكانوا «ليسَتْ معطوفةً على الفعلِ بعد» لَمَّا «ولا حالاً، لأنه قدَّر جوابَ» لَمَّا «محذوفاً قبل تفسيره» يستفتحون «، فَدلَّ على أنَّ قوله» وكانوا «جملةٌ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ من قولِه: ولَمَّا، وهذا هو الثالثُ.
و ﴿مِن قَبْلُ﴾ متعلقٌ بيَسْتَفْتِحون، والأصل، من قبلِ ذلك، فلمَّا قُطِعَ بُنِيَ على الضمِّ.
و «يَسْتَفْتحون» في محلِّ النصبِ على خبر «كان». واختلف النحويون في جوابِ «لَمَّا» الأولى والثانية. فَذَهَبَ الأخفش والزجاج إلى أنَّ
وذهب المبردُ إلى أنَّ «كفروا» جوابُ «لَمَّا» الأولى وكُرِّرت الثانيةُ لطولِ الكلام، ويُفيد ذلك تقريرَ الذنبِ وتأكيدَه، وهو حسنٌ، لولا أنَّ الفاءَ تَمْنع من ذَلك. وقال أبو البقاء بعد أن حَكَى وجهاً أولَ: «والثاني: أنَّ» كفروا «جوابُ الأولى والثانية لأنَّ مقتضاهما واحدٌ. وقيل: الثانيةُ تكريرٌ فلم يُحْتَجْ إلى جواب» قلت: «قولُه:» وقيل الثانية تكريرٌ «هو ما حَكَيْتُ عن المبرد، وهو في الحقيقة ليس مغايراً للوجه الذي ذَكَره قبله من كون» كفروا «جواباً لهما بل هو هو.
قوله: ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ جملةٌ من مبتدأ أو خبرٍ مُتَسَبِّبَةٌ عَمَّا تقدَّم. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعل، وأتى ب» على «تنبيهاً على أنَّ اللعنةَ قد
٦٠٩ - صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ | بنِعْمَ طيرٍ وشبابٍ فاخِرِ |
أمَّا، «ما» الواقعةُ بعدَها كهذه الآيةِ: فاختلف النحويون فيها اختلافاً كثيراً، واضطربت النقولُ عنهم اضطراباً شديداً، فاختلفوا: هَلْ لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ فذهبَ الفراء إلى أنها مع «بِئْسَ» شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ «
٦١٠ - لنِعْمَ الفتى أَضْحَى بأَكْنافِ حَائِل | ............................... |
قوله: ﴿أَن يَكْفُرُواْ﴾ قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فتكونُ الأوجهُ الثلاثة: إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه، ولا حاجةَ إلى الرابطِ، لأنَّ العمومَ قائمٌ مَقامَه إذ الألفُ واللامُ في فاعلِ نِعْم وبئسَ للجنسِ، أو لأنَّ الجملةَ نفسُ المبتدأ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف، وتقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ بدلاً أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقرَّر وتحرَّر. وأجاز الفراء أن يكونَ في محلِّ جَرِّ بدلاً من الضميرِ في «به» إذا جَعَلْتَ «ما» تامَّة.
قوله: ﴿بِمَآ أنَزَلَ الله﴾ متعلِّق بيكفُروا، وقد تقدَّم أنَّ «كفر» يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى، و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْزله، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وكذلك جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بإنزالِه يعني بالمُنَزَّل.
قوله: ﴿بَغْيَاً﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ مِنْ أَجْله وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ، وفي الناصبِ له قولان، أحدُهما وهو الظاهر أنه «يكفروا» أي علةُ كفرِهم البغيُ. والثاني أنه ﴿اشتروا﴾، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشري، فإنه قال: «وهو علةُ ﴿اشتروا﴾. والثاني من الأوجهِ الثلاثة: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْيَاً. والثالث: أنه في موضعِ حالٍ، وفي صاحِبها القولان المتقدَّمان: إمَّا فاعلُ ﴿اشتروا﴾ وإمَّا فاعلُ ﴿يَكْفُرُواْ﴾، تقديرُه: اشْتَرَوا باغِين، أو يَكْفُروا باغِين.
٦١١ - أُنْشِدُ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ | قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ |
قوله ﴿أَن يُنَزِّلُ الله﴾ فيه قولان، أحدُهما: أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له» بَغْياً «أي: عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمدٍ عليه السلامُ. والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ: بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ، أي: حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ، فيجيءُ فيه الخلافُ المشهورُ: أهي في موضعِ نصبٍ أو في موضعِ جرِ؟ والثالثُ: أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من» ما «في قوله: ﴿بِمَآ أنَزَلَ الله﴾ بدلَ اشتمال، أي: بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس:
٦١٢ - أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ | ..................................... |
قوله: ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ :» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، وفيه قولان، أحدُهما: أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ» يُنَزِّل «أي: أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب. والثاني: أنَّ» مِنْ «زائدةٌ، وهو رأيُ الأخفش، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي: أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله.
قوله ﴿على مَن يَشَآءُ﴾ متعلقٌ بيُنَزِّلَ. و» مَنْ «يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ، والتقديرُ: على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجويزِه في» مَنْ «أن تكونَ موصوفةً أو موصولةً» ومفعولُ «يشاء» محذوفٌ أي: يَشَاءُ نزولَه عليه، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي «انتهى.
وقد عَرَفْت أن العائدَ المجرورَ لا يُحْذَفُ إلا بشروطٍ وليسَتْ موجودةٌ هنا فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ.
قوله: ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾ فيه قولان: أحدُهما: أنَّه حالٌ من الضميرِ المحذوفِ
قوله: ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ﴾ الباءُ للحال، أي: رَجَعوا ملتبسين بغضبٍ أي مغضوباً عليهم وقد تقدم ذلك. قوله ﴿على غَضَبٍ﴾ في محل جر لأنه صفة لقوله «بغضب» أي: كائن على غضب أي بغضبٍ مترادفٍ. وهل الغضبانِ مختلفانِ لاختلافِ سببهما، فالأولُ لعبادةِ أسلافِهم العجلَ والثاني لكفرِهم بمحمدٍ السلام، أو الأولُ لكفرِهم بعيسى والثاني لكفرِهم بمحمدٍ صلى الله وسلم عليهما، أو هما شيءٌ واحدٌ وذُكِرا تشديداً للحال وتأكيداً؟ خلافٌ مشهور.
قوله: ﴿مُّهِينٌ﴾ صفة لعذاب، وأصلُه: «مُهْوِن» لأنه من الهَوان وهو اسمُ فاعلٍ من أَهان يُهين إهانةً، مثل أَقامَ يُقيم إقامةً، فنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ على الساكن قبلَها، فَسَكَنَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فَقُلِبَتْ ياءً. والإِهانةُ: الإِذلالُ والخِزْيُ، وقال: «وللكافرين» ولم يَقُلْ: «ولهم» تنبيهاً على العلةِ المقتضيةِ للعذابِ المُهينِ.
٦١٣ -.................................... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا
وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه: ﴿بِمَا أَنْزَلَ﴾ وأُقيم المفعولُ مُقامَه للعلم به، إذ لا يُنَزِّلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه: ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾.
قوله: ﴿بِمَا وَرَآءَهُ﴾ متعلَّق بيَكْفرون، وما موصولةٌ، والظرفُ صلتُها، فمتعلَّقه فعلٌ ليس إلا. والهاءُ في «وراءه» تعودُ على «ما» في قوله: ﴿نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ﴾. ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ، وهو ظرفُ مكانٍ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام، فهو من الأَضْداد، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى «سِوَى» التي بمعنى «غَيْر»، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد». وفي همزه قولان، أحدُهما: أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم: وُرَيْئَة. والثاني: أنها من ياء لقولهم: تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ. ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤُه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو «واو» اسمِ حَرْفِ الهجاء، وحكمُه حكمُ قبلُ
٦١٤ - إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يَكُنْ | لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وراءُ |
قوله: ﴿وَهُوَ الحق﴾ مبتدأٌ وخبر، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه: «ويَكفرون» وصاحبُها فاعلُ يكفرون. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العاملُ الاستقرارَ الذي في قولِه ﴿بِمَا وَرَآءَهُ﴾ أي: بالذي استقر وراءَه وهو الحقُّ.
قوله: ﴿مُصَدِّقاً﴾ حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه ﴿وَهُوَ الحق﴾ قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ: إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو:
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠]، وإمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ مضمونَ جملةٍ. فإن كانَ الثاني التُزِم إضمارُ عاملِها وتأخيرها عن الجملة، ومثلُه ما أنشدَ/ سيبويه:
٦١٥ - أنا ابنُ دارةُ مَعْروفاً بها نَسَبي | وهَلْ بدارةَ لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ |
قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: إنْ كنتم آمنتم بما أُنزِلَ عليكم فَلِمَ قَتَلتم الأنبياءَ؟ وهذا تكذيبٌ لهم، لأن الإِيمانَ بالتوراةِ منافٍ لقتلِ أَشْرَفِ خَلْقِه. و» لِمَ «جارٌّ ومجرورٌ، اللامُ حرفٌ جرِ وما استفهاميةٌ في محلِّ جَرٍّ أي: لأي شيء؟ ولكنْ حُذِفَتْ ألِفُها فَرْقَاً بينَها وبين» ما «الخبريةِ. وقد تُحْمَلُ الاستفهاميةُ على الخبريةِ فَتَثْبُتُ أَلفُها، قالَ الشاعر:
٦١٦ - على ما قامَ يَشْتِمُني لئيمٌ | كخنزيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ |
قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ في» إنْ «قولان أحدهما: أنها شرطية وجوابُها محذوفٌ تقديرُه: إنْ كنتُمْ مؤمنينَ فلِمَ فَعَلْتُم ذلك، ويكونُ الشرط وجوابُه قد كُرِّر مرتين، فَحُذِفَ الشرطُ من الجملةِ الأولى وبقي جوابُه وهو: فَلِمَ تقتلون، وحُذِفَ الجوابُ من الثانيةِ وبقي شرطُه، فقد حُذِفَ مِنْ كلِّ واحدةٍ ما أُثْبت في الأخرى. وقال ابن عطية:» جوابُها متقدِّمٌ، وهو قوله: فَلِمَ «وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الكوفيين وأبي زيد. والثاني: أَنَّ» إنْ «نافيةٌ بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاةِ ما صَدَر منكم الإِيمانَ.
٦١٧ - إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ | فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا |
٦١٨ - جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي | ......................... |
٦١٩ - تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي | فبادِيه مع الخافي يَسيرُ |
تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ | ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ |
أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها | أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ |
قوله: «بكُفْرهم» فيه وجهان، أظهرُهما: / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [٤١ / ب] ب «أُشْرِبوا»، أي: أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق. والثاني: أنها بمعنى «مع»، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي: أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم. والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ، أي: بأَنْ كفروا. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ كقولِه: ﴿بِئْسَمَا اشتروا﴾ [البقرة: ٩٠] فَلْيُلْتفت إليه.
الثالث: أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ، و» خالصةً «حالٌ أيضاً، والعاملُ فيها: إمَّا» كانَ «أو الاسقرارُ، وكذلك» لكم «. وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا:» لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به «. وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء. واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال:» وسَوَّغَ أن يكونَ «عند» خبرَ كان «لكم»، يعني لفظَ «لكم» سَوَّغَ وقوعَ «عند» خبراً، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ، ونظيرُه قولُه: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، لولا «له» لم يَصِحَّ أن يكونَ «كفواً» خبراً. و ﴿مِّن دُونِ الناس﴾ في محلِّ النصبِ ب «خالصةً» لأنَّك تقولُ: «خَلُصَ كذا مِنْ كذا».
وقرأ الجمهورُ: «َتَمَنَّوُا الموتَ» بضمِّ الواو، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً، واختلاسُ الضمة. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو «لَوِ استطعنا». و «إنْ كنتم» كقوله: ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ وقد تقدَّمَ.
قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ متعلِّقٌ بيتمنَّوْه، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ. و» ما «يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: كونُها موصولةً بمعنى الذي. والثاني: نكرةٌ موصوفةٌ والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْه، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني. والثالث: أنَّها مصدريَّةٌ أي: بتَقْدِمَةِ أيديهِم. ومفعولُ» قَدَّمَتْ «محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه.
٦٢٠ - يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ | فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ |
قوله: ﴿على حَيَاةٍ﴾ متعلِّق ب «أَحْرَصَ»، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى ب «على»، تقول: حَرَصْتُ عليه. والتنكيرُ في «حياة» تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ «على الحياة» بالتعريفِ. وقيل: إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: على طُولِ حياةٍ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ، بل يكونُ المعنى: أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ. وإنْ قُلْتَ: فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك. وأصلُ حياة: حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً.
قولُه: ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حُمِل على المعنى، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس: أَحْرَصَ من الناسِ، فكأنه قيل: أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا. الثاني: أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، والتقديرُ: وأحرصَ من الذين أشركوا، وعلى ما تقرَّر من كونِ ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر «مِنْ» لأنَّ «أَحرصَ» جَرى على اليهودِ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ «مِنْ» لكانَ معطوفاً على الناس، فيكونُ في المعنى: ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون
الثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرصَ الناسِ، فيكونُ ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ صفةً لمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ معطوفٌ على الضمير في «لتجدنَّهم»، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيبُ لا سيما على قولِ مَنْ يَخُصُّ التقديمَ والتأخيرَ بالضرورةِ. وعلى القولِ بانقطاعهِ من «أَفْعل» يكونُ ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ خبراً مقدَّماً. ، و «يَوَدُّ أحدُهم» صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم، وهو من الأماكن المطَّردِ فيها حَذْفُ الموصوفِ بِجُمْلَتِه، كقولِه: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، وقوله: «مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام». والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ اليهودِ كما تقدم. وأجاز الزمخشري أن يكونَ من اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ الله، فيكونَ إخباراً بأنَّ مِنْ هذه الطائفة التي اشتدَّ حرصُها على الحياةِ مَنْ يَوَدُّ لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ، ويكون من وقوعِ الظاهِرِ المُشْعِر بالغَلَبة موقعَ المضمرِ، إذا التقديرُ: ومنهم قومٌ يَوَدُّ أحدُهم. وقد ظَهَرَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الكلامَ مِن باب عَطْفِ المفرداتِ على القولِ بدخول ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ تحت أَفْعَل، ومن بابِ عَطْفِ الجمل على القولِ بالانقطاعِ.
قوله: «يَوَدُّ أحدُهم» هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم، فإنْ قيل بأنَّ ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ﴾ داخلٌ تحتَ «أَفْعَلَ» كان في «يَوَدُّ» خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنه حالٌ من الضمير في «لَتَجِدَنَّهم» أي: لتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم. الثاني: أنه حالٌ من الذين أشركوا فيكونُ العاملُ فيه «أَحْرَصَ» المحذوف. الثالث: أنه حالٌ من فاعلِ «أشْركوا». الرابع: أنه مستأنفٌ استؤنفَ للإِخبار بتبيينِ حالِ أمرِهم في
و «يودُّ» مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ بخلافٍ «يَعِد» وبابه، وحكى الكسائي في «ودَدْت» بالفتحِ. قال بعضُهم: «فعلى هذا يُقال يَوِدُّ بكسر الواو». والوَدادة التمني.
قوله: «لو يُعَمَّر» في «لو» هذه ثلاثةُ أقوال، أحدُها - وهو الجاري على قواعِد نحاةِ البصرة -: أنها حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ «يَوَدُّ» عليه، وحُذِفَ مفعولُ «يَوَدُّ» لدلالةِ «لو يُعَمَّرَ» عليه، والتقديرُ: يَوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلَّ عليه الآخرُ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب. والثاني - وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء -: أنها مصدرية بمنزلة أَنْ الناصبةِ، فلا يكونُ لها جوابٌ، ويَنْسَبِكُ منها وما بعدَها مصدرٌ يكونُ مفعولاً ليَوَدُّ، والتقدير: يَوَدُّ أحدُهم تعميرَه ألفَ سنةٍ. واستدلَّ أبو البقاء بأنَّ الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يَلْزَمُها المستقبل ك «أَنْ»، وبأنَّ «يودُّ» / يتعدَّى لمفعول وليس مِمَّا يُعَلَّق، وبأنَّ «أَن» قد وَقَعَتْ بعد يَوَدُّ في قوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ [البقرة: ٢٦٦] وهو كثيرٌ، وموضعُ الردِّ عليه غيرُ الكتابِ. الثالث - وإليه نحا الزمخشري -: أن يكونَ معناها التمني فلا تحتاجُ إلى جوابٍ لأنها في
و «ألفَ سَنَةٍ» منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ. وفي «سَنَة» قولان «أحدُهما: أنَّ أصلَها: سَنَوة لقولهم: سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ. والثاني: أنها من سَنَهَة لقولِهم: سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ، واللغتان ثابتتان عن العربِ كما ذَكَرْتُ لك.
قوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب﴾ في هذا الضميرِ خمسةُ أَقْوالٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على» أحد «وفيه حينئذٍ وَجْهان، أحدُهما: أنه اسمُ» ما «الحجازيةِ، و» بمُزَحْزِحِه «خبرُ» ما «، فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة.
و «أَنْ يُعَمَّر» فاعلٌ بقولِه «بمُزَحْزِحِه»، والتقديرُ: وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه. الثاني من الوجهين في «هو» : أن يكونَ مبتدأ، و «بمُزَحْزِحِهِ» خبرُه، و «أَنْ يُعَمَّر» فاعلٌ به كما تقدَّم، وهذا على كَوْنِ «ما» تميميَّةً، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه: ﴿مَا هذا بَشَراً﴾ [يوسف: ٣١]، ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ [المجادلة: ٢].
الثاني من الأقوال: أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من «يُعَمَّر»، أي:
الثالثُ: أن يكونَ كناية عن التعميرِ، ولا يعودُ على شيء قبلَه، ويكونُ «أن يُعَمَّر» بدلاً منه مفسِّراً له، والفرقُ بين هذا وبين القولِ الثاني أنَّ ذاك تفسيرُه شيءٌ متقدِّمٌ مفهومٌ من الفعلِ، وهذا مفسَّرٌ بالبدلِ بعده، وقد تقدَّم أنَّ في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: «ويجوزُ أن يكونَ» هو «مبهماً، و» أَنْ يُعَمَّر «موضِّحَه».
الرابع: أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ وإليه نحا الفارسي في «الحلبيَّات» موافقةً للكوفيين، فإنهم يُفَسِّرون ضميرَ الأمرِ بغيرِ جملةٍ إذا انتظَمَ من ذلك إسنادٌ معنويٌّ، نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدانَ، وما هو بقائمٍ زيدٌ، لأنه في قوة: ظننتُه يقومُ الزيدان، وما هو يقومُ زيدٌ، والبصريُّون يَأْبَوْن تفسيرَه إلا بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجُزْئَيْها سالمةٍ من حرفِ جرٌّ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين.
الخامسُ: أنَّه عِمادٌ، نعني به الفصلَ عند البصريين، نَقَلَه ابن عطية عن الطبري عن طائفةٍ، وهذا يحتاجُ إلى إيضاح: وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبرِ المقدَّم، يقولون في: زيدٌ هو القائمُ: هو القائمُ زيدٌ، وكذلك هنا، فإنّ الأصلَ عند هؤلاءِ أَنْ يكونَ «بمُزَحزِحِه» خبراً مقدَّماً و «أَنْ يُعَمَّر» مبتدأً مؤخراً، و «هو» عَمادٌ، والتقديرُ: وما تعميرُه هو بمزحزحِه، فلمَّا قُدِّم الخبرُ قُدِّم معه العِمادُ. والبصريُّون لا يُجِيزون شيئاً من ذلك.
و «من العذابِ» متعلِّقٌ بقوله: «بمُزَحْزِحِه» و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
٦٢١ - يا قباضَ الروحِ مِنْ نَفْسٍ إذا احْتَضَرَتْ | وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عَنِ النارِ |
٦٢٢ - يا قابضَ الروح مِنْ جِسْم عَصَى زَمَنَاً | ........................... |
٦٢٣ - خليلَيَّ ما بالُ الدُّجى لا يُزَحْزَحُ | وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يَتَوَضَّحُ |
﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ مبتدأٌ وخبرُه، و «بما» متعلِّقٌ ببصير. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي: يَعْمَلُونه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: بِعَمَلِهم. والجمهورُ «يعملون» بالياء، نَسَقَاً على ما تقدَّم، والحسنُ وغيرُه «تَعْمَلُون» بالتاء للخطاب على الالتفات، وأتى بصيغةِ المضارعِ، وإن كانَ عِلْمُه محيطاً بأعمالِهم السالفةِ مراعاً لرؤوسِ الآي، وخَتْمِ الفواصلِ.
٦٢٤ - فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ | فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني |
٦٢٥ - فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه | فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ |
وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المَزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك.
وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً، أشهرُها وأفصحُها: جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل، وهي قراءةُ
٦٢٦ - وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما | مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ |
٦٢٧ - وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا | وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ |
٦٢٨ - والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له | وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً |
٦٢٩ - شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ | َ الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها |
٦٣٠ - عبَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ | وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا |
[الشعراء: ١٩٣] في قراءةِ مَنْ رَفَع «الروح»، ولقولِه «مصدِّقاً»، وقيل: الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ ﴿نَزَلَ به الروحُ﴾ بالتشديدِ والنَّصْبِ، وأتى ب «على» التي تقتضي
٦٣١ - ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ... دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ: ما ليا
فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ ب «مالك» ؟، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد «قُلْ»، والتقديرُ: قُلْ يا محمد: قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ، وإليه نَحَا الزمخشري بقولِه: «جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي: مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ» فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ «قُلْ»، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ «قُلْ» بالتأويل المذكورِ أولاً، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل: «نَزَّله» إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في «نَزِّلَ» يعودُ على الله، والتقديرُ: فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله. [والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ، والإِيذانُ: الإِعلامُ]، أَذِنَ به: عَلِمَ به. وأذَنْتُه بكذا: أَعْلَمْتُه به،
قولُه: «مُصَدِّقاً» حالٌ من الهاءِ في «نَزَّلَه» إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى، والتقديرُ: فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً، والثاني: أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدةٌ، والهاءُ في «بين يديه» يجوزُ أن تعودَ على «القرآنِ» أو على «جِبْريل».
و «هُدَىً وبُشْرَى» حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هُدَىً، و «بُشْرى» ألفُها للتأنيثِ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطابقاً للترتيبِ الوجودِيِّ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ، والثاني: أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه. والثالث: أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه.
وجَعَل بعضُهم مثلَ هذه الآيةِ - أعني في ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ تشريفاً له - قولَه: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] وهذا فيه نظر؛ فإن «فاكهةٌ» من باب المطلقِ لأنها نكرةٌ في سياقِ الإثبات، وليست من العمومِ في شيءٍ، فإنْ عَنَى أنَّ اسمَ الفاكهةِ يُطْلَقُ عليهما من بابِ صِدْقِ اللفظِ على ما يَحْتمله ثم نَصَّ عليه فصحيحٌ. وأتى باسمِ الله ظاهراً في قوله: ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ﴾ لأنه لو أُضْمِر فقيل: «فإنَّه» لأَوْهم عَوْدَه على اسمِ الشرط فينعكسُ المعنى، أو عَوْدَه على ميكال لأنه أقربُ مذكورٍ. وميكائيل اسمٌ أعجمي، والكلامُ فيه كالكلامِ في جِبْريل من كونِه مشتقاً من مَلَكوت الله أو أن «مِيك» بمعنى عبد، و «إيل» اسمُ الله، وأنَّ تركيبَه تركيبُ إضافةٍ أو تركيبُ مَزْجٍ، وقد عُرِف الصحيح من ذلك.
وفيه سبعُ لغاتٍ: مِيكال بزنة مِفْعال وهي لغةُ الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، قال:
٦٣٢ - ويومَ بَدْرٍ لقِيناكم لنا عُدَدٌ | فيه مع النصرِ مِيكالٌ وجِبريلٌ |
الثانيةُ: كذلك، إلا أنَّ بعدَ الألفِ همزةً وبها قرأ نافع. الثالثة: كذلك إلا أنه بزيادةِ ياءٍ بعد الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين. الرابعة: مِيكَئِيل مثل مِيكَعِيل وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة: كذلك إلاَّ أنه لا ياءَ بعد الهمزة فهو مثلُ: مِيكَعِل وقُرىء بها. السادسةُ: ميكاييل بيائين بعد الألف وبها قرأ الأعمش. السابعة: ميكاءَل بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألفِ كما يُقال: إسراءَل. وحكى الماوَرديُّ عن ابن عباس أن «جَبْر» بمعنى عَبْد بالتكبير، و «مِيكا» بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جِبْريل: عبد الله، ومعنى مِيكائيل: عُبَيْد الله قال: «ولا يُعْلَمُ لابنِ عباس في هذا مخالفٌ». قوله: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون﴾ هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد تقدَّم أن الفراءَ يُجِيز فيه النصبَ.
٦٣٣ -................... | ............ |
٦٣٤ -....................... | .............. أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ |
٦٣٥ -...................... | ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ |
وقُرِىءَ:» عَهِدُوا «فيكونُ» عهْداً «مصدراً/ جارياً على صَدْرِه، وقُرىء أيضاً:» عُوْهِدُوا «مبنياً للمفعولِ»
قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ هذا فيه قولان، أحدُهما: أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ، وتكونُ «بل» لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ «بل» لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ. والثاني: أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ «أكثرُهم» معطوفاً على «فريقٍ»، و «لا يؤمنون» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من «أكثرُهم». وقال ابن عطية «من الضمير في» أكثرُهم «، وهذا الذي قاله جائزٌ، لا يُقال: إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ: وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ، والنَّبْذُ: الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ.
٦٣٦ - تَميمُ بنُ مُرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي | بِظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جوابُها |
٦٣٧ - إنَّ الذين أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا | نَبَذُوا كتابَك واسْتَحَلُّوا المَحْرَما |
٦٣٨ - وخَبَّروني مَنْ كنتُ أرسلْتُ أنَّما | أَخَذْتَ كتابي مُعْرِضاً بشِمالكا |
نظْرتَ إلى عنوانِه فنبذْتَه | كنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا |
٦٣٩ - وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه | كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ |
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها | فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ |
وقرأ الحسن والضحاك:» الشياطُون «إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ، قالوا: وهو غَلَطٌ. وقال بعضُهم: لَحْنٌ فاحِشٌ. وحكى الأصمعي:» بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون «وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن.
قوله: ﴿على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ فيه قولان: أحدُهما: أنه على معنى في، أي: في زمنِ ملكِه، والمُلْكُ هنا شَرْعُه. والثاني: أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى:
والتلاوةُ: الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه. وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ. وقال أبو البقاء:» وفيه ثلاثةُ أسبابٍ: العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ «وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية، وكَرَّر قولَه ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله:
٦٤٠ - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ | .................. |
قوله: ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ﴾ هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها.
وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ «لكنْ» ورَفْعِ ما بَعْدها، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ. وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ «لكنْ» مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ. وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ
٦٤١ - إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ | لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ |
قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾ «الناسَ» مفعولٌ أولُ، و «السحرَ» مفعولٌ ثانٍ. واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال، أحدُها: أنها حالٌ من فاعل «كفروا»، أي: كفروا مُعَلِّمينَ. الثاني: أنها حالٌ من الشياطين، ورَدَّه أبو البقاء بأنَّ «لكنّ» لا تعملُ في الحال. وليس بشيء فإن «لكنَّ» فيها رائحةُ الفعل. الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين. الرابعُ: أنها بدلٌ من «كَفروا» أبدلَ الفعلَ من الفعلِ. الخامسُ: أنَّه استئنافيةٌ، أخبرَ عنهم بذلك، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من «يُعَلِّمون» على الشياطين، أمَّا إذا أَعَدْناه على «الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ» فتكونُ حالاً من فاعلِ «اتَّبعوا»، أو استئنافيةً
٦٤٢ -................... | أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ |
٦٤٣ - أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ | ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ |
قوله: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ﴾ فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على «السِّحْر»، والتقديرُ: يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن. الثاني: أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على ﴿مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ والتقديرُ: واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً.
الثالث: أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على «مُلْكِ سليمان» والتقديرُ: افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين. وقال أبو البقاء: «تقديرُه: وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل». الرابع: «أنَّ» ما «حرفُ نفيٍ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها، وهي ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾، والمعنى: وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ.
قوله ﴿بِبَابِلَ﴾ متعلِّقٌ بأُنِزِلَ، والباءُ بمعنى» في «أي: في بابل: ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في» أُنْزل «فيتعلَّق بمحذوفٍ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء.
وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية، وسُمِّيَتْ بذلك قال: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ. والبَلْبَلَةُ: التفرقةُ، وقيل: لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها» ثمانينَ «، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً. وقيل: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود.
قوله: ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ الجمهورُ على فَتْح تائِهما، واختلف النحويون في إعرابهما، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في» المَلَكَيْنِ «: فَمَنْ فَتَحَ لامَ» المَلَكَيْنِ «وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بَدَلٌ من» الملَكَيْنِ «، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ. الثاني: أنهما عطفُ بيانٍ لهما. الثالث: أنهما بدلٌ من» الناس «في قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ الناس﴾
٦٤٤ - أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها | وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ |
وقرأ الحسن: هاروتُ وماروتُ برفعهما، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هما هاروتُ وماروتُ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من «الشياطين» الأولِ، وهو قولُه: ﴿مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه. ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا.
قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها. والجمهور على «يُعَلِّمان» مُضَعَّفاً، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين: أحدُهما: أنه على بابِه من التعليم. والثاني: أنه بمعنى يُعْلِمان من «أَعْلم»، فالتضعيفُ والهمزةُ
٦٤٥ - تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً | فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ |
٦٤٦ - تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً | وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً |
٦٤٧ - تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي | وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ |
٦٤٨ - تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا | على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ |
٦٤٩ - إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها | تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ |
٦٥٠ - فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه | ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ |
٦٥١ - فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ | ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا |
٦٥٢ -.............................
وقال:
٦٥٣ - لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ | أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ |
٦٥٤ - إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى | بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ |
وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو.
قوله: ﴿حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ حتى: حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ «أَنْ» ولا يجوزُ إظهارها، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ، والتقديرُ: إلى أَنْ يقولا، وهي متعلقةٌ بقولِه: «وما يُعَلِّمانِ» والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولاَ «وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ
٦٥٥ - ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً | حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ |
واعلم أنَّ» حتى «تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية، وكقولِه: ﴿حتى مَطْلَعِ [الفجر] ﴾ [القدر: ٥]، وتكونُ حرفَ عطفٍ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [الجملُ كقوله] :
٦٥٦ - فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها | بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ |
قوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ، أظهرُها، أنَّها معطوفةٌ على قولِه: «وما يُعَلِّمان» والضميرُ في «فيتعلَّمون» عائدٌ على «أحد».
الثاني: أنه معطوفٌ على ﴿يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾ قاله الفراء. وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في «يُعَلِّمون» مع إتيانِه بضميرِ التثنية في «منهما»، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ: «منهم» لأجلِ «يَعَلِّمون»، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه، وقالوا: لا يمتنع عَطْفُ «فيتعلَّمون» على «يُعَلِّمون» وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً، والضميرُ في «منهما» راجعٌ إليهما، فإنَّ قوله «منهما» إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ.
وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ، وذلك أَنَّ الضميرَ في «مِنهما» عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ «فيتعلَّمون منهما» عَطْفٌ على «يُعَلِّمون» فيكونُ التقديرُ: «يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما» فيلزم الإِضمارُ في «منهما» قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ.
الثالث: - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على «كفروا»، و «كفروا» فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ، قال سيبويه: «وارْتفَعَتْ» فيتعلَّمون «لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا: لا تَكْفُرْ
الرابع: وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: «فهم يتعلَّمون»، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ.
الخامس: قال الزجاج أيضاً: «والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» يُعَلِّمان فيتعلَّمون «فاستغنى عِنْ ذكرِ» يَعَلِّمان «على ما في الكلام من الدليل عليهِ». واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال: «لا وجهَ لقولِه:» استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان «لأنه موجودٌ في النص». وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ «فيتعلَّمون» عطفٌ على «يُعَلِّمان» المنفيِّ ب «ما» في قوله «وما يُعَلِّمان» حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو: يَعَلِّمان فيتعلَّمون.
السادس: انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام، والتقديرُ: فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً.
السابع: قال أبو البقاء: «وقِيل هو مستأنَفٌ» وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه
قوله: «مِنْهُمَا» متعلِّقٌ بيُعَلِّمون. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها.
والثاني: أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ، والثالث: أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه «فَلا تَكْفُرْ» وهو قولُ أبي مسلم.
قوله: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾ الظاهرُ في «ما» أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في «به» عليها، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة.
و «بين المرءِ» ظَرْفٌ ل «يُفَرِّقون». والجمهورُ على فَتْحِ ميم «المَرْء» مهموزاً وهي اللغة العالية. وقرأ ابنُ أبي إسحاق: «المُرْء» بضمِّ الميمِ مهموزاً، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ: «المِرْء» بكسر الميم مهموزاً. فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع، وذلك أنَّ في «المَرْء» لغةً، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ. تقول: «ما قام المُرْءُ» بضم الميم، و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرِها. وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه: «أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن» أي:
قوله: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ يجوز في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الحجازيةَ فيكون «هم» اسمَها، و «بضارِّين» خبرَها، والباءُ زائدةٌ، فهو في محلِّ نصبٍ، والثاني: أن تكونَ التميميةَ، فيكونَ «هم» مبتدأ، و «بضارِّين» خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ. والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ «فيتعلَّمون». الثاني: يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ «واتَّبَعوا». الثالث: يعودُ على الشياطين. والضميرُ في «به» يعودُ على «ما» في قولِه: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾.
والجمهورُ على «بضارِّين» بإثباتِ النونِ و «من أحدٍ» مفعولٌ به، وقرأ الأعمشُ: «بضارِّي» من غيرِ نونٍ، وفي توجيهِ ذلك قولان، أظهرُهما: أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر:
٦٥٧ - ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني | لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم |
٦٥٨ - هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله | إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما |
٦٥٩ - كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً | يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ |
و» مِنْ «في» مِنْ أَحَد «زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾. وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء: إنَّ» أَحَداً «يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ، والمعهودُ زيادةُ» مِنْ «في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو:» ما ضَربْتُ من أحدٍ «إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى: وما يَضُرُّون من أحدٍ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثبوتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية.
قوله: ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ. فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ المستكِنُّ في» بضارِّين «. الثاني: أنه المفعولُ وهو» أَحَدٍ «وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ. والثالثُ: أنَّه الهاءُ في» به «أي بالسحرِ، والتقديرُ: وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلاَّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك. والرابعُ: أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ، إلاَّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه.
قوله: ﴿وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على «يَضُرُّهم» فتكونُ صلةً ل «ما» أيضاً، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب. والثاني - وأجازه أبو البقاء -: أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ
٦٦٠ - تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها | بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها |
قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ﴾ تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ. و «عَلِمَ» يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ: إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً، ونظيرُه في الكلامِ: عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ. والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد «عَلِم» في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ:
٦٦١ - وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى | ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ |
والضميرُ في» عَلِموا «فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ.
قوله: ﴿لَمَنِ اشتراه﴾ في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ ل «عَلِم» عن العملِ كما تقدّم، و «مَنْ» موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «اشتراهُ» صلتُها وعائدُها. و ﴿مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: ما له خلاقٌ في الآخرةِ. وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً ل «مَنْ» الموصولةِ فالجملةُ من قوله: «ولقد عَلِموا» مقسمٌ عليها كما تقدَّم، و «لَمَن اشتراه» غيرُ مقسمٍ عليها، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور. الثاني - وهو قول الفراء، وتَبِعه أبو البقاء -: أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ، و «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و ﴿مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ جوابُ القسمِ، ف «اشتراه» على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ. ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما
٦٦٢ - لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً | أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا |
٦٦٣ - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ | لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ |
والخَلاقُ: النَّصِيبُ، قال الزجاج: «أكثرُ استعمالِه في الخيرِ» فأمَّا قولُه:
٦٦٤ - يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ | إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ |
٦٦٥ -......................... | تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ |
٦٦٦ - فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ | وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ |
قوله: ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه: لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء: «لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ» لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى. والضميرُ في «به» يعودُ على السحرِ أو الكفرِ، وفي «يَعْلَمُون» يعودُ على اليهود باتفاق، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري
و «أنهم آمنوا» مؤولٌ بمصدرٍ، وهو في محلِّ رفعٍ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ، تقديرُه: ولو إيمانُهم ثابتٌ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال، كما شَذَّ نصبُ «غُدْوَةً» بعد «لَدُنْ». وقيل: لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ «أَنَّ»، وصَحَّح
قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه، وعلى هذا فجوابُ «لو» محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره: لأُثيبوا. والثاني: أنها جوابُ لو، فإنَّ «لو» تجابُ بالجملةِ الاسميةِ. قال الزمخشري: «أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في» سلامٌ عليكم «وفي قوع جوابِ» لو «جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع. قال الشيخ:» لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ.
والثاني: أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء، ويقال: «مَثْوَبة» بسكون الثاءِ وفتحِ الواو، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال: «مَثُابة» كمَقامَة، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة. ومعنى «لَمَثُوبة» أي: ثوابٌ وجزاءٌ في من الله. وقيل: لَرَجْعَةٌ إلى الله.
قوله: ﴿مِّنْ عِندِ الله﴾ في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله. والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره. قال الشيخ: «وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ» قلت: ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ، حتى لو قيل في الكلام: «لَمَثُوبة خيرٌ» من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ. والتنكيرُ في «لَمَثُوبَةٌ» يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ، ونظيرُه: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢].
وقوله «خيرٌ» خبرٌ لِمَثُوبَةٌ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ، كقوله: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ [الفرقان: ٢٤] ﴿أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ﴾ [فصلت: ٤٠].
٧٦٦ - لولا ابنُ عُتْبَةَ عمروٌ والرجاءُ له | ما كانَتِ البصرةُ الرَّعْناءُ لي وَطَنا |
٦٦٨ - فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً | من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ |
٦٦٩ - ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ | نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ |
٦٧٠ - أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا | وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا |
قوله: ﴿وَلاَ المشركين﴾ عطفٌ على «أَهْلِ» المجرورِ بمِنْ و «لا» زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين﴾ [البينة: ١] بغيرِ زيادة «لا». وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة، نحو: «برؤوسكم وأرجلكِم» في قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس: «ويجوزُ: ولا المشركونَ بعطفِه على» الذين «وقال أبو البقاء:» وإنْ كان قد قرىء «ولا المشركون» بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك «وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار.
قوله: ﴿أَن يُنَزَّلَ﴾ ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ ب» يَوَدُّ «أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه:» من ربكم «، وأتى ب» ما «في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك.
قولُه: ﴿مِّنْ خَيْرٍ﴾ / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ، و» مِنْ «زائدةٌ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم. وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان» يُنَزَّل «لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ في» مِنْ «أيضاً قولان، أحدُهما: أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل. والثاني: أنها للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه: مِنْ خُيورِ ربِّكم، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه:» مِنْ خيرٍ «أي: مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم، ويكونُ في محلِّها وجهان: الجرُّ على اللفظِ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ» مِنْ «زائدةٌ في» خير «فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم.
وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ «مِنْ» قولين، الأولى: قيل إنها للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس، وفي الثانيةِ قولان: زائدةٌ أو للتبعيضِ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ.
قوله: ﴿والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك. و «يختصُّ» يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً، فإنْ
٦٧١ - نَعَبَ الغرابُ فقلتُ: بَيْنٌ عاجِلُ... ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ
وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين، أحدُهما: أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ
وقرأ ابنُ عامر: «نُنْسِخْ» بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ، قال أبو حاتم: «هو غلطٌ» وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه، وقال أبو عليّ: ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال: نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى: ما نَجِدْه منسوخاً كما يُقال: أَحْمَدْتُه وأَبْخلْتُه، أي: وَجَدْتُه كذلك ثم قال: «وليس نَجِدُه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ»، فالهمزةُ عنده ليس للتعديةِ. وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها، أي: الإِعلامُ به، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليهِ السلام، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً.
وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له، قال: «ويكونُ المعنى: ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في» منها «و» بمثلها «
قوله: ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ «مِنْ» للتبعيضِ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً، والمعنى: أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات ف «آية» مفرد وقع موقِعَ الجمعِ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾ [فاطر: ٢] ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ، ألا ترى أنَّك لو قلت: «مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ» تناوَلَ النساءَ والرجالَ، فإذا قلت: «مِن الرجالِ» بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط.
وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين، أحدهما: أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز، والممَّيز «ما» والتقدير: أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ، قال: «ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ» آية «وبين المميَّز بآية، لا تقول: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز. والثاني:
قولِه: ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ » أو «هنا للتقسيم، و» نُنْسِها «مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه. وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً:» نَنْسَأها «بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير. الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزٍ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال ابن عطية:» وأراه وَهِمَ «. الثالثة:» تَنْسَها «بفتح التاء التي للخطاب، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ، وهي قراءةُ الحسن، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص:» إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال: إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ «وتلا: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٤] يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه
الرابعةُ: كذلك إلا أنه بالهمز: الخامسةُ: كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة: السادسةُ: كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ. السابعة: «نُنْسِها» بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ. الثامنةُ: كذلك إلا أنه بالهمز. التاسعةُ: نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء. العاشرةُ: «نُنْسِكَ. بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب. الحاديةَ عشرة: كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً. الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف:» نُنَسِّكَها «وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه. الثالثةَ عشرةَ:» ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها «وهي قراءةُ الأعمش، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله.
فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم: نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي: أَخَّرَه، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً، وتقولُ العرب: نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً، وأنْسَأَ الإِبلَ: إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء. الثاني: نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن
وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان: أظهرُهما: أنها من النسيانِ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ، وفي بعضِها التركَ. والثاني: أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان. ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء:» نَنْسَاها «من الثلاثي فواضحٌ. وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم: نُنْسِكَها، أي: نجعلُك ناسياً لها، أو يكونُ المعنى: نَأْمُرُ بتركها، يقال: أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه، وأنشدوا:
٦٧٢ - إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها | لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها |
[الإسراء: ٨٦] أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك. وأجابَ الفارسي
قوله: «نَأْت» هو جوابُ الشرط، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ، أعني: مجيئهما مضارِعَيْن. وقوله: «بخيرٍ منها» متعلِّقٌ بِنَأْتِ، وفي «خير» هنا قولان، الظاهرُ منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ، وقولُه: «أو مثلِها» أي في التكليف والثواب، وهذا واضحٌ. والثاني: أن «خيراً» هنا مصدرٌ، وليس من التفضيلِ في شيء، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ، كخير في قوله: ﴿أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٥] و «مِنْ» لابتداء الغاية، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه «خير» أي: خيرٌ صادِرٌ من جهتِها، والمعنى عند هؤلاء: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء. وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك: «أو مثلِها» فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على «بخير» على هذا المعنى، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ، فيكونَ المعنى: نَأْتِ بخيرِ من الخُيور، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء. وأمَّا عَطْفُ «مثلِها» على الضمير في «منها»، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين، لعدمِ إعادةِ الخافضِ، وقوله «ما نَنْسَخْ» فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم، ألا ترى أنَّ قبله «واللهُ يَخْتَصُّ» ﴿والله ذُو الفضل﴾.
والنَّسْخُ لغةً: الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [نحو:] نَسَخْتُ الكتابَ، وقال بعضهُم:
منقطعةٌ هذا هو الصحيحُ في الآيةِ. قال ابنُ عطية «ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ: أَمْ تريدون، وقال قومٌ: أَمْ منقطعةٌ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه: أَمْ عَلِمْتُم، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمتُه عليه السلام، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ» انتهى. وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ لِما مَرَّ أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ، فهو كقولِه: ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الانشراح: ١] والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ كما مَثَّلْتُه لك.
وفي قولِه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله﴾ التفاتان،
أحدُهما: خروجٌ من خطاب جماعةٍ وهو ﴿خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، والثاني: خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلكَ لِما يَخْفَى من التعظيمِ والتفخيم. ﴿أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ : أَنَّ وما في حَيِّزِها: إمَّا سادةٌ مسدَّ مفعولَيْنِ كما هو مذهبُ الجمهورِ، أو واحدٍ والثاني محذوفٌ كما هو مذهبُ الأخفشِ حَسْبَ ما تقدَّم من الخلافِ.
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ﴾ يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: كونُهما تميميَّةً فلا عَمَلَ لها فيكونُ «لكم» خبراً مقدماً، و «مِنْ وليّ» مبتدأً مؤخراً زيدت فيه «مِنْ» فلا تعلُّقَ لها بشيءٍ. والثاني: أن تكونَ حجازيةً وذلك عند مَنْ يُجيز تقديمَ خبرِها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ، فيكونُ «لكم» في محلِّ نصبٍ خبراً مقدَّماً، و «مِنْ وليّ» اسمها مؤخراً، و «مِنْ» فيه زائدةٌ أيضاً، و ﴿مِّن دُونِ الله﴾ فيه وجهان، أحدُهما أنَّه متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به «لكم» من الاستقرارِ المقدَّرِ، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والثاني: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من قوله: ﴿مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، قاله أبو البقاء. فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ غيرِ الذين تعلَّق به «
قوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾.. قد تَقَدَّم أنَّ «أَمْ» هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه: «ألم تَعْلَمْ»، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة قال أبو البقاء: أَمْ هنا منقطعةٌ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم: أيُّهما، والهمزةُ من قولِه: «ألم تعلمْ» ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى: بل أتريدون «فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام. وأصلُ تُريدون: تُرْودُون، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ، وقد تقدَّم، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً. وقيل» أم «للاستفهامِ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل: هي بمعنى بل وحدَها، وهذان قولان ضعيفان.
قوله: ﴿أَن تَسْأَلُواْ﴾ ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله» تُريدون «، أي: أتريدون سؤالَ رسولِكم.
قولُه:» كما سُئِلَ «متعلِّقٌ بتَسْأَلوا، والكافُ في محلِّ نصبٍ، وفيها التقديران المشهوران: فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف
والمشهور:» سُئِل «بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسن:» سِيل «بكسر السين وياء بعدها، مِنْ: سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف، وهل هذه الألفُ في» سال «أصلُها الهمزُ أولا؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في» سَأَلَ «، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ.
و «من قبلُ» متعلق بسُئل، و «قبلُ» مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم.
قوله: ﴿بالإيمان﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنها باء العِوَضيَّة، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. والثاني: أنها للسببية، قال أبو البقاء: «يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل، وتكون الباءُ للسبب كقولك: اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ» وفي مثالِه هذا نظرٌ.
﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها، و «سواءَ»
٦٧٣ - أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها | على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ |
٦٧٤ - يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه | بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ |
٦٧٥ - أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها | يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ |
قوله :﴿ أَن تَسْأَلُواْ ﴾ ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله " تُريدون "، أي : أتريدون سؤالَ رسولِكم.
قولُه :" كما سُئِلَ " متعلِّقٌ بتَسْأَلوا، والكافُ في محلِّ نصبٍ، وفيها التقديران المشهوران : فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف أي : أَنْ تَسْأَلوه أي : السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و " ما " مصدرية، أي : كسؤال موسى، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى. و " موسى " مفعول لم يُسمَّ فاعله، حُذِف الفاعل للعلم به، أي كما سأل قوم موسى.
والمشهور :" سُئِل " بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسن :" سِيل " بكسر السين وياء بعدها، مِنْ : سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف، وهل هذه الألفُ في " سال " أصلُها الهمزُ أولا ؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في " سَأَلَ "، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ.
و " من قبلُ " متعلق بسُئل، و " قبلُ " مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي : من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم.
قوله :﴿ بِالإِيمَانِ ﴾ فيه وجهان، أحدُهما : أنها باء العِوَضيَّة، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. والثاني : أنها للسببية، قال أبو البقاء :" يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل، وتكون الباءُ للسبب كقولك : اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ " وفي مثالِه هذا نظرٌ.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ﴾ قرئ بإدغام الدال في الضاد وإظهارها، و " سواءَ " قال أبو البقاء :" سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله " وهذا صحيحٌ فإنَّ " سَواء " جاء بمعنى وَسَط، قال تعالى :﴿ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ٥٥ ] وقال عيسى بن عمر :" ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي " وقال حسان.
يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه | بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ |
أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها | يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ |
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ]. والجملةُ من قولِه :" فَقَدْ ضَلَّ " في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً.
٦٧٦ - رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ | بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا |
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً | وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا |
و «مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
قوله: ﴿حَسَداً﴾ نصبٌ على المفعولِ له، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه، والعاملُ فيه «وَدَّ» أي: الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم. وجَوَّزوا فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، وإنما لم يُجْمَعْ لكونِه مصدراً، أي: حاسِدِين، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً، والأولُ أظهرُ الثلاثة.
قوله: ﴿مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ، أي: وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ، و «مِنْ» لابتداءِ
قوله: «مِّن بَعْدِ مَا» متعلِّقٌ ب «وَدَّ»، و «مِنْ» للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ، و «ما» مصدريةٌ أي: مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ. والحَسَدُ: تمنِّي زوالِ نعمةِ الإِنسانِ، المصدرُ: حَسَدٌ وحَسَادَة.
والصَّفْحُ قريبُ من العفو، مأخوذٌ من الإِعراض بِصَفْحَةِ العنق، وقيل: معناهُ التجاوزُ، مِنْ تَصَفَّحْتُ الكتاب أي: جاوزت / ورقَه، والصَّفوح: من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأةُ تَسْتُر وجهَها إعراضاً، قال:
٦٧٧ - صَفُوحٌ فما تَلْقاكَ إلاَّ بِحِيلةٍ | فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ |
والجملةُ من قولِه: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن﴾ في محل نصبٍ بالقول، وحُمِلَ أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأُفْرِدَ الضمير في قوله: «كان»، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو «هوداً»، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه، منهم أبو العباس، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و «هائد» من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ، وقال الشاعر:
٦٧٨ - وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما | .......................... |
و «أو» هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله: «وقالوا» فَصَّل القائلين، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس، والتقديرُ: وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً، وقال النصارى: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى، ونظيرُه: ﴿قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١٣٥] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول: كونوا نصارى، ولا النصارى تقول: كونوا هوداً، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي ب «لن» لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ. وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً.
قوله: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ «تلك» مبتدأ، و «أمانِيُّهم» خبرُه، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه: «وقالوا» وبين: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها. والمشارُ إليه ب «تلك» فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها: أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ: «َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ»، أي: تلك المقالةُ أمانيُّهم، فإنْ قيل: فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ، فالمرادُ ب «تلك» الجمعُ من حيث المعنى.
والثاني: - قاله
قوله: ﴿هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ. واختُلِفَ في «هاتِ» على ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه فعلٌ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو: هاتُوا، هاتي، هاتِيا، هاتِين. الثاني: أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ. والثالث - وبه قال الزمخشري -: أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ.
وإذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً، أصحُّها: أن هاءَه أصلٌ بنفسها، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل: رامَى يُرامي مُراماة،
الثاني: أنَّ الهاءَ بَدَلٌ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ: أَأْتى وزنُه: أَفْعَل مثل أَكْرم. وهذا ليس بجيدٍ لوجهين، أحدهما: أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط. والثاني من الوجهين: أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث: أن هذه «ها» التي للتنبيه دَخَلَتْ على «أتى» ولَزِمَتْها، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودٌ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ: احضَرْ أنت، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة. فتحصَّل في «هاتُوا» سبعةُ أقوالٍ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أو لا يتصرفُ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همزةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه؟ وأصلُ هاتوا: هاتِيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا.
قوله: ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ مفعولٌ به، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن، أحدُهما: أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ، ومنه: بُرْهَةُ الزمان أي: القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان. والثاني: أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البيانُ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنيتهم فوزنه فُعْلال، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ «بُرهان» وعدمِه مُسَمَّى به.
٦٧٩ - أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ | ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ |
٦٨٠ - وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ | له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا |
قوله ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ﴾ الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ «مَنْ» شرطية، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: ٨١] وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها. وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ «مَنْ» فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم، و «فله أجرُه» كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها. هذا نصُّه. و «له أجره» مبتدأٌ وخبرُه، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلافِ في «مَنْ»، وحُمِل على لفظِ «مَنْ» فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ وعلى معناها فجُمع في قولِه: ﴿عليهم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وهذا أحسنُ
٦٨١ - أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ | إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ |
قوله: ﴿لَيْسَتِ النصارى﴾ » ليس «فعلٌ ناقصٌ أبداً من أخواتِ كان ولا يتصرَّفُ ووزنُه على فَعِل بكسر العين، وكان من حقِّ فائِه أن تُكْسَرَ إذا أُسْنِدَ إلى تاء المتكلم ونحوِها دلالةًعلى الياءِ مثل: شِئْتُ، إلا أنه لَمَّا لم يتصرَّفْ بقيت الفاءُ على حالِها، وقال بعضُهم: لُسْتُ بضم الفاء، ووزنُه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمِّ العينِ فيما عينُه ياءٌ نادر، لم يَجيء منه إلا» هَيُؤَ الرجلُ «إذا حَسُنَتْ هيئتُه. وكونُ» ليس «فعلاً هو الصحيحُ خلافاً للفارسي في أحدِ قولَيْه ومَنْ تابَعَه في جَعْلِها حرفاً ك» ما «ويَدُل على فعليَّتها اتصالُ ضمائرِ الرفعِ البارزةِ بها، ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و» النصارى «اسمُها، و» على شيء «خبرُها، وهذا يَحْتمِل أن يكونَ ممَّا حُذِفَتْ فيه الصفةُ، أي على شيء مُعْتَدٍّ به كقولِه:» إنه ليس من أهلِك «أي: أهلِك الناجين، [وقوله:]
٦٨٢ - فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها | .................... |
٦٨٣ -.................... | ........ لقد وَقَعْتِ على لَحْمِ |
قوله: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ﴾ جملةٌ حالية. وأصل يَتْلُون: يَتْلُوُوْنَ فأُعِلَّ بحذفِ اللام وهو ظاهر.
قوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ في هذا الكافِ
وعلى هذين القولَيْن ففي «مثلَ قولهم» وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على البدلِ من موضعِ الكاف. الثاني من الوجهين: أنه مفعولٌ به العاملُ فيه «يَعْلمون»، أي: الذين لا يعلمون مثلَ مقالةِ اليهود والنصارى مثلَ مقالهم، أي: إنهم قالوا ذلك على سبيلِ الاتفاقِ، وإن كانوا جاهلين بمقالةِ اليهود والنصارى.
الثاني من القولين: أنَّها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ بعدها خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: مثلَ ذلك قاله الذين لا يعلمون، وانتصابُ «مثلَ قولهم» حينئذٍ إمَّا: على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٌ بيعلمون تقديرُه مثلَ قولِ اليهودِ والنصارى قالَ الذينَ لا يعلمون اعتقادَ اليهود والنصارى. ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ نصبَ المفعولِ بقال لأنه أَخَذَ مفعولَه وهو العائدُ على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: أنَّ الجمهورَ يأبي جَعْلَ الكافِ اسماً. والثاني: حَذْفُ العائدِ المنصوبِ، والنحويون ينصُّون على مَنْعِه ويجعلون قولَه:
٦٨٤ - وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا | بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِلِ |
و «مَنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها، و «مساجد» مفعولٌ أولُ لمَنَع، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها، وقد سُمع «مَسْجَد» بالفتح على الأصل، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه: المَسْيِد في لغة.
قوله: ﴿أَن يُذْكَرَ﴾ ناصبٌ ومنصوبٌ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع، تقولُ: مَنَعْتُه كذا. والثاني: أنه مفعولٌ من أجلِه أي: كراهةَ أن يُذْكَرَ. وقال الشيخ: «فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله، وما أَشْبهه». والثالثُ: أنه بدلُ اشتمالٍ من «مساجد»، أي: مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها. والرابع: أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ، والأصلُ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ، و «في خَرابِها» متعلِّقٌ بسَعَى. واختُلِف في «خراب» : فقال أبو البقاء: «هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ. وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ
٦٨٥ - أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني | وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا |
٦٨٦ - ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [به] | غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب |
قوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ﴾ :» لهم «خبرُ» كان «مقدَّمٌ على اسمِها، واسمُها» أَنْ يدخُلوها «لأنه في تأويل المصدرِ، أي: ما كان لهم الدخولُ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن» أولئك «.
قوله: ﴿إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ حالٌ من فاعل» يَدْخُلوها «، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ، لأن التقديرَ: ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف. وقرأ أُبَيّ» خُيَّفاً «وهو جمعُ خائف، كضارب وضُرَّب، والأصل: خُوَّف كصُوَّم، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ، قالوا: صُوَّم وصُيَّم، وحَمَل أولاً على لفظ» مَنْ «، فَأَفْرَد في قوله:» مَنَع، وسعى «وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله:» أولئك «وما بعده.
قوله: ﴿لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها
٦٨٧ - تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ | نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ |
٦٨٨ - كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها | إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا |
قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ﴾ «أين» هنا اسمُ شرطٍ بمعنى «إنْ»، و «ما» مزيدةٌ عليها و «تُوَلُّوا» مجزومٌ بها. وزيادةُ «ما» ليست لازمةً لها بدليلِ قوله:
٦٨٩ - أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا | .................. |
انتهى وهو غيرُ واضحٍ.
قوله: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزم، و «ثَمَّ» خبرٌ مقدم، و «وجهُ الله» رفعٌ بالابتداء و «ثَمَّ» اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل: هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب. قال أبو البقاء: «لأنك تقولُ في الحاضر: هُنا، وفي الغائب هُناك، وثَمَّ ناب عن هناك» / وهذا ليس بشيءٍ. وقيل: بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب «مِنْ»، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [رَأَيْتَ] ﴾ [الإنسان: ٢٠]، بل مفعولُ «رأيت» محذوف. ومعنى «وَجْهُ الله» جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها، أو ذاتُه نحو: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، أو المرادُ به الجاهُ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم: هو وجهُ القوم، أو يكونُ صلةً زائداً، وليس بشيءٍ، وقيل: المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله:
قوله: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ «بَلْ» إضرابٌ وانتقالٌ، و «له» خبرٌ مقدَّمٌ و «ما» مبتدأ مؤخرٌ، وأتى هنا ب «ما» لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في «ما و» مَنْ «، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله» قانتون «فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء. قال الزمخشري» فإن قلت: كيف جاءَ ب «ما» التي لغير أولي العلمِ مع قوله «قانتون» ؟ قلت: هو كقولِه:
٦٩٠ - أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه | ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ |
٦٩١ -........................ | سبحان مِنْ علقمةَ.............. |
قوله: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، و «كلٌّ» مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً، أي: كلُّ مَنْ في السموات والأرض، وقال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً» قال الشيخ: «وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ولداً] وغيرُه» قوله: «لم يَجْرِ له ذِكْر» بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه.
وجَمَعَ «قانِتون» حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ «كُلاًّ» إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧]. ومِنْ مراعاةِ اللفظِ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: ٨٤] ﴿فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه﴾ [العنكبوت: ٤٠]، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي. والقُنُوت: الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ.
٦٩٢ - أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ | يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ |
قوله: ﴿وَإِذَا قضى أَمْراً﴾ العاملُ في» إذا «محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه:» فإنما يقول «، والتقديرُ: إذا قضى أمراً يكونُ، فيكونُ هو الناصبُ له. و» قضى «له معانٍ كثيرةٌ، قال الأزهري:» قضى «على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب:
٦٩٣ - وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما | داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ |
٦٩٤ - قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها | بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ |
٦٩٥ - سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً | عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا |
والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على «يقولُ» وهو قول الزجاج والطبري. وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ «انتهى. يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا، ومثلُه قولُ أبي النجم:
٦٩٦ - إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي... الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» كُنْ «من حيثُ المعنى، وهو قولُ الفارسي، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على» يقولُ «، لأنَّ من المواضعِ ما ليس
٦٩٧ - ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني | فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني |
وقَرأَ ابن عامر/» فيكونَ «نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران، وهي: ﴿لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ﴾ [آل عمران: ٤٧]، تحرُّزاً من قوله: ﴿كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ [آل عمران: ٥٩] وفي مريم: ﴿كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي﴾ [مريم: ٣٥]، وفي غافر: ﴿كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ﴾ [غافر: ٦٨]، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي: ﴿أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]. أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي.
وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين، أحدهما: أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو:
﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن﴾ [مريم: ٧٥] أي: فَيَمُدُّ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله:
٦٩٨ - سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ | وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا |
٦٩٩ - لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها | ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما |
٧٠٠ - فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ | عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ |
وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري | ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي |
أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ، وأمَّا الآياتُ فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [عليه]، لأنه أرادَ بالعبادِ الخُلَّصَ، ولذلك أضافهم إليه، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه. وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك: «إنَّ» أَنْ «الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين، قال:» وحَكَوْا عن العرب: «إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه» بنصبِ «تَحْطِمَ» فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن
٧٠١ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني | أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ |
٧٠٢ - تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أفضلَ مَجْدِكُم | بنى ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا |
٧٠٣ - ونُبِّئْتُ ليلى أَرْسَلَتْ بشفاعةٍ | إليَّ فهلاَّ نفسُ لَيْلى شَفِيعُها |
قوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين﴾ قد تقدَّم الكلامُ على نظيرِه فَلْيُطْلَب هناك. وقرأ أبو حَيْوة وابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين، قال الداني: «وذلك غيرُ جائز لأنه فعلٌ ماض» يعني أن التاءَيْن المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فَنُدْغِم، أمَّا الماضي فلا.
قوله: ﴿وَلاَ تُسْأَلُ﴾ قرأ الجمهور: «تُسْأَلُ» مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي. وقُرىء شاذاً: «تَسْأَلُ» مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه
٧٠٤ - والحربُ لا يَبْقى لِجَا | حمِها التخيُّلُ والمِراحُ |
٧٠٥ - إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ | ........................... |
قوله: ﴿وَلَئِنِ اتبعت﴾ هذه تسمَّى اللامَ الموطِّئَةَ للقسم، وعلامتُها أَنْ تقعَ
قوله: ﴿حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه: «تلاوةً حقاً» ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ، وصار نظير: «ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ» أي: ضَرْباً شديداً. فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه. الثاني: أنه حالٌ من فاعل «يَتْلونه» أي: يَتْلُونه مُحِقِّينِ، الثالث: أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ. وقال ابن عطية: «و» حَقَّ «مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم: رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه» يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ، وكأنه يرى أنَّ إضافةَ أفعل غيرُ محضةٍ، ولا حاجَةَ إلى تقديرِ عاملٍ فيه لأنَّ ما قبله يَطْلُبُه.
والضميرُ في «به» فيه أربعةُ أقوالٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ -: عَوْدُه على الكتاب. الثاني: عَوْدُه على الرسولِ، قالوا: «ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ لكنَّه معلومٌ» ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ فغنه مذكور في قولِه: «أَرْسلناك»، إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة.
الثالثُ: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه: «أَرْسلناك» إلى
قوله: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ العاملُ في» إذا «قال... العامِلُ فيه» اذكر «مقدراً، وهو مفعولٌ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ. فالأَوْلَى ما ذَكَرْتُه أولاً، وقَدَّره... كان كَيْتَ وكَيْتَ، فَجَعَلَه ظرفاً، ولكنَّ عاملَه مقدرٌ. و» ابتلى «وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. وأصلُ ابتلى: ابتلَوَ، فألفُه عن واوٍ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي: اختبرَ. و» إبراهيمَ «مفعولٌ مقدمٌ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً. هذا هو المشهورُ، وما جاءَ على خلافِهِ عَدُّوه ضرورةً. وخالَفَ أبو الفتح وقال:» إنَّ الفعلَ كما يَطْلُبُ الفاعلَ يطلُبُ المفعولَ فصارَ لِلَّفظِ به شعورٌ وطَلَبٌ «وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرةً تأخَّر فيها المفعولُ المتصلُ ضميرُهُ بالفاعلِ، منها:
٧٠٦ - لَمَّا عصى أصْحابُه مُصْعَباً | أَدَّى إليه الكيلَ صاعاً بصاعْ |
و» إبراهيم «عَلَمٌ أَعْجَمي، قيل: معناه قبل النقلِ: أبٌ رحيمٌ، وفيه لغاتٌ تسعٌ، أشهرُها: إبراهيم بألف وياء، وإبراهام بألِفَيْن، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور. ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك. ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس: إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً: إبراهام بالألف، فقال: أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة. فقيل: إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ، فقال: هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له. الثالثة: إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ، وبها قرأ أبو بكر، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل:
٧٠٧ - جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عن كِبَرٍ | وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ |
٧٠٨ - عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ | إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ |
٧٠٩ - نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته | لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ |
والجمهورُ على نصبِ «إبراهيم» ورفعِ «ربُّه» كما تقدَّم، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلُها دَعَا ربَّه، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ. والضميرُ المرفوعُ في «فَأَتَّمَّهُنَّ» فيه قولان: أحدُهما أنه عائدٌ على «ربه» أي: فأكملهنَّ. والثاني: أنه عائدٌ على إبراهيم أي: عَمِل بهنَّ وَوَفَّى بهنَّ.
قوله: ﴿قَالَ إِنِّي﴾ هذه الجملةُ القولية يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلَها، إذا قلنا بأنها عاملةٌ في «إذ» لأن التقديرَ: وقالَ إني جاعِلُكَ إذا ابتلى، ويجوزُ أن تكونَ استئنافاً إذا قلنا: إنَّ العاملَ في «إذ» مضمرٌ، كأنه قيل: فماذا قال له ربُّه حين أتَمَّ الكلماتِ؟ فقيل: قال: إني جاعِلُك. ويجوزُ فيها أيضاً على هذا القولِ أن تكونَ بياناً لقوله: «ابتلى» وتفسيراً له، فيُرادُ بالكلماتِ
قوله: ﴿جَاعِلُكَ﴾ هو اسمُ فاعلٍ من «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أحدُهما: الكافُ وفيها الخلافُ المشهورُ: هل هي في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ؟ وذلك أن الضميرَ المتصل باسمِ الفاعلِ فيه ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍّ بالإِضافة. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ، وإنَّما حُذِفَ التنوينُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ، قالوا: ويَدُلُّ على ذلك وجودُه في الضرورةِ كقوله:
٧١٠ - فما أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ | أَمُسْلِمُني إلى قومي شُراحي |
٧١١ - هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُونه | ........................ |
قوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بجاعل أي لأجلِ الناس. والثاني: انه حالٌ من «إماماً» فإنه صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها. فيكونُ حالاً منها، إذ الأصلُ: إماماً للناسِ، فعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ. والإِمامُ:
قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها، أَنَّ «مِنْ ذريتي» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، والمفعولُ الثاني والعاملُ فيهما محذوفٌ تقديرُه: «قال واجْعَلْ فريقاً من ذريتي إماماً» قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّ «ومِنْ ذُرِّيَّتي» عطفٌ على الكافِ، كأنَّه قال: «وجاعلُ بعضِ ذريتي» كما يُقال لك: سَأُكْرمك، فتقول: وزيداً. قال الشيخ: «لا يَصِحُّ العطفُ على الكافِ لأنَّها مجرورةٌ، فالعطفُ عليها لا يكونُ إلا بإعادة الجارّ، ولم يُعَدْ، ولأنَّ» مِنْ «لا يُمْكِنُ تقديرُ إضافةِ الجارِّ إليها لكونِها حرفاً، وتقديرُها مرادفةً لبعض حتى تَصِحَّ الإِضافةُ إليها لا يَصِحُّ، ولا يَصِحُّ أن يقدَّرَ العطفُ من باب العطفِ على موضعِ الكاف لأنَّه نصبٌ فَتُجْعَلَ» مِنْ «في موضعِ نصبٍ لأنَّه ليسَ مِمَّا يُعْطَفُ فيه على الموضعِ في مذهبِ سيبويهِ لفواتِ المُحْرِزِ، وليسَ نظيرَ ما ذَكَر لأن الكاف في» سأكرمك «في موضعِ نصبٍ. الثالث: قال الشيخ:» والذي يَقْتضيه المعنى أن يكونَ «مِنْ ذرّيَّتي» متعلقاً بمحذوفٍ، التقديرُ: واجْعَلْ مِنْ ذرِّيّتي إماماً لأنَّ «إبراهيم» فَهِمَ من قولِه: «إني جاعلُك للناسِ إماماً الاختصاصَ، فسأل أَنْ يَجْعل مِنْ ذريتِه إماماً» فإنْ أرادَ الشيخُ التعلُّق الصناعيُّ فيتعدَّى «جاعل» لواحدٍ، فهذا ليسَ بظاهرٍ، وإن أرادَ التعلُّقَ المعنويَّ فيجوزُ أَنْ يريدَ ما يريده أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ «مِنْ ذرِّيَّتي» مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وجاز ذلك لأنه يَنْعَقِدُ من هذين الجزأين مبتدأُ وخيرُ.
وفي اشتقاق» ذُرِّيَّة «وتصريفها كلامٌ طويلٌ يَحْتاج الناظرُ فيه إلى تأمُّل. اعلم أنَّ في» ذرية «ثلاثَ لغاتٍ: ضَمَّ الذالِ وكسرَها وفتحَها، وبالضمِّ قرأ الجمهورُ، وبالفتحِ قرأ أبو جعفر المدني، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. فأمّا اشتقاقُها ففيه أربعةُ مذاهبَ، أحدُها: أنها مشتقةٌ من ذَرَوْتُ، الثاني: مِنْ ذَرَيْتُ، الثالث: من ذَرَأَ اللهُ الخَلْقَ، الرابع: من الذرّ. وأَمَّا تصريفُها: فَذُرِّيَّة بالضمِّ إن كانَتْ من ذَرَوْتُ فيجوز فيها أَنْ يكونَ وزنها فُعُّولَة، والأصلُ: ذُرُّوْوَة فاجتمع واوان: الأولى زائدةٌ للمدِّ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، فَقُلِبَتْ لامُ الكلمةِ ياءً تخفيفاً فصار اللفظُ ذُرُّوْيَة، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياء التي هي منقلبةٌ من لامِ الكلمةِ، وكُسِرَ ما قبل الياءَ وهي الراءُ للتجانُسِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ وزنُها فُعِّيْلَة، والأصلُ: ذُرِّيْوَة، فاجتمعَ ياءُ المدِّ والواوُ التي هي لامُ الكلمةِ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدغمت فيها ياءُ المدِّ.
وإن كانت من ذَرَيْتُ لغةً في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنُها فُعُّولَة أو فُعِّيلة كما تقدَّم، وإنْ كانَتْ فُعُّولة فالأصلُ ذُرُّوْيَة فَفُعِل به ما تقدَّم من القلبِ والإِدغامِ، وإنْ كانَتْ فُعِّيْلَة فالأصلُ: ذُرِّيْيَة، فَأُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياءِ التي [هي] لامٌ. وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ
وإن كانَتْ من الذَّرِّ فيجوزُ في وزنها أربعةُ أوجه، أحدُها: فُعْلِيَّة وتَحْتمل هذه الياءُ أَنْ تكونَ للنسَبِ وغَيَّروا الذالَ من الفتحِ إلى الضمِّ كما قالوا في النَسَبِ إلى الدَّهْر: دُهْري وإلى السَّهْل: سُهْلي بضمِّ الدال والسين، وأَنْ تكونَ لغيرِ النسَبِ فتكونُ كقُمْرِيَّة. الثاني: أن يكونَ: فُعِّيْلَة كمُرِّيقَة، والأصلُ: ذُرِّيْرةً، فَقُلِبَتِ الراءُ الأخيرةُ ياءً لتوالي الأمثال، كما قالوا تَسَرَّيْتُ وتَظَنَّيْتُ في تَسَرَّرْتُ وتَظَنَّنْتُ. الثالث: أن تكونَ فُعُّولة كَقُدُّوس وسُبُّوح، والأصلُ: ذُرُّْوَرة، فَقُلِبَتِ الراءُ لِما تقدَّم، فصارَ ذُرُّوْيَة، فاجْتَمَعَ واوٌ وياءٌ، فجاء القلبُ والإدغامُ كما تقدَّم. الرابع: أن تكونَ فُعْلُولة والأصل: ذُرُّوْرَة، فَفُعِلَ بها ما تقدّم في الوجهِ الذي قبله.
وأمَّا ذِرِّيَّة بكسر الذال فإن كانت مِنْ ذَرَوْتُ فوزنُها فِعِّيْلَة، والأصل: ذِرِّيْوَة، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ في الياءِ بعدَها، فإنْ كانَتْ من ذَرَيْتُ فوزنها فِعِّيْلة أيضاً، وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ فوزنُها فِعِّيْلة أيضاً كبِطِّيْخة، والأصل ذِرِّيْئَة فَفُعِل فيها ما تقدَّم في المضمومةِ الدالِ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ وزنُها فِعْلِيَّة نسبةً إلى الذرّ على غيرِ قياسٍ في المضمومةِ. الثاني: أَنْ تكونَ فِعِّيْلَة، الثالث: أن تكونَ فِعْلِيلَة كحِلْتيت والأصلُ فيها: ذِرِّيْرَة فَفُعِل فيهما ما تقدَّم من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ ياءُ والإِدغامِ فيها.
وأمَّا «ذَرِّيَّة» بفتحِ الذال: فإن كانَتْ مِنْ ذَرَوْتُ أو ذَرَيْتُ فوزنُها: فَعِّيْلَة كسَكِّينة، والأصلُ: ذَرِّيْوَة أو ذَرِّيْيَة، أو فَعُّولة والأصلُ: ذَرُّوْوَة أو ذَرُّوْيَة،
وأمَّا مَنْ بناها على فَعْلَة مثلَ جَفْنَة فإنها عنده من ذَرَيْتُ. والذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ يقع على الذكور والإِناث والجمع الذَراري، وزعم بعضُهم أنها تقع على الآباء كوقوعِها على الأبناء مستدلاً بقوله ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون﴾ [يس: ٤١] يعني نوحاً ومَنْ معه وسيأتي ذلك في موضِعِه.
قوله: ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ الجمهورُ على نصبِ «الظالمين» مفعولاً و «عَهْدي» فاعلٌ، أي: لا يَصِلُ عهدي إلى الظالمين فيدرِكَهم. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء/: «والظالمون» بالفاعلية، و «عهدي»
والأصلُ في «مَثَابة» مَثْوَبة، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلاَّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل:
٧١٢ - مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها | تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ |
٧١٣ - جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ | ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ |
قوله: ﴿وَأَمْناً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه عَطْفٌ على «مَثَابة» وفيه التأويلاتُ المشهورةُ: إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا أَمْن، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي: آمِنَاً، على سبيل المجاز كقوله: «حَرَماً آمِناً». والثاني: أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وإذ جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد. والمعنى: أن الله جَعَلَ البيتَ محترماً بحكمه، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ: «اتَّخِذُوا» على الأمرِ فعلى هذا يكونُ «وأَمْناً» وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.
قوله: ﴿واتخذوا﴾ قرأ نافعٌ وابنُ عامر: «واتَّخذوا» فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظِ الأمرِ. فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه معطوفٌ على «جَعَلْنا» المخفوض ب «إذ» تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً. الثاني: أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه: «وإذ جَعَلْنا» فيحتاجُ إلى تقديرِ «إذ» أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلامُ جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه: فثابوا واتخذوا.
وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها عَطفٌ على «اذكروا» إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني:
الثالث: أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي: وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بأنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء.
قوله: ﴿مِن مَّقَامِ﴾ في «مِنْ» ثلاثة أوجه: أحدُها: أنها تبعيضيةٌ وهذا هو الظاهرُ. الثاني: أنها بمعنى في. الثالث: أنها زائدةٌ على قولِ الأخفش. وليسا بشيء. والمَقامُ هنا مكانُ القيامِ، وهو يَصْلُح للزمانِ والمصدر أيضاً واصلُه: «مَقْوَم» فأُعِلَّ بنَقْلِ حركةِ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها وقَلْبِها ألفاً، ويُعَبَّرُ به عن الجماعةِ مجازاً كما يُعَبَّر عنهم بالمجلسِ قال زهير:
٧١٤ - وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ | وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ |
قوله: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إسماعيل عَلَمٌ أعجميٌّ وفيه لغتان: اللام والنونُ وعليه قولُ الشاعر:
قوله: ﴿أَن طَهِّرَا﴾ يَجوزُ في «أَنْ» وَجْهان، أحدُهما أنَّها تفسيريةٌ لجملةِ قولِه: «عِهِدْنا» فإنَه يتضمَّنُ معنى القولِ لأنَّه بمعنى أَمَرْنا أو وَصَّيْنا فهي بمنزلةِ «أي» التي للتفسيرِ، وشرطُ «أَنْ» التفسيريةِ أَنْ تَقَعَ بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه. وقال أبو البقاء: «والمفسِّرةُ تقعُ بعد القولِ وما كان في معناه. وقد غَلِطَ في ذلك، وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإِعرابِ. والثاني: أن تكونَ مصدريةً وخَرَجَتْ عن نظائرِها في جوازِ وَصْلِها بالجملةِ الأمريَّة قالوا:» كتبْتُ إليه بأَنْ قُمْ «وفيها بحثٌ ليس هذا موضعَه، والأصلُ: بأَنْ طَهِّرا، ثم حُذِفَتِ الباءُ فيَجيءُ فيها الخلافُ المشهورُ من كونِها في محل نصبِ أو خفضٍ. و» بيتي «مفعولٌ به أُضيف إليه تعالى تشريفاً. والطائفُ اسم فاعلٍ من طَاف يَطُوف، ويقال: أَطَاف رباعياً، قال:
٧١٥ - قال جواري الحَيِّ لمَّا جِينا | هذا وربِّ البيتِ إسماعينا |
٧١٦ - أَطَافَتْ به جَيْلانُ عند قِطاعِه | ........................ |
٧١٨ - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْرَجا... ويقال: عَكَفَ يَعْكُف ويعكِف، بالفتحِ في الماضي والضمِّ والكسرِ في المضارع، وقد قُرِىء بهما. و» السجودُ «يجوز فيه وجهان، أحدُهُما: أنه جمع ساجِد نحو: قاعِد وقُعود، وراقِد ورُقُود، وهو مناسبٌ لِما قبله. والثاني: أنه مصدرٌ نحو: الدُّخول والقُعُود، فعلى هذا لا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي السجودِ ذكرَه أبو البقاء.
وعَطَفَ أحد الوصفينِ على الآخر في قوله: الطائفين والعاكفين لتباينِ ما بينهما، ولم يَعْطِفْ إحدى الصفتينِ على الأخرى في قوله: الرُّكَّعِ السجودِ، لأنَّ المرادَ بهما شيءٌُ واحدٌ وهو الصلاةُ إذ لو عَطَفَ لَتُوُهِّم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عبادةٌ على حِيالها، وجَمَعَ صفتين جَمْع سلامة وأُخْرَيَيْنِ جمع تكسيرٍ لأجلِ المقابلةِ وهو نوعٌ من الفَصاحةِ، وأخَّر صيغةَ فُعول على فُعَّلَ لأنها فاصلة.
٧١٧ -................ | عليه الطيرُ ترقبُه عُكوفا |
٧١٩ - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ | قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها |
قولُه: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾ يجوزُ في «مَنْ» ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ موصولةً، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ، ويكونُ «فأمتِّعُه» معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ. والثاني من الوجهين: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و «فأمتِّعُه» الخبرَ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه. الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع. الثالث: أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط، و «فأمتِّعُه» جوابُ الشرط.
ولا يجوزُ في «مَنْ» في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ
ويجوز أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً والفاءُ جوابَها. وقيل: الجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ، و «مَنْ» على هذا رفعٌ بالابتداءِ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فعلُ الشرطِ «. انتهى.
أمَّا قولُه:» لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ «فليس بِمُسَلَّم، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّز فيها أن تكونَ شرطيةً، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به. وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيدة لا حاجةَ إليها. وقرىء: أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان: أحدُهما: أنه تخفيفٌ كقولِه:
وقال الزمخشري: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ عَطْفٌ على» مَنْ آمَنَ «كما عَطَفَ» ومِنْ ذريتي «على الكافِ في» جاعِلُك «. قال الشيخ: أمَّا عطفُ» مَنْ كَفَر «على» من آمَنَ «فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ، لأنه يصيرُ المعنى: قال إبراهيم: وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل، و» من آمن «العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في» ومَنْ كفر «، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله» فَأُمَتِّعه «لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي: قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على» مَنْ «كما عَطَفَ» ومِنْ ذرِّيتي «على الكاف في» جاعِلك «فقال:» فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت: قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً، والمعنى: قال وأرزقُ مَنْ كفر
و «قليلاً نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو زمانٍ، وقد تقدَّم له نظائرُ واختيار سيبويه فيه.
وقرأ الجمهور: «أضطَرُّه» خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب: «إضطرُّه» بكسر الهمزة، ووجهُها كسرُ حرفِ المضارعةِ كقولهم في أخال: إخالُ. وقرأ ابن مُحَيْصِن: «أطَّرُّه» بإدغامِ الضادِ في الطاءِ نحو: اطّجع في اضطجع، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف: ضم شغر نحو: اطَّجع في اضطجع، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف: ضم شغر نحو: اطَّجع في اضطجع [قاله الزمخشري، وفيه نظرٌ، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الداني اللام في ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [نوح: ٤]، والضاد في الشين: ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ [النور: ٦٢]، والشين في السين: ﴿العرش سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٤٢]، وأدغم الكسائي الفاء في الباء: ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض﴾ [سبأ: ٩]، وحكى سيبويه أن «مُضَّجعاً» أكثر فدل على أن «مُطَّجعاً كثير. وقرأ يزيد بن أبي حبيب:» أضطُّرُّه «بضم الطاء كأنه للإِتباع. وقرأ أُبَيّ:» فَنُمَتِّعُه ثم نَضَطَرُه «بالنون.
٧٢٠ - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ | ................... |
٧٢١ - اضطَرَّكَ الحِرْرُ مِنْ سَلْمى إِلى أَجَأٍ | ................... |
قوله:» وبئس المصيرُ «» المصير «فاعل والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: النارُ. ومصير: مَفْعِل من صار يصير، وهو صالحٌ للزمان والمكانِ، وأمَّا المصدرُ فقياسُه الفتحُ لأنَّ ما كُسِر عينُ مضارِعِه فقياسُ ظرفِيَّة الكسرُ ومصدرُه الفتحُ/. ولكن النحويين اختلفوا فيما كانَتْ عينُه ياءً على ثلاثةِ مذاهبَ، أحدها: أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم. والثاني: أنه مُخَيَّرٌ فيه. والثالث: مذاهبَ، أحدها: أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم. والثاني: أنه مُخَيَّرٌ فيه. والثالث: أن يتُبع المسموعُ فما سُمِعَ بالكسرِ أو الفتح لا يَتَعَدَّى، فإنْ كان» المصيرُ «في الآية اسمَ مكانٍ فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبِئْسَ المصيرُ النارُ كما تقدَّم، وإن كان مصدراً على رأي مَنْ أجازه فالتقدير: وبِئْسَ الصيرورةُ صَيْرورتُهم إلى النار.
قوله: ﴿مِنَ البيت﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «يرفع» ومعناها ابتداءُ الغايةِ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «القواعدِ» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: كائنةً من البيت، ويكون معنى «مِنْ» التبعيضَ.
قوله: ﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ فيه قولان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على «إبراهيم» فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ، ويكونُ قولُه: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ﴾ في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي: يَرْفَعان يقولان: ربَّنَا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ: «يقولان ربَّنا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ:» يقولان ربَّنا تقبَّلْ «أي: قائِلين ذلك، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها، ويكونُ هو العاملَ في» إذ «قبله، والتقديرُ: يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي: وقتَ رَفْعِهما.
والثاني: الواوُ واو الحالِ، و» إسماعيلُ «مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه:» ربَّنا تَقبَّلْ «فيكونُ» إبراهيم «هو الرافعَ، و» إسماعيلُ «هو الداعيَ فقط، قالوا: لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً، وَرَوْوه عن علي عليه السلام. والتقديرُ: وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول: ربَّنا تقبَّلْ منا. وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح. وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد. وتقدَّم الكلام على نحوِ ﴿إِنَّكَ أَنتَ السميع﴾ من كون» أنت «يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ
قوله: ﴿مُسْلِمَيْنِ﴾ مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير، والمفعولُ الأولُ هو «ن» وقرأ ابن عباس «مسلمِين» بصيغةِ الجمع، وفي ذلك تأويلان أحدُهما: أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً. والثاني: أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر.
قوله ﴿لَّكَ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو: ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى. والثاني: أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن، أي: مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي: مستسلمَيْن، والأولُ أقوى معنىً.
قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً﴾ فيه قولان، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ «مِنْ ذريتنا» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، و «أمة مسلمة» مفعولٌ ثان تقديرُه: واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً. وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوالٍ، أحدُها: أنها للتبعيض، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين، قال: كقولِه: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٥]. الثالث: أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل، قاله أبو البقاء.
الثاني من القولَيْن: أن يكونَ «أمَّةً» هو المفعولَ الأولَ، و «مِنْ ذريتنا»
٧٢٢ - يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال | عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً |
قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً، ف «ن» مفعولٌ أولُ، و «مناسِكَنا» مفعولٌ ثانٍ.
وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من «رأى»
٧٢٣ - وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً | إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ |
٧٢٤ - بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ | ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ |
٧٢٥ - أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني | أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا |
وقرأ الجمهور:» أَرِنَا «بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ.» أَرِني أنظرْ «، وفي فُصّلت: ﴿أَرِنَا الذين﴾ [فصلت: ٢٩]، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم/، واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها. أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور، وأما الإِسكان فللتخفيفِ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ وكتِف: كتْف.
وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا: صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه:» أَرْءِنا «ثم نُقِل، قاله الزمخشري تابعاً لغيره. قال الفارسي:» التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ «وقال أيضاً:» ألا تراهم أَدْغموا في ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨]، والأصل: «لكنْ أنا» «نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا، فذهابُ الحركةَ في» أَرِنا «ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال:
٧٢٦ - أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها | من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا |
والمناسِكُ واحدُها: مَنْسَك بفتح العين وكسرِها، وقد قرىء بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه. والمنسَكُ: موضعُ النسُك وهو العبادة.
قوله: ﴿فِيهِمْ﴾ في هذا الضميرِ قولان: أحدُهما: أنه عائدٌ على معنى الأمة، إذ لو عادَ على لفظِها لقال:» فيها «قاله أبو البقاء، والثاني: أنه يعودُ على الذريةِ بالتأويلِ. المتقدِّم. وقيل: يعودُ على أهل مكة، ويؤيده: ﴿الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً﴾ [الجمعة: ٢].
قوله: ﴿يَتْلُواْ﴾ في محلِّ هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً لرسولاً، وجاء هذا على الترتيبِ الأحْسَنِ إذ تقدَّم ما هو شبيهٌ بالمفردِ وهو المجرورُ على الجملةِ. والثاني: أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من «رسولا» لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّصَ. الثالث: أنها حالٌ من الضميرِ في «مِنْهم» والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به «منهم» لوقوعِه صفةً.
وتقدَّم قولُه «العزيزُ» لأنها صفةُ ذاتٍ وتأخَّر «الحكيمُ» لأنها صفةُ فِعْل.
قوله: ﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ﴾ في «مَنْ» وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ على البدلِ من الضمير في «يَرْغَبُ» وهو المختارُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجبٍ، والكوفيون يَجْعَلون هذا من بابِ العطفِ، فإذا قلتَ: ما قام القومُ إلا زيدٌ، ف «إلاَّ» عندهم حرفُ عطفٍ وزيدٌ معطوفٌ على القوم، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِ النحو. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الاستثناء و «مَنْ» يُحتمل أن تكونَ موصولةً وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، فالجملةُ بعدَها لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الرفعُ أو النصبُ على الثاني.
قوله: ﴿نَفْسَهُ﴾ في نصبِه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو المختارُ - أَنْ يكونَ مفعولاً به؛ لأنَّ ثعلباً والمبرد حكيا أنَّ سَفِه بكسر [الفاء] يتعدَّى بنفسه كما يتعدَّى سَفَّه بفتح الفاء والتشديد، وحُكي عن أبي الخطاب أنها لغةٌ، وهو اختيارُ الزمخشريُ فإنه قال: «سَفِه نفسَه: امتَهَنَها واستخَفَّ بها»، ثم ذَكَر
٧٢٧ -.................... | ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِّقَابا |
٧٢٨ -................... | أجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ |
قوله: ﴿فِي الآخرة﴾ فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّق بالصالحين على أن الألفِ واللامَ للتعريفِ وليستْ موصولةً. الثاني أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أيضاً لكن مِنْ جِنسِ الملفوظِ به أي: وإنه لصالحٌ في الآخرة لَمِن الصالحين. الرابع: أن يتعلَّقَ بقولِه «الصالحين» وإنْ كانت أل موصولةً: لأنه يُغْتفر في الظروفِ وشِبْهِها ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِها اتِّساعاً، ونظيرُه قوله:
٧٢٩ - رَبَّيْتُه حتى إذا تَمَعْدَدا | كان جزائي بالعَصَى أَنْ أُجْلَدَا |
وفي قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ التفاتٌ إذ لو جاءَ على نَسَقِهِ لقيل: إذ قلنا، لأنَّه بعدَ «ولقَدِ اصْطَفَيْناه» وعكسُه في الخروجِ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ قولُه:
٧٣٠ - باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشَةً | وقد حَمَلْتُكَ سبعاً بعدَ سَبْعينا |
والضميرُ في «بها» فيه ستةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه يعودُ على المِلَّة في قوله: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾، قال الشيخ: «وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكُرِ [المهدوي] وغيرَه» والزمخشري - رحمه الله - لم يذكرْ هذا، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله «أَسَلَمْتُ» لتأويله بالكلمةِ، قال الزمخشري: «والضميرُ في» بها «لقولِه ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ [الزخرف: ٢٨] إلى قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: ٢٨] وقولُه» كلمةً باقيةً «دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة. انتهى. الثاني: أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه» أَسْلَمْتُ «كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري: قال ابن عطية:» وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور «. الثالثُ: أنه يَعودُ على متأخر، وهو الكلمةُ المفهومةُ مِنْ قولِه: ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾. الرابع: أنه
قوله: ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ الجمهورُ على رفعه وفيه قولان، أظهرهُما: أنه عطفٌ على» إبراهيم «ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي: ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً، والثاني: أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال: يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى. وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على» بَنيه «، أي: ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً.
قوله: ﴿يَا بَنِيَّ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه من مقولِ إبراهيمِ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتهِ منصوباً. والثاني: أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه:» ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله: «يا بَنِيَّ» وما بعدها [منصوبةٌ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين، أي: فقال يا بَنِيَّ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين، وقال الراجز:
٧٣١ - رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا | إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا |
ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق. ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب.
و «اصطفى» ألفُه عن ياء، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً. و «لكم» أي لأجلكم، والالفُ واللامُ في «الذين» للعهدِ.
قوله: ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إلا﴾ هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك: «لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع»، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كالصلاة، كأنه قال: أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألاَّ يُجْعَلَ فيهم.
وأصل تموتُنَّ: تموتُونَنَّ: النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى
قال الشيخ: «ولا أعلَمُ أحداً أجازِ حَذْفَ هذه الجملةِ، لا يُحْفَظُ ذلك في شعرٍ ولا غيرِه، لو قلت:» أم زيدٌ «تريد:» أقام عمروٌ أم زيدٌ «لم يَجُزْ، وإنما يجوز حَذْفُ المعطوفِ عليه مع الواوِ والفاءِ إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولك:» بلى وعمراً «لمَنْ قال: لم يَضرِبْ زيداً، وقوله تعالى: ﴿فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠] أي فضربَ فانفجَرَتْ، ونَدَرَ حَذْفُه مع أو كقوله:
٧٣٢ - فَهل لكَ أو مِنْ والدٍ لَكَ قبلنا | ....................... |
٧٣٣ - فواعَجَباً حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني | كأن أباها نَهْشَلٌ أو مجاشِعُ |
٧٣٤ - دعاني إليها القلبُ إني لأَمرِهِ | سميعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها |
انتهى. و «شهداء» خبرُ كان وهو جَمْعُ شاهد أو شهيد، وقد تقدَّم أول السورة.
قوله: ﴿إِذْ حَضَرَ﴾ «إذ» منصوبٌ بشهداءَ على أنَّه ظَرْفٌ لا مفعولٌ به أي: شهداء وقتَ حضور الموتِ إياه، وحضورُ الموتِ كنايةٌ عن حضورِ أسبابِهِ ومقدِّماته، قال الشاعر:
٧٣٥ - وقلْ لهمْ بادِروا بالعُذْرِ والتمِسوا | قولاً يُبَرِّئُكُم إني أنا الموتُ |
قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ «إذ» هذه فيها قولان أحدُهما: بدلٌ من الأولى، والعاملُ فيها: إمَّا العاملُ في إذ الأولى إنْ قلنا إنَّ البدلَ لا على نية تكرار العامل أو عاملٌ مضمرٌ إِنْ قلنا بذلك. الثاني: أنها ظرفٌ لحَضَر.
قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ ؟ «ما» اسمُ استفهام في محلِّ نصبٍ لأنه مفعولٌ مقدَّمٌ بتعبدون، وهو واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام وأتى ب «ما» دون «مَنْ» لأحدِ أربعةِ معانٍ، أحدُهما: أنَّ «ما» للمُبْهَمِ أمرُه، فإذا عُلِمَ فُرِّق ب «ما»
قوله: ﴿وإله آبَائِكَ﴾ أعاد ذكرَ الإِله لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرورِ دون إعادة الجارَّ، والجمهور على «آبائِك» وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء «أبيك»، وقرأ أُبَيّ: «وإلَه إبراهيم» فأسقط «آبائك». فأمّا قراءةُ الجمهور فواضحةٌ. وفي «إبراهيم» وما بعدَه حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أوحدُها: أنه بدلٌ. والثاني: أنه عطفُ بيانٍ، ومعنى البدلية فيه التفصيلُ. الثالثُ: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني»، فالفتحةُ على هذا علامةٌ للنصبِ، وعلى القَوْلين قبلَه علامةٌ للجرِّ لعدَمِ الصَّرْفِ، وفيه دليلٌ على تسمية الجَدِّ والعمِّ أباً، فإنَّ إبراهيمَ جَدُّه وإسماعيلَ عمُّه، كما يُطْلَقُ على الخالة أب، ومنه: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ [يوسف: ١٠٠] في أحد القولين. قال بعضهم: «وهذا من باب التغليب، يعني أنه غَلَّب الأبَ على غيره وفيه نظرٌ، فإنه قد جاء هذا الإِطلاقُ حيث لا تثنيةٌ ولا جمعٌ فَيُغَلَّبُ فيهما، قال عليه السلام:
«رُدُّوا عليَّ أبي» يعني العباس.
وأمَّا قراءة «أَبيك» فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفرداً غيرَ
٧٣٦ - فلمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنا | بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنَا بالأِبِينا |
٧٣٧ - فَقُلْنا أَسْلِموا إنَّا أَبُوكمْ | .................... |
قولُه: ﴿إلها وَاحِداً﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها أنَّه بدل مِنْ «إلهك» بدلُ نكرةٍ موصوفةٍ من معرفةٍ كقولِه: ﴿بالناصية نَاصِيَةٍ [كَاذِبَةٍ] ﴾ [العلق: ١٥]. والبصريون لا يَشْترطون الوصفَ مُسْتدِلِّين بقولِه:
٧٣٨ - فلا وأبيك خيرٍ منك | إنِّي لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ |
قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنها معطوفةٌ على قوله: «نعبد» يعني أنها تَتِمَّةُ جوابِهم له فأجابوه بزيادة. والثاني: أنها حالٌ من فاعلِ «نَعْبُدُ» والعاملُ «نَعْبُد». والثالث: - وإليه نحا الزمخشري - ألاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ، بل هي جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ، أي: ومِنْ حالِنا أنَّا له مخلصونَ. قال الشيخ: «ونصَّ النحويون على أنَّ جملةَ الاعتراضِ هي التي تفيدُ تقويةً في الحكمِ: إمَّا بين جُزْئَي صلةٍ وموصولٍ كقوله:
٧٣٩ - ماذا - ولا عُتْبَ في المقدورِ - رُمْتَ أما | يَكْفِيك بالنَّجْحِ أَمْ خُسْرٌ وتَضْلِيل |
٧٤٠ - ذاكَ الذي - وأبيك - يَعْرِفُ مالكاً | والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الباطِلِ |
٧٤١ - وقد أَدْرَكَتْني - والحوادِثُ جَمَّةٌ | أَسِنَّةُ قومٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ |
قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ صفةً لأمة أيضاً، فيكونُ محلُّها رفعاً. والثاني: أن تكونَ حالاً من الضمير في «خَلَتْ» فمحلُّها نصبٌ، أي: خَلَتْ ثابتاً لها كَسْبُها. الثالث: أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها. وفي «ما» مِنْ قولِه: «ما كَسَبَتْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بمعنى الذي. والثاني: أنها نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: كَسَبَتْه، إلاَّ أنَّ الجملةَ لا محلَّ لها على الأول. والثالث: أنَ تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ على المشهور، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: له مكسُوبُها أو يكونُ ثمَّ مضافٌ أي: لها جزاءُ كَسْبِها.
قوله: ﴿وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ إنْ قيل: إنَّ قولَه ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ مستأنَفٌ كانت هذه الجملةُ عطفاً عليه، وإنْ قيل إنَّه صفةٌ أو حالٌ فلا، أمَّا الصفةُ فلعدمِ الرابطِ فيها، وأمَّا الحالُ فلاختلافِ زمانِ استقرارِ كسبِها لها وزمانِ استقرارِ كسب المخاطَبين، وعطفُ الحالِ على الحالِ يُوجِبُ اتحادَ الزمانِ و «ما» مِنْ قولِه «ما كسبتم» ك «ما» المتقدمةِ.
قوله: ﴿وَلاَ تُسْأَلُونَ﴾ هذه الجملةُ استئنافٌ ليس إلاَّ، ومعناها التوكيدُ لِما قبلَها، لأنه لمَّا تقدَّم أنَّ أحداً لا ينفعه كَسْبُ أحدٍ بل هو مختصٌّ به إِنْ خيراً وإنْ شراً فلذلك لا يُسْأل أحدٌ عن غيره، وذلك أنَّ اليهودَ افتخَروا بأسلافِهم فَأُخْبِروا بذلك. و «ما» يجوزُ فيها الأوجهُ الثلاثةُ مِنْ كَوْنِها موصولةً اسميةٌ
قوله: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ قرأ الجمهور: «مِلَّةَ» نصباً، وفيها أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعولُ فعلٍ مضمرٍ، أي: بل نتبعُ مِلّةَ، لأنَّ معنى كونوا هُوداً: اتبعوا اليهوديةَ أو النصرانية. الثاني: أنه منصوبٌ على خبر كان، أي: بل نكونُ مِلَّة أي: أهلَ ملة، كقول عدي بن حاتم: «إني من دين» أي من أهل دين، وهو قولُ الزجاج وتَبِعه الزمخشري. الثالث: أنه منصوبُ على الإِغراء أي: الزموا ملةَ وهو قولُ أبي عُبَيْدَةَ، وهذا كالوجهِ الأولِ في أنَّه مفعولٌ به وإن اختلفَ العاملُ. الرابع: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ، والأصلُ: نَقْتَدي بملةِ إبراهيم، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ، وهذا يحتملُ أَنْ يكونَ من كلامِ المؤمنين فيكونَ تقديرُ الفعلِ: بل نكونُ أو نتَّبع أو نَقْتدي كما
والثاني: أنها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه، تقديرُه: مِلَّة إبراهيمَ ملَّتُنا.
قوله: ﴿حَنِيفاً﴾ في نصبهِ أربعةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حالٌ من «إبراهيم» لأنَّ الحالَ تجيءُ من المضافِ إليهِ قياساً في ثلاثةِ مواضعَ على ما ذَكَرَ بعضُهم، أحدها: أن يكونَ المضافُ عاملاً عملَ الفعلِ. الثاني: أنْ يكون جزءاً نحو: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧]. الثالث: أن يكونَ كالجزءِ كهذه الآية؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا لازمَها تنزَّلَتْ منه منزلةَ الجزءِ. والنحويون يسضعفون مجيئَها من المضاف إليه ولو كانَ المضافُ جزءاً، قالوا: لأنَّ الحالَ لا بدَّ لها من عاملٍ، والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبِها لا يعملُ عملَ الفعل. ومَنْ جَوَّز ذلك قَدَّر العاملَ فيها معنى اللام أو معنى الإِضافةِ، وهما عاملان في صاحِبها عند هذا القائل. ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجهِ، وشبَّهه بقولك: «رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً» وهو قولُ الزجَّاج.
الثاني: نصبُه بإضمارِ فعلٍ أي: نتبعُ حنيفاً، وقدَّره أبو البقاء بأعني، وهو قولُ الأخفشِ الصغيرِ وجَعَلَ الحالَ خطأ.
الرابع - وهو المختارُ - أن يكونَ حالاً من «ملَّة» فالعاملُ فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وقد تقدَّم، وتكونُ حالاً لازمةً لأنَّ الملَّةَ لا تتغيَّر عن هذا الوصفِ، وكذلك على القولِ بِجَعْلِها حالاً من «إبراهيم» لأنَّه لم يَنْتقِلْ عنها، فإنْ قيل: صاحبُ الحالِ مؤنثٌ فكان ينبغي أَنْ يطابقَه في التأنيثِ فيقال: حنيفةً، فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ فَعيلاً يستوي فيه المذكرُ والمؤنُث. والثاني: أن الملَّة بمعنى الدِّين، ولذلك أُبْدِلَتْ منه في قوله: ﴿دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [الأنعام: ١٦١] ذكر ذلك ابنُ الشجري في «أماليه».
والحَنَفُ: المَيْلُ ومنه/ سُمِّي الأحْنَفُ لِمَيْلِ إحدى قَدَمَيْهِ بالأصابعِ إلى الأخرى قالَتْ أمُّه:
٧٤٢ - واللَّهِ لولا حَنَفٌ برِجْلِه | ما كانَ في فِتْيانكم مِنْ مثلهِ |
٧٤٣ - حَمَدْتُ اللهَ حين هدى فؤادي | إلى الإِسلام والدينِ الحَنيفِ |
والأسْباط: جمعُ «سِبْط» وهم في وَلَدِ يعقوبَ كالقبائل في وَلَدِ إسماعيلً. واشتقاقُهم من السَّبْط وهو التتابعُ، سُمُّوا بذلك لأنهم أمة متتابعون. وقيل: هو مَقْلُوبٌ من البَسْط، وقيل: مِنْ «السَّبَط: بالتحريك جمع» سَبَطة «وهو الشجرُ الملتفُّ. وقيل للحَسَنَيْن سِبْطا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانتشارِ ذرِّيَّتهم، ثم قيل لكل ابن بنت:» سِبْط «.
قوله: ﴿وَمَآ أُوتِيَ موسى﴾ يجوزُ في» ما «وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ عطفاً على المؤمَنِ به وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّها في محلِّ رفعِ
٧٤٤ - ولكنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا | حنيفاً دينُنا عَنْ كلِّ دِينِ |
٧٤٥ - فيومٌ علينا ويومٌ لنا | ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ |
قوله: ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ - أنَّه في محلِّ نصبٍ، و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ويتعلَّقُ ب» أُوتِيَ «الثانيةِ إن أَعَدْنا الضميرَ على النبيين فقط دونَ موسى وعيسى أو ب» أوْتِيَ «الأولى، وتكونُ الثانيةُ تكراراً لسقوطِها في آل عمران إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على موسى وعيسى والنبيِّين، الثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ من العائدِ على الموصولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: وما أُوتيه كائناً من ربهم الثالث: انه في محلَّ رفعٍ لوقوعِه خبراً إذا جَعَلْنا» ما «مبتدأً وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾ متعلِّقُ ب «لا نُفَرِّقُ»، وفي «أحد» قولان أظهرُهما: أنَّه الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعمومِ وتحته أفرادٌ، فلذلك صَحَّ دخولُ «بين» عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو: «المالُ بين الناس». والثاني: أنه الذي همزتُه بدلٌ من واوٍ بمعنى واحد، وعلى هذا فلا بدَّ من تقديرِ معطوفٍ
٧٤٦ - فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً | أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ |
٧٤٧ -.................. | سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ |
٧٤٨ - فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ... وقال بعضهم: هذا من مجازِ الكلام تقولُ: هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك، أي لا تَفْعَلُه أنت، والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نَقَلَه ابنُ عطية، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ» مثل «وزيادتِها، والثاني: أنها ليست بزائدةٍ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ، أي: فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي: فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به، والمعنى: فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء.
و» ما «قولِه: ﴿بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ﴾ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ: إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ» ما «على أولي العلمِ نحو: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥] وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ. والثاني: أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك. والضميرُ في» به «فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم. والثاني: أن يعودَ على» ما «إذا قيل: إنَّها بمعنى الذي.
قوله: ﴿فَقَدِ اهتدوا﴾ جوابُ الشرط في قوله:» فإنْ آمنوا «، وليس الجوابُ محذوفاً، كهو في قوله: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ [فاطر: ٤] لأنَّ تكذيبَ الرسلِ
قوله: ﴿فِي شِقَاقٍ﴾ خبرٌ لقوله:» هم «وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون، ومثلُه: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف: ٦٦] ونحوُه: والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ.
وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه/ أي: جانبِه، قال امرؤ القيس:
٧٤٩ - إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له | بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ |
قال الزمخشري: «وهي - أي الصبغةُ - مِنْ صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَسَ، وهي الحالَةُ التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى تطهيرُ الله، لأنَّ الإِيمانَ يُطَهِّرُ النفوسَ، والأصلُ فيه أنَّ النصارى كانوا يَغْمِسون أولادَهم في ماء المَعْمودِيَّةِ ويقولون هو تطهيرٌ لهم، فَأُمِرَ المسلمون أَنْ يقولوا: آمنَّا وصَبَغَنا الله صِبْغَةً لا مثلَ صِبْغَتِكم، وإنَّما جيء بلفظِ الصِّبْغَةِ على طريقِ المُشاكلةِ كما تقول لِمَنْ يَغْرِسُ الأشجار: اغْرِسْ كما يَغْرِسُ فلانٌ، تريدُ رجلاً يصطنعُ الكلامَ».
وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما: أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي:
قولِه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي: لا أحدَ، و «أَحْسَنُ» هنا فيها احتمالان، أحدُهما: أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ. والثاني: أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ. و «مِنَ الله»، متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ. و «صبغةً» نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ: ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين. وهذا غريبٌ أعني كَوْنَ التمييزِ منقولاً من المبتدأ.
قولُه: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ ﴿قولوا آمَنَّا بالله﴾ فهي في محلِّ نصبٍ بالقول، قال الزمخشري: «وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ» صبغة الله «بدلٌ مِنْ» مِلَّةَ «أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه». قال الشيخ: «وتقديرُه في الإِغراءِ: عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ، ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله. انتهى». كأنَّه لضَعْفِ العَمَلِ بالظروف والمجروراتِ ضَعُفَ حَذْفُها وإبقاءُ عملِها.
٧٥٠ - تَراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً | يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني |
قوله: ﴿وَهُوَ رَبُّنَا﴾ مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وكذا ما عُطِفَ عليه من قولِه: «ولنا أعمالُنا» ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: جَزَاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم.
وأمَّا قراءةُ الغَيْبة فالظاهرُ أنَّ «أم» فيها منقطعةٌ على المعنى المتقدَّم. وحكى الطبري عن بعضِ النحويين أنها متصلةٌ لأنك إذا قلت: أتقومُ أم يقولم عمروٌ: أيكونُ هذا أم هذا. وردَّ ابنُ عطية هذا الوجهَ فقال: «هذا المثالُ غيرُ جيدٍ، لأنَّ القائلَ فيه واحدٌ والمخاطَبُ واحدٌ، والقولُ في الآيةِ من اثنين والمخاطَبُ اثنان غَيْرانِ، وإنّما تَتَّجِهُ معادَلةُ» أم «للألفِ على الحكم المعنوي، كأنَّ معنى قُلْ أتحاجُّوننا: أيُحاجُّون يا محمد أم يقولون» انتهى. وقال الزمخشري: «وفيمَنْ قَرَأَ بالياء لا تكونُ إلا منقطعةً» قال الشيخ: «ويمكن الاتصالُ مع قراءةِ الياءِ، ويكون ذلك من الالتفاتِ إذ صارَ فيه [
وقال الشيخ:» الأحسنُ في القراءتين أن تكونَ «أم» منقطعةً وكأنه أنكرَ عليهم مُحاجَّتَهم في الله ونسبة أنبيائِه لليهودية والنصرانية، وقد وَقَع منهم ما أَنْكَرَ عليهم، ألا ترى إلى قولِه: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٦٥] الآيات وإذا جَعَلْناها متصلةً كان ذلك غيرَ متضمِّنٍ وقوعَ الجملتين، بل إحداهما، وصارَ السؤالُ عن تعيينِ إحداهما، وليس الأمرُ كذلك إذا وقعا معاً. وهذا الذي قاله الشيخُ حسنٌ جداً. و «أو» في قولِه: «هوداً أو نصارى» كهي في قولِه: ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾
[البقرة: ١١١] وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: ﴿أَمِ الله﴾ أم متصلةٌ، والجلاَلةُ عَطْفٌ على «أنتم»، ولكنه فَصَل بين المتعاطِفينَ بالمسؤولِ عنه، وهو أحسنُ الاستعمالاتِ الثلاثةِ: وذلك أنه يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ ثلاثةُ أوجهٍ: تقدُّمُ المسؤولِ عنه نحو: أأعلم أنتم أم اللهُ، وتوسُّطُه نحو: أأنتم أعلمُ أم اللهُ، وتأخيرُه نحو: أأنتم أم الله أعلمُ: وقال أبو البقاء: «أم الله» مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، أي: أم الله أعلمُ، و «أم» هنا
٧٥١ - أتَهْجوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ | فَشَرُّكما لخيرِ كما الفِداءُ |
قوله: ﴿مِنَ الله﴾ في» مِنْ «أربعة أوجه، أحدها: أنها متعلِّقةٌ ب» كَتَم «، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه. الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ، لأنَّ» عنده «صفةٌ لشهادة» وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال: و «مِنْ» في قولِه: ﴿شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ مثلُها في قولِك: «هذه شهادةٌ مني لفلان» إذا شَهِدْتَ له، ومثلُه: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [براءة: ١] الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المضمرِ في «عنده»، يعني مِن الضميرِ المرفوعِ بالظرفِ لوقوعِه صفةً، ذَكَره أبو البقاء. الرابع: أن يتعلَّقَ بذلك المحذوفِ الذي تعلَّق به الظرفُ وهو «عنده» لوقوعِه صفةً، والفرقُ بينه وبين الوجهِ الثاني أنَّ ذاك له عاملٌ مستقلٌ غيرُ العاملِ في الظرف.
قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تُعَلَّقَ» مِنْ «بشهادةٍ، لئلا يُفْصَلَ بين
وكَتَمَ يتعدَّى لاثنين فأولُهما في الآيةِ الكرمية محذوفٌ تقديرُه: كَتَمَ الناسُ شهادةً، والأحسنُ من هذه الوجوهِ أن تكونَ» من الله «صفةً لشهادة أو متعلقةً بعامل الظرفِ لا متعلقةً بكتم، وذلك أنَّ كتمانَ الشهادةِ مع كونِها مستودعةً مِنَ الله عندَه أبلغُ في الأظلميَّةِ مِنْ كتمانِ شهادةٍ مطلقةٍ من عبادِ الله.
وقال في «ريّ الظمآن» :«في الآيةِ تقديمُ وتأخيرُ، والتقديرُ: ومَنْ أظلمُ مِنَ الله مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً حَصَلَتْ له كقولِك:» ومَنْ أظلمُ من زيدٍ من جملةِ الكلمتين للشهادة «والمعنى: لو كانَ إبراهيمُ وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إنَّ الله كَتَمَ هذه الشهادةَ لم يكن أحدٌ مِمَّنْ يكتمُ الشهادةَ أظلمَ منه، لكن لمَّا استحال ذلك مع عَدْلِه وتنزيهه عن الكذبِ عَلِمْنا أنَّ الأمرَ ليس كذلك». قال الشيخ: «وهذا متكلفٌ جداً من حيث التركيبُ ومن حيث المدلولُ: أمَّا التركيبُ فإنَّ التقديمَ والتأخيرَ من الضرائرِ عند الجمهور، وأيضاً فيبقى قوله:» مِمَّن كتم «متعلِّقاً إمَّا بأظلم، فيكونُ ذلك على طريق البدليَّةِ، ويكون
قوله: ﴿مَا وَلاَّهُمْ﴾ «ما» مبتدأٌ وهي استفهاميةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ عنها، و «عن قِبْلَتِهم» متعلقٌ ب «وَلاَّهم»، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ في قولِه «عليها» أي: على توجُّهِهَا أو اعتقادِها، وجملةُ الاستفهامِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والاستعلاءُ في قولِه «عليها» مجازٌ، نَزَّلَ مواظَبَتَهم على المحافظةِ عليها منزلةَ مَنِ استعلى على الشيء.
٧٥٢ - كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ | بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا |
٧٥٣ - هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ | إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ |
٧٥٤ - وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا... وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين، فقال: كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ «بَيْنَ» يقال بالسكون وإلا فبالتحريك. فتقول: جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون. وقال الراغب: «وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسَطُه صُلْبٌ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو:»
٧٥٥ - أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه | صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا |
قوله:» لتكونوا «يجوز في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ لام» كي «فتفيدَ العلة. والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر، وأتى ب» شهداء «جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد.
وفي» على «قولان أحدُهما: أنَّها على بابِها، وهو الظاهرُ. والثاني أنها بمعنى اللام، بمعنى: أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسولُ عليه السلام، وكذلك القولان في» على «الأخيرة، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم.
وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم، والثاني: أن «شهيداً» أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من «عليكم» فكان قولُه «شهيداً» تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون «عليكم». وهذا الوجهُ قاله
قوله: ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «القِبلْة» مفعولٌ أولُ، و ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ مفعولٌ ثانٍ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال: ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ ليس بصفةٍ للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ، يريد: وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها، وهي الكعبةُ؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ «.
الثاني: أنَّ» القِبلةَ «هي المفعولُ الثاني، وإنما قُدِّم، و ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ هو الأول، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني، ألا ترى أنك تقول: جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً، والمعنى هنا على هذا التقديرِ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه» القبلةَ «مفعولاً أولَ إلى الوهم. وفيه نظر.
الثالث: أنَّ» القبلة «مفعولٌ أول، و» التي كنتَ «صفتَهَا، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً. ولَمَّا ذكر
الرابع: أن» القبلةَ «مفعولٌ أولُ، و» إلا لِنَعْلَمَ «هو المفعولُ الثاني، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلاَّ لنعلمَ، نحو قولِك: ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ، أي: كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ.
الخامس: أنَّ» القبلةَ «مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ، و ﴿التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ صفةٌ لذلك المحذوفِ، والتقديرُ: وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. وفي قوله» كنت «وجهان أحدهما: أنها زائدةُ، ويُروَى عن ابن عباس أي: أنتَ عليها، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب.
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو: الجلْسة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة.
وقال قطرب: «يقولون:» ليس له قِبْلَةٌ «أي جهةٌ يتوجه إليها». وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ.
قوله: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ﴾ قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ، أي: ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا. وقوله «لنعلم» ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ، أحدُها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ. وقيل: على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه.
قوله: ﴿مَن يَتَّبِعُ﴾ في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أنها موصولةٌ، و «يتَّبع»
قوله: ﴿على عَقِبَيْهِ﴾ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أي: يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه، وهذا مجازٌ، وقُرىء «على عَقْبَيْه» بسكون القاف وهي لغةُ تميم.
قوله: ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر، وهو أغلبُ أحوالِها، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور، وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية وأنَّ اللام بمعنى إلاَّ، والمعنى: ما كانت
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ «كبيرةً» «على خبر» كان «واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [عن أبي عمرو] برفعِها، وفيه تأويلان، أحدُهما - وذكره الزمخشري -: أنَّ» كان «زائدةٌ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله:
٧٥٦ - فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ | وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ |
قوله: ﴿إِلاَّ عَلَى الذين﴾ متعلِّقٌ ب «كبيرة»، وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنْ قيل: لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله: {
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ﴾ في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٩] ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ﴾ [آل عمران: ١٧٩] قولان أحدُهما: - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ «كان» محذوفٌ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار «أَنْ» وجوباً، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ، والتقديرُ: وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ. واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً. ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله: /
٧٥٧ - سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو | ..................... |
واعلم أنَّ قولَك: «ما كان زيدٌ ليقومَ» بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من: «ما كان زيدٌ يقومُ»، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ.
وقرأ الضَّحاك: «ليُضَيِّع» بالتشديد، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من «ضاع» القاصر، يقال: ضاع الشيء يضيع، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي: فاحَ فمادةٌ أخرى.
قوله: ﴿لَرَءُوفٌ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر: لَرُؤفٌ على وزن: نَدُس، وهي لغةٌ فاشية كقوله:
٧٥٨ - وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ | يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما |
٧٥٩ - يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً | كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ |
٧٦٠ - لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ | مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ |
٧٦١ - قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه | كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ |
قوله: ﴿فِي السمآء﴾ : في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنه المصدرُ وهو» تقلُّب «، وفي» في «حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ. والثاني: أنَّها بمعنى» إلى «أي: إلى السماء، ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه ب» في «، قال تعالى: ﴿ [لاَ يَغُرَّنَّكَ] تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ [آل عمران: ١٩٦]. والثاني من القولين: أنه» نرى «وحينئذ تكونُ» في «بمعنى» مِنْ «أي: قد نَرى مِن السماء، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ. والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» وجهِك «ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه» وجهك «وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل: كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه.
قوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، أي: فوالله لَنُوَلينَّكَ، و» نُوَلِّي «يتعدَّى لاثنين: الأول الكاف والثاني» قبلةً «، و» ترضاها «الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً، قال الشيخ:» وهذا - يعني «فلنولينك» - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه: قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها.
والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ويكون بمعنى الجهة والنحو، قال:
٧٦٢ - ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً | وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ |
٧٦٣ - أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي | صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ |
٧٦٤ - وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ | هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا |
٧٦٥ - تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ | قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا |
٧٦٦ - وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو | كِ............................. |
٧٦٧ - إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها | وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ |
وقوله: ﴿حَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ في» حيثما «هنا وجهان، أظهرُهما: أنها شرطيةٌ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ» ما «بعدها خلافاً للفراء، ب» كنتم «، في محلِّ جزم بها، و» فولُّوا «جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو: ﴿أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى﴾ [الإسراء: ١١٠] واعلم أنَّ» حيث «من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ. قال الشيخ:» وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ، والإِضافةُ موضَّحةُ
والثاني: أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط، والناصبُ له قولُه:» فَوَلُّوا «قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها» ما «وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ. وأصل وَلُّوا: وَلِّيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا. وقوله:» شَطْرَه «فيه القولان، وهما: إمَّا المفعولُ به وإمّاَ الظرفية كما تقدم.
قوله: ﴿أَنَّهُ الحق﴾ يُحْتمل أن تكونَ» أَنَّ «واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ ل» يَعْلَموْن «عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان.
وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه: «فولُّوا». والثاني: على الشطر. والثالث: على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله «فَلَنُوَلِّينَّكَ» إلى الغَيْبة.
قوله: ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي: الحقُّ كائناً مِنْ ربهم. وقرىء: «عمَّا يعملون» بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون/ التفاتاً من خطابِهم بقولِه: «وجوهكم - كنتم». وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً.
الثاني: وهو قولُ الفراء - ويُنْقل أيضاً عن الأخفشِ والزجاج - أن «إنْ» بمعنى «لو»، ولذلك كانَتْ «ما» في الجوابِ، فَجَعَلَ «ما تَبِعوا» جواباً لإِنْ لأنَّها بمعنى لو، أمّا إذا لم تكن بمعناها فلا تُجابُ ب «ما» وحدَها، بل لا بُدَّ من الفاءِ، تقول: إن تَزُرْني فما أزورك، ولا يجيز الفراء: «ما أزورك» بغير فاء. وقال ابن عطية: «وجاء جوابُ» لَئِنْ «كجوابِ لو، وهي ضدُّها في أَنْ» لو «تَطْلُبُ المُضِيَّ والوقوعَ و» إنْ «تَطْلُب الاستقبالَ، لأنهما جميعاً يترتَّب قبلَها القسمُ، فالجوابُ إنما هو للقسمِ، لأنَّ أحدَ الحَرْفَيْنِ يَقَع موقعَ الآخرِ هذا قولُ سيبويه» قال الشيخ: «هذا فيه تثبيجٌ وعدمُ نصٍ على المرادِ، لأنَّ أَوَّلَه يقتضي أنَّ الجوابَ ل» إنْ «وقولُه بعدَه: الجوابُ للقسم يَدُلُّ على أنه
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ قولَه: «ما تَبِعُوا» فيه قولان، أحدُهما: أنه جوابٌ الشرطِ ولذلك لم يَقْتَرِنْ بالفاءِ. والثاني: أنه جوابٌ لإِنْ إجراءً لها مُجرى لو. وقال أبو البقاء: «ما تَبِعوا» أي: لا يتَّبعوا، فهو ماضٍ في معنى المستقبلِ، ودخلَتْ «ما» حَمْلاً على لفظِ الماضي، وحُذِفَتْ الفاءُ في الجوابِ لأنَّ فعلَ الشرطِ ماضٍ، وقال الفراء: إنْ هنا بمعنى لو «وهذا من أبي البقاءِ يُؤْذِنْ أنَّ الجوابَ للشرطِ وإنما حُذِفَتِ الفاءُ لكونِ فعلِ الشرطِ ماضياً، وهذا منه غير مَرْضِيٍّ، لأنه خَالَفَ البصريين والكوفيين بهذه المقالةِ.
قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ «ما» تَحْتَمِل الوَجْهين أعنى كونها حجازيةً أو تميميةً، فعلى الأولِ يكون «أنتَ» مرفوعاً بها، و «بتابع» في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداءِ و «بتابعٍ» في محلِّ رفعٍ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم. وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه: ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ من وجوهٍ أحدُها: كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ.
ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين: إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في
قوله: ﴿وَلَئِنِ اتبعت﴾ كقولِه: «ولَئِنْ أَتَيْتَ». وقولُه: «إنَّك» جوابُ القسمِ، وجوابُ الشرط محذوفٌ كما تقدَّم في نظيرِه، قال الشيخ: «لا يقال إنه يكونُ جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنىً، أمَّا المعنى فلأنَّ الاقتضاءَ مختلفٌ، فاقتضاءُ القسَمِ على أنه لا عملَ له [فيه]، لأنَّ القسَم إنما جيءَ به توكيداً للجملةِ المُقْسَمِ عليها، وما جاءَ على سبيلِ التوكيدِ لا يناسِبُ أن يكونَ عاملاً، واقتضاءُ الشرطِ على أنه عاملٌ فيه، فتكونُ الجملةُ في موضعِ جزم، وعَمَلُ الشرطِ لقوةِ طلبه له، وأمَّا اللفظُ فإنَّ هذه الجملةَ إذا كانَتْ جوابَ قسمٍ لم تَحْتَجْ إلى مزيدِ رابطٍ، فإذا كانت جوابَ شرط احتيجت إلى مزيدِ رابطٍ وهو الفاء ولا يَجوزُ أن تكونَ خاليةً من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تَكونَ جواباً لهما معاً».
و «إذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ بنص سيبويه، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ: أن تكونَ صدراً، وألاَّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ
قال الشيخ: «وتحريرُ معنى» إذَنْ «صعبٌ اضطربَ الناسُ في معناها وفي فهم كلامِ سيبويهِ فيها، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ» قال: «والذي تحصَّل فيها أنها لا تقعُ ابتداء كلامٍ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين، أحدُهما: أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك: أزورُك.
فتقول: إذاً أزورَك، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ، وفي هذا الوجهِ تكونُ عاملة، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ. الوجه الثاني: أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمٍ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه، وذلك، نحو: «إنْ تأتني إذاً آتِكَ»، و «واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ» فلو أُسْقِطَتْ «إذاً» لَفَهُمَ الارتباطُ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو: «أزورك» فتقول: «إذاً أنا أكرمُك»، وجاز توسُّطُها نحو: «أنا إذاً أكرمُك»، وتأخُّرها. وإذا تقرَّر هذا فجاءت «إذاً» في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه «. انتهى كلامُه.
واعلم أنَّها إذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ، وهي
وجاء في هذا المكان ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ﴾ وقال قبلَ هذا: ﴿بَعْدَ الذي جَآءَكَ﴾ [البقرة: ١٢٠] وفي الرعدَ: ﴿بَعْدَ مَا جَآءَكَ﴾ [الرعد: ٣٧] فلم يأتِ ب» من «الجارةِ إلاَّ هنا، واختصَّ موضعاً ب» الذي «، وموضِعَيْنِ ب» ما «، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم وهو أنَّ» الذي «أَخَصُّ، و» ما «أشدَّ إبهاماً، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ، وحيث أتى بلفظِ» ما «أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ، أحدُهما: القِبلةُ، والآخرُ: بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه: ﴿وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ [الرعد: ٣٦]. قال» وأما دخولُ «مِنْ» ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [على] عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم، والذي يقال في هذا: إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة.
قوله: ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ﴾ الكافُ في محلِّ نَصْبٍ. إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ، التقديرُ: يعرفونه المعرفةَ مماثلة لعرفانهم، وهذا مذهبُ سيبويه، وتقدَّم تحقيقُ هذا. و «ما» مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه.
قوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ «يكتمُون الحق» يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ، وقيل: متعلَّقُ العلم هو ما على
وقرأ علي بن أبي طالب: ﴿الحقَّ من ربك﴾ نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم، قاله الزمخشري الثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمار «الزم» ويدلُّ عليه الخطابُ بعده [في] قوله: «فلا تكونَنَّ» الثالث: أنه يكونَ منصوباً ب «يَعْلَمون» قبلَه. وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظاهرُ موقعَ المضمر أي: وهم يعلمونَه كائناً من ربك، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو:
٧٦٨ - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ | .................... |
والمتراءُ: افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ، ومنه المِراء قال:
٧٦٩ - فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه | إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ |
٧٧٠ - تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِي | ن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ |
قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة، واختُلِف في» هو «على قولين، أحدَهما: أنه يعودُ على لفظِ» كل «/ لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر:» مُوَلاَّها «على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي. والثاني: أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي: الله مُوَلِّي القبلةِ إياه، أي ذلك الفريقُ.
وقرأ الجمهورُ:» مُوَلِّيها «على اسمُ فاعل، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو» ها «العائدُ على الوجهة، وقيل: على التوليةِ ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ» هو «إلى الفريق، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى، وقرأ
والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء: أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ، قال الزمخشري: «المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ، كقولِك: لزيدٍ ضَرَبْتُ، ولزيدٍ أبوه ضاربه.
قال الشيخ: وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ: لزيدٍ ضَرَبْتُه، ولا: لزيدٍ أنا ضَاربُه، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن، وهما: إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ باللامِ يكون ضعيفاً، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّي لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه:
٧٧١ - هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه | والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ |
٧٧٢ - أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا | عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا |
الثالث: أن» لكلَّ وجهةٍ «متعلِّقٌ بقوله:» فاستبقوا الخيراتِ «أي: فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به، كما يُقَدَّمُ المفعولُ، ذكرَه ابنُ عطية، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ» لكلِّ وجهةٍ «في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو» مُوَلٍّ «وهو» ها «، وتكون عائدةً على الطوائفِ، ويكونُ التقديرُ: وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط، و» مُوَلٍّ «مِمَّا يتعدَّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه. وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه،
قوله: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ «الخيرات» منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ، التقديرُ: إلى الخيرات، كقول الراعي:
٧٧٣ - ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ | سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ |
والخَيْرَات جمع: خَيْرة وفيهما احتمالان: أحدُهما: أن تكونَ مخففةً من «خَيِّرَة» بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو: مَيْت في مَيّت. والثاني: أن تكونَ غيرَ مخففةٍ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة، يقال: رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسَّبْقُ: الوصولُ إلى الشيءِ أولاً، وأصلُه التقدُّمُ في السير، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم.
قوله: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ﴾ «أين» اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و «ما» مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز، وهي ظرفُ مكانٍ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ، و «تكونوا» مجزومٌ بها على الشرطِ، وهو الناصبُ لها، و «يأتِ» جوابُها، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين﴾ قرأ الجمهور «إلاَّ» بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام،
٧٧٤ - وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أَخوه | لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدان |
٧٧٥ - ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ | دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا |
و «الذين» في محلِّ نصب على الاستثناءِ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً. وأجاز قطرب أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في «عليكم»، والتقديرُ: لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة، ونُقِلَ عنه أنه كان يقرأ: ﴿إِلاَّ عَلَى الذين﴾ كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله: ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥] وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك.
وإمَّا قراءةُ ابن عباس ف «ألا» للاستفتاح، وفي محلِّ «الذين» حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه: «فلا تَخْشَوْهم» وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في
ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ: ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ وجعل «إلى» حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع، والتقديرُ: لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ «إلا الذين» بتخفيف «إلا» فاعتقَدَ ذلك فيها، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم «. و» منهم «في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ويحتمل أَنْ تكونَ» مِنْ «للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان.
قوله: ﴿وَلأُتِمَّ﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: أنه معطوفٌ على قوله» لئلا يكونَ «كأن المعنى:» عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ، فيكونُ التعريفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كلا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى. الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ، فكأنه قيل: واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم. الثالث: أنه مُتعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه: «ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم. الرابع: وهو أضعفُها - أن تكونَ متعلقةً بالفعلِ قبلَها، والواوُ زائدة، تقديرُه: واخشَوْنِي لأُتِمَّ نعمتي. وهذه لامُ كي وأنْ مضمرةٌ بعدَها ناصبةٌ
وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ: «لا نعلم خلافاً في جوازِه» وأمَّا قولُه: «إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ» وجعلُه «كما» جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب. قال الشيخ: وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها «. انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك.
الخامس: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من «نعمتي» والتقديرُ: ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً، أي: مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ.
٧٧٦ - لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ | ..................... |
وفي «ما» المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، و «رسولاً» بدلٌ منه، والتقديرُ: كالذي أرسلناه رسولا، وهذا بعيدٌ جداً، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ «ما» على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث: أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه:
٧٧٧ - لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ | كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ |
قوله: «بشيءٍ» متعلِّقٌ بقولِه: «لَنَبْلُوَنَّكَ» والباءُ معناها الإِلصاقُ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ «شيء» ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد. وقرأ الضحاك بن مزاحم «بأشياء» على الجمعِ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه: وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا، وقولُه «من الخوف» في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قوله: ﴿وَنَقْصٍ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على «شيء» والمعنى: بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ، والثاني: أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ، أي: وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ.
قوله: ﴿مِّنَ الأموال﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص، وهو يتعدَّى إلى واحد، وقد حُذِفَ، أي: ونقصِ شيء مِنْ
٧٧٨ - وقَدَّمَتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ | وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا |
٧٧٩ - أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ | وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ |
٧٨٠ - وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ | عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ |
قوله: ﴿فَمَنْ حَجَّ البيت﴾ » مَنْ «شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، و» حَجَّ «في محلِّ جَزْمٍ، و» البيتَ «نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ، والجوابُ قولُه:» فلا جُناحَ «. والحَجُّ لغةً: القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى، قال:
٧٨١ - لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ | في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ |
وقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ الظاهرُ أنَّ» عليه «خبرُ» لا «، و» أَنْ يَطَّوَّفَ «أصلُه: في أَنْ يَطَّوَّفَ، فَحُذِف حرفُ الجر، فيجيء في محلِّها القولان، النصبُ أو الجرُّ. والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه» بهما «. وأجازوا بعد ذلك أوجهاً ضعيفةً منها: أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه» فلا جُناحَ «على أن يكونَ خبرُ» لا «محذوفاً، وقدَّره أبو البقاء:» فَلاَ جُنَاحَ في الحج «ويُبْتدَأ بقولِه: ﴿عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ﴾ فيكونُ» عليه «خبراً مقدماً و» أَنْ يطَّوَّفَ «في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ، قال أبو البقاء هنا:» والجيدُ أن يكونَ «عليه» في هذا الوجهِ خبراً، و «أَنْ يَطَّوَّفَ» مبتدأً «.
ومنها: أن يكونَ ﴿عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ﴾ من بابِ الإِغراءِ، فيكونَ» أَنْ يَطَّوَّفَ «في محلِّ نصبٍ كقولك، عليك زيداً، أي: الزَمْه، إلا أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ، حكى سيبويه:» عليه رجلاً لَيْسَني «، قال: وهو شاذ.
ومنها: أَنَّ «أَنْ يطَّوَّفَ» في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «لا» والتقديرُ: فلا جُناحَ الطوافُ بهما. ومنها: «أَنْ يطَّوَّفَ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «عليه»، والعاملُ في الحالِ العاملُ في الخبرِ، والتقديرُ: فلا جُناحَ عليه في حالِ تَطْوافِه بهما. وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهما تنبيهاً على غَلَطِهما، ولا فائدةٌ في ذِكْرِ وجهِ الغَلَطِ إذا هو واضحٌ بأدنى نَظَرٍ.
٧٨٢ - وما أَلومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا | لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا |
وقرأ الجمهورُ: «يَطَّوَّفَ» بتشديد الطاءِ والواوِ، والأصلُ: يَتَطَوَّف، وماضيه كان أصله: «تَطَوَّفَ»، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه: يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ.
وقرأ أبو السَّمَّال: «يَطُوف» مخففاً، من طاف يَطُوف وهي سهلة. وقرأ
وهذا الذي قاله ابنُ عطية فيه خطأٌ من وَجْهين، أحدُهما: كَوْنُه يَدَّعي إدغامَ الثاني في الأولِ وذلك لا نظيرَ له، إنما يُدْغَمُ الأولُ في الثاني. والثاني: أنه قال كما جاء في «مُدَّكِر» لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال: مُذَّكِر بالذال المعجمة وهذه لغةٌ رديئةٌ، إنما اللغةُ الجيدةُ بالمهملة لأنَّا قلبْنا تاءَ الافتعالِ بعد الذالِ المعجمةِ دالاً مهملة فاجتمع متقاربان فَقَلَبْنا أوَّلَهما لجنسِ الثاني وأَدْغَمْنا، وسيأتي تحقيقُ ذلك.
ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال، والأصلُ: اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً، وإنما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم: اعتاد اعتياداً، والأصل: اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك.
قوله: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ قرأ حمزةُ والكسائي «تَطَوعَّ» هنا وفي الآية
وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً و «تَطَوَّعَ» صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و «فإنَّ الله» خبرُه، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي: شاكرٌ له، وانتصابُ «خيراً» على أحدِ أوجهِ: إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: تَطَوَّع بخيرٍ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ نحو قولِه:
٧٨٣ - تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا | ..................... |
قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ﴾ متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين. والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على «ما» الموصولةِ. وقرأ الجمهور «بَيَّنَّاه»، وقرأ طلحة بن مصرف «بَيَّنه» على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ. و «الناس» متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه.
وقوله: ﴿فِي الكتاب﴾ يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بقوله: «بَيَّنَّاه». والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «بَيَّنَّاه» أي: بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب.
قوله: ﴿أولئك يَلعَنُهُمُ﴾ يجوز في «أولئك» وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأً و «يلعنُهم» خبرُه والجملةُ خبرُ «إنَّ الذين» /. والثاني: أن يكونَ بدلاً من «
قوله: ﴿وَمَاتُوا﴾ هذه واوُ الحال، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا: إنَّ حذفَها شاذ.
وقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ﴾ «أولئك» مبتدأ، و «عليهم لعنةُ اللهِ» مبتدأً وخبرٌ، خبرٌ عن أولئك، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن «إنَّ». ويجوزُ في «لَعنةُ»، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن «أولئك» وتقدَّم تحريرُه في ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٥٧] قوله: ﴿والملائكة﴾ الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله. وقرأ الحسن بالرفع: ﴿والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ
ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه، الأولُ: أَنْ تكونَ «الملائكةُ» مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي: وتَلْعَنُهم الملائكة، كما نَصَبَ سيبويه «عمراً» في قولك: «ضاربُ زيدٍ وعمراً» بفعلٍ محذوفٍ. الثاني: أن تكونَ
٧٨٤ -..................... | مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ |
قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ رفعُ «هو» على أنَّه بدلٌ من اسم «لا» على المحلِّ، إذ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ أو هو بَدَلٌ مِنْ «لا» وما عَمِلَتْ فيه لأنَّها وما بعدَها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجوزُ أن يكونَ «هو» خبرَ لا التبرئة لِما عَرَفْتَ أنها لا تَعْمَلُ في المعارفِ بل الخبرُ محذوفٌ أي: لا إله لنا، هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ «لا» المبنيَّ معها اسمُها عاملةٌ في الخبر، أمَّا إذا جَعَلْنا الخبرَ مرفوعاً بما كان عليه قبل دخولِ لا وليس لها فيه عملٌ - وهو مذهبُ سيبويه - فكان ينبغي أَنْ يكونَ «هو» خبراً إلا أنه مَنَعَ من ذلك كونُ المبتدأِ نكرةً والخبرُ معرفةً وهو ممنوعٌ إلا في ضرائِر الشعرِ في بعضِ الأبوابِ.
واستشكل الشيخُ كونَه بدلاً مِنْ «إله» قال: «لأنه لم يُمْكِنْ تكريرُ العاملِ لا تقولُ:» لا رجلَ لا زيدَ «، والذي يظهر لي أنه ليس بدلاً من» اله «ولا مِنْ» رجل «في قولك» لا رجلَ إلا زيدٌ، إنما هو بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المحذوفِ فإذا قُلْنا: «لا رجلَ إلا زيدٌ» فالتقدير: لا رجلَ كائنٌ أو موجودٌ إلا زيد، فزيدٌ بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبر لا من «رجل»، فليس بدلاً على موضعِ اسم لا، وإنما هو بدلٌ مرفوعٌ من ضمير مرفوع، ذلك الضميرُ هو عائدٌ على اسم [لا]، ولولا تصريحُ النَّحْويين أنَّه بدلٌ على الموضع من اسم «لا» لتأوَّلْنا كلامهم على ما تقدَّم تأويلُه «. وهذا الذي قالَه غيرُ مشكل لأنهم لم يقولوا: هو بدلٌ من اسمِ لا على اللفظِ حتى يَلْزَمَهم تكريرُ العاملِ،
قوله: ﴿الرحمن الرحيم﴾ فيه أربعة أوجه، أحدها: أن يكونَ بدلاً من» هو «بدلَ ظاهرٍ من مضمر، إلاَّ أنَّ هذا يؤدي إلى البدلِ بالمشتقات وهو قليلٌ، ويمكن.
الجوابُ عنه بأن هاتين الصفتين جَرَتا مجرى الجوامِد/ ولا سيما عند مَنْ يجعلُ «الرحمنُ» علماً، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البسملة. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الرحمنُ، وحَسَّن حذفَه توالي اللفظ ب «هو» مرتين. الثالث: أن يكونَ خبراً ثالثاً لقولِه: «وإلهُكم» أَخْبر عنه بقولِه: «إله واحد»، وبقولِه: «لا إله إلا هو»، وبقولِه: «الرحمن الرحيم»، وذلك عند مَنْ يرى تعديدَ الخبر مطلقاً، الرابع: أن يكونَ صفةً لقولِه: «هو» وذلك عند الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ، فاشترطَ في وصفِ الضمير هذين الشرطين: أن يكونَ غائباً وأن تكونَ الصفةُ صفةَ مدحٍ، وإنْ كانَ الشيخُ جمالُ الدين بن مالك أَطْلَقَ عنه جوازَ وصفِ ضمير الغائب. ولا يجوزُ أَنْ يكون خبراً ل «هو» هذه المذكورةِ لأنَّ المستثنى ليس بجملةٍ.
٧٨٥ - في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ... ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل، والكيكة: البيضة. وأمّا النهار فقال الراغب: «هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس»، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار، وقال ثعلب والنضر بن شميل: «هو من طُلوع الشمس» زاد النضر «ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار». وقال الزجاجِ: «أولُ النهار دُرورُ الشمسِ» ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة، وقيل: «لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال:
٧٨٦ - لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ | ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ |
والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف، ومنه: ﴿جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً﴾ [الفرقان: ٦٢]، وقال زهير:
٧٨٧ - بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً | وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ |
٧٨٨ - ولها بالماطِرُون إذا | أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا |
خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ | سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا |
قوله: ﴿والفلك﴾ عطفٌ على» خَلْقِ «المجرورِ ب» في «لا على» السماواتِ «المجرورةِ بالإِضافة، والفُلْك [يكون واحداً كقولِه: ﴿فِي الفلك المشحون﴾ [الشعراء: ١١٩] وجمعاً] كقوله: ﴿فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢] فإذا أُريد به، الجَمعُ ففيه أقوالٌ، أحدُها: قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ -» أنه جمعُ تكسير «فإنْ قيل: جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في» حُمُر «و» نُدُب «وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل.
وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين
الثاني: مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب. الثالث: أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً.
وإذا أُفْرِدَ «فُلْك» فهو مذكرٌ قال تعالى: ﴿فِي الفلك المشحون﴾ قالوا: - ومنهم أبو البقاء -: ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله: ﴿والفلك التي تَجْرِي﴾ فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ. وأصلُه: من الدوران ومنه: «فَلَك السماء» لدورَانِ النجومِ فيه، وفَلْكَةُ المِغْزَل، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها. وجاءَ بصلةِ «التي» فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ، وقوله «في البحر» توكيدٌ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه، فهو كقولِه: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨].
قوله: ﴿مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ﴾ : مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي: أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدَها: أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه. والثاني: أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ. والثالثُ: أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه:» من السماء «بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ.
فإنْ قيل: كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ، لا تقول: أخذت من الدراهم من الدنانير. وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ» مِنْ «الثانية» للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوزُ ذلك [فيه] كما تقدَّم. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ» الأولى بمحذوفٍ على أنها حال: إمّا من الموصولِ نفسِه وهو «ما» أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي: وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء.
قوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ﴾ عَطَفَ «أحيا» على «أنزل» الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات. و «به» متعلق «بأحيا، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة، وكلُّ هذا مجازٌ، فإنه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في» به «يعودُ على الموصول. /
قوله: ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ يجوزُ في» بَثَّ «وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على»
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ «فيها» يعودُ على الأرض، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: وبث به فيها، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلاَّ بشروطٍ: أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ، وألاَّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي، قال: «وهو جائز شائع في كلامهم، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه، وأنشدَ شاهداً عليه:
٧٨٩ - ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ | وهواه أطاع يَسْتويانِ |
٧٩٠ - أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم | ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ |
٧٩١ - فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ | بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ |
٧٩٢ - وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها | وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ |
٧٩٣ - لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني | إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه |
قوله: ﴿مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ يجوز في «كل» ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها: أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ «مِنْ» تبعيضيةً. الثاني: أن تكون «مِنْ» زائدةً على مذهب الأخفش، و «كلَّ دابة» مفعول به.
ل «بَثَّ» أيضاً والثالث: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ «بَثَّ» المحذوفِ إذا قلنا إنَّ
وقال أبو البقاء: «ومفعولُ» بَثَّ «محذوفٌ» تقديرُه: وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ «، وظاهرُ هذا أنَّ ﴿مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته.
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريق، قال:
٧٩٤ -.................... | وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ |
٧٩٥ - كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ | صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ |
قوله: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ » تصريف «مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: وتصريفِ الرياحِ السحابَ، فإنها تسوقُ السحابَ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ، والفاعلُ محذوفٌ أي: وتصريفِ اللهِ الريحَ. والرياحُ: جمعُ ريح جمعَ تكسير، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ: رِوْح، لأنه من راح يروح، وإنما قُلِبَتْ في» ريح «لسكونها وانكسار ما قبلها، وفي» رياح «لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ، وهو إبدالٌ مطردٌ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا: أَرْواح قال:
٧٩٦ -..................... | دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ |
٧٩٧ - أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ | فلم يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ |
٧٩٨ - لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه | أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ |
قال ابنُ عطية: «وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ، وفي الحديث:» الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً «لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب». انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها. وإنما الذي يقال: إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ.
وقرأ هنا «الريح» بالإِفراد حمزةُ والكسائي، والباقون بالجمع،
والسحابُ: اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ، سُمِّي بذلك لانسحابِه، كما قيل له: حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو، ذكر ذلك أبو علي، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله: «المُسَخَّر» كقوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله: ﴿سَحَاباً ثِقَالاً﴾ [الأعراف: ٥٧]، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ / [الحاقة: ٧] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان: التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى.
والتسخيرُ: التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ. وقال الراغب: «هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه».
قوله: ﴿بَيْنَ السمآء﴾ في «بين» قولان، أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: «المُسخَّرِ» ؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير. والثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً بين السماء و «لآياتٍ» اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه.
وقوله: ﴿لِّقَوْمٍ﴾ في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه «يَعْقِلون» الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ.
قوله: ﴿مِن دُونِ الله﴾ متعلِّقٌ بيتَّخذ. والمرادُ بدون هنا: غَيْر، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى «غير» مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت: «اتخذتُ من دونِك صديقاً» أصلُه: اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً، فهو ظرفٌ مجازيٌّ. وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونَ غيراً لأنه ليس إياه، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ. و «يتَّخِذُ» يَفْتَعِلُ من الأخْذِ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو: أَنْداداً «. وقد تقدَّم الكلامُ على» أنداداً أيضاً واشتقاقه.
قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «مَنْ» في أحدِ وجهَيْها، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في «يتَّخِذُ». والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم، والمرادُ بهم الأصنامُ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيرهم، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في «يَتَّخِذ»، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في «يتَّخِذُ»، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم.
٧٩٩ - ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه | مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ |
٨٠٠ - ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ | وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ |
وقال ابن عطية: «حُبّ» مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه: كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ «. انتهى، وقوله» للفاعل المضمر «يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو:» كُمْ «أو» هِمْ «، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف
وقال الزمخشري:» كحُبِّ اللهِ: كتعظيمِ اللهِ، والخُضوعُ له، أي: كما يُحَبُّ اللهُ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ «. انتهى. أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ: أعني الجوازَ مطلقاً. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ. والثالث: التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو: عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في» حُبّ «أن يُبْنى للمفعولِ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة:» نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن «برفعِ» ذو «عطفاً على محلّ» الأبتر «لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي: أن يُقْتَلَ الأبترُ. ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا.
وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم، وقال:» ليس بشيء «، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ: ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين، أي: يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ». وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ
وقرأ أبو رجاء: «يَحُبُّونهم» من «حَبَّ» ثلاثياً، و «أَحَبَّ» أكثرُ، وفي المثل: «مَنْ حَبَّ طَبَّ».
قولُه: ﴿أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ المفضلُ عليه محذوفٌ، وهم المتخذون الأنداد، أي: أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم، وقال أبو البقاء: «ما يتعلَّقُ به» أشدّ «محذوفٌ تقديرُه:» أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ «والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم. ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره.
وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَل التفضيل من مادة الحب لأن «حُبَّ» مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه. فأمَّا قولُهم: «ما أحبَّه إلي» فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين. و «حباً» تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه: حُبُّهم للهِ أشَدُّ.
قوله: ﴿وَلَوْ يَرَى الذين﴾ جوابُ لو محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديره، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة: قرأ ابنُ عامر ونافع: «ولو ترى» بتاءِ الخطابِ، و «أن القوة» و «أن الله بفتحِهما، وقرأ ابنُ عامر:» إذ يُرَوْن «بضم الياء، والباقون بفتحِهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون:» ولو يرى «بياء الغيبة،» أنَّ القوة «و» أنَّ الله «
وقال ابنُ عطية: «تقديرُه: ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً» وناقشه الشيخ فقال: «كان ينبغي أن يقولَ: في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف» إذ «وهو الوقتُ لا الحالُ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ» لو «غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي» لو «، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً، وهو نظيرُ قولِك:» يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه «فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد»
وتقديرُه على قراءةِ «يرى» بالغيبة: لعلموا أنَّ القوةَ، إنْ كان فاعل «يرى» «الذين ظلموا»، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ: لَعَلِمَ أنَّ القوة.
وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه: شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة «ترى» بالخطابِ: لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم، ويكونُ فتحُ «أنَّ» على أنه مفعولٌ من أجلِه، أي: لأنَّ القوةَ لله جميعاً، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو: «أكرِمْ زيداً إنه عالم، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ»، أو تكونُ جملةً معترضةً بين «لو» وجوابِها المحذوفِ. وتقديرُه على قراءةِ «ولو يرى» بالغيبة إن كان فاعلُ «يرى» ضميرَ السامعِ: لاستعظَمَ ذلك، وإنْ كان فاعلُه «الذين» كان التقديرُ: لاستعظَموا ما حَلَّ بهم، ويكونُ فتحُ «أنَّ» على أنها معمولةٌ ليرى، على أن يكونَ الفاعلُ «الذين ظلموا»، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعولهما، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ.
وأمَّا قراءةُ «يرى الذين» بالغَيبة وكسرِ «إنَّ» و «إنَّ» فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي: لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه «الذين» : لقالوا: ويكونُ مفعولُ «يرى» محذوفاً أي: لو يرى حالهم. ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ: لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين، وإنما كُسِرتا استئنافاً، وحَذْفُ جوابِ «لو» شائعٌ مستفيضٌ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن. وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً. قال امرؤ القيس:
٨٠١ - وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه | سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا |
٨٠٢ - فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً | أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ |
٨٠٣ - بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى | ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ |
إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً | لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ |
وقيل: أَوْقَعَ «إذ» موقع «إذا» وقيل: زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ.
وقراءةُ ابنِ عامر «يُرَوْنَ العذاب» مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو، والثاني هو «العذابُ»، وقراءةُ الباقين واضحةٌ.
قوله: ﴿جَمِيعاً﴾ حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً، لأنَّ تقديره: «أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً»، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها، و «أنَّ» لا تعملُ في الحال، وهو مُشْكلٌ، فإنَّهم أجازوا في «ليت» أن تعمل في الحال، وكذا «كأنَّ» لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في «أنَّ» لِما فيها من معنى التأكيد. و «جميع» في الأصل: فَعِيل من الجَمْعِ، وكأنه اسمُ جمعٍ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد، قال تعالى: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ [القمر: ٤٤]، وتارةً بالجمعِ، قال تعالى: ﴿جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٣٢]، ويَنْتَصِبُ حالاً، ويؤكد به بمعنى «كل»، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ «كل»، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان، تقول: «جاء القومُ جميعُهم» لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين «جاؤوا معاً».
قوله: ﴿وَرَأَوُاْ العذاب﴾ في هذه الجملة وجهانِ: أظهرهُما: أنها عطفٌ على ما قبلها، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف، تقديرُه: «إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا، وإذْ رَأَوا». والثاني: أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ، و «قد» معها مضمرةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ: «تَبَرَّأ» أي: تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ.
قوله: ﴿وَتَقَطَّعَتْ﴾ يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ «تَقَطَّعَتْ» على «تَبَرَّأ»، ويكون قوله: «ورأوا» حالاً، وهذا اختيار الزمخشري، أو عَطَفَتْ على «رأوا» ؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين، أو حالٌ للضميرِ في «رَأوا» ؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا «ورأوا» حالاً.
والباءُ في «بهم» فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُهُما: أنَّها للحالِ أي: تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو: «خَرَج بثيابه». الثاني: أن تكونَ للتعديةِ، أي:
والأسبابُ: الوَصْلاتُ بينهم، وهي مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء: عيناً كان أو معنىً، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ، قال زهير:
٨٠٤ - ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه | ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ |
٨٠٥ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني | ........................ |
٨٠٦ - فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ | فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ |
٨٠٧ - بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً | وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ |
٨٠٨ - يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ | حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ |
قوله:» كما «الكافُ موضعُها نصبٌ: إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أي: تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي: نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ.
وقال ابنُ عطية: «الكافُ في قوله» كما «في موضعِ نصبٍ على النعت: إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه: متبرئين كما». قال الشيخ: «وأمّاً قولُه» لحال تقديرُه متبرئين كما «فغيرُ واضحٍ، لأنَّ» ما «مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ» قال: «وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً، وهي خلافُ الأصلِ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه».
قوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ﴾ في هذه الكافِ قولان، أحدُهما: أنَّ موضعَها نصبٌ: إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ، أي: يُريهم
والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ بصريةً، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة، أولُهُما الضميرُ والثاني «أعمالَهم» و «حسراتٍ» على هذا حالٌ من «أعمالهم». والثاني: أن تكون قلبية، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها «حسرات» و «عليهم» يجوزُ فيه وجهان: أن يتعلَّق ب «حسراتٍ» لأنَّ «يَحْسَر» يُعَدَّى بعلى، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تفريطهم. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ.
والكَرَّةُ: العَوْدَةُ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً، قال:
٨٠٩ - أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي | أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها |
و «طيباً» فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن يكونَ صفةً لحلالاً، أمَّا على القول بأنَّ «مِنْ» للابتداءِ متعلِّقة ب «كُلوا» فهو واضحُ، وأمّا على القولِ بأنّ «مِما في الأرض» حالٌ من «حلالاً»، فقال أبو البقاء: «ولكنَّ موضعَها بعد
وأما المعنى فإنَّ «طيباً» مغايرٌ لمعنى «مستطيبين» لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ، تقول: طاب لزيدٍ الطعامُ، ولا تقولُ: «طابَ زيدٌ الطعام» بمعنى استطابه «.
والحَلالُ: المأذونُ فيه، ضدُّ الحرام الممنوع منه. [يُقال:] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ، ويقال: حَلال وحِلُّ، كحرام وحَرَم، وهو في الأصل مصدرٌ، ويقالُ:» حلٌِ بِلٌّ «على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ. وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها، وقرىء، ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ [طه: ٨١] بالوجهين.
قوله: ﴿خُطُواتِ﴾ قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص: خُطُوات بضم الخاء والطاء، وباقي السبعة بسكون الطاءِ، وقرأ أبو السَّمَّال» خُطَوات «
فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ» فَعْلَة «الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب -: السكونُ وهو الأصلُ، والإِتباع، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً. وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح: أنَّ المفتوحَ مصدرٌ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء.
وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان، أحدُهما: - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ، و» خُطُؤات «جمع» خِطْأَة «إِنْ سُمِعَ، وإلاَّ فتقديراً، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ. والثاني: أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه.
قوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ﴾ قال أبو البقاء:» إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ
٨١٠ - لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك | ......................... |
٨١١ - وجِيدٍ كجيدٍ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ | إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ |
قوله: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ﴾ بل هنا عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ قبلها تقديرُه: لا نتَّبعُ ما أنزل اللَّهُ بل نَتَّبعُ كذا، ولا يجوزُ أنْ تكونَ معطوفةً على قولِهِ: «اتَّبِعُوا» لفسادِهِ. وقال أبو البقاء: «بل» هنا للإِضرابِ عن الأول، أي: لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ، وعلى هذا فيقالُ: كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قولهِ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق﴾ [السجدة: ٣] فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله: «أم يقولون افتراه» كان إضرابَ انتقالٍ، وإن اعتبرْتَ «افتراه» وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ.
قوله: ﴿أَوَلَوْ﴾ الهمزةُ للإِنكار، وأمَّا الواو ففيها قولان، أحدُهما: - وإليه ذهب الزمخشري - أنها واوُ الحالِ، والثاني - وإليه ذهب أبو البقاء وابن عطية - أنها للعطفِ. وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزةِ الواقعةِ قبل الواوِ والفاءِ وثُمَّ: هل بعدَها جملةٌ مقدرةٌ؟ وهو رأيُ الزمخشري، ولذلك قَدَّرَه هنا: أيتَّبِعُونَهم ولو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب، أو النيةُ بها التأخيرُ عن حرفِ العطف؟ وقد جَمَعَ الشيخ بين قولِ الزمخشري وقولِ ابن عطية فقال: «والجمعُ بينهما أنَّ هذه الجملةَ المصحوبةَ ب» لو «في مثلِ هذا السياقِ جملةٌ شريطةٌ، فإذا قال:» اضربْ زيداً ولو أَحْسَنَ إليك «فالمعنى: وإنْ أَحسَنَ إليكَ، وكذلك:» أَعْطوا السائلَ ولو جاءَ على فرسٍ «» رُدُّوا السائلَ ولو بشقَّ تمرةٍ «المعنى فيهما:» وإنْ «، وتجيء»
فهو يُنافي استغراقَ الأحوالِ، حتى هذه الحالُ، فهما معنيانِ مختلفانِ، ولذلك ظهر الفرقُ بين: «أَكْرِمْ زَيْداً لو جَفَاك» وبين «أكْرمْ زيداً ولو جَفَاك» انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ/ وجوابُ «لو» محذوفٌ تقديرُه: لاتَّبعوهم، وقدَّره أبو البقاء: «أفكانوا يَتَّبِعونهم» وهو تفسيرُ معنىً، لأن «لو» لا تُجاب بهمزةِ الاستفهام.
قوله: ﴿شَيْئاً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى: لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ. والثاني: أن ينتصبَ على المصدريةِ، أي: لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ. وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ.
وقد اختلفُوا في ذلك: فمنهم مَنْ قال: معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ. ومنهم مَنْ قالَ: هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به. ومنهم مَنْ قال: هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به. فهذه أربعةُ أقوالٍ.
فعلى القولِ الأولِ: يكون التقديرُ: «وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً». وقيلَ: يكون التقديرُ: ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ.
قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - «إلاَّ أَنَّ قولَه ﴿إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً». قال الشيخ: «ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ، والصنَمُ لا يسمع، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ» قال: «ونحن نقول: التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ
وقيل في هذا القولِ: - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ «يسمع» ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ، ويكونُ العائدُ على «ما» الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى، تقديرُه: بما لا يَسْمَعُ منه، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم. وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ «يَسْمَعُ» ضميراً يعود على «ما» الموصولةِ، وهو المنعوقُ به. وقيل: المرادُ بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون، والمعنى: مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم. فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ «مثل» مبتدأً و «كمثلِ» خبرَه، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ.
وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل: معناه: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذي يَنْعِقُ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني.
وقيل التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ، وقال قائلُ هذا: كما تقولون: «دَخَلَ
وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ: وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول. قال الزمشخري: «ويجوز أن يُرادَ ب» ما لا يَسْمَعُ «الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ» وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ «ما» على العقلاءِ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه «ما».
وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه: «مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به» واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبويه، فقائلٌ: هو تفسير معنىً، وقيل: تفسيرُ إعرابٍ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان: حَذْفٌ من الأولِ وهو حَذْفُ «داعيهم» وقد أثبتَ نظيره في الثاني، وحَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ، وقد أثبت نظيرَه في الأول، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلاَّ أصواتاً لا يَعْرفون ما وراءها. وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ
٨١٢ - وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ | كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ |
وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ. قال الراغب: «فلما شَبَّه قصةَ
والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى.
وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ «مثلُ الذين» مبتدأٌ، و «كمثل الذي» خبرُه: إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: مَثَلُ داعي الذينَ، أو من الثاني: أي: كمثلِ بهائِمِ الذي، أو على حَذْفَيْنِ: حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله. وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ.
والنَّعِيقُ: دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم، قال:
٨١٣ - فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما | مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا |
قوله: ﴿إِلاَّ دُعَآءً﴾ هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ «يَسْمَعُ» ولم يأخُذْ مفعولَه. وزعم بعضُهم أنَّ «إلاَّ» زائدةٌ، فليسَ من الاستثناء في شيء. وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ «إلاَّ» في قولِهِ:
٨١٤ - حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً | على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا |
وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً: وهو قولهُ: ﴿لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء، وكأنَّه قيل: لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ، وهذا لا يَجُوز؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً، وإنما المعنى: لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ، فكأنه قيل: ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ. وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ.
وهنا سؤالٌ آخرُ: وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ. ذكر ذلك عليُّ بن عيسى.
٨١٥ - إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا... وفي قولِهِ: ﴿واشكروا للَّهِ﴾ التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال: «واشكرونا».
وقرأ أبو جعفر: «حُرَّم» مبنياً للمفعولِ، فتحتملُ «ما» في هذه القراءةِ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ «ما» مهيِّئَةً، و «الميتةُ» مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعولُ «حَرَّمَ» القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على «ما» الموصولةِ، و «الميتةُ» خبرُ «إنَّ».
والجمهورُ على تخفيفِ» المَيْتَة «في جميع القرآنِ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ» المَيْت «مخفَّفٌ من» الميِّت «وأن أصلَه: مَيْوِت، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ [الآية: ٢٧] في آلِ عمران. ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن» المَيْت «بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ. وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ، ثم قال:» ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧]. وأمَّا قولُه:
٨١٦ - إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ | فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ |
واللحمُ معروفٌ، وجمعه لُحوم ولُحْمان، يُقال: لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم، أي: غَلُظَ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم: اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ، أي: أَطعَمَهم اللحمَ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ.
والخنزير حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِه قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب. والثاني: أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي: ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر. وقيل: الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ، يقال: هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ.
قوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ﴾ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، ومَحَلُّهما: إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على «الميِّتة»، والرفعُ: إمَّا على خبر إنَّ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ. و «أُهِلَّ» مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في «به»، والضميرُ يعودُ على «ما»، والباءُ بمعنى «في». ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في ذَبْحِه، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ. والإِهلالُ: مصدرُ أَهَلَّ أي: صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه: الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه، واستهَلَّ الصبيُّ. قال ابن أحمر:
٨١٧ - يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها | كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ |
٨١٨ - أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها | بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ |
٨١٩ - تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ | وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ |
وقوله: ﴿فلا إِثْمَ﴾ جوابُ الشرطِ، والفاءُ فيه لازمةٌ. وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه: «اضطُّرَّ» من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ. ومحلُّ ﴿فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني.
والجمهورُ على «اضْطُرَّ» بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل: «اضْطُرِرَ» بكسرِ الراءِ الأولى، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها. وقرأ ابن محيصن: «اطُّرَّ» بإدغام الضادِ في الطاء. وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار﴾ [البقرة: ١٢٦].
وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون «مَنْ» على أصلِ التقاءِ
قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ نصبٌ على الحالِ، واختُلِفَ في صاحبها، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في «اضطُرَّ»، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه: «اضطُرَّ»، قالا: تقديرُه: فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ، كأنهما قصدا بذلك أن يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ.
قال الشيخ «ولا يتعيَّن ما قالاه، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه: {غَيْرَ
و» عادٍ «اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه، والأصلُ: عادِوٌ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو. وهذا هو الصحيحُ، وفيه قولٌ ثانٍ: أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ: عادِو، فأُعِلَّ بما تقدَّم، ووزنُه: فالِع، كقولهم: شاكٍ في شائِك من الشوكة، وهارٍ والأصل هائر، لأنه من هار يَهُور، قال أبو البقاء:» ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ «غير» جاز «يعني فكان يقال: ولا عادياً.
وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾، وبابِِِِه فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم. وضابطُ محلِّ اختلافهم: كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً، نحو:» فَمَنِ اضطُرَّ « ﴿فَمَنِ اضطُرَّ﴾ ﴿أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً﴾ [المزمل: ٣] ﴿وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ﴾ [يوسف: ٣١] ﴿قُلِ ادعوا الله﴾ [الإسراء: ١١٠] ﴿أَنِ اعبدوا﴾ [المائدة: ١١٧] {وَلَقَدِ
واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما: وهما:» قُل ادْعُوا «» أو انْقُصْ منه «، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو:» محظوراً نظر «، واختلف عنه في لفظتين: ﴿خَبِيثَةٍ اجتثت﴾ [إبراهيم: ٢٦] ﴿بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة﴾ [الأعراف: ٤٩] / والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين.
قوله: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ الضميرُ في «به» يُحْتَمَلُ أن يعودَ على «ما» الموصولةِ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه: «يكتمون» وأَنْ يعودَ على الكتابِ، أظهرها أوَّلُها، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل.
٨٢٠ - فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً | لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما |
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ | رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما |
٨٢١ - أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ | بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ |
٨٢٢ - يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا | ........................... |
وقوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: «يأكلون» فهو ظرفٌ له. قال أبو البقاء: «وفيه حَذْفُ مضافٍ أي طريق بطونهم، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على
والمرادُ بالتعجبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى. ومعنى «على النار» [أي] على عَمَل أهلِ النارِ، وهذا من مجازِ الكلام.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أي: فما أصبرَهم اللهُ على النار، نقله أبو البقاء وليس بشيءٍ.
٨٢٣ - سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم | وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ |
٨٢٤ - أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ | وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ |
وقوله: ﴿قِبَلَ﴾ منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله «تُوَلُّوا»، وحقيقةُ قولك: «زيدٌ قِبَلك» : أي في المكانِ الذي قبلك فيه، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى «عند» نحو: «قِبَل زيدٍ دَيْنٌ» أي: عندَه دَيْنٌ.
قوله: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «البِرَّ» اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة «فَطِن»، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها،
الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: «رجل عَدْل» أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو: «أقائماً وقد قعد الناس» في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين.
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل «بِرَّاً» ك «سِرّ»، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك.
وجَعَلَ الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقِعَ «الإِيمان» فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال: «ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله». قال: «والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد:
وقرأ نافع وابن عامر:» ولكنْ البِرُّ «هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع» البرُّ «، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقرىء:» ولكنَّ البارَّ «بالألف وهي تقوِّي أنَّ» البِرَّ «بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ.
وَوَحَّد» الكتابَ «لفظاً والمرادُ به الجمعُ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ، أو أرادَ به الجنسَ، أو أراد به القرآنَ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ.
قوله: ﴿على حُبِّهِ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، العاملُ في» آتى «، أي: آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه. والحبُّ مصدرٌ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧].
والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ. أظهرُها: أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه. الثاني: أنه يعودُ على الإِيتاء المفهومِ من قوله:» آتى «أي: على حُبِّ الإِيتاء، وهذا بعيدٌ من حيث
٨٢٥ - لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى | ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي |
٨٢٦ - تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً | كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ |
و «ذي القربى» على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه. الرابع: أن يعودَ على «مَنْ آمن»، وهو المُؤْتِي للمال، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً، أي: «حُبِّه المال»، وأن يكونَ «ذوي القربى»، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله.
قال ابن عطية: «ويجيء قولُه:» على حُبِّه «اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ». قال الشيخ: «فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها، وهذا مفردٌ وله محلٌّ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين، وهما» المال «و» ذوي «فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ».
قوله: ﴿ذَوِي﴾ فيه وجهان، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى، وهل هو الأولُ و «المالَ» هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني: أنه منصوبٌ ب «حُبِّه» على أنَّ الضميرَ يعودُ على «مَنْ آمن» كما تقدَّم.
و «ابن السبيل» اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [به] الجمعُ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ.
قوله: ﴿وَفِي الرقاب﴾ متعلِّقٌ بآتى. وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ ضَمَّنَ «آتى» معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ، كأنه قال: وَضَع المالَ في الرقاب. والثاني: أن يكونَ مفعولُ «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون. وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها.
قوله: ﴿وَأَقَامَ الصلاة﴾ عَطْفٌ على صلةِ «مَنْ» وهي: آمن وآتى، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَجِلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم.
قوله: ﴿والموفون﴾ في رفعه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على «مَنْ آمن»، أي: ولكنَّ البِرَّ المؤمنون
قال الفارسي: «وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ.
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على» ذوي القربى «أي: وآتى المالَ الصابرين؟ قيل: لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون. والثالث: أن يكونَ» الموفون «عطفاً على الضمير المستتر في» آمَنَ «، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في» الصابرين «وجهان، أحدُهما: النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم، والثاني: العطفُ على» ذوي القربى «، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها.
وقوله: ﴿إِذَا عَاهَدُواْ﴾ » إذا «منصوبٌ بالموفُون، أي: الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ.
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ:» والصابرون «، وحكى الزمخشري قراءَة:» والموفين «و» الصابرين «.
و «حين البأسِ» منصوبٌ بالصابرين، أي: الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ.
والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان، أحدُهما: - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ، وألفُهما للتأنيث، والثاني: أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال: بَئِس يَبْأَس إذا افتقر. قال الشاعر:
٨٢٧ - ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً | يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ |
قوله: ﴿أولئك الذين صَدَقُوا﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وأتى بخبر «أولئك» الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً.
قوله: ﴿الحر بِالْحُرِّ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، والتقديرُ: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتولٌ بالحُرِّ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه، فإن الباءَ فيه للسبب، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت: الحُرَّ كائنٌ بالحر، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً، أي: قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر. وأجاز الشيخ أن يكونَ «الحُرُّ» مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر، يَدُلُّ عليه قولُه: ﴿القصاص فِي القتلى﴾ فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر، وفيه بَعْدٌ.
والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً، نحو: قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه، لأنه اتباعُ دمِ المقتول.
والحُرُّ وصفٌ، و «فُعْل» الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس، قالوا: حُرّ وأحرار، ومُرّ وأمرار، والمؤنثة حُرَّة، وجمعها على «حرائِر» محفوظُ أيضاً، يقال: حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً.
قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ﴾ يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء. وعلى الأول يكونُ «عُفِي» في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه: «فاتِّباع» على الأول، ومحلُّها وما بعدها الجزمُ،
وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر «عُفِيَ» بمعنى «تُرِكَ» قال: فإنْ قلت: هَلاَّ فَسَّرْت «عُفي» بمعنى «تُركَ» حتى يكونَ «شيء» في معنى المفعول به. قلت: لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ، ولكن «أعفاه» ومنه: «وَأَعْفوا اللَّحى» فإنْ قلت: قد ثَبَتَ قولُهم: عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله، فَهَلاَّ جَعَلْتَ معناه: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ. قلت: عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها، وترى كثيراً مِمَّن
قال الشيخ: «إذا ثَبَتَ أنَّ» عَفَا «بمعنى مَحا فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ» عَفَا «لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به، فقد يتعادَلُ الوجهان: أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و» عفا «المتعدِّي بمعنى» مَحَا «لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً» فإن قيل: تُضَمِّنُ «عَفَا» معنى «تَرك» فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ. وقيل: إن «عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ، والمعنى: فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات، مِنْ قَوْلِهِم: عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ. وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها.
قوله: ﴿فاتباع بالمعروف﴾ في رَفْع «اتباع» ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية: فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ، وَقَدَّره الزمخشري: فالأمرُ اتِّباع. قال ابنُ عطية: «وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله: ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤]. قال الشيخ» ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ
الثاني: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ، وقَدَّرَهُ الزمخشري: فليكن اتِّباعُ. قال الشيخ: «هو ضعيفٌ إذ» كان «لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد» إنْ «- الشرطية و» لو «لدليلٍ يَدُلُّ عليه».
الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه، أي: فعليه اتِّباع، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه، أي: فاتِّباع بالمعروفِ عليه.
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ. الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله «اتِّباع» فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ: فعليه اتِّباعُه عادلاً، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار.
قوله: ﴿وَأَدَآءٌ﴾ في رفعِهِ أربعة أوجهٍ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه «فاتِّباعٌ» لأنه معطوفٌ عليه. والرابعُ: أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه، وهو «بإحسان» وهو بعيدٌ. و «إليه» في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ «بأداء» ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: وأداءٌ كائنٌ إليه.
و «بإحسانٍ» فيه أربعةُ أوجه: الثلاثةُ المقولةُ في «بالمعروف»، والرابعُ:
٨٢٨ - فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما | دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ |
لكالرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى | وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ |
قوله: ﴿ذلك تَخْفِيفٌ﴾ الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و «من ربكم» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «رَحمة» صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي: ورحمةٌ من ربكم.
وقوله: ﴿فَمَنِ اعتدى﴾ يجوز في «مَنْ» الوجهان الجائزان في قولِهِ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ من كونِها شرطية وموصولةً، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا.
قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ يجوزُ أنْ يَكُونَ «لكم» الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لكم»، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «حياةٌ»، لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، ويجوزُ أن يكونَ «في القصاص» هو الخبرَ، و «لكم» متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ﴾ [البقرة: ٣٦]، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا.
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي: تَتَبَّع، وهذا أصلُ المادة، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد، ومنه «القصيص» لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ، ومنه الحديث:
«نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ» أي تَجْصيصِها.
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب: «القتلُ أَوْفَى للقتل» ويُرْوى أَنْفَى للقتل، ويُرْوَى: أَكفُّ للقتَل. وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه، منها: أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ. ومنها: أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ «أَنْفَى» وأَوْفَى «و» أكفُّ «أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه، أي: أنفى للقتل مِنْ ترك القتل. ومنها: أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف. والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس. ومنها: أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه. ومنها: أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣] قوله: ﴿ياأولي الألباب﴾ منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ. واعلم أن»
والألبابُ جمعُ» لُبٍّ «وهو العقلُ الخالي من الهَوي، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين: إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ، يقال: لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عَزُزْتُ/ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ، فهذه بالضمِّ وبالفتح، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم.
قوله: ﴿إِذَا حَضَرَ﴾ العاملُ في «إذا» «كُتِب» على أنها ظرفٌ محضٌ، وليس متضمناً للشرطِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ «الوصية» لأنها مصدرٌ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ إلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه، وهو أبو الحسن، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك، فيكون التقديرُ: كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت.
وقال ابن عطية: «ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ» كُتِب «هو العامل في» إذا «، والمعنى: توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل، و» الوصيةُ «مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب. وجوابُ الشرطَيْنِ» إنْ «و» إذا «مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب». قال الشيخ: «وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في» إذا «كُتِبَ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ» إذا «ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ، وهذا يناقِضُ قوله:» وجوابُ «إذا» و «إنْ» محذوفٌ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِيُّ، و «كُتِب» ليس أحدَهما، فإنْ قيل: قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ «كُتب» هو الجوابَ، ولكنه تقدَّم، وهو عاملٌ في «إذا» فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ. فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ «.
٨٢٩ - مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه | ........................ |
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها | والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ |
ويجوزُ أَنْ تكونَ» إذا «شرطيةً، فيكونَ جوابُها وجوابُ» إنْ «محذوفَيْن. وتحقيقُه: أنَّ جواب» إنْ «مقدَّرٌ، تقديرُه:» كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص «، فقولُه» فَلْيُوصِ «جوابٌ لإِنْ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ» إذا «فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله. وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول: إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول، وحُذف جوابُ الثاني، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى» كُتِبَ «ماضي المعنى، إلاَّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى: يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً.
قوله:» الوصيةُ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، [أحدها:] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه» للوالدَيْن «. والثاني: أنه مفعولُ» كُتِب «وقد تقدَّم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه.
قوله: ﴿الوصية﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، [أحدها:] أن يكون مبتدأً وخبرُه» للوالدَيْن «. والثاني: أنه مفعولُ» كُتِب «وقد تقدَّم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه.
قوله:» بالمعروف «يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بنفسِ» الوصية «، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية، أي: حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر.
قوله: ﴿حقاً﴾ في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ
وقال بعضُ المُعْرِبين:» إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى «المتقين» كأنه قيل: على المتقين حقاً، كقوله: ﴿أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ [الأنفال: ٧٤]. وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن.
وقد راعى المعنى في قوله: ﴿عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ﴾ إذ لو جَرَى على نَسَق اللفظِ الأولِ لقالَ: «فإنَّما إثمُه عليه - أو على الذي يُبَدِّله».
وقيل: الضميرُ في «بَدَّله» يعودُ على الكَتْبِ أو الحقِّ أو المعروفِ. فهذه ستةُ أقوالٍ.
و «ما» في قولِه: ﴿بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: بعد: سماعِه، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي. فالهاءُ في «سَمِعَه» على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في «بَدَّله»، وعلى الثاني تعودُ على الموصولِ، أي بعد الذي سَمِعَه من أوامرِ الله.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي: «مُوَصٍّ» بتشديدِ الصادِ والباقون بتخفيفها. وهما من أوصى ووصَّى، وقد تقدَّم أنهما لغتان، إلاَّ أن حمزةَ والكسائي وأبا بكر هم من جملةِ الذين يَقْرؤون ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ﴾ [البقرة: ١٣٢] مضعَّفاً، وأنَّ نافعاً وابن عامر يقرآن: «أوصى» بالهمزة، فلو لم تكن القراءةُ سُنَّةً متبعةً لا تجوزُ بالرأي لكان قياسُ قراءةِ ابن كثير وأبي عمرو وحفص هناك «ووصَّى» بالتضعيف أن يقرآ هنا «مُوَصٍّ» بالتضعيف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فإنهما قرآ هنا «مُوصٍ» مخففاً على قياس قراءتهما هناك و «أَوْصَى» على أَفْعَل. وكذلك حمزة والكسائي وأبو بكر قرؤوا: «ووصَّى» هناك بالتضعيف فقرؤوا هنا «مُوَصٍّ» بالتضعيفِ على القياس.
والخَوْفُ هنا بمعنى الخَشْيَة وهو الأصلُ، وقيل: بمعنى العِلْم وهو مجازٌ، والعلاقةُ بينهما هو أنَّ الإِنسَان لا يَخافُ شيئاً حتى يَعْلَم أنه مِمَّا يُخاف منه فهو من باب التعبير عن السبب بِالمُسَبِّبِ. ومِنْ مجيء الخوف
٨٣٠ - إذا مُتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبٍ كَرْمَةٍ | تُرَوِّي عظامي في المَمات عروقُها |
ولا تَدْفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني | أخَافُ إذا ما مُتُّ ألاَّ أذوقُها |
٨٣١ - تَجانَفُ عن حُجْرِ اليمَامةِ ناقتي | وما قَصَدَتْ من أهلِها لِسِوائكا |
٨٣٢ - هُمُ المَوْلى وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا | وإنَّا مِنْ لقائِهِمْ لَزُورُ |
٨٣٣ - إني امرؤٌ منعَتْ أَرومةُ عامرٍ | ضَيْمي وقد جَنَفَتْ عليَّ خُصومُ |
٨٣٤ - وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاً | أريدُ الخيرَ أيُّهما يَليِني |
والصيام: مصدرُ صام يصوم صوماً، والأصلُ: صِواماً، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا: غار غُووراً، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال: الغُؤُور. والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً، ومنه: صامَتِ الريحُ: أمسكَتْ عن الهبوبِ، والفرسُ: أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ، [وقال] :
٨٣٥ - خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ | تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما |
٨٣٦ - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ | ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ |
٨٣٧ - كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها | بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ |
الرابع: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «الصيام»، وتكونُ «ما» موصولةً، أي: مُشْبهاً الذي كُتِبَ. والعاملُ فيها «كُتِبَ» لأنه عاملٌ في صاحبِها. الخامس: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك «بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ» كأنه يعني أنَّ «أل» فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى، قالوا: «أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض» ومنه:
٨٣٨ - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي | فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني |
قوله ﴿أَيَّاماً﴾ في نصبِه أربعةُ أوجه، أظهرُها: أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه: صوموا أياماً، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين: إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً.
الثاني: أنه منصوبٌ بالصيام، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه، ونَظَّرهُ
الثالث: أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّر الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام، كما قد قال به بعضُهم، وإنْ كان ضعيفاً، فيكونُ التقديرُ: «الصيام صوماً كما كُتِبَ» فجاز أن يَعْمل في «أياماً» «الصيامُ» لأنه إذ ذاك عاملٌ في «صوماً» الذي هو موصوفٌ ب «كما كُتِبَ» فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ.
الرابع: أن ينتصِبَ بكُتب: إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء. قال الشيخ: «وكِلا القولينِ خطأٌ: أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام. وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ، وقد تقدَّم أنه خطأ.
و» معدوداتٍ «صفةٌ، وجَمْعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا، وقولِه» جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ «.
قوله: ﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان. و» أو «هنا
قوله: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الجمهورُ على رفعِ» فَعِدَّةٌ «، وفيه وجوهٌ أحدُها، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ: إمَّا قبلَه تقديرُهُ: فعليه عِدَّةٌ، أو بعدَه أي: فَعِدَّةٌ أمثلُ به. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ عِدَّةٌ.
الثالث: أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ، أي: فتجزيه عِدَّةٌ. وقرىء: «فَعِدَّةً» نصباً بفعلٍ محذوف، تقديره: فَلْيَصُمْ عِدَّةً. وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال: «ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً». ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: «فَصَوْمُ عدَّة» ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره: فأفْطَرَ فعدةٌ، ونظيرُه: ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [الشعراء: ٦٣] أي: فَضَرَبَ فانفلقَ. و «عدةٌ» بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح. ونَكَّر قوله «فَعِدَّةٌ» ولم يَقُل «فَعِدَّتُها» اتِّكالاً على المعنى. و «من أيامٍ» في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة.
قوله: ﴿أُخَرَ﴾ صفةٌ لأيَّامٍ. و «أُخَرُ» على ضَرْبَيْن، ضربٍ: جَمْعُ «أخرى» تأنيثِ «آخَر» الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ. وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة، تأنيث: «آخِر» المقابِل لأوَّل، ومنه قولُه تعالى: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٩]. فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ: الوصفُ والعَدْلُ.
واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ، فقال الجمهورُ: إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ، وذلك أن «أُخَر» جمع أُخْرى، وأُخْرَى تأنيث «آخَر» وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات: إمَّا مع أل وإمَّا مع «مِنْ» وإمَّا مع الإِضافة. لكنَّ «مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير، ولا إضافة/ في اللفظِ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ، وهذا كما قالوا في» سَحَر «إنه عَدْلٌ عن
وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ. والفرقُ بين» أُخْرَى «التي للتفضيل و» أُخرى «التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى» غير «ومعنى تَيْكَ معنى متأخرة، ولكونِ الأولى بمعنى» غير «لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو:» مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ «ولا يجوزُ: اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس. وأمَّا قوله:
٨٣٩ - صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها | ليلى وصَلَّى على جاراتِها الأُخَرِ |
وإنَّما وُصِفَت الأيام ب «أُخَر» من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث، فَمِن الأولِ: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨]، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها،
قوله: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ الجمهورُ على «يُطِيقُونه» من أطاق يُطِيق، مثل أَقامَ يُقيم. وقَرَأَ حُميد: «يُطْوِقُونه» من أَطْوقَ، كقولهم: أَطْوَلَ في أَطال، وأَغْوَلَ في أَغال، وهذا تصحيحٌ شاذ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو: أَجْوَدَ بمعنى أجاد، ومِنْ ذوات الياء: أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت، وأَغْيَلَتِ المرأة، وأَطْيَبَت، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو: «أَغْيَمَت» و «أطْوَل» إلا أبو زيد.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: «يُطَوَّقونه» مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع. وقرأت عائشة وابن دينار: «يَطَّوَّقُونَه» بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ، وأصلُه تَطَوَّق، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه: ﴿أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: ١٥٨]. وقرأ عكرمة وطائفةٌ: «يَطَّيَّقونُه» بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً. وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول.
وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ «لا» محذوفةٌ قبلَ «يُطِيقُونَه» وأنَّ التقديرَ: «لا يُطيقونه» ونَظَّره بقولِهِ:
٨٤٠ - فحالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً | من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ |
٨٤١ - آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً | يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ |
وهذا ليس بشيء، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ، وأمَّا الأبيات المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي.
والهاءُ في «يُطِيقُونَه» للصومِ، وقيل: للفِداءِ، قاله الفراء.
و «فِدْيَةٌ» مبتدأٌ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه. والجماعةُ على تنوينِ «فِدْيَة» ورفع «طعام» وتوحيدِ «مسكين» وهشامٌ كذلك إلاَّ أنه قرأ: «مساكين» جمعاً، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة «فدية» إلى «طعام مساكين» جمعاً. فالقراءةُ الأولى يكونُ «طعام» بدلاً من «فِدْية» بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف، أي: هي طعام. وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمِنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه، والمقصودُ به البيانُ كقولِك. خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه. وقال بعضهم: «يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ، قال:» لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ «وهذا فاسدٌ، لأنَّه: إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء، أو يريدَ به المفعولَ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ، وليسَتْ مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ، لا تقولُ: ضِراب بمعنى مَضْروب، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله، لا تقول:» مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه «وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال: أُضيف الموصوفُ لصفتِه؟
وتَبَيَّن مِنْ إفراد» المسكين «أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ. والطعامُ: المرادُ به الإِطعامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء:» لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً، لأنه يصير تقديرُه: فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين، فهو من باب تسميةِ الشيءِ، بما يَؤُول إليه، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه «.
قوله: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨] فَلْيُلْتفت إليه. والضميرُ في قولِهِ:» فهو «ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ:» فَمَنْ تَطَوَّع «أي: فالتطوعُ خيرٌ له و» له «في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: خيرٌ كائنٌ له.
٨٤٢ - فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً | ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي |
٨٤٣ - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ | .......................... |
٨٤٤ - لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه | تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ |
وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب، وفيه أوجهٌ، أجودُها، النصبُ بإضمار
وليس لقائلٍ أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ «. الخامسُ: أنه منصوبٌ ب» تَعْملون «على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُهُ: تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ.
وأَدْغم أبو عمر راء» شهر «في راء» رمضان «، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما، وقولُ ابن عطية:» وذلك لا تقتضيه الأصولُ «غيرُ مقبولٍ منه، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس.
والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان، أشهرهُما: أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي
٨٤٥ -.................... | والشهرُ مثلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ |
٨٤٦ -................... | يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ |
ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ، أحدُهما: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك، كربيع لموافقتِه الربيعَ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء، وقيل: لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي: يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها. وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة. وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ
٨٤٧ - وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى | وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا |
والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ» قَرَأْتُ «، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما:
٨٤٨ - ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به | يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا |
واختُلِفَ في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما: أنه من باب النقلِ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ [المؤمنون: ١] وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين.
وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ، لأنَّهما مادتان متغايرتان. و «القرآنُ» مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله، ومعنى ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ : أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه: قيل في الرابع والعشرين منه، وقيل: أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه، كقولك «أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ».
قوله: ﴿هُدًى﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعاملُ فيه «أُنْزِلَ» وهُدَىً ومصدرٌ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: هادياً، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً.
قوله: ﴿لِّلنَّاسِ﴾ يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ ب «هُدَىً» على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ «هادٍ»، أي: هادياً للناس. والثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ، ولا يجوزُ أَنْ يكون «هُدَىً» خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: «هو هدى» لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو: «بَيِّنات»، و «بَيِّنات» عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة.
قوله: ﴿مِّنَ الهدى والفرقان﴾ هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله: «هدىً وبَيِّناتٍ» فمحلُّه النصبُ، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ «هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ» من الهُدى والبينات «فيطابقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات
[المزمل: ١٥-١٦]، ومِنْ هنا قال ابن عباس: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى، ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه لكان كلاماً صحيحاً «.
قال الشيخ:» وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ «هدى» منصوبٌ على الحالَ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال، وعَطَفَ عليه «وَبيِّنات» فلا يَخْلو قولُه «من الهدى» - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه «هُدَىً» أو لقولِهِ «وبيناتٍ» أَوْ لهما، أو متعلِّقاً بلفظ «بينات». لا جائزٌ أن يكونَ صفةً ل «هدى» لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ فقط لأنَّ «وبينات» معطوفٌ على «هُدَى» و «هُدَى» حالٌ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ «بَيِّنات» بقوله: «مِنَ الهدى» خَصَصْناها به/ فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله: «هُدَىً وَبَيَّنات» معاً، ومن حيثُ جَعَلْتَ «مِنَ الهدى» صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ «بيِّنات» على «هُدَى» فَلَزِمَ من ذلك
ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ «بينات» لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ: منه، أي: من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما «.
قوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ » مَنْ «فيها الوجهانِ: أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً، وهو الأظهرُ. و» منكم «في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في» شَهِدَ «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً منكم. وقال أبو البقاء:» منكم «حالٌ من الفاعلِ، وهي متعلقةٌ ب» شِهِدَ «. قال الشيخ:» فَناقَضَ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألاَّ تكونَ حالاً «. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه» منكم «هو متعلِّقٌ بشَهِدَ، وهو الحالُ حقيقةً.
وفي نَصْبِ» الشهر «قولان، أحدُهما: أنَّه منصوبٌ على الظرف، والمرادُ بشَهِدَ: حَضَر ويكونُ مفعولُ» شَهِدَ «محذوفاً تقديرُه: فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ.
والثاني: أنه منصوبٌ على المفعولِ به، وهو على حَذْفِ مضافٍ. ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيحُ أنَّ تقديره «دخول الشهر». وقال بعضُهم: هلال الشهر، وهذا ضعيفٌ لوجهين، أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهلالَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلالَ.
والفاءُ في قولِه: «فَلْيَصُمْهُ» : إمَّا جوبُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في «مَنْ»، واللامُ لامُ الأمرِ. وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ ب «كَتِف»، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ. وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن. وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء، فقال: «مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها»، قال: «فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو: لِيُنْذِرُ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً».
والألفُ واللامُ في قولِه ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ: فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به.
قوله: ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر﴾ تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا﴾ [البقرة: ٢٦]. و «أراد» يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء
٨٤٩ - أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ | عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ |
قوله: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ﴾ في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ، أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لزيدٍ، و «أَنْ» مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه: «ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة» أي: تكميلَ، فهو معطوفٌ على اليُسْر. ونحوُه قولُ أبي صخر:
٨٥٠ - أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما | تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ |
الثاني: أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدُها: أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه: «ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا»، وهو قولُ الفراء. الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه: فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا. الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: «ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك» ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين. الرابع: أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه: يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا، وهذا ضعيفٌ جداً. الخامسُ: أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه: «ولَعَلَّكم تَشْكُرون»، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامِه قال: «شَرَعَ ذلك، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر، فقولُه:» ولِتُكْمِلوا «علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة، و» لِتُكَبِّروا «علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و» لعلَّكم تَشْكرون «علةُ الترخيصِ والتيسير، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ». السادس: أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا، قاله الزمخشري، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ. واختصارُ
الثالث: أنَّها لامُ الأمرِ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفردات كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابنِ عطية، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ: لِتَقُمْ يا زيد، وقد قرىء شاذاً: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ [يونس: ٥٨] بتاء الخطاب. والثاني: أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ «ولِتُكْمِلوا» مخففاً من أَكْمل، والهمزةُ فيه للتعدية. وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً، والألفُ واللامُ في «العِدَّة» تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما: أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وهذا هو الظاهرُ، والثاني: أَنْ تكونَ للجنسِ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين. واللامُ في «وَلِتُكَبِّروا» كهي في «ولِتُكْمِلوا»، فالكلام فيها كالكلام فيها، إلاَّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا.
قوله: ﴿على مَا هَدَاكُمْ﴾ هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب «تُكَبِّروا». وفي «على»
٨٥١ - قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي... أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قولِه:
٨٥٢ - ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ | بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ |
و» ما «في قوله: ﴿على مَا هَدَاكُمْ﴾ فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مصدريةٌ، أي: على هدايته إياكم. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. قال الشيخ:» وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن، أحدُهما: حَذْفُ العائدِ تقديرُه: هداكُموه «وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ،
وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً، فناسَبَ خَتْمَها بذلك. وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى، وهو قولُه: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] وقولُه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ [البقرة: ١٧٨] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ، فناسَب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ.
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه: فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ. وجاء قولُه «أجيب» مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ: «يُجيبُ» بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه: «قريبٌ» لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ، كقوله تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] وفي أخرى ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧]، وقولِ الشاعر:
٨٥٣ - وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً | إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ |
وفي قوله: ﴿عَنِّي﴾ و «إنِّي» التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ، لأنَّ قبلَه، «ولتُكَّبِّروا الله» والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ. والكافُ في «سألَكَ» للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ، إلاَّ أنَّ قولَه: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ يَدُلُّ عليه، لأنَّ تقديره: «أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وفي قوله: «فإني قريب» مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان، ونظيرُه: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦]، «» هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم «
والعاملُ في» إذا «قال الشيخ:» قولُه: أُجيبُ «يعني» إذا «الثانيةَ فيكونُ التقديرُ: أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها لدلالةِ» أُجِيْبُ «عليه، وحينئذٍ لا يكونُ» أُجيبُ «هذا الملفوظُ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفُ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط، وأمَّا» إذا «الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ. والهاء في» دعوة «ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو: ضَرْبَة وقَتْلَة، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ نحو: رَحْمة ونَجْدة، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والياءان من قولِه:» الداع - دعانِ «من الزوائدِ عند القُرَّاء، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً
قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ في الاستفعالِ هنا قولان، أحدُهما: أنَّه للطلب على بابِه، والمعنى: فَلْيَطْلبُوا إجابتي قاله ثعلب. والثاني: أنه بمعنى الإِفعال، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد، واستثار الشيء وأثارَه، واستعجله وأَعْجَله، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلاَّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو: ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٤] فاستجاب لَهُمْ «، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله:
٨٥٤ - وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى | فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ |
واللامُ لامُ الأمر، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستجاب: بأنَّ» استجاب «لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو: ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥]، وأمَّا» أجاب «فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً.
٨٥٥ - وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْ... لِ للذلَّةِ إذْعان
أي: إذعان للذلة إذعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ. الثالث: أنه متعلِّق بالرفثِ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات، وقد تقدَّم تحقيقه.
وأضيفت الليلة اتساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها، والإِضافة [تحصُل] بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك.
وقرأ عبد الله «الرَّفوث». والرَّفَثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ، قال العجاج:
٨٥٦ - ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ | عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم |
٨٥٧ - ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا | ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ نفارُ |
٨٥٨ - فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ | وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ |
٨٥٩ - وهُنَّ يَمْشِين بنا هَمِيسا | إنْ يَصْدُقِ الطيرُ نَنِكَ لَمِيسا |
قوله: ﴿كُنتُمْ تَخْتانُونَ﴾ في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأنَّ. و «تَخْتانون» في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان. قال أبو البقاء: «وكُنْتُم هنا لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً، والمعنى: أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه، وقيل: إنه أرادَ الاختيان في الاستقبال، وذَكَرَ» كان «ليحكي بها الحالَ كما تقول: إن فعلت كنت ظالماً» وفي هذا الكلامِ نظرٌ لا يَخْفى.
و «تَخْتَانون» تَفْتَعِلُون من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم: خانَ يخُون، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه، قال زهير:
٨٦٠ - بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا | قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ |
و «عَلِمَ» إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف، فتكونُ «أنَّ» وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش.
وقوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ﴾ لا محلَّ له من الإِعراب، لأنه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ: وقَدَّمَ قولَه: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ﴾ على ﴿وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِهِ - هو النابغة الجَعْدِي -:
٨٦١ - إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها | تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا |
٨٦٢ - لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ | وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا |
وقرىء: «واتَّبِعُوا» من الاتِّباع، وتُرْوى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري. وفَسَّروا «ما كَتَبَ اللَّهُ» بليلةِ القدر، أي: اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشري: «وهو قريبٌ من بِدَعِ التفاسير».
قوله: ﴿حتى يَتَبَيَّنَ﴾ «حتى» هنا غايةٌ لقولِهِ: «كُلُوا واشربوا» بمعنى إلى، ويقال: تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً، إلاَّ «بان» فلازمٌ ليس إلاَّ. و «مِن الخيط» مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ ب يتبيَّن، لأنَّ المعنى: حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ الأسودَ.
و «من الفجر» يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً ب «يتبيَّن» ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض، أي: الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ «مِنْ» لبيانِ الجنس كأنه قيل
وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه، وقال: «إن وسادَك لَعَرِيض» ويُروى: «إنك لعريضُ القَفَا» وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ «الخيط الأبيض» «من الخيط الأسود» عاماً كاملاً في النزولِ. وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ: «من الفجر»، ونظيرُهُ قولُكَ: «رأيت أسداً من زيدٍ» لو لم تَذْكُر: «من زيدٍ» لكانَ استعارةً. ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ، لأنَّ الاستعارة لا بد فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً، حتى نَزَلَ «مِنَ الفَجْرِ» فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك.
والفجرُ مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي: انشَقَّ.
قوله: ﴿إِلَى الليل﴾ فيه وجهان: أحدُهما: أنه متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى الليل، و «إلى» إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه، والآيةُ من هذا القبيلِ.
والعُكُوف: الإِقامَةُ والملازَمَةُ له، يقال: عَكَف / بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قُرىء: ﴿يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ﴾ [الأعراف: ١٣٨] بالوجهين وقال الفرزدق:
٨٦٣ - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم | على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ |
٨٦٤ - وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً | عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ |
قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ، فلا جائزٌ أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ
قال أبو البقاء: «دخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه:» تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها «ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] على أحدِ القولَيْنِ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ» حدودَ الله «على الاشتغالِ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو:» زيداً فاضْرِبْه، وعمراً فلا تُهِنْهُ «فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي» فلا تَقْرَبُوها «منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلاَّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ.
والحدودُ: جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ، ومنه قيلَ للبَوَّاب: حَدَّاد، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور. وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه، ولهذا يُقال: الحَدُّ مانِعٌ جامع أي: يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ. والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ.
وقال هنا:» فلا تقْرَبُوها «وفي مواضع أُخَرَ: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: ٢٢٩] ومثلُه: {
قوله: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله﴾ الكافُ في محلِّ نصب: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بياناً مثلَ هذا البيانِ، أو حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه.
قولُه ﴿بالباطل﴾ فيه وجهان، أحدُهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان، أحدهما: أنه المالُ، كأن المعنى، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ، والثاني: أَنْ يكونَ الضميرَ في «تأكلوا» كأنَّ المعنى: لا تأكلوها مُبْطِلين، أي: مُلْتَبِسينَ بالباطِل.
و «من أموال» في محلِّ نصبٍ صفةً ل «فريقاً»، أي: فَريقاً كائناً من أموالِ الناس.
قوله: ﴿بالإثم﴾ تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله «لتأكلوا» وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في «لتأكلوا»، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم. «وأنتم تعلمون» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ «لتأكلوا»، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ «بالإِثم» غيرَ حالٍ.
والجمهور على إظهار نونِ «عَنْ» قبل لام «الأهلَّة» وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، وقُرِىءَ شاذاً: «علَّ هِلَّة» وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة «أهلة» إلى لامِ التَّعريفِ، وأدغم نونَ «عن» في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدَّرْج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول: «لَحْمَر» من غيرِ همزةِ وصلٍ.
ويقال: أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد:
٨٦٥ - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ | وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ |
٨٦٦ - وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه | بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ |
وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ «الأهِلَّة» أي: عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ، ولذلك أُجيبوا بقولِه: «قل هي مواقيتُ» وقيل: إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ.
و «للناسِ» متعلِّقٌ بمحذوفٌ، لأنه صفةٌ ل «مواقيت» أي: مواقيتُ كائنةً للناسِ. والمواقيتُ: جَمْعُ ميقات، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ: مِوْقات من الوقت، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ. والميقات منتهى الوقت.
قوله: ﴿والحج﴾ عطفٌ على «الناس»، قالوا: تقديرُه: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر، وكأنه تخصَّص بعد تعميم، إذ قولُه «مواقيتُ للناسِ» ليس المعنى لذواتِ الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي: مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب «الناس» منابَه في الإِعراب.
وقرأ الجمهورُ «الحج» بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي
قوله: ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ﴾ كقوله: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ﴾ [البقرة: ١٧٧] وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع «البر»، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم.
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش «البُيوت» و «بُيوت» بضمِّ الباء وهو الأصلُ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء، وكذلك في تصغيره، ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً، قاله أبو البقاء.
و «مِنْ» في قولِه: «مِنْ ظهورِها» و «من أبوابها» متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية. والضميرُ في «ظهورها» و «أبوابِها» للبيوتِ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك.
٨٦٧ - فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني | فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ |
قوله: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ﴾ قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: «ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم، فإنْ قاتلوكم» بالألف من القتال، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل. فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى. وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان، أحدُهما: أن يكونَ المجازُ في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم. ومنه ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ [آل عمران: ١٤٦] ثم قال: «فما وَهَنوا» أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم، وقال الشاعر:
٦٨٦ - ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا | وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ |
٨٦٩ - فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ | وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ |
و «عند» منصوبٌ بالفعل قبله. و «حتى» متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى «إلى»، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَن» كما تقرَّر. والضميرُ في «فيه» يعودُ
قوله: ﴿كَذَلِكَ جَزَآءُ﴾ فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «جزاءُ الكافرين» خبرُه، أي: مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش. والثاني: أن يكونَ «كذلك» خبراً مقدماً، و «جزاءٌ» مبتدأ مؤخراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ. و «جزاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي: جزاءُ الله الكافرين. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «الكافرين» مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، تقديرُه: كذلك يُجْزى الكافرون، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ.
وقرىء: «والحُرْمات» بسكون الراء، ويُعْزى للحسن، وقد تقدَّم أنَّ جمعُ فَعْلَة بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثة أوجه: هذان الاثنانِ وفَتْحُ العين، عند قوله ﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٧]
قوله: ﴿بِمِثْلِ مَا اعتدى﴾ في الباء قولان، أحدُهما: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ، بل تكونُ متعلقةً باعتدوا، والمعنى بعقوبةٍ مثلِ جنايةِ اعتدائِه. والثاني: أنها زائدةٌ أي: مثلَ اعتدائه، فتكون: إمّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: اعتداء مماثلاُ لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه أي: فاعتدوا الاعتداء مُشْبِهاً اعتداءَه. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأَنْ تكونَ موصولةً فيكونُ العائدُ محذوفاً، أي: مثلَ ما اعتدى عليكم به، وجاز حذفُه لأنَّ المضافَ إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ جُرَّ به العائدُ واتَّحد المتعلَّقان.
٨٧٠ - حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ | وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها |
٨٧١ - وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً | من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو |
٨٧٢ -................ | سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ |
والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ، يُقال: هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة. وقال الزمخشري «ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار
وزعم ثعلب أن «تَهْلُكَه» لا نظير لها، وليس كذلك لِما حكى سيبويه. ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن: التَّنْفُلة والتنصُبة.
والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَة: ما أمكن التحرُّزُ منه، والهَلاكُ ما لا يمكن. وقيل: هي نفسُ الشيء المُهْلِك. وقيل: هي ما تَضُرُّ عاقبتُه. والهمزة في «ألقى» للجَعلِ على صفة نحو: أَطْرَدْتُه أي: جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول، كأنه قيل: لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه.
قوله: ﴿فَمَا استيسر﴾ ما موصولةٌ بمعنى الذي، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها في محلِّ نصبٍ أي: فَلْيَهْدِ أو فلينْحَر، وهذا مذهبُ ثعلب. والثاني: ويُعْزى للأخفش أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه ما استَيْسر. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ ما استَيْسر واستَيْسر هنا بمعنى يَسَر المجرد كصَعُب واستصعَبَ وغَنِيَ واستغنى، ويجوزُ أن يكون بمعنى تَفَعَّل نحو: تكَّبر واستكبر، وتَعَظَّم واستعظم. وقد تقدَّم ذلك في أولِ الكتاب.
والحَصْرُ: المَنْعُ، ومنه قيل للمَلِك: الحَصِير، لأنه ممنوعٌ من الناس، وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنىً أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ بين أهلِ العلمِ. فقال الفراء والزجاج والشيباني إنهما بمعنىً، يُقالان في المرضِ والعَدُوِّ جميعاً وأنشدوا:
٨٧٣ - وما هَجْرُ ليلى أَنْ تكونَ تباعَدَتْ | عليكَ ولا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ |
٨٧٤ - وَلَقَد تَكَنَّفني الوُشاةُ فصادَفُوا | حَصِراً بسرِّك يا أُمَيْمَ حَصُورا |
٨٧٥ -................... | جِنٌّ لدى باب الحصيرِ قِيامُ |
قال أبو عمرو بن العلاء: «لا أعْرف لهذه اللفظة نظيراً».
وقرأ مجاهد والزهري: «الهَدِيُّ» بتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا. والثاني: أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول نحو: قتيل بمعنى مَقْتُول.
و «مَحِلَّه» يجوز أَنْ يَكُونَ ظرفَ مكانٍ أو زمانٍ، ولم يُقْرَأ إلاَّ بكسرِ الحاءِ فيما عَلِمْتُ إلاَّ أنه يجوزُ لغةً فتحُ حائِه إذا كان مكاناً. وفَرَّق الكسائي بينهما، فقال: «المكسورُ هو الإِحلالُ من الإِحرامِ، والمفتوحُ هو مكانُ الحلولِ من الإِحصار».
وقيل: ﴿مِنكُم﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من «مريضاً» ؛ لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتكونُ «مِنْ» تبعيضيةً، أي: فَمَنْ كان مريضاً منكم. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً، قال الشيخ: «وهو لا يكادُ يُعْقَلُ». «ومَنْ» يجوز أنْ تكونَ شرطيةً وأَنْ تكونَ موصولةً.
قوله: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى﴾ يجوز أَنْ يكونَ هذا من بابِ عَطْفِ المفرداتِ وأن يكون من بابِ عطفِ الجمل: أما الأولُ فيكونُ «به» هذا الجَارُّ والمجرور
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «أو به أذى» معطوفاً على «كان»، وأَعْرَبِ «به» خبراً مقدماً متعلِّقاً بالاستقرارِ، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والهاءُ في «به» عائدةٌ على مَنْ. وهذا الذي قاله خَطَّأَهُ الشيخُ فيه، قال: «لأنه كان قد قَدَّمَ أن» مَنْ «شرطيةُ، وعلى هذا التقدير يكون خطأ، لأن المعطوفَ على جملةِ الشرط شرطٌ والجملةُ الشرطيةُ لا تكونُ إلا فعليةً، وهذه كما ترى جملةُ اسميةٌ على ما قَرَّرَهُ.
فكيف تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ التي يجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا «مَنْ» موصولةً فهل يَصِحُّ ما قاله من كون «به أذى» معطوفاً على «كان» ؟ فالجوابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ «مَنْ» الموصولةَ إذا
قولُهُ: ﴿مِّن رَّأْسِهِ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ رفع لأنه صفةٌ لأذى، أي أذى كائنٌ من رأسِهِ. والثاني: أن يتعلَّق بما يتعلَّقُ» به «من الاستقرارِ، وعلى كلا التقديرين تكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغاية.
قوله: ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ في رفعها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ مبتدأً والخبرُ محذوفٌ، أي: فعليه فديةٌ. والثاني: أنْ تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف أي: فالواجبُ عليه فديةٌ. والثالثُ: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ مقدَّر أي: فَتَجِبُ عليه قديةُ. وقُرىء شاذاً:» فَفِدْيَةً «نصباً، وهي على إضمارِ فعلٍ أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و» مِنْ صيام «في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حسب القراءتين صفةً ل» فدية «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و» أو «للتخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفاء تقديرهُ: فَخَلقَ فَفِدْيَة.
وقرأ الحسنُ والزهري» نُسْك «بسكون السين، وهو تخفيفُ المضموم. والأذى مصدرٌ بمعنى الإِيذاء وهو الألمُ، يقال: آذاه يُؤْذِيه إيذاءً وأذى، فكأنَّ الأذى مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد أواسمُ مصدرٍ كالعطاء اسم للإِعطاء، والنبات للإِنبات.
وفي النُّسُك قولان، أحدُهما: أنه مصدرٌ يقال: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضم، والإِسكان كما قرأه الحسن. والثاني: أنه جمع نَسِيكة، قال ابن الأعرابي:» النَّسيكة في الأصل سَبيكة الفضة، وتُسَمَّى العبادةُ بها لأنَّ العبادة مُشْبِهَةٌ سبيكة الفِضَّة في صفائها وخُلوصِها من الآثام، وكذلك سُمِّي العابدُ ناسكاً، وقيل للذَّبِيحة «نَسِيكة» لذلك «.
وقوله: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ الفاءُ جوابُ الشرطِ بإذا، والفاءُ في قولِهِ:» فما استيْسَرَ «جوابُ الشرطِ الثاني. ولا نعلمُ خلافاً أنه يقعُ الشرطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تقدَّم الكلامُ في» فما استَيْسَرَ «/ فأغنى عن إعادته.
قوله: ﴿فَصِيَامُ﴾ في رفعِه الأوجهُ الثلاثةُ المذكورةُ في قولِهِ:» فَفِدْيَةٌ «.
وقرىء «فصيام» نصباً، على تقديرِ فَلْيَصُمْ، وأُضيف المصدرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو في اللفظِ مفعولٌ به على السَّعِةِ. و «في الحج» متعلقٌ بصيام. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: في وقتِ الحَجِّ. ومنهم مَنْ قَدَّر مضافين، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرفَ مكانٍ أي: مكانَ الحج، ويترتَّب على ذلك أحكامٌ.
قوله: ﴿وَسَبْعَةٍ﴾ الجمهورُ على جَرِّ «سبعة» عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: «وسبعةً» بالنصب. وفيها تخريجان، أحدهما: قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفاً على محلَّ «ثلاثة» كأنه قيل: فصيامُ ثلاثة، كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤، ١٥]، يعني أن المضافَ إليه المصدرُ منصوبٌ معنى بدليلِ ظهورِ عملِ المُنَوَّنِ النصبَ في «يتيماً». والثاني: أن ينتصبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «فَلْيَصُومُوا»، قال الشيخ: «
قوله: ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ منصوبٌ بصيام أيضاً، وهي هنا لِمَحْضِ الظرفِ، وليس فيها معنى الشرط. لا يقال: يَلْزَمُ أن يعملَ عامِلٌ واحدٌ في ظرفي زمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطفِ والبدلِ، وهنا يكونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ «سبعةٍ» على «ثلاثة» وعطف «إذا» على «في الحج».
وفي قوله: ﴿رَجَعْتُمْ﴾ شيئان: أحدُهما التفاتٌ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبلَه «فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ» فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على «مَنْ»، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل: «إذا رجع» بضميرِ الغَيْبَةِ. وأمَّا الحملُ: فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى «منْ»، ولو راعى اللفظَ لأفردَ، فقال: «رَجَعَ».
وقوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ مبتدأ وخبرٌ، والمشارُ إليه هي السبعةُ والثلاثةُ، ومميِّزُ السبعةِ والعشرةِ محذوفٌ للعلمِ به. وقد أثبت تاءَ التأنيثِ في العددِ مع حَذْفِ التمييزِ، وهو أحسنُ الاستعمالَيْنِ، ويجوزُ إسقاطُ التاءِ حينئذٍ، وفي الحديث: «وأَتْبَعَهُ بستٍ من شوال»، وحكى الكسائي: «صُمْنَا من الشهرِ خمساً»
وفي قوله: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ - مع أن من المعلوم أن الثلاثةَ والسبعة عشرة - أقوالٌ كثيرةٌ لأهلِ المعاني، منها قولُ ابن عرفة: «العرب إذا ذكرت
، وَوَرَدَ ذلك في أشعارِهِم، قال النابغة:
٨٧٦ - تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفَتُها | لستةِ أيامٍ وذا العامُ سابعُ |
٨٧٧ - ثلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ | وسادسةٌ تَميلُ إلى شَمَام |
٨٧٨ - ثلاثٌ بالغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبي | وسِتٌّ حين يُدْرِكُني العِشاءُ |
فذلك تِسْعَةٌ في اليومِ رِيِّي | وشُرْبُ المرءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ |
٨٧٩ - فَسِرْتُ إليهمُ عِشْرِينَ شهراً | وأربعةً فذلك حِجَّتانِ |
قوله: ﴿ذلك لِمَن﴾ «ذلك» مبتدأٌ، والجارُّ بعدَه الخبرُ. وفي اللامِ قولان، أحدُهما: أنَّها على بابِها، أي ذلك لازمٌ لِمَنْ. والثاني: أنها بمعنى على، كقولِهِ: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾، [البقرة: ١٦١] ولا حاجةَ إلى هذا. و «مَنْ» يجوز أن تكونَ موصولةً وموصوفةً. و «حاضري» خبرُ «يكن» وحُذِفَت نونُه للإِضافة و «شديدُ العقاب» من باب إضافةِ الصفةِ المشبهة إلى مرفوعها، وقد تقدَّم أن الإِضافة لا تكون إلا مِنْ نَصْبِ، والنصبُ والإِضافةُ أبلغُ من الرفعِ؛ لأن فيها إسنادَ الصفةِ للموصوفِ ثم ذكر مَنْ هي له حقيقةٌ، والرفعُ إنما فيه إسنادُها لمَنْ هي له حقيقةٌ، دونَ إسنادٍ إلى موصوف.
وأمَّا الكوفيون فقالوا: إنْ كانَ الحدثُ مستوعباً فالرفعُ فقط نحو: «الصومُ يومٌ» وإن لم يكن مستوعباً فهشام يلتزم رفعَه أيضاً نحو: «ميعادُك يومُ» والفراءُ يجيز نصبَهُ مثلَ البصريين، وقد نُقِلَ عنه أنه مَنَع نصْبَ «أشهر» يعني في الآية لأنها نكرةٌ، فيكونُ له في المسألة قولان، وهذه المسألةُ بعيدةُ الأطرافِ تضُمُّها كتبُ النحويين. قال ابن عطية: «ومَنْ قَدَّر الكلامَ: [الحج] في أشهر فيلزَمُهُ مع سقوطِ حرفِ الجر نصبُ الأشهر، ولم يقرأ به أحدٌ» قال الشيخ: «ولا يلزم ذلك، لأنَّ الرفعَ على جهةِ الاتساعِ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ بفي».
قوله: ﴿فَمَنْ﴾ :«مَنْ» يجوزُ فيها أن تكون شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً كما تقدَّم في نظائرها، و «فيهن» متعلِّقٌ ب «فَرَضَ»، والضميرُ في «فيهن» يعودُ على «أشهر»، وجيء به كضمير الإِناث لما تَقَدَّم مِنْ أَنَّ جمعَ غير العاقلِ في
قوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ﴾ الفاءُ: إمَّا جوابُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبرِ على حَسَبِ النحويين المتقدمين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين «رفث» و «فُسوق» ورفعِهما وفتحِ «جدال»، والباقون بفتح الثلاثة، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين.
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ «لا» ملغاةٌ وما بعدها رفعٌ بالابتداء، وسَوَّغ الابتداء بالنكرةِ تقدُّم النفيِ عليها. و «في الحجّ» خبرُ المبتدأ الثالث، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثاني لدلالةِ خبرِ الثالثِ عليهما، أو يكونُ «في الحج» خبرَ الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني والثالث لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أَنْ يكونَ «في الحج» خبرَ الثلاثة.
ولا يجوزُ أن يكونَ «في الحج» خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثالثِ لقُبْحِ مثل هذا التركيب، ولتَأْدِيَتِهِ إلى الفَصْلِ.
والثاني: أن تكون «لا» عاملَةً عملَ ليس، ولعملِها عملَها شروطٌ: تنكيرُ الاسم، وألاّ يتقدَّم الخبرُ ولا ينتقض النفيُ، فيكونُ «رفث» اسمَها وما بعدَه عطفٌ عليه، و «وفي الحجِّ» الخبرُ على حسَبِ ما تقدَّم من التقادير فيما قبلَه. وابنُ عطية جَزَمَ بهذا الوجهِ، وهو ضعيفٌ لأنَّ إعمالَ «لا» عَمَلَ ليس لم يَقُمْ عليه دليلٌ صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياءَ محتملةً، أنشد سيبويه:
٨٨٠ - مَنْ صَدَّ عن نيرانِها | فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ |
٨٨١ - تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا | ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِيَا |
٨٨٢ - أَنْكَرْتُها بعد أعوامٍ مَضَيْنَ لها | لا الدارُ داراً ولا الجيرانُ جيرانا |
٨٨٣ - وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً | سِواها ولا في حُبِّها متراخِيا |
وأمَّا مَنْ نَصَبَ الثلاثةَ منونةً فتخريجُها على أن تكونَ منصوبة على المصدرِ بأفعالٍ مقدرةٍ من بفظِها، تقديرُه: فلا يَرْفُثُ رَفَثَاً ولا يَفْسُقُ فُسوقاً ولا يجدال جِدالاً، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و «في الحجِّ» متعلِّقٌ بأيِّ المصادرِ الثلاثةِ شِئْتَ، على أن المسألة من التنازعِ، ويكونُ هذا دليلاً على تنازع أكثرَ مِنْ عاملين، وقد يمكنُ أن يُقَال: إن هذه «لا» هي التي للتبرئِة على مَذْهَبِ مَنْ يرى أنَّ اسمهَا معربٌ منصوب، وإنما حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً، فروجعُ الأصلُ في هذه القراءة الشاذةِ كما روجع في قوله:
٨٨٤ - ألا رجلاً جَزاه اللهُ خيراً | ......................... |
وأمَّا مَنْ رفع الأوَّلَيْن وفتحَ الثالث: فالرفعُ على ما تقدَّم، وكذلك الفتحُ، إلا أنه ينبغي أَنْ يُتَنَبَّه لشيءٍ: وهو أنَّا إذا قلنا بمذهبِ سيبويه من كونِ «لا» وما بُني معها في موضعِ المبتدأ يكونُ «في الحج» خبراً عن الجميع، إذ ليس فيه إلا عَطْفُ مبتدأٍ على مبتدأ. وأمَّا على مذهبِ الأخفشِ فلا يجوز أن يكونَ «في الحج» إلا خبراً للمبتدأيْنِ أو خبراً ل «لا». ولا يجوزُ أن يكونَ خبراً للكلِّ لاختلافِ الطالبِ، لأنَّ المبتدأ يَطْلُبه خبراً له ولا يطلبُه خبراً له.
وإنما قُرِىء كذلك، قال الزمخشري: «لأنهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ، والثالِثُ على معنى الإِخبار بانتفاءِ الجدال، كأنه قيل: ولا شكَّ ولا خلافَ في الحج» واستدلَّ
وقوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ﴾ وما في حَيِّزه في محلِّ جَزْمٍ إن كانت «مَنْ» شرطيةٌ، ورفع إن كانت موصولةً، وعلى كِلا التقديرين فلا بُدَّ من رابطٍ يَرْجِع إلى «مَنْ» ؛ لأنها إنْ كانَتْ شرطيةً فقد تقدَّم أنه لا بد من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرط، وإنْ كانت موصولةً فهي مبتدأٌ والجملةُ خبرُها ولا رابطَ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه وفيه احتمالان، أحدُهما: أن تقدِّره بعد «جدال» تقديرُه: ولا جدالَ منه ويكون «منه» صفةً ل «جدال»، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، فيصيرُ نظيرَ قولِهم: «السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم» تقديره: منوانِ منه.
والثاني: أنْ يُقَدَّرَ بعد الحج «تقديره: ولا جدالَ في الحجِّ منه، أو: له. ويكونُ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» الحج «. وللكوفيين في هذا تأويلٌ آخرُ/ وهو أنَّ الألفَ واللامَ نابت منابَ الضميرِ، والأصلُ: في حَجِّه، كقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [النازعات: ٤٠] ثم قال: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١] أي: مَأْواه.
وكَرَّر الحجَّ وَضْعاً للظاهر موضعَ المضمر تفخيماً كقوله:
٨٨٥ - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ | ........................ |
والجِدال مصدر» جادَلَ «. والجدالُ: أشدُّ الخصام مشتقٌّ من الجَدالة،
٨٨٦ - قد أَرْكَبُ الآلَةَ بعدَ الآلَهْ | وأترُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ |
قولُه: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهي: ﴿مَا نَنسَخْ﴾، فكلُّ ما قيلَ ثَمَّ يُقال هنا. قال أبو البقاء:» ونزيدُ هنا وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ «منْ خير» في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: وما تفعلوا فعلاً كائناً مِنْ خيرٍ «.
و» يَعْلَمْه «جزمٌ على جوابِ الشرطِ، ولا بُدَّ من مجازٍ في الكلام: فإمَّا أن يكون عَبَّر بالعلمِ عن المُجازاة على فِعْلِ الخير، كأنه قيل: يُجازِكم، وإمَّا أَنْ تُقَدِّر المجازاةَ بعد العلمِ أي: فيثيبه عليه.
وفي قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ﴾ التفاتٌ؛ إذ هو خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ في قولِه:» فَمَنْ فَرَض «. وحُمِلَ على معنى» مَنْ «إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرِدْه.
وقد خَبَط بعضُ المُعْرِبين فقال:» مِنْ خير «متعلقٌ بتَفْعلوا، وهو في موضعِ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقدرُه:» وما تفعلوه فعلاً مِنْ خير «والهاءُ في» يَعْلَمْه «تعودُ إلى» خير «. وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه من حيثُ عَلَّقه بالفعلِ
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا، وأن يكونَ صفةً ل «فضلاً»، فيكونُ منصوبَ المحل، متعلقاً بمحذوفٍ. و «مِنْ» في الوجهين لابتداءِ الغاية، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي: فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم.
قوله: ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم﴾ العاملُ فيها جوابُها وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء. «ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ». وقد منع الشيخ
قوله: ﴿مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾ متعلِّقٌ ب «أَفَضْتُم» والإِفاضةُ في الأصل: الصبُّ، يقال: فاضَ الماء وأَفَضْتُه، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً. والهمزة في «أَفَضْتُم» فيها وجهان، أحدهما: أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري، وقَدَّره الزجاج فقال: «معناه: دَفَع بعضُكم بعضاً». والثاني: أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به. قال الشيخ: «لأنه لا يُحفظ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة.
وأصل أَفَضْتُم: أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ لك، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ.
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل؟ قولان أحدهما: أنه مرتجلٌ وإليه ذهب الزمخشري قال:» لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عارف «. والثاني: أنه مشتقٌّ، واختُلِفَ في اشتقاقه، فقيل: من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال: عَرَفْتُ عَرَفْتُ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما
وقيل: مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة، وقيل: من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد. وقيل: عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال، أظهرُها: أنه تنوينُ مقابلةٍ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع/ الذكور، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب. والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال: «فإن قلت: فهلاَّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان: التعريفُ والتأنيثُ. قلت: لا يخلو التأنيثُ: إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها وإما بتاء مقدرة كما في» سعاد «فالتي في لفظِها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها، لأنَّ [هذه] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها» فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ. والثالث: أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعٌ مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلاَّ فللصرفِ كعرفات.
والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين: الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً، وفيه لغة ثانية: وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً
٨٨٧ - تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها | بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي |
قوله: ﴿عِندَ المشعر الحرام﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ باذكروا. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ «اذكروا» أي: اذكروه كائنين عند المشعِر.
قوله: ﴿كَمَا هَدَاكُمْ﴾ فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة، وهذا تقدير الزمخشري. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ، وهو مذهبُ سيبويه. والثالث: أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجلِ هدايته إياكم، حكى سيبويه «كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه». ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ.
و «ما» في «كما» يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ مصدريةً، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ، أي: كهدايته. والثاني: - وبه قال
٨٨٨ - ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه | كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ |
٨٨٩ - لعمرك إنني وأبا حميدٍ | كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ |
أريد هجاءَه وأخاف ربي | وأعلم أنه عبدٌ لئيم |
والرابع: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اذكروا» تقديرُه: مُشْبِهين لكم حين هداكم. قال أبو البقاء: «ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ. والخامس: أن تَكونَ الكافُ بمعنى» على «كقوله: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٥].
قوله: ﴿وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين﴾ :» إنْ «هذه هي المخففةُ من الثقيلة، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ، وجازَ دخولُ» إنْ «على الفعل
و» من قبله «متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه» لمن الضالين «، تقديرُه: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين. ولا يتعلَّق بالضالِّين بعده، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف، وقد تقدم تحقيقه. والهاء في» قبله «عائدةٌ على» الهدى «المفهومِ من قوله» كما هداكم.
و «من حيث» متعلِّقٌ بأَفيضوا، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، و «حيث» هنا على بابِها من كونِها ظرفَ زمانٍ، وقال القفال: «هي هنا لزمانِ الإِفاضة» وقد تقدَّم أن هذا قولُ الأخفش، وتقدَّم دليلُه، وكأن القفال رام بذلك التغايرَ بين الإِفاضتين ليقع الجوابُ عن مجيء «ثم» هنا، ولا يفيدُ ذلك لأن الزمان يستلزمُ مكانَ الفعلِ الواقعِ فيه.
و «أفاض الناسُ» في محلِّ جرٍّ بإضافة «حيثُ» إليها. والجمهورُ على رفعِ السين من «الناسُ».
وقرأ سعيد بن جبير: «الناسي» وفيها تأويلان،
قوله: ﴿واستغفروا الله﴾ » استغفر «يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه، والثاني» ب «مِنْ»، نحو: استغفرتُ الله من ذنبي، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه:
٨٩٠ - أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه | ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ |
والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري: «أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه:» كذكركم «كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً» وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ «أشد» من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة.
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ، أحدُه: أن يكونَ معطوفاً على «آباءكم» قال الزمخشري، فإنه قال: «بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم، على أن» ذِكْراً «من فِعْلِ المذكور» وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ، فقولُه: «هو معطوفٌ على آباءكم» معناه أنك إذا عَطَفْتَ «أشدّ» على «آباءكم» كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم، فكان القومُ مذكورين، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد «أشدَّ» هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكورين، لأنه جاء بعد «أَفْعَلَ» الذي
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في «كذكركم» لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم: شعرٌ شاعِرٌ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني.
الثالث: قاله مكي: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ، قال: «تقديرُه: فاذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكروه بالغين في الذِّكْر.
الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون، قال أبو البقاء:» وعندي أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: «فاذكروا الله» أي: كونوا ذاكِريه، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز «يعني المجاز الذي تقدَّم ذكره عن الفارسي وتلميذه.
الخامس: أن يكون» أشدَّ «نصباً على الحال من» ذِكْراً «لأنه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له، كقوله:
٨٩١ - لميَّةَ موحشاًَ طَلَلٌ... يَلُوح كأنه خِلَلُ
» موحشاً «حالٌ من» طلل «، لأنه في الأصلِ صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه
والثاني: من الوجهين في «ذِكْراً» أن يكونَ مصدراً لقوله: «فاذكروا» ويكون قولُه: «كذكركم» في محلِّ نصبٍ على الحال من «ذِكْراً» لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمت كانت في محلِّ حال، ويكون «أشدَّ» عطفاً على هذه الحالِ، وتقديرُ الكلام: فاذكروا الله ذكراً كذكركم، أي: مُشْبِهاً ذكركم أو أشدَّ، فيصيرُ نظيرَ: «اضربْ مثل ضربِ فلانٍ ضرباً أو أشد» الأصل: اضرب ضرباً مثلَ ضَرْبِ فلانٍ أو أشدَّ.
و «ذِكْراً» تمييزٌ عند غير الشيخ كما تقدَّم، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً
إذا تقرَّرَ ذلكَ فقولُه: «ذِكْراً» هو من جنس ما قبلها فعلى ما قُرِّر كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ: «اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ» بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في «أشدَّ» من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم: «شِعْرٌ شاعرٌ» كما قال به الفارسي وصاحبُه، أو يُجْعَلَ «أشدَّ» من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار كما قال به الزمخشري، أو يُجْعَلَ «أشدَّ» حالاً من «ذِكْراً» أو ننصبَه بفعلٍ. وهذا كلُّه وإن كان مفهوماً مِمّا تقدَّم إلا أني ذكرتُه بالتنصيص، تسهيلاً للأمر فإنه موضعٌ يحتاج إلى نظرٍ وتأمل. وهذا نهايةُ القول في هذه المسألةِ بالنسبة لهذا الكتاب. و «أو» هنا قيل للإباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بل.
قوله: ﴿مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا﴾ «مَنْ» مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفة. وفي هذا الكلام التفاتٌ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل: «فمنكم»، وحُمِل على معنى «مَنْ» إذ جاء جَمْعاً في قوله: «ربَّنا آتِنا»، ولو حُمِل على لفظِها لقال «ربِّ آتني».
وفي مفعول «آتِنا» الثاني - لأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما غيرُ الأول - ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً، لأنه من باب «أعطى»، أي: آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا. والثاني: أن «في» بمعنى «مِنْ» أي: من الدنيا. والثالث: أنها زائدةُ، أي: آتِنا الدنيا، وليسا بشيء.
قوله: ﴿وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ هذه الواوُ عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدمين. ف «في الآخرة» عطفٌ على «في الدنيا» بإعادةِ العاملِ. و «حسنةً» عطفٌ على «حسنةٍ». والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ على شيئين فأكثرَ. تقول: «أَعْلَمَ الله زيداً عمراً فاضلاً وبكراً خالداً صالحاً» اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ لأهلِ العربية وتفصيلٌ كثيرٌ يأتي في موضعِه إنْ شاء الله تعالى. وليس هذا كما زعم بعضهُم أنه من بابِ الفصلِ/ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد وبين المعطوفِ بالجار والمجرور، وجعله دليلاً على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلا في ضرورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: «أكرمت زيداً وعندك عمراً». وإنما يُرَدُّ على أبي علي بقولِه: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ [بالعدل] ﴾ [النساء: ٥٨] وقوله تعالى: ﴿الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢].
وقوله: «قِنا» ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وقى يقي وقاية. أمَّا حذفُ فائه فبالحَمْلِ على المضارع لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وأمَّا حذفُ لامه فلأنَّه الأمرَ جارٍ مجرى المضارعِ المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ
قوله: ﴿مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «نصيب»، فهو في محلِّ رفعٍ. وفي «مِنْ» ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا. والثاني: أنها للسببيةِ، أي: من أجلِ ما كَسَبوا. والثالث: أنها للبيان. و «ما» يجوزُ فيها وجهان، أن تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَسْبِهم، فلا تحتاجُ إلى عائدٍ. والثاني: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروط، أي: من الذي كسبوه.
قوله: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ » مَنْ «يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً، ف» تَعَجَّل «في محلِّ جزمٍ، والفاءُ في قولِه:» فلا «جوابُ الشرط، والفاءُ وما في حَيِّزها في محلِّ جزمٍ أيضاً على الجواب. والثاني: أنها موصولةٌ لا فلا محلَّ لتَعَجَّل لوقوعِه صلةً، ولفظه ماضٍ ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبالَ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً فهذا حكمُه. والفاءُ في» فلا «زائدةُ في الخبرِ، وهي وما بعدها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ. و» في يومين «متعلق بتَعجَّل، ولا بد من ارتكابِ مجاز لأن الفعلَ الواقعَ في الظرفِ المعدودِ يستلزم أن يكونَ واقعاً في كلٍّ مِنْ معدوداتِه، تقولُ:» سِرْت يومين «لا بد وأَنْ يكونَ السيرُ وقع في الأول والثاني أو بعضِ الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجهُ المجاز: إمَّا من حيث إنه نَسَب الواقعَ في
و» تعجَّل «يجوزُ أن يكونَ بمعنى استعجَلَ، كتكبَّر واستكبر، أو مطاوعاً لعجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّر، أو بمعنى المجرد، وهو عَجِل، قال الزمخشري:» والمطاوعة أوفق، لقوله: «ومَنْ تأخَّر»، كما هي كذلك في قوله:
٨٩٢ - قد يُدْرِك المتأنِّي بعضَ حاجتِه | وقد يكونُ مع المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ |
وفي هذه الآيات من علمِ البديعِ: الطباقُ، وهو ذكرُ الشيء وضدِّه في «تعجَّل وتأخر» فهو كقوله: ﴿هُوَ أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣] و ﴿أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٣] وهذا طباقٌ
وقرأ الجمهور ﴿فلا إِثْمَ﴾ بقطعِ الهمزةِ على الأصلِ، وقرأ سالم ابنَ عبد الله: «فلا اثمَ» بوصلِها وحَذْفِ ألفِ لا، ووجهُه أنه خَفَّف الهمزةَ بينَ بينَ فَقَرُبَتْ من الساكنِ فَحذَفَها تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألفُ لا وثاء «أثم»، فَحُذِفت ألفُ «لا» لالتقاءِ الساكنين. وقال أبو البقاء: «ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسمَ ب» لا «حَذَفَ الهمزةَ تشبيهاً لها بالألف» يعني أنه لمَّا رُكِّبت «لا» مع اسمها صارا كالشيء الواحد، والهمزةُ شبيهةُ الألف، فكأنه اجتمعَ ألِفان فَحُذِفَت الثانيةُ لذلك، ثم حُذِفَت الألفُ لِما ذكرْتُ لك.
قوله: ﴿لِمَنِ اتقى﴾ / هذا الجارُّ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حَسَبَ اختلافِهم في تعلُّقِ هذا الجارِّ من جهةِ المعنى لا الصناعة فقيل: يتعلَّقُ من جهةِ المعنى بقولِه: ﴿فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فتُقَدِّر له ما يَليقُ به أي: انتفاءُ الإِثمِ لِمَن اتَّقى. وقيل: متعلِّقٌ بقولِه: «واذكروا» أي: الذكرُ لمَنِ اتقى. وقيل: متعلِّق بقولِه: «غفورٌ رحيم» أي: المغفرة لمن اتقى. وقيل:
٨٩٣ - عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ | مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ |
قوله: ﴿وَيُشْهِدُ الله﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على «يُعْجِبَك»، فهي صلةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب أو صفةٌ، فتكونُ في محلِّ رفعٍ على حَسَبِ القول في «مَنْ». والثاني: أن تكونَ حاليةً، وفي صاحبِها حينئذٍ وجهان، أحدهُما: أنه الضميرُ المرفوعُ المستكنُّ في «يعجبك»، والثاني: أنه الضميرُ المجرُور في «قوله» تقديرُه: يُعْجِبُك أَنْ يقولَ في أمر الدنيا، مُقْسِماً على ذلك. وفي جَعْلها حالاً نظرٌ من وجهين، أحدهُما: من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعة، وأمَّا الأول فلأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ الإعجابُ والقولُ مقيدين بحالٍ والظاهرُ خلافهُ. وأمَّا الثاني فلأنه مضارع مثبتٌ فلا يَقَعُ حالاً إلا في شذوذٍ، نحو: «قُمْتُ وأصُكُّ عينه، أو ضرورةً نحو:
والجمهورُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة وكسرِ الهاء، مأخوذاً من أَشْهَدَ ونصبِ الجلالة مفعولاً به. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهِما ورفعِ الجلالةِ فاعلاً، وقرأ أُبيّ:» يستشهد الله «. فأمَّا قراءةُ الجمهور وتفسيرُهم فإن المعنى: يَحْلف بالله ويُشْهده إنه صادق، وقد جاءَتِ الشهادةُ بمعنى القَسَم في آية اللِّعان، قيل: فيكونُ اسمُ الله منتصباً على حَذْفِ حرفِ الجر أي: يُقْسِمُ بالله، وهذا سهوٌ من قائِله، لأنَّ المستعملَ بمعنى القسَم» شَهِد «الثلاثي لا» أَشْهَد «الرباعي، لا تقولُ: أُشْهِد بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءةِ الجمهور: يَطَّلِعُ الله على ما في قلبه، ولا يَعْلَمُ به أحدٌ لشدةِ تكتُّمِه
وأمَّا تفسيرُ الجمهورِ فيحتاجُ إلى حَذْفِ ما يَصِحُّ به المعنى، تقديرُه: وَيْحْلِفُ بالله على خِلافِ ما في قلبه، لأنَّ الذي في قلبه هو الكفرُ، وهو لا يَحْلِفُ عليه، إنما يَحْلِفُ على ضدِّه وهو الذي يُعْجِبُ سامعَه، ويُقَوِّي هذا التأويلَ قراءةُ أبي حيوة؛ إذ معناها: وَيطَّلِعُ الله على ما في قلبه من الكفر.
وأمَّا قراءة أُبيّ فيَحْتمل استَفْعَل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى أَفْعل فيوافِقَ قراءةَ الجمهور. والثاني: أنه بمعنى المجرد وهو شَهِد، وتكونُ الجلالةُ منصوبةً على إسقاطِ الخافضِ.
قوله: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ الكلامُ في هذه الجملةِ كالتي قبلَها، ونزيد
٨٩٤ -....................... | نَجَوْتُ وأَرْهُنُهم مالِكا |
٨٩٥ - إنَّ تحتَ الترابَ عَزْماً وحَزْما | وخَصيماً أَلَدَّ ذا مِغْلاقِ |
٨٩٦ - تَلُدُّ أقرانَ الرجالِ اللَّدَدِ | ....................... |
وفي اشتقاقهِ أقوالٌ، أحدُها: من لُدَيْدَي العُنُق وهما صَفْحتاه قاله الزجاج، وقيل: مَن لُدَيْدَي الوادي وهما جانباه، سُمِّيا بذلك لاعوجاجهما وقيل: هو مِنْ لدَّه إذا حَبَسه فكأنه يَحْبِسُ خصمَه عن مفاوضِته.
وفي «الخصامِ» قولان، أحدُهما: أنه جَمْعُ خَصْم/ بالفتح نحو: كَعْب وكِعاب وكَلْب وكِلاَب وبَحْر وبِحار، وعلى هذا فلا تَحْتاج إلى تأويلِ، والثاني: أنه مصدرٌ، يقال: خاصَمَ خِصاماً نحو: قاتَل قِتالاً، وعلى هذا فلا بد من مُصَحِّحٍ لوقوعِه خبراً عن الجثة، فقيل: في الكلام حذفٌ من الأولِ أي:
والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي: تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ، ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ
٨٩٧ - فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ | كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ |
ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ | وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي |
٨٩٨ - أسعى على حَيِّ بني مالِكِ | كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي |
٨٩٩ - ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا | سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ |
قوله: ﴿وَيُهْلِكَ الحرث﴾ الجمهورُ على:» يُهْلِكَ «بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ.» الحَرْثَ «مفعولٌ به، وهي قراءةٌ واضحةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى: ﴿وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨] فإنَّ قولَه:» ليفسدَ «يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ، فخصَّهُما
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي: خَرَجَ بسرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي: خَرَجَ وتطايَرَ، وقيل: النسلُ الخروجُ متتابعاً، ومنه:» نُسالُ الطائر «ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ، قال امرؤُ القيس:
٩٠٠ - وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ | فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ |
قوله: «بالإِثمِ» في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال: «أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه» قال الشيخ: «وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧]، ﴿ [وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ] بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ «أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله:
٩٠١ - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ | فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ |
وفي قوله» العزَّةُ بالإِثم «التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] {
قوله: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ » حَسْبُهُ «مبتدأ و» جهنَّمُ «خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل:» جهنَّمُ «فاعلٌ ب» حَسْب «، ثم اختلف القائلُ بذلك في» حَسْب «فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ/ أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ» حَسْب «لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء. وقيل: بل» حَسْب «اسمُ فعلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ: فقيل: اسمُ [فعلٍ] ماضٍ، أي: كفاهم، وقيل فعلُ أمرٍ أي: لِيَكْفِهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ. وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن» حَسْب «هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ، تقولُ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء.
و «جهنَّمُ» اخَتَلَفَ الناسُ فيها، فقيل: هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ، وأصلُها كَهْنَام، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأصلِ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها: هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها «فَعَنَّل» مشتقةٌ من «رَكِيَّةٌ جَهْنام» أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ، وقيل: بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس، قال:
٩٠٢ - أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى | في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ |
«ولَبِئْسَ المِهادُ» المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ «المِهاد» وقعَ فاصلةً، وقد تقدَّمَ الكلامُ على «بئس» وخلافِ الناسِ فيها. وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً.
والمِهَادُ فيه قولان، أحدُهماٌٌٌ: أنه جَمْعُ «مَهْد» وهو ما يوطأُ للنومِ والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِهِ:
٩٠٣ - وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ | تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ |
٩٠٤ - وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني | من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ |
قوله: ﴿ابتغآء﴾ منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله. والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين. و «مرضاة» مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو: مَغْزَى ومَرْمَى
ووقَفَ حمزة عليها بالتاء، وذلك لوجهين: أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي: وأنشدوا:
٩٠٥ - دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ | بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ |
وفي قولِهِ: ﴿بالعباد﴾ خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ، إذ كان الأصلُ «رؤوف به» أو «بهم»، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ «العباد» يُؤْذِنُ بالتشريفِ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك.
٩٠٦ - دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا | رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا |
٩٠٧ - شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها | فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ |
قوله: ﴿كَآفَّةً﴾ منصوبٌ على الحالِ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في «ادخُلوا» والمعنى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً. وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: «قام القومُ كافةً» بمنزلةِ: قاموا كلُّهم. والثاني: أنه «السِّلْم»، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: «ويَجُوزُ أن تكونَ» كافةً «حالاً من» السِّلْمِ «لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّث الحَرْبُ، قال الشاعر:
٩٠٨ - السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به | والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ |
والثالثُ: أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً، أعني فاعلَ «ادخُلُوا» و «السِّلْم» فتكونُ حالاً من شيئين. وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال: «وتَسْتَغْرِقُ» «كافة» حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ [مريم: ٣٧]. ثم قال بعد كلامٍ: «وكافةً معناه جميعاً، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها».
وقوله: «نحو قوله: تَحْمِلُه» يعني أنَّ «تَحْمِلُهُ» حالٌ من فاعل «أَتَتْ» ومِنَ الهاء في «بِهِ». قال الشيخ: «هذا المثالُ ليس مطابقاً للحال من شيئين لأنَّ لفظَ» تَحْمِلُهُ «لا يحتمل شيئين، ولا تقع الحالُ من شيئين إلا إذا كان اللفظُ يحتملُهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذوي الحال مبتدأين، وجَعَل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ نحو:
٩٠٩ - وَعُلِّقْتُ سلمى وَهْيَ ذاتُ مُوَصَّدٍ | ولم يَبْدُ للأتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ |
صَغِيرَيْنِ نَرْعى البَهْم يا ليت أنَّنا | إلى اليومِ لم نَكْبَر ولم تكْبَرِ البُهْمُ |
٩١٠ - خَرَجْتُ بها نمشي تَجُرُّ وراءَنا | على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ |
واعلَمْ أنَّ أصلَ «كافة» اسمُ فاعل من كَفَّ يَكُفُّ أي مَنَع، ومنه: «كَفُّ الإِنسان»، لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و «كِفّة الميزان» لجمعِها الموزون، والكُفَّة بالضم لكل مستطيلٍ، وبالكسر لكلِّ مستدير. وقيل: «كافة» مصدرٌ
٩١١ - وهلْ أنا إلا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ | غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ |
و «يَنْظُرون» هنا بمعنى يَنْتَظِرُون، وهو مُعَدَّىً بنفسِه، قال امرؤ القيس:
٩١٢ - فإنَّكما إنْ تَنْظُراني ساعةً | من الدَّهْرَ يَنْفَعْني لدى أُمِّ جُنْدَبِ |
قولُه: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ﴾ هذا مفعولُ» ينظرون «وهو استثناءٌ مفرَّغٌ أي: ما ينظرون إلا إتيان الله.
قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّق بيأتِيَهم، والمعنى: يأتيهم أمرُه أو قُدْرَتُه أو عقابُه أو نحوُ ذلك، أو يكونُ كنايةً عن الانتقام؛ إذ الإتيان يمتنعُ إسنادُه إلى الله تعالى حقيقةً. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: هو مفعولُ يأتيهم، أي: في حالِ كونِهم مستقرين في ظُلَل وهذا حقيقةٌ. والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدَّم، أي: أمرُ الله في حال كونه مستقراً في ظُلَل. الثالث: أن تكونَ» في «بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإِتيانِ، أي: إلاَّ أَنْ يأتيهم بظُلَل. ومِنْ مجيءِ» في «بمعنى الباءِ قوله:
٩١٣ -................. | خَبيرون في طَعْنِ الكُلى والأباهِرِ |
وقرأ أُبَيّ وقتادةُ والضحاكُ: في ظلالٍ، وفيها وجهان، أَحدُهما: أَنَّها جمع ظِلّ نحو: صِلّ وصِلال.
والثاني: أنها جمعُ ظُلَّة كقُلَّة وقِلال، وخُلَّة وخِلال، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا يَنقاس في فُعْلَة.
قوله: ﴿مِّنَ الغمام﴾ فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «ظُلَل» التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغَمام. و «مِنْ» على هذا للتبعيضِ.
والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يأتيهم»، وهي على هذا لابتداءِ الغاية، / أي: من ناحيةِ الغمام.
والجمهور: «الملائكةُ» رفعاً عطفاً على اسم «الله». وقرأ الحسن وأبو جعفر: «والملائكةِ» جراً وفيه وجهان، أحدُهما: الجر عطفاً على «ظُلَلٍ»، أي: إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة؛ والثاني: الجر عطفاً على «الغمام» أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه.
قوله: ﴿وَقُضِيَ الأمور﴾ الجمهور على «قُضِيَ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على «يَأْتِيهم» وهو داخلٌ في حَيِّز الانتظار، ويكونُ ذلك من وَضْعِ الماضي موضعَ المستقبل، والأصل،
قوله: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور﴾ هذا الجار متعلِّقٌ بما بعدَه، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: لا تَرْجعُ إلا إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: «تُرْجَعُ» بالتأنيث لجريان جمعِ التكسير مَجْرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزةَ والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائِه للفاعل، والباقون ببنائِه للمفعول، و «رجع» يُستعمل متعدياً تارةً ولازماً أخرى. وقال تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ [التوبة: ٨٣] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سُمِع في المتعدي «أرجع» رباعياً وهي لغةٌ ضعيفة، ولذلك أَبَت العلماءُ أن تَجْعَل قراءَة مَنْ بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع:
«يُرْجَعُ» بالتذكير وببنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي، والفاعلُ المحذوفُ
وقوله: ﴿كَمْ آتَيْنَاهُم﴾ في «كَمْ» وجهانِ، أحدُهما أنَّها في محل نصبٍ. واختُلف في ذلك فقيل: نصبُها على أنها مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم على مذهبِ
والثاني من وَجْهَي كم: أن تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ والجملةُ بعدَها في محلِّ رفعٍ خبراً لها والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: كم آتيناهموها أو أتيناهم إياها، أجاز ذلك ابنُ عطية وأبو البقاء، واستَضْعَفَه الشيخ من حيث إنَّ حَذْفَ عائدِ المنصوبِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله.
٩١٤ -................ | خبيرٌ بأَدْواءِ النِّساء طَبيبُ |
٩١٥ - وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا | بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِل |
وهل «كَمْ» هذه استفهاميةٌ أو خبريةٌ؟ الظاهرُ الأولُ، وجَوَّزَ الزمخشري فيها الوجهين، ومَنَعَه الشيخُ من حيث «إنَّ» كَمْ «الخبرية مستقلةٌ بنفسها غيرُ متعلقةٍ بالسؤال، فتكونُ مفلتةً مِمّا قبلها، والمعنى يؤدِّي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فَيَحْتَاج إلى حَذْفِ المفعول الثاني للسؤالِ تقديرُه: سَلْ بَنِي إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهاميةُ لا تحتاجُ إلى ذلك.
و» من آيةٍ «فيه وجهان، أحدُهما: أنها مفعولٌ ثانٍ على القولِ بأن» كم «منصوبةٌ على الاشتغال كما تقدَّم تحقيقُه، ويكون مميِّز» كم «محذوفاً، و» مِن «زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غيرُ موجب إذ هو استفهامٌ. وهذا إذا قلنا إنَّ» كم «استفهاميةٌ لا خبريةٌ، إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و» مِنْ «لا تُزادُ في
والثاني: أنها تمييزٌ، ويجوزُ دخولُ» مِنْ «على ممِّيِز» كم «استفهاميةٌ كانت أو خبريةً مطلقاً، أي: سواءً وليها مميِّزها أم فُصِل بينهما بجملةٍ أو ظرفٍ أو جارٍ ومجرورٍ، على ما قَرَّره النحاةُ. و» كم «وما في حَيِّزها في محلِّ نصب أو خفضٍ، لأنها في محلِّ المفعول الثاني للسؤال فإنه يتعدَّى لاثنين: إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ جَر: إمّا عن وإمَّا الباء نحو: سألته عن كذا وبكذا، قال تعالى: ﴿فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩]، وقد جُمِع بينهما في قوله:
٩١٦ - فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما بِه | ....................... |
﴿سَلْهُمْ: أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ [القلم: ٤٠] وقوله:
٩١٧ - يا أيُّها الراكبُ المُزْجِي مَطِيَّتَه | سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصَّوْتُ |
٩١٨ -..................... | واسألْ بمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ ما فَعَلا |
٩١٩ - وَمَنْ أنتُمُ إنَّا نسِينا مَنَ أَنْتُمُ | وريحُكمُ من أيِّ ريحِ الأَعاصِرِ |
واختلفَ النحويون في «كم» : هل بسيطةٌ أو مركبةٌ من كافِ التشبيه وما الاستفهاميةُ حُذِفَتْ ألفُها لانجرارِها، ثم سُكِّنَتْ ميمُها، كما سُكِّنَّتْ ميمُ «لِمْ» من «لِمْ فَعَلْتَ كذا» في بعض اللغاتِ، فَرُكِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيحُ الأول. وأكثرُ ما تجيء في القرآنِ خبريةً مراداً بها التكثيرُ ولم يأتِ مميِّزُها في القرآنِ إلا مجروراً بِمِنْ.
قوله: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾ «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وقد تقَدَّمَ الخلافُ في خبرِ اسمِ الشرطِ ما هو؟ ولا بُدَّ للتبديل من مفعولين: مُبَدَّل وبَدَل، ولم يَذْكر هنا إلا أحدَهما وهو المُبَدَّل، وحَذَفَ البَدَلَ، وهو المفعول
وقُرِىء: «يُبْدِل» مخففاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. و «ما» مصدريةٌ، والعائدُ من جملةِ الجزاءِ على اسمِ الشرطِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: العقاب له، أو لأنَّ «أَلْ» نابَتْ منابَه عند الكوفيين.
وقوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ يَحْتَمِل أن يكونَ من باب عَطْفِ الجملةِ الفعلية على
قوله: ﴿والذين اتقوا فَوْقَهُمْ﴾ مبتدأٌ وخبرٌُ، و «فوق» هنا تَحْتَمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ ظرفَ مكانٍ على حقيقتِها، لأنَّ المتقين في أَعلى عَلِّيِّين، والكافرين في أسفلِ سِجِّين. والثاني: أن تكون الفوقيةُ مجازاً: إمَّا بالنسبة إلى نعيمِ المؤمنين في الآخرة ونعيمِ الكافرين في الدنيا. و «يوم» منصوب بالاستقرار الذي تعلَّق به «فوقهم».
قولُه: ﴿مَن يَشَآءُ﴾ مفعولُ «يشاء» محذوفٌ، أي: مَنْ يشاءُ أَنْ يَرزقَه. و «بغيرِ حساب» هذا الجارُّ فيه وجهان، أحدُهما: أنه زائدٌ. والثاني: أنه غيرُ زائدٍ، فعلى الأول لا تَعَلُّقَ له بشيء، وعلى الثاني هو متعلِّقٌ بمحذوف. فأمّا وجهُ الزيادةِ: فهو أنه تقدَّمه ثلاثةُ أشياءَ في قوله: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ الفعلُ والفاعلُ والمفعولُ، وهو صالحٌ لأنْ يتعَلَّقَ من جهةِ المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا تعلَّق بالفعلِ كان من صفاتِ الأفعالِ، تقديرُهُ: والله يرزق رزقاً غيرَ حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباءُ زائدةٌ.
وإذا تَعَلَّقَ بالفاعل كان من صفاتِ الفاعلين، والتقديرُ: واللَّهُ يرزق غيرَ
وإذا تعلَّق بالمفعولِ كانَ من صفاتِهِ أيضاً والتقديرُ: والله يرزقُ مَنْ يشاء غيرَ محاسَبٍ أو غيرَ محسوبٍ عليه، أي: معدودٍ عليه، أي: إنَّ المرزوق لا يحاسِبُهُ أحدٌ، أو لا يَحْسُبُ عليه أي: لا يَعُدُّ. فيكونُ المصدرُ أيضاً واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ أو حَسَبَ، أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي غيرَ ذي حساب أي: محاسبة، فالمصدرُ واقعٌ موقعَ الحالِ والباءُ أيضاً زائدةٌ فيه، ويحتمل في هذا الوجهِ أن يكونَ المعنى أنه يُرْزَق مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيَه الرزقُ، والتقديرُ: يرزقُه غيرَ محتسِب ذلك، أي: غيرَ ظانٍّ له، فهو حالٌ أيضاً.
ومثلُه في المعنى ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣] وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله:
٩٢٠ - فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ | حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها |
وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة. وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ: «بغير
قوله: ﴿مَعَهُمُ﴾ هذا الظرفُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بأنزلَ. وهذا لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وذلك أنه يلزَمُ من تعلُّقِهِ بأَنْزَلَ أن يكونَ النبيون مصاحِبين للكتابِ في الإِنزالِ، وهم لا يُوصَفُونَ بذلك لِعَدَمِهِ فيهم. وتأويلُهُ أنَّ المرادَ بالإِنزالِ الإِرسالُ، لأنه مُسَبِّبٌ عنه، كأنه قيل: وأرسلَ معهم الكتابَ فتصِحُّ مشاركتُهم له في الإِنزالِ بهذا التأويلِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مقدرةً أي: وأنزلَ مقدِّراً مصاحبتَه إياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: «شاهداً لهم ومُؤَيِّداً»، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
والألفُ واللامُ في «الكتاب» يجوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ بمعنى أنه كتابٌ
وهذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِهِ: «فَبَعَثَ» لا يُقال: البشارة والنِّذارة ناشئةٌ عن الإِنزال فكيفَ قُدِّما عليه؟ لأنا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يكونَان بإنزالِ كتابٍ، بل قد يكونَانِ بوحيٍ من اللَّهِ تعالى غير مَتْلُوٍّ ولا مَكْتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما لأنهما حالان من «النبيين» فالأَوْلَى اتَّصالُهُما بهم.
قوله: ﴿بالحق﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ متعلِّقاً بمحذوف على أنه حالٌ من الكتابِ أيضاً عند مَنْ يُجَوِّزُ تعَدُّدَ الحالِ وهو الصحيحُ. والثاني: أن يتعلَّق بنفسِ الكتابِ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ. والثالث: أن يتعلَّق بأنزالَ، وهذا أَوْلَى لأنَّ/ جَعْلَه حالاً لا يَسْتَقِيم إلا أَنْ يكونَ حالاً مؤكدةً، إذ كُتُب اللَّهِ تعالى لا تكونُ ملتبسةً بالحقِّ، والأصلُ فيها أَنْ تكونَ منتقلةً، ولا ضرورةَ بنا إلى الخروج عن الأصلِ. ولأنَّ الكتابَ جارٍ مَجْرى الجوامِدِ.
قوله: ﴿لِيَحْكُمَ﴾ هذا الجارُّ متعلقٌ بقوله: «أنزل» واللامُ للعلةِ. وفي الفاعلِ المضمرِ في «ليحكم» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو أظهرُها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى لتقدُّمِهِ في قوله: «فَبَعَثَ الله» ولأنَّ نسبةَ الحكمَ إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجَحْدَرِي فيما نقله عنه مكي: «لنحكمَ» بنون العظَمَةِ،
والثاني: أنه يعودُ على «الكتاب» أي: ليحكم الكتابُ، ونسبةُ الحكم إليه مجازٌ كنسبةِ النطق إليه في قوله تعالى: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ [الجاثية: ٢٩]، ونسبةُ القضاء إليه في قوله:
٩٢١ - ضَرَبَتْ عليكَ العنكبُوتُ بنَسْجِها | وقضى عليك به الكتابُ المُنَزَّلُ |
قوله: ﴿وَمَا اختلف فِيهِ﴾ الضمير في» فيه «فيه أوجهٌ، أظهُرها: أنه عائدٌ على» ما «الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في» أوتوه «. وقيل: يعودان على الكتابِ، أي: وما اخْتَلَفَ في الكتاب إلا الذين أُوتوا الكتابَ. وقيل: يعودان
قوله: ﴿مِن بَعْدِ﴾ فيه وجهانِ، أحدُهما: وهو الصحيحُ، أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُهُ: اختلفوا فيه مِنْ بَعْد. والثاني: أنه متعلِّقٌ ب» اختلف «الملفوظِ به، قال أبو البقاء: ولا تَمْنَعُ» إلاَّ «من ذلك، كما تقول:» ما قام إلا زيدٌ يومَ الجمعة «. وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاةِ فيه كلامٌ كثيرٌ. وملخَّصُه أن» إلا «لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ، وذلك أنَّ» إلاَّ «مُعَدِّيَةٌ للفعلِ، ولذلك جازَ تَعَلُّقُ ما بعدها بما قبلَها، فهي كواوِ مع وهمزة التعدية، فكما أن واو» مع «وهمزة التعدية لا يُعَدِّيان الفعلَ لأكثرَ من واحدٍ، إلاَّ مع العطفِ، أو البدليةِ كذلك» إلا «. وهذا هو الصحيحُ، وإنْ كان بعضُهم خالَفَ. فإن وَرَدَ من لسانِهم ما يُوهم جوازَ ذلك يُؤَوَّل. فمنه قولُه: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي﴾ [النحل: ٤٣-٤٤] ثم قال:» بالبينات «، فظاهر هذا أن» بالبينات «متعلقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِيَ ب» إلا «شيئان، أحدُهما» رجالاً «والآخرُ» بالبينات «.
وتأويلُه أنَّ «بالبينات» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لئلا يلزَمَ منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن وأبو علي: «ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهماً» و «ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بعضا». واختلفا في تصحيحِها فقال أبو الحسن: «طريقُ تصحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوعَ الذي بعد» إلاَّ «عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا درهماً، فيكونُ» زيدٌ «بدلاً من» أحد «و» درهماً «مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديرُهُ: ما أخذ أحدٌ زيدٌ شيئاً إلا درهماً». وقال أبو علي: «طريقُ ذلك زيادةُ منصوبٍ
قال بعض المحققين:» وما أجازَه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ضعيفٌ، وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ من مُقارَنَتِهِ ب «إلاَّ»، فَأَشْبَهَ العطفَ، فكما أنه لا يَقَعُ بعدَ حرفِ العطفِ معطوفان لا يَقَعُ بعدَ «إلاَّ» بدلان «.
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ وما قال الناسُ فيه كان إعرابُ أبي البقاء في هذه الآيةِ الكريمةِ من هذا البابِ، وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وَقَعَ بعدَ» إلاَّ «الفاعلُ وهو» الذين «، والجارُّ والمجرورُ وهو» مِنْ بعد «، والمفعولُ من أجلِهِ وهو» بغياً «فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ من بعدِ ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بغياً. وإذا كان التقدير كذلك فقد اسْتُثْنِيَ ب» إلاَّ «شيئان دونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ من غيرِ عطفِ ولا بدليةٍ. وإنما استوفيتُ الكلام في هذه المسألة لكثرةِ دُوْرِها.
قوله: ﴿بَغْياً﴾ في نصبِهِ وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ من أجلِهِ لاستكمالِ الشروطِ، هو علةٌ باعثةٌ. والعامِلُ فيه مضمرٌ على ما اخترناه،
والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّم. و «بينهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «بغياً». أي: بَغْياً كائناً بينهم.
قوله: ﴿لِمَا اختلفوا فِيهِ﴾ «لِما» متعلِّقٌ ب «هَدَى» وما موصولةٌ، والضمِيرُ في «اختلفوا» عائدٌ على «الذين أوتوه»، وفي «فيه» عائدٌ على «ما» وهو متعلِّقٌ ب «اختلف».
و ﴿مِنَ الحق﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه في موضعِ الحالِ من «ما» في «لِما». و «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ وأن تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك تقديرُهُ: الذي هو الحق. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «مِنَ الحق» حالاً من الضميرِ في «فيه» والعامِلُ فيها «اختلفوا». وزعم الفراء أنَّ في الكلامِ قَلْباً والأصلُ: «فَهَدى الله الذينَ آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا» واختاره الطبري. وقال ابن عطية: «ودعَاه إلى هذا التقديرِ خَوْفُ أن يحتملَ اللفظُ أنهم اختلفوا في الحقِّ، فهدى الله المؤمنين لبعضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاهُ أن يكونَ غيرَ حقٍ في نفسِهِ» قال: «والقلبُ في كتابِ اللَّهِ دونَ ضرورةٍ تدفعُ إليه عجزٌ وسوءُ فهمٍ» انتهى. قلت: وهذا الاحتمالُ الذي جَعَلَه ابنُ عطية حاملاً للفراء على ادعاءِ القلبِ لا يُتَوَهَّمُ أصلاً.
قوله: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «الذين آمنوا» أي: مأذوناً لهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمرهِ.
٩٢٢ - بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضحى | وصورتِها أم أنتَ في العينِ أَمْلَحُ |
و «حَسِبْتُم» هنا من أخوات «ظنَّ»، تنصبُ مفعولَيْن أصلُهما المبتدأ والخبرُ، و «أَنْ» وما بعدَها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويهِ، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الأخفش، كما تقرَّر ذلك. ومضارِعُها فيه الوجهان: الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها من الأفعالِ نظائِرُ، سيأتي ذلك في آخرِ السورةِ، ومعناها الظنُّ، وقد تُسْتَعْمَلُ في اليقين قال:
قوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ الواوُ للحالِ، والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غيرَ آتيكم مثلُهم. و «لَمَّا» حرفُ جزمٍ معناهُ النفي ك «لم»، وهو أبلغُ من النفي ب «لم»، لأنها لا تنفي إلا الزمانَ المتصلَ بزمانِ الحالِ. والفرقُ بينها وبين «لم» من وجوهٍ، أحدُها: أنه قد يُحْذَفُ الفعلُ بعدها في فصيحِ الكلام إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولِهِ:
٩٢٣ - حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ | رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلا |
٩٢٤ - فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً وَلَمَّا | فنادَيْتُ القبورَ فلم تُجِبْنَهْ |
وفي قولِه ﴿مَّثَلُ الذين﴾ حَذْفُ مضافٍ وحَذْفُ موصوفٍ تقديرُهُ: ولَمَّا يأتِكُمْ مَثَلُ محنةِ المؤمنينِ الذين خَلَوْا.
و «مِنْ قبلِكم» متعلِّقٌ ب «خَلَوا» وهو كالتأكيدِ، فإنَّ الصلةَ مفهومةٌ من قولِهِ: «خَلَوا».
قوله: ﴿مَّسَّتْهُمُ البأسآء﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها تفسيريةٌ أي: فَسَّرَتِ المَثَلَ وَشَرَحَتْهُ كأنه قيل:
قوله: ﴿حتى يَقُولَ﴾ قرأ الجمهورُ: «يقولُ» نصباً، وله وجهان، أحدُهما: أنَّ «حتى» بمعنى «إلى»، أي: إلى أن يقولَ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ، و «حتى» إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ، وهذا قد وقع ومَضَى. فالجوابُ: أنه على حكايةِ الحالِ، حكى تلك الحالَ. والثاني: أنَّ «حتى» بمعنى «كي»، فتفيدُ العِلَّةَ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال: «ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا: فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ» و «أَنْ» بعد «حتى» مضمرةٌ على كِلا التقديرين. وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد «حتى» ولا غيرِها، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا.
واعلم أنَّ «حتى» إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو: «مَرِض حتى لا يَرْجونه» أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نُصِبَ، تقول: سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتُك له: إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ: حكايةُ حالٍ، وفي قراءةِ نافع أيضاً: حكايةُ حالٍ. وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم
قوله: «معه» هذا الظرفُ يجوزُ أن يكونَ منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا القولِ وجامَعُوه فيه، وأن يكونَ منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإِيمانِ.
قوله: ﴿متى نَصْرُ الله﴾ «متى» منصوبٌ على الظرفِ فموضعُهُ رفعٌ خبراً مقدماً، و «نصرٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. وقال أبو البقاء: «وعلى قولِ الأخفش موضعُه نصبٌ على الظرفِ و» نصرُ «مرفوعٌ به». و «متى» ظرفُ زمانٍ لا يَتَصَرَّفُ إلا بجرِّه بحرفٍ.
وهو مبنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ: إما لِمَعْنَى همزة الاستفهام وإمَّا معنى «مَنْ» الشرطية، فإنه يكونُ اسمَ استفهامٍ، ويكونُ اسمَ شرطٍ فيجزمُ فعلين شرطاً وجزاءً.
والظاهرُ أنَّ جملةَ ﴿متى نَصْرُ الله﴾ من قولِ المؤمنينَ، وجملةَ ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ من قولِ الرسولِ، فَنُسِبَ القولُ إلى الجميعِ إجمالاً، ودلالةُ الحالِ مبيِّنَةٌ للتفصيلِ المذكور. وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَم أَن في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: حتى يقولَ الذين آمنوا ﴿متى نَصْرُ الله﴾ فيقولُ الرسولُ «إلا إنَّ»، فَقُدِّمَ الرسولُ لمكانَتِهِ، وقُدِّم المؤمنون لتقدُّمِهِم في الزمان. قال ابن عطية: «هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلُ الكلامِ على غير وجهِهِ»
[قوله] :﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ﴾ يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها، ف «ما» في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ. و «أنفقْتُمْ» في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، و «مِنْ خيرٍ» تقدَّم إعرابُه في قوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦].
وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه؟ فيه أجوبةٌ منها: أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف، تقديره: ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه، فجاء الجوابُ عنهما، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله: «مِنْ خيرٍ» وعن المُنْفقِ عليه بقوله: «فللوالدَيْن» وما بعده. ومنها: أن يكون «ماذا» سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون؟ ومنها: أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكْرَ المُنْفَقِ، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى: ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ﴾ [البقرة: ١٧١]. وقال الزمخشري: قد تضمَّن قولُه: ﴿مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ﴾ بيانَ ما يُنفقونه. وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها. [قال] :
قوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ﴾ هذه واوُ الحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها والظاهرُ أنَّ «هو» عائدٌ على القتالِ. وقيل: يعودُ على المصدرِ المفهومِ من كَتَب، أي: وكَتْبُه وفَرْضُه. وقرأ الجمهورُ «كُرْهٌ» بضمِّ الكافِ، وقرأ السلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعْف والضُّعْف، قاله الزجاج وتبعه الزمشخري. وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ والمفتوحُ المصدرُ. وقيل: المفتوحُ بمعنى الإِكراه، قالَه الزمخشري في توجيهِ قراءةِ السُّلَمي، إلا أنَّ هذا من بابِ مجيءِ المصدرِ على حَذْفِ الزوائدِ وهو لا ينقاسُ. وقيل: المفتوحُ ما أُكْرِهَ عليه المرءُ، والمضمومُ ما كَرِهَهُ هو.
فإن كان «الكَرْهُ» و «الكُرْه» مصدراً فلا بُدَّ من تأويلٍ يجوزُ معه الإِخبار به عن «هو»، وذلك التأويلُ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، أي: والقتالُ ذو كُرْهٍ، أو على المبالَغَةِ، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول. وإنْ قُلْنا: إنَّ «كُرْهاً»
قوله: ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ﴾ «عسى» فعلٌ ماضٍ نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإِشفاق. وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ولا يكونُ خبرُها إلا فعلاً مضارعاً مقروناً ب «أَنْ». وقد يجيءُ اسماً صريحاً كقوله:
٩٢٥ - إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً | حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ « |
٩٢٦ - أَكْثَرْتَ في العَذْلِ مُلِحَّاً دائماً | لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائِماً |
٩٢٧ - عسى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه | له كلَّ يومٍ في خَلِقَتِهِ أَمْرُ |
٩٢٨ - عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتَ فيه | يكونُ وراءَه فرجٌ قَرِيبُ |
وزعم الحوفي أن «أَن تكرهوا» في محلِّ نصب، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد.
قوله: ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال/ وإنْ كانَتْ الحالُ من النكرةِ بغيرِ شرطٍ من الشروطِ المعروفةِ قليلةً. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ لشيئاً. وإنما دخلتِ الواوُ على الجملةِ الواقعةِ لأنَّ صورتَها صورةُ الحالِ. فكما تدخل الواوُ عليها حاليةً تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء. ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشري في قوله: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾
وقرأ ابن عباس والأعمش:» عن قتالٍ «بإظهارِ» عن «وهي في مصحفِ عبد الله كذلك، ، وقرأ عكرمة:» قَتْلٍ فيه، قل قتلٌ فيه «بغير ألف.
وقُرىء شاذاً:» قتالٌ فيه «بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ، تقديرُه: أقتالٌ فيه. والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجهِ بان يكونَ خبر مبتدأٍ محذوفٍ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدأٍِ.
قالوا: ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ
وقوله: ﴿فِيهِ﴾ على قراءةِ خفضٍ «قتالٍ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ ل «قتال». والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً. وقال أبو البقاء: «كما يتعلَّقُ بقاتل». ولا حاجة إلى هذا التشبيه، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعلِ. والضميرُ في «يسألونك» قيل للمشركين، وقيل للمؤمنين. والألفُ واللامُ في «الشهر» قيل: للعهدِ وهو رجب، وقيل: للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ.
قوله: ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ: إمَّا الوصفُ، إذا جَعَلْنَا قولَه «فيه» صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيرِه. فإنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٥-١٦] فقال أبو البقاء: «ليس المرادُ تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قتالٌ «الثاني غيرُ الأول»، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ
قوله: ﴿وَصَدٌّ﴾ فيه وجهان، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عن الجميعِ. وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه: ﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ وإمَّا لتعلُّقِه به، وإمَّا لكونِه معطوفاً، والعطفُ من المسوِّغات. والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء. قال ابن عطية: «وهو خطأٌ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله:» وكفرٌ به «عَطْفٌ أيضاً على» كبيرٌ «، ويَجِيءُ من ذلك أنَّ إخراجَ أهلِ المسجدِ منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه». وهذا الذي رَدَّ به قولَ الفراء غيرُ لازم له؛ إذ له أن يقول: إنَّ قولَه «وكفرٌ به» مبتدأٌ، وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ.
في الشهرِ الحرامِ.
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه؛ إذ التقديرُ: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و «كفرٌ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على «صَدّ» على قولنا بأن «
قوله: ﴿والمسجد الحرام﴾ الجمهورُ على قراءته مجروراً. وقرىء شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ، أحدها: - وهو قولُ المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابنُ عطية، قال ابن عطية: «وهو الصحيحُ - أنه عطفٌ على» سبيلِ الله «أي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد». وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ «صداً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و «أَنْ» موصولٌ، وقد جعلتم «والمسجدِ» عطفاً على «سبيلِ» فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو «وكفرٌ به». ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ. فإن قيل: يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما. قيل: إنما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ.
والثالث: التفصيلُ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو: «مررت بك نفسِك وزيدٍ»، وإلا فلا يجوزُ إلا ضرورةً، وهو قولُ الجَرْميّ. والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أما السَّماعُ: ففي النثرِ كقولِهم: «ما فيها غيرُه وفرسه» بجرِّ «فرسه» عطفاً على الهاء في «غيره». وقوله: ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام﴾ في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ، وستأتي هذه الآيةُ إن شاء الله، ومنه: ﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ [الحجر: ٢٠] ف «مَنْ» عطف على «لكم» في قولِه تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ وقولُه: ﴿مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ١٢٧] عطف على «فيهِنّ» وفيما يُتْلى عليكم «. وفي النظم وهو كثيرٌ جداً، فمنه قولُ العباس بن مرداس:
٩٢٩ - فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكِنْ | عَسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئيمُ |
٩٣٠ - أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي | أفيها كان حَتْفي أم سواها |
٩٣١ - تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا | وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ |
٩٣٢ - هَلاَّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ | وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ |
٩٣٣ - بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى | وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ |
٩٣٤ - لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ | من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ |
٩٣٥ - إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ | فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها |
٩٣٦ - إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ | ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها |
٩٣٧ - آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ | من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ |
٩٣٨ - فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا | فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ |
وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه.
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» الشهر الحرام «أي: يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام. قال أبو البقاء:» وضَعُفَ هذا بأنَّ القومَ لم يَسْأَلوا عن المسجدِ الحرام إذ لم يَشُكُّوا في تعظيمِه، وإنما سَأَلوا عن
والثاني: القتالُ في المسجد الحرام، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ، إنما سألوا عن القتالِ فيهما كما ذَكَرْتُم، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى، يكون «قتال» أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ.
الرابع: أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه: ويَصُدُّون عن المسجدِ، كما قال تعالى: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾ [الفتح: ٢٥] قاله أبو البقاء، وجَعَله جيداً. وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله:
٩٣٩ - إذا قيل:
أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ | أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ |
وأمَّا رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على «وكفرٌ به» على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه «وكفرٌّ بالمسجدِ» فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف «كفرٌ» إلى المسجدِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ، إلا أنه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرُ مِنْ ذلك.
قوله: ﴿أَكْبَرُ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن الثلاثةِ، أعني: صداً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبراً عن المجموعِ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ، كما تقول: «زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ» أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظاهرُ. وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ. وإنِّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.
الثاني من الوجهين في «أكبر» : أن يكونَ خبراً عن الأخير، ويكون خبر «وصد» و «كفر» محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه: وصد وكفر أكبر. قال أبو البقاء/ في هذا الوجه: «ويجب أن يكونَ المحذوفُ على هذا» أكبر «لا» «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر «وصد» و «كفر» لدلالة خبر «قتال» عليه أي: القتال في الشهر الحرام كبير، والصد والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام.
ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذور.
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ متعلِّق ب «أكبر»، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف. وصرح هنا بالمفضول في قوله: ﴿والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل﴾ ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حُذِفَ،
و «يزالون» مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلاَّ فسماعاً، وأحكامُها في كتب النحو، ووزنُها فَعِل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها: يَزيل، وإن كان الأكثر يَزال، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولِهم في مضارعها يَزُول، ومعناها التحول. و «عن دينكم» متعلق «بيردوكم» وقوله: «إن استطاعوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي: إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل «لا يزالون» جواباً مقدماً، وقد تقدَّم الردُّ عليه بأنه كان ينبغي أَنْ تَجِبَ الفاَءُ في قولِهم: «أنت ظالم إنْ فعلت».
وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه: ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤] : قال الشيخ: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صَيَّر، وَجَعَلَ من ذلك قولَه:
﴿فارتد بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٦] أي: رَجَع «وهذا منه [سهو] ؛ لأنَّ الخلافَ إنما هو بالنسبةِ إلى كونِها بمعنى صار أم لا، ولذلك مثَّلوا بقوله:» فارتدَّ بصيراً «فمنهم مَنْ جَعَلها بمعنى» صار «، ومنهم مَنْ جَعَل المنصوبَ بعدَها حالاً، وإلا فأينَ المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عَدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى» صَيَّر «فهو رَدَّ لا ارتدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب» ارتَدَّ «. وصيَّر ب» صارَ «.
و» منكم «متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في» يَرْتَدِدْ «، و» من «للتبعيض، تقديرُه: ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم، أي: بعضكم. و» عن دينه «متعلِّقٌ بيرتددْ. و» فَيَمُتْ «عطفٌ على الشرط والفاءُ مُؤْذِنَةٌ بالتعقيب.
﴿وَهُوَ كَافِرٌ﴾ جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ» يَمُتْ «، وكأنها حالٌ مؤكِّدَةٌ لأنها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها، لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد، وجيء بالحالِ هنا
وقوله: ﴿فأولائك﴾ جوابُ الشرطِ. قالَ أبو البقاء: و» مَنْ في موضعِ مبتدأ، والخبرُ هو الجملةُ التي هي قولُه: «فأولئك حَبِطَتْ»، وكان قد سَلَفَ له عند قوله: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ [البقرة: ٣٨] أنَّ خبرَ اسم الشرطِ هو فعلُ الشرطِ لا جوابُه ورَدَّ على مَنْ يَدَّعي ذلك بما حَكَيْتُه عنه ثَمَّةَ، ويَبْعُدُ منه تَوَهُّمُ كونِها موصولةً لظهورِ الجزمِ في الفعلِ بعدها، ومثلُه لا يقعُ في ذلك.
و «حَبِط» فيه لغتان: كسرُ العينِ - وهي المشهورةُ - وفَتْحُها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميعِ القرآنِ، ورويتْ عن الحسنِ أيضاً. والحُبوط: أصلُه الفسادُ ومنه: «حَبِطَ بطنُه» أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى» أي: منتفخُ البطنِ.
وحُمِل أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأَفْرَدَ في قوله: «يَرْتَدِدْ، فيمتْ وهو كافرٌ» وعلى معناها ثانياً في قولِه: «فأولئك» إلى آخره، فَجَمَع، وقد تقدَّم أن مثلَ هذا التركيبِ أحسنُ الاستعمالَيْنِ: أعني الحَمْلَ أولاً على اللفظِ ثم على المعنى. وقولُه «في الدنيا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ».
وقوله: ﴿وأولائك أَصْحَابُ النار﴾ إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها. واختلفوا في هذه الجملةِ: هل هي استئنافيةٌ، أي: لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أصحابُ النارِ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم؟ قولان،
والمهاجَرةُ مُفاعَلَةٌ من الهَجْرِ، وهي الانتقالُ من أرضِ إلى أرضٍ، وأصلُ الهجرِ التركُ. والمجاهدةُ مفاعلةٌ من الجُهْدِ. وهو استخراجُ الوُسْع وبَذْلُ المجهود، والإِجهادُ: بَذْلُ المجهودِ في طَلَبِ المقصودِ، والرجاءُ: الطمعُ، وقال الراغب: وهو ظَنُّ يقتضي حصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ، وقد يُطْلَقُ على الخوفِ، وأنشد:
وأجاب الجاحظُ عن البيتِ بأنَّ معناه لَم يَرْجُ بُرْءَ لَسْعِها وزواله فالرجاءُ على بابه». وأمَّا قولُه: ﴿لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي لا يَرْجُون ثوابَ لقائِنا، فالرجاءُ أيضاً على بابِه، قاله ابنُ عطية. وقال الأصمعي: «إذا اقترن الرجاءُ بحرفِ النفي كان بمعنى الخوفِ كهذا البيتِ والآيةِ. وفيه نظرٌ إذ النفيُ لا يُغَيِّر مدلولاتِ الألفاظِ.
وكُتبت» رحمة «هنا بالتاءِ: إمَّا جرياً على لغةِ مَنْ يَقِفُ على تاءِ التأنيث بالتاءِ، وإمَّا اعتباراً بحالِها في الوصلِ، وهي في القرآن في سبعةِ مواضعَ كُتبت في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله﴾ [الأعراف: ٥٦]، وفي هود: {رَحْمَةُ الله
وفي تسميِتها «خمراً» أربعةُ أقوال، أحدُها: - وهو المشهورُ - أنها سُمِّيتْ بذلك لأنهَا تَخْمُر العقلَ أي تستُرُه، ومنه: خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها، و: «خامِري حَضاجِرُ، أتَاك ما تُحَاذِرُ» يُضْرَبُ للأحمقِ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع، أي: استتر عن الناس. ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم. وفي الحديث: «خَمِّروا آنيتَكم»، وقال:
٩٤٠ - إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها | وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسلِ |
٩٤١ - ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا | فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ |
٩٤٢ - في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ | .............................. |
والثالث: - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي: تخالِطُه، يقال: خامره الداءُ أي: خالَطَه. والرابع: لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ، ومنه: «اختمر العجينُ» أي: بَلَغَ إدراكُه، وخَمَّر الرأيَ أي: تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ.
والمَيْسِرُ: القِمار، مَفْعِل من اليُسْر، يقال: يَسَرَ يَيْسِر. قال علقمة:
٩٤٣ - لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها | وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ |
٩٤٤ - أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني | ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ |
وللميسر كيفيةٌ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرها لتوقَّفِ المعنى عليها. فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ، لسبعةٍ منها حظوظٌ، وعلى كل منها خطوطٌ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ، وتلك القداحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحد، والتَّوْءَمُ وله اثنان، والرقيبُ وله ثلاثةُ، والحِلْسُ وله أربعةٌ، والنافِسُ وله خمسةٌ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ. وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحُرْضَة وهو الضاربُ، فلا يميلُ مع أحدٍ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ، ويُخْرِج رأسه، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ: فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه: البَرَم، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً.
وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/.
وقولُه ﴿عَنِ الخمر﴾ لا بد من حذفِ مضافٍ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ
قوله: ﴿فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ الجارُّ خبرٌ مقدمٌ، و «إثمٌ» مبتدأٌ مؤخر، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصفُ أو العطفُ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطِيهما إثمٌ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما.
وقرأ حمزةُ الكسائي: «كثيرٌ» بالثاء المثلثة، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ. ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ، ومنه آية ﴿حُوباً كَبِيراً﴾ [النساء: ٢]. وسُمِّيت الموبِقات: «الكبائر»، ومنه قولُه تعالى: ﴿يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم﴾ [الشورى: ٣٧]، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر، وقد أجمعَتِ السبعةُ على قوله: «وإثْمهما أكبرُ» بالباء الموحَّدة، وهذه توافقها لفظاً.
وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين: فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحةِ، وإمَّا باعتبار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ، فقد لَعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخمر، ولعن معها عشرةً: بائِعَها ومُبتاعَها، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ. وأيضاً
وقال أبو البقاء: «الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال: إثمٌ كبير وصغير، ويُقال في الفواحش العظامِ» الكَبائرُ «، وفيما دونَ ذلك» الصغائرُ «وقد قُرىء بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى، لأن الكثرةَ كِبر، والكثيرَ كبيرٌ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ.
والثالث: ان تتعلَّق بنفسِ» الآيات «لِما فيها من معنى الفعل وهو ظاهرُ قول مكي فيما فهمه عنه ابنُ عطية. قال مكي:» معنى الآيةِ أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدنيا والآخرةِ يَدُلُّ عليها وعلى منزِلَتِها لعلهم يتفكرون في تلك الآيات «قال ابن عطية:» فقولُه: «في الدنيا» يتعلَّقُ على هذا التأويلِ بالآيات «وما قاله عنه ليس بظاهرٍ، لأنَّ شرحَهُ الآيةُ لا يقتضي تَعَلُّقَ الجار بالآيات. ثم إن عنى ابنُ عطية بالتعلُّق التعلُّق/ الاصطلاحي، فقال الشيخ:»
الرابع: أن تكونَ حالاً من» الآيات «كما تقدَّم تقريرُه الآن. الخامسُ: أن تكون صلةً للآيات فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهبُ الكوفيين فإنهم يَجْعَلُون من الموصولات الاسمَ المعرَّفَ بأَل وأنشدوا:
٩٤٦ - لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ | وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ |
والتَّفكُّر: تَفَعُّل من الفِكْر، والفِكْر: الذهنُ، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنَه فيه وردَّده.
قوله: ﴿إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ » إصلاحٌ «مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداءَ به أحدُ شيئين: إمَّا وصفُه بقوله» لهم «، وإمَّا تخصيصُه بعملِه فيه، و» خيرٌ «خبرُه.
و «إصلاحٌ» مصدرٌ حُذِفَ فاعلُهُ، تقديره: إصلاحُكم له، فالخيريَّةُ للجانبين أعني جانبَ المُصْلِحِ والمُصْلَح له، وهذا أَوْلى من تخصيصِ أحدِ الجانبين
و «لهم» : إمَّا في محلِّ رفعٍ على أنه صفةً ل «خير»، أو نصبٍ على أنه متعلق به معمول له كما تقدم. وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من «خير» قُدِّم عليه، وكان أصلُه صفةً فلما قُدِّم انتصَبَ حالاً عنه، واعتذَرَ عن الابتداءِ بالنكرةِ حينئذٍ بأحد وجهينِ: إمَّا لأنَّ النكرةَ في معنى الفعلِ تقديرُه: أَصْلِحُوهم، وإمَّا بأنَّ النكرةَ والمعرفة هنا سواءٌ لأنَّه جنسٌ.
قوله: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ الفاء جوابُ الشرط، و «إخوانُكم» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: فهم إخوانُكم. والجملةُ ي محلِّ جزمٍ على جوابِ الشرط. والجمهورُ على الرفع، وقرأ أبو مُجْلز: «فإخوانَكم» نصباً بفعل مقدر، أي: فقد خالَطْتُم إخوانَكم. والجملةُ الفعلية أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يَطَّلِعْ عليها أبو البقاء، فإنه قال: «ويجوزُ النصبُ في الكلام، أي: فقد خالطْتُم إخوانَكم».
وقوله: ﴿يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ تقدَّم الكلام عليه في قوله: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ﴾ [البقرة: ١٤٣]، والمُفْسِدُ والمُصْلِحُ جنسان هنا،
وفي قوله: ﴿تُخَالِطُوهُمْ﴾ التفاتٌ من ضميرِ الغيبةِ في قولِهِ: «ويسألونك» إلى الخطابِ لينبِّه السامعَ إلى ما يُلْقَى إليه. ووقََع جوابُ السؤالِ بجملتين: إحداهما من مبتدأٍ وخبرٍ، وأُبْرِزَتْ ثبوتيةً مُنَكَّرَة المبتدإِ لتدلَّ على تناولِهِ كلَّ إصلاح على طريقِ البدليةِ، ولو أُضيفَ لَعَمَّ أو لكانَ معهوداً في إصلاحٍ خاص، وكلاهُما غيرُ مرادٍ، إمَّا العمومُ فلا يُمْكِنُ، وأمَّا المعهودُ فلا يتناولُ غيره؛ فلذلك أُوثر التنكيرُ الدالُّ على عمومِ البدل، وأُخْبِرَ عنه ب «خير» الدالِّ على تحصيل الثواب، ليتبادَرَ المسلمُ إليه. والآخرُ من شرطٍ وجزاءٍ، دالّ على جوازِ الوقوعِ لا على طلبه وندبيَّتِهِ.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾ مفعولُ «شاءَ» محذوفٌ، أي: إعناتَكم. وجوابُ لو: «لأعنَتَكم»، وهو الكثيرُ أعني ثبوتَ اللامِ في الفعلِ المُثْبَتِ.
والمشهورُ قطعُ همزةِ «لأعنتكم» لأنها همزةُ قطعٍ. وقرأ البزي عن ابن كثير في المشهور بتخفيفِها بينَ بينَ، وليس من أصلِهِ ذلك، ورُوِيَ سقوطُها البتة، وهي كقراءة: ﴿فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] شذوذاً وتوجيهاً. ونسبَ بعضُهم هذه القراءة إلى وَهْم الراوي، باعتبارِ أنه اعتقدَ في سماعِهِ التخفيفَ إسقاطاً، لكنَّ الصحيحَ ثبوتُها شاذةً.
والمخالطةُ: الممازَجَةُ. والعَنَتُ: المشقةُ، ومنه «عَقَبَةٌ عَنَوُتٌ»، أي: شاقةُ المَصْعَدِ.
والنكاحُ في الأصلِ عند العرب: لزومُ الشيءِ والإِكبابُ عليه، ومنه: «نَكَح المطرُ الأرضَ»، حكاه ثعلب عن أبي زيد وابن الأعرابي. وقيل: أصلُه المداخَلَةُ ومنه: تناكَحَت الشجر: أي تداخلت أغصانُها، ويُطْلق النكاح على العَقْد كقوله:
٩٤٧ - ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها | حرامٌ عليك فانِكحَنْ أو تأبَّدا |
٩٤٨ - البارِكينَ على ظهورِ نِسْوَتِهِمْ | والناكحينَ بِشَطْءِ دجلةَ البَقَرَا |
وقال أبو علي: «فَرَّقَتِ العربُ بين العَقْد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا:» نكح فلانٌ فلانةً «أو ابنةَ فلان أرادوا عقدَ عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ
قوله: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ﴾ سَوَّغَ الابتداءَ ب «أَمَة» شيئان: لامُ الابتداء والوصفُ «وأصل» أمة «: أَمَوٌ، فَحُذِفَت لامُها على غيرِ قياسٍ، وعُوِّضَ منها تاءُ التأنيث ك» قُلَة «و» ثُبَة «يدلُّ على أنَّ لامَها واوٌ رجوعُها في الجمع. قال الكلابي:
٩٤٩ - أمَّا الإِماءُ فلا يَدْعُونني ولداً | إذا تداعى بنون الإِمْوانِ بالعارِ |
والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنه زَعَمَ أنَّ جَمْعَ الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنَها فعْلَة بسكون العين فيكون مثل نخل ونخلة فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين، فلمَّا جَمَعوها على مثل نَخْلة ونَخْل لَزِمَهُم أن يقولوا: أَمَة وأَم، فكَرهوا أن يَجْعَلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواوَ المحذوفَةَ لمَّا كانت [آخر] الاسمِ، فقدَّموا الواوَ وَجَعَلُوا ألفاً بين الهمزة والميم فقالوا: أام. وما زعَمه ليس بشيء إذ كان يلزَمُ أن يكونَ الإِعرابُ على الميمِ كما كان على لام «نَخْل» وراء «تمر»، ولكنه على التاءِ المحذوفَةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعَت على «إمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إماؤٌ، نحو رقبة ورِقاب، فَقُلِبَت الواوُ همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث: «لا تَمْنَعُوا إماءَ اللَّهِ مساجدَ الله» وعلى آمِ، قال الشاعر:
٩٥٠ - تَمْشِي بها رُبْدُ النَّعا | مِ تَماشِيَ الآمِ الزوافِرْ |
والتفضيلُ في قوله: ﴿خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكةٍ﴾ : إمَّا على سبيلِ الاعتقادِ لا على سبيلِ الوجودِ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافعَ أُخْرَوِيَّة ونكاحَ المشركةِ الحرة يشتملُ على منافعَ دنيويةٍ، هذا إذا التزمنا بأن «أَفْعَلَ» لا بد أن يَدُلَّ على زيادةٍ ما وإلاَّ فلا حاجةَ إلى هذا التأويلِ كما هو مذهبُ الفراء وجماعةٌ.
وقوله: ﴿مِّن مُّشْرِكَةٍ﴾ يَحْتَمِلُ أن يكونَ «مشركةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه مقابِلِهِ أي: مِنْ حرَّةٍ مشركةٍ، أو مدلول عليه بلفظِهِ أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حَسَبِ الخلافِ في قوله: «ولأمةٌ» هل المرادُ المملوكَةُ للآدميين أو مطلقُ النساء لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؟ وكذلك الخلافُ في قولِهِ: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾ والكلامُ عليه كالكلامُ على هذا.
قوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ وقوله «ولو أَعْجَبَكم» هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لو» هذه في مثل هذا التركيبِ شرطيةٌ بمعنى «إنْ» نحو: «رُدُّوا السائلَ ولو بظَلْفٍ مُحْرقٍ»، وأنَّ الواوَ للعطفِ على حالٍ
وقال أبو البقاء: «لو» هنا بمعنى «إنْ»، وكذا كُلُّ موضعٍ وقع بعد «لو» الفعلُ الماضي، وكان جوابُها متقدماً عليها، وكونُها بمعنى «إنْ» لا يُشْتَرَطُ فيه تقدُّمُ جوابِها، ألا ترى أنَّهم قالوا في قولِهِ تعالى: ﴿لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٩] إنها بمعنى «إنْ» مع أنَّ جوابَها وهو «خافوا» متأخِّرٌ عنها، وقد نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النساء قال في خافوا: «وهو جوابُ» لو «ومعناها» إنْ «.
قوله: ﴿والمغفرة﴾ الجمهورُ على جَرَّ» المغفرة «عطفاً على» الجنة «و» بإذنه «متعلِّقٌ بيدعو، أي: بتسهيلهِ.
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَتِ» المغفرة «على الجنة: ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ [الحديد: ٢١] ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، وهذا هو الأصل لأنَّ المغفرةَ سببٌ في دُخُولِ الجنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلَةِ، فإنَّ قبلَها» يدعو إلى النار «، فقدَّم الجنة ليقابِلَ بها النارَ لفظاً، ولتشُّوقِ النفوسِ إليها حين ذَكَرَ دعاءَ اللَّهِ إليها فأتى بالأَشْرَفِ. وقرأ الحسن» والمغفرةُ بإذنِهِ «على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصلةٌ بإِذنِهِ.
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ اليائيها ثلاثةَ مذاهبَ، أحدُها: أنه كالصحيح، فتُفْتَحُ عينُه مراداً به المصدرُ، وتُكْسَرُ مراداً به الزمانُ والمكانُ. والثاني: أَنْ يُتَخَيَّرُ بين الفتحِ والكسر في المصدرِ خاصةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمَحاضُ، ووجهُ هذا القول أنه كَثُر هذان الوجهان: أعني الكسر والفتح فاقتاسا. والثالث: أن يُقْتَصَرَ على السماع، فيما سُمِع فيه الكسرُ أو الفتحُ لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المرادُ به المصدرُ ليس بمقيس على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يُقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشدَ الفراء:
٩٥١ -....................... | كحائِضَةٍ يُزْنَى بها غيرِ طاهرِ |
وأصلُ الحَيْض السَّيَلانُ والانفجار، يُقال: حاضَ السيلُ وفاضَ، قال الفراء: «حاضَت الشَجرةُ أي: سالَ صَمْغُها»، قال الأزهري: «ومن هذا
٩٥٢ - بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّة | لا يَسْتَطِيعُ بها القُرادُ مَقيلا |
٩٥٣ - إليك أشكو شدَّة المعيشِ | ومَرَّ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي |
وقوله: ﴿هُوَ أَذَى﴾ فيه وجهان: أحدُهما قالَه أبو البقاء:» أن يكونَ
وجاء: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ ثلاثَ مرات بحرفِ العطفِ بعدَ قولِه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر﴾ [البقرة: ٢١] وهي: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٩]، و ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى﴾ [البقرة: ٣٢٠] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض﴾ [البقرة: ٢٢٢]. وجاء «يَسْأَلُونك» أربعَ مراتٍ من غيرِ عطفٍ. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ [البقرة: ١٨٩] ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥] ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام﴾ [البقرة: ٢١٧] ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر﴾ [البقرة: ٢١٩]. فما الفرقُ؟ والجوابُ: أنَّ السؤالاتِ الأواخرَ وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ فَجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ وهو الواوُ، أمَّا السؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها.
قوله: ﴿حتى يَطْهُرْنَ﴾ «حتى» هنا بمعنى «إلى» والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنون الإِناثِ.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بتشديد الطاءِ والهاءِ، والأصلُ:
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ في» مِنْ «قولان، أحدُهما: أنُّها لابتداءِ الغايةِ، أي: من الجهة التي تنتهي إلى موضِعْ الحَيْض. والثاني: أن تكونَ [بمعنى] » في «، أي: في المكان الذي نُهيْتُم عنه في الحَيْض. ورَجَّح هذا بعضُهم بأنه ملائمٌ لقولِه: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾، ونَظَّر بعضُهم هذه الآية بقولِهِ: ﴿لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة﴾ [الجمعة: ٩] ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ [فاطر: ٤٠] أي: في يوم الجمعة
قوله: ﴿أنى شِئْتُمْ﴾ «أنَّى» ظرفُ مكانٍ، ويُسْتَعْمَلُ شرطاً واستفهاماً بمعنى «متى»، فيكونُ ظرفَ زمانٍ ويكونُ بمعنى كيف، وبمعنى مِنْ أين، وقد فُسِّرت الآية الكريمةُ بكلٍّ من هذه الوجوهِ. وقال النحويون: «أنَّى» لتعميم الأحوال. وقال بعضُهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهاتٌ، فهي على هذا أعمُّ مِنْ «كيف» ومِنْ «أين» ومِنْ «متى». وقالوا: إذا كانت شرطيةً فهي ظرفُ مكانٍ فقط. واعلم انها مبنيةٌ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهامِ، وهي لازمةُ النصب على الظرفيةِ. والعاملُ فيها هنا قالوا: الفعلُ قبلها وهو: «فأتوا» قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّها: إمَّا/ شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكونَ شرطيةً لوجهين، أحدُهما: من جهة المعنى وهو أنَّها إذا كانَتْ شرطاً كانت ظرف مكانٍ كما تقدَّم، وحينئذ يقتضى الكلامُ الإِباحةَ في غير القُبُل وقد ثبت تحريمُ ذلك. والثاني: من جهةِ الصناعةِ. وهو أنَّ اسمَ الشرط لا يعملُ فيه ما قبله، لأنَّ له صدرَ الكلام، بل يعمل فيه فعلُ الشرط،
ثم الذي يظهرُ أنها هنا شرطيةٌ ويكونُ قد حُذِف جوابُها: لدلالة ما قبله عليه، تقديرُه: أنَّى شِئْتُم فَأْتُوه، ويكون قد جُعِلَت الأحوالُ فيها جَعْلَ الظروفِ، وأُجْرِيَتْ مُجراها تشبيهاً للحالِ بظرفِ المكانِ ولذلك تُقَدَّرُ ب» في «، كما أُجْرِيت» كيف «الاستفهاميةُ مُجْرى الشرطِ في قولِهِ: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [المائدة: ٦٤] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً، فيكونُ ثَمَّ حَذْفٌ في قوله: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي: كيف يشاء ينفق، وهكذا كلُّ موضعٍ يُشْبِهُه. وسيأتي له مزيدٌ بيانٍ. فإنْ قلتَ: قد أَخْرَجْتَ» أنَّى «عن الظرفيةِ الحقيقيةِ وجعلتَها لتعميمِ الأحوالِ مثل كيف، وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرطِ، فهل الفعلُ بعدها في محلِّ جزمٍ اعتباراً بكونِها شرطيةً، أو في محلِّ رفعٍ كما تكونُ كذلك بعد» كيف «التي تُسْتَعْمَل شرطية؟ قلت: تَحْتَمِل الأمرين، والأرجحُ الأولُ لثبوتِ عمل الجزم، لأنَّ غايةَ ما في البابِ تشبيهُ الأحوالِ بالظروفِ للعلاقةِ المذكورةِ، وهو تقديرُ» في «في كلٍّ منهما».
ولم يَجْزِمْ ب «كيف» إلا بعضُهم قياساً لا سماعاً. ومفعولُ «شئتم» محذوفٌ أي: شِئْتُمْ إتيانَه بعد أن يكونَ في المحلِّ المُباح.
والضميرُ في «وبَشِّر» للرسول عليه السلام لِجَرْي ذِكْرِه في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلم لا يَحْتَاج أَنْ يُقالَ فيهما تَقدَّم ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما. ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.
قوله: ﴿أَنْ تَبَرَّواْ﴾ فيه ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو قولُ الزجاج والتبريزي وغيرهما، أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحُوا خيرٌ لكم مِنْ أَنْ تجعلوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكم
الثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه، فقيل: إرادةَ أن تَبَرُّوا، وقيل: كراهةَ أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أَنْ تَبروا، قال المبرد، وقيل: لئلا تبروا: قاله أبو عبيدة والطبري، وأنشدا:
٩٥٤ -... فلا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً............................ أي: لا تهبطُ، فحذف «لا» ومثله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] أي: لئلا تضِلُّوا. وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أنَّ التقاديرَ التي ذكرتها بعدَ تقديرِ الإِرادة لا يظهرُ معناها، لِما فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِر، بل وقوع الحَلْف مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه: «إنْ حَلَفْتَ بالله بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة، فإنه يُعَلِّل امتناعَ الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ، تقول: إنْ حَلَفْتَ لم تَبَرَّ وإنْ لم تَحْلِفْ بَرَرْتَ.
الثالث، أنَّها على إسقاطِ حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا، وحينئذ يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء، فتكونُ في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائي فتكونُ في محلِّ جرٍّ. وقال الزمخشري: «ويتعلَّقُ» أَنْ
الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ عطفُ بيان لأَيْمانكم، أي للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوى والإِصلاحِ. قال الشيخ: «وهو ضعيفٌ لِما فيه من جَعْل الأيمان بمعنى المَحْلوف عليه»، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِر مِنْ كَوْنِها بمعنى المَحْلُوف عليه إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إذا حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيت غَيرها خيراً منها» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.
الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍ على البدلِ من «لأَيْمانكم» بالتأويل
السادس: - وهو الظاهرُ - أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر لا على ذلك الوجه المتقدم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلَّقُ غيرُ المتعلَّقِ، والتقديرُ: «لأِقْسامِكِم على أَنْ تَبَرُّوا» ف «على» متعلقٌ بإقْسامكم، والمعنى: ولا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتبدَّلاً لإِقسامكم على البرِّ والقتوى والإِصلاح التي هي أوصافٌ جميلةٌ خوفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسام على ما ليس فيه بِرٌّ ولا تقوى !!!.
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها فُعْلَة بمعنى مَفْعول من العَرْض كالقُطْبَة والغُرْفَة. ومعنى الآية على هذا: لاَ تَجْعَلُوه مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فلانٌ عُرْضَةٌ لكذا أي: مُعَرَّضٌ، قال كعب:
٩٥٥ - من كلِّ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إذا عَرِقَتْ | عُرضَتُها طامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ |
٩٥٦ - متى كانَ سَمْعي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ | وكيفَ صَفَتْ للعاذِلِين عَزائِمي |
٩٥٧ -.................. | هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ |
٩٥٨ - وأَدْمَاءُ مثلُ الفَحْلِ يوماً عَرَضْتُها | لرحلي وفيها هِزَّةٌ وتقاذُفُ |
والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الاناء فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية على هذا النَهْيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ على أنهم لا يَبَرُّون ولا يتقون ويقولون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأجلِ حَلْفِنَا.
والثالث: أنَّها من العُرْضَة وهي القوة، يقال: «جَمَلٌ عُرْضَةَ للسفرِ» أي قويٌّ عليه، وقال ابن الزبير:
٩٥٩ - فهذي لأيَّامِ الحروبِ وهذه | لِلَهْوي وهَذي عُرْضَةٌ لارتحالِنا |
والأيمان: جمعُ يمين، وأصلُها العَضْوُ، واستُعْملت في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِين بتصافِحِ أَيْمانهم. واشتقاقُها من اليُمْن. واليمينُ أيضاً اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العضو فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ تقول: زيدٌ يمينَ عمروٍ وبكرٌ يسارَه. وتُجْمَع اليمينُ على أَيْمُن وأَيْمان. وهل المرادُ بالأَيْمَان في الآية القسمُ نفسُه أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أولى. وقد تقدَّمَ تجويزُ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عن ذلك.
واللَّغْوُ: مصدرُ لَغا يَلْغو، يقال: لَغا يلغو لَغْواً، مثل غَزا يغزوا غزواً ولَغِي يَلْغَى لَغَىً مثل لَقِيَ يَلْقَى لَقَىً، ومن الثاني قولُه تعالى: ﴿والغوا فِيهِ﴾ واختُلِفَ في اللغُو: فقيل: ما سَبَقَ به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفراء، ومنه قول الفرزدق:
٩٦٠ - ولَسْتَ بمأخوذٍ بلَغْوٍ تَقُوله | إذا لم تُعَمِّدْ عاقِدَاتِ العَزائِمِ |
٩٦١ - وذاتِ حليلٍ أَنْكَحَتْها رِماحُنا | حلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ |
٩٦٢ - ورَبِّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ | عن اللَّغَا ورفَثِ التكلُّمِ |
٩٦٣ -..................... | كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا |
قوله: ﴿في أَيْمَانِكُمْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبلَه كقولك:» لغا في يمينِه «. الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اللغو، وتعرفه من حيث المعنى أنك
قوله: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم﴾ وَقَعْت هنا» لكن «بين نقيضَيْنِ باعتبار وجودِ اليمينِ، لأنها لا تَخْلُوا: إمَّا أَنْ لا يقصِدَها القلبُ بل جَرَتْ على اللسانِ وهي اللغُو، وإمَّا أن يقصِدَها وهي المنعقدةُ.
قوله ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه، والباءُ للسببيةِ كما تقدَّم. و» ما «يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ لتقابِلَ المصدرَ وهو اللغوُ، أي: لا يؤاخِذُكم باللغوِ ولكنْ بالكَسْبِ. والثاني. أنها بمعنى الذي.
ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ أي: كَسَبَته، ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الذي أكثرُ منها مصدريةً. والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائدُ/ أيضاً محذوفٌ وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ تقديرُه: ولكنْ يُؤاخِذُكم في أَيْمانكم بما كَسَبَتْ قلوبُكم، فحَذَفَ لدلالةِ ما قبلَه عليه.
والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُم إذا عَفَا مع قدرة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر، وتَثَقَّبَ يَحْلَم بالفتح أي: فسد وتثقَّب قال:
٩٦٤ - فإنَّك والكتابَ إلى عليٍّ | كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأَديمُ |
والإِيلاءُ: الحَلْف، مصدرُ آلى يُولي نحو: أَكْرم يُكرِم إكراماً، والأصل: إإلاء، فأُبْدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً لسكونِها وانكسار ما قبلها نحو: «إيمان».
ويقال تَأَلَّى وايتَلى على افْتَعل، والأصلُ: اإتَلْى، فَقُلِبَتْ الثانيةُ لِما تقدَّم.
والحَلْفَةُ: يُقال لها الأَلِيَّة والأَلُوَّة والأَلْوَةِ والإِلْوَة، وتُجْمَعُ الأَلِيَّةُ على «ألايا» كعَشِيَّة وعَشايا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «ألايا» كرَكُوبة ورَكائب. قال كُثَيِّر عزة:
٩٦٥ - ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له | بوادرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا |
٩٦٦ - قليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينِه | إذا صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ |
٩٦٧ - تَرَبَّصْ بها رَيْب المنونِ لعلَّها | تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها |
قوله: ﴿فَآءُوا﴾ ألفُ «فاء» منقلبةٌ عن ياءِ لقولِهم: فاء يفيءُ فَيْئَةً. رجَع. والفَيءُ: الظِلُّ لرجوعِه من بعد الزوال. وقال علقمة:
٩٦٨ - فقلتُ لها فِيئي فما تَسْتَفِزُّني | ذَواتُ العيونِ والبنانِ المُخَضَّبِ |
٩٦٩ - عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ | لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ |
والعَزْم: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَمَ يَعْزِم عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمة وعِزاماً بالكسر. ويستعمل بمعنى القَسَمِ: عَزَمْتُ عليكَ لتَفعلَّنَّ.
٩٧٠ - أيا جارتا بيني فإنَّكِ طالِقَهْ | ........................... |
قوله: ﴿فَإِنَّ الله﴾ ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال الشيخ: «ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعوه. وقرأ عبد الله:» فإن فاؤوا فيهنَّ «وقرأ أبَيّ» فيها «، والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ بما نصُّه.» فإنْ قلت: كيف موقعُ الفاءِ إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّص؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ، لأنَّ قولَه: «فإنْ فاؤوا، وإنْ عَزَموا» تفصيلٌ لقولِه: «للذين يُؤْلُون مِنْ نسائِهِم، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّل، كما تقول:» أنَا نزيلُكم هذا الشهرَ فإنْ أَحْمَدْتُكم أقمتُ عندَكم إلى آخرِه، وإلاَّ لم أقُمْ إلاَّ ريثما أتحولُ «. قال الشيخ:» وليس بصحيحٍ، لأنَّ ما مثَّله ليس بنظيرِ الآيةِ، ألا ترى أنَّ المثالَ
و «تَرَبَّص» يتعدَّى بنفسِه لأنه بمعنى انتظَر، وهذه الآيةُ تَحتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفعول التربص محذوفاً وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثلاثة قروءٍ» على هذا منصوباً على الظرفِ، لأنَّه اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ، والثاني: أن يكونَ المفعولُ هو نفسَ «ثلاثةَ قروءٍ» أي ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قروء.
وأمَّا قولُه: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ فيحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق ب «يتربَّصْنَ»، ويكونُ معنى الباءِ السببيةَ أي: بسبب أنفسِهنَّ: وذِكْرُ الأنفسِ أو الضميرِ المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤْتى بالضميرِ
والثاني: أن يكونَ «بأنفسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوعِ المتصلِ وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد، لأنه يجوزُ زيادتُها في النفسِ والعينِ مؤكَّداً بهما. تقولُ: جاء زيدٌ نفسُه وبنفسِه وعينُه وبعينِه. وعلى هَذا فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتِها. لا يقالُ: لا جائزُ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجِبُ أن تُؤكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ، لأنه لا يُؤَكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنفسِ والعينِ إلاَّ بعد تأكيدِه بالضميرِ المرفوعِ المنفصلِ فيقال: زيد جاء هو نفسُه عينُه، لأنَّ هذا المؤكَّد خَرَج عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلات، فَخَرَج بذلك عن حكمِ التوابعِ فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التُزِمَ في غيرِه، ويُؤيِّد ذلك قولُهم: «أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ»، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريين، والفاعلُ عندَهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرى الفَضَلاتِ بسبب جَرِّه بالحرفِ أو خَرَجَ عن أصلِ بابِ الفاعلِ، فلذلك جازَ حَذْفُه، على أنَّ أبا الحسنِ الأَخفشَ ذَكَر في «المسائل» أنهم قالوا: «قاموا أنفسُهم» من غير تأكيدٍ. وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرْنَ التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ غيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَربُّصَ، ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ.
والقُروءُ: جَمْعُ كثرةٍ، ومِنْ ثلاثةٍ إلى عشرةُ يُمَيَّز بجموع القلةِ ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك إلا عند عدم استعمالِ جمعِ قلةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمعِ القلةِ موجودٌ وهو «أَقْراء»، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمعِ الكثرةِ مع وجودِ جمع القلةِ؟.
فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه لَمَّا جَمَع المطلقاتِ جمعَ القُروء، لأنَّ كَلَّ مطلقةً تترَّبصُ ثلاثةَ أقراءٍ فصارَتْ كثيرةً بها الاعتبارِ.
والقَرْءُ في اللغةِ قيل: أصلُه الوقتُ المعتادُ تردُّدُهُ، ومنه: قَرْءُ النجمِ لوقتِ طلوعِه وأُفولِه، يقال: «أَقْرأ النجمُ» أي: طَلَع أو أَفَل. [ومنه قيلَ لوقت] هبوبِ الريحِ: «قَرْؤُها وقارِئُها، قال الشاعر:
٩٧١ - شَنِئْتُ العَقْر عَقْرَ بني شُلَيْلٍ | إذا هَبَّتْ لقارِئِها الرِّياحُ |
وإذا تقرَّر ما ذَكَرْتُ لك فاعلمْ أنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في إطلاقِه على الحيضِ والطُّهر: هل هو من بابِ الاشتراكِ اللفظي، ويكونُ من الأضدادِ أو مِنَ الاشتراكِ المعنوي فيكونُ من المتواطِىء، كما إذا أَخَذْنا القَدْرَ المشتركَ: إمَّا الاجتماعَ وإمَّا الوقتَ وإمَّا الخروجَ ونحوَ ذلك. وقَرْءُ المرأةِ لوقتِ حَيْضِها وطُهْرِها، ويُقال فيهما: أَقْرأتْ المرأةُ أي: حاضَتْ أو طَهُرت. وقال
٩٧٢ - ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدماءَ بِكْرٍ | هِجانِ اللونِ لَم تَقْرأْ جَنِينَا |
ومن مجيء القَرْء والمرادُ به الطُّهرُ قولُ الأعشى:
٩٧٣ - أفي كلِّ عامٍ أنتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ | تَشُدُّ لأقْصاها عظيمَ عَزائِكا |
مُوَرِّثَةً عِزَّاً وفي الحي رفعةً | لِما ضاعَ فيها مِنْ قُروءِ نِسائكا |
٩٧٤ - يا رُبَّ ذي ضِغْن عليَّ فارِضِ | له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ |
قوله: ﴿لَهُنَّ﴾ متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ، واللامُ للتبليغِ، كهي في» قُلْتُ لك «.
قوله: ﴿مَا خَلَقَ﴾ في» ما «وجهان، أظهرُهما: أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي، والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كِلا التقديرين فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: ما خَلَقَه، و» ما «يجوزُ أن يُرَاد بها الجنينُ وهو في حكمِ غيرِ العاقلِ. فلذلك أُوقِعَتْ عليه» ما «وأَنْ يُرادَ بها دمُ الحيضِ.
قوله: ﴿في أَرْحَامِهِنَّ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بخَلق. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من عائِد» ما «المحذوفِ، التقديرُ ما خَلَقه الله كائناً في أرحامِهِنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرَةٌ قال أبو البقاء:» لأنَّ وقتَ خَلْقِه ليس بشيءٍ حتى يَتِمَّ خَلْقُه «. وقرأ مُبَشّر بن عُبَيْد:» في أرحامهنَّ «و» بردِّهُنَّ «بضمِّ هاءِ الكنايةِ، وقد تقدَّم أنه الأصلُ وأنه لغةُ الحجازِ، وأنَّ الكسرَ لأجلِ تجانسِ الياءِ أو الكسرةِ.
قوله: ﴿إِن كُنَّ﴾ هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبانِ المشهورانِ: إمَّا محذوفٌ، وتقديرهُ مِنْ لفظِ ما تقدَّم لتقوى الدلالةُ عليه، أي: إن كُنَّ يُؤْمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَحِلُّ لهنَّ أَنْ يكتُمْنَ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ كما هو مذهبُ الكوفيين وأبي زيد، وقيل:» إنْ «بمعنى إذ وهو ضعيفٌ.
و» أَحَقُّ «خبرٌ عن» بُعُولتهنّ «وهو بمعنى حقيقُون، إذ لا معنى للتفضيلِ هنا، فإنَّ غيرَ الأزواجِ لا حقَّ لهنَّ فيهن البتة، ولا حقَّ أيضاً للنساء في ذلك، حتى لو أَبَتْ هي الرَّجْعَةَ لم يُعْتَدَّ بذلك فلذلك قلت: إنَّ» أحقُّ «هنا لا تفضيلَ فيه.
والبعولةُ: جَمْعُ» بَعْلٍ «وهو زوجُ المرأةِ... ، قالوا: وسُمِّي بذلك... المستعلي على... ولِما علا من الأرض... فَشَرِبَ بعروقِه، بَعْلٌ، ويقال: بَعَلَ الرجلُ يَبْعَل كمَنَعَ يَمْنَعُ. والتاء في بعولة لتأنيثِ الجمعِ نحو فُحولة وذُكورة، ولا يَنْقاس هذا لو قلت: كَعْب وكُعوبة لم يَجُزْ.
والبُعولة أيضاً مصدرُ بَعَل الرجلُ بُعولةً وبِعالاً، وامرأةٌ حسنةُ التَّبَعُّلِ، وباعَلَها كنايةُ عن الجِماع.
قوله: ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾ متعلِّقٌ بأحقّ. وأمَّا «في ذلك» ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ أيضاً بأحقّ، ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا العِدَّةَ، أي تستحق
والضميرُ في «بُعولَتِهِنّ» عائدٌ على بعضِ المطلقات وهنَّ الرَّجْعِيَّات خاصةً. وقال الشيخ: «والأَولى عندي أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكمُ، أي: وبعولةُ رجعياتِهِنَّ» فعلى ما قاله الشيخُ يعودُ الضميرُ على جميعِ المطلقاتِ.
قوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ﴾ خبرٌ مقدَّمٌ فهو متعلق بمحذوف، وعلى مذهبِ الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ. وهذا من بديعِ الكلامِ، وذلك أنه قد حِذِف من أوَّله شيءٌ أُثبت في آخره نظيرُه، وحُذِفَ من آخره شيءٌ أُثبتَ نظيرُه في الأولِ، وأصلُ التركيبِ. ولهنَّ على أزواجِهنَّ مِثْلُ الذي لأزواجِهِنَّ عليهنَّ، فَحُذِف «على أزواجهن» لإِثباتِ نظيرِه وهو «عليهنَّ»، وحُذِفَتْ «لأزواجِهنَّ» لإِثباتِ نظيرِه وهو «لَهُنَّ».
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيها وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به «لَهُنَّ» من الاستقرار أي: استقرَّ لهن بالمعروفِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمثل، لأنَّ «مثل» لا يتعرَّفُ بالإِضافةِ، فعلى الأول هو في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني هو في محلِّ رفعٍ.
قوله: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ «للرجال» خبرٌ
والتثنية في «مرَّتان» حقيقةٌ يُراد بها شَفْع الواحد. وقال الزمخشري: «إنها من باب التثنية التي يُراد بها التكرير، وجعلها مثل: لَبَيَّك وسَعْديك
والألفُ وللام في» الطلاق «قيل: هي للعهدِ المدلولِ عليه بقوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة مقتطعة مِمَّا قبلَها ولا تَعَلُّقَ لها بها.
قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾ في الفاء وجهان، أحدُهما: أنها للتعقيبِ، أي: بعد أن عرَّفَ حكم الطلاقِ الشرعي أنه مرتان، فيترتب عليه أحدُ هذين الشيئين. والثاني: أن تكونَ جوابَ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: فإنْ أوقعَ الطَّلْقَتَيْنِ ورَدَّ الزوجةَ فإمساكُ.
وارتفاعُ» إمساك «على أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبرُه محذوفٌ متقدماً، تقديرُه [عند] بعضِهم: فعليكم إمساكُ، وقَدَّره ابنُ عطية متأخراً، تقديرُه: فإمساكٌ أمثلُ أو أحسنُ. والثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالواجبُ إمساكُ. والثالث: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ محذوفٍ أي: فليكن إمساكٌ بمعروف.
والتسريحُ: الإِرسالُ والإِطلاقُ، ومنه قيل للماشيةِ: سَرْح، وناقة سُرُح، أي: سَهْلَةُ السير لاسترسالها فيه. قالوا: ويجوزُ في العربيةِ نَصْبُ» فإمساكُ «و» تسريحٌ «على المصدرِ، أي: فأمسكوهُنَّ إمساكاً بمعروفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلا أنه لم يَقْرأ به أحدٌ.
قوله: ﴿أَن تَأْخُذُواْ﴾ أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعلٌ يَحِلُّ، أي: ولا يَحِلُّ لكم أخْذُ شيءٍ مِمَّا آتيتموهنَّ.
و «مِمَّا» فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ «تأخذوا»، و «مِنْ» على هذا لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شيئاً» قُدِّمتَ عليه، لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً. و «مِنْ» على هذا للتبعيضِ. و «ما» موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: من الذي آتيتموهُنَّ إياه. وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حَذْفِ العائدِ المنصوبِ المنفصلِ عند قوله تعالى ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [يس: ٥٤]. وهذا مثلُه فَلْيُلْتفتْ إليه.
و «آتى» يتعدَّى لاثنين أولُهما «هُنَّ» والثاني هو العائدُ المحذوفُ. و «شيئاً» مفعولٌ به ناصبُه «تأخذوا». ويجوزُ أن يكونَ مصدراً أي: شيئاً من الأخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: ﴿لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٣] قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ﴾ هذا استثناءٌ مفرغٌ، وفي «أَنْ يخافا» وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِه، فيكونُ مسثتنىً من
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيكونُ مستثنىً من العامِّ أيضاً تقديرُه: ولا يحِلُّ لكم في كلَّ حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ خوفِ ألاَّ يقيما/ حدودَ الله. قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفين، وفيه حَذْفُ مضافٍ تقديرُه: ولا يَحِلُّ أَنْ تأخذوا على كلِّ حال أو في كلِّ حالٍ إلا في حالِ الخوفِ. والوجهُ الأولُ أحسنُ وذلك أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسمِ الفاعلِ المنصوبِ على الحال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً فكيف بما هو في تأويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ «أَنْ» المصدرية لا تقع موقعَ الحالِ.
والألفُ في قوله «يخافا» و «يُقيما» عائدةٌ على صنفي الزوجين. وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلامِ لقيل: «ألاَّ أَنْ تَخافوا ألاَّ تقيموا بتاءِ الخطابِ للجماعةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبة وهو التفاتٌ إيضاً.
وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً. أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يقيما» بدلاً من الضميرِ في «يخافا» لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديرُه: إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك: «الزيدان أعجباني عِلْمُهما»، وكان الأصلُ: إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألاَّ يقيما حدودَ الله، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلاةُ» للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه.
وقد خَرَّجه ابن عطية على أنَّ «خاف» يتعدَّى إلى مفعولين كاستغفر، يعني إلى أحدِهما بنفسِه وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، وأَنْ وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍ عند سيبويه والكسائي. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا التخريج بأنَّ «خافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّه النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعدَّى لاثنين، ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: «خِفْتُ زيداً ضَرْبَه»، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «استغفرت الله ذنباً»، وبأن نسبة كَوْن «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيح، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصب وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل أنها في محلِّ جر، وتَبِعه الكسائي. وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ.
وهذا الذي قاله ابنُ عطيةُ سَبَقَه إليه أبو علي، إلاَّ أنه لم يُنْظِّرْه ب «استغفر».
وقد استشكل هذا القراءةَ قومٌ وطَعَنَ عليها آخرون، لا علمَ لهم بذلك، فقال النحاس: «لا أعلمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحرفِ، لأنه لا يُوجِبه الإِعرابُ ولا اللفظُ ولا المعنى: أمّا الإِعرابُ فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ ﴿إلاَّ أَنْ تخافوا ألاَّ يقيموا﴾ فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه كان ينبغي أَنْ يُقال: ﴿إلاَّ أَنْ يُخاف﴾. وأمَّا اللفظُ: فإنْ كان على لفظِ» يُخافا «وَجَبَ أَنْ يقال: فإن خيف، وإن كان على لفظ» خِفْتُم «وَجَب أن يقال: إلاَّ أَنْ تَخافوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتبعدُ أن يُقالَ:» ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مِمَّا آتيتموهُنَّ شيئاً إلا أن يَخاف غيرُكم، ولم يَقُلْ تعالى: ولا جُنَاح عليكم أن تَأْخُذوا له منها فديةً، فيكون الخَلْعُ إلى السلطان والفَرْضُ أنَّ الخَلْعَ لا يحتاج إلى السلطانِ «.
وقد رَدَّ الناسُ على النحاس: أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ فإنه من باب الالتفاتِ كما قَدَّمْتُه
ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله ﴿إلا أن تَخافوا﴾ وخَطَّأَهُ الفارسي وقال: «لم يُصِبْ، لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزةَ واقعٌ على الرجلِ والمرأةِ». وهذا الذي خَطَّأَ به القرَّاء ليس بشيءٍ، لأنَّ معنى قراءةِ عبدِ الله: إلاَّ أَنْ تخافُوهُمَا، أي الأولياءُ الزوجين ألاَّ يُقيما، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزةَ: الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمَيْنِ: إمَّا على كونِها بدلاً من ضميرِ الزوجينِ كما تقدَّم تقريرُه، وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو «على».
والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ، إذ الأصلُ، مِنْ أَلاَّ يُقيما، أو في محلِّ نصبٍ فقط على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ كأنه قيل: إلاَّ أَنْ يَحْذَرَا عدَمَ إقامةِ حدودِ اللَّهِ. والثاني: أنه بمعنى العلمِ وهو قَوْلُ أبي عبيدة، وأنشد:
٩٧٥ - فقلتُ لهم خافُوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ | سَراتُهُمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ |
٩٧٦ - ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني | أخافُ إذا ما مِتُّ أَلاَّ أَذُوقُها/ |
٩٧٧ - أتاني كلامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يقولُه | وما خِفْتُ يا سَلاَّمُ أنَّكَ عائِبي |
وأصلُ يُقيما: يُقْوِما، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها، ثم قُلِبَتْ الواوُ ياءً لسكونِها بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قولِهِ: ﴿الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٥] وزعم بعضُهم أنَّ قوله: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ﴾ معترضٌ بين قولِهِ: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ وبين قولِهِ: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ وفيه بُعْدٌ.
قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ «لا» واسمُها وخبرُها، وقولُه: ﴿فِيمَا افتدت بِهِ﴾ متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تضمَّنَهُ الخبرُ وهو: «عَلَيْهِما». ولا جائزٌ أن يكونَ «
والضميرُ في» عليهِما «عائدٌ على الزوجينِ، أي لا جُنَاحَ على الزوجِ فيما أَخَذَ، ولا على المرأةِ فيما أَعْطَتْ. وقال الفراء:» إنَّما يعودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنَّى والمرادُ واحِدٌ كقولِهِ تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١] وقولُه:
٩٧٨ - فإنْ تَزْجُرَاني يا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ | وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا |
قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قولِهِ: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات﴾ إلى هنا.
وقوله: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَتِ الضمَّةُ على الياءِ؛ فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضمير ساكنةٌ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواوِ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَةِ: تَفْتَعُوها.
وقوله: ﴿فأولئك﴾ جوابُها. ولا جائزٌ أَنْ تَكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةً في الخبرِ لظهورِ عملِها الجزمَ فيما بعدَها. و «هم» من قوله: «فأولئك هم» يحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ فصلاً. والثاني: أن يكونَ بدلاً و «الظالمون» على هذين خبرُ «أولئك» والإِخبارُ بمفردٍ. والثالث: أن يكونَ مبتدأً ثانياً، و «الظالمونَ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «أولئك»، والإِخبارُ على هذا بجملةٍ ولا يَخْفى ما في هذه الجملةِ من التأكيدِ من حيثُ الإِتيانُ باسمِ الإِشارةِ للبعيدِ وتوسُّطُ الفصل والتعريفُ باللامِ في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وَحَمَل أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأَفْرَد في قولِهِ «يَتَعَدَّ»، وعلى معناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِهِ: ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً»، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غير» وأخواتِها لا تتعرَّفُ بالإِضافة لكونِها في قوةِ اسمِ الفاعلِ العاملِ. و «زوجاً» هل هو للتقييد
قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الضميرُ المرفوعُ عائدٌ على «زوجاً» النكرةِ، أي: فإنْ طَلَّقها ذلك الزوجُ الثاني، وأتى بلفظِ «إنْ» الشرطية دونَ «إذا» تنبيهاً أنَّ طلاقَه يجبُ أن يكونَ باختياره من غيرِ أَنْ يُشترط عليه ذلك، لأنَّ «إذا» للمحققِ وقوعُه و «إنْ للمبهم وقوعُه أو المتحقَّقِ وقوعُه، المبهمِ زمانُ وقوعِه، نحو قولِهِ تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤] قوله: ﴿عَلَيْهِمَآ﴾ الضميرُ في» عليهما «يجوزُ أن يعودَ على المرأةِ والزوجِ الأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، أي: فإنْ طَلَّقَها الثاني وانقَضَتْ عِدَّتُها منه فلا جُنَاحَ على الزوجِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ولا عليها أن يتراجَعَا. ويجوزُ أن يعودَ عليها وعلى الزوجِ الثاني، أي: فلا جُنَاحَ على المرأةِ ولا على الزوجِ الثاني أَنْ يتراجَعَا ما دامَتْ عِدَّتُها باقيةً، وعلى هذا فلا يُحْتَاجُ إلى حَذْفِ تلك الجملةِ المقدَّرَةِ وهي» وانقَضَتْ عِدَّتُها «وتكون الآيةُ قد أفادَتْ حكمينِ، أحدُهما: أَنها لا تَحِلُّ للأول إلاَّ بعدَ أن تتزوجَ بغيرِهِ، والثاني: أنه يجوزُ أَنْ يراجِعَها الثاني ما دامَتْ عِدَّتُها منه باقيةً، ويكونُ ذلك دفعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنها إذا نَكَحَتْ غيرَ الأولِ حَلَّت للأولِ فقط ولم يكُنْ للثاني عليها رَجْعَةٌ.
قوله: ﴿أَن يَتَرَاجَعَآ﴾ أي: في أَنْ، ففي محلِّها القولانِ المشهوران، و» عليهما «خبرُ» لا «، و» في أن «متعلِّقٌ بالاستقرارِ، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ أن يكونَ» عليهما «متعلقاً» ب «جُنَاح، والجارُّ الخبرُ، لما يَلْزَمُ من تنوينِ اسمِ» لا «، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً.
قال الشيخ: «أمَّا ما ذكرَهُ من أنه لا يقال:» علمت أن يقومَ زيد «فقد ذكره غيرُه مثل الفارسي وغيره، إلا أن سيبويه أجاز:» ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ «فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضُهم: الجمعُ بينهما أنَّ» عَلِمَ «قد يُرَادُ بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] وقوله:
٩٧٩ - وأعلمُ علمَ حقٍ غيرِ ظنٍّ | وتَقْوى اللَّهِ من خير العتادِ |
٩٨٠ - نرضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد علموا | أنْ لا يدانَينا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ |
وقوله: ﴿أَن يُقِيمَا﴾ إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولَيْن، أو الأولِ والثاني محذوفٌ، على حَسَبِ المذهبين المتقدمين.
قوله: ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً بعد خبرٍ، عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها» حدودُ الله «والعاملُ فيها اسمُ الإِشارة وقُرِىءَ:» نبيِّنها «بالنون، ويُروى عن عاصم، على الالتفاتِ من الغَيْبَةِ إلى التكلم للتعظيم. و» لقومٍ «متعلقٌ به. و» يعلمون «في محلِّ خفضٍ صفةً لقومٍ. وخَصَّ العلماءَ بالذكرَ لأنهم هم المنتفعون بالبيانِ دونَ غيرهم.
٩٨١ - ومَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ | ديارَ العدوِّ ذي زُهاءٍ وَأَرْكَانِ |
قوله: ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا الفاعلُ أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعولُ أي: مصاحباتٍ للمعروف.
قوله: ﴿ضِرَاراً﴾ فيه وجهان، أظهرهُما أنه مفعولٌ من أجِلِهِ أي: لأجلِ الضِّرارِ. والثاني: أنه مصدرٌ في موضِعِ الحالِ أي: حالَ كونِكُم مُضَارِّينَ لهنَّ.
قوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللامَ في الذالِ إذا كان الفعلُ مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعةِ مواضعَ في القرآن: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ في موضعين، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءِ﴾ [آل عمران: ٢٨]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً﴾ [النساء: ٣٠]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ [النساء: ١١٤] ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً﴾ [الفرقان: ٦٨]، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ [المنافقون: ٩]. وجاز لتقارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا واشتراكِهِما في الانفتاحِ والاستفال والجَهْر. وتَحَرَّز من غيرِ المجزومِ نحوُ: يفعلُ ذلك. وقد طَعَنَ قومٌ على هذه الروايةِ فقالوا: لا تَصِحُّ عن الكسائي لأنها تخالِفُ أصولَه، وهذا غيرُ صوابٍ.
قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» النعمة «إن أريدَ بها الإِنعامُ، لأنها اسمُ مصدر كنبات من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:
٩٨٢ - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ | عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ |
٩٨٣ - يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازِمٌ | بضربةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وهْوَ راكِبُ |
قوله: ﴿وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ عطفاً على «نعمة» أي اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون قولُه «يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم. والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ اذكروا. والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ أَنْزَل.
والثاني: من وَجْهَي «ما» أن تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكون «يَعِظُكُم» على هذا في محلِّ رفعٍ خبراً لهذا المتبدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظُ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.
قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ». و «من الكتاب» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه «ما» الموصولةُ. والثاني: «أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقدير: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتاب. و» مِنْ «يجوز أن تكون تبعيضية وأن/ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك. والضمير في» به «يعودُ على» ما «الموصولةِ.
والعَضْلُ قيل: المَنْعُ، ومنه: «عَضَلَ أَمَته» مَنَعَها من التزوَّجِ يَعْضِلُها بكسر العين وضَمِّها، قال ابن هرمز:
٩٨٤ - وإنَّ قصائدي لك فاصطَنِعْني | كرائمُ قد عُضِلْنَ عن النِّكاحِ |
٩٨٥ - ونحنُ عَضَلْنا بالرماحِ نساءَنا | وما فيكُمُ عن حُرْمَةِ اللهِ عاضِلُ |
٩٨٦ - تَرى الأرضَ منَّا بالفضاءِ مريضةً | مُعَضَّلَةً منا بجيشٍ عَرَمْرم |
٩٨٧ - شَفاهَا من الداءِ العُضالِ الذي بها | غلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ شَفاها |
قوله: ﴿إِذَا تَرَاضَوْاْ﴾ في ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: «ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التراضي. والثاني: أن يكونَ «تعضُلوهنَّ» أي: لاَ تعضُلوهنَّ وقتَ التراضي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا متمحضةٌ للظرفية. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أن يعودَ إلى الأولياءِ وللأزواج، وأَنْ يعودَ على الأزواج والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تغليبِ المذكرِ على المؤنِثِ.
قوله ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرفُ مكانٍ مجازي، وناصبُه «تراضَوا».
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تراضَوا بما يَحْسُن من الدِّينِ والمروءةِ، والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يَنْكِحْنَ» فيكونُ «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً: والثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ تراضَوا.
والرابع: أنه نعتُ مصدر محذوف، دَلَّ عليه الفعلُ أي: تراضِياً كائناً بالمعروف.
قوله: ﴿ذلك﴾ مبتدأُ. و «يُوعظ» وما بعدَه خبرُه. والمخاطَبُ: إمَّا الرسولُ عليه السلام أو كلُّ سامعٍ، ولذلك جِيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحدِ، وإمَّا الجماعةُ وهو الظاهرُ، فيكونُ ذلك بمعنى «ذلكم» ولذلك قال بعدَه: «منكم».
و «مَنْ كان» في محلِّ رفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وفي «كان» اسمُها يعودُ
وقوله: ﴿ذلكم﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «أَزْكى» فهو في محلِّ رفع. وقولُه: «وَأَطْهَرُ» أي: لكم، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ أي: من العَضْلِ.
قوله ﴿حَوْلَيْنِ﴾ منصوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفُهما بكاملين رفعاً للتجوُّز، إذ قد يُطْلَقُ «الحولان» على الناقصين شهراً وشهرين. والحَوْلُ: السنةُ، سَمُيِّتْ لتحوُّلِها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ ويقال: لا حولَ ولا قوة، ولا حَيْلَ ولا قوة.
قوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليلِ، و «مَنْ» واقعةٌ على الآباء، أي: الوالدات يُرْضِعْنَ لأجلِ مَنْ أَرادَ إتمام الرضاعةِ من الآباءِ، وهذا نظيرٌ قولِك: «أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه». والثاني: أنها للتبيين، فتتعَلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللام في قوله تعالى: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣]، وفي قولهم: «سُقْياً لك». فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّتِ به، وذلك أنه لمّا ذَكَر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولينِ كاملينِ بيَّن أنَّ ذلكَ الحكمَ إنما هو لِمَنْ أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَة. و «مَنْ» تحتمل حينئذ أن يُرادَ بها الوالداتُ فقط أو هُنَّ والوالدون معاً. كلُّ
قوله: ﴿أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصب مفعولاً بأراد، أي: لمن أراد إتمامَها. والجمهور على «يُتمَّ الرَّضاعة» بالياء. المضمومة من «أتَمَّ» وإعمال أنْ الناصبة، ونصب «الرَّضاعة» مفعولاً به، وفتح رائها. وقرأ مجاهد والحسن وابن محيصن وأبو رجاء: «تَتِمَّ» بفتح التاء من تَمَّ، «الرضاعة» بالرفع فاعلاً وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما كَسَرا راء «الرضاعة»، وهي لغةٌ كالحَضارة والحِضارة، والبصريون يقولون: فتحُ الراء مع هاء التأنيثِ وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكوفيون يزعمون العكسَ. وقرأ مجاهد - ويُرْوى عن ابنِ عباس -: ﴿أَنْ يُتِمُّ الرَّضاعة﴾ برفع «يُتِمُّ» وفيها قولان، أحدُهما قولُ البصريين: أنها «أَنْ» الناصبة أُهْمِلت حَمْلاً على «ما» أختِها لاشتراكِهما في المصدرية، وأنشدوا على ذلك قوله:
٩٨٨ - إذا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي | كَشَفْتُ حقائقَها بالنَّظَرْ |
٩٨٩ - إني زعيمٌ يا نُوَيْ | قَةُ إنْ أَمِنْتِ من الرَّزاحِ |
أنْ تهبطِين بلادَ قَوْ | مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ |
٩٩٠ - يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما | وحيثما كُنتما لُقِّيتما رَشَدا |
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويَحْكُما | مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أَحَدا |
والثاني: وهو قولُ الكوفيين أنها المخففةُ من الثقيلة، وشَذَّ وقوعُها موقعَ الناصبةِ، كما شذَّ وقعُ «أَنْ» الناصبةِ موقعَها في قوله:
٩٩١ -............ قد علموا | أَنْ لا يُدانِينَا في خَلْقهِ أحدُ |
قوله: ﴿وَعلَى المولود لَهُ﴾ هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قولُه: «رِزْقُهن»، و «أل» في المولودِ موصولةٌ، و «له» قائمٌ مقامَ الفاعل للمولودِ، وهو عائدُ الموصولِ، تقديرُه: وعلى الذي وُلِدَ له رِزْقُهُنَّ، فَحُذِف الفاعلُ وهو الوالداتُ، والمفعولُ وهو الأولادُ، وأُقيمَ هذا الجارُّ والمجرورُ مُقامَ الفاعلِ.
وذَكَر بعضُ الناسِ أنه لا خلافَ في إقامةِ الجارِّ والمجرور مُقامَ الفاعلِ إلا السهيلي، فإنهَ مَنَع من ذلك. وليس كما ذَكَر هذا القائلُ، وأنا أبسُطُ مذاهبَ الناسِ في هذه المسألةِ، فأقول بعونِ الله: اختلف الكوفيون والبصريون في هذه المسألةِ فأجازها البصريون مطلقاً، وأما الكوفيون فقالوا: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ حرفُ الجر زائداً فيجوزَ ذلك نحو: ما ضُرب من أحد، وإن كان غيرَ زائدٍ لم يَجُزْ ذلك عندَهم، ولا يجوزُ عندَهم أن يكونَ الاسمُ المجرورُ في موضعِ رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاقِ في
قوله: ﴿بالمعروف﴾ يجوز أن يتعلَّقَ بكلٍّ مِنْ قولِه: «رزقُهنَّ» و «كسوتُهنَّ» على أن المسألة من بابِ الإِعمالِ، وهو على إعمالِ الثاني، إذ لو أُعْمِل الأولُ لأُضْمِر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروفِ. هذا إنْ أُريد بالرزقِ والكسوةِ المصدران، وقد تقَدَّم أنَّ الرزقَ يكون مصدراً، وإنْ كانَ ابنُ الطراوةِ قد رَدَّ على الفارسي ذلك في قوله: ﴿مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض﴾ [النحل: ٧٣] كما سيأتي تحقيقُه في النحل، وإنْ أريدَ بهما اسمُ المرزوقِ والمكسوِّ كالطِّحْن والرِّعْي فلا بدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: اتِّصالُ أو دفعُ أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يَصِحُّ به المعنى، ويكونُ «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ منهما.
وجَعَلَ أبو البقاء العاملَ في هذه الحالِ الاستقرار الذي تَضَمَّنه «على».
والجمهورُ على «كِسْوَتِهِنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمها، وهما لغتان في المصدر واسم المكسوِّ، وفعلُها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولّيْ «
٩٩٢ - وَأْركَبُ في الروعِ خَيْفانَةً | كسا وجَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ |
قوله: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾ الجمهورُ على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعولِ، «نفسٌ» قائمٌ مقامَ الفاعلِ وهو الله تعالى، «وُسْعَها» مفعولٌ ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: «ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا لم يَجُزْ لأنه ليس ببدَلٍ».
وقرأ أبو رجاء: ﴿لاَ تَكَلَّفُ نفسٌ﴾ بفتح التاءِ والأصلُ: «تتكلف» فَحُذِفَتْ إحدى التاءين تخفيفاً: إمَّا الأولى أو الثانيةُ على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكونُ «نفسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعول به، استثناء مفرغاً أيضاً. وَرَوى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً: ﴿لا يُكَلِّفُ نفساً﴾ بإسناد الفعلِ إلى ضميرِ الله تعالى، فتكونُ «نفساً» و «وُسْعَها» مفعولَيْنِ.
والتكليفُ: الإِلزامُ، وأصلُه من الكَلَفِ، وهو الأثرُ من السَّوادِ في الوجهِ، قال:
٩٩٣ - يَهْدِي بها أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبِرٌ | من الجِمالِ كثيرُ اللَّحْمَ عَيْثُومُ |
وقوله: ﴿لاَ تُضَآرَّ﴾ / ابنُ كثير وأبو عمرو: «لا تضارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهُها واضحٌ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يَدْخُلْ عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فَرُفِعَ، وهذه القراءةُ مناسِبَةٌ لِما قبلِهَا من حيث إنه عَطَفَ جملةً خبريةً على خبريةً لفظاً نَهْيِيَّةٌ معنى، ويدل عليه قراءةُ الباقين كما سيأتي. وقرأ باقي السبعة بفتح الراءِ مشددةً، وتوجيهُها أنَّ «لا» ناهيةٌ فهي جازمةٌ، فَسَكَنَتِ الراء الأخيرةُ للجزمِ وقبلَها راءٌ ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان فَحَرَّكْنا الثانيةَ لا الأولى، وإنْ كان الأصلُ الإِدغامَ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً وإنْ كانَ أصلُ التقاءِ الساكنينِ الكسرَ لأجلِ الألفِ إذ هي أختُ الفتحةِ، ولذلك لَمَّا رَخَّمَتِ العربُ «إسحارّ» وهو اسمُ نباتٍ قالوا: «إسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حَذَفوا الراءَ الأخيرةَ بقيتِ الراءُ الأولى ساكنةً والألفُ قبلَها ساكنةٌ فالتقى ساكنان، والألفُ لا تقبلُ الحركَةَ فحَرَّكوا الثاني وهو الراءُ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً لأجلِ الألفِ قبلَها، ولم يَكْسِروا وإنْ كان الأصلَ، لما ذكرْتُ لك من مراعاةِ الألف.
وقرأ الحسن بكسرِها مشددةً، على أصلِ التقاءِ الساكنين، ولم يُراعِ الألفَ، وقرأ أبو جعفرٍ بسكونِها مشددةً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فسكَّنَ، ورُوِي عنه وعن ابن هرمز بسكونِهَا مخففةً، وتَحْتمل هذه وجهين، أحدهما: أن يكونَ من ضارَ يَضير، ويكونُ السكونُ لإِجراءِ الوصلِ مُجْرى الوقف.
والثاني: أن يكونَ من ضارَّ يُضارُّ بتشديد الراءِ، وإنما استثقل تكريرَ حرفٍ هو مكررٌ في نفسِه فَحَذَفَ الثانيَ منهما، وَجَمَع بين الساكنين - أعني الألفَ والراء - إمَّا إجراءً للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وإمَّا لأنَّ الألفَ قائمةٌ مقامَ الحركةِ لكونِها حرفَ مَدٍّ.
ثم قراءةُ تسكينِ الراء تحتملُ أَنْ تكونَ مِنْ رفعٍ فتكونَ كقراءةِ ابن كثير وأبي عمرو، وأن تكونَ من فَتْح فتكونَ كقراءةِ الباقين، والأولُ أَوْلى، إِذ التسكينُ من الضمةِ أكثرُ من التسكينِ من الفتحةِ لخفتها.
وقرأ ابن عباس بكسر الراءِ الأولى والفكِّ، ورُوي عن عمر ابن الخطاب: «لا تضارَرْ» بفتح الراء الأولى والفك، وهذه لغةُ الحجاز أعني [فكَّ] المِثْلين فيما سَكَنَ ثانيهما للجزمِ أو للوقفِ نحو: لم تَمْرُرْ، وامرُرْ، وبنو تميم يُدْغِمون، والتنزيلُ جاء باللغتين نحو: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤] في المائدةِ، قُرىء في السبعِ بالوجهين وسيأتي بيانُه واضحاً.
ثم قراءةُ مَنْ شَدَّد الراءَ مضمومةً أو مفتوحةً أو مكسورةً أو مُسْكَّنةُ أو خَفَّفها تحتملُ أن تكونَ الراءُ الأولى مفتوحةً، فيكونُ الفعلُ مبنياً للمفعول، وتكونُ «والدةٌ» مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله، وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْمِ به، ويؤيده قراءةُ عمرَ رضي الله عنه. وأَنْ تكونَ مكسورةً فيكونُ الفعلُ مبنياً للفاعلِ، وتكونُ «والدةٌ» حينئذ فاعلاً به، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس.
وفي المفعولِ على هذا الاحتمالِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهما - وهو الظاهر - أنه محذوفٌ تقديرُه: «لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها بسسبِ ولدِها بما لا يَقْدِرُ عليه من رزقٍ وكِسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يضارِرْ مولودٌ له زوجتَه بسبب ولدِه
والثالث: أن الباءَ مزيدةٌ، وأنَّ «ضارَّ» بمعنى ضَرَّ، فيكون «فاعَلَ» بمعنى «فعَلَ» المجردِ، والتقديرُ: لا تَضُرُّ والدةٌ ولدَها بسوءِ غذائِه وعَدَم تعهُّدِه، ولا يَضُرُّ والدٌ ولدَه بانتزاعِه من أمه بعدما أَلِفهَا ونحوِ ذلك. وقد جاء «فاعَل» بمعنى فَعَل المجرد نحو: واعَدْته ووعَدْتُه، وجاوَزْته وجُزْته، إلا أنَّ الكثيرَ في فاعَل الدلالةُ على المشاركةِ بين مرفوعِه ومنصوبِه، ولذلك كان مرفوعهُ منصوباً في التقدير، ومنصوبُه مرفوعاً في التقدير، فمن ثَمَّ كانَ التوجيهُ الأولُ أرجحَ مِنْ توجيهِ الزمخشري وما بعدَه، وتوجيهُ الزمخشري أَوْجَهَ مِمَّا بعدَه.
و «له» في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
وقوله: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ فيه دلالةٌ على ما يقولُه النحويون، وهو أنه إذا اجتمع مذكرٌ ومؤنثٌ، معطوفاً أحدُهما على الآخرِ كان حكمُ الفعلِ السابِق عليهما للسابِق منهما، تقول: قامَ زيدٌ وهندٌ، فلا تُلْحِقُ علامةَ تأنيثٍ، وقامَتْ هندٌ وزيدٌ، فتلحقُ العلامةَ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، ولا يُستثنى من ذلك
ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان، فمنه: الفصلُ والوصلُ/ أمَّا الفصلُ وهو عدمُ العطفِ بين قولِه: ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾ وبين قوله: «لا تضارَّ» لأنَّ قوله: «لا تُضارَّ» كالشرحِ للجملةِ قبَلها، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتَها لم يقع ضررٌ، لا للوالدة ولا للمولود له. وكذلك أيضاً لم يَعْطِف ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾ على ما قبلَها، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله «بالمعروفِ». وأمَّا الوصلُ وهو العطفُ بين قوله: «والوالداتُ يُرْضِعْنَ» وبين قولِه: «وعلى المولودِ له رزقُهن» فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع. وجيء بالوالدات بلفظِ العموم وإنْ كان جمعَ قلة، لأنَّ جمعَ القلةِ متى حُلِّي بأَل عمَّ، وكذلك «أولادَهُنَّ» عامٌّ، لإِضافته إلى ضمير العامِّ، وإنْ كان أيضاً جمع قلةٍ. ومنه إبرازُ الجملةِ الثانيةِ مبتدأً وخبراً، والخبرُ جارٌّ ومجرورٌ بحرفِ «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازي في الوجوبِ وقُدِّم الخبرُ اعتناءً به. وقُدِّم الرزْقُ على الكسوةِ لأنه الأهمُّ في بقاءِ الحياةِ ولتكرره كلَّ يومٍ. وأُبرزت الثالثة فعلاً ومرفوعَه، وجُعِل مرفوعُه نكرةً في سياقِ النفي ليعمَّ ويتناولَ ما سبقَ لأجله من حكم الوالدات في الإِرضاع والمولود له في الرزق والكِسْوة الواجبَتَيْنِ عليه للوالدةِ، وأُبْرِزَت الرابعةُ كذلك لأنها كالإِيضاح لما قبلها والتفصيلِ بعد الإِجمال، ولذلك لم يُعْطَفْ عليها كما ذَكَرْتُه لك.
ولَمَّا كان تكليفُ النفسِ فوق الطاقة ومُضَارَّةُ أحدِ الزوجينِ للآخر
وأمَّا في قراءة مَنْ جَزَمَ فإنَّها ناهيةٌ، وهي للاستقبالِ فقط، وأضافَ الولدَ إلى الوالدة والمولودِ له تنبيهاً على الشفقةِ والاستعطافِ، وقدَّمَ ذِكْرَ عدم مُضَارَّةِ الوالد مراعاةً لِمَا تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكمِ الوالداتِ وثَنَّى بحكمِ الوالدِ. ولولا خوفُ السآمةِ وأنَّ الكتابَ غيرُ موضوعٍ لهذا الفنِّ لذكرْتُ ما تَحتمِلُه هذه الآية الكريمةُ من ذلك.
قولُه: ﴿وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك﴾ هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، قَدَّم الخبرَ اهتماماً، ولا يَخْفَى ما فيها، وهي معطوفةٌ على قولِه: ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتفسيرِ لقوله «بالمعروف» كما تقدَّم التنبيهُ عليه.
والألفُ واللامُ في «الوارث» بدلٌ من الضميرِ عندَ مَنْ يَرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضمير: هل يعودُ على المولود له وهو الأبُ، فكأنه قيل: وعلى وارِثِه، أي: وارِثِ المولدِ له، أو يعودُ على الولدِ نفسه، أي: وارثِ الولد؟ وهذا على حَسَبِ اختلافِهم في الوارثِ.
وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَة» بلفظ الجمعِ، والمشارُ إليه بقوله «مثلُ ذلك» إلى الواجبِ من الرزق والكسوة، وهذا أحسنُ مِنْ قول مَنْ يقول: أُشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحدِ للاثنين كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. وإنما كان أحسنَ لأنه لا يُحْوِج إلى تأويل، وقيل: المشارُ إليه
قوله: ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل «فِصالاً»، فهو في محلِّ نصبٍ أي: فصالاً كائناً عن تراضٍ، وقدَّره الزمخشري: صادراً عن تراضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونُه كوناً مقيَّداً. والثني: أنه متعلَّقٌ بأراد، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلفٍ. و «عن» للمجاوزة مجازاً لأنَّ التراضيَ معنىً لا عينٌ.
و «تراض» مصدرُ تفاعَل، فعينُه مضمومةٌ وأصله: تفاعُل تراضُوٌ، فَفُعِل فيه ما فُعِل ب «أَدْلٍ» جمعَ دَلْوٍ، مِنْ قلبِ الواو ياءً والضمةِ قلبِها كسرةً، إذ لا يوجَدُ في الأسماءِ المعربةِ واوٌ قبلَها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويُفْعَلُ بها ذلك تخفيفاً.
قوله ﴿مِّنْهُمَا﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَراضٍ»، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي تراضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما. و «مِنْ لابتداء الغايةِ.
وقوله: ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ حُذِفَتْ لدلالةِ ما قبلَها عليها والتقدير: وتشاورٍ منهما، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ التشاوُرُ من أحدِهما مع غيرِ الآخر لتتفق الآراءُ منهما ومِنْ غيرِهما على المصلحةِ.
قوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ﴾ الفاءُ جوابُ الشرطِ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه الجملة، ولا بُدَّ قبلَ هذا الجواب من جملةٍ قد حُذِفَت ليصحَّ المعنى بذلك تقديرُه: فَفَصَلاه أو فَعَلا ما تراضيا عليه فلا جُناحَ عليهما في الفِصال أو في الفَصْلِ.
وفيه نظرٌ، لأنَّ قولَه» رضِع الولدُ «يُعتقدُ أنَّ هذا لازمٌ ثمَ عَدَّيْتَه بهمزةِ النقلِ، ثمَ عَدَّيْتَه ثانياً بسينِ الاستفعال، وليس كذلك لأنَّ» رَضِع الولدُ «متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعولَه غيرُ مذكورٍ تقديرُه: رَضِع الولدُ أمَّه، لأنَّ المادةَ تقتضي مفعولاً به كضَربَ، وأيضاً فالتعديةُ بالسين قولٌ مرغوب عنه. والسينُ للطلبِ على بابها نحو: استسقيتُ زيداً ماءً واستطْعَمْته خبزاً، فكما أنَّ ماءٌ وخبزاً منصوبان لا على إسقاط الخافضِ كذلك» أولادكم «. وقد [جاء] استفعل للطلب وهو مُعَدَّى إلى الثاني بحرف جر، وإن كان» أَفْعَل «الذي هو أصلُه متعدِّياً لاثنين نحو:» أفهمني زيدٌ المسألةَ «واستفهمتُه عنها، ويجوز حَذْفُ» عن «، فلم يَجِىءْ مجيء» استَسْقَيْت «و» استطعمت «من كونِ ثانيهما منصوباً على لا على إسقاطِ الخافض.
قوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم﴾ » إذا «شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ الشرطِ الأولِ وجوابِه عليه، قال أبو البقاء:» وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلقٌ بما تَعَلَّق به «عليكم». وهذا خطأٌ في الظاهرِ، لأنه جَعَلَ العاملَ فيها أولاً ذلك المعنى المدولَ عليه بالشرطِ الأولِ.
وجوابِه، فقولُه ثانياً «وهو متعلقٌ بما تعلَّقَ به عليكم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يُقالَ: قد يكونُ سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصلُ «أو هو متعلقٌ» فَيَصِحُّ، إلا أنه إذا كان كذلك تمحَّضَتْ «إذا» للظرفية، ولم تكنْ للشرطِ، وكلامُ هذا القائِل يُشْعر بأنها شرطيةٌ في الوجهينِ على تقدير الاعتذارِ عنه.
وقرأ الجمهور: «آتيتم» بالمدِّ هنا وفي الروم: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً﴾ [الروم: ٣٩]، وقَصَرَهما ابنُ كثير. ورُوي عن عاصم «أوتيتم» مبنياً للمفعول، أي: ما أَقْدَرَكم الله عليه. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ لأنَّ آتى بمعنى أعطى فهي تتعدَّى لاثنين أحدُهما ضميرٌ يعودُ على «ما» الموصولةِ، والآخر ضميرٌ يعودُ على المراضعِ، والتقديرُ: ما آتيتموهنَّ إياه، ف «هُنَّ» هو المفعولُ الأول، لأنه فاعلٌ في المعنى، والعائدُ هو الثاني، لأنه هو المفعولُ في المعنى. والكلامُ على
وأمَّا قراءةُ القصرِ فمعناها جِئْتم وفَعَلْتُم كقولِ زهير:
٩٩٤ - وما كان مِن خيرٍ أَتَوْه فإنَّما | توارَثَهُ آباءُ آبائِهم قَبْلُ |
و «ما» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها بمعنى الذي، وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولةً حرفيةً، ولكنْ ذَكَر ذلك مع قراءةِ القصرِ خاصة، والتقدير: إذا سَلَّمتم الإِتيان، وحينئذٍ يُسْتَغْنَى عن ذلك الضمير المحذوف. ولا يختصُّ ذلك بقراءة القصرِ، بل يجوزُ أن تكونَ مصدريةً مع المدِّ أيضاً على أَن المصدرَ واقعٌ موقع المفعولِ، تقديرُه: إذا سلَّمتم الإِعطاء، أي المُعْطَى والظاهرُ في «ما» أن يكونَ المرادُ بها الأجرةَ التي تُعْطاها المرضعُ، والخطابُ على هذا في قولِه: «سَلَّمتم» و «آتيتم» للآباء خاصةً، وأجازوا أن يكونَ المرادُ
وقرأ عاصم في رواية شيبان: «أُوتيتم» على البناء للمجهول ومعناه: ما آتاكم الله وأَقْدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قولِه تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «سَلَّمْتم» أي: بالقولِ الجميلِ. والثاني: أنْ يتعلَّق ب «آتيتم»، والثالثُ: أن يكونَ حالاً من فاعل «سَلَّمْتم» أو «آتيتم»، فالعاملُ فيه حينئذٍ محذوفٌ أي: ملتبسين بالمعروفِ.
٩٩٥ - لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً | على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما |
٩٩٦ - بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه | بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ |
وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني/ نحو: «إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ»، المعنى: أنَّ أخت زيد منطلقة، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله:
٩٩٧ - فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني | وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ |
الثاني: أَنَّ له خبراً وهو «يتربَّصْن» ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقديرُ: وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ. ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: «ويَذَرون أزواجاً» فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ. الثالث أن الخبرَ أيضاً «يتربَّصْن» ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم، قاله الأخفش. الرابع: أنَّ «يتربَّصْنَ» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقديرُ: أزواجُهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول، قاله المبردُ. الخامس: أنَّ
وقراءةُ الجمهورِ «يُتَوَفَّوْنَ» مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم، قاله أبو القاسم الزمخشري.
والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللهُ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو. [وهذا] تُناقِضُه هذه القراءة.
وقد تقدَّم احتمالات في قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء» وهل «
قوله: ﴿مِنكُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ «يَتَوَفَّوْن» والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: حالَ كونِهم منكم. و «مِنْ» تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ.
قوله: ﴿وَعَشْراً﴾ إنما قال «عشراً» من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ، الأولُ: أنَّ المراد «عَشْر ليال». مع أيامِها، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها. قال الزمخشري: «وقيل» عَشْراً «ذهاباً إلى الليالي، والأيامُ داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام، تقول:» صُمْت عشراً «، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم، ومن البيِّن قولُه تعالى: ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً﴾ [طه: ١٠٣]، ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾ [طه: ١٠٤].
والثاني - وهو قولُ المبرد -: أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب:» سِرْنا خمساً «أي: بين يوم وليلة قال:
٩٩٨ - فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ | وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا |
٩٩٩ - وإلاَّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ | تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ |
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» أي: فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. والثالثُ: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي:
و «بما تعملون» متعلق ب «خبيرٌ». وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ. وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ.
والخِطْبَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعول أي: من خِطْبَتِكم النساء، فَحُذِفَ الفاعلُ للعلم به. والخِطْبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْب، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خطبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وقال الفراء: «الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب وهي من قولك: إنه لَحَسَنُ الجِلْسَةِ والقِعْدَةِ أي: الجلوس والقعود، والخُطْبَةُ -
قوله: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ﴾ » أو «هنا للإِباحةِ أو التخيير أو التفصيلِ أو الإِبهامِ على المخاطب، وأَكَنَّ في نفسِهِ شيئاً أي: أَخْفاه، وَكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوهِ: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في» أكنَّ «للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ كأشرَقَتْ وشَرَقَتْ. ومفعول» أكنَّ «محذوفٌ يعودُ على» ما «الموصولةِ في قوله:» فيما عَرَّضْتم «أي: أو أكننتموه. ف» في أنفسكم «متعلِّقٌ ب» أَكْنَنتم «، ويَضْعُفُ جَعْلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.
قوله: ﴿ولكن﴾ هذا الاستدراكُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبلَه، وهي قولُهُ:» ستذكرونَهُنَّ «، فإنَّ الذِّكْرَ يقع على أنحاءٍ كثيرةٍ ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصوص، ولو لم يُسْتَدْرَك لكانَ من الجائز، لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ. وهو نظيرُ:» زيدٌ سيلقى خالداً ولكنْ لا يواجهُهُ بِشَرٍّ «. لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجهتُه بالشرِّ، استُدْرِكَت هذه الحالةُ من بينِها. والثاني - قاله أبو البقاء - قاله الزمخشري - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل» لكنْ «تقديرُهُ:» فاذكروهُنَّ، ولكن لا تواعِدُوهُنَّ سراً «وقد تقدَّم أنَّ المعنى على
قوله: ﴿سِرّاً﴾ فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً لتواعِدُوهُنَّ.
والثاني أنه حالٌ من فاعلِ «تواعدوهُنَّ» أي: لا تواعدوهُنَّ مُسْتَخْفين بذلك. والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: مواعدةً سراً. والرابعُ: أنه حالٌ من ذلكَ المصدرِ المُعَرَّفِ، أي: المواعدةَ مستخفيةً والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ مجازاً أي: في سِرٍّ. وعلى الأقوالِ الأربعةِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مفعولٍ تقديرُهُ: لا تواعدوهُنَّ نكاحاً.
والسِّرُّ: ضدُّ الجَهْرِ، وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ وعلى الزِّنا بخصوصيةٍ، وأنشدوا للحُطَيئة:
١٠٠٠ - ويَحْرُم سِرُّ جارتِهم عليهم | ويأكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصاعِ |
١٠٠١ - ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها | حَرامٌ عليكَ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا |
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاستثناءَ المنقطعَ ليس مِنْ شرطِهِ صِحَّةُ تسلُّطِ العاملِ عليه بل هو على قسمين: قسمٍ يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً نحو: «ما جاء أحدُ ألا حماراً»، ولغةُ تميم إجراؤه مُجْرى المتصلِ فيُجْرون فيه النصبَ والبدلية بشرطه، وقسم لا يَصِحُّ فيه ذلك نحو: «ما زادَ إلا ما نَقَصَ»، و «ما نفَعَ إلا ما ضَرَّ». وحكمُ هذا النصبُ عند العربِ قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ بلكن عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدَهما يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه في قولك: «ما جاء أَحدٌ إلا حمار» لو قلت: «ما جاءَ إلا حمارٌ» صَحَّ بخلافِ القسمِ الثاني، فإنَّه
قوله: ﴿عُقْدَةَ﴾ في نصبهِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ به على أنه ضَمَّنَ «عَزَم» معنى ما يتعدَّى بنفِسِه وهو: تَنْووا أو تباشِروا ونحوُ ذلك. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجر وهو «على»، فإنَّ «عَزَم» يتعدَّى بها، قال:
١٠٠٢ - عَزَمَتُ على إقامةِ ذي صباحٍ | لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ |
١٠٠٣ - ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه | حتى أنالَ به كريمَ المَطْعَمِ |
قوله: ﴿فاحذروه﴾ الهاءُ في «فاحذَرُوه» تعودُ على اللَّهِ تعالى، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فاحذَرُوا عقابَه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على «ما» في قوله ﴿مَا في أَنْفُسِكُمْ﴾ بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ، قاله الزمخشري.
١٠٠٤ - إني بحبلِكَ واصلٌ حَبْلِي | وبريش نَبْلِكَ رائِشٌ نَبْلي |
ما لم أَجِدْكَ على هُدَى أَثَرٍ | يَقْرُو مِقَصَّكَ قائِفٌ قَبْلي |
وقرأ الجمهورُ: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثياً وهي واضحةٌ. وقرأ حمزة والكسائي: «تماسُّوهُنَّ» من المفاعلَةِ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ فاعَلَ بمعنى فَعَل كسافر، فتوافِقَ الأولى، ويُحْتَمل أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركَةِ، فإنَّ الفعلَ مِن الرجلِ والتمكينَ من المرأةِ، ولذلك قيلَ لها زانيةٌ. ورجَّح الفارسي
قوله: ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ»، و «أَو» على بابها من كونِها لأحدِ الشيئين، قاله ابن عطية. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَنْ عطفاً على مصدرٍ متوهمٍ، و «أو» بمعنى إلاَّ التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أَنْ تَفْرِضُوا، كقولِهِم: لألزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي، قاله الزمخشري. والثالث: أنه معطوفٌ على جملةٍ محذوفةٍ تقديره: «فَرَضْتُم أو لم تَفْرِضُوا» فيكونُ هذا من بابِ حذفِ الجزمِ وإبقاءِ عمله، وهو ضعيفٌ جداً، وكأنَّ الذي حَسَّنَ هذا كونُ لفظِ «لم» موجوداً قبل ذلك. والرابع: أن تكونَ «أو» بمعنى الواو، و «تَفْرِضُوا» عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» فهو مجزومٌ أيضاً.
قوله: ﴿فَرِيضَةً﴾ فيها وجهان، أظهرُهما: أنها مفعولٌ به وهي بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أَنْ تَفْرِضُوا لهنَّ شيئاً مفروضاً. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على المصدرِ بمعنى فَرْضاً. واستجود أبو البقاء الوجهَ الأولَ، قال: «وأَنْ يكونَ مفعولاً به وهو الجيدُ» والموصوفُ محذوفٌ تقديرُهُ: متعةً مفروضةً.
قوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهُنَّ معطوفٌ على فعلٍ محذوف تقديرُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ ومَتِّعُوهُنَّ». وهذا لا حاجَةَ إليه، فإنَّ الضميرَ
قوله: ﴿عَلَى الموسع قَدَرُهُ﴾، جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وفيها قولان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، بل هي استئنافيَّةٌ بَيَّنَتْ حالَ المُطَلِّقِ بالنسبةِ إلى إيسارِهِ وإقتارِهِ. والثاني: أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ، وذو الحال/ فاعل «متِّعوهن». قال أبو البقاء: «تقديرُهُ: بقَدر الوُسْع»، وهذا تفسير معنىً. وعلى جَعْلِهَا حاليةً فلا بُدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ تقديرهُ: على الموسِع منكم. ويجوزُ على مذهبِ الكوفيين ومَنْ تابعهم أن تكونَ الألفُ واللامُ قامَتْ مقامَ الضميرِ المضافِ إليه تقديرُهُ: «على مُوْسِعِكُم قَدَرُه».
وقرأ الجمهورُ: «المُوسِعِ» بسكونِ الواو وكسرِ السينِ اسمَ فاعِلٍ من أَوْسع يُوسع. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة، اسمَ مفعولٍ من «وسَّعَ». وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص: «قَدَرَه» بفتحِ الدالِ في الموضعين، والباقون بسكونِها.
واختلفوا: هل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبرُ أئمةِ العربيةِ إلى أنهما بمعنىً واحدٍ، حكى أبو زيد: «خُذْ قَدَر كذا وقَدْر كذا»، بمعنى واحدٍ، قال: «ويُقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ:» فسالتْ
وقرأ بعضهم بفتحِ الراء، وفي نصبِه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ منصوباً على المعنى، قال أبو البقاء: «وهو مفعولٌ على المعنى، لأنَّ معنى» مَتِّعوهن «لِيُؤَدِّ كلٌّ منكم قدَرَ وُسْعِهِ» وشَرْحُ ما قاله أن يكونَ من باب التضمين، ضَمَّنَ «مَتِّعوهنَّ» معنى «أدُّوا». والثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ تقديرُهُ: فَأَوْجِبوا على الموسِعِ قَدَره. وجعله أبو البقاء أجودَ من الأول. وفي السجاوندي: «وقال ابن أبي عبلة:» قَدَرَه أي قَدَرَه الله «انتهى. وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ، فيكونُ» قَدَرَه «فعلاً ماضياً، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من» مَتِّعوهن «. والمعنى: أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ.
﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]. وقال الشيخ: «قالوا: انتصَبَ على المصدرِ، وتحريرُهُ أن المتاعَ هو ما يُمَتَّع به، فهو اسمٌ له، ثم أُطْلِقَ على المصدرِ على سبيلِ المجازِ، والعامِلُ فيه:» وَمَتِّعوهُنَّ «وفيه نظرٌ، لأنَّ المعهود أنْ يُطلَق المصدرُ على أسماءِ الأعيان كضَرْب بمعنى مَضْروب، وإمَّا إطلاقُ الأعيان على المصدرِ فلا يجوزُ، وإنْ كانَ بعضُهم جَوَّزه على قلةٍ نحو قولهم:» تِرْبَاً وَجَنْدلاً «و» أقائماً وقد قَعَدَ الناسُ «. والصحيح أن» تِرْباً «ونحوَه مفعولٌ به، و» قائماً «نصبٌ على الحالِ.
والثاني من وَجْهَي» متاعاً «أن يَنْتَصِبَ على الحالِ. والعاملُ فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرورُ من معنى الفعلِ، وصاحبُ الحالِ ذلك الضميرُ المستكنُّ في ذلك العاملِ، والتقديرُ: قَدَرُ الموسِعِ يستقرُّ عليه في حالِ كونِهِ متاعاً.
قوله: ﴿بالمعروف﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمتِّعوهن فتكون الباءُ للتعديةِ. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمتاعا، فيكونَ في محلِّ نصبٍ، والباءُ للمصاحبةِ، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروفِ. وجَوَّز الحوفي وجهاً ثالثاً وهو أنْ يتعلَّقَ بنفسِ» متاعاً «.
قوله: ﴿حَقّاً﴾ في نصبِه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبله كقولِك:» هذا ابني حقاً «وهذا المصدرُ يَجبُ إضمارُ عامِله
والفاءُ في «فنصفُ» جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزمِ جواباً للشرطِ، وارتفاعُ «نصفُ» على أحدِ وجهين: إمَّا الابتداءُ والخبر حينئذ محذوفٌ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتُه قبله، أي: فعليكم أو فَلَهُنَّ نصفُ، وإنْ شِئْتَ بعدَه أي: فنصفُ ما فرضتُم عليكم - أو لَهُنَّ - وإمَّا على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ نصفُ.
وقرأ فرقة: «فنصفَ» بالنصبِ على تقدير: «فادْفَعُوا أو أَدُّوا». وقال أبو البقاء: ولو قُرِىء بالنصبِ لكان وجهُه «فأَدُّوا نصفَ» فكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً مرويَّةً.
والجمهورُ على كسر نونِ «نِصْف». وقرأ زيد وعلي، ورواها
قوله: ﴿إَلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ في هذا الاستثناءِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطية وغيرُه: «لأنَّ عفوهُنَّ عن النصف ليس من جنسِ أَخْذِهِنَّ». والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال، لأنَّ قولَه: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُم في كلِّ حال إلا في حالِ عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يَجِبُ، وإليه نحا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦]. قال الشيخ: «إلاَّ أَنْ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقع أَنْ وصلتُها حالاً كسيبويه فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً».
وقرأ الحسن «يَعْفُونَه» بهاء مضمومةٍ، وفيها وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النصفِ. والأصلُ: إلاَّ أَنْ يَعْفُونَ عنه، فَحُذِف حرفُ الجرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ. والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها تشبيهاً بهاءِ الضميرِ كقول الآخر:
١٠٠٥ - هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونَه | ......................... |
وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُون» بتاءِ الخطابِ، ووجهُها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيْبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهِنَّ وأنه مندوبٌ.
و «يَعْفُون» منصوبٌ بأَنْ تقديراً فإنَّه مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ الإِناثِ. هذا رأيُ الجمهور. وأمَّا ابن درستويه والسهيلي فإنه عندهما معربٌ. وقد فَرَّق الزمخشري وأبو البقاء بين قولك: «الرجالَ يَعْفُون» و «النساءُ يَعْفُون» وإنْ كان هذا من واضحاتِ النحو: بأنَّ قولك «الرجالُ يَعْفُون» : الواو فيه ضميرُ جماعة الذكورِ وحُذِفت قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: يَعْفُوُون فاستُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةً، فحُذِفت الواو الأولى لئلاَّ يتلقى ساكنان، فوزنُه يَفْعُون والنونُ علامة الرفعِ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ.
وأنَّ قولك: «النساء يَعْفُون» الواوُ لامُ الكلمةِ والنونُ ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعلُ معها مبنيٌّ لا يَظْهَرُ للعامِل فيه أثرٌ. وقد ناقش الشيخُ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلمِ تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّن حَذْفَ الواو من قولك «الرجال يعفون» وأنه لم يذكر خلافاً في بناء المضارع المتصل بنون الإِناث، وكلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُنَاقَشَ بمثلِه.
قوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الذي﴾ «أو» هنا فيها وجهان، أحدُهما: هي للتنويع. والثاني: أنها للتخييرِ. والمشهورُ فتحُ الواوِ عطفاً على المنصوبِ قبله. وقرأ
١٠٠٦ - فما سَوَّدَتْني عامِرٌ عن وراثةٍ | أبى اللَّهُ أَنْ أَسْمو بأمٍّ ولا أَبِ |
وتلخَّص من هذا أنَّ المرادَ بالقليلِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةً ما قبلها في اسم غيرٍ ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابنِ عطية «والذي عندي إلى آخره» بظاهر.
والمرادُ بقولِه: ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ قيل: الزوجُ: وقيلَ: الوليُّ، وأل في النكاحِ للعهدِ، وقيد بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه كقوله:
١٠٠٧ - لهمْ شَيمَةٌ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم | من الجودِ، والأحلامُ غيرُ عَوازِبِ |
قوله: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ﴾ «أن تَعْفُوا» في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل «عَفْوُكم»، و «أقربُ» خبره. وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فَغَلَّبَ المذكَّرَ، والظاهرُ أنه للأزواجِ خاصةً، لأنهم المخاطَبون في صدرِ الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قولُه: ﴿الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح﴾ - على قولنا أنَّ المرادَ به الزوجُ وهو المختارُ - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآيةِ. وقرأ
قوله: ﴿للتقوى﴾ متعلِّقٌ بأقرب، وهي هنا للتعديةِ، وقيل: بل هي للتعليلِ. و «أقربُ» تتعدَّى تارةً باللام كهذه الآيةِ، وتارةً بإلى كقولِه تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦]. وليست «إلى» بمعنى اللام، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعني التجوُّزَ في الحروفِ. ومعنى اللامِ و «إلى» في هذا الموضعِ يتقارَبُ.
وقال أبو البقاء: «ويجوزُ في غيرِ القرآن:» أقربُ من التقوى وإلى التقوى «إلاَّ أنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على معنىً غير معنى» إلى «وغير معنى» مِنْ «، فمعنى اللامِ: العفو أقربُ من أجل التقوى، واللام تدلُّ على علة قرب العفو، وإذا قلت: أقربُ إلى التقوى كان المعنى: يقارب التقوى، كما تقول:
فَجَعَلَ اللامَ للعلة لا التعديةِ، و «إلى» للتعديةِ.
واعلمْ أنَّ فِعْلَ التعجب وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلُهما قبل أن يكونَ تعجباً وتفضيلاً نحو: «ما أزهدني فيه وهو أزهدُ فيه»، وإنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإن كان الفعلُ يُفْهِمُ علماً أو جَهْلاً تعدَّيا بالباءِ نحو: «هو أعلمُ بالفقه»، وإنْ كان لا يُفْهِمُ ذلك تعدَّيا باللامِ نحو: «ما أضربَكَ لزيدٍ»، و «أنت أضربُ لعمروٍ» إلاَّ في بابِ الحُبِّ والبغضِ فإنهما يتعدَّيان إلى المفعولِ ب «في» نحو: «ما أحبَّ زيداً في عمروٍ وأبغضه في خالدٍ، وهو أحبُّ في بكر وأبغض في خالد» وإلى الفاعل المعنوي ب «إلى» نحو: «زيدٌ أحبُّ إلى عمروٍ من خالد، وما أحبَّ زيداً إلى عمرو»، أي: إنَّ عمراً يحبُ زيداً. وهذه قاعدةٌ جليلةٌ قَلَّ مَنْ يَضْبِطُها.
والمُفَضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوى من تَرْكِ العفوِ. والياءُ في التقوى بدلٌ من واو، وواوُها بدلٌ من ياءٍ لأنها من وَقَيْتُ أقِي وقايةً، وقد تقدَّم ذلك أول السورةِ.
قوله: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل﴾ الجمهورُ على ضَمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» لأنها واوُ ضميرٍ. وقرأ ابن يعمر بكسرِها تشبيهاً بواو «لو» كما ضَمُّوا الواو من «لو» تشبيهاً بواوِ الضميرِ. وقال أبو البقاء «في واو» تَنْسَوا «من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في ﴿اشتروا الضلالة﴾ [البقرة: ١٦]. وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامِه عَوْدُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَلْ هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.
قوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ ب» تَنْسَوُا «. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ أي: كائناً بينكم. والأولُ أَوْلى لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغَ من فعلٍ لا يكونُ بينهم.
وقال أبو البقاء: «ويكون وجوبُ تكريرِ الحفظِ جارياً مَجْرى الفاعِلين، إذ كان الوجوبُ حاثَّاً على الفعلِ، فكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ، كما قالوا في ﴿وَاعَدْنَا موسى﴾ [البقرة: ٥١] فالوعدُ من اللهِ والقَبولُ من موسى بمنزلةِ الوعد. وفي» حافِظوا «معنىً لا يوجَدُ في» احفظوا «وهو تكريرُ الحفظ» وفيه نظر؛ إذ المفاعلةُ لا تَدُلُّ على تكريرِ فعلٍ البتةِ.
١٠٠٨ - يا أوسطَ الناسِ طُرَّاً في مفاخِرهمْ | وأكرمَ الناسِ أمَّا بَرَّةً وأَبَا |
وقرأ علي: «وعلى الصلاة» بإعادةِ حرفِ الجَرِّ توكيداً، وقَرَأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - «والصلاةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان، أحدُهما على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشري، والثاني على موضعِ المجرورِ، مثلُه نحو: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة.
قوله: ﴿قَانِتِينَ﴾ حالٌ من فاعلِ «قوموا». و «لله» يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بقوموا، ويجوزُ أنَ تتعلَّق بقانتين، ويدلُّ للثاني قولُه تعالى: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ [البقرة: ١١٦]. ومعنى اللامِ التعليلُ.
١٠٠٩ - عليَّ إذا لاقَيْتُ ليلى بخُفْيَةٍ | أَنَ أزدارَ بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافِيا |
١٠١٠ - وبنو غُدانَةَ شاخِصٌ أبصارُهُمْ | يَمْشُون تحتَ بُطونِهِنَّ رِجَالا |
ورُكْبَان جمع راكِب، قيل: ولا يُقال إلاَّ لِمَنْ رَكِبَ جَمَلاً، فأمَّا راكبُ الفرسِ ففارسٌ، وراكبُ الحمار والبغل حَمَّار وبَغَّال، والأَجْوَدُ صاحبُ حمارٍ وبَغْلٍ. و» أو «هنا للتقسيمِ وقيلَ: للإِباحةِ، وقيل: للتخييرِ.
والثالث: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: كُتِبَ عليهم وصيةٌ، و «لأزواجهم» صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ أيضاً. ويؤيِّد هذا قراءةُ عبدِ الله: «كُتِبَ عليهم وصيةٌ» وهذا من تفسيرِ المعنى لا الإِعرابِ، إذ ليس هذا من المواضعِ التي يُضْمَرُ فيها الفعْلُ.
الرابع: «أن» الذينَ «مبتدأٌ على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ تقديرُهُ: ووصيةُ الذين.
والخامسُ: أنه كذلك إلا أنه على حَذْفِ مضاف من الثاني: تقديرُهُ:» والذين يُتَوَفَّوْنَ أهلُ وصية «ذكر هذين الوجهين الزمخشري. قال الشيخ:» ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك «.
وهذه الأوجُهُ الخمسةُ فيمنَ رَفَع» وصيةٌ «، وهم ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقونَ يَنْصِبُونها، وارتفاعُ» الذين «على قراءتهم فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ: وَلْيُوصِ الذين، ويكون نصبُ» وصية «على المصدر. والثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مبني للمفعولِ يتعدَّى لاثنين، تقديرُه: وأُلْزِم الذين يُتَوَفَّوْنَ/ ويكونُ نصبُ» وصية «على أنها مفعولٌ ثانٍ لألْزِمَ، ذكره الزمخشري. وهو والذي قبلَه ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل. والثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ،
قوله: ﴿مَّتَاعاً﴾ في نصبِهِ سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بلفظِ» وصية «لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يَضُرُّ تأنيثُها بالتاءِ لبنائِها عليها، فهي كقولِهِ:
١٠١١ - فلولا رجاءُ النصر مِنْكَ ورهبةٌ | عقابَك قد كانوا لنا كالموارِدِ |
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ: إمَّا من لفظِهِ أي: مَتِّعوهن متاعاً أي: تمتيعاً، أو من غير لفظهِ أي: جَعَل اللَّهُ لهنَّ متاعاً. والثالث: أنه صفةٌ لوصيةٍ، والرابع: أنه بدلٌ منها. الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبَها أي: يُوصُون متاعاً، فهو مصدرٌ أيضاً على غير الصدر ك «قَعَدْتُ جُلوساً»، هذا فيمن نَصَبَ «وصية. السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي مُمَتَّعين أو ذوي مَتاعٍ. السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، أي: ممتعاتٍ أو ذواتِ متاع، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانتِ الوصيةُ من الأزواج.
وقرأ أُبَيّ:» متاعٌ لأزواجِهِم «بدلَ» وصيةٌ «، ورُوي عنه» فمتاعٌ «، ودخولُ
قوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ في نصبِهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ ل» متاعاً «. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه حالٌ من الزوجات أي: غيرَ مخرجاتٍ. الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غيرَ مُخْرَجين. الخامس: أنه منصوب على المصدر تقديرُهُ: لا إخراجاً قاله الأخفش. السادس: أنه على حذفِ حرفِ الجرِّ، تقديرُهُ: مِنْ غيرِ إخراجٍ، قاله أبو البقاء، وفيه نظر.
قوله: ﴿فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ﴾ هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبرُ» لا «وهو» عليكم «من الاستقرارِ، والتقديرُ: لا جُنَاح مستقرٌّ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسِهِنَّ. و» ما «موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ: فَعَلْنَهُ. و» مِنْ معروف «متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من ذلك العائِد المحذوفِ تقديرُهُ. فيما فَعَلْنَه كائناً من معروف.
وجاء في هذه الآية» من معروفٍ «نكرةً مجرورةٌ ب» مِنْ «، وفي الآيةِ قبلها» بالمعروفِ «مُعَرَّفاً مجروراً بالباء لأنَّ هذه لامُ العهدِ، كقولك:» رأيتُ رجلاً فأكرمْتُ الرجلَ «إلاَّ أنَّ هذه وإنْ كانت متأخرةً في اللفظ فهي مُقَدَّمةٌ في التنزيل، ولذلك جَعَلَها العلماء منسوخةً بها إلا عند شذوذ. وتقدَّم نظائر هذه الجملِ، فلا حاجة إلى إعادةِ الكلامِ فيها.
١٠١٢ - ألم تَرَ أني كلما جِئْتُ طارِقاً | وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ |
وقرأ السلمي: «تَرْ» بسكون الراء، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تَوَهَّم أن الراءَ لامُ الكلمةِ فسَكَّنَهَا للجزمِ كقولِهِ:
١٠١٣ - قالَتْ سُلَيْمَى اشترْ لنا سَوِيقاً | واشترْ فَعَجِّل خادِماً لَبِيقا |
قوله: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملةُ في [موضع] نصبٍ على الحال، وهذا أحسنُ مجيئِها، إذ قد جُمَعَ فيها بين الواوِ والضمير. و «أُلوفٌ» فيه قولان، أظهرُهُما: أنه جمعُ «أَلْف» لهذا العَدَدِ الخاصِّ وهو جَمْعُ كثرةٍ، وجمعُ القلةِ: آلاف كحُمول وأَحْمال. والثاني: أَنه جَمْعُ «آلِف» على فاعِل كشاهد وشُهود وقاعِد وقُعود. أي: خَرَجوا وهم مؤتلفون، قال الزمخشري: «وهذا من بِدَع التفاسير».
قوله: ﴿حَذَرَ الموت﴾ مفعولٌ من أجلِهِ، وفيه شروطُ النصبِ، أعني المصدريةَ واتحادَ الفاعلِ والزمانِ. /
وألفُ «أحيا» عن ياء، لأنه من «حَيِيَ»، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه: ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ [البقرة: ٢٦] قوله: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ﴾ أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة ب «إنَّ» واللام، وأتى بخبرِ «إنَّ» :«ذو» الدالة على الشرفِ بخلافِ «صاحب». و «على الناسِ» متعلقٌ بفَضْل. تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر، أي: فضلٍ كائنٍ على الناس. وأل في الناسِ للعمومِ، وقيل للعهدِ، والمرادُ بهم الذين أماتهم.
قوله: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس﴾ هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قولُهُ ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾، لأنَّ تقديرَه: فيجِبُ عليهم أَنْ يشكُروا لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ والرزق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ.
ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الذي، وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما: أنَّ «الذي» الثاني تأكيدٌ له، لأنه بمعناه، كأنه قيل: مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ؟ والثاني: أن يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرهُ: «مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ» وذا وصلتُه خبرُ «مَنِ» الاستفهامية. أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك، وهما ضعيفان، والوجهُ ما قَدَّمْتُهُ.
وانتصَبَ «قرْضاً» على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ، إذ المعنى: إقراضاً كقوله: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [البقرة: ٢٦]، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ: «يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً»، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ: يقرضُ
«وحَسَناً» يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذ جعلنا «قَرْضاً» بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.
قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ قرأ عاصم وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ. والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه عطفٌ على «يقرضُ» الصلةِ. والثاني: أنه رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين، أحدُهما: أنه منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ» عطفاً على المصدر المفهومِ من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ، كقوله:
١٠١٤ - لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني | أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ |
معنىً كأنه قال: أيقرضُ اللَّهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء: «فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ/ الذي هو» قرضاً «كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار» أَنْ «مثلَ قولِ الشاعر:
١٠١٥ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّعَيْني | ..................... |
١٠١٦ - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٍ | وآلُ سبيعٍ أو أَسُوءَك عَلْقَما |
وقد تقدَّم أنه قرىء» يُضاعِفُ «و» يُضَعِّفُ «فقيل: هما بمعنىً، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو: عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير. وقيل: إنَّ» يُضَعِّف «لِما جُعِلَ مثلين، و» ضاعَفَه «لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك.
والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه:» المِقْراضُ «لِما يُقْطَع به، وقيل للقَرْض» قرض «لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، هذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العلم في» القَرْض «فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ عليه. وقيل: أن تُعْطِيَ شيئاً ليرجِعَ إليك مثلُهُ. وقال الزجاج:» هو البلاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «.
قوله: ﴿أَضْعَافاً﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الهاء في» يضاعِفُ «وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظاهرُ أنها مُبَيِّنَةٌ، لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخرَ، فَفُهِمَ منها ما لا يُفْهَمُ من عاملِها، وهذا شأنُ المبيِّنة. والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين» يضاعِفُ «معنى يُصَيِّر، أي: يُصَيِّره بالمضاعَفَةِ أضْعافاً.
والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ.
١٠١٧ - أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني | وبعدَ عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا |
وقرأ أبو عمرو [وابن عامر وحمزة وحفص وقنبل] «وَيَبْسُطُ» بالسين على الأصلِ، والباقون بالصادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقُه في «الصراط».
١٠١٨ - لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكَرِمُ أهلَه | وأَقْعُدُ في أفنائِهِ بالأصائِلِ |
والملأ: الأشْرافُ، سُمُّوا بذلك لأنهم يَمْلَؤُون العيونَ هيبةً، [أو المجالسَ إذا حَضَروا]، أو لأنهم مَليئون بما يُحْتاج إليهم فيه. وقال الفراء: «الملأُ: [الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك] القومُ والرهطُ والنفرُ، ويُجْمع على أَمْلاء، قال:
١٠١٩ - وقالَ لها الأملاءُ من كلِّ مَعْشَرٍ | وخيرُ أقاويل الرجالِ سديدُها |
و ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾ متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ الأولُ وهو الاستقرار، ولا يَضُرُّ اتحادُ الحرفينِ لفظاً لاختلافِهما معنىً، فإنَّ الأولى للتبعيض والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ. وقال أبو البقاء:» مِنْ بعدِ «متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول» يعني بالأول: «من بني»، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمَّنه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرفِ والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو: «زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق
قوله: ﴿إِذْ قَالُواْ﴾ العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين، أحدُهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء والثاني: أنه «ألم تر» وكلاهما غيرُ صحيحٍ. أمَّا الأولُ فلوجهين. أحدُهما: من جهة اللفظِ، والآخرُ: مِنْ جهةِ المعنى. فأمّا الذي من جهةِ اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ». الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «من» كوقت وحين لم يَصِحَّ ذلك أيضاً، لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديرُه: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يَصِحَّ هذا المعنى. وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ، وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولِهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يَصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديرُه: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديثِ الملأ أو ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يَصِحُّ إلا به لِما تَقدَّم.
قوله: ﴿لِنَبِيٍّ﴾ متعلِّقٌ ب «قالوا»، فاللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ
قوله: ﴿نُّقَاتِلْ﴾ الجمهورُ بالنونِ والجزمِ على جوابِ الأمر. وقرىء بالياء والجزمِ على ما تقدَّم، وابنُ أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللامِ على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبُ. وقُرىء بالنونِ ورفعِ اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً أي: ابعَثْه، لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ.
قوله: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ عسى واسمُها، وخبرُها ﴿أَلاَّ تُقَاتِلُواْ﴾ والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله: ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠]، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبرِ، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعلٍ متعدٍ فيقولُ: «عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدَها مفعولٌ به تقديرُه: هل قَارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ.
وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسرِ السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً/ ومع ن، ومع نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال: «عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي
وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَسٍ بكذا «مثلَ: حَرٍ وشَجٍ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «. فإن قيل فهو القياسُ، وإنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره» فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهرِ بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرُه من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عسىٍ» أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحويون على أن «عسى» لا تتصرَّف.
واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلَتْ عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري: «والمعنى: هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقولَ: عَسَيْتُم ألاَّ تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه، كقوله تعالى: ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ [الإنسان: ١] معناه التقريرُ»
١٠٢٠ - لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائماً | ......................... |
١٠٢١ - إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدَهمْ | لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلكِم ناما |
قوله: ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ﴾ هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا في محلِّ رفع خبر ل» ما «.
و» ألاَّ نقاتِلَ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ، والتقديرُ: وما لَنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ» في «مع» أَنْ «فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو» لنا «، أو بما يتعلَّق هو به على حَسَبِ ما تقدَّم في ﴿مِن بَعْدِ موسى﴾. والثاني: مذهبُ الأخفش أنَّ» أَنْ «زائدةٌ، ولا يَضُرُّ عملُهَا مع زيادتِها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجرِ الزائدةِ، وعلى هذا فالجملةُ المنفيَّة بعدَها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه
وأمَّا قولُه: «إنَّ قولَهم إياك أَنْ تتكلم على حذفِ الواوِ» فليس كما زعم، بل «إياك» ضُمِّنتْ معنى الفعلِ المرادِ به التحذيرُ، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذَرْ التكلمَ.
قولُه: ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها: «نقاتلُ»، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحالِ. وهذه قراءةُ الجمهورِ، أعني بناء الفعلِ للمفعولِ. وقرأ عمرو بن عبيد: «أَخْرَجَنا» على البناء للفاعل. وفيه وَجْهان، أحدُهما: أنه ضميرُ اللهِ تعالى، أي: وقد أَخرَجَنا الله بذنوبنا. والثاني: أنه ضميرُ العدوّ.
«وأبنائنا» عَطْفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائِنا، فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: «من بين أبنائِنا» كذا قدَّره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلبِ، والأصلُ: وقد أُخْرِجَ أبناؤنا منا، ولا حاجةَ إلى هذا.
وقرأ أُبَي: «إلاَّ أن يكونَ قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكونَ معنىً من المعاني والمستثنى منه جُثَتٌ. وهذه المسألةُ/ تحتاجُ إلى إيضاحها لكثرة ِفائدتِها. وذلك أنّ العربَ تقول: «قام القومُ إلا أَنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصبِ، فالرفعُ على جَعْلِ «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصبُ على جَعْلَهَا ناقصةً، و «زيداً» خبرُها واسمُها ضميرُ عائدٌ على البعض المفهومِ من قوةِ الكلامِ، والتقديرُ: قام القوم إلا أَنْ يكونَ هو - أي بعضُهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كونَ زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونُه قائماً انتفى قيامُهُ. فلا فرقَ من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً»، إلا أن الأولَ استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لِما تقدَّم تقريرُه.
قوله: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ الملك﴾ «أنَّى» فيه وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى كيف، وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنها بمعنى مِنْ أين، أجازه أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النصبُ على الحالِ، وسيأتي الكلام في عامِلها ما هو؟ و «يكون» فيها وجهان، أحدُهما: أنها تامةٌ، و «الملك» فاعلٌ بها و «له» متعلقٌ بها، و «علينا» متعلقٌ بالملك، تقول: «فلان مَلَك على بني فلان أمرَهم» فتتعدى هذه المادةُ ب «على»، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك»، و «يكون» هي العاملةُ في «أنَّى»، ولا يجوز أن يعملَ فيها أحدُ الظرفين، أعني «له» و «علينا» لأنه عاملٌ معنوي والعاملُ المعنوي لا تتقدَّمُ عليه الحالُ على المشهور. والثاني: أنها ناقصةٌ و «له» الخبر «، و» علينا «متعلقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» المُلك «كما تقدَّم، والعاملُ في هذه الحالِ» يكون «عند مَنْ يُجيز في» كان «الناقصةِ أن تعملَ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بنفس المُلْك كما تقدَّم تقريرُه، والعاملُ في» أنَّى «ما تعلَّق به الخبرُ أيضاً، ويجوز أن يكونَ» علينا «هو الخبر، و» له «نصبٌ على الحال، والعاملُ فيه الاستقرارُ المتعلِّقُُ به الخبرُ، كما تقدم تقريره، أو» يكون «عند مَنْ يُجيز ذلك في الناقصة. ولم أرَ مَنْ جَوَّز أن تكونَ» أنى «في محلِّ نصب خبراً ل» يكون «بمعنى» كيف يكون الملك علينا له «ولو قِيل به لم يمتنع معنىً ولا صناعةً.
و «سَعَةً» وزنُها «عَلَة» بحذفِ الفاءِ وأصلُها «وُسْعَة» وإنما حُذِفَتِ الفاءُ في المصدر حَمْلاً على المضارع، وإنما حُذِفَتْ في المضارع لوقوعِها بين ياءٍ - وهي حرفُ المضارعة - وكسرةٍ مقدرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثلُ «وَثِق»، فحقُّ مضارعهِ أن يجيء على يَفْعِل بكسرِ العين، وإنما مَنَعَ ذلك في «يَسَع» كونُ لامهِ حرف حلقٍ فَفُتِحَ عينُ مضارعهِ لذلك، وإنْ كان أصلُها الكسرَ، فَمِنْ ثَمَّ قلنا: بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرةٍ، والدليلُ على ذلك أنهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يَحْذفوها لمَّا كانت الفتحةُ أصليةً غير عَارِضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابِهما.
فإن قيل: قد رأيناهم يَحْذِفُون هذه الواو وإنْ لم تَقَعْ بين ياءٍ وكسرةٍ، وذلك إذا كان حرفُ المضارعةِ همزة نحو: «أَعِدُ» أو تاءً نحو: «تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد»، وكذلك في الأمرِ والمصدر نحو: «عِدْ عِدة حسنةً» فالجوابُ أنَّ ذلك بالحَمْلِ على المضارع مع الياءَ طَرْداً لِلْبَاب، كما تقدَّم لنا في حذفِ همزةِ أَفْعَلَ إذا صار مضارعاً لأجلِ همزةِ المتكلمِ ثم حُمِل باقي البابِ عليه.
وفُتِحَتْ سينُ «السَّعة» لَمَّا فُتِحَتْ في المضارعِ لأجل حرفِ الحلقِ، كما كُسِرت عينُ «عِدة» لَمَّا كُسِرَت في «يَعِد» إلا أنه يُشْكِلُ على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كَسَروا الهاء في المصدرِ وإنْ كانت مفتوحةً في المضارعِ لأجْلِ أنَّ العينَ حرفُ حلقٍ، فلا فرقَ بين «يَهَب» و «يَسَع» في كونِ الفتحةِ عارضةً
و «من المال» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بيُؤْتَ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسَعَة، أي: سَعَةً كائنةً من المالِ.
قوله: ﴿فِي العلم﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولِك: «بَسَطْتُ له في كذا». والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة» أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة.
و «واسعٌ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على النسبِ أي: ذو سَعَةِ رحمةٍ، كقولهم: لابن وتامر أي: صاحبُ تمرٍ ولبنٍ. والثاني: أنه جاءَ على حذفِ الزوائدِ من أَوْسَع، وأصلُه مُوْسِع. وهذه العبارةُ إنما يتداولُها النحويون في المصادرِ فيقولون: مصدر/ على حذفِ الزوائدِ. والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً. قال أبو البقاء: فالتقديرُ على هذا: واسعُ الحلم، لأنك تقول وَسِعَ حلمُه «.
وفي «التابوتِ» قولان، أحدُهما: أنه فاعولٌ، ولا يُعْرَفُ له اشتقاقٌ، وَمَنَع قائلُ هذا أن يكون وَزْنُه فَعَلُوتاً مشتقاً من تابَ يَتوبُ كَمَلَكوت من المُلْكِ ورهَبوت من الرُّهْبِ، قال: لأنَّ المعنى لا يساعِدُ على ذلك. والقول الثاني: أن وزنَه فَعَلوت كمَلَكوت، وجَعَلَه مشتقاً من التَّوْب وهو الرجوعُ، وجَعَلَ معناه
والمشهورُ أن يوقَفَ على تائِه بتاءٍ من غير إبدالِها هاءً لأنها: إمَّا أصلٌ إنْ كان وزنُه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغيرِ التأنيثِ كمَلَكوت، ومنهم مَنْ يَقْلِبها هاءً، وقد قُرِىء بها شاذاً، قرأها أُبيّ وزيد بن ثابت وهي لغةُ الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كَتَبوا المصاحفَ زمنَ عثمانَ رضي الله عنه اختلفوا فيه فقالَ زيد: «بالهاء»، وقال [أُبَيّ:] «بالتاء»، فجاؤوا عثمان فقال: «اكتبوه على لغةِ قريش» يعني بالتاء.
وهذه الهاءُ هل هي أصلٌ بنفسِها فيكونُ فيه لغتان، ووزنُه على هذا فاعول ليس إلا، أو بَدَلٌ من التاءِ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهَمْسِ، أو إجراءً لها مُجْرى تاءِ التأنيث؟ فقال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أَنْ يكونَ فَعَلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا لقلةِ نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ»، يعني أنَّ اتِّحاد الفاءِ واللامِ في اللفظِ قليلٌ جداً. «ولأنه تركيبٌ غيرُ معروفٍ» يعني في الأوزان العربية، ولا يجوز تَركُ المعروفِ [إليه] فهو إذاً فَعَلوت من التوبِ وهو الرجوعُ، لأنه ظرفٌ تُودَعُ فيه الأشياءُ فَيُرْجَعُ إليه كلَّ وقتٍ.
وأَمَّا مَنْ قرأ بالهاءِ فهو فاعول عندَه، إلاَّ مَنْ يَجْعَلُ هاءَه بدلاً من التاءِ لاجتماعِهِما في الهَمْسِ، ولأنهما من حروفِ الزيادة، ولذلك أُبْدِلَتْ منه تاءِ التَّأنِيثِ.
قوله: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «سكينة»، ومحلُّه الرفعُ.
ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأَنْ تكونَ للتبعيضِ. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: من سكيناتِ ربكم.
و «بَقِيَّة» وزنها فَعِيلة والأصلُ: بَقِيْيَة بياءين، الأولى زائدةٌ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُدْغِمَ، ولا يُسْتَدَلُّ على أنَّ لامَ «بَقِيَّة» ياءٌ بقولهِم: «بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواوَ إذا انكسَرَ ما قبلَهَا قُلِبَت ياءً، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواوِ: الشِّقْوَة والرِّضوان.
و «مِمَّا تَرَك» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «بَقَيَّة» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتبعيضِ، أي: من بَقِيَّاتِ ربكم، و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، ولا تكونُ نكرةً ولا مصدريةً.
و «آل» تقدَّم الكلامُ فيه، وقيل: هو هنا زائدٌ كقولِهِ:
قوله: ﴿تَحْمِلُهُ الملائكة﴾ هذه الجملةُ تحتملُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التابوتِ أي: محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إذ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تَحْمِلُهُ الملائكةُ.
وقرأ مجاهد» يَحْمِلُه «بالياء من أسفلَ، لأنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ فيجوزُ في فِعْلِهِ الوجهان. و» ذلك «مشارٌ به قيل: إلى التابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأحسنُ لتناسِبَ آخرُ الآيةِ أولَها. و» إنْ «الأظهَرُ فيها أنها على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى» إذ «.
و «بالجنودِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «طالوت» أي: مصاحباً لهم. وبين جملةِ قولِهِ «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ
والجمهورُ على قراءةِ «بنهَر» بفتح الهاء وهي اللغةُ الفصيحةُ، وفيه لغةً أخرى: تسكينُ الهاء، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآنِ، وقد تقدَّم ذلك واشتقاقُ هذه/ اللفظة عند قولِهِ تعالى: ﴿مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ [البقرة: ٢٥].
وأصلُ الياء في «مُبْتَلِيكُمْ» واوٌ لأنه من بَلاَ يَبْلُوا أي: اختبَرَ، وإنَّما قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلَها.
وقوله: ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي: من أشياعي وأصحابي، و «من» للتبعيضِ، كأنه يجعلُ أصحابَه بعضَه، ومثلُه قولُ النابغة:
١٠٢٢ - بثينةُ من آلِ النساءِ وإنَّما | يَكُنَّ لوصلٍ لا وصالَ لغائِبِ |
١٠٢٣ - إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجوراً | فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنِّي |
١٠٢٤ - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ | وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا |
والثاني: أنه مستثنى من الجملةِ الثانيةِ، وإليه ذهب أبو البقاء. وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أن المعنى: ومَنْ لم يَطْعَمْه فإنه مني إلاَّ مَنِ اغتَرَف بيدِهِ فإنه ليس مني، لأنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ، ومن الإِثباتِ نفيٌ، كما هو الصحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غَرفةً واحدةً.
والاستثناء إذا تعقَّبَ الجملَ وصَلَحَ عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة أم لا؟ خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دَلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجملِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيلِ، فإنَّ المعْنى يعود إلى عَوْدِه إلى الجملَةِ الأولى لا الثانيةِ لِمَا ذكرْتُ لك.
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو:» غَرفة «بفتحِ الغين والباقون بضمها.
فقيل: هما بمعنى المصدرِ، إلاَّ أنهما جاءا على غيرِ الصدر كنبات من أَنْبَتَ،
ونُقِلَ عن أبي عليّ أنه كان يُرَجِّح قراءة الضم لأنه في قراءةِ الفتح يَجْعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعلَ في بنائِهِ، إنما جاء على حَذْفِ الزوائد وجَعْلُها بمعنى المفعول لا يُحْوِج إلى ذلك فكانَ أرجَح.
قوله: ﴿بِيَدِهِ﴾ يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغَتَرف» وهو الظاهِرُ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفة»، وهذا على قولِنا بأن «غُرفة»، بمعنى المفعولِ أظهرُ منه على قولِنَا بأنها مصدرٌ، فإنَّ الظاهرَ من الباءِ على هذا أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي غُرفةً كائنةً في يدهِ.
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبدُ الله وأُبَيّ «إلا قليلٌ»، وتأويلُهُ أنَّ هذا الكلامَ وإن كان موجباً لفظاً فهو منفيٌّ معنىً، فإنه في قوةِ: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جَعَلَهُ تابعاً لِمَا قبله في الإِعراب. قال الزمخشري: «وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللفظِ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من علمِ العربيةِ، فلمَّا كان معنى» فَشَرِبُوا منه «في معنى»
١٠٢٥ - وَعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ | من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ |
ولا بُدَّ من التعرُّضِ لهذه المسألةِ لعمومِ فائدِتهَا فأقولُ: إذا وَقَع في كلامِهِم استثناءٌ موجَبٌ نحو:» قام القومُ إلا زيداً «فالمشهورُ وجوبُ النصبِ على الاستثناءِ. وقال بعضُهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ» إلا «ما قبلَها في الإِعراب فتقول:» مررت بالقومِ إلا زيدٍ «بجرّ» زيد «، واختلفوا في تابِعِيَّةِ هذا، فعبارةُ بعضِهم أنه نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإلاَّ وما بعدَها مطلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً أم نكرةً مضمراً أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النعتِ لِما قَد عَرَفْتَ فيما تقدَّم. ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إلا نكرةً أو معرفةً بأل الجنسيةِ لقربِها من النكرةِ.
ومنهم مَنْ قال: قَوْلُ النَّحْوِيين هنا نعتٌ إنما يَعْنُون به عطفَ البيانِ. ومن مجيءِ الإِتباعِ بما بعد «إلاَّ» قولُهُ:
١٠٢٦ - وكلُّ أَخٍ مفارقُه أخوه | لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ |
ويجوز إدغامُ هاء «جاوزه» في هاء «هو»، ولا يُعْتَدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ لأنها ضعيفةٌ، وإنْ كان بعضُهم استضعَفَ/ الإِدغامَ، قال: إلا أَنْ تُخْتَلَس الهاءُ «يعني فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءةُ أبي عمرو. وأَدْغَمَ أيضاً واوَ» هو «في واو العطف بخلافٍ عنه، فوجهُ الإِدغام ظاهرٌ لالتقاء مِثْلين بشروطِهِما. ومَنْ أظهر وهو ابنُ مجاهد وأصحابُهُ قال:» لأنَّ الواو إذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سَكَنَت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلَها ضمة، فصارَتْ نظيرَ: «آمنوا وكانوا» فكما لا يُدْغم ذاك لا يدغم هذا «. وهذه العلةُ فاسدةٌ لوجهين، أحدُهما: أنها [ما] صارَتْ مثلَ» آمنوا وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإنهم أدغموا: ﴿يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وهو نظيرُ: ﴿فِي يَوْمٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] و ﴿الذى يُوَسْوِسُ﴾ [الناس: ٤] بعينِ ما عَلَّلوا به.
قوله: ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا﴾ » لنا «هو خبرٌ» لا «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. ولا يجوز أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعدَه من قولِهِ» اليوم «و» بجالوت «لأنه حينئذٍ يَصير مُطَوَّلاً، والمُطوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراه مبنياً على الفتح، بل» اليوم «و» بجالوت «متعلِّقان بالاستقرارِ الذي تعلَّق به» لنا «.
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ» بجالوت «هو خبرَ» لا «، و» لنا «حينئذٍ: إما تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطاقة.
والطاقَةُ: القدرةُ وعينُها واو، لأنها من الطَّوْق وهو القدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزوائِد، فإنَّها من» أَطَاق «ونظيرُها: أجاب جابةً، وأغار غارةً، وأطاع طاعةً.
قوله: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ﴾ «كم» خبريةٌ فإنَّ معناها التكثيرُ، ويدل على ذلك قراءة أُبَيّ: «وكائن» وهي للتكثير ومحلُّها الرفعُ بالابتداء و «من فئةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيء مميِّزها ومميِّز «كائن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذَفُ «مِنْ» فَيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصحيح، وقد يُنْصَبُ حَمْلاً على مميِّز «كم». الاستفهامية، كما أنه قد يُجَرُّ الاستفهاميةِ حمْلاً عليها وذلك بشروط مذكورةٍ في النحو. ومِنْ مجيءِ مميِّز «كائن» منصوباً قولُ الشاعر:
١٠٢٧ - اطرُدِ اليأسَ بالرجاءِ فكائِنْ | آلماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ |
وفي «فئة» قولان أحدُهما: أنها من فاء يَفِيء أي: رَجَعَ فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة. والثاني: أنها من فَأْوَتُّ رأسَه ي: كسرتُه، فحُذِفَت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إلاَّ أنَّ لامَ مئة ياءٌ ولامَ هذه واوٌ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من الناس يَرْجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من الناسِ كقِطَعِ الرأسِ الكسَّرة.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ،
وقوله: ﴿والله مَعَ الصابرين﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، وتَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يكونَ محلُّها النصبَ على أنها من مقولهم. والثاني: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أنها استئنافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بها.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ﴾ قرأ نافع هنا، وفي الحج: «دِفاع» والباقون: «
١٠٢٨ - ولقد حَرَصْتُ بأَنْ أدافعَ عنهُم | فإذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ |
ومَنْ قرأ «دفاع» وقرأ في الحج ﴿يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾ [الآية: ٣٨] وهو نافع، أو قرأ «دَفْع» وقرأ «يَدْفَع» - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصلَه، فجاء بالمصدرِ على وَفْقِ الفعل. وأمَّا من قرأ هنا «دَفْع» وفي الحج «يُدافِع» وهم الباقون فقد جَمَعَ بين اللغتين، فاستعمل الفعلَ من الرباعي والمصدرَ من الثلاثي. والمصدرُ هنا مضافٌ لفاعِله وهو الله تعالى، و «الناسَ» مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌ من «الناسِ» بدلٌ بعضٍ مِنْ كُلٍّ.
و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدرِ، والباءُ للتعديةِ، فمجرورُها المفعولُ الثاني في المعنى، والباءُ إنما تكون للتعديةِ في اللازمِ نحو: «ذَهَبَ به» فأمّا المتعدِّي لواحدٍ فإنما يتعدَّى بالهمزة تقول: «طَعِمَ زيدٌ اللحم وأَطْعَمْتُه اللحم» / ولا تقول: «طَعِمْته باللحم» فتعدِّيه إلى الثاني بالباءِ إلاَّ فيما شَذَّ قياساً وهو «دَفَع» و «صَكَّ»، نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صَكَكْتُ الحجرَيْنِ أحدَهما بالآخر.
قوله: ﴿ولكن الله﴾ وجهُ الاستدراكِ أنه لَمَّا قسَّم الناسَ إلى مدفوعٍ ومدفوعٍ به، وأنه بهذا الدفعِ امتنع فسادُ الأرض فقد يَهْجِسُ في نفسِ مَنْ
و «على» يتعلَّق ب «فَضْل»، لأنَّ فعلَه يتعدَّى بها، وربما حُذِفَتْ مع الفعلِ. قال - فَجَمع بين الحذف والإِثبات -:
١٠٢٩ - وجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً | كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفَصيلِ |
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّمَيْفَع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ ونصبِ الجلالة، و «كليم» على هذا معنى مكالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالط. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ لأنه خروجٌ من ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه في قوله: «فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظاهرِ الذي هو في حكمِ الغائبِ.
قوله: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ في نصبِه ستةُ أوجهٍ، أحدها أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ. الثاني: انه حالٌ على حذفِ مضافٍ، أي: ذوي درجاتٍ. الثالث: أنه مفعول ثان ل «رفع» على أنه ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات. الرابع أنه بدلُ اشتمالٍ أي: رَفَع درجاتٍ بعضَهم، والمعنى: على درجاتِ بعض. الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظِه، لأن الدرجةَ بمعنى الرَّفْعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضَهم رَفعاتٍ. السادس: أنه على إسقاطِ الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يكونَ «على» أو «في» أو «إلى» تقديرُه: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجاتٍ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.
و «مِنْ بعدِهم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صلةٌ، والضميرُ يعودُ على الرسل. و ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ﴾ فيه قولان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قولِه: «مِنْ بعدِهم» بإعادةِ العاملِ. والثاني: أنه متعلقٌ باقتتل، إذ في البينات - وهي الدلالاتُ الواضحةُ - ما يُغْنِي عن التقاتلِ والاختلافِ. والضميرُ في «جاءتهم» يعودُ على الذين مِنْ بعدِهم، وهم أممُ الأنبياء.
قوله: ﴿ولكن اختلفوا﴾ وجهُ هذا الاستدراكِ واضحٌ، فإنَّ «لكن» واقعةٌ بين ضدين، إذ المعنى: ولو شاءَ اللهُ الاتفاقَ لاتفقوا ولكنْ شاءَ الاختلافَ فاختلفوا. وقال أبو البقاء: «لكنْ» استدراكٌ لما دَلَّ الكلامُ عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ فلا محلَّ حينئذٍ لقولِه: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ﴾.
وقوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾ فيه قولان، أحدُهما: أنها الجملةُ الأولى كُرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري. والثاني: أنها ليست لتأكيدِ الأولى، بل أفادَتْ فائدةٌ جديدةً، والمغايَرةُ حَصَلَتْ بتغايرِ متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّقَ الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئةِ الثانيةِ، والتقديرُ في الأولى: «ولو شاءَ الله أن يَحُولَ بينهم وبين القتال بأن يَسْلُبَهم القِوى والعقول، وفي الثاني: ولو شاءَ لم يأمرِ المؤمنين بالقتال، ولكن شاءَ أَمَرهم بذلك. وقوله: ﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ هذا استدراكٌ أيضاً على المعنى، لأنَّ المعنى: ولو شاءَ الله لمنعَهم [
و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: رزقناكُموه، وأن تكونَ مصدريةً فلا حاجةَ إلى عائدٍ، ولكن الرزقَ المرادَ به المصدرُ لا يُنفقُ، فالمراد به اسمُ المفعول، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قولِه: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣].
قوله: ﴿مِّن قَبْلِ﴾ متعلقٌ أيضاً بأنفِقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافِهما معنىً؛ فإنَّ الأولى للتبعيضِ والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ، و «أَنْ يأتي» في محلِّ جرٍ بإضافة «قبل» إليه أي: من قبلِ إتيانه.
وقوله: ﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ﴾ إلى آخره: الجملةُ المنفيَّةُ صفةٌ ل «يوم» فمحلُّها الرفعُ. وقرأ/ «بَيْعٌ» وما بعدَه مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيهُ ذلك، مذكورٌ في قوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧] فليُنْظر ثَمَّةَ.
والخُلَّة: الصداقة كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وَسْطَها.
والخُلَّة: الصديقُ نفسه، قال:
١٠٣٠ - وكان لها في سالفِ الدهرِ خُلَّةً | يُسارِقُ بالطَّرْفِ الخِباءَ المُسَتَّرا |
و «الحيُّ» فيه قولان، أحدهما: أن أصله حَيْيٌ بياءين من حَيي يَحْيَا فهو حيٌّ، وهذا واضح، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أن أصلَه حَيْوٌ فلامه
وفي وزنه أيضاً قولان، أحدُهما: أنه فَعْل، والثاني: أنه فَيْعِل فَخُفِّف، كما قالوا مَيْت وهَيْن، والأصل: هَيّن ومَيّت.
والقَيُّوم: فَيْعُول من قام بالأمر يَقُوم به إذا دَبَّره، قال أمية:
١٠٣١ - لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ... والشمسُ معها قَمَر يَعُومُ
قَدَّره مهيمنٌ قَيُّومُ... والحشرُ والجنةُ والنعيمُ
إلا لأمرٍ شأنُه عظيمُ... وأصلُه قَيْوُوم، فاجتمعت الياءُ والواوُ وسَبَقَت إحداهما بالسكون فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياءُ فصارَ قَيُّوماً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش: «القَيَّام»، وقرأ علقمة: «القَيِّم» وهذا كما يقولون: دَيُّور وديار ودَيِّر. ولا يجوز أن يكونَ وزنُه فَعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك لكان لفظُه قَوُّوما، لأن العينَ المضاعَفَةَ أبداً من جنس الأصلية
قوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحدِ أوجهِ رفعٍ الحيّ. الثاني: أنها خبرٌ عن الله تعالى عند مَنْ يُجيز تعدُّد الخبرِ. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في «القَيُّوم» كأنه قيل: يقوم بأمر الخلق غيرَ غافلٍ، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها استئنافٌ إخبارٍ، أخبر تعالى عن ذاتِه القديمة بذلك. الخامس: أنها تأكيدٌ للقَيُّوم لأن مَنْ جاز عليه ذلك استحالَ أن يكونَ قَيُّوماً، قاله الزمخشري، فعلى قولِه إنها تأكيدٌ يجوز أن يكونَ محلُّها النصبَ على الحالِ المؤكدة، ويجوز أن تكونَ استئنافاً وفيها معنى التأكيدِ فتصيرُ الأوْجُه أربعةً.
والسِّنَةُ: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النومَ من الفتور، قال عديّ بن الرقاع:
١٠٣٢ - وَسْنانُ أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ | في عينِه سِنَةٌ وليس بنائمِ |
قوله: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات﴾ هي كالتي قبلها إلاَّ في كونِها تأكيداً و «ما» للشمولِ. واللامُ في «له» للمِلْك، وكرَّر «ما» تأكيداً، وذَكَر هنا المظروفَ دون الظرفِ لأنَّ المقصودَ نفيُ الإلهية عن غيرِ الله تعالى، وأنه لا ينبغي أَنْ يُعْبد إلا هو، لأنَّ ما عُبِد من دونِه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنامِ وبعضِ بني آدم، فكلُّهم مِلْكُه تعالى تحتَ قهرِه، واستغنى عن ذِكْر أنَّ السماواتِ والأرضَ مِلْكٌ له بذكرِه/ قبل ذلك أنه خالقُ السماوات والأرض.
قوله: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ كقوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ﴾ [البقرة: ٢٤٥] و «مَنْ» وإن كان لفظُها استفهاماً فمعناه النفيُ، ولذلك دَخَلتْ «إلا» في قولِه «إلاّ بإذنه».
و «عنده» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بيَشْفَع.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لكونِه [حالاً] من الضمير في «يَشْفع» أي يَشْفَعُ مستقراً عنده، وقوي هذا الوجهُ بأنه إذا لم يَشْفَعُ عنده مَنْ هو عنده وقريبٌ منه فشفاعةُ غيرِه أبعدُ. وضَعَّفَ بعضُهم الحالِيَّة بأنَّ المعنى: يَشْفَع إليه.
و «يَعْلَمُ» هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ خبراً لأحدِ المبتدأين المتقدمين أو استئنافاً أو حالاً. والضميرُ في «أيديهم» و «خلفهم» يعودُ على «ما» في قوله: ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ إنه غَلَّبَ مَنْ يعقِلُ على غيرِه. وقيل: يعودُ على العُقَلاء ممَّن تضمَّنه لفظُ «ما» دونَ غيرِهم. وقيل: يعودُ على ما دَلَّ عليه «مَنْ ذا» من الملائكةِ والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصةً.
قوله: ﴿بِشَيْءٍ﴾ متعلِّقٌ بيحيطون. والعلمُ هنا بمعنى المَعْلوم لأنَّ عِلْمَه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِه المقدَّسة لا يتبعَّضُ، ومِنْ وقوعِ العلم موقعَ المعلوم قولُهم: «اللهم اغفر لنا عِلْمَك فينا» وحديثُ موسى والخَضِر عليهما السلام «ما نَقَص عِلْمي وعلمُك من عِلمه إلاَّ كما نَقَص هذا العصفورُ من هذا البحر» ولكونِ العلمِ بمعنى المعلومَ صَحَّ دخولُ التبعيضِ، والاستثناءُ عليه. و «مِنْ علمه» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بيحيطون، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لشيء، فيكونَ في محلَّ جر. و «بما شاءَ» متعلِّقٌ بيُحيطون أيضاً، ولا يَضُرُّ تعلُّقُ هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأوَّلَيْن بإعادةِ العاملِ بطريقِ الاستثناءِ، كقولك: «ما مررت بأحدٍ إلا بزيدٍ» ومفعولُ «شاء» محذوفٌ تقديرُه: إلا بما شاء أن يُحيطوا به، وإنما قَدَّرتُه كذلك لدلالةِ قوله: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ﴾.
و «كرسيُّه» بالرفع على أنه فاعلُه، وقُرىء «وَسْعَ» سَكَّن عينَ الفعلِ تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرىء أيضاً: «وَسْعُ كرسيِّه» بفتح الواو وسكونِ السين ورفعِ العين على الابتداء، «كرسيِّه» خفضٌ بالإِضافة، «السماواتُ» رفعاً على أنه خبرٌ للمبتدأ.
والكُرْسِيُّ الياءُ فيه لغير النسب واشتقاقُه من الكِرْس وهو الجمع، ومنه الكُرَّاسة للصحائف الجامعةِ للعلمِ، ومنه قولُ العجاج:
١٠٣٣ - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رسماً مُكْرَساً | قال نَعَمْ أعرِفُه وأَبْلَسا |
١٠٣٤ - قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلى القُدْسِ | أنَّ أبا العباسِ أَوْلِى نَفْسِ |
١٠٣٥ - يَحُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ | كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ |
١٠٣٦ - مالي بأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكاتِمُهُ | ولا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللَّهُ - مَخْلُوقِ |
قوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ﴾ يقال: آدَه كذا أي: أَثْقله ولَحِقه منه مَشَقَّةٌ، قال:
١٠٣٧ - ألا ما لسَلْمَى اليومَ بَتَّ جَدِيدُها | وَضَنَّتْ وما كانُ النَّوالُ يَؤُودُها |
و «حِفْظ» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِهِ، أي لا يَؤُوْده أَنْ يحفظَهما.
و «العليّ» أصلُه: عَلِيْوٌ فأُدْغم نحو: مَيِّت، لأنه من علا يعلو، قال:
١٠٣٨ - فَلَمَّا عَلَوْنَا واستَوَيْنَا عليهِمُ | تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لنسرٍ وكاسِرِ |
١٠٣٩ - فكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإِسْ | فَنْطِ ممزوجةً بماءٍ زُلالِ |
قال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف تَرَتَّبَتِ الجملُ في آيةِ الكرسي غير حرفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلا وهي واردةٌ على سبيل البيانِ لما تَرَتَّبَتْ عليه، والبيانُ مُتَّحِدٌ بالمُبَيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب: «بين العصا ولِحائها» فالأُولى بيانٌ لقيامِهِ بتدبيرِ الخَلْق وكونِهِ مهيمناً عليه غيرَ ساهِ عنه، والثانيةُ لكونِهِ مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإِحاطته بأحوال الخلق وعِلْمِه بالمرتضى منهم، المستوجِب للشفاعةِ وغير المُرْتَضَى، والخامسةُ لسَعَةِ علمه وتعلُّقِهِ بالمعلوماتِ كلِّها أو لجلالِهِ وعِظَم قدرتِهِ «انتهى. يعني غالبَ الجملِ وإلاَّ فبعضُ الجملِ فيها معطوفة وهي قولُهُ:» ولا يُحيطُونَ «وقولُهُ» ولا يَؤُودُه «وقولُه: ﴿وَهُوَ العلي العظيم﴾.
١٠٤٠ - وطائفةٌ قد أَكْفروني بحبِّهم | وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ |
والرُّشْدُ: مصدرُ رَشَدَ بفتح العين يَرْشُد بضمها. وقرأ الحسن «الرُّشُد» [بضمتين كالعُنُق، فيجوز أن يكونَ هذا أصلَه، ويجوزُ أَنْ يكونَ إتباعاً، وهي مسألةُ خلافٍ أعني ضَمَّ عينِ الفعلِ. وقرأ أبو عبد الرحمن] الرَّشَد بفتح الفاء والعينِ، وهو مصدرُ رشِد بكسرِ العينِ يَرْشَد بفتحها، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً: «الرَّشادُ» بالألف.
قوله ﴿مِنَ الغي﴾ متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصلِ والتمييزِ كقولك: مَيَّزتُ هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ على أنه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ لأنَّ معنى كونِهِ مفعولاً به غيرُ لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعرابِ، لأنها استئنافٌ جارٍ مجرى التعليلِ لعدَمِ الإِكراه في الدين. والغَيُّ: مصدرُ غَوَى بفتح العين قال: ﴿فغوى﴾ [طه: ١٢١]، ويقال: «غَوَى الفصيلُ» إذا بَشِمَ وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصلُ الغَيّ: «غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فَأُدْغِمَتْ نحو: مَيّت وبابِهِ.
قوله: ﴿بالطاغوت﴾ متعلِّقٌ ب «يكْفر»، والطاغوتُ بناء مبالغةٍ كالجَبَروت والملَكوت. واختُلِفَ واختُلِفَ فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصلِ ولذلك يُوَحَّد ويُذَكَّر، كسائرِ المصادرِ الواقعةِ على الأَعْيَان، وهذا مذهبُ الفارسي، وقيل: هو اسمُ
كأنَّه لمَّا رأى أَنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه وتُخَمَة وتُراث وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليسَ بشيءٍ.
وقَدَّم ذِكْرَ الكفر بالطاغوتِ على ذِكْرِ الإِيمانِ باللَّهِ اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطاغوتِ، وناسَبَه اتصالُهُ بلفظٍ «الغَيّ».
والعُرْوَة: موضعُ شَدِّ الأيدي، وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على التعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، واعتراه الهَمُّ: تعلَّق به. والوُثْقى: فُعْلى للتفضيل تأنيثَ الأوثق، كفُضْلى تأنيثَ الأفضل، وجَمْعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمتين فجمع وَثِيق.
قوله: ﴿يُخْرِجُونَهُمْ﴾ هذه الجملةُ وما قبلَها من قولِهِ: «يُخْرِجُهم» الأحْسنُ فيها ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، لأنهما خَرَجا مخرجَ التفسيرِ للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقولِهِ: «الله» وأن يكونَ حالاً من الضمير في «وليُّ»، وكذلك «يُخْرجونهم» والعامِلُ في الحال ما في معنى الطاغوت، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسي في قولِهِ: ﴿نَزَّاعَةً﴾ [المعارج: ١٦] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقُه. و «من» [و] «إلى» متعلقان بفعلي الإِخراج.
قوله: ﴿أَنْ آتَاهُ الله﴾ فيه وجهان، أظهرهُما: أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ، أي: لأنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النصبَ أو الجرَّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل «أَنْ» لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ، وإنما حُذِفَت اللام، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ، كما تقدَّم غيرَ مرة. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان، أحدُهما: أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية، ومنه: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢]، وتقول: «عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه» وهو باب بليغٌ. والثاني: أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ.
الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان، قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه». وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه
والضمير في «آتاه» فيه وجهان، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على «الذي»، وأجاز المهدوي أن يعودَ على «إبراهيم» أي: مَلَكَ النبوة. قال ابن عطية: «هذا تحاملٌ من التأويل» وقال الشيخ: «هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال:
﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤] والمُلْك عهدٌ، ولقولِهِ تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: ٥٤].
قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه معمولٌ لحاجَّ. الثاني: أن يكونَ معمولاً لآتاه، ذَكَرَهُ أبو البقاء. وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم. والثالث: أن يكونَ بدلاً من «أنْ آتاه الله المُلْك» إذا
و ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي﴾ مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول. قولُه: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي﴾ مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المحل بالقول أيضاً. وأخبر عن «أنا» بالجملةِ الفعلية، وعن «ربي» بالموصولِ بها، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك.
و «أنا» ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ، والاسمُ منه «أَنْ» والألفُ زائدةٌ لبيانِ
١٠٤١ - وكيفَ أنا وانتحالِ القوا | في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا |
١٠٤٢ - أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني | حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما |
﴿لكنا هُوَ الله رَبِّي﴾ على ما سيأتي، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول: «أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف». واللغةُ الثانية: إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أنا» كلُّه ضمير.
وفيه لغاتٌ: أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن، وكأنه قَدَّم الألفَ على
١٠٤٣ - إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ | من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ |
قوله: ﴿فَإِنَّ الله﴾ هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ، بل كان تركيبُ الكلامِ: قال إبراهيم إنَّ الله يأتي. وقال أبو البقاء: «دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي، هذا هو المعنى». والباءُ في «بالشمسِ» للتعديةِ، تقولُ: أَتَتِ الشمسُ، وأتى اللهُ بها، أي: أجاءها. و «من المشرق» و «مِن المغرب» متعلقان بالفعلَيْن قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن، وجَعَلَ التقدير: مسخرةً أو منقادةً. وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك.
قوله: ﴿فَبُهِتَ﴾ الجمهورُ: «بُهِتَ» مبنياً للمفعول، والموصولُ مرفوعٌ به، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ، لأنه المناظِرُ له. ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ
١٠٤٤ - تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً | بِنَهْكَةِ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ |
١٠٤٥ - أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ | ولا بَيْدَانَ ناجيةً ذَمُولا |
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ | ببعضِ نواشغِ الوادي حُمُولا |
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمارِ فعلٍ، وإليه نَحَا الزمخشري، وأبو البقاء، قال الزمخشري: «أو كالذي: معناه أو رَأَيْتَ مثلَ الذي»، فَحُذِفَ
الثالث: انَّ الكافَ زائدةٌ كهي في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وقول الآخر:
١٠٤٦ - فَصُيِّروا مثلَ كَعَصْفٍ مأكولْ | ...................... |
والرابع: أنَّ الكافَ اسمٌ بمعنى مِثْل، لا حرفٌ، وهو مذهبُ الأخفش وهو الصحيحُ من جهةِ الدليل، وإنْ كان جمهورُ البصريين على خلافِه، فالتقديرُ: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى مِثْل الذي مَرَّ وهو معنى حسنٌ. وللقولِ باسميةِ الكافِ دلائلُ مذكورةٌ في كتب القوم، ذَكَرْنَا أحسَنها في هذا الكتابِ، منها معادَلَتُها في الفاعليةِ ب «مثل» في قوله:
١٠٤٧ - وإنّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ | ضعيفٍ ولم يَغْلِبْكَ مثلُ مُغَلَّبِ |
الرابع: أن تكونَ حالاً من «ها» المضافِ إليها «عروش» قال أبو البقاء: «والعاملُ معنى الإِضافة وهو ضعيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سَهَّل مجيءَ الحال من المضاف إليه كونُه بعضَ المضافِ، لأنَّ «العروش» بعضُ القريةِ، فهو قريبٌ من قولِه تعالى: ﴿مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الأعراف: ٤٣]. الخامس: أن تكونَ الجملةُ صفةً لقرية، وهذا ليسَ بمرتضى عندَهم، لأنَّ الواوَ لا تَدْخُلُ بين الصفةِ والموصوفِ، وإنْ كانَ الزمخشري قد أجازَ ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] فَجَعَل «ولَهَا كتابٌ» صفةً، قال: «وتوسَّطت الواوُ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهبٌ سبقه إليه أبو الفتح ابن جني في بعضِ تصانيفِه، وفيه ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سَهَّل ذلك تشبيهُ الجملة الواقعة صفةً بالواقعَةِ حالاً، لأنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى. ورتَّب أبو البقاء جَعْلَ هذه الجملة صفةً لقرية على جوازِ جَعْلِ «على عروشها» بدلاً من «قرية» على
قوله: ﴿على عُرُوشِهَا﴾ فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من» قرية «بإعادة العاملِ. الثاني: أن يكونَ صفةً ل» قرية «كما تقدَّم تحقيقُه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ ب» مَرَّ «لأنَّ العاملَ في البدلِ العاملُ في المُبْدَلِ منه، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: ساقطةٍ على عروشِها. الثالث: أن يتعلَّقَ بنفسِ خاوية، إذا فَسَّرنا» خاوية «بمعنى متهدِّمة ساقطة. الرابع: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوفُ قالوا: هو لفظُ» ثابتة «، لأنهم فَسَّروا» خاويةٌ «بمعنى: خاليةٌ مِنْ أهلِها ثابتةٌ على عروشِها، وبيوتُها قائمةٌ لم تتهدَّمْ، وهذا حَذْفٌ من غيرِ دليلٍ ولا يتبادَرُ إليه الذهن. وقيل:» على «بمعنى» مع «أي: مع عروشِها، قالوا: وعلى هذا فالمرادُ بالعروشِ الأبنيةُ.
والخاوي: الخالي. يقال: خَوَتِ الدارُ تَخْوِي خَواءً بالمد، وخُوِيَّاً، وخَوِيَتْ أيضاً بكسرِ العينِ تَخْوَى خَوَىً بالقصر، وخَوْياً.
والخَوَى: الجوعُ لخلوِّ البطنِ من الزاد. والخَوِيُّ على فَعِيل: البطنُ السهل من الأرض، وخَوَّى البعيرُ: جافى جَنْبَه عن الأرض. قال:
١٠٤٨ - خَوَّى على مُسْتَوِيات خَمْسِ | كِرْكِرَةٍ وثَفِناتٍ مُلْسٍ |
١٠٤٩ - إنْ يَقْتُلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ | بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بِنْ شهابِ |
قوله: ﴿مِئَةَ عَامٍ﴾ قال أبو البقاء: «مئة عام ظرفٌ لأماتَه على المعنى، لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوزُ أن يكونَ ظرفاً على ظاهر اللفظِ، لأنَّ الإِماتةَ تقعُ في أدنى زمان، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً لفعلٍ محذوف تقديرُه:» فأَماته اللهُ فلبِثَ مئة عام «، ويَدُلُّ على ذلك قولُه:» كم لَبِثْتَ «، ولا حاجَةَ إلى هذين التأويلين، بل المعنى جَعَلَه ميِّتاً مئة عام.
و» مئة «عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامُها محذوفةٌ، وهي ياءٌ، يدُلُّ على
١٠٥٠ - ثلاثُ مئينٍ للملوكِ وَفَى بها | ردائي وَجَلَّتْ عن وجوه الأهاتِمِ |
والعامُ مدةٌ من الزمانِ معلومةٌ، وعينُهُ واوٌ لقولِهم في التصغير، عُوَيْم، وفي التكسير:» أَعْوَام «. وقال النقاش:» هو في الأصلِ مصدَرٌ سُمِّيَ به الزمانُ لأنه عَوْمَةٌ من الشمس في الفلك، والعَوْمُ: هو السَّبْح. وقال تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] فعلى هذا يكونُ العامُ والعَوْمُ كالقَوْل والقَال «.
قوله: ﴿كَمْ﴾ منصوبٌ على الظرفِ، ومميِّزُها محذوفٌ تقديرُهُ: كم يوماً أو وقتاً. والناصبُ له» لَبِثْتَ «، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والظاهرُ أنَّ» أو «في قوله: ﴿يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ بمعنى» بل «للإِضراب وهو قولٌ ثابتٌ، وقيل: هي للشك. وقوله: ﴿قَالَ بَل لَّبِثْتَ﴾ عَطَفَتْ» بل «هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ تقديرهُ: ما لبثتُ يوماً أو بعضَ يوم، بل لبثتُ مئةَ عام.
وقرأ نافع وعاصم وابن كثير بإِظهارِ الثاء في جميع القرآن، والباقُون بالإِدغام.
قوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال. وزعم
١٠٥١ - بأَيْدي رجالٍ لم يَشِيْموا سيوفَهُمْ | ولم تَكْثُر القَتْلى بها حينَ سُلَّتِ |
قيل: قد تقدَّم شيئاَن وهما «طعامِك وشرابِك» ولم يُعِدِ الضميرَ إلا مفرداً، وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: أنهما لمَّا كانا متلازِمَيْنِ، بمعنى أنَّ أحدَهما لا يُكْتَفَى به بدونِ الآخر صارا بمنزلةِ شيءٍ واحدٍ حتى كأنه [قال:] فانظُرْ إلى غذائِك. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الشراب فقط، لأنه أقربُ مذكورٍ، وثَمَّ جملةٌ أخرى حُذِفَتْ لدلالةِ هذه عليها. والتقديرُ: وانظرْ إلى طعامِكَ لم يَتَسَنَّهْ وإلى شرابِك لم يَتَسَنَّهْ، أو يكونُ سكتَ عن تغيُّرِ الطعامِ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّرِ الشرابُ مع نَزْعَة النفس إليه فَعَدَمُ تغيُّر الطعامِ أَوْلَى، قال معناه أبو البقاء. والثالث: أنه أفردَ في موضِعِ التثنيةِ، قاله أبو البقاء وأنشد:
١٠٥٢ - فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ | أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ |
وقرأ حمزةُ والكسائي: «لم يَتَسَنَّهْ» بالهاء وقفاً وبحذفها وصلاً، والباقون بإثباتِها في الحالين. فأمَّا قراءتهما فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فالهاء تحتملُ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ أيضاً للسكتِ، وإنما أُثبتت وصلاً إجراء للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وهو في القرآن كثيرٌ، سيمرُّ بك منه مواضعُ، فعلى هذا يكون أصلُ الكلمةِ: إمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنة» على قولنا إنَّ لامَها المحذوفةَ واوٌ، ولذلكَ تُرَدُّ في التصغير والجمع، قالوا: سُنَيَّة وسَنَوات، وعلى هذه اللغة قالوا: «سانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواوُ ياءً لوقوعِها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ، فقلبوا الواوَ تاءً، والأصل أَسْنَوُوا، فأَبْدَلوها في تُجاه وتُخَمة كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفَتْ الألفُ جزماً، وإمَّا مِنْ لفظ «مَسْنون» وهو المتغيِّرُ ومنه ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦]، والأصل: يتَسَنَّنُ بثلاثِ نونات، فاسْتُثْقِلَ توالي الأمثال، فَأَبْدَلْنَا الأخيرةَ ياءً، كما قالوا في تَظَنَّنَ: تظَنَّى، وفي قَصَّصْت أظفاري: قَصَّيْت، ثم أَبْدَلْنَا الياء ألفاً لتحرُّكِها وانفتاح ما قبلَها، ثم حُذِفَتْ جزماً، قاله أبو عمرو، وخَطَّأَه الزجاج، قال: «لأنَّ المسنونَ المصبوبَ على سَنَنِ الطريق».
وحُكِيَ عن النقاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِنَ الماءُ» أي تغيَّر، وهذا وإن كان صحيحاً معنىً فقد رَدَّ عليه النحويون قولَه لأنه فاسدٌ اشتقاقاً، إذ
ويمكن أَنْ يُجَابَ عنه أنه يمكنُ أن يكونَ قد قُلِبَت الكلمةُ بَنْ أُخِّرَتْ فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضِع لامِها فبقي: يَتَسَنَّأ بالهمزةِ آخِراً، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ألفاً كقولِهم في قرأ: «قَرَا»، وفي استَهْزا «ثم حُذِفَتْ جزماً.
والوجه الثاني: أن تكونَ الهاءُ أصلاً بنفسِها، ويكونُ مشتقاً من لفظ» سنة «أيضاً، ولكن في لغةِ من يَجْعَلُ لامَها المحذوفَةَ هاءً، وهم الحجازيون، والأصلِ: سُنَيْهَة، يَدُلُّ على ذلك التصغيرُ والتكسير، قالوا: سُنَيْهَة وسُنَيْهات وسانَهْتُ، قال شاعرهم:
١٠٥٣ - وليسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ | ولكنْ عرايا في السنينِ الجوائِحِ |
وقرأ أُبَيّ:» لم يَسَّنَّه «بإدغام التاء في السين، والأصل:» لم يَتَسَنَّه «
قوله: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديرُهُ: ولنجعلكَ فَعَلْنا ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديرُهُ: فَعَلْنا ذلك لتعلَمَ قدرتَنا ولنجعلَكَ. الثالث: أن الواوَ زائدةٌ، واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلَها أي: وانظُرْ إلى حمارِك لنعجلَكَ. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم بعضُهم فقال: إنَّ قوله:» ولنجعلَكَ «مؤخر بعد قولِهِ:» وانظُرْ إلى العظامِ «، وأَنْ الأنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضُها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجار، لأنَّ النظرَ الثالثَ من تمامِ الثاني، فلذلك لم تُجْعَل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «وهي وما بعدَها من الفعلِ في محلِّ جرٍ على ما سبَقَ بيانُهُ غيرَ مرةٍ. و» آية «مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير. و» للناس «صفةٌ لآية، و» أل «في الناسِ قيل: للعهدِ إنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ. وقيل: للجنس إنْ عَنَى جميعَ بني آدم.
قوله: ﴿كَيْفَ﴾ منصوبٌ نصبَ الأحوالِ، والعاملُ فيها» نُنْشِزُها «وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في» نُنْشِزُها «، ولا يعملُ في هذه الحالِ» انظُرْ «، إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلامِ، فلا يعملُ فيه ما قبلَه، هذا هو القولُ في هذه المسألةِ ونظائِرها.
وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها في موضِعِ الحالِ من»
والذي يقتضيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألةِ وأمثالِها أَنْ تكونَ جملةُ» كيف نُنْشِزُها «بدلاً من» العظام «، فتكونَ في محلِّ نصبٍ، وذلك أنَّ» نظر «البصرية تتعدَّى ب» إلى «، ويجوزُ فيها التعليقُ كقولِهِ تعالى: ﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ [هود: ٢١] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأن ما يتعدى بحرف الجر يكون ما بعده في محل نصب به. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ لتصِحَّ البدليةُ، والتقديرُ: إلى حالِ العظام، ونظيرُهُ قولُهم:» عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هو؟ فأبو مَنْ هو بدلٌ من «زيداً»، على حذفٍ تقديرُهُ: «عَرَفْتُ قصةَ زيد». والاستفهامُ في بابِ التعليقِ لا يُراد به معناه، بل جرى في لسانِهم مُعَلَّقاً عليه حكمُ اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أيّ» في الاختصاص نحو: «اللهم اغفر لنا أَيَّتُها العِصابة» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أحكامه، وليس معناه عليه.
وقرأ أبو عمرو والحرميَّان: «نُنْشِرُها» بضم النون وكسر الشين والراءِ المهملةِ، والباقون كذلك إلاَّ أنها بالزاي المعجمة. وابنُ عباس بفتح النونِ وضَمِّ الشين والراء المهملةِ أيضاً/. والنخعي كذلك إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِلَ عنه أيضاً ضَمُّ الياء وفتحِها مع الراءِ والزاي.
١٠٥٤ - حتى يقولَ الناسُ مِمَّا رَأَوا | يا عجباً للميِّت الناشِرِ |
وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ «النَّشْز» وهو الارتفاعُ، ومنه: «نَشْزُ الأرضِ» وهو المرتفعُ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى، فالمعنى: يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء.
قال ابنُ عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً»، قال: «وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك، ومنه:» نَشَزَ نابُ البعير «و» أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ فَمِنْ» أَنْشَزَ «، ومَنْ فَتَحَها فَمِنْ» نَشَزَ «، يقال:» نَشَزه «و» أَنْشَزَه «بمعنىً. ومَنْ قرأ بالياءِ فالضميرُ لله تعالى. وقر أبُيّ» نُنْشِئُها «من
ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ من قوله:» العِظام «أي العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ» أل «قائمةً مقامَ الإِضافة أي عظامِ حمارِك.
قوله: ﴿لَحْماً﴾ مفعولٌ ثانٍ ل» نَكْسُوها «وهو من بابِ أعطى، وهذا من الاستعارة، ومثلُه قولُ لبيد:
١٠٥٥ - الحمدُ للَّهِ إذْ لم يَأْتِنِي أَجَلي | حتى اكتسَيْتُ من الإِسلامِ سِرْبالا |
﴿آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ [الكهف: ٩٦] ﴿هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩].
إلاَّ أنَّ الشيخَ ردَّ عليه بأنَّ شرطَ الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَيْنِ، وأَدْنى ذلك بحرف العطف - حتى لا يكونَ الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول نحو: «جاءني يضحكُ زيدٌ» فإنَّ «يضحك» حالٌ عاملُها «جاءني» فيجعل في «جاءني» أو في «يضحك» ضميراً حتى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جَعلُهُم ﴿آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ [النساء: ١٧٦] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله﴾ [المنافقون: ٥] ﴿هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] من بابِ الإِعمال، لأنَّ هذه العواملَ مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراك، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العملِ، فإذا كان على ما نَصُّوا فليس العاملُ الثاني مشتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأولِ بل هو معمولٌ لقال، و «قال»
١٠٥٦ - تَعَفَّقَ بالأَرْطى لها وأرادَها | رجالٌ فَبَذَّت نبلَهم وكَلِيبُ |
١٠٥٧ - هَوَيْنَنِي وهَوَيْتُ الخُرَّدَ العُرُبا | أزمانَ كنتُ منوطاً بي هوىً وصِبا |
وقرأ ابن عباس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ بعدَه. ابنُ السَّمَيْفَع «يُبَيِّن» من غيرِ تاءٍ مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَه ضميرُ كيفيةِ الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.
١٠٥٨ - وَدِّعْ هُرَيْرَةَ......... | ..................... |
١٠٥٩ - ألم تَغْتَمِضْ عيناك... | ............................ |
١٠٦٠ - تطاولَ ليلُك......... | .................... |
وقرأ حمزة والكسائي: «اعلمْ» على الأمر، والباقون: «أعلمُ» مضارعاً «والجعفي عن أبي بكر:» أَعْلِمُ «أمراً من» أَعْلَمَ «، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل» قال «ما هو؟ و» أنَّ الله «في محلِّ نصب، سادَّةً مسدَّ المفعولين، أو الأولِ/ والثاني محذوفٌ على ما تقدم من الخلاف.
وقوله: ﴿أَرِنِي﴾ تقدَّم ما فيه من القراءاتِ والتوجيهِ في قوله: ﴿وَأَرِنَا﴾ [البقرة: ١٢٨]. والرؤيةُ هنا بصريةٌ تتعدَّى لواحدٍ، ولَمَّا دخلَتْ همزةُ النقلِ أكسبته مفعولاً ثانياً، والأول ياء المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية
و «كيف» في محلِّ نصبٍ: إمَّا على التشبيه بالظرفِ، وإمَّا على التشبيهِ بالحال كما تقدَّم في ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨]. والعاملُ فيها «تُحْيي» وقَدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
قوله: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾ في هذه الواوِ وجهان، أظهرُهما: أنها للعطفِ قُدِّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ لأنها لها صدرُ الكلامِ كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرةٍ، والهمزةُ هنا للتقريرِ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي قَرَّره كقوله:
١٠٦١ - ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا | وأندى العاملينَ بطونَ راحِ |
والثاني: أنها واوُ الحالِ، دَخَلَت عليها ألفُ التقريرِ، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ كانَتِ الجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانَتْ كذلك استدعَتْ ناصباً وليس ثَمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه: والتقدير «أسألْتَ ولم تؤمِنْ»، فالهمزةُ في الحقيقةِ إنما دَخَلَتْ على العاملِ في الحالِ. وهذا ليس بظاهرِ، بل الظاهرُ الأولُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قالَ ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى. وقوله «بلى» جوابٌ
قوله: ﴿لِّيَطْمَئِنَّ﴾ اللامُ لامُ كي، فالفعلُ منصوبٌ بعدها بإضمار «أَنْ»، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ التوكيدِ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه: ولكنْ سألتك كيفية الإِحياء للاطمئنانِ، ولا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ آخرَ قبلَ «لكنْ» حتى يَصِحَّ معه الاستدراكُ والتقديرُ: بلى آمنْتُ وما سألتُ غيرَ مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قلبي.
والطُّمأنينة «السكونُ، وهي مصدرُ» اطمأنَّ «بوزن اقشعرَّ، وهي على غيرِ قياسِ المصادرِ، إذ قياسُ» اطمأنَّ «أَنْ يكونَ مصدرُه على الاطمئنان. واختُلِف في» اطمأنَّ «هل هو مقلوبٌ أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فوزنُه: افْلَعَلَّ بدليلِ قولهم: طامنتُه فتطامَنَ. ومذهب الجرمي أنه غيرُ مقلوبٍ، وكأنه يقولُ: إن اطمأنَّ وطَأْمَنَ مادتان مستقلتان، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء، فإنه قال:» والهمزةُ في «ليطمَئِنَّ» أصلٌ، ووزنه يَفْعَلِلُّ، ولذلك جاء ﴿فَإِذَا اطمأننتم﴾ [النساء: ١٠٣] مثل: اقْشَعْررتم «. انتهى. فوَزنُهُ على الأصلِ دونَ القلبِ، وهذا غيرُ بعيدٍ، ألا ترى أنهم في جَبَذَ وجَذَبَ قالوا: ليس أحدُهما مقلوباً من الآخرِ لاستواءِ المادَّتين في الاستعمالِ. ولترجيحِ كلٍّ من المذهبين موضعٌ غيرُ هذا.
و» الطيرُ «اسمُ جمعٍ كرَكْب وسَفْر. وقيل: بل هو جمعُ طائرٍ نحو: تاجر وتَجْر، وهذا مذهبُ أبي الحسن. وقيل: بل هو مخففٌ من» طَيِّر «بتشديدِ [الياء] كقولِهم:» هَيْنَ ومَيْت «في: هَيِّن ومَيَّت. قال أبو البقاء:» هو في الأصلِ مصدرُ طارَ يطير، ثم سُمِّي به هذا الجنسُ «. فَتَحَصَّلَ فيه أربعةُ أقوالٍ.
وجاء جَرُّه ب» مِنْ «بعد العددِ على أفصحِ الاستعمالِ، إذ الأفصحُ في اسمِ الجَمْعِ في بابِ العددِ أَنْ يُفْصَل بمِنْ كهذه الآيةِ، ويجوزُ الإِضافةُ كقولِه تعالى: ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ [النمل: ٤٨]، وقال:
١٠٦٢ - ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ | لقد جارَ الزمانُ على عيالي |
قوله: ﴿فَصُرْهُنَّ﴾ قرأ حمزة بكسر الصادِ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ
١٠٦٣ - فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ | لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ |
و «إليك» إنْ قلنا: إنَّ «صُرْهُنَّ» بمهنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به، وإنَّ قلنا: إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ ب «خُذْ».
وقرأ ابن عباس: «فَصُرَّهُنَّ» بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها، مِنْ: صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ. ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها، ومنهم مَنْ يفتَحُها، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل: «مُدَّهُنَّ» فالضمُّ على الإِتباعِ، والفتحُ للتخفيفِ، والكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ.
قوله: ﴿ثُمَّ ا﴾ » جَعَلَ «يُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِلقاء فيتعدَّى لواحدٍ وهو» جزءاً «، فعلى هذا يتعلَّقُ» على كل «و» منهنَّ «باجعَلْ، وأن يكونَ بمعنى» صَيَّر «فيتعدَّى لاثنين فيكونَ» جُزْءاً «الأولَ، و» على كل «هو الثاني، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و» منهنَّ «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ على هذا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» جزءاً «لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ مفعولاً ل» اجْعَلْ «يعني إذا كانَت» اجْعَلْ «بمعنى» صَيِّر «فيكونُ» جزءاً «مفعولاً أول، و» منهنَّ «مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ. [ولا بد من حذفِ صفةٍ مخصِّصةٍ بعدَ] قولِه:» كلِّ جبلٍ «تقديرُه:» على كل جبلٍ بحضرتِك، أو يَليك «حتى يَصِحَّ المعنى.
وقرأ الجمهورُ:» جُزْءاً «بسكونِ الزاي والهمزِ، وأبو بكر ضَمَّ الزايَ، وأبو جعفر شَدَّد الزايَ من غيرِ همزٍ، ووجهها أنه لَمَّا حَذَفَ الهمزةَ وقف على الزاي ثم ضَعَّفها كما قالوا:» هذا فَرَجّْ «، ثم أُجري الوصل مُجرى الوقفِ. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك عند قولِه: ﴿هُزُواً﴾ [البقرة: ٦٧]. وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسرُ
قوله: ﴿يَأْتِينَكَ﴾ جوابُ الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتِصاله بنونِ الإِناثِ.
قوله: «سَعْياً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من ضميرِ الطير، أي: يأتينك ساعياتٍ، أو ذواتِ سَعْي. والثاني: أن يكونَ حالاً من المخاطبِ، ونُقِل عن الخليلِ ما يُقَوِّي هذا، فإنه رُوِي عنه: «أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكونُ «سعياً» منصوباً على المصدرِ، وذلك الناصبُ لهذا المصدرِ في محلِ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في «يأتينك». قلت: والذي حَمَلَ الخليلَ - رحمه الله - على هذا التقديرِ انه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جَعَل السَّعَيَ من صفاتِ الخليلِ عليه السلام لا من صفةِ الطيورِ. والثالث: أن يكونَ «سَعْياً» منصوباً على نوعِ المصدرِ، لأنه نوعٌ من الإِتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً، لأنَّ السعي والإِتيان يتقاربان»، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدرَ المؤكِّد لا يزيدُ معناه على معنى عامِله، إلاَّ أنه تَساهَلَ في العبارةِ.
والحَبَّةُ: واحدةُ الحَبُّ، وهو ما يُزْرَعُ للاقتياتِ، وأكثرُ إطلاقِه على البُرّ قال المتلمس:
١٠٦٤ - آليتُ حَبَّ العراقِ الدهرَ أَطْعَمُه | والحَبُّ يأكلُه في القَرْيَةِ السُّوسُ |
قوله: ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ جرٍ لأنها صفةٌ لحبة، كأنه قيل: كمثل حبةٍ منبتةٍ.
وأَدْغم تاءَ التأنيثِ في سين «سبع» أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام. وأَظْهر الباقون، والتاءُ تقاربُ السينَ ولذلك أُبْدِلَتْ منها، قالوا: ناس ونات، وأكياس وأكيات، قال:
١٠٦٥ - عمروَ بنَ يربوعٍ شرارَ الناتِ | ليسوا بأجيادٍ ولا أَكْياتِ |
اعلم أنَّ جمعي السلامةِ لا يميز بهما عدد إلا في موضعين، أحدهما: ألا يكونَ لذلك المفردِ جمعٌ سواه، نحو: سبع سماوات، وسبع بقرات، وتسع آيات، وخمس صلوت، لأنَّ هذه الأشياءَ لم تُجْمَعْ إِلا جمعَ السلامةِ، فأمَّا قولُه:
١٠٦٦ -................... | ... فوقَ سَبْعِ سَمائيا |
وإن كانَ من غيرِ بابِ مفاعِلِ: فإمَّا أَنْ يكثُرَ فيه غيرُ التصحيحِ وغيرُ جمعِ الكثرةِ أو يَقِلَّ. فإن كانَ الأولَ فلا يجوزُ التصحيحُ ولا جمعُ الكثرةِ إلا قليلاً نحو: ثلاثة زيود وثلاث هنود وثلاثة أفلس، ولا يجوزُ: ثلاثة زيدين، ولا ثلاث هندات، ولا ثلاثة فلوس، إلاَّ قليلاً. وإن كان الثاني أُوثِرَ التصحيحُ وجمعُ الكثرة نحو: ثلاث سعادات وثلاثة شُسُوع، وعلى قلةٍ يجوز: ثلاث سعائد، وثلاثة أَشْسُع. فإذا تقرَّر هذا فقولُهُ: «سبع سنابل» جاءَ على المختارِ، وأمَّا «سبعِ سنبلات» فلأجلِ المجاورةِ كا تقدَّم.
والسنبلةُ فيها قولان، أحدهما: أنَّ نونَها أصليةٌ لقولِهِم: سَنْبَل الزرعُ «أي أخرجَ سنبلَه. والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهورُ لقولِهم:» أسبلَ الزرعُ «، فوزنُها على الأولِ: فُعْلُلَة وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكايةِ اللغتين: سَنْبَلَ الزرعُ وأَسْبَلَ تكونُ من بابِ سَبِط وسِبَطْر.
قوله: ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ﴾ هذا الجارُّ في محلِّ جر صفةً لسنابل، أو نصب صفةً لسبع، نحو: رأيتُ سبعَ إمَّاءٍ أحرارٍ وأحراراً، وعلى كِلا التقديرين فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. وفي رفعِ» مئة «وجهان، أحدُهما: بالفاعليةِ بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وَقَعَ صفةً. والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبلَه خبرُه، والجملةُ صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، إلا أنَّ الوجهَ [الأول] أولى؛ لأنَّ
والجمهورُ على رفع» مئة «على ما تقدَّم، وقرىء بنصبَها. وجَوَّزَ أبو البقاء في نصبِها وجهينِ، أحدُهما: بإضمارِ فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ أو أَخْرَجَتْ. والثاني: أنها بدلٌ من» سبعُ «، وفيه نظرٌ، لأنه: إمَّا أنْ يكونَ بدلَ كلٍّ من كلَّ أو بعضٍ من كلٍ أو اشتمالٍ، فالأولُ لا يَصِحُّ لأنَّ المئة ليست نفسَ سبع سنابل، والثاني لا يَصِحُّ أيضاً لعدمِ الضميرِ الراجِعِ على المبدلِ منه، ولو سُلِّمَ عدم اشتراطِ الضميرِ فالمئة ليسَتْ بعضَ السبعِ، لأنَّ المظروفَ ليس بعضاً للظرفِ والسنبلةُ ظرفٌ للحبةِ، ألا تَرَى قولَه: ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ فَجَعَلَ السنبلةَ وعاءً للحَبِّ، والثالثُ أيضاً لا يَصِحُّ لعدمِ الضميرِ، وإنْ سُلَّمَ فالمشتملُ على» مئة حبة «هو سنبلة من سبع سنابَل، إلا أَن يقال إن المشتمل على المشتملِ على الشيء هو مشتملٌ على ذلك الشيءِ، فالسنبلةُ مشتملةٌ على مئة والسنبلة مشتمَل عليها سبعُ سنابلَ، فَلَزِمَ أنَّ السبعَ مشتملةٌ على» مئة حبة «. وأسهلُ من هذا كلِّه أن يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حَبَّ سبعِ سنابل، فعلى هذا يكونُ» مئة حبة «بدلَ بعضٍ مِنْ كل.
والثاني: أنَّ «الذين» خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: / هم الذين يُنْفقون، وفي قوله: «لهم أجرُهم» على هذا وجهان، أحدُهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال. والثاني: - وهو الأَوْلَى – أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ، كأنها جوابُ سائِلٍ قال: هل لهم أَجْرٌ؟ وَعَطَفَ ب «ثم» جرياً على الأغلبِ، لأنَّ المتصدِّقَ لغيرِ وجهِ اللهِ لا يَحْصُل منه المَنُّ عقيبَ صدقَتِهِ ولا يؤذِي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإنْ كان حكمُ المنِّ والأذى الواقِعَيْن عقيبَ الصدقةِ كذلك.
وقال الزمخشري: «ومعنى» ثُمَّ «إظهارُ التفاوتِ بين الإِنفاقِ وتَرْكِ المنِّ والأذى، وأنَّ تَرْكَهما خيرٌ من نفسِ الإِنفاقِ، كما جَعَلَ الاستقامَةَ على الإِيمانِ خيراً من الدخولِ فيه بقولِهِ: ﴿ثُمَّ استقاموا﴾ [فصلت: ٣٠]، فَجَعَلَهَا للتراخي في الرتبةِ لا في الزمانِ، وقد تكرَّر له ذلك غيرَ مرةٍ. و» ما «مِنْ قولِهِ:» ما أَنْفَقُوا «يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً فالعائدُ محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ، أي:
والمَنُّ: الاعتدادُ بالإِحسانِ، وهو في الأصل: القَطْعُ، ولذلك يُطْلَقُ على النعمةِ، لأنَّ المُنْعِمَ يَقْطَعُ من مالِهِ قطعةً للمُنْعَمِ عليه. والمَنُّ: النقصُ من الحق، والمَنُّ: الذي يُوزن به، ويُقال في هذا» منا «مثل: عَصَا. وتقدَّمَ اشتقاقُ الأذى.
و» مَنَّاً «مفعولٌ ثانٍ، و» لا أذى «عطفٌ عليه، وأبعدَ مَنْ جَعَلَ» ولا أذى «مستأنفاً، فَجَعَلَهُ من صفاتِ المتصدِّق، كأنه قال: الذين ينفقون ولا يتأذَّوْن بالإِنفاقِ، فكيونُ» أذى «اسمَ لا وخبرُها محذوفٌ، أي: ولا أذىً حاصلٌ لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النهي، وهذا تكلُّفٌ، وحَقٌّ هذا القائلِ أن يقرأ» ولا أذى «بالألف غيرَ مُنَوَّنٍ، لأنه مبنيٌّ على الفتح على مشهورِ مذهبِ النحاةِ.
قوله: ﴿يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً لصدقة، ولم يُعِدْ ذِكْرِ المَنِّ فيقولُ: يتبَعُها مَنٌّ وأذى، لأنَّ الأذى يشملُ المنَّ وغيرَه، وإنَّما ذُكِرَ بالتنصيصِ في قولِهِ: ﴿لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى﴾ لكثرةِ وقوعِهِ من المتصدِّقين وعُسْرِ تحَفُّظِهِمْ منه، ولذلك قُدِّمَ على الأذى.
و «رئاءَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُهُ: إنفاقاً رئاءَ الناس، كذا ذكره مكي. والثاني: أنه مفعولٌ من أَجْلِهِ أي: لأجلِ رئاءِ الناسِ، واستكمل شروطَ النصبِ. والثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: يُنْفِقُ مرائياً.
والمصدرُ هنا مضافٌ للمفعولِ وهو «الناس»، ورئاءَ مصدرٌ راءى كقاتَلَ قِتالاً، والأصلُ: «رِئايا» فالهمزةُ الأولى عينُ الكلمة، والثانيةُ بدلٌ من ياءٍ هي
قوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ، ودَخَلَتِ الفاءُ، قال أبو البقاء: «لتربطَ الجملةَ بما قبلَها» وقد تقدَّم مثلُه، والهاءُ في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس﴾ لأنه أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنها تعودُ على المانِّ المُؤْذِي، كأنه تعالى شَبَّهه بشيئين: بالذي يُنْفِقُ رُئَاءَ وبصفوانٍ عليه ترابٌ، ويكونُ قد عَدَلَ من خطابٍ إلى غَيْبه، ومن جمعٍ إلى إفرادٍ.
والصَّفْوان: حَجَرٌ كبيرٌ أملسُ، وفيه لغتان: أشهرهُما سكونُ الفاءِ والثانيةُ فَتْحُها، وبها قرأ ابن المسيَّبِ والزهري، وهي شاذَّةٌ، لأن «فَعَلان» إنَّما يكونُ في المصادرِ نحو: النَّزَوان والغَلَيَان، والصفاتِ نحو: رجلٌ طَغَيَان وتيسٌ عَدوَان، وأَمَّا في الأسماءِ فقليلٌ جداً. واختُلِفَ في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفردُهُ: صَفا، قال أبو البقاء: «وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلاَن «قليلٌ». وقيل: هو اسمُ جنسٍ، قال أبو البقاء: «وهو الأجودُ، ولذلك عادَ الضميرُ عليه مفرداً في قولِهِ:» عليه «وقيل: هو مفردٌ، واحدُ صُفِيٌّ قاله الكسائي، وأنكره المبردُ. قال:» لأنَّ صُفِيّاً جمعُ صفا نحو: عُصِيّ في عَصَا، وقُفِيّ في قَفَا «.
و «عليه ترابٌ» يجوزُ أن يكونَ جملةً من مبتدأٍ وخبرٍ، وقَعَتْ صفةً لصَفْوان، ويجوزُ أن يكونَ «عليه» وحدَه صفةً له، و «ترابٌ» فاعلٌ به، وهو أَوْلى لِمَا تَقَدَّم عند قولِهِ
﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١]. والترابُ مَعْرُوفٌ، ويُقال فيه تَوْراب، ويُقال: تَرِبَ الرجلُ: افتقَرَ. ومنه: ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٦] كأنَّ جِلْدَه لَصِق به لفقرِه، وأَتْرَبَ: أي استغنى، كأنَّ الهمزةَ للسلب، أو صار مالُهُ كالترابَ.
«فأصابَه» عطفٌ على الفعلِ الذي تَعَلَّقَ به قوله: «عليه» أي: استقرَّ عليه ترابٌ فأَصابَهُ. والضميرُ يعودُ على الصَّفْوان، وقيل: على الترابِ. وأمَّا الضميرُ في «فتركه» فعلى الصَفْوَانِ فقط. وألفُ «أَصابه» من واوٍ، لأنه من صَابَ يَصُوب.
والوابِلُ: المطرُ الشديدُ، وبَلَتِ السماءُ تَبِل، والأرضُ مُوْبُولَة، ويقال أيضاً: أَوْبَلَ فهو مُوبِل، فيكونُ مِمَّا اتفقَ فيه فَعَل وأَفْعَلَ، وهو من الصفاتِ الغالبةِ كالأبطح، فلا يُحْتَاج معه إلى ذكرِ موصوفٍ. قال النضر بن شميل:
قوله: ﴿فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ كقوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٧]. والصَّلْدُ: الأجردُ الأملسُ، ومنه:» صَلَدَ جبينُ الأصلعِ «: بَرَقَ، والصَّلِدُ أيضاً صفةٌ، يُقال: صَلِدَ بكسر اللام يَصْلَد بفتحهِا فهو صَلِد. [قال] النقاش:» الصَّلْدُ بلغةِ هُذَيل «. وقال أبان بن تغلب:» الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارةِ «وقال علي ابن عيسى:» هو من الحجارة ما لا خيرَ فيه، وكذلك من الأرضين وغيرِها، ومنه: «قِدْرٌ صَلُود» أي: بَطِيئة الغَلَيان «.
قوله ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ﴾ في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإِعراب. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» الذي «في قولِه:» كالذي يُنْفِقُ «، وإنما جُمع الضميرُ حَمْلاً على المعنى، لأنَّ المرادَ بالذي الجنسُ، فلذلك جاز الحَمْلُ على لفظِه مرةً في قولِه:» ماله «و» لا يؤمِنُ «» فمثلُه «وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قولِه: ﴿كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ [البقرة: ١٧] ثم قال: ﴿بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ [البقرة: ١٧]، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ في ذلك. وقد زَعَم ابن عطية أَنَّ مَهْيَعَ كلامِ العرب الحَمْلُ على اللفظِ أولاً ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكسَ قبيحٌ، وتقدَّم الكلامُ معه في ذلك. وقيل: الضميرُ في» يَقْدِرون «عائدٌ على المخاطبين بقوله: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ﴾
قوله: ﴿ابتغآء﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنه حالٌ، و «تثبيتاً» عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ، أو مبتغين مُثَبِّتِين. ومنع ابنُ عطية أن يكونَ «ابتغاء» مفعولاً من أجلِه، قال: «لأنه عَطَفَ عليه» تثبيتاً «، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه، قال:» وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه «.
وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه:» وتثبيتاً «إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً، فإن كان قاصراً، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا:» وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة «، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ» تثبيتاً «
وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ» أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ «، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ» مِنْ أنفسهم «مفعولاً، وأن [تكونَ] » مِنْ «بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.
وتلخَّص أنَّ في» من أنفسهم «قولين، أحدُهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ، والثاني: أنه صفةٌ ل» تثبيتاً «، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً.
فإن قيل:» تثبيت «مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: ٨] والأصلُ:» تبتُّلا «ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ:» وَتَثَبُّتاً «، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال الشيخ:» ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل
قال ابن رواحة:
١٠٦٧ - فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ | تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروا |
قال الزمخشري:» فإنْ قلت: فما معنى التبعيضُ؟ قلت: معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيل الله ليس له مُحَرِّكٌ إلا هي، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب «يعني فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم».
قوله: ﴿بِرَبْوَةٍ﴾ في محلِّ جر لأنه صفةٌ لجنة. والباءُ ظرفيةٌ بمعنى «في» أي جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ. والربوةُ: أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ، قالَه الخليلُ. وهي مشتقةٌ من رَبَا يَرْبُو أي: ارتَفَع، وتفسيرُ السدّي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال: رَبْوة ورَباوة بتثليثِ الراءِ فيهما، ويُقال أيضاً: رابية، قال:
١٠٦٨ - وغيثٍ من الوَسْمِيّ حُوٍّ تِلاعُه | أَجابَتْ روابيه النَّجاءَ هَواطِلُهُ |
قوله: ﴿أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾ هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة، وبُدىء هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور ثم بالجملةِ، لأنه الأكثرُ في لسانهم لقُرْبهِ من المفرد، وبُدىء بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونُها بربوة، ثم بالعارضِ وهو إصابةُ الوابلِ. وجاء قولُه في وصف الصفوان - وصَفَهُ بقوله: ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ - ثم عَطَفَ على الصفةِ «فأصابه وابلٌ» وهنا لم يَعْطِفُ بل أَخْرَجَ صفةً.
والثاني: أن تكونَ صفةً ل «ربوة»، قال أبو البقاء: «لأنَّ الجنةَ بعضُ الربوة» كأنه يعني أنه يَلْزَمُ من وصفِ الربوة بالإِصابةِ وصفُ الجنةِ به الثالث: أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه صفةً. الرابع: أن تكونَ حالاً من «جنة»، وجاز ذلك لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصتْ بالوصفِ، ولا بُدَّ من تقديرِ «قد» حينئذٍ، أي: وقد أصابها.
قوله: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: وهو الأصحُّ أنَّ «آتَتْ»
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو» أُكْلها «بضمِّ الهمزة وسكونِ الكافِ، وهكذا كلُّ ما أُضِيف من هذا إلى مؤنثٍ، إلا أبا عمرو فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير أو إلى ضمير المذكر، والباقون بالتثقيل مطلقاً، وسيأتي إيضاح هذا كلِّه. والأَكُلُ بالضم: الشيءُ المأكولُ، وبالفتحِ مصدرٌ، وأُضيف إلى الجنة لأنها محلُّهُ أو سببُه/.
قوله: ﴿فَطَلٌّ﴾ الفاءُ جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدَها لتكمُلَ جملةُ الجوابِ. واختُلِفَ في ذلك على ثلاثة أوجه، فذهَب المبرد إلى أنَّ المحذوفَ خبرٌ، وقوله:» فَطَلٌّ «مبتدأٌ، والتقدير:» فَطَلٌّ يِصيبها «. وجاز الابتداء هنا بالنكرةِ لأنها في جوابِ الشرطِ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداء بالنكرةِ، ومن كلامِهم:» إنْ ذَهَبَ غَيْرُ فَعَيْرٌ في الرِّباط «. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: - بعد ذِكْرِ الثلاثة الأوجهِ -» والأخير يحتاج فيه إلى حَذْفِ الجملةِ الواقعةِ جواباً وإبقاءِ معمولٍ لبعضها، لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارعِ فإنما هو على إضمارِ مبتدأٍ كقولِه: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] أي: فهو ينتقمُ، فلذلك يُحتاج إلى هذا التقديرِ هنا، أي: فهي، أي: الجنةُ يُصيبها طَلُّ، وأمَّا في التقديرين السابقين فلا يُحتاج إلاَّ إلى حَذْفِ أحدِ جُزْئي الجملةِ «وفيما قاله نظرٌ، لأنَّا لا نُسَلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يَحْتَاجُ إلى إضمارِ مبتدأ.
ونظيرُ الآية قوُ امرىء القيس:
١٠٦٩ - ألا إنْ لا تَكُنْ إبِلٌ فمِعْزَى | كأنَّ قُرونَ جِلَّتِها العِصِيُّ |
وادَّعى بعضُهم أنَّ في هذه الآيةِ تقديماً وتأخيراً، والأصلُ:» أصابها وإبلٌ، فإنْ لم يُصِبْها وابلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أكلَها ضِعْفين «حتى يُجْعَلَ إيتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين من الوابلِ والطلِّ، وهذا لا حاجة إليه لاستقامة المعنى بدونِه، والأصلُ عدمُ التقديرِ والتأخيرِ، حتى يَخُصُّه بعضُهم بالضرورةِ.
والطَّلُّ: المُسْتَدَق مِن القَطْرِ. وقال مجاهد: «هو الندى» وهذا تَجَوُّزٌ منه. ويقال: طَلَّه الندى، وأَطَلَّه أيضاً، قال:
١٠٧٠ - ولَمَّا نَزَلْنَا منزلاً طَلَّه الندى | ........................ |
قوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قراءةُ الجمهورِ: «تَعْلَمون» خطاباً وهو واضحٌ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعثِ على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجهِ اللهِ والزاجر عن الرياءِ والسُمْعَةِ. والزهري بالياء على الغَيْبَة، ويَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يعودَ على المنفقين، والثاني: ان يكونَ عاماً فلا يَخُصُّ المنفقين، بل يعودُ على الناسِ أجمعين، ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندراجاً أولياً.
[قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا﴾ هذه الجملةُ في محلِّها وجهان، أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة]. والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً
قوله: ﴿لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات﴾ جملةٌُ من مبتدأٍ وخبرٍ، فالخبرُ قولُه: «له» و ﴿مِن كُلِّ الثمرات﴾ هو المبتدأُ، وذلك لا يَسْتَقِيم على الظاهر، إذ المبتدأ لا يكونُ جاراً ومجروراً فلا بدَّ من تأويلِه. واختُلف في ذلك، فقيل: المبتدأ في الحقيقةِ محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامَه، تقديرُه: «له فيها رزقٌ من كلِّ الثمراتِ أو فاكهةٌ من كلِّ الثمرات» فَحُذِف الموصوفُ وبقيت صفتُه: ومثله قولُ النابغة:
١٠٧١ - كأنَّك من جِمالِ بني أُقَيْشٍ | يُقَعْقِعُ خلفَ رِجْلَيه بِشَنِّ |
والثاني: أن يكونَ قد وَضَع الماضي موضعَ المضارع، والتقديرُ «ويصيبه الكِبَر» كقوله: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ﴾ [هود: ٩٨] أي: فيوردهم. قال الفراء: «يجوزُ ذلك في» يودُّ «لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب» أَنْ «ومرةً ب» لو «فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكانَ الآخر».
والثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى، لأنَّ المعنى: أيودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجه فيه تأويلُ المضارع بالماضي ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجهِ الذي قبلَه، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بأنه يؤدي إلى تغيير اللفظ مع صحةِ المعنى. والزمخشري نَحَا إلى هذا الوجه أيضاً فإنه قال: «وقيل يقال: وَدِدْتُ لو كان كذا، فَحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أيودُّ أحدُكم لو كَانَتْ له جنةٌ وأصابَه الكِبَرُ.
قال الشيخ:» وظاهرُ كلامِه أَنْ يَكونَ «أصابه» معطوفاً على متعلَّق «
قوله: ﴿وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في» وأَصابَه «. وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقرىء» ضِعاف «، وضُعَفاءُ وضِعاف منقاسان في ضَعيف، نحو: ظَريف وظُرَفاء وظِراف، وشَريف وشُرَفاء وشِراف.
وقوله: ﴿فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ﴾ هذه الجملةُ عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء، يعني على قولِه:» مِنْ نخيل «وما بعدَه.
وأتى في هذه الآيات كلِّها نحوُ» فأصَابه وابلٌ - وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ «لأنه أبلغُ وأَدَلُّ على التأثيرِ بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيءِ، من أنه لم يُذْكَرْ بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل:» وَبَل «و» كَبِر «» وأَعْصَرَتْ «لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ/.
والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوْبعة. وقيل:
١٠٧٢ - وبَيْنما المرءُ في الأحياءِ مغتبطٌ | إذ هُوَ في الرَّمْسِ تَعْفُوه الأعاصِيرُ |
و «نار» يجوز فيه الوجهانِ: أعني الفاعليةَ والجارُّ قبلَها صفةٌ لإِعصاراً، والابتدائيةُ والجارُّ قبلَها خبرُها، والجملةُ صفةُ «إعصار»، والأولُ أَوْلى لِما تقدَّم من أنَّ الوصفَ بالمفردِ أَوْلى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.
وقوله: ﴿فاحترقت﴾ أي: أَحْرَقها فاحتَرَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولِهم: «حَرَق نابُ الرجل» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، قال:
١٠٧٣ - أَبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَهُ | عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ |
و «مِمَّا اَخْرَجْنا» عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادةِ الجارِ، لأحدِ معنيين: إمَّا التأكيدِ وإمَّا للدلالةِ على عاملٍ آخرَ مقدرٍ، أي: وأَنْفقوا مِمَّا أَخْرجنا. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: ومن طيباتِ ما أَخْرَجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا»، واللامُ للتعليلِ. و «مِنْ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» أيضاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ الجمهورُ على «تَيَمَّموا»، والأصلُ: تَتَيَمَّمُوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى وإمَّا الثانيةُ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ فيه عند قولِه: ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٥].
وقرأ البزي هنا وفي مواضع أُخَرَ بتشديدِ التاءِ، على أنه أَدْغم التاءَ الأولى في الثانيةِ، وجاز ذلك هنا وفي نظائِره؛ لأنَّ الساكنَ الأول حرفُ لينٍ، وهذا بخلاف قراءتِه ﴿نَاراً تلظى﴾ [الليل: ١٤] ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ [النور: ١٥] فإنه فيه جَمَعَ بين ساكنين والأولُ حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ أهلِ العربيةِ يأتي ذِكْرُه إن شاءَ اللهُ تعالى.
وقرأ ابن عباس والزهري «تُيَمِّمو» بضم التاء وكسر الميمِ الأولى وماضيه: يَمَّم، فوزنُ «تُيَمِّموا» على هذه القراءة: تُفَعِّلوا من غيرِ حذفٍ، ورُوي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أَمَّمْتُ أي قَصَدْتُ.
والتيممُّ: القصدُ، يقال: أَمَّ كردَّ، وأَمَّمَ كأَخَّرَ، ويَمَّم، وتَيَمَّم بالتاء
والخبيثُ والطيبُ: صفتانِ غالبتان لا يُذْكَر موصوفُهما: قال: ﴿والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: ٢٦] ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ [الأعراف: ١٥٧]، قال عليه السلام:» مِنَ الخُبْث والخَبائث «
قوله: ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ » منه «متعلِّقٌ بتنفقون، وتُنْفِقُون في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل ﴿تَيَمَّمُواْ﴾ أي: لا تَقْصِدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ، لأن الإِنفاقَ منه يَقَعُ بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره. والثاني: أنها حالٌ من الخبيث، لأن في الجملة ضميراً يعود إليه أي: لا تَقْصِدُوا مُنْفَقاً منه.
والثالث: أنه مستأنفُ ابتداءِ إخبارٍ بذلك، وتَمَّ الكلامُ عند قولِه: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ ثم ابتدأ خبراً آخرَ، فقال: تُنفقون منه وأنتم لا تأخذُونه إلا إذا أَغْمضتم، كأن هذا عتابٌ للناسِ وتقريعٌ، وهذا يَرُدُّه المعنى.
قوله: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ فيها قولان، أحدُهما: أنها مستأنفة لا مَحَلَّ لها، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويَظْهَرُ
والهاء في «بآخذِيه» تعودُ على «الخبيث» وفيها وفي نحوها من الضمائر المتصلةِ باسمِ الفاعلِ قولان مشهورانِ، أحدُهما: أنها في محلِّ جر وإن كام محلُّهَا منصوباً لأنها مفعولٌ في المعنى. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصب، وإنما حُذِفَ التنوينُ والنونُ في نحو: «ضاربيك» لِلَطافة الضمير، ومذهبُ هشام أنه يجوز ثبوتُ التنوينِ مع الضميرِ، فيجيز: «هذا ضارِبُنْك» بثبوتِ التنوين، وقد يَسْتَدِلُّ لمذهبه بقوله:
١٠٧٤ - همُ الفاعلونُ الخيرَ والآمِرُونه | ........................ |
١٠٧٥ - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه | .......................... |
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ﴾ الأصلُ: إلاَّ بأَنْ، فَحُذِف حرف الجر مع «أَنْ» فيجيءُ فيها القولان: أهي في محلِّ جر أم نصب؟ وهذه الباءُ تتعلَّقُ «تُيَمِّموا» «بآخذيه». وأجاز أبو البقاء أن تكونَ «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ
والجمهورُ على» تُغْمِضوا «بضمِّ التاء وكسرِ الميمِ مخففةً من» أَغْمَض «وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حُذِفَ مفعولُه، تقديرُه: تُغْمِضُوا أبصارَكم أو بصائرَكم. والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلا أَنْ تُغْضُوا، مِنْ قولهم:» أَغْضَى عنه «.
وقرأ الزهري:» تُغْمِّضوا «بضم التاءِ وفتحِ الغينِ وكسرِ الميمِ مشددةً ومعناها كالأولى. ورُوي عنه أيضاً» تَغْمَضوا «بفتحِ التاءِ وسكونِ الغَيْن وفتحِ الميمِ، مضارعُ» غَمِضَ «بكسر الميم، وهي لغةٌ في» أَغْمض «الرباعي، فيكونُ ممَّا اتفق فيه فَعِل وأَفْعل. ورُوي عن اليزيدي» تَغْمُضوا «بفتحِ التاءِ وسكونِ الغينِ وضمِّ الميمِ. قال أبو البقاء:» وهو من غَمُضَ يَغْمُضُ كظَرُف يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه «.
ورُوي عن الحسن:» تُغَمِّضُوا «بضمِّ التاءِ وفتحِ الغَيْنِ وفتحِ الميمِ
وقال الزمخشري: بمعنى «ومَنْ يُؤتِهِ اللهُ». قال الشيخ: «إن أرادَ تفسيرَ المعنى فهو صحيحٌ، وإن أرادَ الإِعرابَ فليس كذلك، إذ ليس ثَمَّ ضميرُ نصبٍ محذوفٌ، بل مفعولٌ» يُؤْتِ «مَنْ الشرطيةُ المتقدمةُ. قلت: ويؤيِّدُ تقديرَ الزمخشري قراءةُ الأعمش: ﴿ومَنْ يُؤْتِه الحكمةَ﴾ بإثباتِ هاءِ الضمير، و» مَنْ «في قراءتِه مبتدأٌ لاشتغالِ الفعلِ بمعمولهِ، وعند مَنْ يجوِّزُ الاشتغالَ في أسماء الشرطِ والاستفهامِ يجُّوز في» مَنْ «النصبَ بإضمارِ فعلٍ، ويقدِّرُه متأخراً، والرفعُ على الابتداءِ، وقد تقدَّم تحقيق هذهِ في غضونِ هذا الإِعرابِ.
وقوله: ﴿أُوتِيَ﴾ جوابُ الشرطِ، والماضي المقترنُ بقد الواقعُ جواباً للشرطِ تارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ مستقبلَ المعنى كهذه الآية، فهو الجوابُ
والتنكيرُ في» خيراً «قال الزمخشري:» يفيدُ التعظيمَ كأنه قال: فقد أُوتِي أيَّ خيرٍ كثير «. قال الشيخ:» وتقديرُه هكذا يُؤدي إلى حَذْفِ الموصوفِ ب «أي» وإقامةِ الصفةِ مُقامَه، فإنَّ التقديرَ: فقد أوتي خيراً أيَّ خيرٍ كثيرٍ، وإلى حذفِ «أيَّ» الواقعةِ صفةً، وإقامةِ المُضاف إليها مُقامَها، وإلى وصفِ ما يُضاف إليه «أي» الواقعةُ صفةً نحو: مَرَرْتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ كريمٍ، وكلُّ هذا يَحْتاج إثباتُه إلى دليل، والمحفوظُ عن العربِ أنَّ «أياً» الواقعةَ صفةً تُضاف إلى ما يُماثِلُ الموصوف نحو: «دَعَوْتُ أمرَأً أيَّ امرىءٍ، فأجابني» وقد يُحْذَفُ الموصوفُ بأيّ كقوله:
١٠٧٦ - إذا حارَب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ | ..................... |
١٠٧٧ - الشاتِمَيْ عِرْضي ولَمْ أَشْتُمهما | والناذِرين إذا لمَ ألقهما دَمي |
١٠٧٨ - نحنُ بما عندَنَا وأنت بما | عندَكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ |
١٠٧٩ - رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي | بريئاً ومن أجل الطَوِيِّ رماني |
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي النساء: «فَنَعِمَا» بفتحِ النونِ وكسرِ العينِ، وهذه على الأصلِ، لأنَّ الأصل على «فَعِل» كعَلِم وقرأ
والجمهورُ على اختيارِ الاختلاسِ على الإِسكانِ، بل بعضُهم يَجْعَلُهُ من وَهْم الرواة عن أبي عمرو، ومِمَّن أنكره المبرد والزجاج والفارسي قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حَدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن ينطِقَ به، وإنما يرومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّكُ ولا يَشْعُر» وقال الفارسي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سكوناً».
وقد تقدَّم الكلام على «ما» اللاحقةِ لنِعْم وبِئْس. و «هي» مبتدأ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حَذْف مضاف، أي: فنِعْم إبداؤها، ويجوز أَنْ لا يُقَدَّر مضافٌ، بل يعودُ الضميرُ على «الصدقات» بقيد صفةِ الإِبداء تقديرهُ: فنِعِمَّا هي أي: الصدقاتُ المُبْدَاةُ. وجملةُ المدحِ خبرٌ عن «هي»، والرابطُ العمومُ، وهذا أَوْلى الوجوهِ، وقد تقدَّم تحقيقُها.
والضميرُ في «وإنْ تخفوها» يعودُ على الصدقاتِ. فقيل: يعودُ عليها لفظاً ومعنىً. وقيل: يعودُ على الصدقاتِ لفظاً لا معنىً، لأنَّ المرادَ بالصدقاتِ
١٠٨٠ - كأنَّ ثيابَ راكبِهِ بريحٍ | خَرِيقٌ وهْي ساكنةُ الهُبوبِ |
والفاءُ في قولِهِ: «فهو» جوابُ الشرط، والضميرُ يعودُ على المصدر المفهومِ من «تُخْفُوها» أي: فالإِخفاءُ، كقولِهِ: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «خير» يجوزُ أن يكون للتفضيلِ، فالمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوزُ أن يُرَادَ به الوصفُ بالخيريَّة أي: خيرٌ لكم من الخيورِ.
وفي قوله: «إنْ تُبْدوا، وإن تُخْفُوها» نوعٌ من البديع وهو الطباق اللفظي.
وفي قوله «وتُؤتوها الفقراء» طباقٌ معنوي، لأنه لا يُؤتي الصدقاتِ إلا الأغنياءُ، فكأنه قيل: إن يُبْدِ الأغنياءُ الصدقاتِ، وإنْ يُخْفِ الأغنياءُ الصدقاتِ، ويُؤْتُوها الفقراء، فقابلَ الإِبداءَ بالإِخفاءِ [لفظاً]، والأغنياءَ بالفقراءِ معنىً.
قوله: ﴿وَيُكَفِّرُ﴾ قرأَ الجمهورُ «ويُكَفِّرُ» بالواو، والأعمش بإسقاطِها والياءِ وجَزْم الراء. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه بدلٌ من موضِعِ قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لأنه جوابُ الشرط كأنَّ التقدير: وإنْ تخفوها يكنْ خيراً لكم
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنونِ ورفعِ الراءِ، وقرأ نافع وحمزةُ والكسائي بالنونِ وجزمِ الراء، وابنُ عامر وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسنُ بالياء وجزمِ الراء، ورُوي عن الأعمش أيضاً بالياء ونصب الراء، وابن عباس: «وتُكَفِّرْ» بتاءِ التأنيثِ وجزمِ الراءِ، وعكرمة كذلك إلا أنه فَتَحَ الفاءَ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، وابنُ هرمز بالتاءِ ورفعِ الراء، وشهر ابن حوشب - ورُويت عن عكرمة أيضاً - بالتاءِ ونصبِ الراءِ، وعن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراء، وعَن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراءِ، فهذه إحدى عشرةَ قراءةً، والمشهورُ منها ثلاثٌ.
فَمَنْ قرأ بالياء ففيه ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه أَضْمَرَ في الفعل ضميرَ اللَّهِ تعالى، لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتَعْضُده قراءةُ النونِ فإنها متعيِّنةٌ له. والثاني: أنه يعودُ على الصرفِ المدلولِ عليه بقوةِ الكلامِ، أي: ويكفِّرْ صَرْف الصدقاتِ. والثالث: أنه يعودَ على الإِخفاءِ المفهومِ من قولِهِ: «وإنْ تُخْفُوها»، ونُسِبَ التكفيرُ للصرفِ والإِخفاءِ مجازاً، لأنهما سببٌ للتكفير، وكما يجوزُ إسنادُ الفعلِ إلى فاعِلِهِ يجوزُ إسنادُهُ إلى سببه.
ومَنْ قرأَ بالتاءِ ففي الفعلِ ضميرُ الصدقاتِ ونُسِبَ التكفيرُ إليها مجازاً كما تَقَدَّم. ومَنْ بناه للمفعولِ فالفاعلُ هو اللَّهِ تعالى أو ما تقدَّم. ومَنْ قرأ بالنون فهي نونُ المتكلمِ المعظِّم نفسَهُ. ومَنْ جَزَمَ الراءَ فللعطف على محلِّ الجملةِ الواقعةِ جواباً للشرطِ، ونظيرُهُ قولُه: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ في قراءةِ مَنْ جَزَمَ ﴿وَيَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٦]
ومَنْ نَصَبَ فعلى إضمار «أَنْ» عطفاً على مصدرِ مُتَوَهَّمٍ مأخوذٍ من قوله: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، والتقديرُ: وإنْ تُخْفوها يكنْ أو يوجَدْ خيرٌ وتكفيرٌ.
ونظيرُها قراءةُ مَنْ نَصَبَ: «فيغفرَ» بعد قوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ [البقرة: ٢٨٤]، إلاَّ أنَّ تقديرَ المصدرِ في قوله: «يحاسِبْكم» أسهلُ منه هنا، لأنَّ ثمةَ فعلاً مصرَّحاً به وهو «يحاسبْكم»، والتقديرُ: يَقَعُ محاسبةٌ فغفرانٌ، بخلافِ هنا، إذ لا فعلَ ملفوظٌ به، وإنما تَصَيَّدْنَا المصدرَ من مجموعِ قولِهِ: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
وقال الزمخشري: «ومعناه: وإنْ تُخْفوها يكنْ خيراً لكم وأَنْ يُكَفِّر» قال الشيخ: «وظاهر كلامِهِ هذا أنَّ تقديرَه» وأَنْ يكفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدرٍ، ويكونُ معطوفاً على» خيراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قَدَّرَها، كأنه قال: يَكُنِ الإِخفاءُ خيراً لكم وتكفيراً، فيكونُ» أَنْ يكفِّر «في موضِعِ نصبٍ، والذي تقرَّر
وقال المهدوي: «هو مُشَبَّهٌ بالنصبِ في جوابِ الاستفهامِ، إذ الجزاءُ يَجِبُ به الشيءُ لوجوبِ غيرهِ كالاستفهامِ». وقال ابنُ عطية: «الجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءاتِ لأنها تُؤْذِنُ بدخولِ التكفيرِ في الجزاء وكونِهِ مشروطاً إنْ وقع الإِخفاءُ، وأمَّا رفعُ الراء فليسَ فيه هذا المعنى» قال الشيخ: «ونقولُ إنَّ الرفعَ أبلغُ وأَعَمَُّ، لأنَّ الجزمَ يكونُ على أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ الثاني، والرفعُ يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهةِ المعنى على بَذْلِ الصدقاتِ أُبْدِيَتْ أو أخْفيت، لأنَّا نعلمُ أنَّ هذا التكفيرَ متعلِّقٌ بما قبلَه، ولا يختصُّ التكفيرُ بالإخفاءِ فقط، والجزمُ يُخَصِّصُهُ به، ولا يمكن أَنْ يقالَ إن الذي يُبدي الصدقاتِ لا يكفِّرْ من سيئاتِهِ، فقد صارَ التكفيرُ شاملاً للنوعَيْنِ من إبداءِ الصدقاتِ وإخفائِها وإنْ كانَ الإِخفاءُ خيراً».
قوله: ﴿مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ في «مِنْ» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: للتبعيض،
وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هدى للضالين. وفي قوله: ﴿ولكن الله يَهْدِي﴾ مع قوله «هداهم» جناسٌ مغاير لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ والأخرى فعلٌ. ومفعولُ «يشاءُ» محذوفٌ، أي: هدايَتَه.
وقوله: ﴿فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو لأنفسكم. وقوله «إلاَّ ابتغاءَ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجل ابتغاءِ وجهِ اللَّهِ، والشروطُ هنا موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محل الحالِ، أي: إلاَّ مبتغين، وهو في الحالَيْنِ استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تُنْفِقُونَ نفقةً معتدّاً
وقوله: ﴿يُوَفَّ﴾ جوابُ الشرط/، وقد تقدَّم أنه يقال: «وَفَّى» بالتشديدِ و «وفَى» بالتخفيفِ «و» أَوْفَى «رباعياً.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في» إليكم «، والعاملُ فيها» يُوَفَّ «، وهي تشبهُ الحالَ المؤكِّدَةَ لأنَّ معناها مفهومٌ من قولِهِ:» يوفَّ إليكم «لأنهم إذا وُفُّوا حقوقَهم لم يُظْلَموا. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، أخبرَهم فيها أنه لا يقعُ عليهم ظلمٌ فيندرجُ فيه توفيةُ أجورِهم بسببِ إنفاقهِم في طاعةِ اللَّهِ تعالى اندراجاً أوَّليَّاً.
الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: الصدقاتُ أو النفقاتُ التي تُنْفِقُونَهَا للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنهم لَمَّا حُثُّوا على الصدقاتِ قالوا: فلمَنْ هي؟ فَأُحِثُّوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدةُ بيانِ مَصْرِفِ الصدقاتِ. وهذا اختيارُ ابنِ الأنباري قال:» كما تقول: «عاقل لبيب»، وقد تقدَّم وصفُ رجل، أي: الموصوفُ عاقلٌ، وتكتبون على الأكياس: «ألفان ومئتان»، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد:
١٠٨١ - تسأَلُنِي عن زوجِها أيُّ فتى | خَبٌّ جَروزٌ وإذا جاعَ بكى |
الثالث: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بقولِهِ: ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات﴾ [البقرة: ٢٧١] وهو مذهبُ القَفَّال، واستبعَدَه الناسُ لكثرةِ الفواصِلِ.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِه: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ وفي هذا نظرٌ من حيث إنه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ، فيصيرُ نظيرَ قولِك: «مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صَرَّح بالمنع من ذلك - مُعَلِّلاً بما ذَكرتُه - الوَاحديُّ فقال:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذه اللام «تنفقوا»
الخامس: أَنَّ «للفقراء» بدلٌ من قولِه: «فلأنفسِكم»، وهذا مردودٌ قال الواحدي وغيرُه: «لأنَّ بدلَ الشيءِ من غيرهِ لا يكونُ إلا والمعنى مشتملٌ عليه، وليس كذلك ذِكْرُ النفسِ ههنا، لأنَّ الإِنفاقَ من حيث هو عائدٌ عليها، وللفقراءِ من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من بابِ ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧] لأنَّ الأمرَ لازمٌ للمستطيع خاصةً» قلت: يعني أنَّ الفقراءَ ليسَتْ هي الأنفسَ ولا جزءاً منها ولا مشتملةً عليها، وكأن القائلَ بذلك توهَّم أنه من بابِ قولِه تعالى:
﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] في أحدِ التأويلين.
والفقيرُ: قيل: أصلُه من «فَقَرَتْه الفاقِرة» أي: كَسَرَتْ فَقارَ ظهرِه الداهيةُ. قال الراغب: «وأصلُ الفقيرِ: هو المكسور الفَقار، يقال: فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسِر الفَقار، و «أَفْقَرك الصيدُ فارمِه» أي أَمْكَنَكَ من فَقارِه. وقيل: هو من الفُقْرَة أي الحُفْرة، ومنه قيل لكل حفرةٍ يجتمع فيها الماءُ: فقيرٌ. وَفَقَرْتُ للغسيلِ حَفَرْتُ له حُفْرة: غرسْتُه فيها. قال:
١٠٨٢ - ما ليلةُ الفقيرِ إلا شيطانْ | .................. |
قوله: ﴿فِي سَبِيلِ﴾ يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه فيكونَ ظرفاً له. والثاني: أن يكونَ متعلِّقَاً بمحذوفٍ على أنه حال من مرفوع «أُحْصِروا» أي: مستقرين في سبيلِ اللهِ. وقَدَّره أبو البقاء بمجاهِدين في سبيل الله «فهو تفسيرُ معنىً لا إعراب، لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّقُ إلا بالكونِ المطلقِ.
قوله: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ في هذه الجملةِ احتمالان، أظهرُهما: أنها
١٠٨٣ - لَحِفْظُ المالِ أيسرُ مِنْ بقاه | وضربٌ في البلادِ بغير زاد |
قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ يجوزُ في هذه الجملةِ ما جازَ فيما قبلها من الحاليةِ والاستئنافِ، وكذلك ما بعدَها. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة:» يَحْسَبُ «- حيث ورد - بفتح السين والباقونَ بكسرِها. فأمَّا القراءةُ الأولى فجاءَتْ على القياسِ، لأنَّ قياسَ فَعِل بكسر العين يَفْعَل بفتحِها لتتخالفَ الحركتان فيخِفَّ اللفظُ، وهي لغةُ تميم والكسرُ لغةُ الحجاز، وبها قرأ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد شَذَّتْ ألفاظٌ أُخَرُ جاءت في الماضي والمضارع بكسرِ العينِ منها نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسُها كلُّها الفتحُ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارىء بلغةِ الكسر اثنان من كبار النحاة أبو عمرو - وكفى به - والكسائي، وقارئا الحرمين نافع وابن كثير.
والجاهلُ هنا: اسمُ جنسٍ لا يُراد به واحدٌ بعينه. و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني.
قوله: ﴿مِنَ التعفف﴾ في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها سببية، أي: سَبَبُ حُسْبانِهم أغنياءَ تعفُّفُهم فهو مفعولٌ من أجله، وجَرُّه بحرفِ السبب هنا واجبٌ لفَقْدِ شرطٍ من شروطِ النصبِ وهو اتحادُ الفاعلِ، وذلك أنَّ فاعلَ
١٠٨٤ - لا أقعدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ | ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ |
وتتعلَّقُ» مِنْ «على الوجهين الأوَّلَيْنِ بيَحْسَبهم. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمعنى «أغنياء» لأنَّ المعنى يَصيرُ إلى ضد المقصود وذلك أنَّ معنى الآية أنَّ حالَهم يَخْفَى على الجاهلِ بهم فيظنُّهم أغنياءَ، ولو عُلِّقَتْ «مِنْ» بأغنياءَ صار المعنى أنَّ الجاهلَ يَظُنُّ أنهم أغنياءُ ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ في المال «.
انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتملُ بحثاً.
وأما على الوجه الثالث - وهو كونُها لبيانِ الجنس - فقد صَرَّح الشيخ بتعلُّقها بأغنياء، لأن المعنى يعودُ إليه، ولا يجوزُ تعلُّقها في هذا الوجهِ بالحُسْبان، وعلى الجملةِ فكونُها لبيانِ الجنسِ قَلِقُ المعنى.
والتعفُّفُ: تَفَعُّل من العِفَّة، وهي تَرْكُ الشيء، والإِعراضُ عنه مع القدرةِ على تعاطِيه، قال رؤبة:
١٠٨٥ - فَعَفَّ عن أسرارِها بعد الغَسَقْ | ولم يَدَعْها بعد فَرْكٍ وعَشَقْ |
١٠٨٦ - يُخْبِرْكَ مَنْ شهدَ الوقيعةَ أنني | أغشى الوغَى وأعِفُّ عند المَغْنَمِ |
و «سيما» مقلوبةٌ قٌدِّمَتْ عينُها على فائها لأنها مشتقةٌ من الوَسْم فهي بمعنى السِّمة أي العلامةُ، فلما وقَعَتْ الواوُ بعد كسرةٍ قُلبت ياءً، فوزنُ سيما: عِفْلا، كما يقال اضْمَحَلَّ، وامضَحَلَّ، [و] وو «خِيمة» و «خامة»، وله جاه ووجَهْ، أي: وَجاهة.
وفي الآيةِ طباقٌ في موضعينِ، أحدُهما: «أُحْصِروا» مع قوله: ﴿ضَرْباً فِي الأرض﴾، والثاني قوله «أغنياءَ» مع قوله «للفقراءِ» نحو: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ ﴿وَأَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٣]. ويقال «سِيمِيا» بياء بعد الميم، وتُمَدُّ كالكيمياء. وأشد:
١٠٨٧ - غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْنِ يافعاً | له سِيمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ |
قوله: ﴿إِلْحَافاً﴾ في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: نصبُه على المصدرِ بفعلٍ مقدَّر أي: يُلْحِفون إلحافاً، والجملةُ المقدرةُ حالٌ من فاعل «يَسْألون» والثاني: أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، أي: لا يَسْألون لأجلِ الإِلحافِ. والثالث: أن يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ تقديرُه: لا يَسْألون مُلْحِفين.
وقد شَبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآيةِ الكريمة بمعنى بيت امرىء القيس وهو قوله:
١٠٨٨ - على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ | إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا |
قلت: قد سَبَقه ابنُ عطية إلى هذا فقال: «تَشْبيهُه ليس مثلَه خصوصيةِ النفي، لأنَّ انتفاءَ المنارِ في البيتِ يَدُلُّ على نفي الهدايةِ، وليس انتفاءُ الإِلحاحِ يدلُّ على انتفاءِ السؤالِ.» وأطالَ ابنُ عطية في تقريرِ هذا وجوابُه ما تقدم: من أنَّ المرادَ نفيُ الشيئين لا بالطريقِ المذكورِ في البيتِ، وكان الشيخُ قد قال قبلُ ما حكيته عنه آنفاً: «ونظيرُ هذا: ما تَأْتينا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول يعني نفيَ القيدِ وحدَه: ما تأتينا مُحَدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّثُ، وعلى الوجه الثاني يعني نفيَ الحكمِ بقيده ب «ما يكون منك إتيانٌ فلا يكونُ حديثٌ»، وكذلك هذا: لا يقعُ منهم سؤالٌ البتَّةَ فلا يقعُ إلحاحٌ، ونَبَّه على نفي الإلحاحِ دونَ غيرِ الإِلحاح لقبحِ هذا الوصفِ، ولا يُرَادُ به نفيُ هذا الوصفِ وحدَه ووجودُ غيرِه؛ لأنه كانَ يَصيرُ المعنى الأول، وإنما يُراد بنفي هذا الوصفِ نفيُ المترتباتِ على المنفيِّ الأولِ، لأنه نَفَى الأولَ على سبيل العمومِ فتنتفي مترتِّباتُه، كما أنك إذا نَفَيْتَ الإِتيانَ فانتفى الحديثُ انتفى جميعُ مترتِّباتُ الإِتيانِ من المجالسةِ والمشاهدةِ والكينونةِ في محلٍّ واحد، ولكنَ نبَّه بذكرِ مترتِّب واحدٍ لغرضٍ ما على ذِكْرِ سائرِ المترتِّبات، قلت: وهو تقريرٌ لِمَا تَقدَّم.
على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه........................................
يريد نفيَ المنارِ والاهتداءِ به».
وطريقُ أبي إسحاق الزجاج هذه قد قَبِلها الناسُ ونَصَروها واستحسنوا تنظيرَها بالبيت كالفارسي وأبي بكر بن الأنباري، قال أبو علي: «لم يُثْبِتْ في قوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ مسألةً فيهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ فيكونَ منهم إلحافٌ، ومِثْلَ ذلك قولُ الشاعر:
١٠٨٩ - لا يَفْزَعُ الأرنبُ أهوالَها... ولا ترى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي: ليس فيها أرنبٌ فيفزعَ لهولِها ولا ضَبُّ فينجحرَ، وليس المعنى أنه ينفي الفزعَ عن الأرنبِ والانجحار عن الضب. وقال أبو بكر: «تأويلُ الآية: لا يسألون البتةَ فيخرجهم السؤالُ في بعض الأوقات إلى الإِلحافِ؛ فجَرى هذا مَجْرى قولِك: / فلان لا يُرْجى خيرُه أي: لا خيرَ عنده البتة فيُرْجى، وأنشد قول امرىء القيس:
١٠٩٠ - وصُمٌّ صِلابٌ ما يَقِين من الوَجَى... كأنَّ مكانَ الرَّدْفِ منه على رَالِ
أي: ليس بهن وَجَى فيشتكينَ من أجله، وقال الأعشى:
١٠٩١ -
لا يَغْمِزُ الساقَ مِنْ أَيْنٍ ولا وَصَبٍ | ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَرُ |
والإِلحافُ والإِلحاحُ واللَّجاجُ والإِحفاءُ، كلُّه بمعنى، يقال: ألحفَ وألحَّ في المسألةِ: إذا لَجَّ فيها. وفي الحديثِ: «مَنْ سَأَلَ وله أربعون فقد أَلْحَفَ»، واشتقاقُه من اللِّحاف، لأنه يشتملُ الناسَ بمسألتِه ويَعُمُّهم. كما يشتملُ اللِّحافُ من تحتِه ويُغَطِّيه، ومنه قولُ ابن أحمر يصفُ ذَكَرَ نعامٍ يَحْضُن بيضَه بجناحَيه ويجعلُ جناحَه لها كاللحاف:
١٠٩٢ - يظلُّ يَحُفُّهُنَّ بقَفْقَفَيْهِ | ويَلْحَفُهُنَّ هَفْهافاً ثَخِينا |
١٠٩٣ - ثم راحوا عَبَقُ المِسْكِ بهم | يُلْحِفُون الأرضَ هُدَّابَ الأَزُرْ |
قلت: وقولُ الشيخِ أيضاً:» بل كلُّ موصولٍ «ليسَ الحكمُ أيضاً مقتصراً على كلِّ موصول، بل كلُّ نكرةٍ موصوفة بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخولِ الفاءِ أو ما أُضيف إلى تلك النكرةِ أو إلى ذلك الموصولِ أو الموصوفِ بالموصولِ حكمُه كذلك. وهذه المسألةُ قد قَدَّمْتُها متقنةً.
١٠٩٤ - وأسمرَ خطِيَّاً كأن كعوبَه... نَوَى القَسْبِ قد أَرْبَى ذِراعاً على العُشْرِ... وقيل: إنما كُتِبَ بالواوِ لأنَّ أهلَ الحجازِ تَعَلَّموا الخطَّ من أهلِ الحِيرة، وأهلُ الحِيرةِ يقولونَ: «الرِّبو» بالواوِ «فكتبوها كذلك ونقلَها أهلُ الحجاز كذلك خَطَّاً لا لفظاً. وقد قرأ العدويُّ:» الرِّبَو «كذلك بواوٍ خالصة بعد فتحةِ
وقد حكى أبو زيد ما هو أغربُ من ذلك فقال:» قرأ بعضُهم بكسرِ الراءِ وضمِ الباء وواوٍ بعدها «، ونَسَبَ هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ لسانَ العرب [لا] يبقي واواً بعد ضمةٍ في الأسماءِ المعربة، بل إذا وُجد ذلك لم يُقَرَّ على حاله، بل تُقْلَبُ الضمةُ كسرةً والواوُ ياءً نحو: دَلْوٍ وأَدْلٍ، وجَرْوٍ وأَجْرٍ وأنشد أبو عليّ:
١٠٩٥ - ليثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِه | بالرَّقْمتينِ له أَجْرٍ وأَعْراسُ |
ويقال: رِبا ورِما، بإبدالِ بائِه ميماً، كما قالوا: كََثَم في كَثَب. والألفُ واللام في» الرِّبا «يجوز أن تكونَ للعهدِ، إذ المرادُ الربا الشرعيُّ، ويجوز أن تكونَ لتعريفِ الجنس/.
١٠٩٦ -... لا أنا باغياً | ..................... |
قوله: ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ﴾ فيه الوجهان المشهوران وهما: النصبُ على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا يقومون إلا قياماً مثلَ قيامِ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو المشهورُ عند المعربين، أو النصبُ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدرِ المقدَّرِ أي: لا يقومونَهُ أي القيامَ إلا مُشْبِهاً قيامَ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو رأي سيبويه، وقد قَدَّمْتُ تحقيقهما.
و «ما» الظاهرُ أنها مصدريةٌ أي: كقيامِ. وجَوَّزَ بعضُهم أن تكون بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: إلا كالقيامِ الذي يقومه الذي يتخبَّطُه الشيطانُ، وهو بعيد.
و «يتخبَّطه» يَتَفَعَّلُه، وهو بمعنى المجردِ أي يخبِطُه؛ فهو مثل: تَعدَّى الشيءَ وعَدَاه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خَبَط البعيرُ بأخفافِه: إذا ضرب بها الأرضَ. ويقال: فلان يَخْبِط خَبْطَ عَشْواء، قال علقمة:
١٠٧٩ - وفي كل حَيًّ قد خَبَطْتَ بنعمةٍ | فَحُقَّ لشَأْسٍ من نَداكَ ذَنُوبُ |
١٠٩٨ - رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ | تُمِتْه ومَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّر فَيَهْرَمِ |
قال الشيخ: «وكان قَدَّم في شرحِ المَسِّ أنه الجنونُ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّقِ» من المس «بقوله» لا يقومون «ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما: أنه قد شَرَحَ المسَّ بالجنون، وكان قد شَرَحَ أنَّ قيامَهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنونٌ ولا مَسٌّ، ويَبْعُدُ أن يَكْنى بالمسِّ الذي هو الجنونُ عن أكلِ الربا في الدنيا، فيكونُ المعنى: لا يقومون يومَ القيامة أو من قبورهم من أجلِ أكلِ الرِّبا إلا كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطان، إذ لو أُريد هذا المعنى لكان التصريحُ به أَوْلَى من الكنايةِ عنه بلفظِ المَسِّ، إذ التصريحُ به أَبْلَغُ في الزجرِ والردعِ. والوجه الثاني: أنَّ ما بَعد.» إلاَّ «لا يتعلَّقُ بما قبلها إلا إنْ كان في حَيِّز الاستثناء، وهذا ليسَ في حَيَّز الاستثناء، ولذلك منعوا أَنْ يتعلَّقَ» بالبيناتِ والزبرِ «بقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾ [النحل: ٤٤] وأنَّ التقديرَ: وما أرسلنا بالبيناتِ والزبرِ إلا رجالاً».
والمَسُّ عُبِّر به عن الجنونِ في لسانهم، قالوا: مُسَّ فهو مَمْسُوس، مثل: جُنَّ فهو مَجْنون، وأنشد أبو بكر:
١٠٩٩ - أُعَلِّلُ نفسي بما لا يكونُ | كذي المَسِّ جُنَّ ولم يُخْنَقِ |
١١٠٠ - وتُصبحُ عن غِبِّ السُّرى وكأنما | أَلَمَّ بها مِن طائفِ الجنِّ أَوْلَقُ |
١١٠١ - بَخِيلٍ عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ | .................. |
وقد جَعَلوا الربا أصلاً والبيعَ فرعاً حتى شَبَّهوه به، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هلاَّ قيل: إنما الربا مثلُ البيع، لأنَّ الكلامَ في الربا لا في البيعِ. قلت: جِيء به على طريقةِ المبالغةِ، وهو أنهم قد بَلَغ من اعتقادهم في حِلّ الربا أنهم جَعَلوه أصلاً وقانوناً في الحِلِّ، حتى شَبَّهوا به البيع». قلت: وهو بابٌ في البلاغةِ مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه، ومنه قوله:
١١٠٢ - ورَمْلٍ كأوراكِ العَذارى قَطَعْتُه | .................... |
قوله: ﴿فَمَن جَآءَهُ﴾ يُحتمل أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً وعلى كِلا التقديرَيْنِ فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء.
وقوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ هو الخبرُ، فإنْ كانَتْ شرطيةًَ فالفاءُ واجبةٌ، وإن
قوله: ﴿مِّنْ رَّبِّهِ﴾ يجوزُ أن تكونَ متعلقةً بجاءَتْه، وتكونُ لابتداءِ الغاية مجازاً، وأن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظة، أي: موعظةٌ من موعظاتِ ربه، أي بعضُ مواعِظه.
وقوله: ﴿فانتهى﴾ نَسَقٌ على «جاءَتْه» عَطَفَه بفاءِ التعقيبِ أي: لم يتراخَ انتهاؤُه عن مجيء الموعظهِ. /
وقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ الكلامُ على «مَنْ» هذه في احتمالِ الشرطِ والموصولِ كالكلامِ على التي قبلها. والضميرُ في قولِه «فَأَمْرُه» يعودُ على «ما سَلَف»، أي: وأمرُ ما سلَفَ إلى الله، أي: في العفوِ عنه وإسقاطِ التِّبِعَةِ منه. وقيل: يعودُ على المنتهي المدلولِ عليه بانتهى أي: فأمرُ المنتهي عن الربا إلى الله في العفوِ والعقوبةِ. وقيل: يعودُ على ذي الربا في أَنْ ينتبهَ على الانتهاءِ أو يعيدَه إلى المعصيةِ. وقيل: يعودُ على الرِبا أي: في عفو الله عمَّا شاء منه أو في استمرارِ تحريمِه.
وقوله: ﴿سَلَفَ﴾ سَلَفَ بمعنى مَضَى وانقضى، ومنه: سالفُ الدهرِ، وله سَلَفٌ صالح: آباءٌ متقدِّمون. ومنه ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً﴾ أي: أمةً متقدمةً يَعتبر بهم مَنْ بعدهم. ويُجمع السَّلَفُ على: أَسْلاف وسُلوف. والسالِفَةُ والسُّلاف: المتقدِّمون في حربٍ أو سفرٍ. والسالفةُ من الوجه لتقدُّمها. قال:
١١٠٣ - ومَيَّةُ أحسنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً | وسالفةً وأَحْسَنْه قَذالا |
وقوله: ﴿عَادَ﴾ أي: رَجَعَ، يُقال: عادَ يعود عَوْداً ومَعاداً، وعن بعضهم أنها تكونَ بمعنى صار، وعليه:
١١٠٤ - وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطَا | إذا قام ساوى غاربَ الفَحْلِ غاربُه |
١١٠٥ - تُعِدُّ لكم جَزْرُ الجَزُورِ رماحُنا | ويَرْجِعْنَ بالأسيافِ مُنْكَسِرَاتِ |
١١٠٦ - يَزْداد حتى إذا ما تَمَّ أَعقَبهُ | كَرُّ الجديدَيْنِ نَقْصاً ثم يَنْمَحِقُ |
١١٠٧ - وَأَمْصَلْتُ مالي كلَّه بحياتِهِ | وماسُسْتَ من شيءٍ فَرَبُّكَ ماحِقُهْ |
وقد اشتملَتْ هذه الآيةُ على نوعين من البديع، أحدُهما: الطباقُ في قولِه: «يَمْحَقُ ويُرْبي» فإنهما ضِدَّان، نحو: ﴿أَضْحَكَ وأبكى﴾ [النجم: ٤٣]، والثاني: تجنيسُ التغايرِ في قولِهِ: «الرِّبا ويُرْبى» إذ أحدُهما اسمٌ والآخرُ فِعْلٌ.
وقرأ الحسن: «ما بَقَا» بقلبِ الكسرةِ فتحةً والياءِ الفاً، وهي لغةٌ لطيء ولغيرِهِم، ومنه قولُ علقمة التميمي:
١١٠٨ - زَهَا الشوقُ حتى ظَلَّ إنسانُ عينِهِ | يَفِيضُ بمغمورٍ من الدَّمْعِ مُتْأَقِ |
١١٠٩ - وما الدُّنيا بباقاةٍ علينا | وما حَيٌّ على الدنيا بباقِ |
١١١٠ - إنما شِعْرِيَ قَيْدٌ | قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ |
١١١١ - هو الخليفةُ فارضُوا ما رَضِيْ لكمُ | ماضي العزيمةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ |
١١١٢ - لَعَمْرُكَ لا أخشى التَّصَعْلكَ ما بقِي | على الأرضِ قَيْسِيٌّ يسوق الأباعرا |
ونَقَل ابنُ عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «من الرِّبُو» بتشديدِ الراء مكسورةً، وضمِّ الباءِ بعدَها واوٌ. قلت: قد قَدَّمْتُ أن أبا السَّمَّال إنما قرأ «الربا» في أولِ الآيةِ بواوٍ بعد فتحةِ الباءِ، وأنَّ أبا زيدٍ حَكَى عن بعضِهم أنه ضَمَّ الباءَ، وقدَّمْتُ تخريجَهما على ضعفه.
وقال ابن جني: «شَذَّ هذا الحرفُ في أَمْرين، أحدُهما: الخروجُ من الكسرِ إلى الضم بناءً لازماً، والآخر: وقوعُ الواوِ بعدَ الضمةِ في آخرِ الاسمِ، وهذا شيءٌ لم يأتِ إلا في الفعلِ نحو: / يَغْزُو وَيَدْعُو، وأَمَّا» ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم مَنْ يُغَيِّرُ واوَها إذا فارَقَ الرفعَ، فيقولُ:» رأيتُ ذا قام «، ووجهُ القراءةِ أنه لمَّا فَخَّم الألفَ انتحى بها الواوَ التي الألفُ بدلٌ منها، على حَدِّ قولهم: الصلاةُ والزكاةُ، وهي بالجملةِ قراءةٌ شاذةٌ». قلت: غيرُهُ يقيِّدُ العبارَةَ فيقولُ: «ليسَ في الأسماء المُعْرَبَةِ واوٌ قَبْلَهَا ضمةٌ» حتى يُخرجُ عنه «ذو» بمعنى الذي و «هو» من الضمائر، وابنُ جني لم يَذْكِر القيدَ استثنى «ذو الطائية» ويَرِدُ عليه نحو «هو»، ويَرِدُ على العبارةِ «ذو» بمعنى صاحب فإنَّها معربةٌ آخرِها واوٌ بعدَ ضمةٍ.
وقد أُجيبَ عنه بأنها تتغيَّر إلى
١١١٣ - فإمَّا كِرامٌ مُوسِرُون لَقِيتُهمُ | فَحَسْبي من ذي عندَهم ما كَفانيا |
قوله: ﴿إِن كُنْتُمْ﴾ شرطٌ وجوابُه محذوفٌ عند الجمهورِ أي: فاتَّقُوا وذَروا، ومتقدِّمٌ عند جماعةٍ. وقيل: «إنْ» هنا بمعنى إذ، وهذا مردودٌ مرغوبٌ عنه. وقيل: يُراد بهذا الشرطِ هنا الاستدامةُ.
١١١٤ - آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ | رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ |
وقراءةُ الباقين أَمْرٌ من: أَذِنَ يَأْذَنُ أي عَلِمَ يَعْلَمُ أي: فاعلَموا يُقال: أَذِن به فهو أَذِين، أي: عَلِمَ به فهو عليم.
ورجَّح جماعةٌ قراءةَ حمزةَ. قال مكيّ: «لولا أَنَّ الجماعَةَ على القصرِ لكان الاختيارُ المدَّ. ووجَّه ذلك أن آذَنَ بالمدِّ أَعَمُّ من أَذِنَ بالقصر، لأنهم إذا أَعلمُوا غيرَهم فقد عَلِموا هم ضرورةً، من غيرِ عكسٍ، أو يَعْلَمُون هم بأنفسِهم ولا يَعْلَمُ غيرُهُم». قال: «وبالقصرِ قرأ علي بن أبي طالب وجماعةٌ».
وعَكَسَ أبو حاتمٍ فرجَّح قراءةَ القصرِ، واستبعدَ قراءةَ المَدِّ قال: «إذ الأمرُ فيه بالحربِ لغيرِهم والمرادُ هم؛ لأنهم المخاطَبون بتركِ الربا» وهذا الذي قالَه غيرُ لازمٍ؛ لأنك إذا كنتَ على حالةٍ فقلتُ لك يا فلان: «أعلِمْ فلاناً أنه
وقال أبو عليّ: «وإذا أُمرِوا بإعلامِ غيرِهم عَلِموا هم لا محالَةَ، ففي إعلامِهِم علمُهم، ليس في علمِهم إعلامُهم غيرَهم، فقراءةُ المدِّ أرجحُ لأنها أبلغُ وأكدُ.
وقال الطبري:» قراءةُ القصرِ أَرْجَحُ لأنها تختصُّ بهم، وإنما أُمِرُوا على قراءةِ المدِّ بإعلام غيرِهم «.
وقال الزمخشري:» وقُرِىء فآذِنُوا: فَأَعْلِموا بها غيرَكم، وهو من الإِذْن وهو الإِسماع، لأنه من طرق العلمِ. وقرأ الحسنُ: «فَأَيْقِنُوا» وهو دليلٌ لقراءةِ العامةِ «يعني بالقصرِ، لأنها نصٌّ في العلمِ لا في الإِعلام.
وقال ابنُ عطية:» والقراءتان عندي سواءٌ، لأنَّ المخاطَبَ محصورٌ، لأنه كلُّ مَنْ لا يَذَرُ ما بقي من الربا.
فإنْ قيل: «فَأْذَنوا» فقد عَمَّهم الأمرُ، وإنْ قيلَ «فآذِنُوا» بالمدِّ فالمعنى: أعلِمُوا أنفسَكم أو بعضكم بعضاً، وكأنَّ هذه
قوله: ﴿بِحَرْبٍ﴾ الباءُ في قراءةِ القصر قال الشيخ:» للإِلصاقِ، تقول أَذِنَ بكذا أي: عَلِمَ كذا، ولذلك قال ابنُ عباس وغيرُه: المعنى: فاستيقنوا بحربٍ من الله «قلت: قد قَرَّرْتُ أنَّ فعلَ العلمِ وإنْ كانَ في الأصلِ/ متعدياً بنفسِهِ فإنَّما يُعَدَّى بالباءِ لِما تَضَمَّنَ من معنى الإِحاطة فكذلك هذا، ويَظْهَرُ من كلامِ ابن عطية أنَّ هذه الباءَ ظرفيةٌ فإنه قال:» هي عندي من الإِذن، وإذا أَذِنَ المرءُ في شيءٍ فقد قَرَّره وبنى مع نفسِه عليه، فكأنه قيل لهم: قَرِّروا الحربَ بينكم وبين اللَّهِ ورسولهِ «فقوله:» وإذا أَذِنَ المرءُ في شيء «يقتضي تقديرَه:» فَأْذنوا في حربٍ، ولا يتأتَّى هذا إلا على قراءةِ القصرِ، وأمَّا الباءُ مع قراءةِ المَدِّ فهي مُعَدِّيةٌ للإِعلام بالطريقِ الذي قَدَّرْتُه.
قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صفةٌ للنكرةِ قبلَه. و «مِنْ» فيها وجهان، أظهرهما: أنها لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وفيه تهويلٌ وتعظيمٌ للحربِ حيث هو واردٌ من جهةِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنها تبعيضيةٌ أي: من حروبِ الله فهو على حَذْفِ مضاف. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هلاَّ قيل بحربِ اللَّهِ ورسولهِ قلت: هذا أَبْلَغُ؛ لأنَّ المعنى فَأْذَنوا بنوعٍ من الحربِ عظيمٍ من عندِ الله ورسولِهِ. انتهى. وإنما كان أبلغَ لأنَّه لو أُضِيفَ لاحتملَ إضافةَ المصدرِ إلى فاعلِهِ وهو المقصودُ، ولاحتملَ الإِضافةَ إلى مفعوله بمعنى أنكم تُحاربون اللَّهَ ورسولَه، والمعنى الأولُ أبلغُ، فلذلك تَرَكَ ما هو محتملٌ إلى ما هو نَصٌّ في المرادِ.
وقرأ الجمهورُ الأولَ مبنياً للفاعلِ والثاني مبنياً للمفعولِ. ورَوَى أبان والمفضَّلُ عن عاصم بالعكسِ. ورجَّح الفارسي قراءةَ العامةِ بأنها تناسِبُ قولَه: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ في إسنادِ الفعلين إلى الفاعلِ، فَتَظْلِمُون مبنياً للفاعل أَشْكَلُ بما قبله. وقال أبو البقاء:» يُقْرَأُ بتسمية الفاعل في الأول وتَرْكِ التسميةِ في الثاني. ووجهُه أنَّ مَنْعَهم من الظلمِ أهمُّ فبُدِىءَ به، ويُقرأ بالعكسِ، والوجهُ فيه أنه قَدَّمَ ما تطمئِنُّ به نفوسُهم من نفيِ الظلمِ عنهم، ثم مَنَعَهم من الظلمِ، ويجوزُ أن تكونَ القراءتان بمعنى واحدٍ لأنَّ الواوَ لا تُرَتِّبُ.
١١١٥ -..................... | إنما يَجْزِي الفتى ليسَ الجَمَلْ |
١١١٦ -................... | يبغى جِوارَك حين ليسَ مُجِيرُ |
وتَقَوَّى الكفيون بقراءةِ عبدِ الله وأُبَيّ وعثمان: «وإن كان ذا عُسْرةٍ» أي: وإنْ كان الغريمُ ذا عسرةٍ. قال أبو عليّ: «في» كان «اسمُها ضميراً
وقرأ الأعمشُ: «وإنْ كان مُعْسِراً» قال الداني عن أحمد بن موسى: «إنها في مصحف عبد الله كذلك.
ولكنَّ الجمهورَ على ترجيحِ قراءةِ العامةِ وتخريجِهم القراءةَ المشهورة. قال مكي:» وإنْ وقع ذو عسرةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نَصَبْتَ «ذا» على خبرِ «كان» لصار مخصوصاً في ناسٍ بأعيانِهم، فلهذه العلةِ أَجْمَعَ القُرَّاءُ المشهورون على رفع «ذو». وقد أَوْضَحَ الواحدي هذا فقال: «أي: وإن وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يَصِحُّ، وذلك أنه لو نُصِبَ فقيل: وإنْ كان ذا عسرةٍ لكان المعنى: وإنْ كان المشتري ذا عسرةٍ فنظرةٌ، فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمرُ كذلك، لأن المشتريَ وغيرَه إذا كان ذا عسرةٍ فله النظرةُ إلى الميسرةِ». وقال الشيخ: «مَنْ نصب» ذا عسرة «أو قرأ» مُعْسِراً «فقيل» : يختصُّ بأهلِ الربا، ومَنْ رفع فهو عامٌّ في جميعِ مَنْ عليه دَيْنٌ، قال: «وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سيقت في أهلِ الربا وفيهم نَزَلَتْ» قلت: وهذا الجوابُ لا يُجْدِي، لأنه وإن كان السياقُ كذا فالحكمُ ليس خاصاً بهم.
والعُسْرَةُ بمعنى العُسْر.
قوله: ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ الفاءُ جوابُ الشرط و «نَظِرةٌ» خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالأمرُ أو فالواجِبُ، أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ، أو فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: فتجِبُ نظرةٌ.
وهذه الجملةُ لفظُها خبرٌ ومعناها الأمرُ، كقولِهِ: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ﴾ [البقرة: ٢٣٣] وقد تقدَّم. والنظرةُ من الانتظارِ وهو الصبرُ والإِمهالُ.
قوله: ﴿إلى مَيْسَرَةٍ﴾ قرأ نافع وحده: «مَيْسُرَة» بضم السين، والباقون
وقد رَدَّ النحاسُّ الضمَّ تجرُّؤاً منه، وقال: «لم تَأْتِ مَفْعُلة إلا في حروفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاءَ زائدةٌ ولم يأتِ في كلامِهِ مَفْعُل البتةَ» انتهى. وقال سيبويه: «ليس في الكلامِ مَفْعُل» قال أَبو علي: «يعني في الآحادِ». وقد حَكَى عن سيبويه «مَهْلَك» مثلثَ اللام. وقال الكسائي: «مَفْعُل» في الآحادِ، وأوردَ منه: مَكْرُماً في قولِ الشاعر:
١١١٧ - ليومِ رَوْعٍ أو فَعالِ مَكْرُمِ | ..................... |
١١١٨ - بُثَيْنُ الزمي «لا» إنَّ لا إنْ لَزِمْتِهِ | على كثرةِ الواشين أيُّ مَعْونِ |
١١١٩ - أَبْلِغِ النعمانَ عني مَأْلُكاً | أنه قد طالَ حَبْسي وانتظاري |
وإذا تقرَّر هذا فقد خَطَّأ النحويون مجاهداً وعطاءً في قراءتهما: «إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضمومَ السينِ إلى ضميرِ الغريم، لأنهم بَنَوْهُ على أنه ليسَ في الآحادَ مَفْعُل، ولا ينبغي أن يكونَ هذا خطأ، لأنه على تقديرِ تسليمِ أنَّ مَفْعُلاً ليس في الآحادِ، فَمَيْسُر هنا ليس واحداً، إنما هو جَمْعُ مَيْسُرَة كما قلتم أنتم: إن مَكْرُماً جمع مَكْرُمَة ونحوه، أو يكونُ قد حَذَفَ تاءَ التأنيثِ للإِضافةِ كقوله:
١١٢٠ - إنَّ الخليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانجردوا | وأَخْلَفوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدوا |
قوله: ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ﴾ قرأ عاصم بتخفيفِ الصاد، والباقون بتثقيلها. وأصلُ القراءتين واحدٌ، إذ الأصلُ: تَتَصَدَّقُوا، فَحَذَفَ عاصم إحدى التاءين: إمَّا الأولى وإما الثانيةِ، وتَقَدَّمَ تحقيقُ الخلافِ فيه، وغيرُهُ أدغم التاء في الصادِ، وبهذا الأصلِ قرأ عبد الله:» تَتَصَدَّقوا «. وحُذِفَ مفعولُ التصدُّقِ للعلمِ به، أي: بالإِنظار. وقيل: برأس المال على الغريم. و ﴿إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جوابُهُ محذوفٌ. و» أَنْ تَصَدَّقُوا «بتأويل مصدرٍ مبتدأٌ، و» خيرٌ لكم «خبرُهُ.
قال أبو البقاء:» ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءةِ بالياء، ويجوزُ أن يكونَ حالاً منه أيضاً على القراءة بالتاء، على أنه خروجٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة كقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]، ولا ضرورةَ تَدْعُوا إلى ما ذكر.
و «تَدَايَنَ» تفاعَلَ من الدَّيْن كتبايَعَ من البَيْع، يقال: داينْتُ الرجل أي: عاملْتُه بدَيْنٍ، وسواءً كنت معطياً أم آخذاً، قال رؤبة:
١١٢١ - دايَنْتُ أَرْوى والديونُ تُقْضى | فَمَطَّلَتْ بعضاً وأَدَّتْ بَعْضَا |
قوله: ﴿فاكتبوه﴾ الضميرُ يعودُ على «بدَيْن» وإنما ذَكَرَ قولَه «بدَيْن» ليعيدَ عليه هذا الضميرَ، وإنْ كان الدَّيْن مفهوماً/ من قولِهِ: «تدايَنْتُم»، أو لأنه قد
وقوله: ﴿إِلَى اأَجَلٍ﴾ على سبيلِ التأكيدِ، إذ لا يكونُ الدَّيْن إلاَّ مؤجَّلاً، وألفُ «مُسَمَّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياءُ منقلبةٌ عن واو، لأنه من التسميةِ، وقد تقدَّم أنَّ المادةَ مِنْ سما يسمو.
قوله: ﴿بالعدل﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ الجارُّ متعلقاً بالفعلِ قبلَه. قال أبو البقاء: «بالعدلِ» متعلِّقٌ بقولِهِ: فَلْيَكْتُبْ، أي: ليكتبْ بالحقِّ، فيجوزُ أَنْ يكونَ حالا أي: ليكتبْ عادِلاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ العَدْلِ «. قولُه أولاً:» بالعدلِ متعلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب «يريدُ التعلقَ المعنويَّ؛ لأنه قد جَوَّزَ فيه بعدَ ذلك أَنْ يكونَ حالاً، وإذا كانَ حالاً تعلَّقَ بمحذوفٍ لا بنفسِ الفعلِ. وقوله:» ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً «يعني فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بنفسِ الفعلِ.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب» كاتب «. قال الزمخشري:» متعلَّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتب «وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابنُ عطية:» والباءُ متعلقةٌ بقولِهِ: «وَلْيَكْتُب»، وليْسَتْ متعلقةً بقولِهِ «كاتبٌ» لأنه كان يَلْزَمُ ألاَّ يكتبَ وثيقةً إلا العدلُ في نفسِهِ، وقد يكتُبها الصبيُّ والعبدُ «.
الثالث: أن تكونَ الباءُ زائدةً، تقديرُهُ: فَلْيكتب بينكم كاتبُ العدلِ.
و» كما عَلَّمه الله «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقولِهِ:» أَنْ يَكْتُبَ «على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضميِرِ المصدرِ على رأيِ سيبويه، والتقدير: أَنْ يكتبَ كتابةً مثلَ ما عَلَّمه الله، أو أَنْ يكتبَهُ أي: الكَتْبَ مثلَ ما عَلَّمه الله. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقوله» فَلْيَكْتُبْ «بعدَه.
قال الشيخ: «والظاهرُ تعلُّق الكافِ بقولِهِ:» فَلْيَكْتُب «وهو قَلِقٌ لأجلِ الفاءِ، ولأجلِ أنه لو كانَ متعلِّقاً بقولِهِ:» فَلْيكتب «لكان النظمُ فَلْيكتب كما عَلَّمه الله، ولا يُحتاج إلى تقديمِ ما هو متأخرٌ في المعنى».
وقال الزمخشري: - بعد أَنْ ذكرَ تعلُّقَهُ بِأَنْ يكتُبَ، وب «فليكتب» - «فإنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إنْ عَلَّقْتَه بأَنْ يكتب فقد نَهَى عن الامتناعِ من الكتابةِ المقيَّدةِ، ثم قيل له: فَلْيَكْتُب تلك الكتابةَ لا يَعْدِلُ عنها، وإنْ عَلَّقْته بقوله:» فَلْيكتب «فقد نَهَى عن الامتناعِ بالكتابة على سبيلِ الإِطلاق، ثم أَمَرَ بها مقيدةً» ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بقولِهِ: لا يَأْبَ، وتكونُ الكافُ حينئذٍ للتعليلِ. قالَ ابنُ عطية: «ويُحْتَمل أن يكونَ» كما «متعلقاً بما في قولِه» ولا يأْبَ «من المعنى أي: كما أَنْعَمَ الله عليه بعلمِ الكتابةِ فلا يَأْبَ هو، وَلْيُفْضِل كما أُفْضِلَ عليه». قال الشيخ: «وهو خلافُ الظاهِرِ، وتكونُ الكافُ في هذا القولِ للتعليلِ» قلت: وعلى القولِ بكونِها متعلقةً
وقرأ العامةُ: «فَلْيكتب» بتسكينِ اللام كقولهم: «كَتْف» في كَتِف، إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصلِ. وقد قرأَ الحسن بكسرِها وهو الأصلُ.
قوله: ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ أمرٌ من أَمَلَّ يُمِلُّ، فلمَّا سَكَنَ الثاني جزماً جَرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغةُ الحجازِ، والإِدْغامُ وهو لغةُ تميم، وكذا إذا سَكَنَ وقفاً نحو: أملِلْ عليه وأَمِلَّ، وهذا مطَّرِدٌ في كلِّ مضاعفٍ وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قراءتَيْ: «مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ» في المائدةِ وعلَّة كلِّ لغةٍ.
وقُرىء هنا شاذاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإِدغامِ، ويقال: أَمَلَّ يُمِلُّ إملالاً، وأَمْلَى يُملي إملاءً. ومِنْ الأولى قولُه:
١١٢٢ - ألا يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعان | أَمَلَّ عليها بالبِلَى المَلَوانِ |
و «الحقُّ» يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً، و «عليه» خبرٌ مقدمٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ
قوله: ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ﴾ يجوزُ في «منه» أن يكونَ متعلقاً بيبخَسْ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ في «منه» للحقِّ. والثاني: أنها متعلقة بمحذوفٍ لأنها في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّمَتْ على النكرةِ نُصِبَتْ حالاً.
و «شيئاً» : إمَّا مفعولٌ به وإمَّا مصدرٌ.
والبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقال منه: بَخَس زيدٌ عمراً حقَّه يَبْخَسُهُ بَخْسَاً، وأصلُهُ من: بَخَسْتُ عينه، فاستعيرَ منه بَخْسُ الحق، كما قالوا: «عَوَرْتُ حَقَّه» استعارةً مِنْ عَوَرِ العَيْنِ. ويقال: بَخَصْتُه بالصادِ. والتباخُسُ في البَيْعِ: التناقُصُ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايِعَيْنِ يُنْقِصُ الآخرَ حَقَّه.
قوله: ﴿أَن يُمِلَّ هُوَ﴾ أَن وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به، أي: لا يستطيعُ الإِملالَ، و «هو» تأكيدٌ للضميرِ المستتر. وفائدةُ التوكيِدِ به رَفْعُ المجازِ الذي كان يحتمِلُه إسنادُ الفعلِ إلى الضميرِ، والتنصيصُ على أنه غيرُ مستطيعٍ بنفسِه، قاله الشيخ.
وقُرىء بإسكان هاء «هو» وهي قراءةٌ ضعيفة لأنَّ هذا الضميرَ كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلَها. ومَنْ سَكَّنَهَا أجرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أول/ هذه السورة. قال الشيخ: «وهذا أشذُّ مِنْ قراءةِ
والهاء في» وَليُّه «للذي عليه الحقُّ إذا كان متَّصفاً بإحدى الصفاتِ الثلاثِ. وقولُه» بالعَدْل «كما تقدَّم في نظيرِهِ فلا حاجةَ إلى إعادتِهِ.
وقوله: ﴿واستشهدوا﴾ يجوزُ أن تكونَ السينُ على بابِها من الطلب أي: اطلُبوا شهيدَيْن، ويجوزُ أن يكونَ استفعلَ بمعنى أَفْعَلَ، نحو: اسْتَعْجَلَ بمعنى أَعْجَل، واسْتيقن بمعنى أَيْقَنَ وفي قوله:» شهيدين «تنبيهٌ على أنه ينبغي أن يكونَ الشاهدُ ممَّن تتكرَّرُ منه الشهادةُ حيث أتى بصيغةِ المبالغة.
قوله: ﴿مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ يجوزُ أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشهيدَيْن و» مِنْ «تبعيضيةٌ.
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾ جَوَّزُوا في» كان «هذه أَنْ تكونَ الناقصةَ وأَنْ تكونَ التامَةَ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانَتْ ناقصةً فالألفُ اسمُها، وهي عائدةٌ على الشهيدَيْن أي: فإن لم يكنِ الشاهدان رَجُلَيْن، والمعنى على هذا: إن أغْفَلَ ذلك صاحبُ الحق أو قصد أَنْ لا يُشْهِدَ رجلين لغرضٍ له، وإنْ كانَتْ تامةً فيكون» رجلين «نصباً على الحال المؤكِّدة كقولِهِ: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ [النساء: ١٧٦]، ويكونُ المعنى على هذا أنه لا يُعْدَل إلى ما ذَكَرَ إلا عند عدمِ الرجال. والألفُ في» يكونا «عائدةٌ على» شهيدين «، تفيدُ الرجوليةَ، والتقديرُ: فإنْ لم يُوجَدِ الشهيدان رَجُلَيْن.
وقيل: هو خبرٌ والمبتدأٌ محذوفٌ تقديرُهُ: فالشاهدُ رجلٌ وامرأتان وقيل: بل هو مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُهُ: فيكفي رجلٌ أي: شهادةُ رجلٍ، فَحُذِفَ المضافُ للعلمِ به، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. وقيل: تقديرُه الفعلِ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحْوِج إلى حذفِ مضافٍ، وهو تقديرُ أبي القاسم الزمخشري. وقيل: هو مرفوعٌ بكان الناقصةِ، والتقديرُ: فليكن مِمَّنْ يشهدون رجلٌ وامرأتان. وقيل: بل بالتامةِ وهو أَوْلى، لأنَّ فيه حذفَ فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير الناقصة حذفُها مع خبرِها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «ولو كان قد قُرىء بالنصبِ لكانَ التقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا» قلت: وهو كلامٌ حسنٌ.
وقرىء: «وامرأْتان» بسكون الهمزةِ التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً، وليس قياسُ تخفيفِها ذلك، بل بَيْنَ بينَ، ولمَّا أبدلَهَا ألفاً هَمَزَهَا كمَا هَمزتِ العربُ نحو: العَأْلَم والخَأْتم وقوله:
١١٢٣ - وخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَأْلَمِ | ......................... |
والثاني: أن يكونَ قد استثقلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشْبِهُ حرفَ العلةِ فَتُسْتثقل عليها الحركةُ فَسُكِّنَتْ لذلك. قال الشيخ:» ويمكن أَنْ سَكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ، وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزة في قول الشاعر:
١١٢٤ - يَقُولون جَهْلاً ليس للشيخِ عَيِّلٌ | لَعَمْرِي لقد أَعْيَلْتُ وأْنَ رَقُوبُ |
الوجهُ الثالث: أنه بَدَلٌ مِنْ قولِه «من رجالكم» بتكريرِ العاملِ، والتقديرُ: «واستشهِدوا شهيدَيْن مِمَّنْ تَرْضَوْن»، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفَه. وكان ينبغي أن يُضَعِّفَه بما ضَعَّفَ وجهَ الصفة، وهو للفصلِ بينهما، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشهيدين الرجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان. وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا من بدلِ البعضِ إنْ أخذنا «رجالكم» على العمومِ، أو الكلِّ من الكِّل إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كِلا التقديرين فلا ينفي ذلك عَمَّا عداه، وأمّا في الوصفِ فمسلَّمٌ، لأنَّ لها مفهوماً على المختارِ، الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهدوا، أي: استشهدوا مِمَّن تَرْضَوْن. قال الشيخ: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء متأخراً بعد الجميعِ».
قوله: ﴿مِنَ الشهدآء﴾ يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتقدير: مِمَّنْ تَرْضَوْنَه حالَ كونِه بعضَ الشهداء. ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العاملِ، كما تقدَّم في نفسِ «مِمَّنْ تَرْضَوْن»، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القولين في كلٍّ منهما.
قوله: ﴿أَن تَضِلَّ﴾ قرأ حمزةُ بكسر «إنْ» على أنَّها شرطيةٌ، والباقون
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحكمِ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأن قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيبَ بهذه الجملةِ.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ ف «أَنْ» فيها مصدريةٌ ناصبةٌ بعدَها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافِها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغامِ في الثانية، والثانيةُ مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ،
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه فِعْلٌ مضمرٌ دَلَّ عليه الكلامُ السابق، إذ التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين لأنْ تَضِلَّ إحداهما، ودَلَّ على هذا الفعلِ قولُه: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان﴾ قالَه الواحدي، ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الرافعَ لرجل وامرأتين مُغْنٍ عن تقدير شيءٍ آخرَ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولِك: «فرجلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأولِ: فَلْيَشْهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدون لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التقديرانِ هما الوجهُ الثاني والثالثُ من الثلاثةِ المذكورةِ.
وهنا سؤالٌ واضحٌ جَرَتْ عادةُ المُعْرِبين والمفسِّرين يسألونَه وهو: كيف جُعِل ضلالُ إحداهما علةً لتطلُّبِ الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حَسَبِ التقديرَيْن المذكورَيْن أولاً؟ وقد أجابَ سيبويه وغيرُه عن ذلك بأن الضلالَ لَمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسَبَّباً عنه، وهم يُنَزَّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسِهما واتصالِهما كانَتْ إرادةُ الضلالِ المُسَبَّبِ عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكارِ. فكأنه قيل: إرادَةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهما الأخرى إنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: «أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السلاحَ ان يجيءَ عدوٌ فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبةَ لأَنْ يميلَ الحائطُ ولا إعدادُك السلاحَ لأنْ يجيءَ عدوٌ، وإنما هما للإِدغام إذا مالَ/ وللدفع إذا جاء العدوُ، وهذا مِمَّا يعدُ إليه المعنى ويُهْجَرُ فيه جانبُ اللفظَ.
١١٢٥ -.................. | فَعَجَّلْنا القِرى أَنْ تَشْتِمُونا |
وذهب الفراء إلى أغربَ مِنْ هذا كلِّه فَزَعَمَ أَنَّ تقديرَ الآيةِ الكريمة:» كي تذكِّر أحداهما الأخرى إنْ ضَلَّت «فلَّما قُدِّم الجزاءُ اتصلَ بما قبلَه ففُتِحَتْ» أَنْ «، قال:» ومثلُه من الكلامِ: «إنه ليعجبُني أَنْ يسألَ السائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَن يُعْطَى السائلُ إن سَأَلَ؛ لأنه إنما يُعْجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ،
وأنكر هذا القولَ البصريُّون وَردُّوه أبلغ ردٍّ. قال الزجاج: «لَسْتُ أدري لمَ صار الجزاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانِه وغيرِ مكانِه وَجَبَ أن يَفْتَحْ أن». وقال الفارسي: «ما ذَكَرَه الفراء دعوى لا دلالةَ عليها والقياسُ يُفْسِدُها، ألا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العاملَ إذا تغيَّرت حركتُه لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عَملِهِ ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتحِ اللامِ الجارَّةِ مع المُظْهَرِ عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فكما أنَّ هذه اللامَ لَمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك» إنْ «الجزائيةُ ينبغي إذا فُتِحَتْ ألاَّ يتغيَّر عملها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديمِ ولا بالتأخيرِ، ألا ترى لقولِك:» مررتُ بزيدٍ «ثم تقول:» بزيد مررت «فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ».
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فَتُذِكِرَ» بتخفيفِ الكافِ ونصبِ الراءِ من أَذْكَرْتُه أي: جَعَلْتُه ذاكراً للشيءِ بعدَ نِسْيانِه، فإنَّ المرادَ بالضلالِ هنا النسيانُ كقولِه تعالى: ﴿فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ [الشعراء: ٢٠] وأنشدوا الفرزدق:
١١٢٦ - ولقد ضَلَلْتَ أباكَ يَدْعُو دارمِاً | كضلالِ ملتمسٍ طريقَ وِبارِ |
وقد شَذَّ بعضُهم فقال: «معنى فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى أي: فتجعلَها ذَكَراً، أي: تُصَيِّرُ حكمَها حكمَ الذَّكَرِ في قَبولِ الشهادةِ. وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال:» فَتُذَكِّر إحداهما الأخرى بالتشديدِ فهو من طريقِ التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تَذْكُرين إذ شَهِدْنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ أو فلانة، ومَنْ قرأ «فَتُذْكِرَ» بالتخفيف فقال: إذا شَهِدَتِ المرأةُ ثم جاءَتِ الأخرى فَشَهِدَتْ معها فقد أَذْكَرَتْها لقيامِهما مقامَ ذَكَر «ولم يَرْتَضِ هذا من أبي عمرو المفسرون وأهلُ اللسان، بل لم يُصَحِّحوا روايةَ ذلك عنه لمعرفتِهم بمكانتِه من العلمِ، ورَدُّوه على قائله من وجوهٍ منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلةَ الضلالِ المرادِ به النسيانُ بالإِذكار والتذكيرِ، ولا تناسُبَ في المقابلةِ بالمعنى المنقولِ عنه. ومنها: أنَّ النساءَ لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العَدَدِ لا بد معهنَّ مِنْ رجلٍ يَشْهَدُ معهم، فلو كان ذلك المعنى صحيحاً لذكَّرَتْها بنفسِها من غيرِ انضمامِ رجلٍ، هكذا ذَكَروا، وينبغي أَنْ يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأتينِ، وإلاَّ فقد نَجِدُ النساءَ يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انضمامِ رجلٍ إليهنَّ، ومنها: أنها لو صَيَّرَتْها ذَكَراً لكان ينبغي أَنْ يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقْتَصرُ به على ما فيه.
.. وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركٌ الإِلزامِ/ لأنه يُقال: وكذا إذا فَسَّرْتموه بالتذكير بعد النسيانِ لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيب به فهو جوابُهم أيضاً.
وأمَّا نصبُ الراءِ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» لأنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأَنْ الناصبةِ، وقرأ الباقون بتشديدِ الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جَعَلْتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أنَّ حمزةَ وحدَه هو الذي يَرْفع الراء.
وخَرَجَ من مجموعِ الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزة وحدَه: «إنْ تَضِلَّ فتذكَّرُ» بكسر «إنْ» وتشديدِ الكافِ ورفعِ الراء، وأبو عمرو وابنُ كثير بفتح «أنْ» وتخفيفِ الكافِ الراء، والباقون كذلك، إلا أنهم يُشَدِّدون الكافَ.
والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى، [نحو] : أَكْرَمْتُه وَكَرَّمته، وفَرَّحته وأَفْرحته. قالوا: والتشديدُ في هذا اللفظ أكثرُ استعمالاً من التخفيفِ، وعليه قولُه:
١١٢٧ - على أنني بعدَ ما قد مضى | ثلاثونَ للهَجْرِ حَوْلاً كميلا |
يُذَكِّرُنِيك حنينُ العَجولِ | ونَوْحُ الحمامةِ تَدعُو هَدِيلا |
وقوله: ﴿إِحْدَاهُمَا﴾ فاعل «والأخرى» مفعول، وهذا مِمَّا يَجِبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعرابِ والمعنى نحو: ضَرَب موسى عيسى. قال أبو البقاء: ف «إحداهما» فاعلٌ، و «الأخرى» مفعول، ويَصِحُّ العكس، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النحويين في الإِعراب، لأنه إذا لم يظهر الإِعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ وَجَبَ تقديمُ الفاعل [فيما] يُخاف فيه اللَّبْسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جازَ تقديمُ المفعولِ كقولك: «كسر العصا موسى»، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ لأنَّ النِّسْيَانِ والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله «فَتُذَكِّرَ» أنَّ التي تُذَكِّر هي الذاكرة والتي تُذَكَّرُ هي الناسية، كما علم من لفظ «كَسَر» مَنْ يَصِحُّ منه الكسرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل «إحداهما» فاعلاً، و «الأخرى» مفعولاً وأن تعكس «انتهى.
ولَمَّا أَبْهَمَ الفاعلَ في قولِه: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا﴾ أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّر إحداهما» لأنَّ كلاً من المرأتين يجوزُ عليها ما يجوزُ على صاحبتِها من الإِضلالِ والإِذكارِ، والمعنى: إنْ ضَلَّتْ هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنَى العموم
و «إحدى» تأنيثُ «الواحد» قال الفارسيّ: «أَنَّثُوه على غير بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل هو تأنيثُ» أَحَد «ولذلك يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عَشَرَة [و] واحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين. وتُجْمَعُ» إحدى «على» إحَد «نحو: كِسْرَة وكِسَر. قال أبو العباس:» جَعَلَوا الألفَ في الإِحدى بمنزلةِ التاء في «الكِسْرة» فقالوا في جَمْعِها: إحَد كما قالوا: كَسْرة وكِسَر، كما جَعَلُوه مثلَها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلى، فكما جَعَلوا هذه كظُلْمة وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر «قال:» وكما جعلوا الألفَ المقصورةَ بمنزلةِ التاءِ فيما ذُكِر جعلوا الممدودة أيضاً بمنزلتِها في قولِهم «قاصِعَاء وقواصِع» ودامّاء ودوامّ «يعني أن فاعِلَة نحو: ضارِِبَة تُجمع على ضوارب، كذا
١١٢٨ - حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحَدِ | ليثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدي |
واعلَمْ أنَّ» إحدى «لا تُسْتعمل إلا مضافةً إلى غيرِها، فيقال: إحدى الإِحَدِ وإحداهما، ولا يقال: جاءَتْني إحدى، ولا رأيت إحدى، وهذا بخلافِ مذكَّره.
و» الأُخْرى «تأنيث» آخَر «الذي هو أَفْعَلُ التفضيلِ، وتكونُ بمعنى آخِرة، كقولِه تعالى: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ﴾
[الأعراف: ٣٨]، يُجْمَعُ كلُّ منهما على «أُخَر»، ولكنَّ جمعَ الأولى ممتنعٌ من الصرفِ، وفي علتِه خلافٌ، وجَمْعُ/ الثانيةِ منصرفٌ، وبينهما فرقٌ في المعنى، وهذا كلُّه سأوضِّحه إن شاء الله تعالى في الأعرافِ فإنه أَلْيَقُ به.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء﴾ مفعولُه محذوفٌ لفهمِ المعنى، أي: لا يَأْبَوْن إقامةَ الشهادةِ، وقيل: المحذوفُ مجرورٌ لأنَّ «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديتَه أي مِنْ إقامةِ الشهادة.
و ﴿إِذَا مَا دُعُواْ﴾ ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يَمْتنعون في وقتِ دَعْوَتهم
قوله: ﴿أَن تَكْتُبُوهُ﴾ مفعولٌ به والناصبُ له «تَسْأَموا» لأنه يتعدَّى بنفسِه قال:
١١٢٩ - سَئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ | ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأَمِ |
١١٣٠ - ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها | وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيدُ |
والهاءُ في «تَكْتبوه» يجوزُ أَنْ تكونَ للدَّيْن في أول الآية، وأن تكونَ للحقّ في قولِه: «فإنْ كان الذي عليه الحقُّ» وهو أقربُ مذكورٍ، والمرادُ به «الدَّيْن» وقيل: يعودُ على الكتابِ المفهومِ من «يَكْتبوه» قاله الزمخشري.
و «صغيراً أو كبيراً» حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّيْنُ قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتابُ مختصراً أو مُشْبَعاً، وجَوَّزَ السجاوندي انتصابَه على خبرِ «كان» مضمرةً، وهذا لا حاجةَ تَدْعُوا إليه، وليس من مواضعِ إضماره.
قوله: ﴿إلى أَجَلِهِ﴾ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: أَنْ تكتبوه مستقراً في الذمَّةِ إلى أجلِ حُلولِه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبُوه، قاله أبو البقاء. وهذا قد ردَّه الشيخ فقال: «هو متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تكتبوه «لعدمِ استمرارِ الكتابةِ إلى أجلِ الدَّيْن إذ ينقضي في زمنٍ يسير، فليس نظيرَ:» سرت إلى الكوفةِ. والثالث: أن يتعلَّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاءِ، قاله أبو البقاء.
قوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ مُشَارٌ به لأقربِ مذكورٍ وهو الكَتْب. وقيل إليه وإلى الإِشهاد، وقيل: إلى جميع ما ذُكِر وهو أحسنُ. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أَقْسَطَ إذا عَدَلَ، ولا يكونُ من قسَطَ، لأنَّ قَسَط بمعنى جار، وأَقْسَط بمعنى عَدَل، فتكونُ الهمزةُ للسَّلْبِ، إلا أنه يَلْزَمُ بناءُ أَفْعَل من الرباعي، وهو شاذٌّ.
قال الزمخشري: «إنْ قلتَ مِمَّ بُنِي أَفْعلا التفضيلِ - أعني أَقْسَط وأَقْوم؟ - قلت: يجوزُ على مذهبِ سيبويه أَنْ يكونا مَبْنِيَّين مِنْ» أقسط «و» أقام «وأَنْ يكونَ» أَقْسَط «من قاسِط على طريقةِ النسبِ بمعنى: ذي قِسْطٍ؛ و» أقوم «من قويم». قال الشيخ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعلَ التفضيلِ يُبْنَى من «
ونَقَل ابن عطية أنه مأخوذٌ من «قَسُط» بضمِّ السينِ نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم». وقيل: هو من القِسْط بالكسر وهو العَدْلُ، وهو مصدرٌ لم يُشْتَقَّ منه فِعْلٌ، وليس من الإِقساط؛ لأنَّ أفعَل لا يُبنى من «الإِفعال». وهذا الذي قلته كلَّه بناءً منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجَوْر والرباعيَّ بمعنى العَدْل.
ويُحكى أن سعيد بن جبير لَمَّا سأله الظالمُ [الحجَّاجُ] بن يوسف: ما تقول فِيَّ؟ فقال: «أقولُ إنك قاسِطٌ عادِلٌ»، فلم يَفْطِن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥] ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١].
و «عند الله» / ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط» أي: في حكمِه. وقوله «وَأَقْوَمُ» إنما صَحَّت الواوُ فيه لأنه أفعلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيلِ يَصِحُّ حملاً على فِعْل التعجب، وصَحَّ فعلُ التعجبِ لجريانه مَجْرى الأسماء لجمودِه وعدمِ تصرُّفِه.
و «أَقْوَمُ» يجوزُ أن يكونَ من «أقام» الرباعي المتعدِّي؛ لكنه حَذَف الهمزةَ الزائدة، ثم أتى بهمزةِ أَفْعل كقولِه تعالى: ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى﴾ [الكهف: ١٢] فيكونُ المعنى: أَثْبَتُ لإِقامتِكم الشهادةَ، ويجوزُ أن يكونَ من «قام» اللازم ويكونُ المعنى: ذلك أثبتُ لقيامِ الشهادةِ، وقامَتِ الشهادةُ: ثَبَتَتْ، قاله أبو البقاء.
١١٣١ -....................... | وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا |
قوله: ﴿أَلاَّ ترتابوا﴾ أي: أقربُ، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، فقيل: هو اللامُ أي: أَدْنى لئلاَّ ترتابوا، وقيل هو» إلى «وقيل: هو» من «أي: أَدْنى إلى أن لا ترتابوا وأدنوى مِنْ أن لا ترتابوا. وفي تقديرهم» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعِدُ عليه. و» ترْتابوا «: تَفْتَعِلُوا من الرِّيبة، والصل:» تَرْتَيِبوا «، فَقُلِبَتِ الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها. والمفضَّلُ عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أَقْسطُ وأقومُ وأدنى لكذا مِنْ عدمِ الكَتْب، وحَسَّن الحذفَ كونُ افعلَ خبراً للمبتدأ بخلافِ كونِه صفةً أو حالاً. وقرأ السلمين: ﴿أَنْ لا يرتابوا] بياء الغيبة كقراءةِ: {ولا يَسْأموا أَنْ يكتبوه﴾ وتقدَّم توجيهُ ذلك.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً﴾ في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصلٌ قال أبو البقاء:» والجملةُ المستثناةُ في موضعِ نصبٍ لأنه استثناءٌ من الجنس لأنه أمرٌ بالاستشهادِ في كلِّ معاملةٍ، واستثنى منها التجارة الحاضرةَ،
وقرأ عاصم هنا» تجارةً «بالنصب، وكذلك» حاضرةً «لأنها صفتُها، وفي النساء وافقه الأخوان، والباقون قرؤوا بالرفعِ فيهما. فالرفعُ فيه وجهان، أحدُهما: أنها التامةُ أي: إلا أَنْ تَحْدُثَ أو تقعَ تجارةً، وعلى هذا فتكونُ» تُديرونها «في محلِّ رفعٍ صفةً لتجارةً أيضاً، وجاء هنا على الفصيحِ، حيث قَدَّم الوصفَ الصريحَ على المؤول.
والثاني: ان تكونَ الناقصةَ، واسمُها «تجارةٌ» والخبرُ هو الجملةُ من قوله: «تُديرونها» كأنه قيل: إلا أن تكونَ تجارةٌ حاضرةٌ مدارةً، وسَوَّغ مجيءَ اسمِ كان نكرةً وصفُه، وهذا مذهبُ الفراء وتابعه آخرون.
وأمَّا قراءةُ عاصم فاسمُها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديرُه: إلا أَنْ تكونَ المعاملةُ أو المبايَعَةُ أو التجارةُ. وقَدَّره الزجاج إلاَّ أَنْ تكونَ المداينةُ، وهو أحسنُ. وقال الفارسي: «ولا يجوزُ أن يكونَ التداينُ اسمَ كان لأنَّ التداينَ معنىً، والتجارةُ الحاضرةُ يُراد بها العينُ، وحكمُ الاسمِ أن يكونَ الخبرَ في المعنى، والتدايُن حَقٌّ في ذمةِ المستدينِ، للمدين المطالبةُ به، وإذا كان
وقال الفارسيّ أيضاً: «ولا يجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ اسمَها» الحقُّ «الذي في قوله:» فإن كان الذي عليه الحق «للمعنى الذي ذكرنا في التداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دَيْنٌ، وإذا لم يَجُزْ هذا لم يَخْلُ اسمُ كان من أحدِ شيئين، أحدُهما: أنَّ هذه الأشياءَ التي اقتضَتْ من الإِشهادِ والارتهانِ قد عُلِم من فحواها التَبايعُ، فأضمرَ التبايعَ لدلالةِ الحالِ عليه كما أضمرَ لدلالةِ الحال فيما حكى سيبويه:» إذا كان غداً فأتني «ويُنْشَدُ على هذا» :
١١٣٢ - أعينيَّ هَلاَّ تبكِيان عِفاقا | إذا كان طَعْناً بينهم وعِناقا |
١١٣٣ - فَدىً لبني ذُهْلِ بن شيبانَ ناقتي | إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْهَبَا |
١١٣٤ - بني أسدٍ هل تَعْلَمُون بلاءنا | إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنَعا |
وقوله: ﴿أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ أي: «في أن لا»، فَحُذفَ حرفُ الجر فبقي في موضعِ «أَنْ» الوجهان:
قوله: ﴿إِذَا تَبَايَعْتُم﴾ يجوزُ أن/ تكونَ شرطيةً، وجوابُها: إمَّا متقدم عند قومٍ، وإمَّا محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه تقديرُه: إذا تبايَعْتُم فَأَشْهِدوا، ويجوزُ أن تكونَ ظرفاً محضاً أي: افعلوا الشهادةَ وقتَ التبايعِ.
قوله: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ﴾ العامة على فتح الراء جزماً، و «لا» ناهيةٌ، وفُتِح الفعلُ لما تقدم في قراءةِ حمزةَ: «إن تَضِلَّ».
ثم هذا الفعلُ يحتملُ أن يكونَ مبنياً للفاعلِ، والأًصلُ: «يضارِرْ» بكسر الراءِ الأولى فيكونُ «كاتب» و «شهيد» فاعلَيْن نُهِيا عن مُضَارَّةِ المكتوبِ له والمشهودِ له، نُهِيَ الكاتبُ عن زيادةِ حرفٍ يُبْطل به حقاً أو نقصانِه، ونُهِيَ الشاهدُ [عن] كتمِ الشهادةِ، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال: ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، ولا شك أنَّ هذا من الكاتبِ والشاهدِ فِسْقٌ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ إبرامُ الكاتبِ والشهيدِ والإِلحاحُ عليهما فسقاً. ونُقل في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وطاووس
ويُحْتمل أن يكونَ الفعلُ فيها مبنياً للمفعول، والمعنى: أَنَّ أحداً لا يُضارِرُ الكاتبَ ولا الشاهدِ، ورُجِّح هذا بأنه لو كان النهيُّ متوجِّهاً نحو الكاتبِ والشهيدِ لقال: وإنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما، ولأنَّ السياقَ من أولِ الآيات إنما هو للمكتوبِ له والمشهودِ له. ونُقِل في التفسير هذا المعنى عن ابن عباس ومَنْ ذُكِر معه. وذكر الداني أيضاً عنهم أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالفتح. قلت: ولا غَرْوَ في هذا إذ الآيةُ عندهم مُحْتَمِلةٌ للوجهين فَسَّروا وقرؤوا بهذا المعنى تارةً وبالآخرِ أخرى.
وقرأ أبو جعفر وعمرو بن عبيد: «ولا يُضارّ» بتشديد الراءِ ساكنةً وَصْلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمعُ بين ثلاثِ سواكن، لكنه لمَّا كانت الألفُ حرفَ مدٍّ قام مَدُّها مقامَ حركةٍ، والتقاءُ الساكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف في ذلك.
وقرأ عكرمة/: «ولا يُضارِرْ كاتباً ولا شهيداً» بالفكِّ وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْبِ «كاتباً» و «شهيداً» على المفعولِ به أي: لا يضارِرْ صاحبُ حقٍ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجْبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكتابة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز.
وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الراء، وهو نفيٌ فيكونُ الخبر بمعنى النهي كقوله: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقْ﴾ [البقرة: ١٩٧]
قوله: ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ﴾ أي: تفعلوا شيئاً مِمَّا نَهَى اللهُ عنه، فَحُذِف المفعولُ به للعلمِ به. والضميرُ في «فإنه» يعودُ على الامتناع أو الإِضرار. و «بكم» متعلقٌ بمحذوفٍ، فقدَّرَه أبو البقاء: «لاحِقٌ بكم» وينبغي أن يُقَدَّر كوناً مطلقاً، لأنه صفةٌ ل «فسوق» أي: فسوقٌ مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاصقٌ بكم.
قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ يجوزُ في هذهِ الجملةِ الاستئنافُ - وهو الظاهرُ - ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الفاعلِ في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا اللهَ مضموناً لكم التعليمُ أَو الهدايةُ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مقدَّرَة». قلت: وفي هذينِ الوجهينِ نظرٌ لأنَّ المضارعَ المثبتَ لا تباشِرُه واوُ الحال، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذَلك يُؤَوَّلُ، لكنْ لا ضرورةَ تَدْعو إليه ههنا.
قوله: ﴿فَرِهَانٌ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي [عن] ذلك رُهُنٌ مقبوضةٌ. الثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: فرُهُن مقبوضة تكفي. الثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالوثيقةُ أو فالقائمُ مقامُ ذلك رُهُنٌّ مقبوضةٌ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «فَرُهُنٌّ» بضم الراء والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الراء وألف بعد الهاء، رُوي عن ابن كثير وأبي عمرو تسكينُ الهاءِ في رواية.
فأمَّا قراءةُ ابن كثير فجمع رَهْن، وفَعل يُجْمع على فُعل نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف، وأَسَد وأُسُد، وهو [وهم] » ولكنهم قالوا: إن فُعُلاً جَمعُ فَعْل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن، ولَحْد القبر ولُحُد، وقَلْب النخلة وقُلُب، ورجلٌ
١١٣٥ - بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ | وَغلَّقَتْ عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ |
واختار الزجاجِ قراءتَه هذه قال: «وهذه القراءة وافَقَت المصحفَ، وما وافقَ المصحفَ وصَحَّ معناه، وقَرَأت به القُرَّاء فهو المختارُ». قلت: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزجاج يقول: «إنَّ فُعُلاً جمعَ فَعْلٍ قليلٌ»، وحُكي عن أبي عمرو أنه قال: «لا أعرفُ الرِّهان إلا في الخيل لا غير». وقال يونس: «الرَّهْنُ والرِّهان عربيان، والرُّهُنْ في الرَّهْنِ أكثرُ، والرِّهان في الخيلِ أكثرُ» وأنشدوا أيضاً على رَهْن ورُهُن قوله - البيت -:
وأمَّا قراءةُ الباقين «رِهانِ فرِهان جمعُ» رَهْن «وفَعْل وفِعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب/ وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، ومَنْ سَكَّن ضمةَ الهاءِ في» رُهُن «فللتخفيفِ وهي لغةٌ، يقولون: سُقْف في سُقُف جمعَ سَقْف.
والرَّهْنُ في الأصل مصدُرَ رَهَنْتُ، يقال: رَهنْتُ زيداً ثوباً أَرْهَنُه رَهْناً أي: دفعتُه إليه رَهْناً عنده، قال:
١١٣٦ - آلَيْتُ لا نُعْطِيه من أَبْنائِنا | رُهُناً فيُفْسِدَهم كَرَهْنٍ أَفْسدا |
١١٣٧ - يراهِنُني فَيَرْهَنُنِي بَنِيه | وأَرْهَنُه بَنِيَّ بما أَقولُ |
١١٣٨ - فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ | نَجَوْتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مالِكا |
١١٣٩ - يَطْوي ابنُ سلمى بها من راكبٍ بَعُداً | عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنانيرُ |
.................. | ......................... |
و» رَهْن «مِمَّا استُغْنى فيه بجمعِ كثرتِه عن جمعِ قلَّته، وذلك أنَّ قياسَه في القلةِ أَفْعُل كفَلْس وأفلُس، فاستُغْنِيَ برَهْن ورِهان عن أَرْهُن.
وأصلُ الرَّهْنِ: الثبوتُ والاستقرارُ، يقال: رَهَنَ الشيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونِعمة راهنة أي دائمة ثابتة. وأنشد ابن السكيت:
١١٤٠ - لا يَسْتَفيقون منها وَهْي راهِنةٌ | إلا بهاتِ وإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلوا |
١١٤١ - الخبزُ واللحمُ لهم راهِن | ...................... |
وقوله: ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً﴾ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها عطفٌ على فعلِ الشرطِ أي:» وإنْ كنتم ولم تَجِدوا «فتكونُ في محلِّ جزمِ لعطفِها على ما هو مجزومٌ تقديراً. والثاني: أن تكونَ معطوفةٌ على خبرِ كان، أي: وإنْ كنتم لم تَجِدُوا [كاتباً} والثالث: أَنْ تكونَ الواوُ للحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحالِ فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلِّ نصب.
قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ﴾ قرأ أُبَيّ فيما نَقَلَه عنه الزمخشري «أُومِنَ» مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: «أي أَمِنَه الناس ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء». قلت: وعلامَ تنتصبُ «بعضاً؟ والظاهرُ نصبُه/ بإسقاط الخافض على حذفِ مضافٍ أي: فإن أومِنَ بعضُكم على متاعِ بعضٍ أو على دَيْنِ بعض.
قوله: ﴿فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن﴾ إذا وُقِفَ على» الذي «وابتُديء بما بعدها قيل:» اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومة بعدَها واو ساكنة، وذلك لأنَّ أصلَه أُأْتُمِنَ، مثل
ورُوي عن عاصم:» الذي اوتُمِن «برفعِ الألفِ ويُشيرِ بالضمة إلى الهمزة، قال ابن مجاهد:» وهذه الترجمةُ غلط «. ورَوى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضمَّ، وفي الإِشارة والإِشمامِ المذكورَيْن نظرٌ. وقرأ عاصم أيضاً في شاذِّة:» الَّذِتُّمِنَ «بإدغامِ الياء المبدلةِ من الهمزةِ في تاء الافتعال، قال الزمخشري:» قياساً على «اتَّسر» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيحٍ لأنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ فهي في حكمِ الهمزةِ، واتَّزر عاميُّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيا» قال الشيخ: «وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وأن» اتَّزر «عامِّي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصلَ له في اللغة - قد ذَكَره غيرُه أنَّ بعضَهم أَبْدَلَ وأدْغَمَ:» اتَّمَنَ واتَّزَرَ «وأنَّ ذلك لغةٌ رديئة، وكذلك» رُيَّا «في رُؤْيا، فهذا التشبيهُ: إمَّا أن يعودَ على قولِه:» واتَّزر عاميٌّ «فيكونُ إدغام» رُيَّا «عامياً، وإمَّا أَنْ يعودَ إلى قولِه» فليس بصحيحٍ «أي: وكذلك إدْغَامُ» رُيَّا «ليس بصحيحٍ، وقد حكَى الكسائي الإِدغمَ في» رُيَّا «.
قوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ في هذا الضمير وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الشأنِ والجملةُ بعدَه، مفسِّرٌ له. والثاني: أنه ضميرُ» مَنْ «في قولِه:» ومَنْ يَكتُمْها «وهذا هو الظاهرُ.
وأمَّا «آثمٌ قلبُه» ففيه أوجهٌ: أظهرُها: أنَّ الضميرَ في «إنه» ضميرُ «مَنْ» و «آثمٌ» خبرُ إنَّ، و «قلبُه» فاعلٌ بآثم، نحو قولِك: زيدٌ إنه قائمٌ أبوه، وعَمَلُ اسمِ الفاعلِ هنا واضحٌ لوجودِ شروطِ الإِعمال. ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأن، لأنَّ ضميرَ الشأنَ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعلِه عند البصريين مفردٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك.
الثاني: أن يكونَ «آثمٌ» خبراً مقدماً، و «قلبُه» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إنَّ» ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُه، وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيين؛ لأنه لا يعودُ عندَهم الضميرُ المرفوعُ على متأخرٍ لفظاً، و «آثمٌ» قد تَحَمَّل ضميراً لأنه وَقَع خبراً، وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ أن تكونَ الهاءُ ضميرَ الشأن وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ».
والثالث: أن يكونَ «آثم» خبرَ إنَّ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إنه»، و «قلبُه» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كل.
الرابع: أن يكونَ «آثم» مبتدأً، و «قلبُه» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ
وقرأ ابنُ أبي عبلة: «قلبَه» بالنصب، نسبَها إليه ابن عطية. وفي نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من اسم «إنَّ» بدلُ بعض من كل، ولا محذورَ في الفصلِ بالخبر - وهو آثمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل به بين النعتِ والمنعوتِ نحو: زيد منطلق العاقل، مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ، بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه/ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبْدَلِ منه.
الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيهِ بالمفعولِ به، كقولك: «مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه» وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ، وهو ثلاثةُ مذاهبَ: الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقاً، أعني نظماً ونثراً. الثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ المبرد. الثالث: مَنْعُه من النثر وجوازُه في الشعرِ، وهو مذهبُ سيبويه، وأنشدَ الكسائي على ذلك:
١١٤٢ - أَنْعَتُها إنِّيَ مِنْ نُعَّاتِها | مُدارةَ الأخفْافِ مُجْمَرَّاتِها |
غُلْبَ الرِّقابِ وعَفَرْ نِياتِها | كُومَ الذُّرى وادِقَةً سُرَّاتِها |
والثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكي وغيرُه، وضَعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم:
﴿إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ [القصص: ٨٥] وأنشدوا:
١١٤٣ - إلى رُدُحٍ من الشِّيزى مِلاءٍ | لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ |
وقرأ أبو عبد الرحمن: «ولا يَكْتُموا» بياء الغَيْبَةِ، لأنَّ قبلَه غيباً وهم من ذَكَر في قولِه: ﴿كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾، وهو وإنْ كان بلفظِ الإِفراد فالمرادُ به الجَمْعُ، ولذلك اعتبَرَ معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجَمَعَ في قوله: «ولا يكتموا».
فأمَّا الرفعُ فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو يغفرُ. والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ عُطِفَتْ على ما قبلها. وأمّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ فبإضمارِ «أَنْ» وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبلَ ذلك تقديره: تكنْ محاسبةٌ فغفرانٌ وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجهِ الثلاثة وهو:
١١٤٤ - فإنْ يَهْلِكْ أبو قابوسَ يَهْلِكْ | ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرامُ |
ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ | أجَبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ |
وقرأ الجعفيّ وطلحة بن مصرف وخلاد: «يَغْفِرْ» بإسقاطِ الفاء، وهي كذلك في مصحفِ عبد الله، وهي بدلٌ من الجوابِ كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب﴾ [الفرقان: ٦٨-٦٩]. وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكم «فهي تفسيرٌ للمحاسبة» قال الشيخ: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المحاسَبَةِ». قال الزمخشري: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة الحساب لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّلِ، فهو جارٍ مجرى بَدَلِ البعضِ من الكلِ أو بدلِ الاشتمال، كقولك:» ضربتُ زيداً رأسه «و» أحببتُ زيداً عقله «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه/ في الأسماءِ لحاجةِ القبيلين إلى البيان».
قال الشيخ: «وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ فقولُه:» ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ «وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ، لأنَّ الحسابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئآتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً فلقوله بعد أَنْ ذَكَر بدلَ البعض
قلت: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرةِ والعذابِ تفسيراً أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشري هي بمعنى عبارة ابن جني. وأمَّا قولُه: «إنَّ بدلَ البعضِ من الكل في الفعلِ متعذرٌ، إذ لا يتحقق فيه تجزُّؤٌ» فليس بظاهرٍ، لأنَّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعِه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ والنوعَ بعضٌ. وأمَّا قياسُه على الباري تعالى فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلامِ الزمخشري ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: «وقرأ الأعمش:» يَغْفر «بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من» يحاسِبْكم «كقوله:
١١٤٥ - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا | تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا |
قال الزمخشري:» فإنْ قلت: «كيف يَقْرأ الجازم» ؟ قلت: يُظْهِر الراءَ ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللامِ لا حنٌ مخطىء خطأً فاحشاً، وراويه عن أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين، لأنه يَلْحَنُ ويَنْسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يؤُذن بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قلةُ ضبطِ الرواة، وسببُ قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبِط نحوَ هذا إلا أهلُ النحو «قلت: وهذا من أبي القاسم غير مَرْضِيٍّ، إذ القُرَّاء مَعْنِيُّون بهذا الشأن، لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ بعد الحرفِ، فكيف يَقِلُّ ضبطُهم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعي، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللامِ والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتها، والأقوى لا يدغم في الأضعف، وهذا مَذهبُ البصريين: الخليل وسيبويه ومَنْ تَبِعهما، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأسُ البصريين أبو عمرو، وليس قولُه:» إن هذه الروايةَ غَلَطٌ عليه «بمُسَلَّم. ثم ذكر الشيخ نقولاً عن القراء كثيرةً هي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً، فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، وكيف يُقال إن الراوي ذلك عن
فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المؤمنون» مبتدأ، و «كلٌ» تأكيدٌ له، و «آمن» خبرُ هذا المبتدأ، فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنهم نَصُّوا على أنَّ «كُلاَّ» وأخواتِها لا تَقَعُ تأكيداً للمعارف إلا مضافةً لفظاً لضميرِ الأول، ولذلك رَدُّوا قولَ مَنْ قال: «إنَّ كُلاَّ في قراءة من قرأ: ﴿إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ﴾ [غافر: ٤٨] تأكيدٌ لاسم إنَّ.
فأمَّا الإِفرادُ فإنه يُراد به الجنسُ لا كتابٌ واحدٌ بعينِه، وعن ابن عباس:» الكتاب أكثر من الكتب «قال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحدات الجنس كلِّها لم يَخْرُجْ منه شيء، وأمَّا الجمعُ فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع «. قال الشيخ:» وليس كما ذكر لأنَّ الجمعَ متى أُضِيف أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] صارَ عامَّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال: «أَعْتَقْتُ عبيدي» لشمل ذلك كلَّ عبدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم في الواحدِ سواءً كانت فيه الألفُ واللامُ أو الإضافةُ، بل لا يُذْهَبُ إلى العموم في الواحدِ إلاَّ بقرينةٍ لفظيةٍ كَأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمعِ نحو:
﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ [العصر: ٢] «أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفر والدرهم البيض» أو قرينةٍ معنويةٍ نحو: «نيَّةُ المؤمنِ أبلغُ مِنْ عملِه» وأقصى حالِهِ أن يكونَ مثلَ الجمعِ العامِّ إذا أريد به العمومُ «قلت: للناس خلافٌ في الجمعِ المحلَّى بأَلْ أو المضافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأصول.
قلت: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك البتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ مُعَرَّفةً بأل أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ.
وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن فيكونُ المرادُ الإِفرادَ الحقيقي. وأمَّا الجمعُ فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ، إذ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً فإنَّ فيه مناسبةً لِما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ.
ومَنْ قَرَأ بالتوحيدِ في التحريم فإنما أراد به الإِنجيلَ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجنسُ. وقد حَمَل على لفظ» كُل «في قوله:» آمن «فَأَفْرَدَ الضميرَ وعلى معناه فجمع في قوله:» وقالوا سَمِعْنَا «. قال الزمخشري:» ووحَّد ضمير «كل» في «آمَنَ» على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ كقولِه تعالى: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧].
قوله: ﴿لاَ نُفَرِّقُ﴾ هذه الجملةُ منصوبةٌ بقولٍ محذوف تقديرُه: يقولون لا نُفرِّق، ويجوز أن يكونَ التقديرُ: يقول، يعني يجوزُ أَنْ يراعى لفظُ «كل» تارةً ومعناها أخرى في ذلك القولِ المقدرِ، فَمَنْ قَدَّر «يقولون» راعى معناها، وَمَنْ قدَّر «يقول» راعى لفظَها، وهذا القَولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه خبرٌ بعد خبرٌ، قاله الحوفي.
والعامَّةُ على «لا نفرِّقُ» بنون الجمعِ. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب، ورُويت عن أبي عمرو أيضاً: «لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة حملاً على لفظ «كل».
وروى هارون أن في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقون» بالجمعَ حَمْلا على معنى «كل»، وعلى هاتين القراءتين فلا حاجةَ إلى إضمارِ قولٍ، بل الجملةُ المنفيةُ بنفسِها: إمَّا في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وإمَّا في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً كما تقدَّم في ذلك القولِ المضمرِ.
قوله: ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾ متعلِقٌ بالتفريقِ، وأُضيف «بين» إلى أحد وهو مفرد، وإنْ كان يقتضي إضافَتَه إلى متعدد نحو: «بين الزيدين» أو «بين زيد وعمرو»، ولا يجوزُ «بين زيد» ويَسْكُت: إمَّا لأنَّ «أحداً» في معنى العموم وهو «أحد» الذي لا يُسْتعمل إلا في الجَحْد ويُراد به العمومُ، فكأنه قيل: لا نفرِّقُ بين
قلت: وقد رَدَّ بعضُهم هذا التأويلَ فقال:» وقيل إنَّ «أحداً» بمعنى جميع، والتقديرُ: بين جميعِ رسلهِ «ويَبْعُدُ عندي هذا التقديرُ، لأنه لا ينافي كونَهم مفرِّقين بين بعضِ الرسلِ، والمقصودُ بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يُفَرِّقون بين كلَّ الرسلِ بل البعضُ. وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نفرِّق بين أحدٍ من رسلهِ وبين غيرهِ في النبوة، وهذا وإنْ كان في نفسه صحيحاً إلا أنَّ القائلين بكونِ» أحد «بمعنى جميع، وإنما يريدون في العمومِ المُصَحِّح لإِضافة» بين «إليه/، ولذلك يُنَظِّرونه بقولِه تعالى: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ وبقوله:
١١٤٦ - إذا أمورُ الناسِ دِيكَتْ دُوْكاً | لا يَرْهَبُون أحداً رَأَوْكا |
﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد، [وقوله] :
١١٤٧ - فما كانَ بين الخيرِ لو جاءَ سالماً | أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قلائِلُ |
و «مِنْ رسله» في محلِّ جرٍ لأنه صفةٌ ل «أحد»، و «قالوا» عطفٌ على «آمَنَ»، وقد تقدَّم أنه حَمَل على معنى «كُل».
قوله: ﴿غُفْرَانَكَ﴾ منصوبٌ: إمَّا على المصدريةِ. قال الزمخشري: «منصوبٌ بإضمارِ فعلِه، يقال:» غفرانَك لا كُفْرانَك «أي: نَسْتغفرك ولا نَكْفرك» فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهبَ سيبويه، إنما مذهبُه تقديرُ ذلك بجملةٍ طلبية كأنه قيل: «اغفْر غفرانَك». ونَقَلَ ابنُ عطيَة هذا قولاً عن الزجاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادرِ اللازمِ إضمارُ عاملِها لنيابتِها عنه، وقد اضطربَ فيها كلامُ ابن عصفور، فَعَدَّها تارةً مع ما يلزمُ فيه إضمارُ الناصبِ نحو: «سبحانَ الله ورَيْحَانَه»، و «غفرانَك لا كفرانكَ»،
والمصير: اسمُ مصدرٍ مِنْ صارَ يصير أي: رَجَعَ، وقد تقدَّم لك في قوله: ﴿المحيض﴾ [البقرة: ٢٢٢] أنَّ في المَفْعِل من الفعلِ المعتلِّ العينِ بالياءِ ثلاثةَ مذاهبَ وهي: جريانُه مَجْرَى الصحيح، فيُبْنى اسمُ المصدرِ منه على مَفْعَل بالفتح، والزمانُ والمكانُ بالكسرِ نحو: ضَرَبَ يَضْرِبَ مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماعِ فلا يَتَعَدَّى وهو أعدلُهَا، ويُطلَق المصيرُ على المعنى، ويُجْمَعُ على مُصْران كرغيفَ ورُغْفان، ويُجْمَع مُصْران على مَصارين.
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة: «إلا وَسِعَها» جَعَلَه فعلاً ماضياً، وخَرَّجُوا هذه القراءةَ على أنَّ الفعلَ فيها صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ تقديرُه: «إلاَّ ما وَسِعَها»
١١٤٨ - ما الذي دَأْبُه احتياطٌ وحَزْمٌ | وهواهُ أَطاعَ يَسْتَوِيان |
١١٤٩ - أَمَنْ يَهْجُو رسولَ الله منكم | ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءٌ |
قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها لاستئنافِها وهي كالتفسيرِ لِما قبلها؛ لأنَّ عَدَم مؤاخذتِها بكسْبِ غيرِها واحتمالَها ما حَصَّلَتْهُ هي فقط من
١١٥٠ - أَلْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ | ......................... |
وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ خَصَّ الخيرَ بالكَسْب والشرَّ بالاكتسابِ؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ مِمَّا تَشْتهيه النفسُ وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به كانَتْ في تحصيلهِ أَعْمَلَ وآجَدَ فَجُعِلَتْ لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكنْ كذلكَ في بابِ الخيرِ وُصِفَتْ بما لا دلالةَ فيه على الاعتمالِ».
وقال ابنُ عطية: «وكَرَّر فعلَ الكسبِ فَخَالَفَ بين التصريف حُسْناً لنمطِ الكلامِ، كما قال تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ﴾ [الطارق: ١٧] هذا وجهٌ، والذي يَظْهَرُ لي في هذا أنَّ الحسناتِ هيَ مما يُكْسَبُ دونَ تكلُّفٍ، إذ كاسبُها على جادَّةِ أمرِ الله ورَسْمِ شَرْعِهِ، والسيئاتُ تكتسب ببناء المبالَغَة، إذ كاسبُها يَتَكَّلفُ في أَمرِها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ الله تعالى، ويَتجاوَزُ إليها/ فَحَسُنَ في الآية مجيءُ التصريفَيْنِ إحرازاً لهذا المعنى». وقال بعضُهم: «لا فَرْقَ، وقد
وقال أبو البقاء: «وقال قومٌ:» لا فَرْقَ بينهما، وذكر نحواً مِمَّا تقدَّم. وقال آخرون: «افتْعَلَ يَدُلُّ على شدَّة الكَلَفِة. وفعلُ السيئة شديدٌ لِما يَؤُول إليه». وقال الواحدي: «الصحيحُ عند أهلِ اللغة أن الكسبَ والاكتسابَ واحدٌ لا فرقَ بينهما، قال ذو الرمة:
١١٥١ -.................. | ألفَى أباه بذاك الكسبِ يَكْتَسِبُ |
وقال بعضَهم:» فيه إيذانٌ أَنَّ أَدْنى فعلٍ من أفعالِ الخير يكونُ للإنسان تكرُّماً من اللهِ على عبدهِ حتى يصلَ إليه ما يفعلُهُ معه ابنُ من غيرِ علمِه به،
قوله: ﴿لاَ تُؤَاخِذْنَا﴾ يُقْرأ بالهمزةِ وهو من الأخْذ بالذَّنْبِ، ويُقْرَأُ بالواوِ، ويَحْتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ مِن الأخْذِ أيضاً، وإنما أُبْدِلَتِ الهمزةُ واواً لفتحِها وانضمامِ ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسي، ويَحْتمل أَنْ يكونَ من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء: وجاء هنا بلفظِ المفاعلةِ وهو فعلُ واحدٍ، لأنَّ المسيءَ قد أَمْكَنَ من نفسِه وطَرَقَ السبيلَ إليها بفعله، فكأنه أعانَ مَنْ يعاقِبُه بذَنْبِه، ويأخذُ به على نفسِه فَحَسُنَتْ المفاعَلَةُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ: سافرت وعاقبت وطارقت.
وقرأ أُبَيّ:» ربَّنا ولا تُحَمِّلْ علينا إصْراً «بتشديد الميم.
قال الزمخشري: «فإنْ قلت: أَيُّ فرق بين هذه الشديدةِ والتي في» ولا تُحَمِّلْنا؟ قلت: هذه للمبالغةِ في حَمَّل عليه، وتلك لنقل «حَمَلَه» من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولَيْن «. انتهى يعني أنَّ التضعيفَ في الأولِ للمبالغةِ ولذلك لم يتعدَّ إلا لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانيةِ للتعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين أولُهما» ن «والثاني ﴿مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾.
والإِصْرُ: في الأصل الثِّقَلُ والشِّدَّة. وقال النابغة:
١١٥٢ - يا مانعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ | والحاملَ الإِصرِ عنهم بعد ما عَرِقُوا |
١١٥٣ - أَشْمَتَّ بيَ الأعداءَ حينَ هَجَرْتَني | والموتُ دونَ شماتةِ الأَعْدَاءِ |
١١٥٤ - عَطَفُوا عليَّ بغير آ | صِرَةٍ فقد عَظُمَ الأواصِرْ |
وقرأ أُبَيّ: ﴿وَلاَ تُحَمِّل عَلَيْنَآ﴾ بالتشديدِ مبالغةً في الفِعْلِ.
والطاقَةُ: القُدْرَةُ على الشيءِ وهي في الأصلِ، مصدرٌ، جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ، وكان مِنْ حقِّها» إطاقة «لأنها من أَطَاق، ولكن شَذَّتْ كما شَذَّتْ أُلَيفْاظٌ نحو: أَغار غارةً، وأَجابَ جابةً، قالوا:» ساء سمعاً فساءَ
١١٥٥ -.................. | وبعدَ عطائِك المئةَ الرِّتاعا |
وقوله تعالى: ﴿فانصرنا﴾ أتى هنا بالفاء إعلاماً بالسببيةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كانَ مولاهم ومالكَ أمورِهم وهو مُدَبِّرُهم تَسَبَّب عنه أَنْ دَعَوْه بأن يَنصُرَهم على أعدائِِهم كقولِك» أنت الجوادُ فتكرَّمْ عليَّ وأنت البطلُ فاحْمِ حَرَمَك «.
وقد اشتملَتْ هذه السورةُ على أنواع كثيرةٍ من العلومِ، تقدَّم التبيهُ على غالبِها، والذكيُّ مستغنٍ عن التصريحِ بالتلويحِ.