تفسير سورة البقرة

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
سورة البقرة مدنية نزلت في المدينة في مدد، وقيل إنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقد ادعى بعض العلماء أن بعض هذه السورة كان آخر آية نزلت من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ... ٢٨١ ﴾ [ البقرة ] نزلت في حجة الوداع بمنى، وهي على هذا باعتبار نزولها في مكة تكون مكية.
وإن الذي نراه أن فيصل التفرقة بين المكي والمدني، ليس هو مكان النزول، إنما هو كونه بعد الهجرة أو قبلها، فإن كان قبلها، فهو مكي، وإن كان بعدها فهو مدني ولو نزل بمكة، إذ إن الفارق بين المكي والمدني موضوعي، لا مكاني إذ إن أكثر الموضوعات التي تتصدى لها السور والآيات المكية : بيان أصل العقيدة الإسلامية، ومجادلة المشركين حولها، وسوق الأدلة لبطلان الوثنية، وتأكيد الوحدانية، والتعرض لأحوال المشركين، ومعاداتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، وأخبار المبادرة بالدعوة وإنذار العشيرة، كما قال تعالى :﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٢١٥ ﴾ [ الشعراء ]. وهكذا أكثر القرآن المكي يتعرض لإثبات العقيدة، ومجادلة من ينكرونها من عبدة الأوثان.
أما السور المدنية وآياتها، فإنها تبين الأحكام الفرعية، وأحوال أهل الكتاب مع أهل الإيمان، وتنظيم الدولة الإسلامية، وسن النظم لتكوينها، وتكوين المجتمع الفاضل الذي تقوم عليه، وما يحل وما يحرم في هذا المجتمع، وفيها قيام الأسرة الإسلامية التي تقوم على تقوى الله تعالى، ورضوان من الله ورحمة.
و إذا كانت السور المكية فيها الإشارات لإيذاء المؤمنين، واستضعافهم، مع رجاء القوة كقوله تعالى :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ٥ ﴾ [ القصص ].
إذا كانت السور المكية فيها إشارة إلى الاستضعاف فالسور المدنية فيها الإذن بالقتال، و تنظيمه، والسير به في طريق الحق والعدل، وبيان الغاية من القتال ونهايته، وهي منع الفتنة في الدين.
وسورة البقرة أطول سور القرآن، وسميت البقرة لأظهر الحوادث التي ذكرتها، وأغربها، وهي بقرة بني إسرائيل التي لجوا في السؤال عنها، وما تدل على أخلاقهم من اللجاجة في القول، وإرادة التلبيس في الأمر الواضح البين، فقد كانوا كلما زادت لجاجتهم زاد الأمر تعقيدا عليهم، وتلبيسا على أنفسهم.
موضوعات السورة :
وبمقدار ما في السورة من طول، كان فيها القدر الأكبر من الموضوعات، فهو طول في كثرة الآيات، وليس طولا مما يمجه علماء البلاغة، فهو كثرة موضوعات وليس بطول ممل، وها نحن أولاء نشير إلى موضوعاتها قبل الخوض في تفسيرها.
ابتدأت السورة الكريمة بذكر شأن الكتاب الكريم، وشرف الذين يؤمنون به، وأنهم الذين يؤمنون بالغيب.
ثم ذكر القسم المقابل لأهل الإيمان وهم الكافرون الذين لا تجدي فيهم الآيات والنذر سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وأنهم صم بكم لا يعقلون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أمر الحائرين الذين يترددون بين الإيمان والكفر، وهو يحيط بهم، وهم المنافقون الذين يحسبون أنفسهم أنهم المصلحون في الأرض، وهم المفسدون.
و ضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال التي تصور حالهم وتبين أمرهم، وبين سبحانه وتعالى أن النفاق مرض القلوب ومرض الجماعات، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في قبضته وأنهم خلقه سبحانه وتعالى هم ومن كان قبلهم، وأنه مكن لهم في الأرض وجعلها لهم فراشا، وأن ذلك التمكين والخلق والتكوين يوجب عليهم عبادة الله تعالى وحده، وألا يتخذوا الأوثان. ثم بين لهم مقام الحجة النبوية التي جاءت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم تثبت لهم رسالته، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأن يأتوا بشهداء لهم ليثبت عليهم التحدي والعجز بشاهد من أهلهم، ودعاهم إلى أن يتقوا نارا وقودها الناس والحجارة.
وقد تكلم الله سبحانه وتعالى في الخلق والتكوين من البعوضة إلى الإنسان، وذكر أن خلق البعوضة عظيم، حتى أن الله تعالى لا يستحيي من الحكم في الخلق أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، وأن المؤمن يدرك ويعتبر، ويعلم أنه الحق من ربه، وأما الذين كفروا فيتشككون ويضلون، ويزيد ضلالهم، وينقضون ما أمر الله به أن يوثق، وبين سبحانه وتعالى أعلى درجات الخلق، وهو خلق الإنسان والجن وجعل الإنسان خليفة في الأرض، وبين أنه خلق فيه العقل والاستعداد لعلم الكائنات، وبين سبحانه زيادة خلقه عن الجن وعن الملائكة، وأمر الملائكة والجن أن يسجدوا له فأبى إبليس وجهل وقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، واعترض على الله تعالى خالق النار وخالق الطين، ثم كان الاختيار الإلهي لأبي الإنسان، وهو آدم، فنهاه هو وزوجه عن الأكل من شجرة، فوسوس لهما الشيطان إبليس، فأكلا منها، فأخرجهما الله تعالى مما كانا فيه ونزلا إلى الأرض، وبينهما وبين إبليس من العداوة الشديدة، والمغالبة بين الخير والشر.
ولقد أشار سبحانه إلى المعركة الدائمة، وذكر أوضح مثل لها بما كان يفعله بنو إسرائيل، لقد أوتوا علم النبوة بما أرسل الله فيهم من رسل، وأوتوا نعما كثيرة تثبت قدرة الله تعالى بما أنعم، ولكنهم ضلوا، وذكر سبحانه ما أمرهم به وما نهاهم عنه.
وبين أنهم كانوا في علم الدين أكثر من غيرهم، ولكنهم كانوا يأمرون الناس بالبر، ولا يبرون، ولقد أخذ سبحانه وتعالى يذكرهم بنعمه عليهم، وذكرهم بحالهم من فرعون إذ نجاهم منه، وكان يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم، وذكرهم إذ فرق بهم البحر، وآياته الكبرى فيهم، وذكرهم إذ قابلوا هذه النعم بالشرك إذ اتخذوا العجل، وذكرهم بعفوه سبحانه وتعالى عنهم، وذكرهم بأنه طالبهم بعد هذا العفو أن يقتلوا دواعي الشهوات في أنفسهم، لتكون قوة في هذا الوجود، فلا وجود لجماعة غلبت عليها شهوتها، وذكرهم بأنه أمرهم بدخول قرية لهم متطامنين متواضعين، فإن مع التواضع مغفرة الله، ولكنهم بدلوا بالطاعة الظلم، فعاقبهم الله تعالى في الدنيا.
وذكر لهم آياته سبحانه في أن أمدهم بالماء في وسط الجدب، بأن ضرب لهم موسى الحجر بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وبين أن شهواتهم قد تحكمت فيهم فطلبوا ما كانوا يأكلون في مصر من الفوم والعدس والبصل بدلا من المن والسلوى، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأنهم إذ تحكمت فيهم شهوتهم ضربت عليهم الذلة، فكانوا أذلة ؛ لأنه حيثما كانت شهوتهم المستحكمة كانت الذلة، ثم بين سبحانه أنه أخذ عليهم الميثاق وأكده برفع الجبل عليهم، فأعطوه – أي الميثاق -، ولكنهم نقضوه وجاء من بعد ذلك أمر موسى – عليه السلام – لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، وقد كانت مقدسة في مصر فسرت عدوى ذلك إليهم، فتلكئوا في الأمر فسألوا عنها : أكبيرة أم صغيرة ؟، وما لونها ؟، ثم سألوه : أهي عاملة أم غير عاملة ؟ فقال : إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها، فذبحوها وما كادوا يفعلون، ثم ذكر في السورة قصة القتيل الذي ادّعى كل فريق أنه لم يقتله، فأمرهم أن يضربوه ببعضها، فظهر القاتل، وأمر الله تعالى بالقصاص منه.
والله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر هذه الأحوال لهم بين أنه ( لا يطمع في إيمانهم )، وقد استولى النفاق عليهم، فإذا لقوا المؤمنين قالوا : آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا جاهلين : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ كأن الله تعالى لا يعلم، ولقد ركبهم الغرور في أنفسهم، فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، فبين الله أن الخطايا تركبهم، وسيؤخذون بها، ولقد أخذ الله تعالى عليهم الميثاق بألا يعبدوا إلا الله ويقيموا الصلاة، وأخذ عليهم الميثاق بألا يسفكوا دماءهم وألا يقتل بعضهم بعضا، ومع ذلك أخرجوا بعضهم من ديارهم، ولا يفكون أسراكم إلا بفدية، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويحكم عليهم سبحانه، بالحكم الخالد بكل من اتبع الشهوات بأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، وبعد ذلك ذكر الله تعالى سلسلة الرسالة الإلهية التي ابتدأت بموسى، ثم عيسى، وأنهم كفروا بالأنبياء، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به أو قتلوه، ولما جاءهم القرآن مصدقا لما بين يديه كذبوه، وهم عندهم العلم به.
ويعيب الله تعالى عليهم قتلهم الأنبياء، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بغير الحق.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى أنه قد جاءهم موسى بالبينات و أنقذهم من فرعون، ومع ذلك بفقدهم التفكير المستقل المدرك عبدوا العجل، كما كان يعبده فرعون وملؤه، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق، لبيان أنهم لا يرعون ذمة، ولا يقومون بخير، ولقد كانوا يحسبون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس فتحداهم الله تعالى بأن يتمنوا الموت ولن يتمنوه ؛ لأن عبد الشهوة يتعلق بالدنيا وما فيها، يعبد الشهوة العاجلة، ولا يرجو الآجلة، وذكر سبحانه عداوتهم لجبريل مما يدل على صغر تفكيرهم.
ويبين أنهم كلما جاءهم رسول كذبوه، وكلما عاهدوا عهدا نقضوه، ونبذوه وأنهم بدل أن يتبعوه اتبعوا السحر والأهواء، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، واتبعوا السحرة، وعلموا الناس السحر، وتعلموا منه ما يفرقون به بين المرء وزوجه، ولقد بين سبحانه جملة حالهم، وما يبغون فقال تعالى :﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ١٠٥ ﴾ [ البقرة ].
ولقد كان المشركون يعيبون على النبي أنه لم يأت بمعجزة حسية، وأنه يأتي بالمعجزة المعنوية، وهي القرآن، فبين الله تعالى أنه إن ترك معجزة يأت بخير منها أو بمثلها، وأن قوم موسى – عليه السلام – قد سألوا أن يروا الله جهرة.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن كثيرين من أهل الكتاب يريدون أن يردوا المؤمنين عن دينهم حسدا لهم على ما آتاهم الله من فضل يعلمونه ويجحدون ؛ ولذا أمر الله المؤمنين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأعلمهم أن ما يقدمونه من خير يأت الله تعالى به ويجدوه عنده، ثم ذكر سبحانه و تعالى مزاعم النصارى واليهود، وتكفير بعضهم لبعض، وذلك شأن الذين لا يعلمون. ثم بين سبحانه و تعالى ظلم الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهم المشركون واليهود والنصارى.
ثم بين سبحانه و تعالى كفر الذين قالوا : إن الله تعالى اتخذ ولدا سبحانه، وضلال الذين يطلبون أن يكلمهم الله تعالى.
ولقد ذكر سبحانه و تعالى مقام الرسالة المحمدية، وأنه صلى الله عليه وسلم إن طلب رضا اليهود، فلن يرضوا عنه، وذكر سبحانه بعد ذلك نعمه على بني إسرائيل.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك خبر أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أب لموسى وعيسى ومحمد صلوات الله تعالى عليهم، وذكرهم الله بهذا أن أصلهم – وهو إبراهيم – واحد، وأنه ما كان لهم أن يختلفوا.
ثم ذكر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة، ومعاونة ولده

ابتدئت السورة بهذه الحروف التي ينطق بها، فقال : ألف لام ميم، وكذلك ابتدئت عدة سور بهذه الحروف التي ينطق بها مفردة حرفا حرفا، وهذه الأولى، وقد أعقبت الحروف بذكر الكتاب وشرفه، وجاءت سورة آل عمران مبتدأة بهذه الأحرف نفسها ﴿ الم ١ ﴾ [ آل عمران ] وعقبها ذكر جلال الله تعالى :﴿ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ٢ ﴾ [ آل عمران ].
ثم كانت سورة الأعراف مبتدأة بمثل هذه الأحرف وهي ﴿ المص ١ ﴾ [ الأعراف ] وذكر بعدها الكتاب، وهو قوله تعالى :﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ... ٢ ﴾ [ الأعراف ].
وكانت سورة يونس مبتدأة بحروف مفردة، وهي ﴿ الر ١ ﴾ [ يونس ] وذكر بعدها الكتاب وآياته فقال تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ١ ﴾ [ يونس ].
وجاءت سورة هود مبتدأة أيضا بهذه الحروف ﴿ الم ١ ﴾ [ هود ] وذكر بعدها الكتاب، فقال تعالى بعدها :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١ ﴾ [ هود ].
وسورة يوسف ابتدئت أيضا بهذه الحروف ﴿ الر ١ ﴾ [ يوسف ] وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى عقبها :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ١ ﴾ [ يوسف ].
وجاءت أيضا سورة الرعد مبتدأة بهذه الحروف المنفردة ﴿ المر ١ ﴾ [ الرعد ] وقد ذكر بعدها الكتاب الكريم فقال تعالى عقبها :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ١ ﴾ [ الرعد ].
وابتدئت سورة إبراهيم بهذه الأحرف المفردة فقال تعالى ﴿ الَر ١ ﴾ [ إبراهيم ]، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى بعدها :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ١ ﴾ [ إبراهيم ].
وجاءت سورة الحجر مبتدأة بحروف مفردة وهي ﴿ الَرَ ١ ﴾ [ الحجر ] وذكر بعدها الكتاب فقال تعالى عقبها :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ١ ﴾ [ الحجر ].
وجاءت سورة مريم مبتدأة بخمسة حروف وهي ﴿ كهيعص ١ ﴾ [ مريم ]، ولم يذكر بها ( القرآن ) عقب هذه الحروف، ولكن برحمة الله تعالى على زكريا، فقال تعالى :﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ٢ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ٣ قَالَ رَبِّ... ٤ ﴾ [ مريم ]، وقد ذكر ( الكتاب ) في عدة مواضع بعد ذلك في السورة، فكان يأمر الله تعالى بذكره عند ذكر القصص عن أنبياء الله تعالى، فإذا كان ( الكتاب ) لم يذكر في الكتاب الكريم عقب هذه الحروف، فقد تكرر ذكره تعالت كلماته في مواضع مختلفة بعد ذلك.
وجاءت سورة ( طه ) وإذا لم نعتبر كلمة ﴿ طه ١ ﴾ [ طه ] اسما فإنها تكون حروفا مجردة، وذكر بعدها القرآن الكريم في قوله تعالى :﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ٢ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ٣ تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ٤ ﴾ [ طه ].
وجاءت سورة الشعراء مبتدأة بحروف ثلاثة ﴿ طسم ١ ﴾ [ الشعراء ] وجاء عقب هذه الحروف ذكر القرآن ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ٢ ﴾ [ الشعراء ].
وابتدئت سورة النمل بحرفين هما ﴿ طس ١ ﴾ [ النمل ]، وجاء ذكر القرآن بعدها فقال تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ النمل ].
وابتدئت سورة القصص بثلاثة أحرف ﴿ طسم ١ ﴾ [ القصص ] وجاء بعدها ذكر القرآن الكريم، فقال تعالى عقب الحروف :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ٢ ﴾ [ القصص ].
وجاءت سورة العنكبوت مبتدأة بهذه الحروف ﴿ الم ١ ﴾ [ العنكبوت ] وجاء بعدها اختبار الناس وهو قوله تعالى :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ٢ ﴾ [ العنكبوت ].
وجاءت سورة الروم مبتدأة بالحروف ﴿ الم ١ ﴾ [ الروم ] ثم ذكر بعد ذلك انهزامهم ثم انتصارهم ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ فِي بِضْعِ سِنِينَ... ٤ ﴾ [ الروم ].
وجاءت سورة لقمان مبتدأة بالحروف ﴿ الم ١ ﴾ [ لقمان ] وذكر بعدها الكتاب :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ٢ ﴾ [ لقمان ].
وجاءت سورة السجدة مبتدأة بهذه الحروف ﴿ الم ١ ﴾ [ السجدة ] وعقبت بذكر الكتاب ﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٢ ﴾ [ السجدة ].
وابتدئت سورة يس بحرف الياء والسين ﴿ يس ١ ﴾ [ يس ]، وذكر بعد الحرفين القرآن الكريم، وذلك إذا لم تعد اسما.
وجاءت سورة ( ص ) مبتدأة بالحرف ﴿ ص ١ ﴾ [ ص ]، وجاء ذكر القرآن الكريم فقال تعالى عقب هذا الحرف :﴿ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ١ ﴾ [ ص ].
وابتدئت سورة غافر بحرفين ﴿ حم ١ ﴾ [ غافر ]، ذكر بعدها القرآن فقال تعالى عقبها :﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٢ ﴾ [ غافر ].
وابتدئت فصلت بالحرفين :﴿ حم ١ ﴾ [ فصلت ] وعقبت بقوله تعالى عن الكتاب :﴿ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ٢ ﴾ [ فصلت ].
وابتدئت سورة الشورى بخمسة أحرف، وهي :﴿ حم ١ عسق ٢ ﴾ [ الشورى ] وجاء بعدها ذكر لنزول القرآن فقال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٣ ﴾ [ الشورى ].
وابتدئت سورة الزخرف ب ﴿ حم ١ ﴾ [ الزخرف ] وعقب الله تعالى هذين الحرفين بقوله تعالى :﴿ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ٢ ﴾ [ الزخرف ].
وابتدأت سورة الدخان بحرفين ﴿ حم ١ ﴾ [ الدخان ] ثم جاء بعد ذلك ذكر القرآن فقال تعالى عقبها :﴿ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ٢ ﴾ [ الدخان ].
وابتدأت سورة الجاثية بحرفي :﴿ حم ١ ﴾ [ الجاثية ]، وعقبها الله تعالى بتنزيل القرآن فقال تعالى :﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ٢ ﴾ [ الجاثية ].
وابتدئت سورة الأحقاف بالحرفين ﴿ حم ١ ﴾ [ الأحقاف ] وذكر الله تعالى بعدهما القرآن، فقال تعالى :﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ٢ ﴾ [ الأحقاف ].
وابتدئت سورة ﴿ ق ١ ﴾ [ ق ] بحرف - جاء بعده القسم بالكتاب ﴿ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ١ ﴾ [ ق ].
وابتدئت سورة القلم بحرف ﴿ ن ١ ﴾ [ القلم ] وجاء بعدها ذكر القلم فقال تعالى :﴿ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ١ ﴾ [ القلم ] وفيه إشارة إلى الكتاب الكريم.
هذه هي السور التي ابتدئت بالحروف المفردة، ومن هذا الإحصاء يتبين :
أولا : أن السور التي صدرت بهذه الأحرف سور مكية نزلت بمكة ما عدا ثلاث سور هي البقرة، وآل عمران، والرعد، فإن هذه السور الثلاث مدنية، بينما الباقي مكي نزل بمكة حيث كان أكثر التحدي بالقرآن الكريم، وإن كان هناك تحد به في المدينة ؛ لأنه المعجزة الدائمة التي يتحدى بها المنكرون في كل الأحيان والعصور ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ ﴾ [ الإسراء ].
ثانيا : أن السور التي صدرت بهذه الأحرف ذكر الكتاب بعدها، مما يدل على أن للكتاب الكريم صلة بالابتداء بهذه الحروف، وثلاث سور فقط هي التي لم يأت ذكر للكتاب الكريم عقبها، وهي سورة مريم، فلم يذكر الكتاب عقب الحروف، وإن جاء ذكره بعد ذلك في مناسبات أخرى، وكرر ذكره بهذه المناسبات، وسورة العنكبوت فإن ذكر القرآن لم يعقب الأحرف، وكذلك سورة الروم، وما عدا هذه السور الثلاث ذكر القرآن الكريم في أعقابها.
ثالثا : أن عدد الحروف التي ابتدأت بها السور أربعة عشر حرفا، وهي نصف الحروف الهجائية، وهي تشتمل على أنواع مخارج الحروف المختلفة، وهذه الحروف هي الألف، واللام، والميم، والصاد، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والراء، والسين، والطاء، والحاء، والقاف، والنون.
ولا يحفظها ويقرأها إلا من يعرف القراءة والكتابة، فالأمي لا يعرفها وإن عرف بعضها، لا يعرفها كلها، وإلا كان قارئا كاتبا ؛ ولذلك هي في القرآن على لسان النبي الأمي من دلائل إعجازه.
قال الله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ٤٨ ﴾ [ العنكبوت ].
وإنه بتتبع السور الكريمة التي صدرت بهذه الحروف التي قدسها الله سبحانه وتعالى بذكرها، وإعقاب القرآن في أكثرها بها يدل على الارتباط الوثيق بينها وبين القرآن الكريم ؛ لأنه اشتمل عليها، ولأنها تشير إلى مقامه وإعجازه ومنزلته في هذا الوجود الإنساني، وإن كانت معانيه المحررة مستورة عنا، وهي في علم الله تعالى المكنون، ولكن لها إشارات توحي إلى معان عالية، تليق بتصدرها لكثير من سور القرآن. هذا ما نشير إليه إجمالا ونعرض له ببعض التفصيل.
﴿ الم ١ ﴾ روى عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما قالا : إن هذه الحروف التي ابتدئت بها السور هي سر الله تعالى في الكتاب، و لله تعالى في كل كتاب سر. وتبعهما في هذا القول عامر الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين، بل قاله أكثر علماء السلف، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا رضي الله عنهم : الحروف المقطعة في أوائل السور من المكتوم الذي استأثر به علم الله تعالى. وروي عن الربيع ابن خيثم، أنه قال : إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه، وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، وما بكل ما تعلمون تعملون.
وإن هذه المأثورات عن كبار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي تدل على أن هذه الحروف من المتشابه الذي لا يعلم به أحد إلا الله تعالى، وعلينا أن نكف عما لا نعلم، عملا بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ٣٦ ﴾ [ الإسراء ].
ولكن العقل طلعة١ يحاول تعرف المجهول أو المكتوم، وكلما كان الإبهام كان تعرف كشفه، ولذلك حاول علماء أن يعرفوا سر وجود هذه الحروف وإن لم يعرفوا حقيقة المراد منها، وقالوا في ذلك أقوالا أربعة ؛ ثلاثة منها متلاقية في صوابها وواحد حاول تفسيرها، فأخطأ فيما قصد.
أولها : أن بعضهم حاول تفسيرها بأنها رموز للذات العلية ؛ أو أنها رموز لله ولآخرين، فقال قائل إن ﴿ الم ﴾ ترمز إلى أن الله يقول أنا الله أعلم، فالألف : أنا، واللام : الله، والميم : أعلم، وقالوا :﴿ الم ﴾ أنا الله أرى، وقال بعضهم في ﴿ الم ﴾ : إن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، وقيل الألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح لطيف، والميم مجيد، وكل هذه التفسيرات ظنون، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، ولم يرد واحد منهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو وردت عنه لقبلناها صاغرين ولخرجت من المتشابه إلى المحكم.
ثانيها : ليس تعرفا لمعانيها، ولكنه تعرف لسر وجودها، أو لبعضها، وذلك بيان لإعجاز القرآن مع أنه مكون من حروفهم التي تتكون منها كلماتهم، ومع ذلك يعجزون عن أن يأتوا بمثله في تأليف نغمه، وسياق معانيه، وتآلف ألفاظه وفواصله، فهذا يدل على أنه من عند الله ويدل على عجزهم عن أن يأتوا بمثله
١ طلعة: أي كثير الطلوع أو التطلع، ونفس طلعة: كثيرة التطلع إلى الشيء. [الوسيط: (ط ل ع)]..
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ الإشارة هنا إلى الحروف ﴿ الم ﴾ التي تتألف من كلمات الكتاب العزيز الحكيم ؛ ولذلك قيل إن ﴿ الم ﴾ اسم للسورة، ولكن نقول إن هذه الإشارة إلى الحروف باعتبارين :
أولهما : أن هذه هي الحروف الذي كون منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها.
والثاني : أنها اسم للسورة التي افتتحت بها، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى. ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ والإشارة هنا للبعيد، وموضوعها قريب ؛ لأن الحروف جاء بعدها فورا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب ؛ ك ( هذا ) الكتاب، ولكن لأن ﴿ الم ﴾ تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب، أو الكتاب نفسه، وقد نزل من الروح الأقدس، فنزل من العلا إلى النبي المرسل، فكان ذلك إشعارا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى، أو يقال : إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى ؟  ! فهو علي في ذاته، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى :﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ٥ ﴾ [ المزمل ].
وفي قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ثلاثة وقوف :
أولها : الوقوف عند ﴿ الْكِتَابُ ﴾، وتكون ﴿ ذَلِكَ ﴾ مبتدأ، والكتاب خبر، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو، فلا يعلو علوه كتاب، ولا يناصي سمته مقروء سواه، إذ هو تنزيل من رب العالمين، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ جملة مستقلة على هذه القراءة، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه، إذ إنه لا شك في حقائقه، وهي بينة تهتدي إليها العقول، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته، وإدراك العقول لحقائقه، وهذا شرف ذاتي فيه، وهو لا ريب في أنه من عند الله، إذ تحدى المقاول١ من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي.
والثاني : الوقف عند ﴿ لاَ رَيْبَ ﴾، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا، إذ المؤدى أن يكون المعنى، ذلك هو الكتاب بلا ريب، ويكون قوله تعالى :﴿ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ جملة جديدة مستقلة، وتكون لبيان كماله، فوق أنه لا ريب فيه.
والثالث : الوقوف عند كلمة ﴿ فِيهِ ﴾، ويكون المعنى كالمعنى السابق، ثم يكون قوله ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ جملة مستقلة، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه، وأنه فوق طاقة البشر، وفوق علم الناس، إنه كتاب الله العلي الحكيم.
ومعنى ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أنه لا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده،  والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب. وإذا كان قد وقع فيه إنكار، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى، واستيقنتها أنفسهم والنفي لوقوع الريب منه في ذاته، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب، ولا موضع له، إذ هو ارتياب حيث اليقين، وإنكار حيث يجب الإيمان، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه.
﴿ هدى للمتقين ﴾ الهدى مصدر على وزن فعل، كالسرى والبكى ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لا اعوجاج فيه، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين١٦ ﴾ [ البقرة ]، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته :﴿ قل إن الهدى هدى الله... ٧٣ ﴾ [ آل عمران ] والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية ﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها١٠٨ ﴾ [ يونس ].
وإذا قيل : فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا، ويسيروا في طريق الحق، ويبتعدوا عن الغواية، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى :﴿ ووجدك ضالا فهدى٧ ﴾ [ الضحى ].
نقول في الإجابة عن ذلك : إن المراد بالمتقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها، وحاولوا الازدياد من العلم، ولم تكن قلوبهم متحجرة، مبلسة لا تسترشد ولا تهتدي، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها.
فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم، كأولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لا تنفع ولا تضر ولا يتبعها إلا الغاوون.
إن هذه نفوس متقية تبتغي الرشاد، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق، وهذا ما نراه موضعا للتعبير بقوله تعالت كلماته :﴿ هدى للمتقين ﴾.
والمتقون مشتق من الوقاية، يقال : وقاه الله تعالى، ووقى نفسه السوء وقال تعالى :﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون٩ ﴾ [ الحشر ].
واتقى : افتعل من وقى، فهي في أصلها : اوتقى، ثم قلبت الواو تاء، فأدغمت في تاء الافتعال، فصارت اتقى، ومنه أخذت التقى، والتقاة، كما قال تعالى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون١٠٢ ﴾ [ آل عمران ].
والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى، وأعلاها : إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له، ويلتزمونه، وينطبق عليهم قول الله تعالى :﴿ وألزمهم كلمة التقوى... ٢٦ ﴾ [ الفتح ] فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق، وصارت قلوبهم نورا مبصرا، وكانوا أولياء الله تعالى، وينطبق عليهم قول الله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.... ٩٦ ﴾ [ الأعراف ] ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله، وإن علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي صلى الله عليه وسلم بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب، وينزل على أرض لا تنبت ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب، وهناك أرض هي قيعان لا تنبت ولا ينتقل منها إلى غيرها.٢
ولقد ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات ﴿ ألم ١ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين٢ ﴾ كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى :﴿ الم ﴾ جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و ﴿ ذلك الكتاب ﴾ ثانية و ﴿ لا ريب فيه ﴾ جملة ثالثة، و﴿ هدى للمتقين ﴾ رابعة، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة وموجب حسن النظم، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق ( أي عطف ) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة.
بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضائه، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحا وفي شبهة تتضاءل افتضاحا.
ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن ترتب هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا التنظيم السري٣، من نكتة ذات جزالة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة : الحذف ووضع المصدر الذي هو موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا، والإيجاز في ذكر المتقين، زادنا الله إطلاعا على أسرار كلامه، وتبينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه.
١ مقاول: جمع مقول: أي حسن القول لسن. الوسيط (ق و ل)..
٢ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله به فعلم وعلم، ومثل من لم برفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) قال أبو عبد الله (أي البخاري): قال إسحاق: (وكان منها طائفة قيلت الماء). قال: يعلوه الماء والصفصف: المستوى من الأرض. [أخرجه البخاري: كتاب العلم (٧٧) ومسلم بنحوه: الفضائل: (٤٢٣٢) وأحمد: أول مسند الكوفيين (١٨٧٥٢) واللفظ للبخاري]..
٣ السري: الشريف من سرو سراوة وسروا: شرف. فهو سري والجمع أسرياء وسراة..
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتي بأطيب الثمرات. والإيمان : التصديق ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان، والخضوع، ويتعدى باللام ويتضمن حينئذ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى :﴿ وما أنت بمؤمن لنا... ١٧ ﴾ [ يوسف ] قوله ﴿ فما آمن لموسى... ٨٣ ﴾ [ يونس ]، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض ﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم... ٧٣ ﴾ [ آل عمران ].
وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم –وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم- الإيمان بالغيب. والغيب : كل ما يغيب عن الشخص ويستتر ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفا للمتقين، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها –فيما نعلم- كلها، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى، لأننا نؤمن به ولا نراه، فالبرهان يوجب الإيمان به، وهو لا يرى بالحس بل يرى بالقلب، وفسروه بأنه القدر، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة، وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر والجنة والنار، وقال آخرون : الغيب كل ما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة... إلخ.
والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، بل هي متلاقية في جملة معانيها.
وإنا نرى أن الإيمان بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيبها الله تعالى عن عقولنا، وبيان ذلك أن الناس قسمان : ضالون ومتقون.
فالضالون هم الذين لا يؤمنون إلا بالمادة، ولا يعرفون غيرها وينكرون ما عداها، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك، ويقول قائلهم : الطبيعة خلقتنا ونرد إليها فلا يؤمنون بإله ولا بروح إلا أن تكون عرضا من أعراض المادة، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان.
والقسم الثاني : أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالما كبيرا، وأن مدبر الكون ومنشئه هو صاحب السلطان المطلق فيه، فلله تعالى محيانا ومماتنا.
إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب والزنديق لا يؤمن إلا بالمادة.
إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة١ لا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر، ولقد كان ذلك ل ﴿ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب٣٣ ﴾ [ ق ] وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى :﴿ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ١٢ ﴾ [ الملك ].
﴿ ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات، تولد في النفس الخشية والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسير هذا الوجود الإنساني، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
بعد ذكر هذه الصفة النفسية، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس ولكن لهما مظهر عملي، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى.
والصلاة أصلها على وزن فعلة، من صلى فأصل الصلاة صلوة، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها، فصارت صلاة، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء. ومنه قوله تعالى ﴿ وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم١٠٣ ﴾ [ التوبة ] وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة، وركوع وسجود وتحيات- اصطلاح إسلامي.
ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء، أي الضراعة إلى الله تعالى، والاتجاه الروحي إليه راجيا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين٥٥ ﴾ [ الأعراف ].
ولكن الأكثرين- وهو الظاهر الذي يبدو من القول- على أن المراد بها الصلاة المكتوبة وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة، وإن الصلاة قد فرضت في مكة، وصارت متعارفة، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم ثم خصصها الإسلام.
وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور، واستحضار عظمة الله تعالى في كل لفظ يذكره، ويعبد الله بهذه العبادة، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى، ويتوالى ذلك في صلواته عامة النهار أو أطرافا من النهار وزلفا من الليل، فإن كانت صلاته كذلك كان محسا برقابة الله تعالى، ومن أحس برقابة الله لا يعصيه، ولذلك قال الله تعالى ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ٤٥ ﴾ [ العنكبوت ] وقال عليه الصلاة والسلام ( الصلاة عماد الدين ).٢
وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها، لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة... ٩ ﴾ [ الجمعة ] وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها، ولكن يرد ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يمشوا إليها في سكينة ووقار.
وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه، أو تقتضيها.
وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى، والإيمان بالغيب، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات، وصفات للمؤمن، لا ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه، والنية التي هي طهارة النفس ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )٣.
الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه سبحانه وتعالى ينعطف على التقي نفعا للناس يقصد التقرب به إليه سبحانه وتعالى، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم، وضراعته القائمة، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه، ومد يد المعونة لغيره، وسد حاجاتهم ورفع فاقتهم لرضا الله، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
والرزق هو : العطاء، وهو من رزق يرزق رزقا، وهو بمعنى اسم المفعول ك "طحن" بمعنى مطحون، و"رعى" بمعنى مرعى، وذبح بمعنى مذبوح كقوله تعالى :﴿ وفديناه بذبح عظيم ( ١٠٧ ) ﴾ [ الصافات ].
والمرزوق ما ينعم به الله تعالى على الإنسان من متاع الحياة الدنيا، من حيوان ونقود، ومطاعم ومساكن، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير، وتشمل بذلك الزكوات، والإنفاق على من يعولهم، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة، ويقوم بما يجب عليه من طاعات، ومعاونة للضعفاء بقوته، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...( ١٩٥ ) ﴾ [ البقرة ].
والإنفاق كالإنفاد، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال، وألا يبقى منه شيء، والإنفاق يبقي. وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره، كما قال تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها... ( ٦ ) ﴾ [ هود ] وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسبا طيبا لا خبث فيه فهو حلال، وفي الحلال الثواب، وفي الحرام العقاب. ولقد قال تعالى :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون( ٥٩ ) ﴾ [ يونس ].
والله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص. ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال : يا رسول الله أراني لا أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي بالغناء في غير فاحشة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدو الله، والله لقد رزقك الله تعالى حلالا طيبا، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله )٤.
وفي العبارة السامية :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ إشارتان بلاغيتان :
إحداهما : تقديم ﴿ مما رزقناهم ﴾ على ﴿ ينفقون ﴾ وفي ذلك بيان على أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده، فأنت تعطي من عنده، وتجود على نفسك وعلى عباده من عنده، فالتقديم للقصر أولا، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا.
الثانية : أن الإنفاق لا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير ف "من" في قوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ للتبعيض ؛ أي : ينفقون بعض ما أعطاهم الله، فلا يكونون كالمبذرين، وإن المبذرين إخوان الشياطين، والإنفاق في سبيل الله تعالى لا يستكثر فيه الكثير، فكما قال ابن عباس رضي الله عنه : إنفاق ألف في بر لا سرف، وإنفاق درهم في غير بر سرف. وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه، والله تعالى عليم خبير.
١ تطامن: بهمز وبغير همز: سكن وانخفض. الوسيط (طمن)..
٢ رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر رضي الله عنه..
٣ صدر به البخاري صحيحه كتاب بدء الوحي(١)، كما رواه البخاري في الأيمان والنذور باب النية في الإيمان برقم٦١٩٥ ومسلم في الإمارة (١٩٠٧)..
٤ رواه ابن ماجه: كتاب الحدود: باب المخنثين(٣٦١٣)..
﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ﴾ بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب، فتخشع قلوبهم لذكر الله، ويقيمون الصلاة فتتجه قلوبهم إليه، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف، بعد ذلك بين الله تعالى
أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجل صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفي الكتب التي أنزلت، لا يفرقون بين أحد من رسله، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها.
فقوله تعالى :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وتكرار( الاسم ) الموصول في قوله تعالى :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾لا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات، إنما يدل على المغايرة في الصفات، وإن كان الموصوف واحدا، كما يقول الشاعر :
إلى الملك القرم١ وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ إلى آخر الآية. إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم : كعبد الله بن سلام وغيره، وينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه، ورجل أدب جاريته، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها )٢.
والحق أن فصل ﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ عن سياق ما قبلها من غير دليل – مخالفة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك، والسياق واضح متسق على أن ذلك كله وصف للمتقين، فهم لإيمانهم بالحق، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مصغين إلى تكليفه، مؤمنين بغيبه مقرين بحق عباده، وهم من كل خلق الله، لا فرق بين عربي وكتابي، ولا من كان أصلا وثنيا، أو كان يهوديا أو نصرانيا ؛ فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه، فالآية تشتمل عليه، ولا يخرج عنها، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص.
والذي أنزل إليك في قوله تعالى :﴿ يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ هو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع، وما جاء به من أخبار الماضين، وقصص الغابرين، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله، وإنه يرد ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن، إذ قال :﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن... ( ٢٩ ) ﴾ [ الأحقاف ] وما سمعوا إلا جزءا منه.
وإنه لا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه، لأن الله تعالى يقول :﴿ يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ وقد ابتدأ النزول، فابتداء التنزيل المستمر نزول له كله، كما قال تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن... ( ١٨٥ ) ﴾ [ البقرة ] فما نزل فيه إلا أوله، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين.
وإن الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم... ( ١٥٢ ) ﴾ [ النساء ] ولقد روى في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا، والذي أنزل إليكم )٣.
وإن الإسلام دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، ودين الرسالة الإلهية التي لا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه، ومن لم يصدق فقد كفر.
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين ﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها، فأساس الإيمان في هذه الأديان، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر، وأنه معتركها، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها، فلا بد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير، وتجزى كل نفس ما كسبت ؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة، إيمانا بانتصار الخير على الشر ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله... ( ٣١ ) ﴾ [ الأنعام ].
وقوله تعالى :﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾، فيه الإيقان مصدر أيقن، وهو إحكام العلم وإتقانه، بحيث لا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه، ولا أي حقيقة من حقائقه، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عيان.
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين، واختصاص، أي أنه لا يؤمن إلا بالحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونعيم، وبعث وحساب، وجحيم، كأنه رأي العين، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وكان التأكيد بكلمة ﴿ هم ﴾ فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدا.
وقد يقال ما موضع ﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ من قوله تعالى :﴿ يؤمنون بالغيب ﴾ ؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى :﴿ يؤمنون بالغيب ﴾ كما فهمنا، وكما ذكرنا فيه أنهم لا يؤمنون بأن الوجود مادة، ليس فيما وراءه وجود، كأولئك الملاحدة الذين يظنون أن المادة هي "الموجود" وحدها، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة، لا تقول : خلقنا الله عبثا، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة.
أما قوله تعالى ﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ فهي تخصيص من العموم والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة.
١ القرم: السيد العظيم، والجمع قروم. واستشهد به ابن كثير لمثل ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى..
٢ متفق عليه [أخرجه البخاري كتاب العلم(٩٧)، ومسلم - واللفظ له – كتاب الإيمان(١٥٤)]..
٣ أخرجه البخاري: كتاب التفسير(٤٤٨٥)، وأخرجه أبو داوود: كتاب العلم (٣١٥٩)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٥٩٢)..
﴿ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون( ٥ ) ﴾ ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيبه الله تعالى عنهم، ودلت عليه الفطرة، والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله تعالى، ويؤمنون بالرسالات الإلهية، ويوقنون بالآخرة، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حكمه - تعالت كلماته – عليهم، مؤكدا ذلك، فقال :﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ وأولئك : إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم، والبعد عن العذاب الأليم، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى.
والتعبير ب﴿ على هدى ﴾ بالتعدية بعلى إشارة إلى العلو على الهدى والتمكن، كما يقال : ركب فلان متن الغواية أو علا على الهداية، فكأنه صار مستمكنا عليها لا يفارقها، ولا تفارقه. فأصحاب هذه الصفات العالية ينالون الهداية ولا يزايلونها، فهم في هداية دائمة مستمرة.
وقوله تعالى :﴿ من ربهم ﴾ معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربهم الذي ربهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح، والإيمان واليقين باليوم الآخر، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها، لأنها من رب هذا الوجود الذي ربه ونماه وهذبه وأعلاه،
وهنا إشارتان بيانيتان :
إحداهما : الإشارة بالبعيد لوجود اللام، والبعد هنا بعد المنزلة، وعلوها وشرفها، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم، وسامتوا١ أعلى العلاء، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما.
الثانية : تكرار اسم الإشارة أولئك، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذي حكم الله تعالى عليهم، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما : الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها، وركبو متنها وعلوا عليها، والحكم الثاني : أنهم ينالون الفوز، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلو نفوسهم، واستقامتها، والاتجاه إلى معالي الأمور ورضا الله تعالى، وهو أكبر جزاء، فرضوان من الله أكبر، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم.
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذي ينالونه بالجملة الاسمية، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح، وأنه دائم بدوام ما يعطيه، وهو رب العالمين، وأكده بتعريف الطرفين، وهما اسم الإشارة، وكلمة :"المفلحون"، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنهم هم المفلحون وحدهم دون غيرهم، فهم قد خلصت قلوبهم وعقولهم وكل مداركهم للحق جل جلاله، وفاضوا بخيرهم، وتحملوا المشاق في سبيلهم، وآمنوا بكل الرسالات، ولم يطمعوا بغير أن يعدوا أنفسهم لحكم ربهم.
وأكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو ﴿ هم ﴾ فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم، وأنه لا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم، واختار مثل طريقهم.. اللهم اجعلنا ممن يقتدي برسلك وبهم، فإنهم هم الفائزون.
والمفلح – من الفلح بمعنى الشق والقطع، ويطلق المفلح على الفائز، فكأنه قد شق الطريق، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه، وفاز بمرغوبه، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد، وعمل ولغوب حتى نال ما نال، وذلك هو الفلاح، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد، وطلب، وسير في الطريق إلى غايته، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا، وإن الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية، حتى ينتصر عليها، ويصل إلى الملكوت الأعلى ؛ لأنه وصل بمغالبة وجهاد، والملائكة لا مغالبة فيهم ؛ لأن الله خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
١ سامت الشيء: قابله ووازاه وواجهه. [الوسيط – س م ت ]..
ذكر الله عز وجل أعلى صنف في الوجود الإنساني، وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوي الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلالة، يرون نور الحق ويبصرونه، ثم يتركونه، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه، ويتجهون في الظلام، وقد أشرق نوره، ولمعت في الوجود شمسه، أولئك هم المنافقون.
وقد روي عن مجاهد أنه قال : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين١.
وقد تم بيان صفات المتقين، ونبتدئ في آيتي الكافرين، فقد قال :﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾.
بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة، فتنبت أطيب النبات، وتثمر خير الثمر. وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم. والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة، ولم يستغرقهم سلطانها، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة، وسيطرت عليهم، فلا يفكرون إلا فيها، وفيما تحيط به، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس، وهداها، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق، وإن عميت واعوجت ابتداء، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي. والله سبحانه وتعالى يقول :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... ( ٧٨ ) ﴾[ النحل ]. فالله تعالى خلق الخلق، وأودع كل نفس طريق العلم، فأعطاه أدوات المعرفة كلها، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها، والقلوب يدركون بها، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر، فيكون من المتقين، ومن أحاطت به مادة الدنيا، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها، فإنه لا بد سائر في طريق الغواية، مبتعد عن طريق الهداية، وكل إنسان وما يسر له، فإن غلبت عليه السعادة اتقى، وإن غلبت عليه الشقوة كفر.
والكفر في أصل معناه اللغوي الستر، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى :﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته... ( ٢٠ ) ﴾[ الحديد ]، أي أعجب الزراع نباته، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق ؛ لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله ؛ فطر الناس عليها تتجه إلى الحق، وتدرك نوره، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة، كما يطلق الكفر على جحود النعمة، وإنكارها ومن ذلك قوله تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( ٧ ) ﴾[ إبراهيم ].
ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال :( أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قيل : بما يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن. قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إليهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت : ما رأيت منك خيرا قط )٢. وذكر الله تعالى الكفر من غير متعلق فقال :﴿ إن الذين كفروا ﴾ للدلالة على جحود كل خير، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده، بل يكفرون بكل نعمة، وينكرون كل خير، وتغلب عليهم مادية شرسة لا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها، وتسد عنهم مسامع الخير، فلا يصلون إليه، ولا يتجهون نحوه، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون.
وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم، فهم لا يؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه، وقالوا : إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا.
ومعنى ﴿ سواء عليهم أأنذرتهم ﴾، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك، فالاستفهام هنا للمعادلة، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام، أو من غير أداة مصدر كقولك : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي : سماعك بالمعيدي خير من أن تراه.
ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود ؛ لأن الشر قد استغرق أنفسهم، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه )٣. وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه )، فإن هو تاب صقل قلبه٤، وقال تعالى :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( ١٤ ) ﴾ [ المطففين ] أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم، واستمراء جحودهم، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى ب "إن" الدالة على توكيد حكم ما بعدها.
١ تفسير القرطبي – تفسير سورة البقرة آية (٨)..
٢ أخرجه البخاري: كتاب الإيمان – باب: كفر دون كفر (٢٩)، ومسلم: كتاب الكسوف – باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم (٩٠٧)..
٣ رواه مالك في الموطأ: كتاب الجامع..
٤ رواه الترمذي كتاب تفسير القرآن (٣٢٥٧)، وأحمد (٧٦١١)، وابن ماجه: الزهد (٤٢٣٤)..
أكد الله تعالى هذا المعنى شارحا حالتهم النفسية، وانطباعها على الشر، وعدم تقبل الهداية، فقال تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ﴾.
الختم مصدر ختمت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لا يدخله شيء من خارجه، والختم يكون محسوسا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب، وعدم قبولها لنور الهداية – شبهه في حال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان، وكان على القلوب، فلا يكون معها مكان لهداية، وعلى السمع، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم :( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين ؛ أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا ( أي مقلوبا ) لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا )١ رواه الصحيحان، ولقد قال ابن جرير في تفسيره :"إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ﴾.
والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم، وتوالي جحودهم، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية، وتسد عليهم مسام النور، فلا تصل إليهم هداية.
وعبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب، وإفراد السمع ؛ لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة، بتعدد أصناف الهوى، فكأن كل واحدة تسكن قلبا، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء، وتتضافر هذه الأهواء، وأفرد السمع ؛ لأنه طريق واحد، وجارحة واحدة، ونور الحق واحد، وصوته واحد، ولكن لا يسمع.
والوقف على قوله تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ وقوله تعالى :﴿ وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ فإن ختم القلوب يكون على القلب، وعلى السمع، أما الأبصار فإن عليها غشاوة، وتكرار ﴿ على ﴾ في قوله :﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ﴾ للدلالة على تقوية الختم، وتأكيده بحيث لا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعي.
وقوله تعالى :﴿ وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات أوتاد، وماء ينزل من السماء، ومرسلات حاملات الرياح، وخلق مجدد مستمر، وحياة وموت، قال تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ( ١٧ ) وإلى السماء كيف رفعت ( ١٨ ) وإلى الجبال كيف نصبت ( ١٩ ) وإلى الأرض كيف سطحت ( ٢٠ ) ﴾ [ الغاشية ] وهكذا تتعدد المبصرات وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء، القاهر فوق عباده.
فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لا بالمفرد، والله بكل شيء محيط.
ولقد ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لا تجدي معهم النذر، ولا يجدي معهم بيان الحق في ذاته، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول بينهم وبين معرفة الآيات البينات، وبين سبحانه وتعالى ما قرره لهم من عقاب، فقال تعالى :﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ العذاب كالنكال، وقد ذكر الزمخشري المعنى اللغوي له، فقال في كشافه : العذاب مثل النكال بناء ومعنى ؛ لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول :"نكل عنه"، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وفراتا لأنه يرفته على القلب٢، ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
هذا تحليل لغوي كتبه الزمخشري ونقلناه، والذي نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة، وأنه يلتقي مع العذاب، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابا يمنع الجريمة.
وقوله :﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص وملك، عذابا عظيما، كبيرا ليس بصغير، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم، والطمس على قلوبهم، عذابا كبيرا، لا يكتنه كنهه، ولا يعرف قدره.
وفي الحقيقة، إنهم ينالهم عقابان : أحدهما - ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم.
العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة. والتنكير في ﴿ غشاوة ﴾ فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالي على الحق.
١ رواه مسلم: كتاب الإيمان: باب: بدأ الإسلام غريبا (٢٠٧)..
٢ كما في الكشاف/ج١/١٥٥، وفي لسان العرب: النقخ كسر الرأس عن الدماغ، والنقاخ: الماء العذب البارد الذي ينقخ العطش أي يكسره ببرده..
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل، وبين العداوة وإظهار المودة، وهم المنافقون. وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية، لتنوع أعمالهم، وتغير أحوالهم، بسبب حيرتهم، ونفاقهم، وأوهامهم المضلة.
ابتدأ سبحانه وتعالى بيان حالهم. يقول تعالى عنهم :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾ نقل سبحانه وتعالى قولهم بقوله :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ﴾.
الناس أصلها الأناس، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس، فلا يقال متقون، ولا يقال مؤمنون، ويقال كافرون فقط ؛ لأن لهم لونا اختصوا به، وهو أنهم كافرون، أما هؤلاء المنافقون، فإنهم حائرون، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس، لا دين لهم ولا خلق، وليس معنى ذلك أنهم خير حالا من الكافرين، بل هم أشد كفرا، وأبعد إيغالا في الشر، وأكثر فسادا، وإذا كان في الكافر وضوح، فهو يعلنه، فأولئك كافرون يبهمون ويجبنون، ولا يصارحون.
ولم يذكرهم الله تعالى في الذين لا يجدي فيهم إنذار نذير، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، لم يذكرهم الله في أولئك، وإن كانوا داخلين فيهم ؛ لأنهم جمعوا مع هذه الأوصاف أوصافا أخرى، فكانوا أشد عند الله مقتا، وأبعد في الفساد والأذى، ذلك أنهم زادوا المراءاة والاستهزاء بالمؤمنين، وبث روح الفشل فيهم، وموهوا، وعادوهم أشد من عداء الآخرين، وحاربوا في العقيدة والفساد بأشد مما حاربوا فكانوا يحاربون بالعداوة يسرونها فتكون أفعل وبإشاعة التردد وبث روح الهزيمة عند الإقدام، وبإشاعة المآتم والمفاسد في الذين آمنوا.
هنا يسأل سائل : كيف ينفى عنهم وصف الإيمان، وقد كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، كما قال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... ( ١٤٦ ) ﴾ [ البقرة ] وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه، وأدركهم زمانه. كما قال تعالى :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به... ( ٨٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبي ! فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ليس فيه إيمان، ومنفي بقوله تعالى :﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا مع اليهود، فلم يذعنوا ولم يسلموا، ولم تصل المعرفة إلى تصديق ؛ ولذلك نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى :﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ أي ليسوا مؤمنين. واليوم الآخر وهو يوم القيامة، وما يجري فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب.
فالله سبحانه وتعالى أكد نفي إيمانهم بالجملة الاسمية، أي أنه سبحانه نفى الإيمان وأصله عن ذواتهم، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله، وباليوم الآخر، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر.
وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء ؛ لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضي الإذعان والتصديق والتسليم، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة، والمنافق قلبه غير مستقر، ولا مطمئن إلى شيء، وهو قلب خاو، والحقائق تتردد فلا تسكن، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمئنان، فلا يؤمن بشيء، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، لا تدري إلى أيهما تذهب )١، وقال تعالى في وصفهم :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء... ( ١٤٣ ) ﴾ [ النساء ] ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثا ومقتا عند الله ورسوله، وعند الناس أجمعين.
١ سبق تخريجه..
ولقد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم، فيظنون أنهم يخادعون الله، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم ؛ ولذلك قال :﴿ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ الخدع : أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفي إرادته الحقيقية، ومقصده، ومن ذلك ضب خادع إذا أخفى نفسه في جحره، وقد أراد أن يضلل من يراقبه، فأظهر الخروج من بابه ويختفي في غيره.
وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه، وهم يبطنون الكفر، ولا يريدون غيره، بل يريدون تضليل المؤمنين، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان، وإبطانهم الكفر، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ( ٧٦ ) ﴾ [ البقرة ] وفي آية أخرى :﴿ وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( ١٤ ) ﴾ [ البقرة ].
فالآية الكريمة وصف لحالهم ﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾ فهي وصف لحالهم وما يرتكبون، فعملهم عمل المخادع الذي يخادع الله والذين آمنوا بأن يوهمهم ويخادعهم فيظهر الإيمان ويبطن الكفر والعداوة وتربص الدوائر، ويحسب أنه يخادع الله ورسوله والمؤمنين. والمخادعة مفاعلة بين اثنين كلاهما يريد خدع صاحبه، والمفاعلة بين أولئك المنافقين من جانب والله ورسوله من جانب آخر، وكيف يخادعون الله، وهو علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ؟ وكيف يخادعهم الله تعالى وهم في قبضته، وكل ما في السماوات والأرض في قبضته يوم القيامة ؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك فقرر أن الله تعالى يعاملهم معاملة المؤمنين، فيتزوجون، ويرثون، ويعاملهم كأنهم المؤمنون الصادقون في الإيمان، فهم يخادعون بإظهار ما لا يبطنون، والله تعالى يعاملهم بما يظهرون، ولا يعاملهم بما يبطنون، أو يقال إن المعنى أنهم ينزلون بالمؤمنين ما يحسبونه مخادعة لهم، وإيهامهم بأنهم آمنوا، وما هم بمؤمنين، أو يقال إن المخادعة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وهم يعاملونهم معاملة المخادع لهم، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من لحن قولهم خفي أمرهم كما قال تعالى :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول... ( ٣٠ ) ﴾ [ محمد ].
والمعنى في الجملة بعد أن خرجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول صلى الله عليه وسلم وأوليائه من المؤمنين، وفي التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبي إنما يخادعون الله تعالى، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأنهم إذ يضارونه، ويخفون عليه أمورهم، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لا يبدون وهو من ورائهم محيط.
وإنهم إذ يخادعون المؤمنين بإظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر، إنما يخدعون أنفسهم، بأن يظهروا لغيرهم الإيمان وأمرهم مكشوف غير مستور، وحالهم معروف، وكفرهم يبدو في لحن أقوالهم، فهم يحسبون أنهم يخفون على غيرهم أمرهم، وهو معروف لغيرهم، فهم المخدوعون أنفسهم ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾، أي أنهم يحاولون أن يخدعوا غيرهم فيظنوا أنهم ستروا كفرهم وهو مكشوف لمن يخدعونهم، وأن المؤمنين يعاملونهم بما يظهرون حتى يكون يوم الدين، فهم المخدوعون ؛ لأنهم يعاملون كأنهم مسلمون حتى ينكشف أمرهم، ولكنهم لا يشعرون، أي لا يحسون بأنهم مخدوعون مغرورون وأمرهم بين. والله من ورائهم محيط.
وإن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم، وتضل أفهامهم، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي، وتأخذهم عزة النفاق، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لا يشعرون.
﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴾ الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية، وهو ضعف يرد إلى النفوس، وأفحش هذه الأمراض النفاق، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها، ولا يظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم، أو لدفع ضرر جاثم، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه، وإطلاق كلمة ﴿ مرض ﴾ هنا، يصح أن يكون من قبل الحقيق ؛ لأن المرض هو ما يؤذي النفس، ويلقي بها في الضعف، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه، كالجنون الذي يستر العقل، وكالعته الذي يمنع الإدراك، وكالسفه الذي لا يدري النفع من الضرر، فهذه كلها أمراض، وتعد في اللغة أمراضا، كذلك مرض النفاق الذي يصيب النفوس بالوهن والحيرة، والحقد والبغض لخير الناس، وأن يكون صاحب هذا المرض غير مستقر بل هو في بلبال مستمر، تزداد حاله كلما تمكن فيه هذا الداء، وهو ساكن في النفس لا تخرج مظاهره، وكلما استتر واستكن ازداد قوة وإيغالا في النفس حتى يصعب علاجه، فإذا كان الكذب المجرد قد يعالج، فالنفاق مرض لا علاج له.
وكان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لا يشفى، ومرض النفاق فساد القلب، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله : والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد، والغل والحسد، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء ؛ لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، غلا وحنقا، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله :﴿ قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر...( ١١٨ ) ﴾ [ آل عمران ].
ومن التفسير المأثور أن المرض هو النفاق، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شؤون الأخلاق أو الاتصال بالناس، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل المعرفة، والاتصال بهم، فيكون في جو معتم، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان.
وإن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها، فيزيد خسرانا بإيغاله. كالسائر في متاهة، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدا عن الطريق الجدد، حيث الأعلام١. وهذا معنى :﴿ فزادهم الله مرضا ﴾ أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى ؛ لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه.
وهكذا كل المعاصي والذنوب التي هي أمراض القلب، من اختارها، فقد اختار الضلالة كلما سار فيها ازداد بعدا عن الحق وعن الطريق القويم فيوغل في المعاصي، لا يعود ولا يتوب.
وقد بين الله تعالى عاقبتهم، فقال :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي عذاب مؤلم شديد، فأليم هنا بمعنى مؤلم، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى :﴿ بديع السماوات والأرض... ( ١١٧ ) ﴾ [ البقرة ] أي مبدع السماوات والأرض يعني منشئها على غير مثال سبق، فيكون لهم جزاءان أحدهما دنيوي، وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لا يستقرون على قرار، ولا يطمئنون ؛ إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا، ويستمرون على ذلك، حتى يكون هذا مرضا خبيثا يسكن نفوسهم، حتى ينغص عليهم حياتهم، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم.
الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة، وهو ينتظرهم، وهم واردون عليه بلا ريب، ولقد بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني فقال تعالت كلماته :﴿ بما كانوا يكذبون ﴾ فالباء هنا باء السببية، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به، ف"كانوا" هنا دالة على الاستقرار والدوام، كما في قوله تعالى :﴿ وكان الله غفورا رحيما ( ٧٠ ) ﴾ [ الفرقان ] وكما في قوله تعالى :﴿ إنه كان ظلوما جهولا ( ٧٢ ) ﴾ [ الأحزاب ].
فمعنى ﴿ بما كانوا يكذبون ﴾، بسبب كذبهم المستمر الذي لا ينقطع، وقد اتصفوا بالكذب :( ١ ) فكذبوا على أنفسهم، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه، وغروها الغرور، وخدعوها بأنهم أهل الحق، وموهوا عليها، كما موهوا على الناس، فصارت في عماء، وغلبت عليها شقوتها.
( ٢ ) وكذبوا على الرسول وأصحابه، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر.
( ٣ ) وكانوا لا يصدقون في حديث مع الناس، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف المنافق :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان )٢.
١ مفرد علم: شيء منصوب في الطريق يهتدى به. [الوسيط ع ل م]..
٢ متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الإيمان – باب: علامة المنافق(٣٢)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب: خصال المنافق (٨٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العقام الذي لا يزايل المريض حتى يقضي عليه، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغوانهم١ أنهم يصلحونها، أنهم فوق الناس، ويمارون في القول، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم، يحسبون أنهم يستهزئون بالمؤمنين.
ولقد كان المنافقون يفسدون في الأرض بين الناس، والفساد في الأشياء أن تخرج عما خلقت له إلى ما يضر، والصلاح استقامتها حتى تكون في دائرة النفع الإنساني العام، والمنافقون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفيما بعده من العصور شأنهم الفساد، ومن كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد وضح فسادهم، واستشرى شرهم، فهم قد كفروا بالحق إذ جاءهم، وأنكروا كتاب الله تعالى ورسوله الأمين، وقد عرفوه، ومشوا بالنميمة والسعاية بين الناس، وكلما أطفأ الله نارا للحرب أوقدوها، ومالئوا المشركين على المؤمنين، وإذا خرج المؤمنون للقتال عملوا على أن يهموا بالفشل، يعرفون ضعفاء المسلمين ويغرونهم بالتخلف، يبتغون الفتنة بين المؤمنين ويقلبون الأمور لإثارتها، كما قال تعالى :﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ( ٤٨ ) ﴾ [ التوبة ].
ولقد قال ابن جرير في تفسيره في بيان إفسادهم : أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه، مقيمون على الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين، ويتفقون معهم، ويدلون على عورات المؤمنين، ومقاتلهم، وهكذا.
ويسأل سائل : لماذا قال سبحانه وتعالى :﴿ في الأرض ﴾ ونقول : إن ذلك لبيان عموم فسادهم، وأنه يتناول المدينة وما حولها. وأن الأرض موطن فسادهم، يثيرون الحروب فيها، ويشيعون الشر في ربوعها.
وقوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم ﴾ مع البناء للمجهول للإشارة إلى عموم شرهم، وإن الناس جميعا يتساءلون : لماذا كان ذلك الفساد ؟ وأي مأرب لهم فيه ؟، ولسان الخير يقول لهم :﴿ لا تفسدوا في الأرض ﴾ فهم في حال من الإفساد، يستنكرها كل إنسان، ولا يرتضيها رجل للأخلاق عنده مكانة، وللخير عنده منزع، فتجهيل اللائم لهم بقوله :﴿ وإذا قيل ﴾ لعموم المستنكرين لحالهم، وأنهم في واد والناس في واد آخر، فلا تجد أحدا يوالي منافقا إلا إذا كان على شاكلته.
وإن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله، ويزعم أنه ليس بفاسد، فهو معكوس النفس مركوس، قد انقلبت الحقائق في عقله، فلا يعرف الخير من الشر، ولا الفساد من الصلاح، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور، فجميعها منكوس.
ولذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم :﴿ قالوا إنما نحن مصلحون ﴾ أي قصروا نفوسهم على الإصلاح، وذلك أن "إنما" تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لا يكون منهم فساد قط، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا، ولا يعدونه فسادا، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وذلك الغرور لا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته، فأصبح لا يرى إلا ما يكون في دائرته، وقد سدت عنه كل منافذ الخير.
١ الطغوان: لغة في الطغيان من طغى: إذا جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر.[لسان العرب – باب الطاء- ط غ ى].
.

وقد حكم الله تعالى عليهم ذلك الحكم القاطع مؤكدا له أفضل توكيد بقوله تعالى :﴿ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴾ فالله تعالى يحكم عليهم بأن الفساد يستغرقهم وأنهم مقصورون عليه، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات :
أولها : التعبير ب"ألا" لأن لا نافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التنبيه والنفي، فهي نفي مؤكد لصلاحهم، وتأكيد لفسادهم.
وثانيها : التأكيد ب"إن" المؤكدة لفسادهم.
الثالثة : ضمير الفصل، وهو "هم".
الرابعة : تعريف الطرفين١ وهو دال على القصر، أي أنهم مقصورون على الفساد، لا يتجاوزونه، وهو محيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، فهم يسارعون فيه، ولا يخرجون عنه.
ومع هذه الحال، وهذا الحكم المؤكد ﴿ لا يشعرون ﴾، والشعور هو الإحساس الجسدي والنفسي والعقلي بخطأ ما يفعلون، فالشر قد استغرقهم، حتى أصبحوا لا يدركون بعقلهم الذي غمره الفساد ولا بنفوسهم الأمارة بالسوء، ولا بإحساسهم الذي آفته آفة الشر.
وإذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكري ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته، فيستنقذهم منهم.
كانوا صنفا قائما بين الناس لا هم كفار أعلنوا كفرهم، ولا هم مؤمنون قد رضوا بالإسلام دينا، وانحازوا بحالهم التي هي أشد كفرا ومقتا عند الله وعند الناس، فكان من سنة الناس أن يسألوهم لماذا لم يؤمنوا بقلوبهم، ولماذا يقفون ذلك الموقف الحائر المحير. لا بد أن يكونوا كفارا معلنين كفرهم، وإلا اختاروا الإيمان.
١ أي: اسم إن وخبرها، وأصلها المبتدأ والخبر؛ إذا عرفا دل على القصر..
﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾ بني الفعل ﴿ قيل ﴾ للمجهول للإشارة إلى عموم القائلين لأن موقفهم المتردد المتذبذب بين حق خالص لا ريب فيه، وباطل لا ريب في بطلانه، فهم يعلنون الإيمان، ولم يعلنوا الكفر، وإن كانت حالهم أشد الكفر وأمقته، كان هذا السؤال يتردد في كل القلوب، ويتساءل عنه كل أهل العقل والمنطق ؛ ولذلك كان التعميم في ﴿ وإذا قيل لهم ﴾ قال المخلصون : آمنوا أي صدقوا واعتقدوا الوحدانية، وأن تؤمنوا بالله ورسوله والملائكة والرسل جميعا، ﴿ كما آمن الناس ﴾، و"ال" في الناس للعهد أي الناس المعهودين المعروفين، وهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المجاهدون الذين أخلصوا دينهم لله.
وعبر عنهم بالناس إشارة إلى أنهم الناس حقا وصدقا الذين بلغوا أعلى درجات الإنسانية بإيمانهم وطهارة نفوسهم، وعظم مداركهم، وإذعانهم للحق إذ دعوا إليه.
ولكن مع جلال ما آمنوا به، وصدقه، استعلى المنافقون بالباطل، وكذلك شأن المنافق يظن أن ما هو عليه من نفاق ومراء هو عين العقل، وما عليه غيره هو عين السفه.
قالوا مستنكرين ما قيل ويقال لهم :﴿ أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾ والسفهاء جمع "سفيه"، وهو الأحمق الذي لا يتخير الأمور، ولا يتعرف أحسنها فيتبعه، وقد ظن المنافقون أنهم أهل الحكمة، فقالوا :﴿ أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾ وهم في زعمهم محمد وأصحابه، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي : لا نؤمن، ولا نصدق برسالة محمد إلى الخلق، كما صدق محمد وأتباعه، ومن ساروا على منهاجه، وكذلك زين لهم تفكيرهم الفاسد، وغرهم ما كانوا يفترون، ويكذبون به، وتكرر كذبهم، حتى ظنوها الأعلى، وهو الدرك الأسفل، ولقد حكم الله تعالى، وهو الحكم العدل، وهو خير الفاصلين، فقال تعالت كلماته :﴿ ألا إنهم هم السفهاء ﴾ يقرر الله تعالى الحكم عليهم بالسفه، وجعلهم مقصورين عليه يدورون في إطاره ويسارعون فيه، فهم يخرجون من سفه إلى سفه، ويسارعون في السفاهة، ويسيرون فيها حتى يصلوا إلى الدرك الأسفل منها.
وقد أكدت السفاهة بقوله :﴿ ألا ﴾ التي هي استفهام داخل على النفي، فكان تأكيدا للنفي مع التنبيه، وقد أكد أيضا ب"إن"، وهي تجيء بعد قوله تعالى :﴿ ألا ﴾ كما يجيء القسم بعدها.
وأكد بضمير الفصل، في قوله تعالى :﴿ هم السفهاء ﴾.
وأكد القول بتعريف الطرفين الذي يفيد قصرهم على السفه، بحيث لا يكون منهم إلا ما هو سفه، ولا تجيء منهم حكمة قط ؛ لأن الحكمة لا تكون إلا من قلب سليم.
﴿ ولكن لا يعلمون ﴾ مقدار ما أوتوا من سفه الرأي، وما أوتي غيرهم من حكمة الإيمان، وهنا نجد أنهم عند قصرهم في النص القرآني على الفساد، قال :﴿ ولكن لا يشعرون ﴾ ؛ لأن الفساد والصلاح حسيان، فناسبهما أن يكون عنهم شعور حسي، أما حكم السفه فأمر فكري فناسبه نفي العلم لا نفي الحس.
فذكر القرآن الكريم قياس بعض أحوال المنافقين في أنهم يدعون الإيمان ويبطنون الكفر، وأن النفاق والإيمان نقيضان لا يجتمعان، والمنافق ليس من شأنه أن يؤمن بشيء، وأنهم يزعمون أنهم هم الصالحون – وهم المفسدون الفاسدون – وأنهم يحسبون أنهم بشكهم ونفاقهم في مرتبة عالية، وأن المؤمنين بالنسبة لهم ضعاف الأحلام سفهاء.
بعد ذلك بين سبحانه علاقتهم بالمؤمنين ومعاملتهم، وكيف يمارونهم، ولا يجهرون أمامهم بكفرهم، فقال تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ﴾.
كان أولئك المنافقون يشيعون في مجالسهم أن المؤمنين سفهاء، وأنهم هم المدركون وحدهم، العارفون بحقيقة العقائد، وأنهم الأعلون ؛ لأن في المؤمنين موالي كصهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم.
ولكنهم كانوا إذا لقوا كبار المؤمنين رفئوهم١ بأحسن القول كأنهم معهم في الإيمان، بل يدخلون المسجد، كما يدخلون ليوهموهم بأنهم مؤمنون، يروى في ذلك أن عبد الله بن أبي وهو كبير النفاق والمنافقين خرج وصحبا له فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زعيم النفاق وقد أخذ بيد أبي بكر : مرحبا بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر، فقال : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي، وقال : مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
قال هذا القول، ثم افترق وانصرف إلى الذين رأوه من أصحابه وقال لهم : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأنكروا عليه، وهم يعلمون أنه لا يحكي بقوله ما في نفسه، فهو معهم، وهو يسخر من المؤمنين، ويستهزئ، وذلك من إمعانه في كفره، ونفاقه، وحقده وحسده.
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا ﴾ لقي معناه قاربه، أو استقبله عن قرب، أو جمعهما مكان، وقرئ ﴿ لقوا ﴾ من لقي، كما قرأ أبو حنيفة وغيره "لاقوا". والأولى تدل على مجرد لقائهم مع أصحاب رسول الله عفوا، أو من غير إرادة، والثانية على الملاقاة بينهم والتلاقي المقصود، والآية الكريمة بالقراءتين تدل على المعنيين فهم حيثما التقوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ألقوهم عفوا، أم لاقوهم قصدا واجتمعوا بهم قالوا لهم : آمنا، فهم يسترون كفرهم دائما، ويعلنون إيمانهم دائما في عوج، وقد يحرفون الكلم عن مواضعه ويلوون ألسنتهم بما ظاهره يدل على أنهم آمنوا، وباطنه كفر وطغيان.
هذا قولهم بأفواههم للمؤمنين، يقولون آمنا. أي : دخلنا في جماعتكم مؤمنين مصدقين، ولكنهم إذا تركوا المؤمنين وكانوا في جماعتهم قالوا : إنا معكم.
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم ﴾ فكانت كلمة ﴿ خلوا ﴾ متعدية بإلى، وأصلها بالباء، يقال : خلا به، ولا يقال خلا إليه، وإنما عدل عن الباء إلى التعدية بإلى للدلالة على معنى الانصراف، إذ كلمة خلا تتضمن ذلك، والمعنى خلوا منصرفين إليهم، تاركين المؤمنين، أو المعنى خلوا عن المؤمنين بمعنى تركوهم إليهم، فلا مجاز في التعدي. ومهما يكن التخريج، فإن معنى خلوا بهم لا يراد، لأن معناه الانفراد، والتستر، وهم لا يتسترون فيما بينهم، يقولون جهرا بينهم، وفي أوساطهم، فلم تكن خلوة بهم، ولكن كانت خلوة معهم وإليهم.
والشيطان فعلان من شطن بمعنى بعد، وشياطين جمع شيطان وسموا شياطين لبعدهم عن الحق، وتجافيهم عنه، وأضيفت شياطين إليهم للدلالة على أنهم جماعتهم، وكلهم شياطين بعداء عن الحق لا يهتدون ولا يستمعون إلى الحق ولا يرومونه، وقد بعدوا عن كل معنى من معاني الحق، والقصد المستقيم.
وإذا انصرفوا إلى شياطينهم، وخلوا أهل الإيمان ﴿ قالوا إنا معكم ﴾ وهنا يؤكدون أنهم لم يخرجوا عنهم بذلك الكلام الذي زوروه للمؤمنين ليخدعوهم.
وقد أكدوا أنهم لم يخرجوا من صفوف المؤمنين في قولهم :﴿ إنا معكم ﴾ ب"إن" التي تؤكد الحكم الذي يكون وراءها، وبقولهم : معكم، أي أننا ما خرجنا عنكم بهذا القول، ولكن ما زلنا في صحبتكم أنتم دون غيركم، فلم نفارقكم بهذا القول، وإنما هو من بضاعتنا التي نروج بها لأنفسنا.
ولم يؤكدوا للمؤمنين ادعاءهم ؛ لأنهم قالوا قولا لم يصدر عن قلوبهم، وإن تلوت به ألسنتهم، ولم يسكن الإيمان قلوبهم، فهو قول باللسان، ولم يذكروا تفصيل الإيمان، فلم يقولوا آمنا بالله ورسوله، والكتاب الذي جاء به وباليوم الآخر، إلى آخر ما يشتمل عليه الإيمان، لأنهم لا يريدون حقيقة الإيمان، ولكن يريدون أن يثيروا قولا يسترون به كفرهم المستكن في قلوبهم.
وقوله تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾ ليس تكرارا لقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر... ( ٨ ) ﴾ [ البقرة ] لأن الآيات الأولى في التعريف بالصنف الذي يقابل أهل الإيمان الحقيقي، وأهل الكفر، أما هذه فهي لبيان أحوال تلك الطائفة، وكيف يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، فالأولى حكم عام، والأخيرة بيان لبعض أحوالهم.
وإن أولئك المنافقين عندما يلاقون شياطينهم لا يذكرون المعوية فقط بقولهم :﴿ إنا معكم ﴾ بل يفسرون معنى كلامهم للمؤمنين، وقولهم : آمنا. وكأن سائلا منهم سأل : لماذا قلتم ما قلتم فقالوا :﴿ إنما نحن مستهزئون ﴾ الاستهزاء السخرية والتعابث، يقال : هزئ به واستهزأ، أي سخر منه، وتعابث بالقول معه.
وقد أكدوا الحكم بأنهم يستهزئون – بالجملة الاسمية، وب"إن" الدالة على التوكيد، وبذكر "نحن" لتأكيد الحكم باستهزائهم، وذكر ب"إنما" الدالة على القصر، والمعنى : إننا في عملنا هذا نستهزئ، فهم يقصرون أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا.
وإن الحكم بأنهم مستهزئون يتضمن الحكم بأنهم لا يؤمنون ؛ لأن من يؤمن بشيء لا يستهزئ به ؛ فهم تجاوزوا حد الكفر إلى أبعد منه، هو الاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم، وأصل الباب الهزء، بمعنى الخفة.
١ رفأ فلان: حاباه، ورفأه: دعا له بالرفاء، والرفاء بالكسر: المد الالتئام والاتفاق، من رفأت الثوب أي أصلحته. وقيل: السكون والطمأنينة، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ. وقد نهى عن قولهم: بالرفاء والبنين، مع ما فيه من التنفير عن البنات، والتقرير لبغضهن في قلوب الرجال؛ لكونه من عادات الجاهلية. وكان يقول بدله ونعم البدل:"بارك الله لكما، وبارك عليكما وجمع بينكما في خير". [الوسيط (ر ف أ) – مرقاة المصابيح ج ٣، ص ٢٦٩]..
ولكن الله تعالى بين أنهم إن يسخروا من المؤمنين فالله تعالى يسخر منهم لخفة عقولهم، وسفه أحلامهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ والمعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم، ويسخر بهم، وينتقم من قولهم يوم القيامة، وليس المراد معنى الاستهزاء، وهو الاستخفاف، فإن ذلك لا يليق بذات الله تعالى، وإنما المراد إنزال الهوان وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين، وهم معهم، ويدهنون بالقول مع المؤمنين، ولا يخفى على أحد حال من أحوالهم، فهم أرادوا ستر كفرهم فكشف، وأراد إظهار إيمانهم.
وإن الله تعالى يذكر أفعال المشركين، ويوردها بمثل ألفاظها، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون. مثل قوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم...( ١٩٤ ) ﴾ [ البقرة ]، فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم، وليس إلا دفعا وقصاصا، وكذلك قوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها...( ٤٠ ) ﴾ [ الشورى ]، وقوله تعالى :﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( ٥٤ ) ﴾ [ آل عمران ]، وقوله تعالى :﴿ إنهم يكيدون كيدا ( ١٥ ) وأكيد كيدا ( ١٦ ) ﴾ [ الطارق ]، وقوله تعالى :﴿ فيسخرون منهم سخر الله منهم... ( ٧٩ ) ﴾ [ التوبة ] وهكذا. وهنا يسأل سائل : لماذا ذكر الله حالهم بقوله :﴿ إنما نحن مستهزئون ﴾ باسم الفاعل الدال على الدوام، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى :﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ بفعل المضارع ؟ والجواب عن ذلك أن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنا بعد آن، فالاستهزاء متجدد مستمر، لا يبقى على حال، بل يتجدد وقتا بعد وقت، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وأفعالهم تجدد الاستهزاء، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم، والمؤمنون يحذرون، وكلما ابتغوا الفتنة ردت إليهم وتكاثر شرهم، والبراءة منهم، حتى أن أهل كل بيت فيه منافق استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتله، حتى كانوا موضع السخرية وأحسوا بها في ذات أنفسهم، حتى برموا من أعمالهم، وإن كانوا قد استمروا في غيهم.
ولكن لم ينزل بهم عقاب في الدنيا، وذلك لحكمة أرادها، ولمصلحة تغياها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ألا يقتلهم حتى لا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه١.
﴿ ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾ المد هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز، كما قال تعالى :﴿ نملي لهم ليزدادوا إثما... ( ١٧٨ ) ﴾ [ آل عمران ] والطغيان : الكفر والضلال، وأصله تجاوز الحد، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر.
والزمخشري يفسر "مد" لا بمعنى زيادة المد، بل بمعنى زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى :﴿ ونمد لهم من العذاب مدا ( ٧٩ ) ﴾ [ مريم ]، ولقد قرئ :( ويمدهم ) بضم الياء، وهي من المدد لا محالة.
وقول الزمخشري : في ذلك حجة ونرجحه على غيره.
والمعنى في ذلك، أنهم مغرورون مخدوعون، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم ؛ ولذلك قال إنهم بهذا المدد ﴿ يعمهون ﴾، والعمه مثل العمى، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة، فمعنى يعمهون يتحيرون، فهم في حيرة دائمة مستمرة.. زاد الله المنافقين في كل العصور عمى، وزادهم عمها.. !
١ متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية (٣٢٥٧)، ومسلم: كتاب البر والصلة – باب: نصر الأخ ظالما أو مظلوما (٤٦٨٢، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه..
المنافقون الذين جاوروا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من اليهود، وقد كانت عدوى الأخلاق بينهم.. أولئك المنافقون كانوا يحضرون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ونور الحق يشيع بينهم، فيرون مطالعه، ويدركون مشارفه، فأسباب الهداية بين أيديهم يرونها عيانا، ويسمعونها بيانا، والفطرة تحثهم وترشدهم، والحق لا يخفى منه خافية، فعندهم العلم أو أسبابه ولكنهم مع ذلك يتركون النور الهادي إلى الظلام الدامس، يتركون الحق الأبلج، وهو بين أيديهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، يتركون ذلك إلى الضلالة، فهم قد استحبوا العمى على الهدى ؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ الإشارة هنا إلى المنافقين الذين ذكرت أوصافهم، والإشارة إلى المعرف بالوصف هي إشارة إلى الأوصاف، وقد حملوها، وبذلك تكون الأوصاف هي علة الحكم، وسببه، إنهم بإخفائهم الكفر، وإعلانهم الإيمان، وإفسادهم في الأرض، وهم يزعمون إصلاحها، وما فيهم من مرض النفاق الذي يعمي ويصم، وظنهم أنهم أهل الكمال، وأن غيرهم أهل السفه والخسران،
إنهم بهذه الأوصاف التي اختاروها، والأحوال التي كانوا عليها مع رؤيتهم النور والهدى، وتركهم إياه كمن يشتري الضلالة بثمن هو أعلى من الأثمان، وهو الهدى يدفعونه في سبيل أن ينالوا أقبح ما في الوجود وهو الضلال، وهل يستوي الهدى والضلال في سوق الخير والفضيلة، إنهما لا يستويان. شبه الله تعالى أولئك المنافقين بحال التاجر الذي يطلب الكاسد يقدم في سبيله الرابح، وهنا يصح أن يكون تخريج الكلام بتشبيه إفرادي، أو استعارة تمثيلية، فيكون المعنى تشبيه حال رجل في يده هدى ونور وخير وفضل، يتركه ليستبدل به شيئا لا خير فيه، وفيه فساد وضرر، بحال تاجر يترك البضاعة الرابحة المثمرة إلى بضاعة كاسدة لا ثمر فيها.
وقد رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوي الاستعارة بذكر أوصاف للمشبه، فقال :﴿ فما ربحت تجارتهم ﴾ أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر، وأي كسب فيها ؟ ! ونسب الربح إلى التجارة، وهي محل التصرف، وذلك تعبير بليغ كقولك : نهار صائم وليل قائم، وذلك من قبل المبالغة في الصلاة، وإنما قوله :﴿ فما ربحت تجارتهم ﴾ مبالغة في نفي الربح وثبوت الخسارة، لمن ترك الهداية وأخذ الضلالة.
وقد أكد سبحانه ضلالهم، ونفى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال :﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس، وفسدت ذلك الفساد، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا، فنفى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدي أبدا، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادت بالضلالة حتى إنه لا منفذ لنور يدخلها أبدا.
ولقد ضرب سبحانه مثلا آخر لضلالهم، وقد بدت لهم معالم الهداية، وبزغ بين أيديهم نورها، فقال تعالت كلماته :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ﴾.
المثل : الحال الشبيه والشأن، واستوقد النار، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود، فاستوقد معناها أوقد، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد ؛ لأن السين والتاء للطلب، وهي تفيد المعالجة في الإقادة، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة. وضرب الأمثال في القرآن كثير، بعقد المشابهة بين الأحوال الواقعة، وما يماثلها في الحياة، لتقريب المعاني العالية التي اشتملت عليها كثير من آيات القرآن، لتقريب المعاني المجردة للناس بعقد المشابهة بينها وبين أمر محسوس.
والمعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم، ويتوارثونهم، ويعاملونهم، ويوادونهم، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين، وهذه الأحوال التي تكنفهم، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق، وقد ربطتهم مودة الجار، كل هذا، حالهم فيه، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها، وتخرج عليه بنورها، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها، فبعد الضوء اللامع، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لا يبصرون.
ويصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي، وتشبيه تمثيلي.
أما الإفرادي، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم، ومجاورتهم، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها، ثم تخمد فيذهب الضوء، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة ؛ لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا، وأبعدوا فيه، حتى لا مرجع إلى النور من بعد، وشبه ما يحدثه النفاق في النفس من حيث إنه يسد الإدراك، فيصبح العقل لا يدرك والنفس لا تتكشف، بحال من لا يبصرون﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( ٤٦ ) ﴾ [ الحج ] هذا تشبيه إفرادي، إنه استعارة في أجزاء القول، لا في جملته.
والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم، وتحيط بهم، ولكنهم لا ينتفعون بها – بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا، وعالجوها حتى أضاءت، فلما أضاءت ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لا يبصرون.
وفي النص عبارات بلاغية يجب الإشارة إليها :
أولها : أنهم جماعة، والمفروض أنهم استوقدوا النار جميعا، أو بتعاونهم، ولكنه عبر بالمفرد، فقال تعالت كلماته :﴿ كمثل الذي استوقد نارا ﴾ فعبر بالمفرد، قالوا إنه مفرد أريد به الجمع، وعبر بالمفرد لثلاثة وجوه :
( أ‌ ) أن الموصول العبرة فيه بالصلة لا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وخضتم كالذي خاضوا... ( ٦٩ ) ﴾ [ التوبة ].
( ب ) وأن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم، وإن كانت الإضاءة للجميع، والنفع بالضوء للجميع لا للذي استضاء وحده ؛ ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع، إذ قال فلما أضاء لهم، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور، إذ هو يشيع ويعم، ولا يخص من استقاد النار.
( ج ) أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران، وسيرهم في ضلال، فعبر بالذي كما في قوله تعالى :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا... ( ٥ ) ﴾ [ الجمعة ] وكقوله تعالى :﴿ ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت... ( ٢٠ ) ﴾ [ محمد ] فهو تشبيه حال بحال في كل هذه الأمثلة.
وثاني ما يجب الإشارة إليه أن نارا مصدر لنار، وهي مرادفة، ولذا يقال في التصغير نويرة، ومنها يؤخذ النور ويجمع على أنوار.
والإضاءة النور الشديد – كما قال تعالى :﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا... ( ٥ ) ﴾ [ يونس ] والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم، فلم ينتفعوا به، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به.
وثالث ما يجب الإشارة إليه هو جواب "لما" في قوله تعالى :﴿ فلما أضاءت ما حوله ﴾ فقد كان في هذا الجواب نظران أحدهما : أن الجواب هو قوله :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ وذلك كلام صالح للجواب، والثاني : أن الجواب محذوف دل عليه ﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ والمعنى، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة.
وقوله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ معناها أذهب الله نورهم الذي كانوا يسيرون فيه، ويمكن أن ينتفعوا به ؛ ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم.
وعبر سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ لأن الباء للملابسة، ومعناها هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال :"والفرق بين أذهبه، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا، ويقال : ذهب به إذا استصحبه وذهب معه، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به. والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له.
ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لا يذهبه الله تعالى، ولا يضيعه، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم، وهنا ملاحظة لاحظها الزمخشري، وهي التعبير عن نورهم بالإضاءة، وهي النور الشديد، وذلك بأنها إضاءة شديدة تعقبها ظلمة شديدة كقوله :"للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح الضلالة عصفة، ثم تخفت" فهي إضاءة شديدة لهم، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون.
وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لا يبصرون. وعبر بالجمع، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق، فإن المنافق في حال كذب مستمر، وهم يدهنون في القول، وهم يمالئون الظلم، ولا ينتصرون للحق، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس، وإرادة الأذى المستمر، وكراهيتهم للناس ؛ ولذلك لما ذهب عنهم نور الحق، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لا يبصرون حقا، ولا يدركونه، ونفي الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع، لتجدد العمى عليهم، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة.
وعدم الإبصار هو عدم الإدراك، فلهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير، قد اشتروا الضلالة بالهدى، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم، ويصطحب النور، ويستمسك به لغير، فسدت عليهم أبواب الحق لا يسمعون إذا دعاهم، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى، فيبصروه ؛ ولذا وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ صم بكم عمي ﴾.
وإذا كانت لهم آذان فهم لا يسمعون بها، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لا ينطقون بها في حق قط.
وكانت هذه الآية الكريمة تشبيها لحالهم التي آلوا إليها فليست استعارة، ولكنها تشبيه صريح، إذ إن قوله تعالى :﴿ صم بكم ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره :"هم" أو : المنافقون، فهم كالصم لأنهم إذا استمعوا القول لا يتبعون أحسنه ويقولون سمعنا بل ينغضون رءوسهم علوا واستكبارا ﴿ إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( ٨٠ ) ﴾ [ النمل ]، وإذا بصرتهم بالدلائل الواضحة، والبينات الناصعة، لا يستبصرون فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولا ينطقون بحق استنطقتهم به، فهم كالبكم الذين لا ينطقون، وهم لا يبصرون وإن كانت لهم أعين.
وختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لا يرجعون، أي لا يرجعون إلى الهداية، بعد أن ساروا في الغواية، أي هم وقوف عند الشر الذي وصلوا ؛ لأنه ليس وراءه شر، بل هو الضلال البعيد، وقد وصلوا إلى نهايته، فماذا بعد النفاق من ضلال، ولقد قال الزمخشري : إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأن يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون.
يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام – معروفة مألوفة لديهم ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( ٤٣ ) ﴾ [ العنكبوت ].
وقد ضرب الله سبحانه مثلا للمنافقين بمن استوقد نارا، ولكن لم يستفيدوا، وذلك لأنهم في وسط علم النبوة، والإشراق المحمدي، والجوار لأهل الحق. ولكن استمروا في ظلمتهم.
وقد ضرب الله تعالى مثلا آخر، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع، وما أصاب نفوسهم من نوازل، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان، فلم يتجهوا إليه، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق، ومقام عن إدراكه.
لقد نصر الله تعالى المؤمنين، ونصرهم كان كالصواعق والرعد، وفيهم الهدى، فضرب مثلا بهذه الحال، فقال :﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات.. ﴾ الآية. أو هنا عاطفة على قوله تعالى :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا... ( ١٧ ) ﴾ أي أن مثلهم كمستوقد النار، أو مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ويقول الزمخشري : إن "أو" أصلها للشك، ثم صارت بالمجاز دالة على التسوية، كقوله تعالى :﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ( ٢٤ ) ﴾ [ الإنسان ] أي أن الإثم والكفر سواء في أن طاعة أهلهما حرام تجر إلى الوبال وسوء العقبى والمآل، والتسوية هنا بين المثل في أن كليهما فيه عبرة واعتبار، وتصوير لحال المنافقين، فالأول يصورهم، ونور الحق بجوارهم، وهم يعيشون فيه بأجسامهم، وإن جافته قلوبهم، والثاني يصورهم، وماء الحياة ينزل عليهم مدرارا من السماء، ومن شأنه أن يحيي موات الأرض والنفوس، ولكنه لهم ظلمات، وفيه رعد مزعج وبرق يبرق ويبين، وصواعق تنزل قارعة للأجسام، عسى أن تقرع النفوس فتحولها من الضلال إلى الهدى، فهما مثلان متلاقيان غير متباينين، كل واحد منهما يصور جانبا من جوانب المنافقين، الأول يصور الحق كنور رأوه، ولم يهتدوا به، والثاني كماء الحياة ينزل عليهم وسط نذر وإرعاد وإبراق، فلم يرتدعوا به، فهم لم يهتدوا بنور هاد، ولم تردعهم النذر والآيات.
والصيب هو الماء ينزل، وهو وزن فيعل من صاب يصوب بمعنى نزل، فأصلها صيوب اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ك"سيد" و"ميت"، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرءوس قرعا، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء.
والسماء ما أظلك، ولماذا أسند إلى السماء، والمطر ينزل منها دائما ؟ ونقول إن ذكر السماء يدل على أمرين، أحدهما – أنه نازل من السماء، وليس من العيون والينابيع، فإن ماءها لا ينزل، ولكن يخرج سلسبيلا، وثانيهما – للإشارة إلى أنه يجيء من عل، فينصب انصبابا.
ووصف سبحانه الماء، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات، وهي جمع ظلمة، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدجنة١ الحالكة، وظلمة السحب الداكنة، وظلمة الليل الدامس، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرءوس انصبابا، وفيه رعد وبرق، وفيه صواعق تصك آذنهم صكا شديدا، وتفزعهم، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، خوفا من أن يموتوا.
وهذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته، وقد كان نورا قد أشرق.
والرعد على ما هو مقرر الآن مظهر من مظاهر الكهرباء التي أودعها الله تعالى في الأجسام، فبعض السحاب يحتوي على كهرباء تسمى موجبة، وأخرى تحتوي على كهرباء تسمى في اصطلاحهم سالبة، وإذا اصطدم السحاب الموجب بالسحاب السالب حدث صوت شديد هو الرعد، وصحب الاصطدام نور هو البرق، وقد تنزل نار محرقة من جراء ذلك هي الصواعق، فالمطر الصيب يكون فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في هذا المثل، ونرجع رجعة نتعرف فيها تفسير علماء الأثر للرعد والبرق والصواعق، وسنجد من بينهم من يقارب تفسيره لما تقرر في هذا العصر، ومن باعده.
فممن باعده ما رواه الترمذي عن ابن عباس أنه قال، سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال :( ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله )، فقالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال :( زجره السحاب إذ زجره، حتى ينتهي إلى حيث أمر )، قالوا : صدقت٢. وفسر ابن عباس – في رواية لا ندري مقدار صحتها – البرق بأنه سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب.
ولقد جاء في تفسير القرطبي : قالت الفلاسفة الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق مما ينقدح، من اصطكاكهما. ولا شك أن تفسير الفلاسفة قريب مما قرره العلماء في عصرنا من أنه احتكاك سحابة سالبة بأخرى موجبة، يتولد عنه صوت هو الرعد، ونور هو البرق.
وإن الزمخشري رضي الله عنه فسر الرعد والبرق بمثل ما فسر الفلاسفة، فقال : والرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب، وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد، والبرق الذي يلمع من السحاب، ولا شك أن ذلك قريب مما يقرره الفلاسفة، وإن لم يكن هو.
وهنا يجب أن نتكلم في الرواية التي تقرر أن ملكا هو الذي يكون الرعد والبرق، فالخبر لم تروه الصحاح، ولم يروه إلا الترمذي، ومن المقرر أن الأخبار إذا خالفت العلم الضروري القاطع أولت، أو كان ذلك دليلا على ضعفها لضعف متنها، فقد قال الغزالي : إذا خالفت النصوص ما قرره علماء الكون والطبيعة على أنه حقيقة مقررة تؤول النصوص إذا خالفتها، وإذا كانت حديث آحاد ردت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند، ولو حديث آحاد خالف ذلك.
وقد صور الله سبحانه وتعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله :﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ﴾.
وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد، لا يضع أصابعه كلها في أذنه، بل يضع فقط طرف أصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه ؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء، وإن إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي، وفي القرآن الذي هو أبلغ الكلام، فقد قال تعالى :﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم... ( ٦ ) ﴾ [ المائدة ]، ولا يراد الأيدي كلها، بل يراد بعضها، وقال تعالى :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله... ( ٣٨ ) ﴾ [ المائدة ] ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة.
ويقرر الغزالي أن أصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها، ثم يقول : فإن قلت : إن الأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة فلم ذكر العام دون الخاص، قلت : لأن السبابة فعالة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة.
وفي الحلية٣ : إن ذكر الأصابع مع إرادة بعضها فيه بيان عظم الهول في نفوسهم واشتداده على حواسهم حتى أصابتهم رعدة الخوف، وظنوا الظنون من هول ما يرون، وقوله تعالى :﴿ حذر الموت ﴾ أي خوفا من الموت، فهي مفعول لأجله، والصواعق جمع صاعقة، وهي ما ينزل من السماء من نار، في الرعد والبرق.
وهنا يسأل سائل : هل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم، فيحذرونه بوضع الأصابع ؟ والجواب عن ذلك، أن التعليل ليس لمجرد وضع الأصابع، بل هو تعليل للحال التي هم عليها، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها، أو مظهرا من مظاهرها. فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن، وليل معتم، وأمطار منهمرة، ورعد وبرق وسحاب، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمع صوت الصواعق والرعد – قد يدفع الموت. فهم يفعلونه حذر الموت.
وقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه، ولم ينج منه، وهي مجاز يراد به ألا يفوتوه، وقد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك، كما قال تعالى :﴿ إلا أن يحاط بكم... ( ٦٦ ) ﴾ [ يوسف ] أي تهلكوا بمعنى ﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ أي هم في قبضته، إن أراد أهلكهم، كما قال تعالى :﴿ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة... ( ٦٧ ) ﴾ [ الزمر ].
والمعنى على ذلك : إنهم يحذرون الموت، ولا حذر منه، ولا ينجيهم الحذر، فإن الله تعالى محيط بهم، لا يفلتون، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما.
١ الـدجنة من الغيم: المطبق تطبيقا، الريان المظلم، الذي ليس فيه مطر؛ يقال يوم دجن، ويوم دجنة، وكذلك الليلة على الوجهين، بالوصف والإضافة. (الصحاح – باب النون فصل الدال)..
٢ رواه بهذا اللفظ – عن ابن عباس – الترمذي: كتاب تفسير القرآن – باب ومن سورة الرعد (٣٠٤٢).
.

٣ حلية الأولياء لأبي نعيم..
وصور سبحانه وتعالى قوة البرق وأثرها في نفوسهم بقوله تعالى :﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾ والخطف معناه الأخذ السريع ؛ ولذلك يطلق على الطائر إنه الخطاف لسرعة أخذه، وخطف من باب فرح، وهي اللغة الفصيحة السائغة في لغة العرب، وهناك لغة تجعلها من باب ضرب، فيقال خطف يخطف، وقد قرئ بها فهما قراءتان، وقالها الأخفش، فروي أن الأخفش قال : خطف يخطف، ولكن قال الجوهري : وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف.
وعندي أنه إذا كانت هناك قراءة بكسر الطاء لا يليق أن تذكر بأنها رديئة، وقد روي أنه قرأ بها على زين العابدين، ويحيى بن وثاب، وقرأ بها يونس، والأولى أن يقال إنهما لغتان في حركة الطاء. هذا والآية الكريمة تصور شدة البرق من حيث إنه يكاد يخطف الأبصار ويذهبها لشدته، كما في قوله :﴿ يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( ٤٣ ) ﴾ [ النور ]، أي يكاد البرق يأخذ أبصارهم سريعا، فلا يبصرون، وكانت السرعة في أخذه، لأنه ومضات تجيء سريعة وتختفي سريعا، ولا تبقى طويلا.
﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ﴾ أي كلما كان البرق كان الضوء المنير، فعندئذ يمشون فيه مطمئنين غير مسرعين ؛ لأن المشي إذا اشتد كان سعيا، وإذا اشتد السعي كان عدوا، فكلما أضاء ساروا فيه سير اطمئنان، وإذا أظلم أي إذا انطفأ فأظلم الجو، وصار ظلاما – قاموا – أي وقفوا ساكنين سكون الحيارى راكدين، فهو قيام الحائر الراكد الذي لا يدري ما الله فاعل، وعبر في الإضاءة بكلما لأنها مكررة بتكرر البرق، ولأنها حركة تغدو وتروح، فإذا جاء البرق وذهب توقعوا عودته، أما الإظلام فلا يطلبونه، وهو حال سلبية لا تجدد فيها، لا يطلبون، وقاموا تتضمن السكون والبقاء على ما هم عليه متحيرين مضطربين.
﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهم ﴾ لو شاء سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم بالرعد والصواعق أو ببصرهم بالبرق الخاطف لذهب بها، أي لأخذها كما أعطاها، فقوله تعالى :﴿ لذهب بسمعهم وأبصارهم ﴾ معناه لاستردها، وأعادهم صما وعميا، كما قال تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ [ النحل ].
ثم ذيل سبحانه وتعالى الآيات الكريمات بكمال قدرته، فقال تعالت كلماته :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ وذلك التذييل لتأكيد قدرة الله تعالى على إذهاب سمعهم وأبصارهم، وكل قواهم، وقد أكد سبحانه قدرته القاهرة فوق عباده بعدة مؤكدات : بالجملة الاسمية أولا، وب"إن" ثانيا، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على أنه مالك الوجود، ومالك كل موجود، وعموم قدرته على الأشياء كلها ﴿ إنه علي حكيم ( ٥١ ) ﴾ [ الشورى ].
وهذه الأخبار كلها – من نزول الصيب المنهمر انهمارا، والظلمات المتكاثفة والرعد والبرق، وكون الأبصار يكاد سبحانه وتعالى يخطفها، أهي مجاز لأمور معنوية ؟، أم هي حقائق وليست مجازا ؟ ونقول إن هناك استعارة تمثيلية في جملة القول، ولا مانع أن تكون في كل جملة مجازا، ويتكون من هذه المجازات الصورة التمثيلية الكبرى.
ويميل إلى ذلك أكثر المفسرين، يقول الفراء في قوله تعالى :﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه ﴾ : أنهم كانوا كلما سمعوا القرآن، وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه، ويضلون به، أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن عباس "المعنى أنه كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم، وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك".
وكذلك يفسر الصيب بالقرآن حياة الأرواح، والظلمات والرعد والبرق بما يكرهون به أنفسهم مما يحسبونه شرا عليهم من نصر للمؤمنين، وتمكين للإيمان، وهكذا.
وإن الحق هو أن المثل كله استعارة تمثيلية، أو تشبيه تمثيلي، فقد شبهت حالهم من أن القرآن ينزل في المؤمنين وهم جيرانهم ومعاشروهم، وفيه ماء الحياة الذي يحيي القلوب ويغذيها. وأنالهم العبر والمثلات من تأييد الله تعالى، ونصره الدائم المستمر للمؤمنين، والخذلان الدائم لهم، وما يقرعهم من آيات بينات، وما يجيء إليهم من بلايا بسبب الخزايا التي تنزل بهم كالرعد الذي يقرع الأسماع والبينات تجيء إليهم نورا يسيرون فيه، ثم تظلم قلوبهم وينطفئ نور الحق بينهم.
شبهت حالهم والعلم البين بين أيديهم بحال قوم نزل عليهم غيث منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، ومع ذلك لم ينتفعوا ولم يهتدوا.
فالكلام الكريم، فيه تشبيه حال بحال، وما فيه من مثل قوله تعالى :﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ وقوله :﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ﴾ إنما هو ترشيح الاستعارة، والترشيح هو ذكر الأوصاف المختصة بالمشبه به، كما إذا قلت عن شجاع : إنه ليث، ثم قلت : له لبد، أظفاره لم تقلم، فإن ذلك تقوية للاستعارة بذكر أوصاف خاصة بالمشبه به. والله أعلم.
العبادة والقدرة والكتاب
ذكر الله تعالى في أول السورة مكانة الكتاب، وأوصاف المتقين ثم أوصاف الذين كفروا، ثم ذكر أوصاف المنافقين ؛ لأنهم شر هذا الوجود الإنساني، وداؤه، ويكمن فيهم سبب فساده.
بعد ذلك ذكر الله واجب العبادة، ومقام كتابه، فقال تعالى :
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
لعلكم تتقون ( ٢١ ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء
بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا
تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( ٢٢ ) }.
هذه الآيات الكريمة تدعو لعبادة الله تعالى وحده، وتذكر أنه خالق من في الوجود، وأنه ربه الذي يربه وأنعم عليه بالنعم، وهذا يبين أن الكافرين والمنافقين على باطل، وأن أهل الحق وحدهم هم الذين يسلكون الصراط المستقيم.
﴿ يا أيها الناس ﴾ قال بعض العلماء : إن الخطاب ب "يا أيها الناس" يكون لأهل مكة، وخطاب "يا أيها الذين آمنوا" يكون للمؤمنين بعد الهجرة، ونرى أن هذا التخصيص ليس محكما دقيقا، فهذه سورة البقرة مدنية، وأهل الإيمان قد قاموا واستقروا، وأهل الشرك لا يزالون قائمين بمكة.
وفوق ذلك جاء الخطاب ب "يا أيها الناس" في سورة النساء، وهي مدنية فقد قال تعالى فيها :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ( ١٧٠ ) ﴾ [ النساء ] ؛ ولذلك نرى أن ذلك الاستقراء غير كامل، والأقرب أن نقول إنه إذا كان ب "يا أيها الناس" فإنه يعم المؤمنين والكافرين ؛ لأنه يكون متضمنا خطابا للكافة، ويكون المطلوب فيه إجابة الدعوة المحمدية بالتوحيد، مع ذكر البرهان العام الدال على التوحيد وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم. أما النداء ب "يا أيها الذين آمنوا" فإنه يكون متجها إلى بيان الأحكام التكليفية : نهيا أو طلبا، أو إباحة بنص شرعي، وسواء أكان التكليف يتعلق بالأسرة أم بالعلاقات الدولية، أم كان بالتحريض على الجهاد.
﴿ يا أيها الناس ﴾ قالوا إن النداء ب "يا" يكون للبعيد، والنداء ب "أي" يكون للقريب، وهنا النداء ب "يا" و"أي" معا، ثم يزاد عليها ها التي تفيد التنبيه، وينادى للبعيد حسا ب"يا"، وللبعيد معنويا بها أيضا، والنداء من الله تعالى لعبيده نداء من أعلى من في الوجود إلى خلقه ؛ ولذا كان النداء بأداتي نداء، وهما "يا" و"أي"، ويضاف إليهما، فهو منه عز وجل إلى الخلق جدير بأن يكون بأعلى الصيغ، لبعد ما بين الكون وخالقه في المنزلة، وفوق أن هذا النداء من الخالق، وهذا يقتضي أعلى العلو وأبعده، وموضوع النداء له جلال وخطر، وعظيم شأن ؛ لأنه العبادة أو الشرائع. ويقول الزمخشري في ذلك إجابة على سؤال هو : لماذا كثر النداء في القرآن ب "يا أيها" ؟ فقال : لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة ؛ لأن كل ما نادى الله تعالى به عباده من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
كان المنادى الناس، مؤمنين وغير مؤمنين، فهو سبحانه وتعالى ينادي الإنسانية كلها لا فرق بين كافر ومؤمن، وأبيض وأسود، وعربي وأعجمي، والذي يناديهم به أن يعبدوه وحده لا إله غيره. وطلب العبادة من المؤمنين وغير المؤمنين، وتحقيقها في كل منهما بما يناسب، فالكافرون الذين يعبدون مع الله تعالى الأنداد، ويتخذونهم شركاء لله – تعالى عن الشبيه والمثل – تكون عبادتهم بخلع عبادة الأوثان، والإيمان بواحد أحد فرد صمد، ليس بوالد ولا ولد، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به وطاعته سبحانه فيما أمر به ونهى عنه، بالخضوع الكامل له وحده سبحانه.
وبالنسبة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه العلي الأعلى، فإن ذلك يكون بزيادة الإيمان والإذعان، والاستمرار على الإيمان والبقاء عليه مستوثقين، كلما جاءتهم آية زادتهم إيمانا لا يرتابون، ويجتمعون ويكونون قوة في هذه الأرض، وإن الازدياد من العبادة عبادة في ذاته، وكأنها منشأة بعد أن لم تكن.
والعبادة الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى وحده بحيث يكون القلب كله لله تعالى، لا يحب إلا لله ولا يكره إلا لله، والعبادات تعم الصلوات، والزكوات، والصوم والحج، وغير ذلك مما يكلفه العباد، حتى الأعمال التي تكون بها الحياة، كلها تكون عبادة إذا قصد بالخير فيها وجه الله تعالى، ونفع عباده، فالصانع في مصنعه والزارع في مزرعته إذا قصد بعمله نفع الناس ووجه الله تعالى، فهو في عبادة، فالعبادة تعم كل أفعال الإنسان، واختصت من بينها الفرائض، لأنها لا يمكن أن تكون إلا لله تعالى، وهو عليم بذات الصدور.
وقد وصف الله – سبحانه وتعالى – ذاته العلية بصفات تدعو إلى العبادة، من له قلب يخشع، وعقل يخضع، فوصفه أولا بأنه الرب الأوحد، فقال "ربكم" أي رباكم ونماكم، أو ربكم : تولاكم، وكلأكم بالليل والنهار، ويتبع حياتكم، فيرعاكم حق الرعاية في كل أجزاء جسمكم، ونفوسكم وعقولكم، ولا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو بهذه الربوبية يستحق أن تعبدوه وحده، لا شريك له ؛ لأنه لا أحد سواه يربكم.
ووصفه ثانيا بأنه ﴿ الذي خلقكم ﴾ والخلق معناه الإنشاء والإبداع والتقدير والتصوير، صوركم فأحسن صوركم، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى، وأنه وحده الذي خلقهم، كما حكى الله تعالى عنهم :﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله... ( ٢٥ ) ﴾ [ لقمان ] وكانوا يقولون :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ( ٣ ) ﴾ [ الزمر ].
فهم يؤمنون بوحدة الخالق المنشئ المكون، ويؤمنون بوحدة الذات والصفات، وإشراكهم كان إشراك العبودية، فهم يعبدون مع الله غيره آلهة أخرى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ووصفه ثالثا أنه خلق الذين من قبلهم، وقد يسأل سائل : لماذا كان هذا الوصف، والسابق يتضمنه، فمن خلق جيلا فإنه يخلق الأجيال كلها : من مضى، ومن حضر، ومن يجيء بعد ذلك من الأخلاف ؟
والجواب على ذلك أنه لا يغني المتضمن عن الصريح، وذكر الجيل السابق، أو الأجيال السالفة للإشارة أولا إلى عموم قدرته، وإلى أنه قادر على الإحياء والإماتة فهو خلق السابقين، وأماتهم ثانية، وللإشارة إلى أن الحاضرين ليسوا مخلدين، فهم سيموتون كما مات من سبقوهم وسيبعثون جميعا يوم الدين، ولأن العرب كانوا يعتزون بأسلافهم، سواء كانوا ضالين أم كانوا مهتدين. وإن صفة الربوبية وصفة الخلق والتكوين للكون كله، ولمن حضر من الناس، ومن سبقوهم وقبروا في مقابرهم، تقتضي ألا يعبد سواه، ولا يحمد غيره، ولا يستحق الألوهية الحق غيره، فهو الله الواحد الأحد.
وقوله تعالى :﴿ لعلكم تتقون ﴾ متصل بقوله تعالى :﴿ اعبدوا ربكم ﴾ اعبدوه رجاء أن تتقوا بأن تقوا أنفسكم شر عذابه، وتكونوا في أمن من عقابه، و"لعل" الدالة على الرجاء فيها من العباد، والمعنى اعبدوا فالعبادة طريق التقوى ومعها رجاؤها، وتحقيقها، ويقولون إن التقوى أقصى درجات العبادة، لأن تغليب الخوف عبادة، ورجاء النجاة عبادة.
وقد يقال إن قوله تعالى :﴿ لعلكم تتقون ﴾ متصلة بقوله تعالى :﴿ خلقكم والذين من قبلكم ﴾ ومثل قوله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾ [ الذاريات ] والمعنى أن الله تعالى خلق الناس في ماضيهم وحاضرهم وقابلهم رجاء أن يعبدوه أبلغ العبادة بالتقوى وامتلاء النفس بهيبته، والاعتزاز بعزته.
وإن الله تعالى عالم بكل شيء فليس يجوز عليه الرجاء ؛ لأنه يحتمل الوقوع وعدم الوقوع، والرجاء لا يجوز أن يكون من أحوال الله تعالى، بل هو من أحوال الخلق.
ولذلك قرروا أن ( لعل ) هنا مجازية أي أنها ذكرت على سبيل المجاز، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة وقدرة وقوة بها يختارون ويفعلون، لا يقع شيء من أفعالهم الاختيارية إلا بإرادتهم، يدركون الأمور ويتخيرون ويعرفون أسبابها ونتائجها، فحالهم حال من يرجو أن يتجهوا نحو العبادة يبتغونها، فالرجاء من حالهم، والله تعالى لا يرجو، ولا يتصور منه، إنما يتصور منه العلم، ووقوع الأمر كما علم، وكما قدر.
وعندي أن الاتصال بين رجاء التقوى والأمر بالعبادة أظهر وأوضح، ولا إشكال فيه.
وقد بين سبحانه بعد ذلك بديع التكوين، والنعم التي ينعم بها العباد، فقال تعالت كلماته :﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشا ﴾ جعل تستعمل بمعنى صير، وتستعمل بمعنى خلق، كما قال الله تعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( ١٠٣ ) ﴾ [ المائدة ]، وقوله تعالى :﴿ وجعل الظلمات والنور... ( ١ ) ﴾ [ الأنعام ] وتأتي بمعنى سمى، كما في قوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا... ( ١٩ ) ﴾ [ الزخرف ] وتأتي بمعنى أخذ واتخذ.
وجعل هنا بمعنى صير لأنها ذات مفعولين، الأول ﴿ الأرض ﴾ والثاني ﴿ فراشا ﴾، والمعنى جعل الله تعالى الأرض ممهدة معبدة كأنها فراش يستقر عليه الإنسان، ويجد فيها مقاما ثابتا، وإذا كان فيها نتوء كالجبال فقد جعلها الله تعالى مثبتا لذلك الفراش، ولذلك قال تعالى :﴿ ألم نجعل الأرض مهادا ( ٦ ) والجبال أوتادا ( ٧ ) ﴾ [ النبأ ] وقد وصفت الأرض بأن الله تعالى جعلها مهادا، ووصفت بأنه جعلها بساطا، فهي ممهدة كالفراش وكالبساط، وتلك نعمة من الله تعالى لتسهل الإقامة عليها، والانتقال بين آفاقها، والهجرة بين أجزائها، وهي للإنسان كالعرصة١ في مسكنه، وكون الأرض فراشا لا ينافي أنها كرة تدور حول الشمس، فإنها لعظمها وانبساطها تعد فراشا أو كالفراش، ولا يحس بأنها كرة إلا من تتبع الليل والنهار والشمس والقمر، والسير فيها من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وما يقرره العلم الاستقرائي المتتبع لما خلق الله سبحانه وتعالى.
﴿ والسماء بناء ﴾ أي وجعل السماء بناء، أي كأنها البناء أو الخباء الذي يحيط بأهله فهي السقف، أو كالسقف، ولقد قال تعالى :﴿ وجعلنا السماء سقفا محفوظا... ( ٣٢ ) ﴾ [ الأنبياء ] ويقال : بنى على أهله. أي : زفت إليه زوجه ؛ لأنه من العادة المعروفة عندهم أن المرأة كانت إذا زفت لزوجها بنى لها خباء يسترهما، فهي من الأرض بمنزلة الخباء الذي يحيط بها ويظلها ؛ ولذا تسمى الأرض المقلة وتسمى السماء التي نراها المظلة.
وإن الازدواج بين المظلة والمقلة تكون نتيجته الماء الذي ينزل من السماء مدرارا، فيكون غيثا ينبت الزرع، ويكون منه الكلأ تأكل منه الأنعام والحرث.
ولذا قال تعالى :﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾ أي مما كان بناء الأرض ﴿ ماء ﴾ ولم يقل من السحاب أو الغمام، وهي التي يتقاطر المطر منها، كما قال تعالى :﴿ ألم تر أن الله يجزي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( ٤٣ ) ﴾ [ النور ] فهذه الآية الكريمة تدل على أن الماء ينزل من السحب المتراكمة التي تكون كالجبال، وعبر سبحانه وتعالى عن نزول الماء بأنه من السماء، لأنها وعاء السحاب، ولأنه سبحانه وتعالى من على عباده، بأنه جعل السماء مظلة الأرض، فناسب أن يذكر السماء مضافة إليها نعمة أخرى، وهي نعمة نزول الماء الذي يكون به الخصب والنماء، كما قال تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنبياء ].
وقد قال سبحانه بالتنكير :﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾ أي أن هذا الماء بعض نعمه، فله نعم من الماء، وليس الماء الذي ينزل إلا من مياه كثيرة، تنزل فتفيض بها الأنهار، وتجري في الأقطار، فالتنكير للبعضية.
وقال سبحانه :﴿ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾ ومن للتبعيض مثل قوله تعالى :﴿ فأخرجنا به من كل الثمرات... ( ٥٧ ) ﴾ [ الأعراف ] وأسند الإخراج إليه، فلم يقل سبحانه أخرجت الأرض، أو أنبتت الأرض، أو أنبت الماء نباتا، لبيان جلائل نعمته لأنه هو المخرج، وهو المنبت، وهو الذي يربي البذر، وينتج التمر، وتلك أسباب وهو خالق الأسباب والمسببات، فالمولود لا يولد بنطفة الفحل، ولكن بخلق الله تعالى، وجعل سبحانه وتعالى النطفة سبب الوجود.
وقال تعالى :﴿ رزقا لكم ﴾ ورزق بمعنى المرزوق، فهو فعل بمعنى المفعول، كطحن بمعنى المطحون، ونقض بمعنى المنقوض، وتنكير رزق إنما هو للبعضية، فالثمرات بعض الرزق الذي رزقه الله تعالى، فالنعم رزق من رزق الله تعالى لعباده، والفلزات في باطن الأرض من رزق الله تعالى لعباده، والسمك اللحم الطري من رزق الله تعالى، واللآلئ في البحار من رزق الله تعالى، فتنكير ﴿ رزقا ﴾ في هذه الآية الكريمة التي نذكر معانيها للدلالة على البعضية، أي أنه بعض ما رزق الله :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها... ( ١٨ ) ﴾ [ النحل ].
وإنه إذا كانت هذه القدرة القاهرة التي خلقت الحاضرين والماضين ومهدت لهم الأرض تمهيدا، وجعلت لهم السماء سقفا محفوظا، وأنعمت برزق من زواج السماء بالأرض، وأخرجت لهم منها بعض رزق الله، وهو كثير، فهو وحده المستحق للعبادة وحده، إذ لا قدرة لبشر ولا لحجر أن ينشئ خلقا أو يرزق رزقا ؛ إذ لا ينفع ولا يضر ؛ ولذا قال تعالى بعد هذه النعم في الخلق والتكوين :﴿ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ﴾ الجعل هنا هو الاتخاذ، والند هو المثل الذي يفرض فيه أنه مماثل مناوئ، كما تقول فلان ند لفلان أي مثل مناوئ كفء له.
وهؤلاء المشركون مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء، ومجري النعم، ومنزل السحاب، مع علمهم بذلك يتخذون الأنداد ويشركون بها، يعبدونها مع الله سبحانه وتعالى وكأنها ند لله تعالى في زعمهم، وإنهم يفعلون ذلك، وهم يعلمون، أي هم يعلمون أن الله وحده هو خالق كل شيء، وأنه منزل النعم، وأنهم لا يستجيرون إلا به أو نقول :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنهم من أهل المعرفة والإدراك، والفهم والذكاء، ولا يليق بذكائهم أن يجعلوا المخلوق كالخالق، ومن لا يضر ولا ينفع كمن يملك الضر والنفع، أو إنهم يعقلون ويدركون، فذلك حث لهم على الإيمان بإثارة علمهم وعقلهم وتفكيرهم.
١ العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء والجمع: عراص، وعرصات، وأعراص. [القاموس المحيط- فصل العين- باب: عرص]..
القرآن المعجز
دعا الله سبحانه وتعالى الناس جميعا أن يعبدوه، وذكر لهم سبحانه وتعالى من النعم الظاهرة، والقدرة القاهرة التي يخضع لها الوجود ما يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، فالذين يعبدونهم مما يجعلونهم أندادا لله تعالى لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولكن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالرسول الذي جاء بالحق والذي بعث رحمة للعالمين، وقد أتى لهم بما يدل على أن الله تعالى بعثه إليهم، وهو القرآن الكريم الذي يعجز البشر على أن يأتوا بمثله، وهو الكتاب الجدير وحده بأن يسمى كتابا ؛ لأنه كتاب الله تعالى إلى خليقته يهديهم إلى سبل السلام، وهو برهان محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الخالد إلى يوم الدين، فالمعجزات المادية الحسية تنتهي بانتهاء زمانها، أما القرآن الكريم، فإنه قائم إلى يوم الدين، يتحدى الناس في كل جيل أن يأتوا بمثله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )١ لأن معجزته التي تحدى بها أن يأتوا بمثلها مازالت قائمة لم ينقض زمانها، ولقد كان للنبي صلى الله عليم وسلم خوارق حسية جرت على يده، ولكنه ما تحدى بها، بل تحدى بالقرآن لأنه معجزته الخالدة الباقية :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( ٨٨ ) ﴾ [ الإسراء ].
هذه الآيات التي نتكلم متسامين إلى معانيها هي مما تحدى القرآن الكريم بها العرب بعد أن ذكر قدرة الله ونعمه التي تثبت وحدانيته في العبودية. هذه الآيات من التحدي الشامخ التي أثبتت عجزهم.
قال تعالى :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ﴾ ذكر سبحانه وتعالى احتمال أن يكونوا في ريب من أن القرآن من عند الله، وأنه الدلالة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ وإن كنتم في ريب ﴾ عبر سبحانه بأداة الشرط التي لا تدل على وقوع الريب قطعا "إذ" ؛ لأن التعبير ب "إن" يدل على الشك في فعل الشرط، لا على تحققه للإشارة – إلى أنهم لو كانوا في شك من أمر القرآن حقيقة، وأنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، كما كانوا يقولون ﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا... ( ٣١ ) ﴾ [ الأنفال ] ما كان ذلك مبنيا على تفكير سليم، إذ إن أي تدبر وتفكير في معانيه يزيل كل ريب، ويوجه إلى الحقيقة توجيها مستقيما، لا مجال فيه لأي ريب أو أي شك.
وهنا يسأل سائل : لقد وصف القرآن الكريم في أول السورة بأنه لا ريب فيه ؟. ونقول في الجواب عن ذلك : إن الريب منهم لا منه في ذاته، فهو في ذاته يعلو عن الريب، لأنه يعلو عن المثل والشبيه في تساوق ألفاظه ومعانيه، وجمال فواصله، ورنة نغمه، وحلاوة موسيقاه، وكل ما اشتمل عليه مما أدهش المشركين، وحاروا، ولم يجدوا محيصا من الإذعان والسكوت والانتقال من العجز الذليل إلى الاضطهاد والإيذاء.
وقوله تعالى :﴿ وإن كنتم في ريب ﴾ بالتعبير بكان المصورة لما وقع منهم، إشارة إلى لأنه لا ريب فيه لذاته، وإنما الريب من عقولهم المنحرفة. ونفوسهم الوثنية، التي استهوتها الأحجار فعبدتها. فالشك منهم، والقرآن أعلى من ذلك، ولا ريب فيه، وفي أنه من العزيز الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقد يقال : إنهم لم يكونوا في ريب من أمره، بل كانوا حازمين بأنه ليس من عند الله، بدليل قوله تعالى :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في تكذيبهم، فنقول في ذلك : إنهم كانوا جازمين في تكذيب أنه من عند الله تعالى، ولكن النص القرآني ينبههم إلى أن حالهم في مثل إدراكهم البياني وذوقهم البلاغي، وكونهم مقاول العرب، وأهل الفصاحة والبيان والدربة في القول، ومعرفة موازينه، وتنبههم الآية الكريمة إلى أن مثلهم في حالهم لا ينبغي أن يجزموا منكرين، بل يترددوا حتى يصلوا إلى الحقيقة، في أمر هذا النوع من القول الذي لا ينهد إلى مكانته قول من أقوالهم.
وإن الثابت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم :"إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر"، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( ٢٦ ) ﴾ [ فصلت ] فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يسمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه.
ولذلك سموه سحرا، وسموا النبي صلى الله عليه وسلم ساحرا.
ولذلك نقول : إن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارا قاطعا بأنه ليس من عند الله ؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله، وإن تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوي، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.
ومن في قوله تعالى :﴿ مما نزلنا ﴾ معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر باعتبار أن موضوع الشك هو الأمر، وقوله تعالى :﴿ نزلنا ﴾ تدل على التنزيل منجما زمنا بعد زمن، ولم ينزل دفعة واحدة، وكانوا يثيرون الشك حوله بسبب ذلك، وقد قال تعالى فيما حكى عنهم :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( ٣٢ ) ﴾ [ الفرقان ] فكان مما يثير ريبهم الباطل أن القرآن لم ينزل دفعة، ولكنه نزل منجما ليثبت به قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالت كلماته :﴿ مما نزلنا على عبدنا ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ذكره بالعبودية لله تعالى، وفي ذلك تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان لحماية الله تعالى له، وبيان أن الرسالة لا تبعده عن مقام العبودية فهو عبد لله تعالى، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وأن الله تعالى عاصمه في رسالته من الناس كما قال تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس... ( ٦٧ ) ﴾ [ المائدة ].
كان فعل الشرط هو قوله تعالى :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ﴾ وكان جواب الشرط هو التحدي بالمطلب المعجز وهو قوله :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ وهذا تحد للإعجاز، كما جاء في حكاية إبراهيم مع الطاغية عندما تحداه أن يأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق إذ قال تعالى حكاية عن ذلك :﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ].
والتحدي : هو أن يأتوا بسورة من مثله : السورة عدد من الآيات أقلها ثلاث كما في قوله تعالى في سورة الكوثر :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ( ١ ) فصل لربك وانحر ( ٢ ) إن شانئك هو الأبتر ( ٣ ) ﴾ [ الكوثر ] وهي في أصلها من السور لأنها تحيط العدد من الآيات كأنها سور حولها، يحيط، أو من السورة وهي الدرجة الرفيعة، والسورة يتحقق فيها المعنيان، فهما متحققان في معنى السورة، فهي درجة من درجات البيان الرفيع لا تتفاوت مقاديرها وتتلاحق في درجاتها وتقديرها، وكل واحدة لها مقامها حتى أنها لتسمى قرآنا وحدها.
ومن في قوله تعالى :﴿ من مثله ﴾ بيانية، والمعنى على ذلك فأتوا بسورة من كتاب مثله إن كان في استطاعتكم أن تأتوا بكتاب مثله، فأتوا بسورة منه تكون واضحة التماثل والتشابه بها.
وقال بعض العلماء أن "من" زائدة لتقوية السياق وتكون كقوله تعالى :﴿ قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( ٣٨ ) ﴾ [ يونس ]، ولا يقال في القرآن إن حرفا زائد.
تحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من قراءة ﴿ مثله ﴾ يستطيعون بها أن يقولوا بها كما يقولون :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا... ( ٣١ ) ﴾ [ الأنفال ]، تحداهم ذلك التحدي، وتحداهم أن يدعوا من يشاءون ممن ينصرونهم ويؤازرونهم في الملمات والشدائد، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وادعوا شهداءكم من دون الله ﴾ الشهداء جمع شهيد، وهو الحاضر ؛ أي ادعوا الحاضرين الذين يناصرونكم ويعاونونكم في الملمات وأجمعوا أمركم من دون الله أي متجاوزين الله سبحانه أو من تجمعونهم مهما يكونوا دون الله تعالى، فشهداؤكم مهما تكن قوتهم، ومهما تكونوا تفزعون إليهم في أموركم وعظائمها ؛ فإنهم لا يمكن أن يأتوا بذلك. افعلوا ذلك : إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تستطيعون، وهذا كقوله تعالى في التحدي :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( ٣٨ ) ﴾ [ يونس ].
١ متفق عليه: رواه البخاري: فضائل القرآن – كيف نزل الوحي وأول ما نزل (٤٩٨)، ومسلم. الإيمان – وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (١٥٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
كان التحدي من الله سبحانه وتعالى وكان العجز منهم، وقد كان التحدي يطالبهم بأن يجمعوا من يشاءون ومن يستطيعون جمعه من الأنصار والمقاويل ليقولوا، ولكنهم عجزوا لا بصرف الهمم، ولكن لعجزهم، فكان الإعجاز في ذات القرآن لا بصرف الأفهام كما ادعى المقلدون من الفلاسفة وبعض علماء الكلام.
وإنه بمقتضى الحكم السليم والمنطق المستقيم أنهم إذا عجزوا ذلك العجز الصارخ أن يذعنوا للحق الذي جاءهم ؛ ولذا قال تعالت كلماته :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ﴾ فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، بعد أن تتضافروا وتتعاونوا، وتدعوا من استطعتم أن تدعوه، ومع ذلك تعجزون عن أن تأتوا فاعلموا أن ريبكم لا موضع له، وأنه شك حيث يجب اليقين، وعناد حيث يجب التسليم، وعليكم أن تتخذوا الإيمان وتدخلوا في الإسلام، وتتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة التي تعبدونها تحقيقا لقوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( ٩٨ ) ﴾ [ الأنبياء ].
فقوله تعالى :﴿ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ﴾ جواب الشرط في ظاهر اللفظ، وهي تطوي في ثناياها كلاما هو بمنزلة السبب لهذا الجواب، تقديره : فإن لم تأتوا بمثله فدعوا عنادكم، وصدقوا بالحق الذي جاءكم، وبذلك تتقون النار التي يكون وقودها أنتم والحجارة التي تعبدونها، وإن جواب الشرط على هذا إنذار بعد ذكر البرهان على الحق.
الوقود هو ما تستعر به النيران وتشتعل، وذكر الحجارة التي لا تنفع ولا تضر تنديد بهم وبعقولهم التي تعبد ما لا ينفع ولا يضر، ويضل ولا يهدي.
وقوله تعالى :﴿ ولن تفعلوا ﴾ جملة معترضة بين الشرط وجوابه، وهي مسارعة إلى بيان عجزهم، لأنه من الله، وجعله الله تعالى فوق قدرة البشر، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لا يستطيعون، فكانت هذه الجملة الاعتراضية لتسجيل العجز المطلق، ونتيجته وهي أن يتقوا النار التي أعدت وهيئت للكافرين الجاحدين المعاندين للحق، وهذه الآية الكريمة كانت في سورة مدنية، وهي تدل على استمرار التحدي بالقرآن في المدينة. كما تحدى به في مكة، وكما يتحدى الأجيال كلها من بعد ذلك.
لقد تحداهم الله تعالى في سورة مكية مثل قوله تعالى في سورة هود :{ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( ١٣ ) [ هود ]، وقال تعالى :{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ( ٣٧ ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين( ٣٨ ) [ يونس ].
وقال تعالى في سورة القصص :﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ( ٤٩ ) ﴾ [ القصص ] وندع الكلام في أسباب إعجاز القرآن، فقد خصصنا له كتابا، وصلنا فيه إلى سبب الإعجاز بقدر طاقتنا.
{ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات
تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة
رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها
ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ( ٢٥ ) }.
بعد أن أشار سبحانه إلى ما أعد للكافرين، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة التي كانوا يعبدونها، فتلك حصب جهنم، وقد أعدت تلك النار للذين يكفرون بالوحدانية وينكرون الرسالة الإلهية، والعصاة يقيمون فيها بقدر معاصيهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى بعفوه وغفرانه ورحمته.
بعد هذا ذكر سبحانه ما أعده للمتقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهكذا يقرن الله ترهيبه بترغيبه، فهو يرهب أهل الجحود بالإنذار الشديد ليقرع الحق أسماعهم، بعد أن سلك بهم طريق الحجة والبرهان، وبيان القسطاس المستقيم، ولكن إذا لم يدخل إلى قلوبهم كانت العاقبة ما يستقبلهم من عذاب شديد.
ومن أشد العذاب أن يروا مآلهم، ومآل أهل الإيمان، فهم بسبب عنادهم معذبون سلبا وإيجابا.. معذبون سلبا بحرمانهم مما جزى به أهل الإيمان من جنات ونعيم، ومعذبون إيجابا بعذاب الجحيم.
﴿ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ بشر فعل أمر من التبشير، وأصله من البشارة، وأصلها الخبر الذي يجيء المبلغ به فتبدو آثار السرور على بشرته، فهو الخبر بالأمر الذي يسر ولا يضر، ويكون أول الخبر بالسرور، وصاحبه يسمى البشير :﴿ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا... ( ٩٦ ) ﴾ [ يوسف ] والنبي صلى الله عليه وسلم هو البشير النذير، الذي يبشر أهل الحق واليقين، وينذر أهل الجحود والإنكار.
وقد تطلق على سبيل المجاز كلمة التبشير في مقام التهديد والإنذار كقوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ( ٢١ ) ﴾ [ آل عمران ] وهذا على سبيل السخرية والتهكم، كأنهم يترقبون ما يسرهم، فيجيء الخبر بما يضرهم ويسمى باسم البشارة تهكما بهم، وإشارة إلى أن ذلك ما يجب أن ينتظروه ويترقبوه، والله محيط بهم.
وقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ فيه إشارة إلى سبب البشارة، لأن التعبير باسم الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، فالإيمان والعمل الصالح هما السبب في البشارة، أو هما السبب في الجزاء بأن تكون لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وثمرات الجنة المتشابهة المختلفة الطعوم.
والإيمان هو التصديق والإذعان بالقلب، وأن يصدق المؤمن بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يصدق الرسول في كل ما جاء به مذعنا له، مصدقا بأنه من عند الله تعالى، والإسلام هو إعلان الإيمان، والإذعان لأحكام الإسلام، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الإسلام علانية، والإيمان بالقلب.. )١ ولقد حدث في أثناء الدعوة المحمدية، وتبليغ الرسالة، أن كان بعض الأعراب يعلن إتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القلوب لم تذعن إذعانا كاملا ؛ ولذلك قال الله تعالى عنهم :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... ( ١٤ ) ﴾ [ الحجرات ] ولقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( الإسلام علانية والإيمان في القلب. قال : ثم يشير إلى صدره ثلاث مرات ويقول : التقوى هاهنا، التقوى ها هنا )٢.
ولقد ذكر الله مع الإيمان العمل الصالح، فقال :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ والعمل الصالح هو العمل الذي يصلح به الناس وتستقيم جماعتهم، وتأتلف قلوبهم، ويكون فيه صلاح الأرض، ولا يكون فسادهم، وهو الذي يسوده الإيثار، فحيث كان وجد الائتلاف، ومع الائتلاف الخير والقوة، ولا يكون فيه الأثرة، فإنها حيث كانت وجدت الفرقة، ووجد الانقسام وذهبت القوة.
ويشمل العمل الصالح الصلوات والزكوات، والصيام والحج، كما يشمل كل خير يقدم للمجتمع، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خير الناس أنفعهم للناس )٣.
ولا شك أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الصادق، والإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى، والطاعة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن هل يزيد الإيمان بالعمل الصالح، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه ؟ وهي قضية يخوض فيها علماء الكلام من حيث إن الإيمان يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص، وأنه حقيقة واحدة، وهي التصديق والاعتقاد الجازم، والإذعان المطلق لله ولرسوله، وتلك لا تزيد ولا تنقص.
ولا نريد أن نخوض في ذلك. ونقول مقررين حقيقتين ثابتتين.
إحداهما : أنه قد جاء في النصوص القرآنية أن الإيمان يزيد، فقد قال تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ( ٢ ) ﴾ [ الأنفال ] وقال تعالى :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( ١٢٤ ) ﴾ [ التوبة ].
وهكذا نرى في صريح القرآن أن الإيمان يزيد، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لا تزعزعه الرياح، أو راسيا ثابتا، كالجبال، ولا شك أن العمل بموجبه يوثقه، ويؤكده، وأن ترك العمل يجعله يجف، وإن كان لا يموت ولا يذهب وإن الجزاء يكون على الإيمان وللعمل جزاؤه. والحقيقة أنه وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاه قول لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان )٤.
وإن عد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم.
ومهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل، فإن العمل يزكي الإيمان ويقويه، وهو كالماء، والغذاء، يتغذى منه الإيمان ويقوى، وإن الإيمان من غير عمل يجف، ولا يكون مثمرا منتجا، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة، لا يزرعها، ولا يثمرها.
ثانيهما : أن المؤمن، وإن لم يعمل، خير من الكافر، وإنه وإن أهمل فقد يعمل، والله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وهو خير كله إذا عمل، واتقى وآثر الحياة الآخرة على الدنيا.
وإن الجزاء الذي بشر به الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿ أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ الجنات الحدائق التي تشتمل على نخيل وأشجار متكاثفة، حتى تستر الأرض وتجنها، فهي جنات، لأنها تستر ما تظله، والضمير في تجري من تحتها الأنهار، يعود على أشجارها، وإن لم تذكر باسمها، فكلمة جنات متضمنة لها، إذ لا تتحقق الجنات إلا بأشجار متكاثفة ملتفة، والجريان للماء، لا للأنهار ؛ لأن الأنهار هي ما يشق في الأرض ليجري فيه الماء فهو من إطلاق اسم المحل، وإرادة الحال، مثل قوله تعالى :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) ﴾ [ العلق ]، وإن الناظر للماء وهو يجري منسابا في الأرض لا يرى النهر ولكن يرى الماء، فكأن النهر اختفى في الماء ولا يرى غير الماء.
وإن هذه الجنات فيها بهجة للناظرين، فهي متعة للأنظار، وبهجة للنفوس بذاتها، وفيها ثمرات شهية من كل شيء، وكما قال تعالى في آية أخرى :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ( ١٥ ) ﴾ [ محمد ].
وإن الثمرات متشابهة في اللون، وإن كان الطعم في الذوق متغيرا، وهي دائمة متجددة، مستمرة لا تمل ولا تسأم بل فيها المتعة المتجددة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ﴾ أي أن هذه الثمرات تجيء إليهم رزقا من الله تعالى من غير جهد يبذلونه، ولا عمل يعملونه ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ رزقوا ﴾ وأكده سبحانه بقوله تعالى :﴿ رزقا ﴾ أي أنه يجيء بأمر الله وإنعامه رزقا حسنا من غير أن يقوموا بمجهود فيها، فهي دار الجزاء والنعيم، فإذا كانوا لم يعملوا في الجنات فهو جزاء وفاق لما سبقوا به من عمل صالح، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو جزاء لمجهود سابق، وثمرة لإيمان وعمل صالح.
وهم يقولون : هذا الذي رزقنا من قبل، وهذا يدل على التجدد المستمر، ويدل على التشابه في الشكل، فمعنى النص : هذا الذي رزقناه في الجنة مثل الذي رزقناه من قبل في شكله، ولكنهم يجدون الطعم متغيرا، وسبحان خالق كل شيء ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وأتوا به متشابها ﴾ في شكله، وإن تغير طعمه.
وهناك فوق متعة الطعام، والتمكن من كل الخير متعة الأنس بالحياة الزوجية، ولذا قال تعالى :﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ الأزواج جمع زوج ذكرا كان أو أنثى، فهي تطلق على المرأة المتزوجة، كما تطلق على الرجل المتزوج، وإلحاق التاء بها بالنسبة للمرأة قليل نادر، ولكنه صحيح ؛ ولذلك قال عماربن ياسر في عائشة أم المؤمنين عندما أخرجت في واقعة الجمل :"إنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكنه البلاء"٥.
ومعنى مطهرة أنها خالية من الدنس النفسي المعنوي والجسدي، فهن طاهرات مطهرات من كل رجس.
وقد يقول قائل : إن المرأة متعة الرجل في الآخرة، ونقول إن الجزاء لهما معا، فلها كل الثمرات التي للرجل والمرأة، فهو متعتها وهي متعته، إن صح هذا التعبير ؛ ولذلك صرح القرآن الكريم بأن الجزاء لهما، فقال تعالى :﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ( ١٩٤ ) فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض.. ( ١٩٥ ﴾ [ آل عمران ].
وإن ذلك النعيم دائم لا ينغصه توقع زواله، بل النعمة كاملة بدوامه ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وهم فيها خالدون ﴾ هذا ويجب أن ننبه إلى أن نعيم الجنة مادي حسي ؛ لأن ذلك هو ما تدل عليه الألفاظ، ولا يصح تأويلها بغير سند من الشرع، ولا حجة، ولا دليل، ولا نؤولها بعقولنا المجردة، فإن ذلك يعد إنكارا للغيب الذي قرر الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم أن أول صفة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وأن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب.
ولكن ورد عن ابن عباس أن الألفاظ التي وردت في نعيم الجنة ليست على حقيقتها التي نراها، فثمراتها، ورمانها وعسلها ولبنها، وخمرها، ليست هي خمرنا، وأن نعيم الجنة فوق علمنا، ولكن الله تعالى قرب لنا نعيم الجنة بما يشبهها في استعمالنا، ولكنها مادية حسية، ويتحقق بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )٦.
الأمثال في القرآن وموقعها في النفوس
١ أخرجه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: باقي مسند المكثرين (١١٩٣٣)..
٢ السابق..
٣ أخرجه "القضاعي" في مسند الشهاب "عن جابر"..
٤ رواه ابن ماجه: المقدمة (٥٦) وبنحوه البخاري: الإيمان (٨)، ومسلم: الإيمان (٥١)، والترمذي (٢٥٣٩)، والنسائي (٤٩١٨)، وأبو داوود: السنة (٤٠٥٦)، وأحمد (٨٥٧٠)..
٥ أخرجه البخاري كتاب الفتن: (٦٥٧١) واللفظ له، وأحمد: أول مسند الكوفيين (١٧٦١٠)..
٦ أخرجه مسلم: كتاب الجنة (٥٠٥٣)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢١٧٦٠)..
بين الله تعالى حال المنافقين، وضرب سبحانه وتعالى مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا، وما إن يتم له أن ينتفع حتى تنطفئ، ويذهب الله تعالى بنورهم فلا يبصرون، وشبههم ثانيا بحال قوم أصابهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، من حيث إن ماء الحياة يجيء إليهم، ولكن لسوء حالهم وفساد قلوبهم تنعكس بين أيديهم الأمور، فلا يدركون.. إلى آخر ما بين سبحانه وتعالى.
وإنه من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام، وتصويرا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب، والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم، فيعتبر بها، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يرى ويشاهد، ولقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله. وشبه الأوثان التي يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها، وأخيلة من القدرة تخيلوها.
ولقد قال الله تعالى في الذباب :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ( ٧٤ ) ﴾ [ الحج ].
فهو في هذا المثل بين أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم، وأنهم لا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا.
وفي سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها، فقال تعالى :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ( ٤١ ) ﴾ [ العنكبوت ] أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لا تدرك إلا المحسوسات الدانية، ولكن المعاند الجاحد، والعاجز الحسود يقلب الحسنات، ويتهكم على الحقائق الرائعة، فتكلموا متعجبين مستغربين من ضرب الأمثال بالبعوض والذباب، وكأنهم إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عجزا صارخا أخذوا يثيرون الشك حول بعض أجزائه وما اشتمل عليه، فاختاروا الأمثال موضعا لإثارة الاستغراب والعجب يتوهمون أن ذلك يضعف من تأثيره.
لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ﴾، ضرب – معناها ذكر، والمثل هو الحال التي تشبه حالا قائمة قدرت أو وقعت، فمعنى ضرب المثل بيان الحال التي تشبه وتمثل بحال واقعة ثابتة، ويقول علماء البلاغة، إن للمثل مضربا وموردا فالمورد هو الحال التي تشبه بها القول، والتي صدر فيها، والمضرب هو الحال التي يشبه الحال التي وقعت أو هي ثابتة.
ومهما يكن فالمثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت، والاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم، وهو أساس من أسس الأخلاق ؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الحياء خير كله )١، ولكن هذا المعنى يليق بالناس، ولا يليق بالذات العلية ؛ ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه.
والمعنى أن الله تعالت كلماته، وتسامى قرآنه، لا يترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس، وتوضيحا للأمور، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقي البيان بقلب سليم، وإدراك مستقيم.
والبعوضة أصغر من الذبابة، ﴿ ما ﴾ هي التي تسمى في عرف النحاة نكرة تامة بمعنى شيء، فهي شيء مبهم، وإذا جاء بعد نكرة كانت للدلالة على إيقاعها في الإبهام، فالمعنى بعوضة أيا كانت هذه البعوضة صغيرة أو كبيرة حقيرة أو خطيرة، فالله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب الأمثال بالبعوضة أو ما دونها.
وإن الكلام البليغ يضرب المثل للحقير، بحقير، والمثل للعظيم بعظيم، فيضرب به أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لا تقوى على النظر، ولا يمكن أن تكون معقولة، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت، وإن كان نسجها محكما، يدل على حكمة اللطيف الخبير، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط.
وقد يكون ضرب المثل للبعوضة، ببيان إحكام تكوينها، وبديع خلقها، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه.
ونرى من هذا أن التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف، ببعض الضعف في نواحيها، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها، من حيث إنها لا تقوى على نظر مستقيم في أمرها، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
وإن هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد.
وإن الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقي الناس له، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرا متعظا مؤمنا يزداد إيمانا، والقلب المضطرب الذي يعاند ويكابر، يثير الاستغراب والعجب، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارا حول الحقائق الثابتة.
ولذا يقول سبحانه :﴿ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ قوله تعالى :﴿ فأما ﴾ هي للتفصيل، أي تفصيل حال الذين يتلقون الأمثال المضروبة لهداية المتقين، وهي في معنى أداة الشرط بمعنى مهما يكن من شيء والمعنى مهما يكن من الأمر في المثل الذي ساقه الله تعالى فالذين آمنوا وأذعنوا للحق إذا بدا لهم يعلمون أي يعرفون جازمين بالدليل القاطع أنه الحق أي الأمر الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ويرشحون لذلك الإيمان المذعن والعلم الجازم بأنه من ربهم أي من الله العلي القدير الذي يربهم، ويدبر أمور الوجود بحكمته، وقوته، وبذلك يزدادون إيمانا.
وأما الذين كفروا فيظهرون استغرابهم بل استنكارهم، فيقولون :﴿ فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ ؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل، والتجاهل يؤدي إلى الجهل، وعمى البصيرة يؤِدي إلى العمى في طرق الإدراك. إنهم يعرفون المثل ومضربه، وما تشبه به من حالهم، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها، ولكن لاعتقادهم الواهن في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال.
و"ما" الاستفهامية، و"ذا" موصول بمعنى الذي، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل، أو نقول : إن ماذا كلها للاستفهام، وهي مركب يراد به الاستفهام، والفرق إعرابي، ولا مؤدى له، فالمعنى واحد.
وإن هذا الاستغراب والإنكار الذي سبق إليهم، سببه أمران :
الأول : ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أثر.
والثاني : غطرستهم وعنادهم، وحبهم لبقاء سلطانهم، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا.
وقوله تعالى :﴿ بعوضة فما فوقها ﴾ يراد بالفوقية الزيادة في القوة على توجيه بعض المفسرين، ويكون المؤدى أن البعوضة أضعف الحيوان، وأنها يصح أن تكون ابتداء لضرب الأمثال من أدنى الأحياء إلى أعلاها، وهذا تخريج بعض المفسرين، وهو صحيح في ذاته، ويفسر بعضهم الفوقية بمعنى الزيادة في الصغر، وكأنه يتصور أن في الأحياء ما هو أصغر من البعوضة ويقرأن الفوقية في كل شيء بما سبقه، فإن كان ضرب المثل للصغر، فالفوقية في الصغر أي أكثر صغرا منها.
ونحن نرى أن الأول هو الأظهر، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لا يقتضي أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم، فإن القرآن أعلى البيان عند الله، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم.
وإن المثل الذي يسوءهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ﴾. أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال، وكثيرا من الناس، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون، فيلوون رءوسهم فيزدادون ضلالا، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد.
وأسند الإضلال إلى الله تعالى ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق، وإيغالا في الباطل، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى، ويبينه فمن عاند وجحد، وسار في طريق الضلال، وكلما سار فيه أوغل، حتى يزداد ضلالا – كالذي يضرب في الأرض ؛ إن سار في الطريق الجد وصل، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه.
وأما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به ؛ ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم :﴿ ويهدي به كثيرا ﴾ هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم.
وإن أولئك المؤمنين سلمت مداركهم، واستقامت عقولهم، فأدركوا معنى الحقيقة، فكلما جاء ما يؤكدها ويبينها ازدادوا هداية، وساروا على الجدد، وأما الآخرون فهم يخرجون عن سنن الفطرة، وما يوجه إليه الإدراك الصحيح ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ أي الخارجين عما توجبه الفطرة، الذين شاهت عقولهم، وانعكست الحقائق أمامها، فساروا يدركون الأمور عكس حقيقتها.
والفاسق في أصل معناه اللغوي الخارج عن الطاعة، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها، ويقال للفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للفساد، ويطلق على الحشرات والمؤذيات فواسق، ولقد روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور )٢.
والفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق ؛ وذلك لأنه خرج من مقتضى الفطرة، والعقل المستقيم، فهو قد كفر بالله ورسوله، وبالأوامر والنواهي، وإنها دين الفطرة، كما قال تعالى :﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٣٠ ) ﴾ [ الروم ].
١ أخرجه بهذا اللفظ مسلم: كتاب الإيمان (٥٤)، وأبو داود: الأدب (٤١٦٣)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٨٩٧٧) وأخرجه البخاري بلفظ: "الحياء لا يأتي إلا بخير" كتاب الأدب (٥٦٥٢)، ومسلم: كتاب الأدب (٥٣)، وأحمد: مسند البصريين (١٨٩٨). عن عمران بن حصين رضي الله عنه..
٢ رواه بهذا اللفظ النسائي: مناسك الحج – قتل الحدأة في الحرم (٢٨٤١)، وهو متفق عليه؛ أخرجه بنحوه البخاري: بدأ الخلق – خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (٣٣١٤)، ومسلم: الحج – ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب (١١٩٨). عن عائشة رضي الله عنها..
ولقد بين الله تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة، فقال :﴿ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ﴾.
ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية، ويكون بها التدابر، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش، وأقسى من كل ما في الوجود :
الصفة الأولى _ نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه، والنقض فك ما أبرمه الشخص ووثقه وأكده من بناء أو وثيقة أو عهد، وإن الميثاق الذي يعقد بين الناس يوثقه بيمين الله تعالى ؛ ولذلك يسمى اليمين، ويقول تعالى :﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها... ( ٩١ ) ﴾ [ النحل ] ويسمى عهد الله تعالى ؛ لأنه إذا أكده بيمين فكأنه عاهد تعالى على الوفاء بها، وعدم النكث فيها فكأنه عاهد الله تعالى.
و﴿ ميثاقه ﴾ معناه كما أشرنا العهد الموثق باليمين. وما المراد بالميثاق الذي نقضوه ؟ قال بعض العلماء ونحن، نوافقهم، أنه ميثاق الفطرة الإنسانية، فقد خلق الله الناس، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( ١٧٢ ) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
وإن أولئك الفاسقين الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بني آدم على أساسه ؛ ولذلك يقول ابن حزم، ومعه بعض العلماء، إن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة. وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة، وإيقاظها، إذا غفلت، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ [ فاطر ]، وقال تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾ [ الإسراء ].
هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم، ولكن مع ذلك قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات ؛ لأن ذلك من سمات الكفر، وخصوصا الذي يصحبه نفاق، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية، فقال تعالى :﴿ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ( ١٠ ) ﴾ [ التوبة ] وقال تعالى في المنافقين :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ( ٧٥ ) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ( ٧٦ ) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( ٧٧ ) ﴾ [ التوبة ].
إن الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى، ويحس برقابة الله تعالى، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى :﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( ٣٤ ) ﴾ [ الإسراء ] وإن الكافر لا يحس بمسؤولية أمام الله تعالى ؛ لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ميثاقا لليهود فنقضوه، وعقد صلح الحديبية، فنقضوه، ونصروا بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم.
الصفة الثانية – أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، القطع فصل المتصل، وجعله أجزاء متفرقة، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله ما هو ؟، قيل : قطع الأرحام، فلا يصل ذا رحمه، ولا يعمل بالمودة بين ذوي قرباه، ولكن الإنسانية كلها رحم واحدة، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( ١ ) ﴾ [ النساء ].
فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس، وقطعها يكون بأساليب شتى، وسبل مختلفة وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ( ١٥٣ ) ﴾ [ الأنعام ] ومن قطعها أن يتحكم القوي في الضعيف، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غني ومنهم فقير، وأن يكون لكل قانون ونظام، وأن تختلف المعاملة، وأن تتنافر الشعوب، ولا تتضافر ولا تتعارف كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ( ١٣ ) ﴾ [ الحجرات ] وأن ينقطع التعامل بين الناس فلا يكون التعاون على البر والتقوى ويحل محله التعاون على الإثم والعدوان، وفي كل ما يكون فيه قطع للعلاقات الإنسانية يكون قطعا لما أمر الله تعالى به أن يوصل. ووصل ما أمر الله به أن يوصل هو إتباع أوامره تعالى واجتناب نواهيه، فهي كلها لربط الناس بعضهم ببعض بالمودة والعمل الصالح، وبسيادة الفضيلة والبعد عن الرذيلة، وإن كانت ثمة حروب فلدفع أذى المفسدين، وتقويم الظالمين ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( ٢٥١ ) ﴾ [ البقرة ].
وفي الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله به أن يوصل وقطع للأرحام ؛ لأن الناس جميعا رحم واحدة، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام.
وقوله تعالى :﴿ ما أمر الله به أن يوصل ﴾ و﴿ ما ﴾ : هي مفعول ﴿ يقطعون ﴾، أي يقطعون الذي أمر الله تعالى به - أي بشأنه – أن يوصل. "أن" وما بعدها مصدر، أي أمر الله تعالى وصله، وعدم قطعه.
الوصف الثالث – من أوصاف الفاسقين، بينه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده، ولا يعبدوه وحده، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام، وأي فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله، وإدراكه فيسجد لصنم لا يضر ولا ينفع، وقد رآه يصنع بين يديه، إنه ضلال العقل، وضلال النفس، وسيطرة الوهم. ويشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية القبلية، أو العصبية الوطنية، أو بالرغبة في أن تربو أمة عن أمة، أو التنافس الاقتصادي، حتى ينظر الإنسان للإنسان نظرة من يتربص به الدوائر.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضي الحكومة هو الحق، وأن يكون الحكم للغلب، وأن يسود قانون الغابة لا قانون الفضيلة بين الناس، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية، القوي يأكل الضعيف، والغني يحقر الفقير، والعالم لا يعلم الجاهل، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته.
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض بل يستبد بها القادر عليه، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها، بل يلقيه بعضهم في البحار، ولو جاع الباقون، ضنا به على في أخيه الإنسان.
ولقد حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته :﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾.
اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم. فنقض العهود والمواثيق، وقطع الصلات الإنسانية، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون.
والخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات، فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده، ولكنه خسر ؛ لأن الناس لا يثقون بعهده من بعد، والذي يقطع الأرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد، ولكنه خسر المعاونة والمودة، والأخوة الإنسانية والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل، وقد خسر الناس جميعا، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله، وهكذا كل الفساق الآثرون الذين يحسبون بأثرتهم أنهم الكاسبون، وهم الخاسرون. فمن كسب بغدر وخيانة وقطع الأرحام، ومن أفسد في الأرض بالحروب الظالمة، والغدر في العهود، فهو خسران دائما فإن انتصر في حرب ونال ثمرة انتصاره ظلما، وإزهاقا وإفسادا، فإن المهزومين يتأهبون، وهو يترقب متوجسا خائفا حذرا، وسيكون منهم الانتقام، ويكون الشر المستطير، بين الغالب والمغلوب، ولا سلام، بل خسران.
وأكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى :﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾.. بمؤكدات ثلاثة أولها : التعبير بالجملة الاسمية، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار. وثانيها : التأكيد بكلمة "هم"، وهي تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين، فهم الرابحون دائما، وثالثها : تعريف المسند والمسند إليه١ الدال على القصر ؛ أي أنهم مقصورون على الخسارة، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات، والربح للإيمان وأهله.
١ أي الخبر والمبتدأ، والمسند في الجملة الفعلية: الفعل، والمسند إليه: الفاعل..
الكفر بالخالق المنشئ المسخر الوجود للإنسان
إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى :﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾.
﴿ كيف ﴾ يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشأكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة ؟ ! إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة ؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى ؟ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة ؟ ﴿... كما بدأكم تعودون ( ٢٩ ) ﴾ [ الأعراف ].
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي، وهو لا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى :﴿ وكنتم أمواتا ﴾ هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلقة وغير مخلقة، فجعلكم أحياء.
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت ؟.
ونقول في الجواب عن ذلك : إن الموت لا يقتضي وجود حياة سابقة، بل يطلق على الجماد ذاته، فيقال : أرض موات، وأرض ميتة، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ( ٣٣ ) ﴾ [ يس ]، وقال تعالى :﴿ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ( ١١ ) ﴾ [ ق ].
فقوله تعالى :﴿ كنتم أمواتا ﴾، أي كنتم لا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( ١ ) ﴾ [ الإنسان ] وقوله تعالى :﴿ وكنتم أمواتا فأحياكم ﴾ خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، ﴿ ثم يميتكم ﴾ و﴿ ثم ﴾ هنا للتراخي ؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و﴿ لكل أجل كتاب ( ٣٨ ) ﴾ [ الرعد ]، ﴿ ثم يحييكم ﴾ بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى :﴿ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا... ( ١١ ) ﴾ [ غافر ]، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لا يحسون.
قوله تعالى :﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ وثم هنا للتراخي ؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرا فخير، وإن شرا فالعذاب.
وتقديم ﴿ إليه ﴾ على ﴿ ترجعون ﴾ للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.
إن الله تعالى خلق الخلق، وأحياهم بعد العدم، ولم يتركهم، بل أنعم عليهم بالأرض وخيراتها، وكل ثمراتها، وسخر لهم ما في السموات والأرض، ومع ذلك كفروا بربهم الذي أولاهم الحياة، وأولاهم نعم الوجود ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾.
أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض وما فيها جميعا، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى، وما يستنبطون من فلزات، ومعادن سائلة وجامدة، خلق لكم جميعا، كل ما في الأرض مما حوت بطونها، وجرت به أنهارها، ونزل من السماء ماءها.
ومعنى ﴿ لكم ﴾ اللام فيه للاختصاص أو التمليك، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم، وهذا من آلائه ونعمه عليكم، أو نقول خلق وقدر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه، لأجل أن تنتفعوا به ؛ تستطيبون طيباته، وتتركون خبائثه، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا، وتبين الخبائث لتجتنبوها، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض، جعلها فراشا، وملأها بالنعم على ظاهرها، وفيما اكتنزته بطونها، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث.
وهنا كلمتان لا بد من ذكرهما :
أولاهما – ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت بالدليل منعه، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها، واستثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح، وإن ذلك لا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها، فالتنظيم بالزواج لا يمنع الإباحة.
وإن الأمر فيما، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه، وهذا مبني على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح، وهذا لا يستلزم أن يكون التكليف قائما على الاستحسان أو الاستهجان، إنما التكليف من أمر الله ونهيه.
الكلمة الثانية – أن قوله تعالى :﴿ جميعا ﴾ متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس، فليس لكم بعضه دون بعضه، بل هو لكم كله، لأجلكم، تنعمون به، وتعبدون الله تعالى على آلائه، فهو يؤدي إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها، ولتعبدوه بهذا الشكر، كقوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾ [ الذاريات ].
ولا يتبادر إلى الذهن أنها تأكيد لقوله تعالى :﴿ لكم ﴾. أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا، فلا ينفرد قبيل دون قبيل، ولا جماعة دون جماعة، ولا قوم دون قوم، ولا غني دون فقير.
وإننا لا نرى ذلك – أولا : لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس، يتخيرون منه، ولا يطلبون خبيثه، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول، فلا يفصل بين المؤكد والمؤكد، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى :﴿ لكم ﴾ أن الخلق لكم كلكم، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب، لا بلفظ ﴿ جميعا ﴾.
وليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم، أن يتقاسموه، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما، من غير تمييز بين عامل وخامل، ولا بين موفق وغير موفق، إنما لكل امرئ عمله، ولكل امرئ ما كسب.
ولا تقتضي الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض، وكل وما يكسبه، والله هو الغني الحميد.
وإنه كما ملك الله تعالى عبيده كل ما في الأرض لكلهم عاملين فيه جادين، سخر لهم ما في السموات والأرض ؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر نعمة الأرض عليهم بما فيها، قال تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ﴾.
استوى معناها قصد مرتفعا، أو ارتفع للسماء، وهي في هذه الآية ما علا، وكان كالسقف المحفوظ، فسوى السماوات سبعا أي جعلها سبعا ؛ ولأن السماء، وهي الجهة العالية، كما أشرنا واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها ؛ ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين.
والمراد من السماوات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية، فمعنى سواهن : قسمهن بالتسوية سبعا، وهي مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا.
وكان الشائع بين علماء الفلك خمسا، لا سبعا، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع، وهي : عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل، وكشف أورانوس ثم نبتون، وكل كوكب في طبقة من السماء، والشمس والقمر ليسا من السبع، وهذا قوله تعالى :﴿ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ( ١٥ ) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ( ١٦ ) ﴾ [ نوح ] فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السماوات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم، وإن كانتا في السماء، وتسمى السبع المجموعة الشمسية، والشمس في طبقة أعلى منهن.
وإن قوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع ﴾، يدل بظاهره في العطف بثم على أن السماوات سويت سبعا بعد خلق الأرض، ولكن لا يدل على ذلك دلالة قاطعة، فإن التعبير بثم يدل على الترتيب البياني في الذكر ولا يدل على الترتيب الواقعي، فإن الآيات قد تدل على غيره، وإنا نقرر أن الزمن لا يحكم أفعال الله تعالى ؛ فكما أنه تعالى لا يكون في مكان، فأفعاله تعالى فوق الأزمان.
ولقد جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء، وكانتا رتقا، أو شيئا واحدا، كما قال تعالى :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنبياء ].
ولقد قال تعالى في بيان خلق السماء والأرض :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ( ٩ ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ( ١٠ ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( ١١ ) فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ( ١٢ ) ﴾ [ فصلت ].
وقد يقال : إنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام، وأنه قضى السماوات في يومين، فكيف تنفي الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار ؟ ونقول في جواب ذلك : إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس، وتنتهي بغروبها أو العكس، فإن ذلك تقدير نسبي بين الأرض والشمس، وما كانتا قد خلقتا، كما يدل صريح القرآن، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما... ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنبياء ] فهذا يوم، أي دور تكويني، هو دور انفصال الأرض عن الكتلة الشمسية.
وعند هذا الانفصال تكونت بإرادة الله تعالى وقدرته القاهرة، وإرادته المسيطرة القشرة الأرضية، وهذا هو اليوم الثاني، أو الدور الثاني، وقد بين سبحانه وتعالى، الأدوار الأربعة بعد ذلك.
هذا وقبل أن ننتهي من القول تحت إشراق القرآن في بيان الخلق والتكوين، نقول إن بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سموات، لا يراد بها العدد المحدود المذكور، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد، كما في قوله تعالى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( ٢٧ ) ﴾ [ لقمان ]، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر، إنما المراد عدد من الأبحر كثير.
ومثله قوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم... ( ٨٠ ) ﴾ [ التوبة ] فالسبع، والسبعون يراد بها الكثرة، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين.
وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق، فإن السماء ذات أبراج، وإن الشمس في أعلى طبقاتها، وفوقها شموس، وفي السديم١ علو لا يعلمه إلا الله تعالى.
ولقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكونية بقوله تعالى :﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وعلم من أنشأ وكون وقدر ودبر، وقد ابتدأ العبارة السامية، بلفظ الجلالة لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب، وأكد علمه السرمدي، بثلاثة مؤكدات : بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته ؛ لأنه علم أزلي دائم لا يجري عليه ما يجري على الناس، وأكده سبحانه وتعالى بذكر الإحاطة التامة بكل شيء، وأكده سبحانه بذكر صفة من صفته فقال :﴿ عليم ﴾، سبحان من أحاط بكل شيء علما، وسبحان من عنت له الوجوه.
١ السديم: الضباب الرقيق. [لسان العرب: الزاي – سدم، والقاموس المحيط: باب الميم – فصل السين]..
خلق الإنسان
ذكر سبحانه وتعالى خلق الأرض وتمليكه الإنسان حق الانتفاع بها، وأشار إلى خلق السماوات فكان من بعد ذلك أن تكلم على خلق الإنسان الذي سخر له هذا الوجود الكوني، من أرض وسماء، فقال تعالت كلماته :
{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ( ٣٠ ) }.
وقبل أن نتعرف القصة الحقيقية التي صورها القرآن لخلق الإنسان نذكر عوالم ثلاثة للعقلاء جاء ذكر بعضها في بيان علاقة الإنسان في خلقه وتكوينه بها.
وهذه العوالم الثلاثة هي : عالم الملائكة وهم خلق الله تعالى، قيل إنه سبحانه خلقهم من نور، وهم أرواح طاهرة مطهرة لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. لا يتصور منهم معصية ولا يكون منهم إلا الطاعة، ركب الله تعالى كونهم على أنه لا تتصور منهم معصية، فليست شهوات ولا أهواء، وهي بواعث العصيان.
والثاني من هذه العوالم : هو عالم الجن، وعبارات القرآن تدل على أنهم خلقوا من نار، وقد ذكر ذلك إبليس الذي هو من الجن، فقال في غروره مفضلا نفسه على آدم :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( ٧٦ ) ﴾ [ ص ]، وإبليس كان من الجن، ولكنه من جن فاسق، فقد ذكر عنه ربه أنه ﴿ كان من الجن ففسق عن أمر ربه... ( ٥٠ ) ﴾ [ الكهف ].
والجن يظهر أن فيهم أهواء وشهوات ؛ ولذلك كان منهم العاصون، ومنهم العادلون المقسطون، وأنهم مكلفون، وأنهم سمعوا القرآن، وسمعوا من قبل توراة موسى، وقد قال تعالى فيهم :
﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ( ١ ) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( ٢ ) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ( ٣ ) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ( ٤ ) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ( ٥ ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ( ٦ ) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ( ٧ ) [ الجن ] إلى أن يقول تعالت كلماته :{ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ( ١١ ) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ( ١٢ ) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ( ١٣ ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ( ١٤ ) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ( ١٥ ) وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ( ١٦ ) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ( ١٧ ) ﴾ [ الجن ].
والجن كما ذكر القرآن عالم غير عالم الملائكة، وغير عالم الإنسان، وتأويل القول فيهم أنهم من عالم الإنسان، وأنهم قبيلة منهم – تأويل بغير دليل، يخالف ظاهر القرآن، وليس لقائله من سند إلا أن يكون تحريفا للقول عن مواضعه.
والعالم الثالث هو : عالم الإنسان، وقد خلق من سلالة من طين، والعالمان الخفيان، وهما عالم الملائكة وعالم الجن، تدل الآيات الكريمات على أنهما خلقا قبل العالم الثالث، وهو الإنسان، بدليل أن الملائكة ذكر الله تعالى لهم أنه جاعل الإنسان خليفة، وأنهم عجبوا أن يكون خليفة في الأرض من يفسد فيها ويهلك الحرث، وبدليل أن إبليس الذي كان من الجن عصى ربه، فلم يسجد، وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
والإنسان خلق فيه العقل المدرك الذي يرفعه إلى درجة الملائكة، وخلق فيه الشهوة والهوى اللذان يجعلانه مفسدا فيها ويهلك الحرث والنسل، وذلك وجه استغرابهم.
ولنذكر القصة الكاملة الحقيقية التي يصور الله تعالى فيها خلق هذا العالم الثالث، وهو الإنسان.
أعلم الله تعالى الملائكة - وهم جمع ملك – بأنه سيجعل في الأرض من يسكن ظاهرها، ويحكم فيها، وينسل فقال :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾، أي يكون ساكنا فيها بالخلافة عمن كانوا فيها، ولم يذكر سبحانه وتعالى من كانوا فيها أهم كانوا من الملائكة أم كانوا من الجن، أم كانوا خلقا آخر، ولقد ترك الله سبحانه وتعالى ذكر من خلفهم، فلنسكت عما ترك، ولا نرجم بالغيب، حتى لا نطلب ما ليس لنا به علم.
وقد يقال إن ﴿ خليفة ﴾ معناها الخلافة عن الله تعالى في الأرض، بمعنى أن الله تعالى بما أعطاه من قوة العقل والتفكير والتدبير، والسيطرة على نفسه، وعلى ما في الوجود، في الأرض، التي خلفه الله تعالى عليها ليكون خليفة خلافة نسبية عن الله تعالى، والله تعالى غالب على كل أمره، وأموره.
قد يكون هذا هو الظاهر، أو أن ﴿ خليفة ﴾ معناه أنه وجنسه خلائف يخلف بعضهم بعضا، كما قال الله تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب... ( ١٦٥ ) ﴾ [ الأنعام ].
وعندي أن ما أشرنا مرجحين له : وهو أنه خليفة عن الله تعالى وهي خلافة نسبية، ترك الله تعالى له الخلافة، ليبلوه فيما ملكه من منافع الأرض التي خلقها جميعا له.
ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة في هذه الأرض، ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث في هذا الوجود من أنه أوتي عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت.
ولذلك قالوا لربهم مستغربين : أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت ؛ وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الأثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ ! وقد كانوا مع اعتقادهم في الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة بالأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى في حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له، فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان، ﴿ ونحن نسبح بحمدك ﴾ أي نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت، لأن ذاته العلية تستحق الحمد في ذاته، ﴿ ونقدس لك ﴾ أي نعظمك وننزهك لك أنت. أي : لأجل ذاتك العلية.
يبين الله تعالى لهم، أن الله يعلم ذلك، فيعلم أحوالهم وأنهم في تسبيح دائم، وتقديس ملازم، ولكن في الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها، فهو يعلمه ويعلمهم، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله في الأرض ؛ ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ أعلم الجدير بما أعطي وغير الجدير.
وقد بين الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لا يعلمون هم، فقال تعالى :
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( ٣١ ) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( ٣٢ ) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( ٣٣ ) ﴾.
والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه، أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... ( ٧٨ ) ﴾ [ النحل ].
بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:وقد بين الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لا يعلمون هم، فقال تعالى :
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( ٣١ ) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( ٣٢ ) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( ٣٣ ) ﴾.
والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه، أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... ( ٧٨ ) ﴾ [ النحل ].
بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:وقد بين الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لا يعلمون هم، فقال تعالى :
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( ٣١ ) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( ٣٢ ) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( ٣٣ ) ﴾.
والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه، أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... ( ٧٨ ) ﴾ [ النحل ].
بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.

ولقد أعلم سبحانه بهذا العلو عليهم، فأمرهم بالسجود له، فقال تعالى :
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس
أبى واستكبر وكان من الكافرين ( ٣٤ ) }.
كان إبليس عند أمر الله تعالى له مع الملائكة، ولنا أن نقول إنه ليس مما خلقهم تعالى من مادتهم، فإنه خلق من نار كما حكى الله تعالى عنه إذ قال :﴿ إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( ٥٠ ) ﴾ [ الكهف ].
وإذا لم يكن منهم، فإن الاستثناء يكون منقطعا، ولكن الخطاب موجه إليه لصحبته لهم. والسجود الذي أمر الله تعالى به ما هو ؟ قال بعضهم : إنه الخضوع وهو يستعمل في كلام العرب بمعنى التذلل والخضوع، وليس السجود الذي يعد من أركان الصلاة، ومن المعنى اللغوي قوله في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا... ( ١٠٠ ) ﴾ [ يوسف ] أي دخلوا في حكمه.
ولقد قال تعالى في الخلق في سورة أخرى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( ٢٩ ) ﴾ [ الحجر ] فهل يدل هذا على أنه كسجود الصلاة ؟ الجواب عن ذلك أنه يدل على كمال الخضوع له سبحانه وتعالى، بما يدل على الخضوع الكامل بالانحناء له، وإذا كان يوهم أنه كسجود الصلاة، فليس عبادة لآدم ولكنه إطاعة الله تعالى : وإن كان آدم كالقبلة، فالعبادة تكون للآمر وهو الله تعالى لا لمن اتخذه كالقبلة وكان كأنما السجود له.
ومهما تكن حال السجود، والعلم الجازم بها عند الله تعالى، فإن الأمر به دليل على تكريم الله تعالى لآدم أبي البشر، وأن له اختصاصا بالتكريم على الملائكة الأطهار الأبرار، كما أمر الله تبارك وتعالى الذي خلق الفريقين، وميز بين العالمين. وإبليس الذي كان من الجن خرج عن طاعة الله ففسق عن أمر الله مستكبرا بغير مسوغ للكبر ؛ لأنه زعم أن أصل خلقه خير من أصل خلق آدم، فهو خلق من نار، وآدم خلق من طين، والله تعالى خالق المادتين، فهو يفاخر ويعاند بأمر خلقه الله تعالى الذي أمره بالسجود، فكان في أشد أحوال الغفلة، وصح أن يقال فيه أنه أشد من خلق الله تغفيلا، وكذلك كان أتباعه من بعده، فهم في غفلة عن الحق دائما.
ولقد وصفه الله تعالى بأنه كفر، وهو قد طغى في كفره، وتعدى إلى معاندة الله تعالى في أمره ونهيه، حتى لقد حكى الله تعالى أنه اعتزم الشر، وأراد فتنة بني آدم، بل آدم نفسه، فقال عنه الله تعالى :﴿ قال أرأيت هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( ٦٢ ) ﴾ [ الإسراء ] وقال :﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ( ٨٢ ) إلا عبادك منهم المخلصين ( ٨٣ ) ﴾ [ ص ].
وإن الله تعالى بعد أن خلق آدم، قال سبحانه آمرا آدم، وكان قد خلق معه زوجه :
{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا
حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( ٣٥ ) }.
لم يذكر الله سبحانه مكان هذه الجنة، ولا حقيقتها، أهي في السماء أم في الأرض، أهي الجنة التي تكون جنة الخلد، أم هي حديقة في الأرض، ومهما يكن فإنها جنة فيها رغد العيش وسعته.
ولم يذكر سبحانه وتعالى اسم زوجه، ولكنا علمنا من مصادر أخرى أنها حواء١، وأنه خلقها من نفس آدم، أو من جنس خلقه، فقد قال تعالى في سورة النساء :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها... ( ١ ) ﴾ [ النساء ]، فحواء زوجة آدم من نفس خلقه أو خلقها الله تعالى من جنس نفسه.
أمر الله آدم أن يكون هو وزوجه في الجنة ساكنين، وأن يأكلا منها موسعين على أنفسهم غير مضيقين، يأكلان رغدا أي من غير انقطاع، ولكنه نهاهما عن شجرة من أشجارها.. ما هي وما كنهها ؟ لم يذكر سبحانه وتعالى هذه الشجرة، ولكنه وإن لم يبينها لنا كانت معلومة عند آدم وزوجه ؛ ولذلك كان إغراء آدم من شجرة معينة.
ابتدأ إبليس يتخذ طريق الغواية حاقدا حاسدا، فجاءهما من هذه التي أمر الله سبحانه وتعالى بألا يقرباها، وكان النهي عن القرب لا عن الأكل، لأنه أبلغ في النهي عن الأكل، فالنهي عن القرب مبالغة في عدم الأكل بالابتعاد عنها، وهنا كان الاختبار بهذه الشجرة، إذ حيث يكون الهوى فإنه يجر إلى العصيان.
١ صرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم في الصحاح ومن ذلك ما رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (٣٠٨٣)، ومسلم: الرضاع (٢٦٧٣). قال النووي: روينا عن ابن عباس قال: سميت حواء لأنها أم كل حي..
جاءهما الشيطان من ناحية هذه الشجرة، وجاء الإغراء من النهي عن الأكل منها ؛ ولذلك قال تعالى :
{ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا
بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ٣٦ ) }.
وترى في الآية ﴿ فأزلهما الشيطان عنها ﴾، وعبر بالشيطان وهو إبليس لأنه ابتدأ يتحرك فاسدا مفسدا، وأزلهما معناها أوقعها في الزلل، ولقد ذكر سبحانه وتعالى النتيجة وهي أنه أوقعهما في الزلل بأكلهما منه، وفصل سبحانه وتعالى عمل إبليس في موضع آخر في سورة الأعراف، فقد قال تعالى في هذه السورة ما فعله بإبليس عندما عصى أمر ربه بالسجود إذ أخرجه منها، وقال بعد استكباره : اخرج منها فإنك من الصاغرين.. وقال لآدم :﴿ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( ١٩ ) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ( ٢٠ ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ( ٢١ ) فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ( ٢٢ ) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( ٢٣ ) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ٢٤ ) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ( ٢٥ ) ﴾ [ الأعراف ].
ففي هذا النص الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه كيف كان الإغواء، وأنه جاء من جهة الترغيب في الاستعلاء والبقاء، فأوهمهما أن النهي كان لكيلا يكونا من الملائكة، مع أن آدم سجدت له الملائكة، ولكنهما غفلا عن هذا فأوهمهما أنهما يكونان خالدين في الجنة إن أكلا.
وكانت النتيجة من الأكل أن بدت لهما سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة، وادعى بعضهم أن هذا يدل على أنها شجرة الشهوة، ولكن لا دليل، فيبقى أمر الشجرة غير معلوم.
والأمر الذي ترتب على الأكل في آية البقرة وآية الأعراف هو الخروج من الجنة، والهبوط إلى الأرض، أي النزول من مكان أعلى منها، ﴿ وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ﴾ أي أمر التكوين كان لآدم وزوجه وإبليس، وقوله تعالى :﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾، أي أن إبليس عدو لكم فاحذروه وإنه وذريته ينفثون في نفوس الناس الشر، فتكون العداوة الدائمة المستمرة، والتنازع والحروب.
﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ أي الأرض التي خلقها وخلق لكم ما فيها جميعا ستكون مستقرا أي موضع قرار دائم، لا أن تكون مسكنا تتركونه، ويكون فيها متاعكم إلى حين أي إلى وقت أن تموتوا ثم تحيوا فيكون البعث والنشور، وهكذا كان الشيطان بعداوته طريق الخروج من جنة الله تعالى إلى أرضه.
وإن آدم أحس بأنه عصى ربه، وأنه ظلم نفسه، فألهمهما الله تعالى أن يقرا بالمعصية، وأن يطلبا منه سبحانه وتعالى غفران هذا العصيان ﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( ٢٣ ) ﴾ [ الأعراف ]، هذه هي الكلمات التي تلقياها من ربهما كما قال تعالى :
﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ( ٣٧ ) ﴾.
وكما جاء في سورة طه :﴿ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( ١٢٢ ) ﴾ [ طه ].
هذه القصة الحقيقية في خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وهي تدل على ثلاثة أمور :
أولها : أن الله تعالى كرم آدم على خلقه من الملائكة والجن بدليل أنه سبحانه أمرهم بالسجود له.
ثانيها : أن الله تعالى خلقه ووهبه الاستعداد لمعرفة الأشياء، وبها امتاز على الملائكة، وبهذا الاستعداد للعلم، ومعرفته أسماء الأشياء سخر الله تعالى له ما في السماء وما في الأرض، وذلل له كل ما في الأرض وما في السماء.
ثالثها : أنه يؤتى من قبل أهوائه وما يغريه، وأن إبليس له عدو مبين، وأنه سلط على آدم، وسلط على بنيه من بعده، وأنه موسوس في نفسه، فهو لا يتصل بحسه، ولا يتصل بنفسه.
ولسنا نقول إن الجن وإبليس، هما وسوسة النفس، أو ما يحيك في الصدر، ولكن نقول إن الجن مخلوقات موجودة، وإن إبليس موجود مخلوق، ولكن مع ذلك نقول إن إبليس وذريته من بعده يوسوسون في النفوس بالشر، وإن كانوا يعجزون عن النفوس المؤمنة الطاهرة.
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى النفوس من قبل الشهوات، والأهواء، وعلى المؤمن أن يسد مسام الشيطان.
الأرض موطن التكليف
خرج آدم وزوجه من الجنة، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة، خرجا إلى هذه الأرض، وكان التكليف، وكان اختبار بني آدم فيها، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه، وفي كل نفس استعداد للخير، وللشر، والخير هو الأصل ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها ( ٧ ) فألهمها فجورها وتقواها ( ٨ ) ﴾ [ الشمس ] فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض.
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين :
{ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع
هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٣٨ )
جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله :﴿ قلنا ﴾ معناه أنه أخرج من الجنة، وقال له تعالى بلسان التكوين : اهبطوا، والهبوط هنا معنوي أو حسي، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه، ولا جهد، بل هو راحة واطمئنان – إلى حيث اللغوب والمشقة، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه، والهبوط المعنوي ظاهر ؛ ولذا نقتصر عليه، لأن الحسي غير ظاهر، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون : آدم وزوجه وإبليس، والتكليف على الجميع، فكل ينال أثر عمله.
وقوله تعالى :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي ﴾ يدل على أن الله يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة.
وقوله تعالى :﴿ فإما ﴾ فيه ما زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان ؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان ؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدا وجوبيا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم – وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه.
وتنكير هدى للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدي إلى الحق، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدي إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواح الحياة.
وجواب الشرط في قوله تعالى :﴿ فإما يأتينكم مني هدى ﴾ هو قوله تعالى :﴿ فمن تبع هداي فلا خوف ﴾ أي أن الذين يتبعون ما يجئ به النبيون من رسالات إلاهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون ؛ ولذا قال تعالى :﴿ فلا خوف عليهم ﴾، وهو جواب ﴿ فمن تبع ﴾ لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب ﴿ فإما يأتينكم مني هدى ﴾ جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى :﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ جواب شرط الثانية.
ومعنى ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى، ولا يحزنون على أمر فاتهم، لأنهم سبقت طاعتهم، ولا يكونون في حال حزن، بل في سرور، وعلى سرر متقابلين.
وليسوا كالذين يخضعون لوسوسة إبليس، وإغرائه، فلا يطيعون، ويجحدون، ولذا ذكر الله عقوبة الأشرار بجوار ثواب الأخيار ليدرك أهل الحق الفرق بين الفريقين، فقال تعالى :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ وكفروا معناها جحدوا أو ستروا ينابيع الإيمان في قلوبهم، وأفسدوا فطرة الله تعالى، وكذبوا بآياتنا.
وآيات الله تعالى آيات كونية، وهي خلق السماوات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى، وأنه خالق كل شيء، وآيات تجيء على أيدي الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه، وهي المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلي القدير، وآيات تتلى في كتبه.
وقد كذبوا بكل هذه الآيات ؛ ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا، ولا يذعنون لدليل، ولو كان من عند العزيز العليم.
وكما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى، وآمنوا بالحق، وهو أنهم لا يخافون، ولا يحزنون، وذكر الخوف بقوله تعالى :﴿ فلا خوف عليهم ﴾ أي لا ننزل بهم ما يوجب الخوف.
كما ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى :﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي، فابتدأ باسم الإشارة، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة، والحكم أنهم أصحاب النار ؛ أي أنهم ملازمون للنار لا يفارقونها، ولا تتخلى عنهم كما لا يتخلى الصاحب عن صاحبه، وذكر سبحانه وتعالى أنهم خالدون فيها، فقال تعالى :﴿ هم فيها خالدون ﴾، وقد أكد خلودهم في النار بالجملة الاسمية، وتقديم الجار والمجرور، أي هم خالدون، وخلودهم مقصور عليها، فلا حول لهم ولا قوة.
بنو إسرائيل وكفرهم بنعم الله تعالى
ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وذكر من قبل أوصاف الفاسقين التي فيها نقض الميثاق الفطري الذي أخذه سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم.
بعد ذكر المنازعة التي أقامها إبليس عدوا لبني آدم وأن الله تعالى وعد أنه سيأتيهم بهدي من عنده برسل يرسلهم، وأن من اتبع هداه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهدد بالعذاب الشديد من يخالف ويعصي، بعد ذلك كله ذكر طائفة من العصاة اتسموا بكفران النعمة، وإنكارهم الحق وتلبيسهم الباطل به، فذكر بالنعم التي أنعم بها عليهم، وهم بنو إسرائيل الذين توارثوا ما أنكره الله تعالى عليهم من كفران للنعمة.
هم بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، فهم ذرية إبراهيم من فرع إسحاق، والنبي صلى الله عليه سلم فرع إبراهيم من إسماعيل الابن البكر له عليهما السلام، فقد وهب إسماعيل وإسحاق لإبراهيم على الكبر ؛ ولذلك قال فيما حكاه عنه رب العالمين :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ( ٣٩ ) ﴾ [ إبراهيم ].
وإن بني يعقوب ذرية إبراهيم من إسحاق جعلهم الله تعالى صورا للإنسانية التي يختبرها سبحانه وتعالى بالنعم، فمنهم من يشكرها، ومنهم من يكفرها وهم الأكثرون، واختبرهم سبحانه بالنقم تنزل بهم بكفرهم، واستيلاء الشر عليهم، فكانوا بهذا مثلا واضحا للإنسان الذي يتسلط عليه إبليس في النعم والنقم إن اختبرهم بالنعم لم يشكروها وطغوا واستكبروا كما فعل إبليس، وإن اختبرهم بالنقم ذلوا واستكانوا ؛ ولذلك كانوا مثلا للخاضعين لإبليس هم في نعمهم ونقمهم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله.
﴿ يا بني إسرائيل ﴾ النداء لأولاد إسرائيل من عهد موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن المخاطبين هم الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، وخوطب من كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالنعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل في ماضيهم، مع أنهم لم يروها، فالذين عبدوا العجل ليسوا هم، والذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ليسوا هم، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
خوطبوا بكفرهم النعم ونقضهم الميثاق، لأنهم أمة واحدة، ويخاطب الحاضرون بمآثم الماضين إذا علموها وأقروها وساروا على مثلها، ولو أنهم ناقضوها، أو استنكروها، كعبد الله بن سلام وغيره، وما خوطبوا بأخطاء من سبقوهم، لأنهم لم يرضوا عنها ولم ينادوا بشرف الانتماء إليهم.
والنداء كما علمت للبعيد لأن النداء ب"يا" يكون للبعيد، ويراد هنا بالبعد البعد المعنوي، وهو علو الله في ندائه، وناداهم ببني إسرائيل تذكيرا بمقام يعقوب وشرفه، وأنه كان ذلك النسب مقتضيا أن يكونوا في مثل شرفه النبوي، وإيمانه وإذعانه وأن يكونوا عونا للخير، وأن يكونوا شاكرين لأنعمه مثله.
﴿ أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ ومعنى اذكروها، تفكروا في أمرها، وما يوجبه، فإن ذلك التفكر في مقدارها وفي مجيئها في وقت الشدائد والغمة يحملكم على القيام بشكرها، وشكر النعم واجب بالعقل كما هي بدائه العقول، وإن الله تعالى أنعم عليهم بأن نجاهم من فرعون وطغيانه عليهم، ونجاهم باجتياز البحر، وقد انفلق حتى مروا فكان كل فرق كالطود العظيم، وانطبق على فرعون وملئه الذين ساموهم سوء العذاب وكانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأنعم عليهم في الصحراء بالمن والسلوى يتغذون منه بأطيب الغذاء، وأنعم عليهم بأنهم استسقوا فانبجست من حجر ضربه موسى عليه السلام بعصاه – اثنتا عشرة عينا، لكل أناس مشربهم.
أنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها، وكان من شأنها أن تحملهم على الشكر والطاعة، ولكنهم وهم أهل حسد وحقد على الناس، اتخذوها ذريعة للكفر والطغيان، وحسبوها اختصاصا من الله تعالى وتدليلا، وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه، فزادوا بالنعمة كفرا وطغيانا.
وكان الحاضرون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم صورة للماضين يفعلون مثلما كانوا يفعلون، ويرضون عما كانوا عليه، ويقولون مثلما قالوا.
أمرهم سبحانه وتعالى عساهم يشكرون، ويعتبرون بما نزل من الأمور بمن سبقوهم، ثم أمرهم سبحانه من بعد هذا التذكير بالوفاء بالعهد، فقال تعالت كلماته :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ أخذ الله تعالى عهدا بمقتضى الفطرة، وهو أنه أخذ عليهم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا، وأخذ عليهم العهود والمواثيق في عهد موسى، ومن جاء بعد موسى من النبيين، وأخذ عليهم العهد بألا يسفكوا دماء، وأخذ عليهم سبحانه وتعالى عهدا موثقا ببيان قدرة الله تعالى إذ نتق الجبل فوقهم فقد قال تعالى :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الأعراف ] وصرح سبحانه وتعالى بهذا الميثاق وعهده لهم، فقال :﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ( ١٢ ) ﴾ [ المائدة ].
هذا عهد من العهود التي واثقهم الله تعالى عليها، عهد عليهم أن يقيموا الصلاة ويؤدوا العبادات وأن يؤمنوا بالرسل، وكان عهد الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقد أوجب الله تعالى على نفسه تفضلا، ورحمة وإنعاما كالإنعام المتوالي عليهم، والله تعالى لا يجب عليه شيء. يقرن القرآن الكريم وعد الله تعالى بوعيده، لقد وعدهم سبحانه بأنه يوفي بعهدهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار إذ أوفوا بعهده بأن عبدوه وحده، وآمنوا برسله ونصروهم، ولا شك أن ذلك ترغيب في النعيم، ولكن النفوس لا تخضع للترغيب فقط، وخصوصا من كانوا على شاكلة بني إسرائيل الذين لم تجد فيهم النعم ؛ ولذا أردف سبحانه الوعد بالنعيم – بالترهيب، فقال تعالى :﴿ إياي فارهبون ﴾ النون هنا تسمى بنون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم، والياء حذفت مع تقديرها في الكلام : فارهبوني، وهذا تخويف بأشد صيغ التخويف والترهيب، وتخصيص التخويف بالله، وأنه لا يخاف أحد سواه كما أنه لا يعبد سواه.
وقد دل على التخصيص قوله تعالى :﴿ إياي ﴾ فهي دالة على التحذير، وفعلها محذوف تقديره مثلا احذرني، كما تقول في كلامك إياك إياك محذرا مخوفا، فمعنى إياي : احذروني وحدي، فإن رحمتي يلحقها عذابي، وهي للمطيع، وعذابي للعاصي، وقوله :﴿ فارهبون ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط المقدر تقديره : فإن كان من ترهبونه فارهبوني أنا وحدي ؛ ولذلك كان الكلام فيه تأكيد للخوف من الله وحده أولا بذكر كلمة الله تعالى :﴿ وإياي ﴾ الدالة على التحذير وتقديمها، وفي التقديم اختصاص وفي تكرار التخويف، وفي ذكر الفاء المفصحة عن شرط، وهي جوابه.
والرهب : إبقاء الخوف في النفس مع التحذير والتيقظ وتوقع العذاب الأليم.
هذا وفي الآية نص على وجوب الوفاء، وعلى شكر النعمة، وأنه لا يصح أن يخاف المؤمن أحدا غير الله تعالى
وقد أوجب الله عليهم الوفاء بالعهد فقال تعالى :﴿ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ﴾.
أخذ الله تعالى عهدا بأن يؤمنوا برسله، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى ؛ ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الرسول ابتداء بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول، وإن الإيمان به يضمن الإيمان بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن ذات المنزل هو الحجة الدامغة، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم ؛ ولأن ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا ريب فيه ؛ فهو يدعو إلى تصديقه، وقوله تعالى :﴿ مصدقا لما معكم ﴾ بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم.
وهذا يدل على أن الذي نزل على موسى، وبقي عنده من تعاليمه يصدق ما في هذا الكتاب، إذ التعاليم واحدة في أصلها وفي لبها ؛ ولذا قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم :( لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي )١.
وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم :﴿ يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل... ( ١٥٧ ) ﴾ [ الأعراف ] وإن قوله تعالى :﴿ مصدقا لما بين يديه من الكتاب... ( ٤٨ ) ﴾ [ المائدة ] وقوله في هذا النص الكريم :﴿ مصدقا لما معكم ﴾ لا يدل على أن التوراة الحقيقية الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل، فإن القرآن قد نص على التحريف، إذ يقول سبحانه وتعالى :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به... ( ١٣ ) ﴾ [ المائدة ] وقال تعالى :﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله... ( ٧٨ ) ﴾ [ آل عمران ] وإذا كانوا يريدون أن يستدل من القرآن على صدق ما عندهم، فليأخذوا به كله، لا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به.
وإن معنى ﴿ مصدقا لما معكم ﴾، أي ما بقي معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده، ومن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن تبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون. كما قال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... ( ١٤٦ ) ﴾.
وبعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من حق، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب، ولم تكن لهم البينات التي عندهم، فقال سبحانه :﴿ ولا تكونوا أول كافر به ﴾، أي : لا تكونوا أول من يكفر به.
وأول "أفعل" في وزنه، والبصريون يقولون إنه لا فعل له، والكوفيون يقولون إن له فعلا، هو من وأل إذا نجا، ف"وأل" فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول.
وهنا مسألتان نتكلم فيهما قد تبينان ناحية من نواحي الآية الكريمة :
الأولى – أن الله تعالى يقول :﴿ ولا تكونوا أول كافر به ﴾ والخطاب لجماعة لا لواحد، فالظاهر من سياق القول أن يقال أول الكافرين به، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد، على تقدير الفارق، والمعنى لا تكونوا أول فريق يكفر به، أي لا تكونوا أول من يجتمع على الكفر به، باعتبارهم موحدين في الفكرة والغاية، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكافر، أو أن يقع فيهم الكفر، لأنهم أهل علم بالنبوة، وفي ذلك إغراء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان لأنهم أولى به وأجدر.
الثانية – أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون على أن يكونوا أول كافر به، ونقول : إننا فسرنا أول كافر بأول فريق يكذب به، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق بل كفروا به آحادا، ثم كان منهم من يؤمن، وقيل إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب.
ومهما يكن من تخريج، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة.
قوله تعالى :﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ أي لا تستبدلوا بآياتي القائمة المبينة للحق، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق ؛ لأن الحق أغلى ما في الوجود، فإذا ترك فإن ثمن تركه لا يمكن أن يكون في منزلته، والتنكير في قوله تعالى :﴿ ثمنا قليلا ﴾ للدلالة على أن أي ثمن – مهما يكن – قليل بالنسبة لذات الحق، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية، وهو السلطان والغلب والمفاخرة، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا.
وبعد ذلك التحريض والحث على الاتباع وبيان أنهم إن اشتروا بالحق شيئا فهو ثمن قليل، بعد ذلك حذرهم من ترك الحق، وخوفهم من عاقبة هذا الترك، فقال :﴿ وإياي فاتقون ﴾ تحذير من المخالفة بالتقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى والمعنى : وإياي فاحذروا ﴿ فاتقون ﴾ النون هنا نون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم، والفاء جواب عن شرط مقدر أفصحت عنه، والمعنى إن كان هناك من يتقي عذابه ومن يجب أن تكون وقاية بينكم وبينه، فاتقوني أنا وحدي، أجعل بينكم وبين عذابي وقاية تقيكم من عذاب النار.
أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم، وهو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن.
١ أخرجه أحمد: ما في مسند المكثرين (١٤٠١٤)، والدارمي: المقدمة (٤٣٦) بنحوه...
وإن اليهود من دأبهم التمويه، ليصلوا من وراء ذلك إلى باطلهم ؛ ولذا قال تعالى نهيا لهم :﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ﴾.
اللبس معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض، حتى لا يميز أحدهما عن الآخر، ولبست الحق بالباطل أي خلطت بينهما، بحيث لا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل، فلا يكون الحق واضحا لا تحوطه الريب والظنون، ويقال إن الرجل ملبوس عليه إذا اختلط عليه الحق بالباطل، ولقد روي عن علي كرم الله وجهه لبعض صحابته :( يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله ).
واليهود قد غيروا في كتبهم، فلبسوا الحق بالباطل فنهاهم الله عن ذلك، وقال تعالت كلماته :﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل ﴾ وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية أن معناها : لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل.
والمعنى الجملي للنهي، لا تخلطوا الحق الذي جاء في شرع موسى عليه السلام بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم كما توهمتم في التوراة التي بأيديكم من أن هارون عليه السلام عبد العجل مع الذين ضلوا منكم، فهم يخلطون بين الحق والباطل، فيلتبس الحق، وتختفي معالمه، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، ونهاهم عن أمر آخر، يقع منهم، وهو أن يكتموا ما أنزل الله تعالى، فإنهم يعملون عملين : أولهما : أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يدرك الحق على وجهه، ولا يعرف صريحه مما اختلط به، وكذلك شأن المضللين يأتون ببعض الحق، ويخلطونه بالباطل، فيختفي نور الحق ببهرج الباطل. الثاني : أنهم يكتمون الحق الذي لا التباس فيه، ولم يستطيعوا أن يخلطوه فيكتموه ككتمانهم البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتمانهم تحريم الربا وقد نهوا عنه، وغير ذلك مما حرم كتمانه، وكاستباحتهم ما حرم عليهم يوم السبت، وغير ذلك.
وقد نعى الله تعالى عليهم ذلك الكتمان للحق، فقال تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ( ١٥٩ ) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ( ١٦٠ ) ﴾ [ البقرة ].
وإنهم إذ يكتمون الحق من الكتاب يفعلونه متعمدين قاصدين التضليل ؛ لأنهم يعلمون ما يلبسون به الحق بالباطل، ويعلمون ما يكتمونه ؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ الحق فيما لبستم به، وتعلمون الحق الذي كتمتموه قاصدين كتمانه.
وقوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ﴾.
قوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ معطوف على قوله :﴿ فآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ﴾ أو بالأحرى معطوف على قوله تعالى ﴿ واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ فقد أمرهم تعالى بأوامر متعاقبة بعضها مترتب على بعض، أولها أن يذكروا نعمة الله تعالى ليتدبروا ويتفكروا ولعلهم يذكرون هذه النعم، ولا يكفرونها، ثم أمرهم سبحانه بأن يوفوا بالذي عاهدهم عليه، وأن يوفي لهم بعهده بأن يكفر عن سيئاتهم، ويدخلهم الجنة، ثم حذرهم وأرهبهم، ثم طالبهم بأن يؤمنوا بما أنزل من الكتاب الذي يصدق ما معهم، وأن لا يكونوا أول كافر به، ثم حذرهم، وشدد في أمرهم بالتقوى ثم نهاهم عن أن يخلطوا الحق بالباطل، وألا يكتموا الحق الخالص.
ثم بعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالصلاة التي هي لب الإيمان، وهذه الصلاة نزل بها الكتاب الكريم الذي جاء مصدقا لما معهم، وهي الصلاة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمها، وقال :( صلوا كما رأيتموني أصلي )١، لأنها لازمة الإيمان بالقرآن الذي أمر بالإيمان به، وأمر بالزكاة، وبذلك أمر بركني الإسلام، وشعبتيه، وهما تهذيب الروح بالصلاة، ومثلها الصوم، والثاني قيام بناء اجتماعي متعاون فأمر بالزكاة، وبقية العبادات بل التكليفات كلها لا تخرج عن هاتين الشعبتين : تهذيب الروح، وربط المجتمع بالتعاون الوثيق.
ثم قال تعالى :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ وذلك إما بالاندماج بالصلاة في جماعة المسلمين، والائتلاف معهم في جماعتهم، وإما بالخضوع المطلق لله رب العالمين، ولعل المراد باركعوا مع الراكعين الأمران معا وهو الصلاة في جماعة، والخضوع بالائتلاف مع الراكعين، والاندماج فيهم، والله تعالى أعلم.
١ بهذا اللفظ هو رواه البخاري: كتاب الأذان (٥٩٥)، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه..
هذا خطاب لبني إسرائيل في أمر يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم، فيلامون جميعا عليه، وهو خطة يسير عليها أسلافهم، ويرضى عنها أخلافهم، فصح أن يخاطب بها جميعهم، إذ هو عيب فيهم سلفا وخلفا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وغلب عليهم حب الدنيا، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ويدعونهم إليها، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، وهي شأن الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون ما أنزل الله تعالى، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم ﴿ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) ﴾ [ الصف ].
كان أحبار اليهود في كل أدوارهم عندما صار التدين شكلا لا روح فيه، ومظهرا لا حقيقة له كانوا يذكرون للناس حقائق دينية، لا يعملون بها، ويعلنون أمورا في نجواهم ينكرونها في جهرهم، فكانوا يقررون أن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وينكرونها أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكيلا يحاجوهم بها عند ربهم، وكأنه سبحانه وتعالى لا يعلم خفي أمرهم.
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرا تلك الحال فيهم ؛ لأن من فعلها منهم لم ينكرها سائرهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي أنه كان منهم، ويستنكره الله تعالى عليهم، وإنكار الواقع توبيخ، وبيان أنه لا يصح، ولا ينبغي أن يكون، والبر هو الخير، وهو ضد الإثم، والنبي صلى الله عليه وسلم عرف الإثم بأنه ( ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس )١.
والنص استنكار لحالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم، أي يتركونها من غير توجيه إليه، ويكونون بمنزلة من ينسونها، ولا يفكرون في أمرها، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة لأنهم يتلون الكتاب ؛ ولذلك قال تعالى في هذا النص السامي :﴿ وأنتم تتلون الكتاب ﴾ أي وأنتم تجددون تلاوته آنا بعد آن، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لا تفعلها، وكأنهم نسوها ولم يذكروها، والمذكر دائم مستمر، وليس الاستنكار للبر مجردا عما لابسه من حالهم، لأن الأمر بالبر في ذاته ليس بمستنكر، ولا يمكن أن يكون مستنكرا ؛ لأنه دعوة إلى الحق، ولا تنكر الدعوة إلى الحق في ذاتها.
وإن حالهم من دعوة إلى الحق مع نسيان أنفسهم، وتركه مع استمرار التذكير به، وكان ينبغي مع التذكير التذكر – لا يغفله الذين يفكرون ويعملون عقولهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أفلا تعقلون ﴾ والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك.
والعقل مصدر عقل بمعنى منع، ثم أطلق على ما يكون به الإدراك السليم لأنه يمنعه من القبيح، ويعقله ويقصره على الجميل، ومعنى الاستفهام، أن حالهم هي حال من لا عقل له ولا إدراك، و( ألا ) هنا – كما ذكرنا – للاستفهام والتنبيه إلى نفي ما وراءه، والفاء فاء السببية أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون، وأخرت الفاء عن الهمزة لأن الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم.
وقد أشرنا إلى أن المستنكر هو الحال المجتمعة من دعوة إلى الخير وعدم العمل مع التذكير الدائم، أما الأمر نفسه فلا إنكار فيه، وقد تكلم الناس في أن من وقع في المعاصي أيجوز له أن ينهى عنها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أم يطهر نفسه من المعاصي، ثم يتولى الإرشاد ؟.
إن الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بنفسه، تركه معصية كغيره، ووقوعه في معاص غيره لا يسوغ له أن يتركه، فيقع في معصية الترك، نعم إن الموعظة نصابها الألفاظ، كما قال الغزالي في إحدى رسائله، ولكن الموعظة في ذاتها لا تحتاج إلى نصاب، وقد قال سعيد بن جبير التابعي، الشهيد في الحق الآمر بالمعروف : إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون ممن يقع في معصية، فلن يكون هناك داع إلى الخير. ولكن مع ذلك يجب أن يروض المؤمن نفسه دائما على ألا ينهى عن أمر يقع هو فيه، فيمتنع عن النهي عن المنكر، ولكن يمتنع عن أن يقع فيما نهى عنه، كما حكى الله عن نبيه شعيب عليه السلام :﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( ٨٨ ) ﴾ [ هود ].
وإن الواعظ الذي لم يكن يتعظ بوعظه يحاسب على إهماله بأكثر مما يحاسب عليه غيره، ويحاسب أشد من كان يعلم الحق ولا ينطق به، فيحرم الموعظة والاتعاظ ويحاسب من بعد حسابا عسيرا، ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء )٢. وروي : أنه ( يغفر للجاهل سبعين حين يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم )٣.
هذه عيوب من يأمرون بالخير، ولا يأتمرون به ومن ينهون عن الشر، ولا ينتهون عنه
١ رواه مسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٣٢)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٩٧٣). من حديث نواس بن سمعان الكلابي الأنصاري. وبنحوه رواه الترمذي والدارمي..
٢ رواه أبو نعيم في الحلية، من حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن سيار بن حاتم بن جعفر بن سليمان الضبي عن ثابت عن أنس، " والضياء" المقدسي في المختارة من هذه الطريق "عن أنس" بن مالك..
٣ الترغيب والترهيب – الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ج ١ ص ٧٢...
ولكن كيف تربي النفس على أن تكون متعظة قبل أن تعظ ؟ ذكر الله سبحانه وتعالى الدواء ؛ وهو الصبر، والصلاة، فقال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾. الاستعانة طلب العون والمساعدة، وفي استعمال القرآن أنها إذا كانت للمعين تعدت بغير باء، كقوله تعالى :﴿ وإياك نستعين ( ٥ ) ﴾ [ الفاتحة ] وفي الدعاء "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك"، وإذ كانت الاستعانة بما تكون به الإعانة كانت بالباء، فيقال نستعين بكذا لفعل كذا، وهكذا نجد بالاستقراء استعمال القرآن.
وهنا الاستعانة بشيء ولذا تعدت بالباء فقال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ أي استعينوا على تربية نفوسكم لتكون متعظة فاعلة الخير، آمرة به ولا يتجافى فعلها عن قولها. ﴿ بالصبر والصلاة ﴾ والصبر ضبط النفس وسيطرة الإرادة، على الهوى، وسيطرة العقل على الشهوة، فإنه إذا سيطرت الإرادة والعقل والفكر المستقيم انقمعت الشهوات، وإذا انقمعت استقامت النفس، وكان التنسيق بين القول والعمل، وقذف الله في القلب بنور الحكمة، والقول الطيب، والعمل، وكل ما في الحياة يحتاج إلى الصبر، فالجهاد قوته في الصبر، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إنما الصبر عند الصدمة الأولى )١، ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما يكون بالصبر. كما قال تعالى :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( ١٥٥ ) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( ١٥٦ ) ﴾ [ البقرة ].
ويقول الفاروق الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"الصبر صبران صبر على المصيبة، وهو حسن، وصبر عن المعاصي وهو أحسن"٢. فالصبر على المعاصي، هو السيطرة على الأهواء والشهوات، وهو تهذيب النفس وتقويمها.
هذه كلمات موجزات في الصبر، وهو طريق السيطرة على النفس، ولذا أمرنا الله تعالى بالاستعانة به.
أما الصلاة فإنها بما اشتملت عليه من ركوع وسجود وقراءة، وخشوع، واستحضار لعظمة الله تعالى وإحساس بأنه في حضرته وواقف بين يديه سبحانه وتعالى تنفعل نفسه في وجودها بحضرته، بأوامره، ونواهيه، وطلب مرضاته. ولقد قال تعالى :﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر... ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ] ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حزبه أمر صلى"٣ وكان يأمر بالصلاة، من كان به وجع ليصبر وينسى ألمه، فيقول صلى الله عليه وسلم :( قم فصل فإن الصلاة شفاء )٤ لأنه يكون في مناجاة بينه وبين ربه، فينسى الدنيا وما فيها ينسى ألمه ووجعه، وهمومه.
وإن الصبر والصلاة تجعلان النفس تتغلب على المحن، كما تتغلب على الإحن، فيلقى الله تعالى بقلب سليم، قال تعالى :﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( ٣٤ ) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( ٣٥ ) ﴾ [ فصلت ].
وإن الاستعانة بالصبر والصلاة ليست أمرا هينا لينا، ولكنها أمر عظيم خطير، لا يتلقاها إلا النفوس القوية ذات العزيمة الحازمة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾.
الضمير في قوله تعالى :﴿ وإنها ﴾ قيل إنه يعود إلى الضمير المنسبك من ﴿ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾، لأن الصبر والصلاة الحقيقية أمران كبيران خطيران عظيمان يسيران بالنفس في مدارج الكمال النفسي والروحاني، فيكون الانسجام بين القول والعمل، ولكن قد يقال إن المصدر غير موجود، والضمير يعود إلى أقرب مذكور، فعوده إلى الصلاة أقرب وأظهر، ولذلك قال الأكثرون إنه يعود إلى الصلاة.
ولا شك أن الصلاة إذا أديت على وجهها باستحضار عظمة الله والشعور بأنه في حضرته سبحانه وتعالى، حتى كأنه يراه ويخاطبه بقرآنه عندما يتلو آياته، وأنه عندما يقول : إياك نعبد، وإياك نستعين يحس بأنه في حضرته، وأنه يخاطبه، وأنه يناجيه، فمقام ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ( ٥ ) ﴾ [ الفاتحة ] مقام، لا يندرج فيه إلا الخاشعون.
والخاشع هو الخاضع المتطامن الساكن الذي لا يتحرك لشهوة، والخشوع مظهر الخضوع الذي يظهر في الأعضاء والجوارح، ولذلك يسند إليها فيقول تعالى :﴿ وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ( ١٠٨ ) ﴾ [ طه ] فالخشوع خضوع كامل في النفس والجسم، وأصله في القلب ؛ قال عمر لشاب قد نكس رأسه فقال له :"يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ما في القلب"٥. وقال علي كرم الله وجهه : الخشوع في القلب، وأن تلين نفسك للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك٦.
١ متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الجنائز (١٢٠٣). مسلم: الجنائز (١٥٣٤)..
٢ رواه ابن أبي حاتم. [جامع الأحاديث والمراسيل (٢١٨٨) مسند عمر بن الخطاب ج ١٤ ص ٩١]..
٣ رواه أبو داود: الصلاة (١١٢٤)، وأحمد باقي مسند الأنصار (٢٢٢١٠) عن حذيفة رضي الله عنه..
٤ رواه ابن ماجه: الطب (٣٤٤٩) وأحمد: [باقي مسند المكثرين (٨٧٠٥)]. وفي الزوائد: في إسناده ليث، وهو ابن سليم..
٥ جامع الأحاديث والمراسيل (٢٧١٢) – مسند عمر بن الخطاب ج ١٤ ص ١٦٧..
٦ هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. [المستدرك للحاكم (٣٥٢٩) – شرح معنى الخشوع – ج ٢ ص ٤٢٦ ]. ورواه عبد الله بن المبارك، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو القاسم بن منده في الخشوع..
وقد ذكر سبحانه أثر الخشوع في القلب والعقل والنفس، فقال تعالى :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾.
عرف الله سبحانه وتعالى الخاشعين بأخص صفات المؤمن، وهو الإيمان بالغيب، لأنه فرق بين الإيمان والإسلام والزندقة، وإن أبلغ الإيمان بالغيب تأثيرا في النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بجزاء ما يعمل، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى فقال تبارك وتعالى :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ الظن يطلق بمعنى العلم الراجح، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ( ٣٢ ) ﴾ [ الجاثية ] ويستعمل الظن بمعنى اليقين :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ( ٥٣ ) ﴾ [ الكهف ]، وقوله تعالى :﴿ إني ظننت أني ملاق حسابيه ( ٢٠ ) ﴾ [ الحاقة ].
والظن بمعنى العلم اليقيني، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم، فمعنى ﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾، أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتا بعد آخر، فهم يؤمنون إيمانا صادقا بلقاء الله، ويترقبون ذلك اللقاء، وينتظرونه متوقعين له، فيقينهم يقين المتوقع المترقب، فيكون في قلوبهم دائما ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم وأن يتغمدهم برحمته، ويكفر عنهم سيئاتهم.
والتعبير ب ﴿ ربهم ﴾ فيه شعور بنعمه تعالى عليهم، لأنه هو الذي رباهم وأنشأهم وتعهدهم في الوجود، كما يتعهد المزارع زرعه بالسقي والإصلاح.
ويؤمنون مستيقنين متوقعين أنهم إليه وحده راجعون، وتقديم ﴿ إليه ﴾ للدلالة على أنه وحده الذي يرجعون إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا وأنه الغفور الرحيم.
هذا الذي مضى من القول الكريم من قوله تعالى :﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ﴾ خطاب لبني إسرائيل الحاضرين منهم والماضين باعتباره واقعا منهم في حاضرهم وماضيهم، وهو يصلح خطابا لبني إسرائيل وغيرهم لما فيه من توجيه وتهذيب وإصلاح بين الناس، وبه تستقيم أمورهم في معاشهم ومعادهم.
ذكر الله تعالى بعد ذلك بني إسرائيل بنعمه عليهم، فقال تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكوا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ﴾.
تكلمنا في ماضي قولنا في معنى النداء بيا بني إسرائيل، وأشرنا إلى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وقد ذكر نعمة لم يذكرها سبحانه وتعالى فيما مضى من قوله الحكيم، وهو أنه سبحانه وتعالى فضلهم على العالمين، والعالمون جمع عالم كما ذكر من قبل، ويراد أهل العقل والتفكير في هذه الأرض.
والتفضيل ليس تفضيل ذواتهم على غيرهم كما توهموا هم، ودلاهم غرورهم، فزعموا أنهم صنف الله المختار، ودلوا على الناس بذلك بل دلوا على الله تعالى وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وأكلوا الحقوق، وعاملوا غيرهم بكل أمر ليس فيه خلق ولا دين، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل.
ليس التفضيل لذواتهم إنما الفضل الذي اختصهم الله تعالى به في جيلهم أنه جيل فيهم أنبياء، ودعاهم أولئك الأنبياء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، فقد كانوا موحدين كما دعاهم موسى ومن جاء بعده من الأنبياء في وسط وثنيين، فكان كل من حولهم وثنيين ؛ فالمصريون وثنيون يعبدون الشمس ومن دونها، والفرس يعبدون النيران، والروم يعبدون الأوثان، واليونان من قبلهم على شاكلتهم، والبابليون يعبدون الكواكب، وهكذا كان جيلهم الأول جيل موسى، وحين نزول التوراة على موسى.
اختارهم الله تعالى أن يكونوا قوم موسى وأن يكون التوحيد فيهم، وكان مقامهم يمكنهم من أن يدعوا إلى التوحيد ؛ لأنهم كان مقامهم في وسط تلك الأراضي التي كان يسكنها الوثنيون.
وإن ذلك التفضيل نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم، وأنها توجب شكرا، وتحملهم تكليفا، أما الشكر فلأن شكر النعم واجب بحكم العقل، وبحكم التكليف الإلهي وقد كفروا بأنعم الله تعالى، وأما التكليف الذي حملوه فهو الدعوة إلى الوحدانية ولم يقوموا بحقها، بل إنهم اعتبروا اليهودية جنسا، ومن دخل معهم في ديانة موسى عليه السلام من غيرهم كالسامرة لم يعترفوا به، وبذلك ضلوا ضلالا بعيدا.
ولقد أخذ بعد ذلك سبحانه يذكر موجبات التفضيل وغايته فقال تعالى :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴾.
﴿ واتقوا ﴾ أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم عذاب يوم شديد الهول، فيه العذاب الشديد ولا ينفع نفسا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل وهو يوم القيامة، وقال سبحانه :﴿ يوما ﴾ بالتنكير لتذهب النفس مذاهب شتى في تصوير هوله، والإبهام وحده يوجد رهبة، ويشعر بالتهويل وبأنه لا يحد عذابه وصف، ولا هوله ذكر، وإن ذلك اليوم الذي اتقاؤه بالعمل الصالح والقيام بالحقوق التي للغير، وأداء الواجبات التي عليه، يتقدم فيه الإنسان منفردا إلا من عمله، لا يجزيه إلا عمله إن خيرا فخير، ولا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، أي لا يجزي عمل النفس عن نفس شيئا من الجزاء، فيقدر في قوله لا تجزي نفس عن نفس أي عمل نفس عن نفس أخرى أو نقول تجزي بمعنى تقضي، أي لا تقضي نفس عن أخرى أي شيء قل أو جل، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل امرئ بما كسب رهين.
وعقب سبحانه وتعالى بما يؤكد أن النفس لا يجزى عنها غيرها، وأنه لا منفعة إلا من عملها فقال تعالى :﴿ ولا يقبل منها شفاعة ﴾ والشفاعة من الشفع، والشافع يضم قوته إلى من يشفع فيه، فلا يقبل الله تعالى شفاعة من أحد لأحد، إنما العمل وحده هو الذي ينفع كما قال تعالى :﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ( ٤٨ ) ﴾ [ المدثر ] وإذا كان للأنبياء شفاعة فبأمر الله تعالى وحده ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ﴾ [ الأنبياء ] ﴿ ولا يؤخذ منها عدل ﴾ أي لا يؤخذ منها بدل، فالعدل البدل، فلا ينجيهم من عذابي شفاعة ولا فدية من العذاب ببدل يدفع، ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ لأنه لا ناصر إلا الله، لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار.
أخذ سبحانه وتعالى يذكر النعم التي أنعمها عليهم، وابتدأ بنعمة الإنقاذ فقال تعالى :
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء
من ربكم عظيم ( ٤٩ )
ابتدأ سبحانه وتعالى بأعلى النعم التي أنعم بها عليهم وهي نعمة الإنقاذ من شر من في الوجود إبان ذلك، وهو فرعون الذي اتخذه الفساق الظالمون من الحكام قدوة يقتدون به في مظالمه، وإن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أن ينتصروا في الحروب مثل انتصاره في عصره.
أنقدهم الله تعالى على يدي موسى كليم الله من بطش فرعون، وقد كان بطشه شديدا بهم ؛ لأنهم كانوا يعدون أجانب في مصر، وكانوا أعداء لهم، فكان فرعون يتخذ السبيل لإفنائهم، أو إضعافهم فكان يقتل شبابهم ذبحا، ويبقي النساء، ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ﴾.
قال سبحانه وتعالى :﴿ وإذ نجيناكم ﴾ أي اذكروا الوقت الذي أنجيناكم فيه من آل فرعون، فإذا تدل على الوقت الماضي، ومعنى ذكر الوقت ذكر ما كان فيه من أحداث خطيرة وشديدة، واستحضار الأهوال التي كانوا يعيشون في بأسها، وضرائها، وإنه تقدر النجاة من الله تعالى بمقدار ما كان هول الأمر الذي نجاهم الله تعالى منه.
ولقد قال تعالى :﴿ آل فرعون ﴾ ولم يقل أنجاكم من فرعون وذلك لأن آله شيعته ونصراؤه وأعوانه، وطغاة الدنيا يكون شرهم من أنفسهم أولا، ومن حاشيتهم الذين يحطون على أهوائهم ثانيا، فيزينون لهم ظلمهم، ويسمونه عدلا ويبينون له وجوه الكيد، ويمكرون مكرهم، فلولا بطانة السوء ما كان السوء، ولولا حاشية فساق الحكام ما استمكنوا وما طغوا في البلاد، وكلمة حق من حاشيتهم تقيم عدلا، وتدفع ظلما.
لذلك عبر بآل فرعون، لأنه لم يستمكن وحده من الظلم.
وذكر سبحانه ما كان يفعله فرعون وآله، فقال سبحانه :﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ أي يذيقونكم سوء العذاب ويجعلونه ملازما لكم لا تفارقونه، ولا يفارقكم، ويقال : سامه خطة خسف، وأولاه خطة خسف، أي جعل ولايته خسفا وعسفا، ولقد قال عمرو بن كلثوم الفارس العربي :
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وسوء العذاب أشد سوءا وأثرا في النفوس، ويديمونه ؛ لأن "سام " تدل على الدوام ومن ذلك السائمة التي تديم الرعي في الكلأ، وبين سبحانه وتعالى هذا العذاب الهون فقال مبينا :﴿ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ فهم يعملون على إفناء الذكور وإبقاء النساء.
والتعبير ب ﴿ يذبحون أبناءكم ﴾ كناية عن العمل على إفنائهم وتخضيد شوكتهم وإبعادهم عن مواطن السلطان، وذلك بذبحهم أحيانا ووضعهم في مواضع الذل والمهانة، والغاية ألا يكون لهم وجود قائم بذاته، فقد حكي عنهم أن فرعون كان يذبح منهم، وكان يتخذ منهم عمالا مسخرين في الأبنية التي يشيدها وكان يسخرهم لحرث الأرض، والثمرة لغيرهم ليذلهم، وكان يتخذ منهم خدما في البيوت وهم الأرذلون.
وذكر الذبح بالذات، وهو إحدى وسائل فرعون لسوء العذاب الذي كان يذيقه إياهم لأنه أشدها هولا، ولأن إفناءهم هو الغاية، وهو أقرب طرقه، وهو المصدر لما كانوا عليه من الآلام.
وقوله تعالى :﴿ ويستحيون نساءكم ﴾ أي أبقوهن أحياء لم يذبحوهن، وكانوا راغبين في ذلك، ولذلك كانت السين والتاء اللتان تدلان على الطلب، والمعنى طلبوا حياة نسائهم لغايات في نفوسهم وليشبعوا بهن شهواتهم، ولقد بين الله تعالى أن ذلك هول شديد تختبر به نفوسهم ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ الإشارة هنا إلى هذا العذاب الشديد السيئ، والخطاب لهم، ولأن الإشارة إلى ما نزل بهم جعل الخطاب لهم لا بالكاف المفردة بل بالكاف وعلامة خطاب الجمع، وبلاء معناه الاختبار الشديد لتتربى نفوسهم على التحمل ولبث الرحمة في قلوبهم لأنه لا تكون الرحمة إلا بالآلام الشديدة التي يحس بها الشخص فيرحم غيره، فإنه لا تنبع الرحمة إلا من قلب أحس بالآلام، وتربى في أحضانها فلا يكون قاسيا على الناس، ويكون رحيما بهم، فكان هذا البلاء الفرعوني تربية لنفوسهم لتكون بارة ؛ ولذلك قال :﴿ من ربكم ﴾ أي من الله الذي خلقكم وربكم بعنايته وحماكم بكلاءته، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه ﴿ عظيم ﴾ لكبر هوله وبعد أثره.
وإن الله تعالى مكن فرعون منهم لكي يعلموا أنهم ليس لهم فضل لذواتهم ولكن لما هيأهم الله تعالى لتلقي رسالته، وتبليغ كلمته، وهي كلمة التوحيد والعمل بالأوامر الإلهية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى كيف نجاهم بقدرته الإلهية القاطعة في الدلالة على إخراجهم من ظلمات القهر والطغيان إلى نور العدالة والإيمان، فقال تعالى :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ﴾ والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي فرقنا أي أوجدنا شقا طويلا في البحر من ساحل مصر إلى ساحل سيناء، وقد كان متصل الأجزاء، وسطحا لا فرقة فيه ولا انشقاق فسرتم فيه كأن الماء قد افترق على قدر حاجتكم، وسرتم فيه آمنين مطمئنين وسار وراءكم الذين عذبوكم، ودبروا السوء لكم، وذبحوا أبناءكم واستحيوا نساءكم لأهوائهم وهم آل فرعون الذين ناصروه وأيدوه، وقد ازدلفوا من ورائكم فأغرقهم وأنتم تنظرون إلى تدبير الله تعالى، وإعجازه، وأنتم ترونه رأي العين لا بالخبر والسماع.
وقد فصل الله سبحانه وتعالى تلك النجاة وذلك الإغراق وما أحاط بهما بعض التفصيل، فقال تعالت كلماته في سورة الشعراء :﴿ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ( ٥٢ ) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( ٥٣ ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( ٥٤ ) وإنهم لنا لغائظون ( ٥٥ ) وإنا لجميع حاذرون ( ٥٦ ) فأخرجناهم من جنات وعيون ( ٥٧ ) وكنوز ومقام كريم ( ٥٨ ) كذلك وأورثناها بني إسرائيل ( ٥٩ ) فأتبعوهم مشرقين ( ٦٠ ) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( ٦١ ) قال كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( ٦٣ ) وأزلفنا ثم الآخرين ( ٦٤ ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( ٦٥ ) ثم أغرقنا الآخرين ( ٦٦ ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( ٦٧ ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( ٦٨ ) ﴾ [ الشعراء ].
نجا بنو إسرائيل، وظهرت آيتان إحداهما أن موسى عليه السلام ضرب البحر بعصاه، فانشق وانفلق، وكان كل فرق من أقسامه، كأنه الجبل العظيم من الماء. والثانية أن هذا كان على قدر مسير بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام وظن فرعون وآله أن الطريق مفتوح لهم، كما فتح لبني إسرائيل فساروا وراءهم فانطبق البحر عليهم وكانوا مغرقين.
كانت هذه النجاة بمعجزة من الله تعالى كافية لإيمان الكافر حتى إن فرعون قال آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل وإن كان لم ينفعه إيمانه كما قال تعالى :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ( ٩٠ ) الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ( ٩١ ) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ( ٩٢ ) ﴾ [ يونس ] نزل بنو إسرائيل أرض سيناء التي انبعث فيها نور الرسالة الموسوية.
وكان حقا أن يكونوا أول المؤمنين ولكن الله أخبر أنه لم يكن أكثرهم مؤمنين مع هذه المعجزات الحسية الباهرة
وكانوا قد ألفوا عبادة العجل من غير بينة ولا دليل بل قلدوا المصريين تقليدا في عباداتهم وتأثروا طريقهم، وألفوا ما ألفوه هم، وإن الهوى والوهم هما اللذان سيطرا على نفوسهم، فضلوا بضلالهم، ولذلك صنعوا عجلا من الحلي ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ هذا ما كان منهم كفرا بالنعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وفيها الدلالة القاطعة مع النعم الظاهرة ومع ذلك قلدوا المصريين في عباداتهم.
واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام على أن يترك بني إسرائيل لتلقي التوراة وفيها الألواح العشر التي تتضمن التكليفات العشر التي كلف الله تعالى بني إسرائيل.
فتركهم فتحرك فيهم ما ألفوه من عبادة العجل، كما كان يعبد المصريون العجل وقد جعل لهم السامري ذلك العجل من الذهب، وكان عجلا جسدا لا حياة فيه، ولكن كان له خوار أي صوت كصوت البقر، إذا مرت الريح في التجاويف التي صنعت فيه، وقد ذكر الله تعالى هذا العجل المصنوع ببعض قليل من البيان في سور أخرى، وذكر عنهم الله تعالى في هذه السورة أنهم عبدوه، وأن هارون أخا موسى وردءه في الرسالة نهاهم عن العبادة، وقد خلفه موسى فيهم، فقال تعالى حكاية في ذلك :﴿ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قومي إنما فتنتم بهم وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( ٩٠ ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( ٩١ ) ﴾ [ طه ] وذكر تمام ذلك في سورة طه :﴿ وما أعجلك عن قومك يا موسى ( ٨٣ ) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى ( ٨٤ ) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ( ٨٥ ) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ( ٨٦ ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ( ٨٧ ) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( ٨٨ ) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( ٨٩ ) ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( ٩٠ ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( ٩١ ) قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( ٩٢ )ألا تتبعن أفعصيت أمري ( ٩٣ ) قال يا بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ( ٩٤ ) قال فما خطبك يا سامري ( ٩٥ ) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ( ٩٦ ) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ( ٩٧ ) ﴾ [ طه ].
وقد نسبت العبادة إلى كلهم، والذي عبد العجل بعضهم، لأن الذين لم يعبدوا لم ينهوا غيرهم فكانوا مثلهم كما قال تعالى فيهم :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( ٧٨ ) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( ٧٩ ) ﴾ [ المائدة ].
ومعنى لنحرقنه أي نحكه ونبرده ثم بعد برده لننسفنه في اليم نسفا، وذلك كقولهم حرق الأرم١ أي حكها حكا شديدا.
هذا خبر عبادتهم العجل، وكيف كانت وذلك لتأثرهم طريق المصريين وسلوكهم طريق الأوهام التي سلكوها. وقوله : واعدنا موسى أربعين ليلة فيها قراءتان : إحداهما ( وعدنا موسى )، والقراءة الأخرى ( واعدنا موسى )، وإن المواعدة لا تكون إلا بين طرفين بل معناها وعدنا، وقد تستعمل : صيغة الفاعل في غير معنى المفاعلة، كقولهم داويت العليل وعالجت المريض، وعاقبت المجرم.
وعندي أن المواعدة على معناها وهي من الله الوعد، ومن موسى التلقي والاستجابة وإنجاز ما وعد الله.
١ حرق الحديد حرقا: برده، يقال: حرقه بالمبرد. ويقال: هو يحرق عليه الأرم: يحك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ [الوسيط – أ ر م – ح ر ق ]..
توالت نعمة الله تعالى، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء، وكانوا هم الضعفاء، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي، فسرى ما عند الأقوياء، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا، فتابوا وتاب الله عليهم وعفى عنهم، وعد الله تعالى ذلك عليهم نعمة فقال تعالى :﴿ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ﴾.
أي أن هذه الجريمة الكبرى وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر، ولكن الله تعالى عفى عنها، والتعبير هنا بثم الدالة على التراخي والبعد، لبيان بعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى تواب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت.
وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة، وهم كانوا في حال جهالة، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق، فكان العفو أدنى إليهم، لأنهم كانوا في فتنة.
وقوله من بعد ذلك الكفران، والفتنة التي أضلتهم، فالإشارة إلى البعيد، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه، فهم كفروا كفرانا مبينا، ولكن التوبة تجب ما قبلها، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب، فقد كان يعمهم، ولا يخص فريقا. وقوله تعالى :﴿ لعلكم تشكرون ﴾، لعل هنا للرجاء، والرجاء هنا من العبيد لا من الله، والمعنى : عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى، فالرجاء لأمر يقع أو لا يقع إنما هو من شأن الناس، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لا يقع، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء والله سميع عليم.
أو يكون الرجاء من الله تعالى، ويكون بمعنى الأمر، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل، وتشكر لي حسن صنيعي، فهذا يكون حثا على فعل الجميل، بذكر موجبه، وعلى هذا المعنى تكون ﴿ لعلكم ﴾ في مقام التعليل لوجوب الشكر، وتكون بمعنى : لكي تشكروا، إن كنتم لا تكفرون بالنعمة، ولكن تشكرونها.
وبعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى عفى عنهم، مع عظيم ما ارتكبوا وأنه سبحانه يدعوهم إلى شكره وأن حالهم حال من يوجب على نفسه الشكر، بعد ذلك ذكر الله تعالى أنهم قد صاروا في منزلة ليست كمنزلة فرعون وقومه، وآله الذين ناصروه، ومالئوه في كفره، ولم يرشدوه أو يوجهوه إلى طريق الهداية ؛ لأنهم ببعث موسى عليه السلام إليهم، قد صاروا أهل كتاب، ولذا ذكرهم الله تعالى بنعمة النبوة فيهم فقال تعالى :﴿ وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان ﴾، يذكرهم الله تعالى بنعمه عليه بأن آتاه سبحانه وتعالى الكتاب، وهو التوراة، وفيها أحكام الله تعالى، وأنهم بها يخرجون من حكم الطاغوت الظالم الذي يسيطر عليه هوى فرعون وأوهامه والذي كان لا يرعى في عذابكم عهدا ولا ذمة، ولا خلقا، ولا مراعاة، تخرجون من هذا إلى حكم الله تعالى بكتاب تتقيدون بأحكامه حكاما ومحكومين، فلا يفرط عليكم حالكم ولا يطغى كما كان بشأن في فرعون لعنه الله تعالى.
والفرقان هو الكتاب نفسه، وهو التوراة، فهي كتاب مكتوب لا تخالف أحكامه، ومسجل عليكم، وهو ميثاق الله تعالى، وهو مع هذه الحال فارق بين الحق والباطل وحكم الله تعالى، وحكم فرعون، فالتعبير بالفرقان إشارة إلى أنه قد نزل عليهم وهو مفرق بينهم، وبين ما كانوا فيه، فإذا كانت المعجزة الباهرة أن الله تعالى فرق لكم البحر فخرجتم، فقد فرق بينكم وبين طغيان فرعون بحكمه السماوي الذي لا يخالطه باطل ولا ظلم.
وإن هذا الكتاب هو سبيل هدايتكم، ولذا قال سبحانه لعلكم تهتدون، أي رجاء أن تهتدوا بهداية الله تعالى، فالرجاء منهم، أو الرجاء من الله تعالى على معنى أن حالهم فيما أنزل إليهم، وفيما جاءهم من الآيات حال من يرجون الهداية، أو أن ذلك أمر لهم بالهداية، وهم على رجاء منها.
وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( ٥٤ )
ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم، وهو ﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ﴾ وإذ هنا دالة على الوقت الماضي، والمعنى واذكروا ذلك الوقت، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر، والكفر بالنعمة، اذكروا ذلك العمل الفاجر، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه، وأنكم نبذتم الحق، واتبعتم الباطل، واذكروا وقت أن قال موسى لكم ﴿ يا قوم ﴾ لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين، فالنداء بقوله ﴿ يا قوم ﴾ إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة وتأييد، وإعزاز، وتنزيه لهم عن الباطل، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب، ولقد من الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( ١٢٨ ) ﴾ [ التوبة ] ناداهم موسى :﴿ يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ﴾، وهذا عتب رقيق لإثم قوي، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بأنهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه، لأن ما كان منهم وهم باطل لا يسمى عبادة في الحق، والقول الطيب، ولأنهم لم يعبدوه فقط، بل صنع بأيديهم، أو بأيدي بعضهم، وهو ما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه.
ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم، باتخاذهم العجل، أكد ذلك ب"إن" الدالة على التوكيد، وظلمهم لأنفسهم بأن أضلوها عن الحق، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصى موسى، وانشقاقه، وفي نجاتهم من الذل، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل، كما كان يفعل الذين أذلوها، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى، وضلوا ضلالا بعيدا.
هذه خطيئة ارتكبوها، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح، فقال تعالى :﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ الفاء في قوله تعالى :﴿ فتوبوا ﴾ هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق، ومعنى "برأ" أبدع وأنشأ وجودكم، والتوبة رجوع إلى الحق، والتعبير ببارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم، وصنعوه تحت نظرهم، ولا يضرهم، ولا ينفعهم.
والطريق الذي بينه موسى هو قوله :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾ أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة، واقطعوا شهواتها، والتعبير عن ذلك بقتل النفس، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا، والشرور دائما من الأهواء والشهوات، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة :"من لم يعذب نفسه لم ينفعها، ومن لم يقتلها لم يحفظها" وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات.
وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها، وبالأولى لم يصح الكلام في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب، في القرآن كقوله تعالى :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) ﴾ [ الشعراء ].
وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس.
وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح، فقال :﴿ ذلكم خير لكم ﴾ الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منه.
وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال :﴿ فتاب عليكم ﴾. أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران. وعبر سبحانه وتعالى ب "على" للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم، وأن ذلك لرحمته بهم لا لحاجته إلى طاعتهم، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾. والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد، والتواب صيغة مبالغة من التائب، والتائب تطلق على التائب من الذنب، وتطلق على من يقبل التوبة، وهو الله سبحانه وتعالى، وهي هنا على هذا المعنى.
وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم ؛ لأن كليهما وصف لله تعالى، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده، ولقد قال :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( ٨٢ ) ﴾ [ طه ].
وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى، ومنته، بصيغة المبالغة، وبالجملة الاسمية، وبالتأكيد بإن – اللهم تب علينا وارحمنا.
يذكر الله سبحانه وتعالى النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، وكفرهم بها، وبالله. ثم يذكر سبحانه تعنتهم في طلب الدليل رغم الآيات التي أراهم سبحانه وتعالى إياها، ولكن المتعنت لا يقنعه الدليل مهما يكن باهرا ظاهرا قاهرا.
ولذا طلبوا عنتا وانحرافا وجهلا أن يروا الله تعالى جهرة، وقد ذكر الله تعالى ذلك مبينا تعنتهم، وتدللهم في كفرهم :﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ أي اذكروا أيها الحاضرون في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما فعلتموه، وخاطبهم هم بذلك مع أن الذي فعله أسلافهم ؛ لأنهم يسيرون سيرهم، ويفترون ويغترون مثلهم.
واذكروا ذلك الوقت الذي قلتم فيه ذلك، وليس غريبا أن تقولوه الآن، قالوا لموسى :﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ أي لن نؤمن مسلمين لك، مستجيبين لما تدعونا إليه، حتى نرى الله جهرة، أي حتى نرى الله تعالى رأي العين، ولن لتأكيد النفي في المستقبل وقيل لتأبيد النفي، والزمخشري وسائر المعتزلة يرون أنها دالة على الاستحالة، أي استحالة استجابتهم حتى يروا الله عينا ولقد ضاهى قولهم هذا قول المشركين.
وإن الله تعالى لا يرى في الدنيا بإجماع العلماء قط ؛ لأن رؤية الدنيا تقتضي مكانا والله سبحانه وتعالى منزه عن المكان، والأمر في الآخر أمر الله تعالى لا نعلمه إلا منه، وهو عالم الغيب والشهادة، وقد أجابهم موسى إلى ما يريدون فطلب من الله تعالى أن يراه، ويروه، كما ذكر تعالى أن ذلك لا يمكن في سورة الأعراف، فلما تجلى ربهم أصابتهم الصاعقة، فقال تعالى :﴿ فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾. وقد فصل الله سبحانه وتعالى مسألة الرؤية وطلب موسى عليه السلام، فقال تعالى :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ( ١٤٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
لما طلب بنو إسرائيل رؤية الله تعالى جهرة أي عينا، طلب موسى ذلك من الله تعالى ليروا ما رأى، وليعلموا ما علم، وقيل إن الذين طلبوا ذلك هم السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا معه عندما واعده الله لميقاته الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا... ( ١٥٥ ) ﴾ [ الأعراف ] فهم الذين حملوا موسى على أن يطلب رؤية ربه فطلبها عليه الصلاة والسلام، ومهما يكن الطالبون فإن رؤية الله تعالى في الدنيا مستحيلة، على ما أشرنا.
والصاعقة الأمر الشديد الهائل الذي ينزل من السماء نارا أو الذي يدك الجبال دكا، وقد يترتب عليه أن يصعق الإحساس فيغشى على من يراه.
ومعنى قوله تعالى :﴿ فأخذتكم الصاعقة ﴾ أي أخذت ألبابهم، ونفوسهم فلم يخشعوا وهم ينظرون إليها، وقد أذهلتهم وذهبت بمشاعرهم فصعقوا كما صعق موسى إذ قال تعالى :﴿ وخر موسى صعقا... ( ١٤٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
وعلى ذلك يكون معنى أخذتهم الصاعقة أنهم غشي عليهم كما يذل على ذلك ما كان لموسى عليه السلام. ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضا ويبين بعضه الدلالة الواضحة لبعضه، تعالى كلام الله سبحانه وتعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( ٨٢ ) ﴾ [ النساء ].
وقوله تعالى :{ وأنتم تنظرون ( ٥٥ ) أي ينظرون إلى الأمر الذي هز مشاعرهم من دك الجبال دكا وهول ما وقع نتيجة لما طلبوا.
ثم قوله تعالى :﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ( ٥٦ ) ﴾ أصل البعث هو الإثارة، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني :"أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به، فبعثت البعير أثرته وسيرته، وقوله تعالى :﴿ يبعثهم ﴾ يخرجهم ويسيرهم إلى يوم القيامة.
وموتهم هنا هو ما غشيهم، وفقدوا به إحساسهم، وعبر عنه بالموت، لأنه يشبه الموت من حيث إنهم فقدوا شعورهم وأصبحوا لا يحسون شيئا.
ومعنى قوله تعالى :﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم ﴾ أي أثرناهم، وحركناهم، وأوجدنا فيهم الإحساس. والتعبير ب "ثم" للإشارة إلى البعد بين حالهم، وهم أشباه الموتى بما صعقهم من غاشية، وما آلوا إليه من شعور بالحياة والحركة.. ، وقد فقدوا ذلك، بسوء ما طلبوا، وعدم فهمهم. والله تعالى ولي المؤمنين.
وإن ذلك يقتضى شكره ؛ لأنه كان قادرا على تركهم فيما آل إليه أمرهم ولذا قال تعالى :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي رجاء أن تشكروا، فالرجاء منهم لا من الله تعالى.
بعد أن بعثهم الله تعالى، أو كان ذلك مقارنا لخروجهم من مصر، وهو الظاهر ؛ لأن هذه النعم، وما كان منهم من حوادث جاء بعد أن أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وفرق البحر بهم، والواو لا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، لقد انتقلوا من الوادي الخصيب إلى صحراء تلفح الوجوه، وليس فيها ظل ولا ظليل، ولكن الله تعالى لم يتركهم في حرور الصحراء وجردائها بل أظلهم بالغمام، وأمدهم بأطيب الطعام، وأبركه، فقال تعالى مبينا هذه النعمة :﴿ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ﴾.
أي جعلنا الغمام، وهو السحاب الشديد العتمة، اسم جنس جمعي للغمامة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسب، مثل روم ورومي.
تكاثف الغمام في الصحراء، حتى صار كمظلة تظلهم أينما ساروا فلا يحسون بوهج الحر يلفح وجوههم، وقد شكوا من حر الشمس والجوع، فأنزل الله تعالى رزقا طيبا : المن والسلوى.
والمن كان بدل الخبز، وقد أصبحوا فوجدوه في الأرض صغيرا كحب الجزرة، وكانوا يتناولونه كالرقاق التي اختلطت بعسل فالتقى فيه خواص الدقيق والعسل معا، وسبحان الرزاق العليم، فكان خبزهم، فالمن على ذلك غذاء جيد ينزل من السماء ويبسط على الأرض في خواص الدقيق والعسل معا.
والسلوى طير، كان يجيء إليهم يطير على مقدار رمح من الأرض أو يزيد قليلا، فيأخذونه باليد من غير صيد أو أي محاولة، وبذلك اجتمع لديهم كل عناصر الغذاء الكامل، من غير كد، ولا لغوب.
وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك الرزق الذي رزقهم الله تعالى إياه بقوله :﴿ وأنزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ لأنه ما كان بكسب كسبوه، ولكنه رزق الله تعالى من السماء أنزله إليهم لتطيب إقامتهم في الصحراء، حتى يقضي الله تعالى أمره فيهم. فالإنزال معنوي لأنه بأمر الله تعالى لطفا بهم ورحمة، وليكون ذلك معجزة فوق المعجزات التي توالت عليهم، ومع ذلك جحدوا بآيات ربهم، ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أنه مكن لهم ذلك تمكينا، فقال سبحانه :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذلك الطعام بأنه طيب، والطعام الطيب هو الذي تشتهيه النفس، ويكون مريئا لا يضر ولا يعاف، و ﴿ من ﴾ في قوله تعالى :﴿ من طيبات ما رزقناكم ﴾ هي للتبعيض باعتبار أنهم يأكلون منه ما يشتهون وما يطيقون غير مدخرين، لأنهم يجدون ما رزقهم الله تعالى مجددا دائما، ويذكر في بعض الكتب أنهم كانوا يأكلون رزق كل يوم، وقد أمروا بذلك لأنه يفسد في اليوم التالي ويجيء الجديد ليحل محل الفاسد١.
ويحتمل أن تكون "من" بيانية، ويكون المعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، وعلى التقديرين يتحقق وصف الطيبات، وذكر سبحانه أنه رزق خالص من الله جاءهم من غير جهد ولا نصب، بل هو رزق الله تعالى ساقه إليهم سبحانه وتعالى.
وإنهم بتوافر هذه النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لهم، إذا هم جحدوا آياته، وأعرضوا عن بيناته.. ما كان سبحانه وتعالى إلا منعما عليهم إذ أنجاهم من ظلم فرعون وإذلاله، وبعد أن كانوا مستضعفين مكن الله لهم في الأرض، ومن عليهم، وكلما شكوا أمدهم الله تعالى بعونه وسهل لهم الحياة العزيزة الكريمة المنيعة.
﴿ وما ظلمونا ﴾ أي ما نقصهم سبحانه وتعالى شيئا من أسباب الحياة والقوت والسلطان، ولكنهم جحدوا ما أنعم الله تعالى به عليهم، فكفروه، فكانوا هم الظالمين لأنفسهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ٥٧ ) ﴾ وأكد الله سبحانه وتعالى عليهم أنهم هم الظالمون لأنفسهم وذلك بالاستدراك في قوله :﴿ ولكن ﴾ إذ معنى الاستدراك عن ظلم الله تعالى لهم بيان أن ظلمهم لأنفسهم كان منهم لا من الله سبحانه وتعالى، وأكده بالتعبير ب ﴿ كانوا ﴾ وهي تدل على الاستمرار، كما نوهنا بذلك مرارا، وأكده سبحانه وتعالى بتقديم ﴿ أنفسهم ﴾ لأن التقديم يدل على الاختصاص، أي أنهم بهذا الجحود يظلمون أنفسهم ولا يتجاوز ظلمهم أنفسهم إلي ؛ فهم يظلمون أنفسهم وحدها.
وظلمهم أنفسهم، لأن الكفر ظلم للنفس، إذ هو ضلال في ذاته، وأي ظلم للنفس أشد من تدليتها في الضلال ؟ ! وكفروا بأنعم الله تعالى، وذلك ظلم كبير واقع عليهم.
١ روى البخاري (٣٠٨٣) ومسلم (٢٦٧٤) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم" قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قوله: "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم" يخنز بفتح أوله وسكون الخاء وكسر النون وبفتحها أيضا بعدها زاي أي ينتن، والخنز التغير والنتن..
كان بنو إسرائيل يعيشون في صحراء سيناء مع موسى عليه السلام، وقد أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى، فأكلوا منها رزقا طيبا، وما كان يمكن أن يبقى ذلك رزقا دائما، وإن كان ذلك ممكنا سائغا في ذاته، ولكن لأنهم برمون متململون مما يرزقهم الله تعالى رتيبا مستمرا، بل إنهم يطلبون التغيير.
والقرية هي المدينة العظيمة الجامعة لعدد كبير من السكان، من قرى بمعنى جمع ؛ ولذلك أطلق على مكة أنها قرية وأم القرى، ولم يبين القرآن الكريم ما هي هذه القرية، لم يرد في القرآن ما يبين عين هذه القرية أهي الأرض المقدسة أم هي قرية قريبة أمرهم موسى بالدخول فيها، وإن الذي نفهمه من النص والسياق أنها قرية ليست بعيدة عن صحراء سيناء، وأن ذلك في عهد موسى عليه السلام.
أما أنها قريبة ليست بعيدة فقد أخذناه من الإشارة، فقد أشير إليها بالإشارة الدالة على القرب، وهي "هذه"، فهي لا بد أن تكون قريبة، والنص يدل على أنهم دخلوها، وقد عصوا أمر ربهم الذي أمر به عند دخولهم.
وأما أنها كانت في عهد موسى عليه السلام، ولم يكن قد فارقهم بالموت، فإن ذلك يثبت من سياق القول ؛ لأن موسى عليه السلام من قبل الأمر بالدخول كان هو الذي يخاطبهم بأمر الله تعالى، ومن بعد الأمر بالدخول هو الذي كان يخاطبهم ويخاطبونه، فلم يكن من مقتضى ذلك أن يكون الدخول، وقد انقضى عهد موسى عليه السلام، وجاء غيره.
وعلى ذلك نقول إن الله سبحانه وتعالى أبهم ذكر هذه القرية، ولا نتعرض لبيان ما أبهمه الله تعالى، ولم يذكره نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت قول عن أصحابه الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم النبوة ليبلغوه للناس، وإن القول في هذه القرية ما هي ؟ داخل في النهي في قوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم... ( ٣٦ ) ﴾ [ الإسراء ].
ولكن قال بعض العلماء إنها أريحا، أو بعض بلاد في الأردن، ورجح الأكثرون وقالوا إنه القول الصحيح أنها بيت المقدس التي كتب الله تعالى لهم أن يدخلوا، وقالوا إن ذلك ذكر في القرآن في سورة المائدة، إذ قال تعالى :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( ٢٠ ) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ( ٢١ ) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ( ٢٢ ) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله توكلوا إن كنتم مؤمنين ( ٢٣ ) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ( ٢٤ ) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( ٢٥ ) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ( ٢٦ ) ﴾ [ المائدة ].
وإني وإن كنت لا يمكنني أن أعين قرية بعينها، فإني لا أختار أنها الأرض المقدسة ؛ وذلك لأن الإشارة إلى القرية كانت إلى قرية قريبة، ولأن الأرض المقدسة لا تذكر بهذا الإبهام المستغرق، ولأن ما حدث منهم من تبديل القول يدل على قرب عهدهم بالكفر، وأنه لم يكن التيه الذي يقوي شكيمتهم، لأنه إذا كانت بيت المقدس، فإن دخولهم فيها بعد التيه كان على يد سيدنا يوشع عليه السلام.
وإننا ننتهي إلى هذه القرية، وليست في هذه القرية عبرة خاصة توجب معرفتها إذا كانت القرية، إنما يكفي في التعريف بها أنها كانت ذات رزق راغد، وعيش واسع ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ فكلوا منها حيث شئتم رغدا ﴾ أي فكلوا أي أكل تشاءونه رغدا في هذه القرية، فلا تقتصرون على المن والسلوى، كما أنزل الله تعالى رحمة بكم، وهما أطيب الطعام وأشهاه وأمرؤه، وأهنؤه، كلوا أي أكل شئتم من الحلال رغدا واسعا كثيرا.
ثم أمرهم سبحانه أن يدخلوا الباب لهذه القرية خاشعين خاضعين، شاكرين لنعمة الله تعالى التي أنعم بها عليهم طالبين غفران خطاياهم، فقال تعالى :﴿ وادخلوا الباب سجدا ﴾ أي ساجدين شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليكم وأن أخرجكم من الظلمات إلى النور، ومن الذل إلى العز، ومن الظلم المرهق إلى العدل المنصف، وأن أعطاكم ما تحبون من طيب العيش، وما تشتهون من حلال.
﴿ وقولوا حطة ﴾ أي حط عنا ذنوبنا، وتغمدنا برحمتك والتوبة إليك، وإن الله رتب على خضوعهم، وشكرهم لنعمة الله تعالى، وطلبهم من الله تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم، ويخلعوها متبرئين، ويتطهروا، رتب على ذلك غفران خطاياهم فقال تعالى :﴿ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ( ٥٨ ) ﴾.
ومعنى نغفر لكم أي نستر ذنوبكم ثم نرفعها عنكم، ووعد الله تعالى بأنه سيزيد المحسنين خيرا وبركة، والمحسن هو من أتقن وأجاد فعل الخير، والمعنى أن الله تعالى يغفر لهم ما ارتكبوا من آثام كبيرة كانوا قد تعودوها حتى صارت خطايا، يغفرها، سبحانه وتعالى، ثم وعد سبحانه ووعده الحق أنه سيزيد المحسنين، وينعم عليهم بالتوفيق إذا تابوا وآمنوا، ويجزيهم أحسن الجزاء.
والخطايا جمع خطيئة، وهي الذنوب التي تتكاثر، حتى يفعل الذنب، وكأنه يقع منه من غير قصد إليه لتمرسه به، وقساوة نفسه وقلبه، كما قال تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( ٨١ ) ﴾ [ البقرة ].
ويقول الخليل بن أحمد في تصريف خطايا إنها جمع خطيئة، أصلها خطائي، ثم قلبت الياء ألفا، كما قلبت في قوله تعالى :﴿ يا أسفى على يوسف... ( ٨٤ ) ﴾ [ يوسف ] فصارت خطاءا، ثم قلبت الهمزة ياء لأنها صارت بين ألفين، وذلك تسهيل في النطق.
هذا ما أمرهم ربهم، أمرهم بالدخول خاشعين ساجدين، وأن يقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا، ولكنهم قد تعودوا المعصية وألفوها : غيروا الألفاظ، وبدلوها إلى ألفاظ تدل على نقيض معناها، وكذلك دائما شأن العصاة المذنبين وخصوصا بني إسرائيل ؛ ولذلك قال الله تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾ لقد قيل لهم قولوا حطة أي حط عنا يا ربنا ذنوبنا، ولا تعذبنا بما فعلنا واعف عنا، بدلوا هذه الكلمات الضارعة الخاشعة إلى كلمة أخرى قريبة اللفظ ولكن فيها معنى مغاير، فقالوا ( حنطة ) أي أنهم بدل أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالضراعة توجهوا إليه بطلب المادة، والحنطة هي القمح، يتركون الضراعة التي هي نعمة التقوى إلى طلب القوت، وفي ذلك عدول عن إرضاء الله تعالى إلى طلب ما يرضي أهواءهم، ويشبع شهوات بطونهم، وفوق ذلك فيه تلاعب بأمر الله تعالى ونهيه، واستهزاء بأوامر ربهم، وتحريف للقول عن مواضعه، كما فعلوا من بعد موسى عليه السلام، إذ حرفوا القول عن مواضعه، وضلوا ضلالا بعيدا. وذكر الله تعالى الموصول، فقال :﴿ الذين ظلموا ﴾، فأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن الدافع لهم على التغيير والتبديل في أمر الله تعالى أو نهيه هو ظلمهم وإلحادهم في دين الله تعالى.
وقد عاقبهم الله تعالى فأنزل العذاب بهم فقال تعالى :﴿ فأنزل على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( ٥٩ ) ﴾ الرجز هو العذاب، أو هو الرجس، والرجز قاذورات النفس وفسادها، وقد أصابهم الله تعالى بالأمرين ففسدت نفوسهم إلا أن يتوبوا، وأنزل الله تعالى عذابه بهم إذ جعلهم أذلاء مستضعفين في الأرض إلا أن يتسربلوا سربال التقوى، ويسيروا في طريق العزة، ويهجروا أسباب الذل.
والرجز قسمه الأصفهاني في مفرداته إلى قسمين : رجز ينزل بسبب أعمال الإنسان من عصيان للرب، ومخالفة لأوامره، وسوء تدبيره، وهذا عذاب الله تعالى، ورجز ينزل بلاء من الله، واختبارا يصهر نفوسهم، كطاعون ينزل بهم، أو إهلاك للحرث والنسل، أو ضرب الذلة عليهم.
وقد أصاب الله تعالى بني إسرائيل بالنوعين من الرجز فعذبوا في الحياة الدنيا رجاء أن يتوبوا ويهتدوا، وأصيبت نفوسهم بالذلة، التي ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، ونزلت بهم الآفات البشرية.
وذكر سبحانه وتعالى أن السبب في ذلك ظلمهم وفسقهم، فأما الظلم فبينه سبحانه بالإظهار في موضع الإضمار إذ قال :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ﴾ والتعبير بالموصول يفيد أن الصلة سبب لما أنزل الله تعالى من رجز، وهذا بيان للسبب بالإشارة، أما فسقهم فقد بين سبحانه سببيته بصريح اللفظ الكريم، فقال :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ أي بسبب أنهم يفسقون، و﴿ كانوا ﴾ دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع يفيد أن فسقهم على دوامه يتجدد وقتا بعد آخر فكلما تاب عليهم فسقوا مرة أخرى.
والفسق هو الخروج، يقال فسقت الفأرة خرجت من جحرها، وفسق الثمر خرج، فهؤلاء يخرجون عن الحق، ويسيرون وراء الباطل سيرا متجددا مستمرا آنا بعد آن.
وذكر الله تعالى أن الرجز من السماء إشارة إلى أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يظنون، وأنه من الله العزيز الحكيم، فإن ما يكون من السماء مغيب لا يعلم متى يجيء ولا من أي جهة يجيء.
كان بنو إسرائيل يعيشون مع موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانا وأقواهم يقينا، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق، ويذعنون له، ويطمئنون إليه. وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات، ولكنهم قوم معاندون، مناقضون الحس.
شكوا إلى موسى أنهم لا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء، ولذا قال تعالى :﴿ وإذ استسقى موسى لقومه ﴾.
وإذ – كما ذكرنا – دالة على الوقت، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه موسى لكم، تذكروا عطشكم في ذلك الوقت، وكيف استسقى موسى ربه لأجلكم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، هي بقدر عدد الأسباط أولاد يعقوب عليه السلام، وذريتهم من بعدهم، اذكروا ذلك وتذكروه، فإنه معجزة من الله تعالى. فكان لكل سبط عينه، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يتزاحم على الماء، فينال الماء القوي، ويضيع الضعيف، واستسقى ؛ السين والتاء للطلب، أو السؤال، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء، والدعاء المتضرع عبادة، في ذاته، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جف المطر، وأجدبت الأرض استسقى.. فقد خرج إلى المصلى متواضعا، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطر، فنزل مدرارا، حتى خشي الناس أن يضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم حوالينا، ولا علينا )١.
ولما استسقى موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر، ولكن قال له ربه :﴿ اضرب بعصاك الحجر ﴾ والعصا هي آية الله تعالى، ومعجزة موسى التي انقلبت حية تسعى، والتي بها ضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ضرب بها الحجر، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر، كما تقول ادخل السوق، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق، ضرب موسى عليه السلام الحجر ﴿ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾ انفجرت : انشقت، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين زمزم، فماء العيون لا يكون من السماء كالمطر، ولكن يكون من الأرض، أو الحجر، كما رأينا ما فعلته عصا موسى عليه السلام ؛ وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة :
الأولى : ضرب الحجر بالعصا، فينبثق منه الماء، وهذه معجزة العصا.
والثانية : أن الضرب في الحجر الذي لا يخرج منه الماء عادة، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار، ولكن من الأرض اللينة التي لا تكون حجرا متماسكا، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لا من ذات الحجر، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة موسى عليه السلام.
الثالثة كون الماء يخرج اثنتا عشرة عينا على قدر عدد الأسباط، و﴿ قد علم كل أناس مشربهم ﴾ أي مكان شربهم، أي العين التي خصصت لهم، وقد كان الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون، فيكون عددها في كل اثنتا عشرة عينا، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون.
وإن هذا التوزيع بينهم لا يفرق، ولكنه يجمعهم، فالعدل يجمع ولا يفرق، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم.
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم، كما أبيح لهم الطعام ؛ ولذا قال تعالى :﴿ كلوا واشربوا ﴾ أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى، كما ذكرنا آنفا، أو أبيح لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض في الأرض غير مقطوعة، ولا ممنوعة.
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٦٠ ) ﴾ العثو، من عثى يعثى بمعنى أفسد، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير، فاعتدى على حق غيره، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير، ويتقارب من معنى العبث، ويكون قوله تعالى :﴿ مفسدين ﴾ ليس تكرارا للفظ لا تعثوا أو تأكيدا، إنما هو لبيان العثو، وهو القصد إلى الإفساد، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد.
١ عن أنس بن مالك قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسله يخطب يوم الجمعة إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، قحط المطر؛ فادع الله أن يسقينا. فدعا فمطرنا، فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فمازلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة، قال: فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حوالينا ولا علينا" قال: فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينا وشمالا يمطرون ولا يمطر أهل المدينة. [متفق عليه رواه البخاري: كتاب الجمعة (٩٥٩)، ومسلم صلاة الاستسقاء (١٤٩٠)]..
وإن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا، بل هم في تململ مستمر، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب ؛ ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم :﴿ يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾.
كان اليهود ( لعنهم الله ) لا يهمهم إلا ما يطعمون، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا، ثم سألوا تلون الأطعمة، ولم يفكروا في أمر معنوي، لم يفكروا في العزة بعد الذلة، ولا في النجاة بعد القتل، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولا في الإيمان بعد الكفر، ولا في الرفعة بعد الحطة.
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه، لم يطلبوا الهداية، ولكن طلبوا ألوان الطعام، وقال تعالى عنهم :﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ﴾ والمعنى : اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه، ولكن في طعام تأكلونه، نادوا موسى وهو لهم كالأم الرءوم :﴿ يا موسى لن نصبر على طعام واحد ﴾ وهو المن والسلوى، وقالوا : على طعام واحد، لأنه لون واحد متكرر مستمر، لا يتغير، فهو يعرض بطريقة واحدة، والشيء المتكرر يكون شيئا واحدا، ولو تجدد وتكرر، ولو كان أكثر من واحد، ولو كان طيبا، إن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم، ولو كان أشهى، وقالوا يائسين من أن يرضوا : لن نصبر على طعام، فأكدوا النفي ب "لن"، ودلوا على تململهم بقولهم :"لن نصبر"، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد.
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم :﴿ فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها ﴾، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره ؛ فإذا كنا لا نصبر، ﴿ فادع لنا ربك ﴾ ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض، وقوله "يخرج" في معنى جواب الأمر، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة.
والبقل معروف، وهو كل نبات لا ساق له غالبا كاللوبيا والفاصوليا ونحوهما كالفول، وفومها وهو الثوم وقيل القمح واللغة لا تساعد ذلك، وعدسها وبصلها وهما معروفان، ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم، بل ذاكرهم فيما يطلبون، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن، فقال لهم :﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ﴾، أي أتتركون الخير، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه وإن كان من نعمة الله تعالى.
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه، وعبر بقوله تعالى :﴿ الذي هو أدنى ﴾ أي أنه في ذاته دان في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته، وثابت على الخيرية ؛ لا يزيل صفة الخيرية ما تطلبون.
والأدنى معناه القريب، ولما كان القريب سهل التناول، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لا يكون ذا منزلة.
والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع، أي فيه معنى التوبيخ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب، وهو المن والسلوى، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما.
ولقد قال موسى كما أخبر ربه :﴿ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ﴾ ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك، وعبر بقوله :﴿ اهبطوا مصرا ﴾ ؛ لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك ؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض، وهم ينزلون من العزة، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب.
وقوله :﴿ اهبطوا مصرا ﴾ بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها، وذبحت أبناءهم، واستحيت نساءهم، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل.
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر، وموسى بينهم ؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء.
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم.. أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وأراد موسى عليه السلام، أن يبعدهم عن فرعون وقومه، وأن يخلصهم من أوهامهم، فانتهزوا غيبته، واتخذوا العجل، وعبدوه.. وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم.. ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم، ( دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة ).
طلب الله تعالى إليهم كل ذلك، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه، وهو الذلة، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء، وإذا هانت النفوس ذلت، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع.
ولذا قال تعالى :﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾ أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها، بل يتنقلون في دائرتها ؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب، ولا يخرجون منها، فصارت حالهم في ذلتهم، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها، ولذلك عبر بضربت عليهم، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف، وهي لازمة للذلة، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة، والخضوع للظالم، ولا يرضون إلا بالذل، ولا يقبلون غيره، فإن النفس إذا ألفت الذل، واستمرأته، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له.
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مفعلة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم، أو الظهور بمظهر قبوله، وهو السكون ممن لا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا.
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش، ويفكهون في ملاذ الدنيا، ويستمرئون البقاء فيها.
ولقد قرر الله تعالى عقوبة لذوي الضمائر الفاسدة، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى، فمعنى ﴿ وباءوا بغضب من الله ﴾ أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لا ينفكون عن الغضب، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته، وأنهم لا يستحقونها، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته :﴿ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ﴾.
الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهم أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى، ومعه الخزي والعار.
قال سبحانه في سبب ذلك :﴿ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ﴾ آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى، وهي في ذاتها نفع لهم، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ بأنهم كانوا يكفرون ﴾ بيان لاستمرار كفرهم، وتكرره بتكرار آياته، فإن "كانوا" دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرار الكفر بتكرار الآيات، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى بها عليهم، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله، وكفر النعمة بعدم شكرها، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع، وما جرى عليه الناس، ويجرون عليه إلى يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية، الكفر سلب، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا، أما الجريمة الايجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق، فهم لا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم، واستمرائهم الباطل والعصيان ؛ ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات، وقتلهم للأنبياء بقوله :﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( ٦١ ) ﴾.
وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم، وقبح تصرفاتهم، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم.
﴿ ذلك بما عصوا ﴾ أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا ؛ أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا ؟ ! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك لمجرد الاعتداء، فهم في طبيعتهم العدوان ؛ لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لا محالة الاعتداء، الاعتداء في طلب الأشياء، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات، والاعتداء بقتل الأنبياء، فالاعتداء والعصيان من شئونهم، وهكذا هم بلاء هذا الوجود.
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( ٦٢ )
الناس جميعا سواء أمام الله يجزيهم إن آمنوا
اختص الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة ببني إسرائيل وكفرهم بالآيات المتتالية آية بعد آية، وبتكرار وتوالي ذلك الكفر ليبين سبحانه وتعالى انصرافهم عن الحق مع كثرة الآيات، وكفرهم بالنعم بعد تواليها. وكأن القارئ للقرآن الكريم يحسب أن العبر تنزل لمن يكفر بها، والآية المعجزة تتوالى على من ينكرها.. فيبين الله تعالى أن الغاية من هذه النعم هي الإيمان، وأنهم إن كفروا بها فباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم، وأن الله تعالى خلق الخلق ليتفكر الناس فيؤمنوا وليجدوا فيها البرهان فيؤمنوا ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾ [ الذاريات ].
وقد قضى الله تعالى أن الإيمان مقبول من كل الطوائف والملل، وقد جعل سبحانه ذلك الحكم الخالد الأبدي معترضا في أخبار بني إسرائيل ليفتح باب الإيمان لهم، ولغيرهم، فقال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ﴾.
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق، وأنه وحده خالق كل من في الوجود وأنه لا تخرج حركة عن حركة في الوجود، وإنما ذلك قيوميته وإرادته، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه جلت صفاته، فليس كمثله أحد، وهو السميع البصير، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب، وثواب وعقاب، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله.
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الإيمان، وأردف إيمانه بالعمل الصالح الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس ؛ ﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين، علم أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالح ﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد ﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾. هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان.
وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.
هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقووا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسوله والاستجابة لكل ما أمر به – من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر، لأن الإيمان يجب ما قبله كما قال تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف... ( ٣٨ ) ﴾ [ الأنفال ] فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم.
ونقبس قبسة من سورة الإيمان كما علم جبريل أمة محمد صلى الله عليه وسلم :
روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال :"يا محمد، ما الإسلام ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. قال : صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال : يا محمد، ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال : صدقت، فعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم : قال يا محمد، ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فهو يراك، قال : فمتى الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال : فما أمارتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"١.
هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان. وقبل أن نتم الكلام حول الآية الكريمة نذكر أمورا ثلاثة فيها بيان للناس في ظل بيان القرآن الكريم.
أولهما الفاء في قوله تعالى :﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ هي في جواب الشرط أي أن الإيمان الذي شرحناه والعمل الصالح الذي ذكرناه هو الشرط لأن ينالوا الجزاء من أمن الخوف، وألا ينالهم حزن على الماضي.
الأمر الثاني : قد عرفنا اليهود، وهم منحرفون دائما، ولكن فتح لهم باب الرجاء، والنصارى كذلك، فمن هم الصابئون ؟.
الصابئون الذين ظهروا في الإسلام وقبله هم أكتم الناس لعبادة الأوثان، ويعلمون صبيانهم كتمانها، وقد قال عنهم أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن : وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة أو عبادتها واتخاذها آلهة، وهم عبدة أوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق، وأزالوا مملكة الصابئين لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا، لأنهم منعوهم من ذلك، وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين، فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت، ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر، وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان، فلما ظهر الإسلام دخلوا في غمار النصارى، ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان، كاتمين لأصل اعتقادهم، وهم أكتم الناس لاعتقادهم، فالصابئة يعبدون الكواكب والأوثان، ويظهرون بالنصرانية، هذا ما يجب بيانه هنا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا تاريخ الجدل.
الأمر الثالث : إن بعض النصارى – ومال ميلهم من في دينه لين – قال : إن القرآن الكريم يعترف بأن النصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ونقول إنه اشترط للاعتراف للنصارى بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون – الإيمان بالله تعالى، وأنه الواحد الأحد، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحد، فهل يؤمن النصارى في عصرنا ذلك الإيمان وهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة، والله تعالى يقول :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة... ( ٧٣ ) ﴾ [ المائدة ] ويقولون بألوهية المسيح كما قرروا ذلك في مجمع نيقية بإجماع القساوسة وإجماعهم إلى اليوم، والله تعالى يقول :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم... ( ٧٢ ) ﴾ [ المائدة ].
١ حديث جبريل الشهير، رواه بهذا اللفظ ابن ماجه: المقدمة (٦٢)، ورواه مسلم: كتاب الإيمان (٩)، والبخاري: الإيمان (٤٨)، والنسائي (٤٩٠٤) وأبو داود (٤٩٧٥) وأحمد مسند العشرة المبشرين (١٧٩)..
عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا، وخوف العقاب إن عصوا.
بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم.
قال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ﴾.
الطور هو الجبل الذي هو في سيناء، فهو جبل معين ذكره الله في عدة آيات، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى :﴿ والتين والزيتون ( ١ ) وطور سنين ( ٢ ) وهذا البلد الأمين ( ٣ ) ﴾ [ التين ].
أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، والميثاق مفعال من الوثوق أي : وثقنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته، وترهيبا بأمره بعد ترغيبهم فيه، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام، وأنه يتلقى أوامره من ربه، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صاعقين، فهذا ربهم يخاطبهم بآية، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم... ( ١٧١ ) ﴾ [ الأعراف ].
ولقد ذكر سبحانه وتعالى مضمون الميثاق إجمالا، فقال خذوا ما آتيناكم بقوة، أي بجد وإتقان، وتعرف، وعناية، ﴿ واذكروا ما فيه ﴾، أي اجعلوه في ذاكرتكم دائما لا تغفلون عنه، ولا تهملونه، واجعلوه حاضرا دائما في قلوبكم كي تعملوا به، ويكون في وعيكم دائما، ولقد ذكر بعض ما في هذا الميثاق بالتفصيل فقال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( ٨٣ ) ﴾.
هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها، بقوة، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان، وأن يقرن ذلك بالعمل، فلا تأخذونه بيد، وتردونه باليد الأخرى، واذكروا ما فيه، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم، ولا تنسوه.
وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم، يحفظون القرآن ولا يعونه، ويرددون حروفه، ولا يتدبرونه، ولقد روى مالك في موطئه عن ابن مسعود أنه قال :( سيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم )١. أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم.
كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم، أو رجاء أن تمتلئ بتقوى الله تعالى قلوبهم، وتغلب عليهم مخافة ربهم فلا يعصوه، ويبادروا إلى طاعته، ولذلك قال تعالى :﴿ لعلكم تتقون ( ٦٣ ) ﴾ أي ترجون التقوى والخوف منه.
١ عن عبد الله بن مسعود قال لإنسان: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة، يبدون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم. [الموطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (٣٧٩)]..
ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه الله تعالى بأمر حسي، لأنهم لا يعتبرون إلا بالمحسوسات، مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرا موثقا ذلك التوثيق مؤكدا ذلك التوكيد، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ثم توليتم من بعد ذلك ﴾ التولي هو الإعراض، وأصله الإدبار وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول، معنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم، ودبر آذانهم.
والتعبير هنا ب "ثم" التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى :﴿ ثم توليتم من بعد ذلك ﴾ لبيان بعد عملهم عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم.
وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة، وطولبوا بذكرها ليمكنهم أن يعملوا بها، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال : وإنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، بعد أن كفروا بهم وعصوا أمرهم ومنه ما عمله أوائلهم، ومنه ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، ثم نقل متأخروهم ما لا خفاء فيه حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.
هذه كلمات صورت توليهم عن الحق، واستدباره في عامة أمورهم، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شهوتهم.
ولقد قال تعالى :﴿ فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ﴾ الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته.. و"لولا" هنا هي التي يقال فيها إنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع جواب لوجود الشرط. والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير لإمهالكم لكنتم من الخاسرين، ولقد قال الراغب في تفسيره : الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى، وهو نعيم الأبد.
فالخاسرون : هم الذين خسروا أنفسهم، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب.
وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم، ولم يكتبهم من الخاسرين.
اعتداؤهم في السبت
لقد كان بنو إسرائيل قوما غلبت عليهم شقوتهم، فكان رب العالمين يشرع لهم من الشرائع ما يربون به نفوسهم، ويعودهم ضبط النفس، وفطمها ليتربوا على البعد عن الشهوات ويقتصروا على ما فيه مصلحتهم ويقيموا حياتهم مستقيمة ؛ ولذلك حرم عليهم بعض المباحات قرعا لنفوسهم وفطما لها، وقد قال تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( ١٤٦ ) ﴾ [ الأنعام ].
من ذلك كان تحريم الصيد عليهم يوم السبت قمعا للشهوات، وقد يكون فيه تنظيم اقتصادي وراحة لهم، وأن يعكفوا على العبادة، ويروضوا أنفسهم على حياة روحية تتطهر فيها نفوسهم وتتجرد من سطوة المادة وشهواتها.
حرم الله تعالى عليهم الصيد في يوم السبت، ولكنهم مرقوا عن أمر الله تعالى، واستباحوا السبت، أو بعبارة أدق استباحه بعضهم، وسكت عن نهيهم سائرهم، وإن كان الذين امتنعوا خيرهم، وقالوا في إخوانهم :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم... ( ١٦٤ ) ﴾ [ الأعراف ] ولأن أصواتهم لم تصل إلى درجة المنع – نسب الاعتداء إليهم جميعا.
يقول الله تعالى :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ﴾ أكد سبحانه وتعالى علمهم بهذا الاعتداء باللام التي تكون للتأكيد، وبقد التي تكون للتحقيق دائما سواء أدخلت على المضارع أم دخلت على الماضي، كما هو في القرآن الكريم.
وقالوا : إنه سبحانه وتعالى قال : علمتم، ولم يقل عرفتم ؛ لأن المعرفة تمييز للشخص في ظاهر أمره، فتقول : عرفت فلانا إذا لقيته ولم تخبر أحواله، وإذا قلت : علمته ؛ فمعنى ذلك أنك علمت أحوال ظاهره وباطنه، فتقول : علمت زيدا إذا علمت أحواله ظهورها، وخفاياها.
أي أنكم علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، في شره نفوسهم، وقرمهم إلى الصيد واندفاعهم نحو المخالفة لأمر ربهم مدفوعين بشهوات جامحة يتحايلون فيها تحايل الولهى لتحقيقها، حاسبين أن ذلك يخفى على الله تعالى، ولكن سبحانه وتعالى يزيد في اختبار نفوسهم، فيرسل حيتان السمك إليهم شارعة يوم السبت، ثم لا تأتيهم بعد ذلك، ولذلك قال تعالى مبينا الاختبار في آية أخرى، فقال تعالى :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ( ١٦٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
وهذه القرية يروي ابن كثير في تفسيره أنها كانت بين الأبلة والطور، ولعلها المصر الذي هبطوا إليه في قول موسى :﴿ اهبطوا مصرا ﴾. ويروي ابن كثير أنه اشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح السد فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيها فإذا كان يوم الأحد جاءه، فأخذه، فشواه، وقد قلده جاره، وشاع هذا وفشى فيهم.. فقال لهم علماؤهم : إنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، فأنتم اصطدتموه يوم السبت.
وما أشبه هؤلاء بإخوانهم ينتسبون إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم حتى إنهم يستبيحون الربا بحيل محرمة، والله عليم بهم وبأحوالهم، ولهم ما أعده الله لبني إسرائيل وهم أصل الداء في هذا وفي غيره١.
وقد قال تعالى ما يفيد أنهم إذا لم تتهذب نفوسهم ولم تترب بالضبط قلوبهم فإنهم كالقردة والخنازير، فقال تعالى :﴿ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ الفاء كأخواتها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا اعتدوا ذلك الاعتداء وشرهوا ذلك الشره، قلنا لهم بلسان التكوين :﴿ كونوا قردة خاسئين ( ٦٥ ) ﴾ وروي عن مجاهد أنه قال أنه مسخت قلوبهم فصارت قلوب القردة تنزو لشهواتها ولا تتعقل ولا تتدبر في عاقبة أمرها فهبطوا إلى هذه المنزلة الدون وقال : إنه مثل ضربه الله تعالى مبينا حالهم، كالمثل في قوله تعالى :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا... ( ٥ ) ﴾ [ الجمعة ] فصارت قلوبهم قلوب قردة.
وإنه يزكي ذلك المعنى أنه شبه حالهم في آية أخرى بالقردة والخنازير لا بالقردة وحدها، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة :﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( ٦٠ ) ﴾ [ المائدة ].
ومعنى خاسئين : أي مبعدين يقال خسئ أي بعد وخسأته أبعدته، والمعنى بعيدون عن مواطن العزة ورضا الله تعالى، لأن الشهوة والعزة نقيضان لا يجتمعان فالشهوات مطية الذلة والهوان، ولا يهون إنسان إلا إذا هانت نفسه، وصارت أمة للشهوات.
١ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم" قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ [متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالسنة (٦٧٧٥)، ومسلم: العلم (٤٨٢٢)]..
إن الله تعالى جعل تلك القرية التي كانت مكان الفسق عن أمر الله تعالى نكالا وموعظة فقال تعالى :﴿ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ﴾.
نكال المنع والزجر، والنكل القيد، والأنكال القيود، لأنها تمنع.
والفاء للإفصاح، كما ذكرنا في غير ذلك الموضع والضمير في قوله تعالى :﴿ فجعلناها نكالا ﴾، يعود إلى العقوبة أي جعلنا هذه العقوبة التي كان من مقتضاها أن يفقدوا معاني السمو الإنساني، والارتفاع عن حضيض الحيوانية الأوهد، وقيل : إنها تعود على القرية التي كان فيها ذلك الاعتداء لأنها حاضرة في الذهن ومشار إليها في ذكر الذين اعتدوا منكم في السبت، أي والقرية التي كان فيها الاعتداء، فهي إن طويت في البيان ملاحظة في المعنى، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا، وما يطوى في مكان يصرح به في مكان آخر، تعالت كلمات الله تعالى.
وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة، ومن الضيق بعد السعة، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين، ومن يجيء بعدها من الناس، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى :﴿ لما بين يديها ﴾ كناية عن وجودها معهم وأنها على مقربة منهم، قرب ما بين اليدين من الصدر، والذين تحوطهم ويحوطونها.
وإن ذلك العقاب يكون له صدى يتردد في الأجيال بعدهم جيلا بعد جيل، ومثل هذه القرية كمثل قرية عصت أمر الله تعالى وكفرت بأنعمه سبحانه، وقال فيها تعالت كلماته :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( ١١٢ ) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( ١١٣ ) ﴾ [ النحل ].
فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية، وكأنها مثل بين لهم، والموعظة وزنها تفعلة بمعنى المصدر الميمي من الوعظ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة.
وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها، والإهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، فمن دأبهم الحذر من الشر، وإذا ذكروا ذكروا، والله هو الهادي إلى الرشاد.
بقرة بني إسرائيل
كان بنو إسرائيل في مصر، وكانوا أذلوهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعباداتهم، وألفوا ما كانوا يألفون، لقد كان المصريون يعبدون العجل، ويقدسونه، وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به، وقد رأينا السامري أضلهم فعبده بعضهم ولم ينههم سائرهم عن عبادته، فاشتركوا جميعا في هذا المنكر.
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ ولو أتوا إلى أية بقرة فذبحوها لكان في ذلك استجابة لأمر الله تعالى، لأن الأمر المطلق تتحقق الإجابة فيه بالتنفيذ في أية جزئية من جزئياته، والمطلق يتحقق وجوده في أي فرد من أفراده.
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة، والطاعة ألا تتمرد، ولا تثير الجدل، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام أن قالوا، وكأنهم يتهكمون :﴿ أتتخذنا هزوا ﴾ والهزو اللعب والسخرية، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم، وبالغوا في الهزء فقالوا :﴿ أتتخذنا هزوا ﴾ أي أتجعلنا بأمرك في موضع الهزء والسخرية، وذلك لما ألفوه من أن البقرة مقدسة لا تذبح بل تعبد، وإذا لم تكن عندهم هذه الحال فإنه لا موضوع لأن يستهزئ بهم، ولا أن يسخر منهم بذكر أمر الله تعالى.
فقال موسى كليم الله :﴿ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ( ٦٧ ) ﴾ كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه، فأجابهم الرسول الرفيق، فقال : أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين ؛ أي ألجأ إليه عائذا به متجها إليه أن أكون من الجاهلين، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى، ونفى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل، ولم يكتف بنفي الفعل ؛ لأنه أبلغ وبيان أنه لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى : أولي العزم من الرسل، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى.
وإن ذلك الجواب القاطع كان جديرا بأن يمنعه من اللجاجة والمراوغة في الاستجابة لأمر الله تعالى، ولكن لأن نفوسهم متأثرة بأوهام المصريين، استمروا في لجاجتهم ومراوغتهم عساهم يجدون مناصا للخروج من هذا الأمر الجازم قالوا :﴿ ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ﴾ يقولون لنبي الله موسى : ادع ربك واضرع إلى الذي رباك وكونك أن يبين لنا ما هي، وصيغة السؤال هكذا استفهام عن ماهية البقرة وحقيقتها وكأنهم لم يروها ولم يعرفوها، ولم يكونوا مع الذين كانوا يعبدونها، ولكن نبي الله الحكيم، أجابهم بالأسلوب الحكيم، وهو ما ينبغي أن يكون السؤال عنه فقال عليه السلام بهداية من الله تعالى :﴿ إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر ﴾ والفارض هي التي فرضت سنها أي أنها حطت سنها، وبلغت نهايته أي كانت طاعنة في السن، ولا بكر : ليست صغيرة، أي أنها بقرة وسط ليست صغيرة ولا كبيرة ؛ ولذا فالعوان بين ذلك أي وسط بين الصغر والكبر المفرط، ويظهر أن تلك كانت أوصاف عجل أهل مصر، وقد قال موسى بأمر ربه ﴿ فافعلوا ما تؤمرون ( ٦٨ ) ﴾ بلا لجاجة ولا مراوغة، ولا محاولة الإفلات من أمر الله تعالى.
وكان حقا عليهم أن يطيعوا بعد ذلك فقد بين لهم كل شيء، والفاء للإفصاح ولكن لجاجتهم لم تنته عند ذلك، وهم يريدون أن يراوغوا وأن يثيروا الجدل عساهم يفلتون من إجابة الأمر.
قالوا مجادلين مراوغين :﴿ ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ﴾ أي يبين اللون الذي يريدها أهي الصفراء أم السوداء أم الخليط من ذلك، ولقد بين سيدنا موسى اللون، فقال :﴿ إنه يقول ﴾ مسندا القول لرب العالمين :﴿ إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ( ٦٩ ) ﴾ الصفراء هي ما فيها لون الصفرة، ومعنى فاقع لونها أي خالص صاف له بريق ولمعان، ولذلك يسر الناظرين، أي تتلقاه الأنظر بالسرور، وكأن هذه كانت أوصاف العجل الذي كان المصريون يعبدونه، وكان يجب عليهم بعد ذلك أن يفعلوا ما أمروا غير متلومين، ولا متحيرين ولكنهم أثاروا بعد ذلك ما يفيد حيرتهم، ولا حيرة في ذات الموضوع إنما الحيرة في نفوسهم الملتوية التي سرى إليها تقديس البقرة.
قالوا كأنهم متحيرون :﴿ إن البقر تشابه علينا ﴾ وإن التشابه من عقولهم، لا من الجهل في ذلك قالوا :﴿ ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ( ٧٠ ) ﴾ كان هذا التساؤل المستمر كاشفا لسوء نيتهم وعدم رغبتهم في الطاعة، وقد تكشف أمرهم فستروه مظهرين رجاءهم في الهداية وكان ذلك بقولهم :﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ أكدوا رغبتهم في الهداية بالجملة الاسمية وب "أن" وب "لام" التوكيد، والمشيئة الربانية، ومع ذلك كان سؤالهم عن الماهية.
ولكن عدل في الإجابة إلى الأسلوب الحكيم، وهو بيان أنها ليست ذلولا معدة لحراثة ولا لسقاية الزرع، بل هي فارغة عن عمل ؛ ولذا قال موسى في الرد :﴿ إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها ﴾.
أوصاف يشترط وجودها ليكون ذبحها سائغا جائزا :
أولها : أنها ليست ذلولا أي ليست مذللة لعمل معين بل هي مطلقة ترعى في الكلأ لا رقابة عليها ولا سلطان لأحد.
وثانيها : أنها لم تعد لحرث الأرض وإثارتها ليرمى فيها الزرع.
وثالثها : أنها لا تسقي الزرع فلا تدير ساقية تسقي الزرع.
والوصف الرابع : أنها مسلمة، أي سليمة من العرج، ومن كل ما يشوب جسمها من شوائب المرض، ومسلمة اسم مفعول من سلم، أي أن الله تعالى سلمها من كل العيوب الجسمية، فلا بها عرج، ولا عور، ولا أي عيب جسمي.
والوصف الخامس : أنه لا شية فيها، أي ليس فيها لون يخالف لونها الذي يعم كل أجزائها، والشية أصلها وشية حذفت فاؤها، لأنها وصلة، والشية مأخوذة من وشى الثوب إذا نسج على لونين مختلفين.
ونرى أن هذه الأوصاف في البقرة تشبه الأوصاف التي كان يذكرها قدماء المصريين في العجل الذين يعبدونه، فأتى الله سبحانه وتعالى بأوصافه لتبين أنهم خلصوا من نفوسهم كل أوهام المصريين في البقرة.
وقد يقال : إنه كان عجلا، ولم يكن بقرة، فنقول : إن بقرة مفرد لاسم جنس جمعي هو البقر، ويراد به الذكور والإناث، وإن طلب ذبح بقرة تتشابه في أوصافها مع أوصاف العجل الذي توهموا أنه يستحق أن يعبد، فيه اختبار شديد لهم، وحمل لهم على أن يخلعوا كل أوهام المصريين التي سرت إلى نفوسهم.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك :﴿ فذبحوها ﴾ أي قاموا بذبحها ﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ لكثرة لجاجتهم، ومراوغتهم وجدلهم، ولكن الله سبحانه وتعالى راضهم على ذلك حتى فعلوا كارهين غير راضين.
ادراؤهم في قتل نفس
المفسرون على أن هذه الآيات جزء من قصة البقرة إلا ما يتعلق بقسوة قلوبهم والحجارة وبعض خواصها، فهم يقولون إن الأمر بذبح البقرة كان ليضربوه بها أي ليضربوا المقتول بها فيحيى، فقوله تعالى :﴿ اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ﴾ والضمير يعود إلى البقرة التي ذبحت : يضرب ببعضها فيحيا ويخبر عمن قتله، ونحن لا نرد ذلك ولا نكذبه فأخبار بني إسرائيل فيها العجائب الكثيرة التي ساقها الله تعالى ليؤمنوا ويذعنوا، ولكن لم يذعنوا قط مع توالي هذه الأمور الخارقة للعادة التي توالت وكثرت.
ولكن في العصر الحديث قرر المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب النجار، أنهما قصتان سيقتا لغرضين مختلفين : أما الأولى فهي قصة البقرة، وهي قائمة بذاتها سيقت لبيان آثار العقائد المصرية في نفوس بني إسرائيل ولجاجتهم في الامتناع عن ذبح البقرة متأثرين بتقديس المصريين للبقرة.. والثانية سيقت لبيان أثر رؤية المقتول في نفس القاتل، وتأثره بذلك، وأنه يحمله على الاعتراف بالجريمة عندما يرى المقتول ويمس جسده، وقد ذكر ذلك الرأي في كتابه قصص القرآن. قال تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ أي لم يعرف القاتل ودرء كل فريق القتل عن نفسه باتهام الآخر، فالادراء أو التدارؤ، أن يدفع كل فريق التهمة عن النفس، ويتهم الآخر.
وكل منهم يعلم الواقع، ولكن يقرر غيره ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ( ٧٢ ) ﴾ أي من الحق، ومؤدى ذلك أنهم عالمون فيما بينهم من القاتل ولكن يجهلون الأمر، ولكن الله تعالى كاشف الأمر.
المفسرون جملة يقولون :﴿ الضمير في بعضها، في قوله تعالى :{ اضربوه ببعضها ﴾ أي ببعض البقرة وإن ضربهم للمقتول ببعض البقرة يحييه الله تعالى فيخبر عمن قتله، ويعرف القاتل، وقصة البقرة سيقت لبيان إحياء الله تعالى الموتى في وسط قوم ينكرون البعث والنشور ؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك :﴿ كذلك يحيي الله الموتى ﴾ أي كذلك الإحياء الذي شاهدتموه عيانا، إذا كان ميتا فأحياه الله تعالى ؛ أي مثل ذلك الإحياء الجزئي الذي شاهدتموه وعاينتموه يحيي سبحانه وتعالى الأجسام بعد موتها، ويكون النشور ثم تقوم القيامة.
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ لعلكم تعقلون ٧٣ ) ﴾ أي رجاء منكم لأن تعقلوا وتدركوا الأمور على وجهها، وعلى هذا التفسير يكون المقصود أن الأمر بالذبح لكي يضرب ببعضها الميت فيحيى، وإن هذا يقضي أن يقدم خبر الإحياء والضرب ببعضها على الأمر بالذبح.
وقد أجاب عن ذلك الزمخشرى بأن التأخير يفيد في الخبر أمرين عجيبين، وأن كليهما يصلح أن يكون قصة قائمة بذاته، فالأولى المراوغة في الطاعة، والثانية إظهار الأمر الخارق للعادة، في إحياء الميت بضربه ببعض بقرة، ولقد قال في ذلك :
إن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الخطايا، وتقريعا لهم عليها، ولما جدد فيهم من الآيات العظام، وهاتان القصتان كل واحدة منهما خصت بنوع من التقريع، وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله تعالى :﴿ اضربوه ببعضها ﴾ حتى يتبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع – وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
هذا بيان أنها قصة، ولكن الزمخشرى ذكر أنهما قصتان متحدتان في قصة واحدة، وأن الضمير العائد إلى البقرة في قوله تعالى :﴿ اضربوه ببعضها ﴾ أي ببعض البقرة.
لكن المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، عدهما قصتين منفصلتين لا اتصال بينهما بأي نوع من الاتصال البياني ؛ ولذا لم يجعل الضمير في قوله تعالى :﴿ اضربوه ببعضها ﴾ عائدا إلى البقرة إنما جعله عائدا إلى جثة المقتول، بمعنى فاضربوا القاتل الذي قام الاتهام على أنه القاتل ببعض جثة المقتول فإن ذلك يحمله على الاعتراف فقد قام الدليل الموجب للقصاص، وبذلك القصاص يحيي الله تعالى من مات بالقصاص له.
ذلك كقوله تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... ( ٣٢ ) ﴾ [ المائدة ] وإحياؤها بالقصاص، فالقصاص إحياء للنفوس كما قال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ( ١٧٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وقد ثبت بالإحصاء في تحقيق جرائم القتل أن مجرد رؤية الجاني للمجني عليه وهو مقتول يحركه للاعتراف، واعتمد المرحوم النجار في ذلك على إحصاءات كثيرة كتبها له رجال الشرطة، وأن من الوسائل المتبعة لحمل المتهم على الاعتراف أن يمكنوه من رؤية القتيل، فإن ذلك يجعله يقشعر ويحس بعظيم ما ارتكب، وربما حمله ذلك على الاعتراف، والاعتراف سلطان الأدلة.
وإنه يزكي كلام المرحوم الأستاذ النجار ما يأتي :
أولا : أن القصة الثانية : وهي قصة القتل ابتدأت بقوله تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ ؛ ولذلك لم يسع الزمخشري وهو الذواق للبيان القرآني إلا أن يذكر أنهما قصتان، وإن كان قد حاول أن يصل بينهما بأن الضمير في قوله تعالى :﴿ اضربوه ببعضها ﴾ يعود على البقرة، مع البعد بينهما بطائفة من القول، وعدم ظهور ذلك العود على البقرة.
الثاني : أن الضمير في ﴿ اضربوه ببعضها ﴾ إذا عاد إلى النفس المقصودة يعود إلى أقرب مذكور، وعودة الضمير إلى أقرب مذكور هو القاعدة العامة إلا إذا أدى فيها الأمر إلى شذوذ غير معقول، أو كان ذلك مستحيلا.
الثالث : أن عودة الضمير على النفس يؤدي علما نفسيا اجتماعيا هاديا مرشدا، ويكون في ذلك فائدة جديدة لم تكن في قصة البقرة ؛ لأن قصة البقرة تدل على عناد بني إسرائيل وتأثرهم بأهواء المصريين في تقديس العجل.
الرابع : أن الآية اختتمت بقوله تعالى :﴿ لعلكم تعقلون ( ٧٣ ) ﴾ وهو يدل على أن الموضوع يحتاج إلى تدبر وفكر رشيد، وإدراك لمرمى التكليف.
وما نراه أن الفرق بين رأي المفسرين، ورأي المرحوم الأستاذ النجار أن اتجاه المفسرين إلى جعل مسألة البقرة مسألة معجزة، وأمرا خارقا للعادة على أن الضرب ببعضها يحيي نفسا ميتة على أساس أن ذلك دليل حسي على إمكان البعث وقربه، والمرحوم النجار يرى أن ذلك تكليف اجتماعي ينبه العقول إلى أمر مقرر ثابت في الدراسات النفسية والاجتماعية.
ونحن نميل إلى رأي الأستاذ النجار ؛ لأنه لو كانت الحياة من الضرب ببعضها لأدى ذلك إلى إشباع ما في نفوسهم من أوهام حول تقديس البقر كما كان يتوهم المصريون، بينما الرأي الأخير لا يؤدي إلى شيء من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بعد هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، والإرشادات الكثيرة لم ترق قلوبهم للحق، بل زادت قساوة ونفرة منه ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾، وثم هنا للتراخي لبعد ما بين هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، وما انتهت إليه من قسوة القلوب وصلابتها، حتى كأنها الحجارة أو أشد من هذه الحجارة.
فقد توالت عليهم البينات، من إنقاذ من فرعون، وإغراقه وآله، ومن المن والسلوى، ومن أخذه الميثاق، ومن أنهم طلبوا أن يروا الله فصعقوا ثم أفاقوا... إلخ، فقسوا من بعد ذلك فكان الفارق كبيرا. فما جاءهم من البينات، وما انتهوا إليه من قسوة في القلوب، فجمدت حتى لا يكون فيها ينبوع لرحمة.
والخطاب للذين حضروا النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارهم مع من كانوا قبلهم أمة واحدة يرضى حاضرهم بماضيهم وأخلافهم بأعمال أسلافهم، ولذا صح أن يوجه الخطاب إليهم على أساس أنهم مشتركون معهم، إن لم يكن بالفعل فبالرضا والتأييد والسير على منهاجهم.
وقد وصف سبحانه وتعالى حال قلوبهم بأنها كالحجارة، بل إنها أشد قسوة من الحجارة ؛ لأن الحجارة قد يكون فيها رحمة أو يجعلها الله تعالى سببا للرحمة، أما هؤلاء فلا رجاء للرحمة فيهم قط، لأن القلوب إذا جفت فيها ينابيع الرحمة لا تخرج رحمة من بعد ذلك. وقوله تعالى :﴿ أو أشد قسوة ﴾ خبر بعد خبر، فالمعنى فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة.
وقد رشح الله تعالى لمعنى أن قلوبهم أشد قسوة، فذكر خواص بعض الحجارة أو ما يكون منها أنهارا فقال تعالت كلماته :﴿ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ﴾ أي إن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار وهي الحجارة التي تهطل عليها الأمطار وابلا، فيتفجر منها ومن صخرها أنهار تجري كأنها جبال الحبشة وغيرها من الجبال التي تنحدر السيول من فوقها فتتفجر خلالها أنهارا تجري فيها المياه وإن من الأحجار الذي يتشقق منه الماء أي ينبع الماء من عيونها بتشقق منها فتجري منها عيون يكون فيها أنهار ماء عذب فرات.
وإن من هذه الحجارة الذي ترجف فيه الرجفة خشية من الله تعالى أو أنه يرى كذلك كما قال تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله...( ٢١ ) ﴾ [ الحشر ].
وإذا كانت الحجارة منها ما هو مصدر خير عام، فقلوبهم أشد قسوة منها، لأنهم لا خير فيهم قط، ولا تنبع منهم رحمة، كما تنبع العيون من هذه الأحجار وكما تتفجر فتجري فيها الأنهار.
وختم الله سبحانه وتعالى مهددا منذرا من عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ نفى مؤكدا غفلة الله تعالى عن أعمالهم، وأنها لأعمال خارجة من تلك القلوب القاسية التي نماها كر الأيام واستمرت سارية، حتى كاد منهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأكد سبحانه وتعالى بالباء في قوله تعالى :﴿ بغافل ﴾ وبالجملة الاسمية، وإذا كان تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، فإنه لا محالة مجازيهم به، آخذهم من نواصيهم فهذه الجملة السامية إنذار شديد.
ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام، وقد كان ذكرهم بعد آدم وإن لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم، لأنهم أوضح صورة إنسانية، لتحكم إبليس في ابن آدم، فقد قامت بين أيديهم الأدلة، والآيات الحسية، والنعم، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب، ويقولون فيهم : ما علينا في الأميين من سبيل، فإنه لا مطمع في إيمانهم ؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره، فإنه لا مطمع في إيمانه.
ولذا قال الله تعالى مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعه من المؤمنين :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ﴾.
الفاء مؤخرة عن تقدم، لأن الاستفهام له الصدارة، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم، وكفر متوال بأنعم الله تعالى، والاستفهام إنكاري بمعنى النهي، لأنه إنكار للواقع، إذ الواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم، فينكر الله تعالى عليه ذلك، ويكون الاستنكار بمعنى النهي، أي لا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم، بل إنه يلقي باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم، ويخلصون في دعوتهم.
وقوله تعالى :﴿ أن يؤمنوا لكم ﴾ التعدية باللام ؛ لأنها تتضمن معنى الاستجابة، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم. وآمنوا تتعدى بالباء إذا كان ما بعدها هو الذي يؤمن به كقولك :﴿ آمنوا بالله ورسوله... ( ٧ ) ﴾ [ الحديد ]، ومثل قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( ٨ ) ﴾ [ البقرة ].
وتتعدى باللام إذا كانت متضمنة معنى الاستجابة للداعي، ومن ذلك :﴿ فآمن له لوط... ( ٢٦ ) ﴾ [ العنكبوت ] ومثل قوله :﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم... ( ٧٣ ) ﴾ [ آل عمران ].
ولذلك كان التعدي هنا باللام، إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة، وإما لأن اللام للتعليل، أي لا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتهم، فهم ميئوس من إيمانهم لما كان منهم في الماضي، وما يكون منهم في الحاضر.
وقد بين سبحانه سبب الغواية في جملة حالية هي ﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ﴾ هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة ؟.
قال كثير من مفسري السلف : إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام، ولكن ذلك بعيد، إنهم سمعوا كلام الله من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، وعقلوه، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا، وإفساد الحقائق وقد فهموها.
وبعض المفسرين يروون أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم وعقلوه، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه، ثم بعد ذلك يحرفونه، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا، غير دال على حقيقة ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم فريقان : سامع محرف، ومعرض ابتداء لا يحضر في المجلس النبوي.
وما التحريف وكيف يكون ؟ فنقول : التحريف في الكلام له معنيان : أحدهما التغيير في معناه، بأن يحرفوه على طرف من المعنى، بأن يخرجوه عن لب معناه إلى طرف من أطرافه ؛ لأن الحرف أصله الطرف دون اللب والوسط فهم يتجهون إلى التعلق بغير لب القول.
والتحريف إمالة القول إلى غير معناه، وهذا هو النوع الثاني، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه "تحريف الكلام" أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه... ( ١٣ ) ﴾ [ المائدة ] ﴿ يحرفون الكلم من بعض مواضعه... ( ٤١ ) ﴾ [ المائدة ] ﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( ٧٥ ) ﴾.
والتعريض ب"ثم" يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلوه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم.
وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه، وعرفوه عرفان الخبير المدرك، الفاهم، لا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها، ومقاصدها، وغاياتها، فتحريفهم بقصد التضليل، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها، ولا يذعن لها إن أدركها، بل هو يصد عن سبيلها.
ثم أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم، وغاية عملهم، فقال تعالى :﴿ وهم يعلمون ﴾ أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه، ويعرفون مرماه ومقصده، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين.
هذا على اعتبار أن الذي خاطب الفريق محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورا ثلاثة :
أولها : أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم، وليسوا جميعا، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق ؟ والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا عن سماع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له، فهم كانوا على سواء، وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى سمعوا من موسى وحرفوه، فقبله الآخرون وهم راضون، فكانوا مع غيرهم على سواء، ولا فرق بينهم.
الأمر الثاني : أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم.
وقد أثبت كتاب النصارى أن التحريف لا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم، والجديد، واقرأ في ذلك كتاب "ذخيرة الألباب" لأحد كتاب النصارى، فإنه بين بطريق لا يقبل الشك أن التحريف حدث في التوراة والإنجيل، وأثبت الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" أن التغيير والتبديل لا يزال يجري إلى الآن في كتبهم.
الأمر الثالث : الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة، ولكن اختلطت بباطل كثير.
كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه، وهم يعلمون موضع التحريف.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم، وهي أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذ خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ﴾.
هذا وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( ٨ ) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( ٩ ) ﴾ إلى آخر الآية التي ساقها القرآن الكريم، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم.
وهذه الآية التي نتكلم في معناها أتت بأمر خاص باليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنهم لفرط غرورهم يحسبون أن الله تعالى لا يعلم خفي أمرهم، فهو نوع من النفاق أضلهم.
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾ أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق.
وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة، فحفظوا المظهر بما أظهروه، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر.
فإذا خلا بعضهم إلى بعض، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا، والذين لم يلقوا الرسول، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين ﴿ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ﴾، أي بما حكم الله تعالى به عليكم، فالفتح في لغة العرب والحكم بأمر القضاء، كما قال تعالى :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق... ( ٨٩ ) ﴾ [ الأعراف ].
وما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى :﴿ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد... ( ٦ ) ﴾ [ الصف ]، وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم، وعللوا لوم إخوانهم بقولهم :﴿ ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ أي ليكون حجة عليكم عند ربكم، يحاجونكم به، والاعتراف حجة ظاهرة.
وإنهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل :
أولهما – أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم، وهو عالم الغيب والشهادة، وعالم السر والجهر، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه، وبالحق الذي أمرهم بإتباعه.
وثانيهما – أنهم يحسبون أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما كانوا يعلمون ما عند اليهود إلا بإقرارهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يعرفون ما في كتبهم من بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ولقد بين الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن المعقول فقال تعالى :﴿ أفلا تعقلون ( ٧٦ ) ﴾ الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة، والفاء للإفصاح، والاستفهام داخل على نفي، فهو من قبيل نفي النفي وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا، ويتفكروا ويتدبروا، ويدركوا ما يؤدي إليه كلامهم، وهو بعده عن كل معقول، فهم يتصورون أن الله تعالى لا يعلم حالهم، وما أخذ عليهم من مواثيق، وما وضع من إشارات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجون عند الله بهذا الاعتراف، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم. وقد يفسر قوله تعالى :﴿ أفلا تعقلون ( ٧٦ ) ﴾ على أنه كلام بعضهم، ويكون معناه على أنه من لسانهم، ﴿ أفلا تعقلون ( ٧٦ ) ﴾ وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته.
وإنهم ممعنون في الجهل بالله سبحانه وتعالى، وظنهم أن الله تعالى لا يعلم ما يخفون وما يبدون، وإنه لا فائدة بأن يحدثوا النبي والمؤمنين، لأن الله تعالى بكل شيء عليم، ولذلك قال تعالى :﴿ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( ٧٧ ) ﴾ هذا استفهام إنكاري لجهلهم، وتوبيخ لهم على عدم علمهم، فالاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه عطف ما بعده والمعنى أيقولون ما يقولون من ذلك القول، ولا يعلمون أن الله – جل جلاله – وقد أحاط بكل شيء علما ويعلم ما يسرون وما يجهرون به، وما يعلنون للناس، يعلم ما تخفي صدورهم، ويعلم ما يجهرون، وفي بيان ذلك العلم تهديد بالجزاء الذي ينتظرهم، فهو سبحانه يعلم ما يفعلون، وما يخالفون به مواثيقهم وعهودهم، وما ينكثون به في أيمانهم، ومؤاخذهم به.
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال اليهود، فأشار سبحانه إلى أن اليهود قسمان : أحبار أو علماء، وأميون يضلون الآخرين بدعوى أنهم وحدهم أوتوا علم الكتاب ؛ ولأن الآخرين لا يعرفون الكتاب إلا أماني يتمنونها، فيشبعوا أمانيهم وأهواءهم، ولذلك قال تعالى :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾.
الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لا يسودها العلم، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل... -٧٥ ) ﴾ [ آل عمران ]، وقد ينسب الأمي إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه، لم يزد علما عما ولدته عليه أمه.
وهؤلاء الأميون لا يقرأون الكتاب، ولا يعرفون أحكامه، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم، والأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه القلب ويحبه، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولقد قال تعالى :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم... ( ١١١ ) ﴾ [ البقرة ] أي ما يتمنونه، ويقول تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ( ١٢٣ ) ﴾ [ النساء ].
وفي الجملة الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثواب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوام المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، و لو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كلا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
وقوله تعالى :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾ قالوا : إن الاستثناء منقطع، فيكون المعنى لا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه، ولكن يعلمونه أماني يتمنونها وأهواء يبتغونها، ولا يدركون التكليفات والأحكام، ولا يعلمون المواثيق التي أخذت عليهم.
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا، ويكون المعنى أنهم لا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضي أمانيهم، ويشبع أهواءهم. ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد :﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ أي إن علمهم ظن، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا، وإنما تنتج ظنا، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، فعلمهم أوهام في أوهام، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا ؟.
لقد قال بعض العلماء : إن الأماني من التمني، وهو لا يكون إلا كذبا، ولقد قال تعالى :﴿ وإن هم إلا يظنون ( ٧٨ ) ﴾ أي ليس علمهم إلا ما يظنون علما، وما هم بمتيقنين، ولقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنا بعد آن، فنفى عنهم العلم وقصره على الظن، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها، وظنونا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم.
وإذا كان من أهل الكتاب أميون لا يعلمون من علم الكتاب إلا الأماني التي يشبعون بها أهواءهم، ويدخلون بها الكذب والتمويه على نفوسهم، فإن أولئك الأحبار أو العلماء يمالئون نفوسهم من الأكاذيب، ويكتبون بأيديهم ما ليس من الكتاب، ويوهمون أنه من الكتاب، وما هو من الكتاب، وفي ذلك رد على الذين يزعمون أن القرآن يقر كل ما جاء في كتبهم، فهل هو يقر ما يكتبونه بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ؟، كذبوا وبهتوا، وأعظموا الفرية على كتاب الله تعالى.
ولقد أخبر سبحانه أن أولئك الذين يجلسون مجلس العلماء فيهم ينتهزون أن فيهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وأن علمهم ظن والظن لا يغني من الحق شيئا فيكتبون الكتاب بأيديهم حاذفين ما شاءوا ويزيدون عليه ما شاءوا، فقال تعالى :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾.
الفاء في قوله تعالى :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ وقعت في جواب شرط مقدر تقديره : إذا كان الأمر كذلك فويل، والويل الدعوة بالهلاك وتعرف عندما لا تضاف كقوله تعالى :﴿ ويل للمطففين ( ١ ) ﴾ [ المطففين ] وتنصب إذا أضيفت فتقول : ويلك وويل نفسي على أنها بمعنى المصدر، وتستعمل "وي" منها في معنى التعجب كقوله تعالى :﴿ ويكأنه لا يفلح الكافرون ( ٨٢ ) ﴾ [ القصص ].
والمعنى أن الهلاك نازل لا محالة بأولئك الظالمين للحق في ذاته ولأنفسهم الذين يكتمون ما أنزل الله تبعا لأهوائهم، ويكتبون الكتاب بمحض أهوائهم، ولإثبات ما يريدون إثباته ومحو ما يريدون محوه وكتمان ما يريدون كتمانه لما قال تعالى :﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير... ( ١٥ ) ﴾ [ المائدة ] فهم بكتابة ما يكتبون قد أخفوا كثيرا، وقد بينه القرآن الكريم أو بين ما وجب بيانه.
وقوله تعالى :﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ فيه تأكيد لبيان أنهم هم مصدر الإعلام به، وأنه لا مصدر من الله تعالى، يضلون به الأميين منهم، ويعلنونه على أنه من عند الله تعالى، وهم الذين كتبوه وصنفوه وقد يكون فيه بعض ما جاء عن طريق موسى والنبيين من بعده، ولكنه في جملته ليس صادقا في كل ما كتبوا، ويكون قوله تعالى :﴿ بأيديهم ﴾ بيان لأنهم كتبوه حقيقة لا مجاز فيه، وفيه تصوير لحالهم وهم يكتبون بأيديهم.
هذا الوجه يكون فيه قوله تعالى عنهم :﴿ يقولون هذا من عند الله ﴾ الإشارة إلى المكتوب لا إلى التأويلات التي يتأولونها خارجين بالكلام عن مواضعه ويكون معنى قوله تعالى :﴿ وما هو من عند الله...( ٧٨ ) ﴾ [ آل عمران ] أي ليس ما كتبوه بأيديهم من عند الله، وهناك تأويل آخر في الإشارة في قوله :﴿ يقولون هذا ﴾ الإشارة فيه ليست إلى المكتوب ولكن إلى التأويلات التي يحرفون بها الكلام عن مواضعه ويتجهون به إلى أوهام توهموها، وكذبوا على الحقائق الثابتة، ويكون المكتوب هو كتابهم. والمعنى على هذا : ويل لهم إذ يكتبون الكتاب بأيديهم، ومع أنهم يكتبونه بأيديهم يحرفونه عن مواضعه، ويقولون عن تحريفهم إن هذه التأويلات هي من عند الله، والحقيقة أنه وقع منهم الأمران، فهم كتبوا كتابهم محرفا زادوا فيه، ونقصوا منه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وعبثوا بحقائقهم، وتأولوا ما صدقوا من نقله منه بغير متأوله.
كان منهم الأمران، وعبثوا بما أنزل الله تعالى عبثا بينا، وغيروا وبدلوا، وأولوا تأويلات باطلة. وقد علل الله تعالى الباعث لهم بأنه ثمن قليل، وهو أعراض الدنيا، بأن يكون لهم سلطان ورياسة، وأن يكون اختصاص باطل بالنبوة، وأن يمالئوا أهواء الناس، ولقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : إن الدنيا بحذافيرها ثمن قليل بالنسبة للحق الذي ضيعوه، والباطل الذي زيفوه.
﴿ ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾ وهنا نجد النص الكريم يرفض معاوضة قامت بين أحبار اليهود في أفعالهم، اشتروا بالبضاعة الثمينة الغالية التي في أيديهم بأن دفعوها في نظير ثمن ضئيل هو أعراض الدنيا، أو نقول أن اشترى هنا معناها باع أي باعوا ما في أيديهم من حقائق اؤتمنوا عليها وأخذوا ثمنا قليلا مهما حسبوه كثيرا.
وقد أكد سبحانه وتعالى الهلاك النازل بهم يوم القيامة فقال تعالت كلماته :﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( ٧٩ ) ﴾. ومعناها ويل لهم أي هلاك بسبب ما كتبت أيديهم، لأنها بهذه الكتابة حرفت وبدلت وسجلت في الكتاب هراء وأباطيل، فكانت في ذاته إثما، وهذا يرجح أن موضع إفكهم الكتابة الباطلة نفسها لا تأويلاتهم فقط، وويل لهم من الكسب الذي كسبوه من أعراض الدنيا، لأنه سحت في ذاته، إذ إن ما دفع في سبيله كان باطلا، هو أخذ لمال الله بالباطل، وما يكسبونه من جاه أو سلطان أو رياسة أمر باطل ؛ لأنه دفع الحق عن سبيله، وإن الله تعالى لا يبارك سيئا أخذ بغير حله، فهو كالاغتصاب لا يطيب لنفسه، وكذلك عد سبحانه وتعالى الكتابة سببا للعقاب الشديد، والكسب الذي كسبوه بالتضليل سببا للويل، وقال تعالى :﴿ يكسبون ﴾ بالمضارع للدلالة على تجدد ما يكسبون، وكذلك الويل يكون متجددا مثله،
وقد بين سبحانه بعض هذه التأويلات الفاسدة، والتفسيرات الكاذبة، فحكى سبحانه وتعالى عنهم فقال :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾.
هذا القول من التأويلات الفاسدة، وهو مبني على قولهم نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه، وأنهم لا يعذبون، ولكن يمتعون ولا يأثمون ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ قالوا : لن تعذبنا النار إلا أياما معدودة، بل قالوا :﴿ لن تمسنا النار ﴾، كأنهم لا يدخلون حتى في هذه الأيام، بل تمسهم ريحا أو نحو ذلك مما يفتري المفترون كما تقول أنت تهديدا بالضرب أو نحو ذلك : لن تلمسنا بيدك قط إلا مسا خفيفا.
فهم نفوا نفيا مؤكدا – بلن – أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة تمسهم مسا، ذلك قولهم، وتلك أمانيهم، ومعنى معدودة أنها عدد قليل يعد وليس عددا كبيرا تجاوز الحسبة. وهذا القول يدل على أمرين :
أولهما – بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم، فهم الذين يحاسبون ويعاقبون، أما هم فهم فوق الحساب، وفوق العقاب.
وثانيهما – الاستهانة بأوامر الله تعالى، وما يكون وراء ذلك من حساب أو عقاب.
ويبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه، وأنهم لا عهد لهم بذلك فقال سبحانه :﴿ أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فالاستفهام يتضمن النفي، ويتضمن التوبيخ لهم على ما هم عليه، ويتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والمواثيق التي وثقها وأكدها، ومنها رفع الطور عليهم، وأخذهم ما أوتوا بقوة.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون على قدر العمل، والثواب يكون على قدر العمل، فلا ينظر فيه إلى الذات، بل الجميع خلق الله تعالى، ولا يريد سبحانه إلا العمل الصالح، والامتناع عن الشر ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( ٨ ) ﴾ [ الزلزلة ].
ولذا قال تعالت كلماته :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار ﴾ فتضمن الإجابة على قولهم ورده، والإضراب عنه، فالمعنى : تبين كلامكم، وهو باطل مخالف لما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقاب وثواب أنه للأعمال من غير نظر إلى الذوات، بل الجميع على سواء أمام الله سبحانه وتعالى، في الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وذكر العقاب في الرد دون الثواب، لأنهم اجترءوا على الله تعالى فخالفوه، وكفروا بنعمه، وعصوه ظاهرا وباطنا فقال :﴿ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ﴾. الكسب العمل الذي يصير حالا ثابتة قائمة مستمرة، فمن عمل خطأ لا يقال إنه كسبه، ومن عمل إثما عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لا يقال إنه كسبه، إنما يقال إنه كسبه إذا عمل قاصدا مستمرا، حتى يكون له مجرى في قلبه، وينكت فيه نكتا سوداء، فهذا هو الذي يقال له كسب السيئة، والسيئة فيعلة من ساء يسوء سيوئة فهي في أصلها سيوئة ؛ اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء بمقتضى القاعدة الصرفية، والسيئة كل فعل يكون أثره سيئا في الناس أو في الجماعة أو في النفس، فيفسد التقدير، ويكون وبالا، فيظلم نفسه، والناس، ومن حوله.
والخطيئة فعيلة من الخطأ، ولكن هناك فرق بينهما فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء، ولكن لا يتكرر، أما الخطيئة فهي الفعل المقصود الآثم المتكرر الذي يخط في النفس خطوطا، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه، وكأنه يقع غير مقصود، وفي الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاسا، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التي تمرست بالإثم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وأحاطت به خطيئته ﴾ أي أن الخطيئة استولت على النفس، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها.
وفي هذا إشارة إلى أحوال بني إسرائيل وأنهم قد أحاطت بهم خطاياهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبني إسرائيل ﴿ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ الإشارة إلى الذين كان منهم كسب العمل الخبيث، وأحاطت بهم خطيآتهم، واستغرق الشر نفوسهم، فاٌٌٌٌٌٌٌٌلإشارة إلى الذين فيهم هذه الحال، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنهم ﴿ أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
وقد أكد خلودهم في النار بأنهم أصحابها أي الذين يلازمونها، والذين حكم عليهم بصحبتها، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل هم. وكان تأكيد خلودهم وملازمتهم بالصحبة ردا على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم غير مخلدين بل هم أصحابها الخالدون فيها.
وإن الرد على أولئك الذين دلاهم الشيطان بالغرور فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ينتهي إلى هنا إن كانوا يتدبرون ويعقلون.
ولكن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن يقرن ببيان العقاب لأهله، وبيان الثواب لمن عمل الخير وداوم عليه لتكون العظة كاملة، فيها جزاء الخير وجزاء الشر، وكل بما كسب رهين.
قال تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة ﴾. وقد ذكر الإيمان في تأويل بعض الآي الكريمة التي تلوناها آنفا، ومقام العمل الصالح، وقلنا إن الإيمان والإذعان للحق بالإيمان بالله وحده، ورسوله محمد الأمين والرسل أجمعين، والملائكة والجن والغيب كله. وإن الإيمان يستكين في القلب، والعمل ينميه ويزكيه، وقلنا : إن الإيمان كالبذر الطيب الذي يلقى في الأرض لا بد له من سقي ورعي وجو صالح ينمو فيه ويزكو، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بموجب الإيمان، والإيمان من غير عمل كالبذر من غير إنتاج، وإنه يجف بل يموت إن لم يسق بالعمل، ولذلك لا يؤكد القرآن على الإيمان وحده بل يكون معه العمل الصالح، وهو العمل الذي يكون صالحا مصلحا للنفس وللناس، فيه استجابة لداعي الإيمان وكثيرا ما ذكر العمل بوصف الصالح من غير أن نبين ما هو العمل الصالح، وذلك ليضمن كل ما فيه خير للإنسان في الآحاد، والجماعات والأقاليم والإنسانية كلها، وذلك مع القيام بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة، وتعاون اجتماعي في الأسرة والجماعة والدولة، والإنسانية عامة.
وقد قال تعالى :﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٨٢ ) ﴾. الإشارة إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنهم متصفون بهذه الصفات، وقد أكد سبحانه وتعالى استحقاقهم للجنة وأنهم خالدون فيها بعدة مؤكدات :
أولها – الجملة الاسمية لأنها تدل على قوة الحكم، وبقائه.
وثانيها – بالملازمة بينهم وبين الجنة بأنهم أصحابها الملازمون. وأكد سبحانه وتعالى الخلود بضمير الفصل الذي يدل على القصر، والله سبحانه وتعالى يجزي الإحسان بإحسان، وجزاء سيئة سيئة مثلها.
اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم، وإن كنا لا نرجو أن نكون أحسنا، حتى ننال جزاء الإحسان، ولكن نرجو أن تتغمدنا برحمتك الواسعة التي تسع الذين يؤمنون ويتقون.
الميثاق الإنساني على بني إسرائيل
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( ٨٣ ) ﴾
يذكر الله تعالى نبيه والمؤمنين بالميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم، وهو ميثاق يصلح نفوسهم، ويهذب جماعتهم ويجعلهم يتآلفون فيما بينهم، ويألفهم الناس، ويأتلفون، ولكن رضوا النفور بدل الائتلاف، والمنازعة بدل الالتقاء في ظل الرحمة والمودة الجامعة، وإن ذلك الميثاق الذي يذكره الله تعالى لهم هو ميثاق كل الأنبياء.
قال :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ أي اذكروا أيها المؤمنون الميثاق الذي أخذناه على بني إسرائيل، ف "إذ" تدل على الوقت الماضي، فاذكروا وقت ذلك الميثاق الذي أخذناه عليهم، وذكر الوقت ذكر ما يقع فيه واضحا بينا يتصور وجوده، وأنه موجود قائم وليس متخيلا غير واقع.
هذا ميثاق بني إسرائيل، وهو محكم يشتمل على تهذيب النفس والجماعة الإنسانية كلها، وهو ميثاق النبيين في كل العصور وقد اشتمل على أمور :
أولها : وهو لبها عبادة الله تعالى وحده لا يشرك به شيئا، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى ( لا تعبدوا إلا الله ) أي لا تعبدوا غير الله، فالله وحده هو المعبود ولا يعبد سواه، والصيغة في ظاهرها خبرية وهي طلبية بمعنى النهي عن عبادة غير الله تعالى كقوله :﴿ لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده... ( ٢٣٣ ) ﴾، وكقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن... ( ٢٢٨ ) ﴾ وكقوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة...( ٢٣٣ ) ﴾ والتعبير عن الجملة الطلبية بصيغة الجملة الخبرية فيه إشارة إلى أن الإجابة أمر فطري طبيعي، وأنه كان الطلب وكانت الإجابة، فعبر بما هو دال على الإجابة.
والتوحيد دعوة النبيين أجمعين، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون( ٢٥ ) ﴾ [ الأنبياء ] وقال تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( ٣٦ ) ﴾ [ النحل ].
وإن الأمر الثاني – الذي ولى الأمر بالعبادة لله وحده، وهي تطهير النفوس من رجس الوثنية، والأوهام الفاسدة.
الثاني – هو ما يتعلق بالأسرة لأن الأسرة قوام المجتمع يقوم عليها بناؤه، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية متماسكة برباط المودة، والمحبة والإحسان الذي هو غاية المحبة، وإن أول رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه، بالإحسان إليهما ؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾، والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل، وإنه زيادة عن العدل، بل فيه المحبة والرحمة ؛ ولذا يقول الله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان... ( ٩٠ ) ﴾ [ النحل ] والإحسان أصله مصدر أحسن، وهو الإتقان والإجادة، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهم في البر والمكافأة، وأن تزيد في المعاملة الحسنة، عما كان يكون منهما، احتياطا للرعاية والشفقة، والإحسان إلى الناس أن تعاملهم بالمودة الظاهرة، وإفشاء السلام بينهم فخير الإسلام أن تقرأ السلام على من تعرف ومن لم تعرف، وإحسان العمل إتقانه ﴿ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ( ٣٠ ) ﴾ [ الكهف ].
وإن الإحسان إلى الوالدين ابتدأ بهما لأنهما رأس الأسرة، وهما أصل تكوينها، فمنهما تتشعب وتمتد من الأصول إلى الفروع ثم إلى الحواشي ؛ ولذلك كان الإحسان واجبا لكل من يربطهم بهما رحم، وذكر الإحسان إلى ذوي القربى، فكان الميثاق الإنساني العالي الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل فقال تعالى :﴿ وذي القربى ﴾ والقربى مؤنث أقرب، والمعنى أن بعد الوالدين ذو القربى، صاحب القرابة الأقرب مترتبة الأقرب فالأقرب، وذلك يتفق مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل : من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ قال :"أمك. قال : ثم من ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أبوك"١ ثم الأقرب فالأقرب، فمعنى ذي القربى القريب الأقرب ثم يتوالى الأقرب فالأقرب.
والأسرة في الإسلام ممتدة، ليست مقصورة على الأبوين أو الزوجين بل إنها ممتدة تشمل الأقرباء أجمعين، يحسن إليهم الأقرب فالأقرب حتى يعمهم ويبرهم جميعا، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( من أراد أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه )٢، وإن ذلك كله تقوية لبناء الأسرة على التواصل والمودة والرحمة فإن المجتمع الكامل يتكون من أسر قوية وهي لبنة البناء، ولا يتكون بناء قوي إلا من لبنات قوية.
وإن العناية بالأسرة عناية بالجماعة، وإن الوطن لا تتربى محبته إلا في بناء الأسرة، والنزوع الجماعي، والتربية الاجتماعية هي التي تودع النفس الإنسانية محبة الجماعة وحسن التبادل العادل بينها وإنما يبدأ ذلك بالأسرة، وقد أراد بعض الفلاسفة -وسارت وراءهم بعض النظم -أن يمحو الأسرة ويربى الأطفال مع غير آبائهم ليكونوا جميعا منتمين للجماعة.. فنمت أجسامهم، ولكن من غير عواطف إنسانية فمحوا الأسرة، والجماعة معا.
الأمر الثالث – أنه قد اتجه الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل إلى الإحسان إلى الضعفاء فقال تعالى :﴿ واليتامى والمساكين ﴾ واليتيم هو من فقد أباه، فإن الأب هو العائل الكالئ الحامي، ومن فقده فقد انفرد في هذا الوجود، والأم وإن كانت هي الحانية العاطفة التي تغذيه بأنبل العواطف، لا تحميه، وبالفطرة الأولى لا تعوله ؛ ولذلك لا تعوض حماية الأب، وكلاءته.
والمسكين هو الذي أسكنته الحاجة وأذلته، وهؤلاء جميعا الضعفاء، وإنه قد يشمل ابن السبيل أيضا، وهو الذي ينقطع عن ماله، ويكون في بلد بعيد عن بلده فهو قد أذلته الحاجة أيضا.
وفي الحقيقة إن اليتامى والمساكين بهذا العموم هم الضعاف في الجماعة، ورعاية الضعفاء وقاية لبناء الأمة من الانهيار، وإلا كانوا أشتاتا غير متراحمين، يأكل بعضهم بعضا. قدم الإحسان على اليتامى وإن كانوا أغنياء على المساكين ؛ لأن اليتيم ضعيف وإن كان كثير المال وهو ذو حاجة وإن كان غنيا، والإحسان إليه أن يقوم القائم عليه بتربيته، وألا يقهره ولا يذله وأن يضمه إلى عياله.
فإنه إن لم يحط بالعطف والرعاية والمحبة تربى على النفرة من الجماع فيكون الشذاذ والكارهون للمجتمعات ؛ ولذلك كانت النصوص الكثيرة الداعية إلى إكرام اليتيم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم )٣. فاليتامى إكرامهم فيه تقوية للأمة بإنشاء نشء على الخلق القويم.
الأمر الرابع – بعد إقامة الأسرة ومراعاة الضعفاء في هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل وليس خاصا بهم دعا سبحانه وتعالى إلى بناء مجتمع إنساني سليم يعم الإقليم والجنس والناس أجمعين فقال تعالى :﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ وقوله تعالى :﴿ وقولوا ﴾ معطوف على لا تعبدون إلا الله، لأنها مرادف هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بني إسرائيل، وهو يحمل في نفسه موجب تنفيذه، لأنه حقيقة الدين، وهو في أعلى درجات المعاملة، فهل استجابوا وأقروا به، وقد أخذ عليهم بقوة، ورفع الجبل فوقهم ليخضعوا للحق ويذعنوا له ؟ إنهم أعرضوا عنه ؛ ولذلك قال تعالى في حالهم بعد أخذه عليهم :﴿ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( ٨٣ ) ﴾.
التولي الإعراض الذي تدل عليه مظاهر حسية، ومنه قوله تعالى :﴿ أعرض ونأى بجانبه... ( ٨٣ ) ﴾ [ الإسراء ] فالأصل فيه أنه إعراض يدل عليه مظهر حسي، وقوله تعالى :﴿ وأنتم معرضون ﴾ معناها أنهم تولوا بأجسامهم ونأوا عنه بحسهم والمعنى أنهم معرضون مقاطعون لمبادئه وهذا التأكيد للإعراض وأنهم تركوه جملة وتفصيلا من غير أن يقبلوا منه شيئا، وقد أكد سبحانه الإعراض بالتصريح بالإعراض مع أن التولي يتضمن معناه، وأكده بالجملة الاسمية أي أنه مع أنه ميثاق مؤكد، ومعناه قويم ترتضيه العقول وتطلبه، أعرضوا عنه.
والخطاب للذين كانوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ومن سبقوهم ؛ لأنهم شاركوهم في ملتهم، واتبعوهم في توليهم، فكانوا صالحين لأن يخاطبوا بما خوطب به أسلافهم، وبيان حالهم وأمرهم.
وإن الله تعالى حكم عدل يحصي عمل الفاسدين، ويسجل خير الأخيار ؛ ولذلك استثنى في الإعراض فقال :﴿ إلا قليلا منكم ﴾ فهم استجابوا لمقتضى الميثاق ولم يعرضوا وكان الحكم بالتولي ابتداء عليهم جميعا، ثم استثنى سبحانه الذين استجابوا ولكن لقلتهم كان الخطاب لهم جميعا. وقوله تعالى :﴿ ثم توليتم ﴾ التعبير بثم في موضعه من البعد بين الميثاق وما اشتمل عليه من أمور معقولة مطلوبة في حكم الشرع والعقل، ثم يكون من بعد ذلك الإعراض الجافي الشديد منكم، إنه لأمر غريب لو كان من غيرهم.
١ متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الأدب (٥٥١٤) ومسلم: البر والصلة (٤٦٢١) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه". [متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب البيوع (١٩٢٥) ومسلم: البر والصلة والآداب (٤٦٣٩)]..
٣ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه". [أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب – باب حق اليتيم (٣٦٦٩)].
.

سفك دمائهم وإخراجهم وأسرهم
إن اليهود قد أصابهم ما أصاب الأمم من تفكك في وحدتهم، فكانوا يتسافكون دماءهم ويمالئ بعضهم جماعات أخرى بينهم وبينهم حرب، فينضم فريق منهم إلى بعض المتقاتلين، وآخرون إلى غيرهم فيقاتل بعضهم بعضا، في ظل العدوين المتقاتلين، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد بمنع سفك دمائهم، وأخذ عليهم العهد بألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، ومع أن ذلك العهد حفظ لجميعهم وحقن لدمائهم ويفرض التعاون بينهم خالفوه.
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ كان الميثاق ألا يسفك بعضهم دماء بعض فلا يتقاتلوا ولا ينضموا إلى قوم يقاتلون أحدا منهم، وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله :﴿ لا تسفكون دماءكم ﴾ بصيغة الخبر الدالة على النهي وعبر عن التقاتل بينهم بقوله :﴿ لا تسفكون دماءكم ﴾ فنسب السفك المنهي عنه إليهم للإشارة إلى الفعل ليعود على جميعهم بسفك الدماء، وإهدار الأنفس، لأنه إذا كان القاتل والمقتول من أسرة واحدة، فقد قتلت نفسها، وسفكت دمها وأهدرت أهلها.
ومنع سبحانه وتعالى أن يخرج بعضهم من دياره، وعبر عن ذلك المنع بقوله تعالى :﴿ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ فالخبر هنا بمعنى النهي عن ذلك، والتعبير عن إخراج البعض بأنه إخراج لأنفسهم بيان الاجتماع على أن يكونوا أمة واحدة متآزرة بحيث تكون إصابة عضو منها إصابة لجميعها، فإخراج بعضهم لبعض إخراج لكلهم إذ يفرق جمعهم، ولأنه يطمع فيهم أعداءهم، فيخرجهم جميعا، فإخراج بعضهم يسهل إخراج كلهم.
وإن هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى عليهم وأقروا به وشهدوه ؛ ولذا قال تعالى موثقا ذلك الميثاق بقوله تعالى :﴿ ثم أقررتم وأنتم تشهدون( ٨٤ ) ﴾ أي أنتم الحاضرون أقررتم ما أخذ على أسلافكم من هذا الميثاق، وأنتم تشهدون مؤمنين بصدقه.
وكان الخطاب في الإقرار والشهادة للذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم الذين نقضوا العهد ظاهرا، وهم الذين سفكوا دماءهم، وهم الذين أخرجوا فريقا منهم، وإن كان الاحتمال بأن ذلك حصل من بعضهم في الماضي ليس ببعيد فقد تشابه في مخالفة الميثاق الخلف مع السلف، وهم جميعا في إثم مبين، وعدوان ظاهر.
وإذا كان ذلك الميثاق حفظا لوحدتهم ولجمهم فقد نقضوه، وقتل بعضهم بعضا، وأخرج فريق منهم الآخر من داره، ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ﴾ العطف هنا بثم للبعد المعنوي بين الميثاق الذي أخذ عليهم وأقروه بألسنتهم وشهدوا عليه بقلوبهم، وبين الحال التي وجدوا فيها من أنهم قتلوا أنفسهم بأن تقاتلوا فيما بينهم سواء أكان قتالهم لأنفسهم بأنفسهم، أم كانوا قد انضم فريق إلى قوم عدو لقوم آخر وتقاتل الإسرائيليون مع أنفسهم في ظل آخرين، وكان كل فريق من اليهود يعاون من يظاهره من أهل الشرك على قومه بالإثم والعدوان، وفي ذلك سفك لدمائهم.
وإن ذلك التعاون مع آخرين متعادين اقتضى أن يخرج فريق منهم من ديارهم، وذلك لأجل القتال الذي انضم فيه كل فريق من اليهود إلى فريق من المشركين المتقاتلين ؛ لذا قال تعالت كلماته :﴿ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ﴾.
وروي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى :﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ﴾ الآية : أنبأهم الله تعالى بذلك من قبل وقد حرم عليهم سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم مع الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حليفه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما لهم وما عليهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما، ولا بعثا ولا قياما ولا كتابا.
وخلاصة هذه الرواية عن ابن عباس الذي سماه التابعون ترجمان القرآن : أن سفك اليهود لدمائهم كان في العصر القريب للهجرة عندما كانت الحرب مشبوبة بين الأوس والخزرج، وكانوا على شفا حفرة من النار، كما أخبر القرآن العزيز، وأن اليهود لم يقفوا محايدين كما هو واجب الجوار بل تدخلوا ليوسعوا شقة الخلاف ويؤرثوا نيران الحرب لتستمر مستعرة فكان مع الخزرج بنو قينقاع، وكانوا حلفاء لهم، ومع الأوس النضير وقريظة، فتقاتل الفريقان كل في صفه، وأخرج كل فريق من داره، فكان هذا نقضا للعهد الذي أقروه وصدقوه وشهدوه.
وعلى ذلك يكون الخطاب في قوله :﴿ ثم أنتم هؤلاء ﴾ لليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة إليهم، وكانت الإشارة مع الخطاب لبيان الصفات القائمة فيهم، فالمعنى أنتم ترون أنكم تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم.
ومن الغريب أنهم كانوا يتقاتلون غير متأثمين، ولا متحرجين من أن يقتل بعضهم بعضا، ويخرج فريق الآخر من داره ومع ذلك إذا وقع أحدهم في أسر من أي الفريقين فادوه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ﴾ إنهم يظاهرون على إخوانهم بالإثم والعدوان، ومع ذلك إذا جاءوكم مأسورين دفعتم فديتهم لتفكوا عانيهم، للذين كانوا سببا في أسرهم، وشدوا الوثاق عليهم، فلو أن الفريق الذي تحاربون معه أسر أسرى من اليهود الذين يعاونون خصمه، وجاء إليكم هِؤلاء الأسرى فإنكم تدفعون فديتهم لحليفكم الذي أسرهم، وهذا غريب متناقض.. أولا : لأنكم جعلتموهم مقاتلين وسفكتم دماءهم وقتلتموهم فكيف تحمون حريتهم وأنتم الذين أخرجتموهم للقتال بسبب مناصرتكم لحلفائهم، ومناصرتهم لحلفائهم، ولذلك يقول تعالى تنديدا بحالهم وتناقضهم :﴿ وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾.
ومعنى :﴿ تفادوهم ﴾ أي تدفعون دياتهم ؛ لأن فدى يفادي تدل على أحد معنيين إما أخذ الفدية ممن يدفعها أو دفعها، وتفسر هنا بمعنى دفعها، لأنه المناسب للمقام من حيث وقوعهم في التناقض في أوامر دينهم وميثاقهم فهم قد أخرجوا إخوانهم للقتال ومع ذلك إذا وقعوا في الأسر قدموا فديتهم اعتمادا على نص عندهم يقول :( إذا رأيت أخاك الآخر مملوكا فأخرجه من رقه ) وبالتالي إذا رآه مأسورا أخرجه من أسره وإنه كان عليه ألا يكون سببا في إخراجه، وإنه محرم عليه إخراجه فلا يكون سبب الرق لذا قال تعالى :﴿ وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾ والحال والحكم الثابت المبين أنه محرم عليكم قبل ذلك ألا تخرجوهم فيكون ذلك سبب الأسر.
ولذلك قال تعالى مستنكرا حالهم :﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كانت هذه حالكم فأنتم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، والهمزة والاستفهام قدمت على الفاء لأن الاستفهام له الصدارة دائما.
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لأنهم بعملهم هذا يؤمنون ببعض الكتاب وهو تحريم البقاء على الأسر، ويكفرون ببعضه الآخر، وهو تحريم سفك دمهم، وإخراجهم من ديارهم للقتال، فهو استفهام لإنكار الواقع، ولومهم عليه، وبيان أنه تناقض في إيمانهم ينفذون ما يكون هواهم في تنفيذه، ويجحدون بما لا يكون لهم هوى في تنفيذه فاتخذوا إلههم هواهم.
وإن هذا يؤدي إلى هوانهم وذلهم ووصفهم بالعار الدائم ؛ ولذا قال سبحانه ﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ﴾ الخزي : الهوان والعار والذلة، والفاء للترتيب، فإن الأمر الذي يترتب على تسليم أنفسهم لسفك دمائهم وإخراجهم من ديارهم يترتب عليه خزيهم بتسليم أنفسهم، وعار لخيانتهم لأقوامهم، ووراء ذلك كله الذلة وهوان أمرهم بين الناس، وإن ذلك جزاء مأخوذ من العمل في ذاته، ولذلك بين القرآن الكريم أنه لا جزاء سواه، وذلك بالنفي والإثبات بالاستثناء، أي : أن الذين يفعلون ذلك الفعل لا جزاء لهم إلا العار والذلة والمهانة، وإذا كان ذلك هو المتعين جزاء فهو من الفعل في ذاته ؛ ولذلك كانت الإشارة إليه في قوله :﴿ ذلك ﴾إشارة أن الفعل ذاته هو العلة.
والحياة الدنيا هي الحياة الحاضرة، وسميت الدنيا، فهي مؤنث أدنى ؛ لأنها القريبة المرئية المحسوسة، والحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي تكون سعادة دائمة، أو شقوة مستمرة.
وإذا كان ذلك جزاء في الدنيا، فجزاء الآخرة أشد وأبقى ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ ويوم القيامة هو يوم الحساب والعقاب أو الثواب، بعد البعث والنشور، وقوله تعالى :﴿ يردون إلى أشد العذاب ﴾ يفيد بإشارة اللفظ إلى أنه مرجعه إلى عذاب سابق، فالخزي عذاب دنيوي نتيجة لفعلهم، وهذه هي الدفعة الأولى، ويردون بعد ذلك إلى أخرى يوم القيامة فيها أشد العذاب وأنكله.
قد بين سبحانه وتعالى أن حسابهم عند الحكيم العليم الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يغفل عن شيء ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون( ٨٥ ) ﴾ نفى الله تعالى بهذا النص السامي نفيا مؤِكدا أن الله غافل عما يفعلون، فإذا كانوا ينسون ما يفعلون من آثام لاستمرائهم لها، واستمرارهم عليها، فالله تعالى لا ينساها، وقد أكد سبحانه نفي ذلك بالباء في قوله تعالى :﴿ بغافل ﴾ وبنفي وصف الغفلة عن ذاته العلية، بأن الغفلة ليست من شئونه، وقوله تعالى :﴿ عما تعملون ﴾ إشارة إلى إحصائه سبحانه وتعالى أعمالهم حال عملها وحال تلبسهم بآثامها.
تنبيه : هذه الآيات نزلت في بني إسرائيل، والخطاب لهم ابتداء، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لا تتداعى لبناته فيهوي، و النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )١. وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته، فقال :( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته )٢، وقال صلى الله عليه وسلم :( المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه )٣ ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا، وهو امتداد لعصور قبلنا من العصر العباسي إلى اليوم، سفكنا دماءنا بأيدنا لهوى الملوك، وفساد الحكام، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لحية، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه، وصار بعضهم يغري أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء.
ولقد كانت الأرض الإسلامية تلتهم قطعة قطعة، وفي المسلمين أقوياء لا يرون للدين حقا عليهم يوجب أن ينقذوا إخوانهم من المؤمنين، فقد كان النصارى يعذبون المسلمين حتى أفنوهم فيها، والأتراك من النظارة الذين ينظرون ولا يتحركون.
وجاء العصر الأخير، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحارب المسلمين، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم للمسلم، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المقاتل العظيمة في المسلمين من رعيته، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم، وتذهب جماعات إسلامية، وقتا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه، ووجدنا من الملوك من يِؤيدونهم.. اللهم لا حول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قولك الحكيم :﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ( ٨٥ ) ﴾.
١ متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الأدب (٥٥٥٢) ومسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٨٥) واللفظ له، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه..
٢ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة). [ متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المظالم والغصب (٢٢٦٢)، ومسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٧٧)]..
٣ انظر السابق. وروى أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)، ويقول: (والذي نفس محمد بيده ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما))، وكان يقول: (للمرء المسلم على أخيه من المعروف ست: يشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، وينصحه إذا غاب، ويشهده ويسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات، ونهى عن هجرة المسلم أخاه فوق ثلاث) [مسند المكثرين (٥١٠٣) ]..
وإن أولئك الذين يسفكون دماءهم، ويخرجون أنفسهم من ديارهم باعوا آخرتهم بدنياهم، وكانت الحياة الآخرة هي الثمن للدنيا التي اشتروها ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ( ٨٦ ) ﴾ الإشارة إلى الذين سفكوا دماءهم وأخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضوا مواثيق الله التي جاءتهم بالأحكام التكليفية، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تشير إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم الذي يقترن باسم الإشارة، أي أن هؤلاء بسبب أوصافهم قد اشتروا الحياة الدنيا بثمن هو أغلى الأثمان، وهو الآخرة ولكننا نجد أنهم خسروا في الدنيا ؛ لأنهم لحقهم الخزي والعار، وفسدت نفوسهم، حتى صارت كالقردة والخنازير، وإن ذلك حق، ولكنهم فهموا الدنيا متاعا يستمتعون به كالحيوان فاشتروا هذه الدنيا التي زعموها، وتركوا الآخرة فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومع أنهم طلبوا الحياة وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا، بل أخذوه ذليلا مهينا، مصحوبا بالخزي، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها، قال الله تعالى فيهم :﴿ فلا يخفف عنهم العذاب ﴾ الفاء فاء الإفصاح التي تفيد ترتب ما بعدها على ما يفهم مما قبلها، أي أنه بسبب تلك المبادلة الخاسرة التي خسروا فيها الآخرة لا يخفف الله تعالى عنهم العذاب الشديد الذي يستقبلهم ؛ لأن أسباب التشديد من التقاطع والتنابذ والحسد والجحود قائمة، ولا مسوغ للتخفيف قط، ﴿ ولا هم ينصرون ﴾، فلا ترى من نبي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم لأنهم عدموا الشفعاء، وقتلوا النبيين.
استكبارهم على الرسل
ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل، وكيف نقضوا ميثاقا بعد ميثاق حتى ما يتعلق بسلامة جماعتهم، وحمايتهم لأنفسهم. بعد ذلك، ذكر استقبالهم للرسل، وكتبهم فقال تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ﴾، الكتاب الذي أنزله الله على موسى هو التوراة، وليس هو الذي يطلقون عليه اسم التوراة، أولا : لأنه يشتمل على أخبار الأنبياء من بعده داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذين جاءوا من بعده، فلا يمكن بالبداهة أن يكون قد نزل على موسى ما جاء بعده من أخبار نبيين جاءوا من بعده بمئات السنين، وثانيا : لأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا ونسوا حظا كثيرا مما نقل إليهم، ولا يزالون يحرفون، ويغيرون ويبدلون، ويعبثون. وإن الكتاب الذي نزل على موسى هي الأسفار الخمسة، وقد حرفوها وغيروا وبدعوا، ولا يزالون يفعلون. أتى الله تعالى موسى عليه السلام الكتاب الصادق، الذي هو حجة عليهم، وليس ما بأيديهم حجة لهم لأنهم كتبوه بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا ﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( ٧٩ ) ﴾.
وإن الله تعالى أرسل الرسل من بعد موسى، ليؤيدوا ما دعا إليه في الكتاب الذي نزل عليه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وقفينا من بعده بالرسل ﴾ أي جاء بعده رسل تترى، رسولا بعد رسول، فمعنى قفينا أرسلنا رسولا وراء رسول وراء رسول لأن التقفية التتابع بحيث يكون كل رسول في قفا الرسول الآخر وراءه، ومعنى هذا التتابع أن يكون الجميع على نمط واحد، وغاية واحدة، فإن الخط المستقيم المتتابع في نقطة ينتهي إلى نقطة واحدة، وهي الوحدانية، والتكليفات الإلهية الواحدة، كما قال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ( ١٣ ) ﴾ [ الشورى ].
ولقد ذكر بعد ذلك عيسى عليه السلام، وقد بعث في اليهود، أي كانت دعوته الأولى في اليهود، ومعه المعجزات الباهرة فقال تعالى :﴿ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ ذكره سبحانه وتعالى في ضمن الرسل الذين تتابعوا من بعد موسى، وقفاهم الله تعالى به، رسولا بعد رسول، فهو رسول من بينهم، ولكن اختصه تعالى ببينات أي معجزات حسية باهرة قاطعة في الدلالة على رسالته، ولكنهم كفروا، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذه البينات في آيات أخرى من القرآن، منها ما جاء في سورة آل عمران، فقد قال تعالى مبشرا بولادة المسيح عليه السلام، وهي مستغربة أن يكون من غير أب :﴿ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( ٤٧ ) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( ٤٨ ) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( ٤٩ ) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ( ٥٠ ) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( ٥١ ) ﴾ [ آل عمران ].
هذه بعض البينات، وذكرت بينات أخرى في سورة المائدة منها أنه بإذن الله يرد الحياة إلى الموتى، والفاعل هو الله تعالى وأجرى الإحياء على يد عيسى عليه السلام، وأنه ينادي الموتى من قبورهم فيخرجون بإذن الله تعالى العلي القدير، وأنه نزل عليه مائدة من السماء، فكانت آية أخرى.
وفي هذا المقام لا بد من ذكر أمرين :
أولهما – أن اليهود كفروا بهذه الآيات البينات، ولم يذعنوا للحق وحاولوا قتل المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يكون في عداد النبيين الذين قتلوهم، ولكن الله تعالى حماه منهم، وادعى النصارى الذين جاءوا بعد المسيح عليه السلام أنهم قتلوه لأوهام توهموها، وأكاذيب اخترعها بولس الذي كان له عدوا مبينا.
الأمر الثاني – وهو لماذا كانت هذه البينات الخارقة للعادة للمسيح من بين سائر النبيين ؟ وإن كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ما هو أجل وأعظم، وجاء مثلها على يديه، ولكنه لم يتحد بها، بل تحدى بالقرآن العظيم الخليقة كلها في كل أجيالها، ولا يزال يتحدى العصور إلى اليوم.
كانت معجزات عيسى أو بيناته كما عبر القرآن الكريم من هذا النوع ؛ لأن اليهود ما كانوا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعترفون بالروح في كتابهم، ولا في أنفسهم، ولا في دراساتهم الدينية في العصر الذي بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فيه ولا العصر الذي قارنه وسبقه، فكان لا بد من أمر روحي يقرع حسهم وحالهم المادي فكان خلق عيسى عليه السلام، وكان أمرا خارقا للعادة مبطلا سلطان المادة، وكانت المعجزات كلها من الناحية الروحية فهو يخبرهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وهو يبرئ الأكمه والأبرص وهو ينفخ في الطين فيكون طيرا، وهو يحيي الموتى، وهو يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله تعالى، والله تعالى ينزل المائدة فيأكلون منها، كما كان ينزل المن والسلوى على بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وهم يعيشون في سيناء.
هذا بالنسبة لبني لإسرائيل خاصة، أما بالنسبة للعقل البشري عامة الذي عاصر المسيح عليه السلام، وكان في القرون التي قبلها، فهو أنه عصر الفلسفة الأيونية التي تولدت منها الفلسفة اليونانية، وقد كان هذا العصر تسوده فلسفة الأسباب والمسببات فلكل شيء سبب عادي، وكل سبب هو سبب لشيء وأتبع سببا، فالوجود كله يؤثر بعضه في بعض، فالولد يكون من أب وأم، يكون من أصلاب الآباء وبطون الأمهات، والأبرص والأكمه لا يشفيان، ولا يمكن أن يعود الميت حيا، ولا أن يخرج الأموات من قبورهم، وهكذا فكان لا بد من قوارع تبين أن الأسباب والمسببات من الله، الله تعالى أبدعها بديع السموات والأرض، وهو يغيرها، وهو الفعال لما يريد.
لقد تطاولوا حتى قالوا : إن الوجود منشأ من موجده بنظام الأسباب والمسببات، فهو وجد منه وجود المعلول من علته، فهو ليس مختارا حتى في وجوده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فهو القادر المختار المريد العليم السميع البصير، ليس كمثله شيء وهو فعال لما يريد.
كانت معجزات عيسى عليه السلام قاطعة في إبطال الأسباب العادية والمسببات ولوازمها، فتعالى الله، وتقدست ذاته وتنزهت صفاته.
وما يدعى من أن عصر عيسى عليه السلام كان عصر علم الطب لا يؤيده التاريخ، بل كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى وخاطبهم برسالته ومعجزاته كانوا أجهل الناس بالطب كما حكى عنهم الفيلسوف المسيحي رينان في كتابه.
أيد الله تعالى المسيح عليه السلام بالبينات الباهرة، ولكن بني إسرائيل كفروا بها، وأيده عليه السلام بروح القدس، فقال تعالى :﴿ وأيدناه بروح القدس ﴾ وروح القدس هو جبريل رسول الله تعالى إلى رسله، كما قال تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا... ( ٥١ ) ﴾ [ الشورى ] فالرسول الذي يرسله الله تعالى إلى رسله هو الملك جبريل عليه السلام، وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس به خفاء
وقال تعالى :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) ﴾ [ الشعراء ]، وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الوصف، أي الروح القدس أي الطاهر وقد وصف بالأمين، كما ترى في الآية التي تلونا، وليس إلها، ولا ثالث ثلاثة كما قال الذين لا يؤمنون إلا بالأوهام، وهم النصارى الذين يتبعون بولس عدو المسيح، ولا يتبعون المسيح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كفر بنو إسرائيل بالمسيح عليه السلام، وقد أتى بهذه البينات القاهرة، ولكنهم كفروا استكبارا عن إتباعه عليه السلام، ولأن ما جاء به يخالف أهواءهم فهم يريدون الرسول داعيا إلى ما تهوى أنفسهم، والكفر ملازم لكل ما يتبع أهواءهم، ولا يدينون دين الحق الذي يقوم الدليل على صحته، وأنه من عند الله ؛ ولذلك قال الله تعالى في بني إسرائيل :﴿ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ﴾.
والهوى هو الميل إلى الشيء بالانحراف، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوي إلى الخلق الفاسد، وإلى الضلال، ومن بعد ذلك يهوي به إلى النار.
وإنهم يرفضون طاعتهم للحق إطاعة لهواهم ولكنهم يسترون ذلك بالاستكبار، واستصغار الحق ومن يدعو إليه مستعلين عليه، كأنهم هم وحدهم، حملة الرسالة الإلهية ولا يحملها سواهم، لأنهم أبناء الله وأحباؤه ؛ ولذلك كانوا مستمرين في غوايتهم.
قوله تعالى :﴿ أفكلما جاءكم ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها من حكم على ما كان قبلها من كفر متوال مستمر، والهمزة للاستفهام وهو لإنكار الواقع الذي هم فيه، وكلما شرطية تدل على تكرار الفعل وهو الجواب إذا تكرر الشرط، والمعنى يتكرر منكم الاستكبار كلما جاء نبي من الأنبياء بما لا تهوى ولا تحب أنفسكم، وإن ذلك توبيخ لهم لحاضرهم وماضيهم على سواء، لأنهم في الباطل أمة واحدة، يتبع خلفهم سلفهم، ويدين آخرهم بما يدين أولهم، فهم جميعا يستكبرون عن الحق، وحالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم هو حال أسلافهم مع أنبيائهم، فهم استكبروا عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من بني إسرائيل ولأنه لم يجئ بما تهوى نفوسهم.
وإنهم إذ يستكبرون يرتبون من ماضيهم على الاستكبار إما التكذيب المجرد، كما كانوا يفعلون مع الأنبياء، وكما فعلوا مع عيسى عليه السلام، إذ حاولوا قتله، فأنجاه الله تعالى منهم، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله تعالى إليه، وإما التكذيب المقرون بالاعتداء الآثم ؛ ولذا قال تعالى فيما ترتب على الاستنكار :﴿ ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴾.
فالفاء للترتيب، أي ترتب على الاستكبار الآثم أن كذبتم، وأن زدتم على التكذيب القتل، كما فعلتم مع يحيى وزكريا عليهما السلام، وكما حاولتم أن تفعلوا مع عيسى فرد الله تعالى كيدكم في نحوركم.
وقد عللوا تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم :﴿ وقالوا قلوبنا غلف ﴾ وغلف جمع أغلف وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه... ( ٥ ) ﴾ [ فصلت ] وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لا يفقهون بها، فهم لا يدركون، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق، وهم يقولون ذلك القول مصرين على التكذيب ؛ ولذا قال تعالى :﴿ بل لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته، وهو حكم تقريري، مثبت لغلف قلوبهم، والإضراب في قوله تعالى :﴿ بل لعنهم ﴾ إضراب عن قبول اعتذارهم، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية.
ويفسر ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما معنى قولهم في قلوبنا غلف "إن قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره، وقرأ ابن عباس غلف جمع غلاف، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم، ويمنع أن يدخل إليه غيره، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم، ويكون معنى :﴿ بل لعنهم الله ﴾ لعناهم، وطردناهم، فالإضراب في "بل" رد لادعاء العلم بالنبوات، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية، والرسالات الإلهية التي انتهت برسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم١.
وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( ١٥٥ ) ﴾ [ النساء ].
وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها، فقال تعالى :﴿ فقليلا ما يؤمنون ( ٨٨ ) ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به، و"ما" في النص واضح أنها في العدد لا في الإيمان، فالإيمان لا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لا يكون إلا كاملا، فالقلة أو الكثرة في عدد المؤمنين لا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى :﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره : إيمانا قليلا أي ( قلة يؤمنون ) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل الكتاب :﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ( ٦٦ ) ﴾ [ المائدة ] وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( ١١٣ ) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ( ١١٤ ) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ( ١١٥ ) ﴾ [ آل عمران ].
١ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". [متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب المناقب (٣٢٧١) ومسلم: كتاب الفضائل (٤٢٣٩) وغيرهما]..
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( ٨٩ )
ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وهي في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لا يعبدون إلا الله، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وألا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، خوطب أسلافهم بذلك، وكان الخطاب موجها لهم، والميثاق في رقابهم ولذلك ندد بقتلهم أنفسهم، وإخراجهم فريقا منهم من ديارهم.
قال تعالى :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم ﴾ أخبر سبحانه وتعالى أنهم جاءهم كتاب، وهو قد جاء مع رسول من بني إسماعيل عليه السلام بهذا الكتاب، فذكر الكتاب، وهو يقتضي أن يكون مع رسول، فأعلم بالكتاب لأن الأمر أنه كتاب يشتمل على المواثيق مثل المواثيق التي أخذت عليهم، ونقضوها، فهو ميثاق جديد للمواثيق التي جاءتهم من قبل، ولم يذكر اسم الرسول ؛ لأن الاعتبار لهذا الكتاب الذي وصفه تعالى بوصفين أنه من عند الله تعالى، وما يكون من عند الله جدير بأن يتقبلوه بقبول حسن، وأن يأخذوه بمأخذ الطاعة لأوامره ونواهيه، والوصف الثاني أنه مصدق لما معهم فهو مصدق لما جاء في التوراة من وصف للنبي صلى الله عليه وسلم، ومصدق للمواثيق التي أخذت عليهم من ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يحسنوا إلى الأبوين وذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقولوا للناس حسنا من القول، ويترتب على ذلك المعاملة الطيبة، وإن هذا النبي الذي جاء معه الكتاب الذي أنزله الله تعالى، وهو مصدق لما معهم من أوامر ونواه ومواثيق أخذت عليهم بقوة، قد كانوا يعلمون بمجيئه ويتوقعونه.
ومعنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم، كالذي اشتملت من أن نبي الله داود زنى بحليلة جاره، وأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه عشيقته، ذلك إفك بين لا يليق بأخلاق نبي جعله الله تعالى خليفته في الأرض ولا يليق بذي خلق كريم، فهل هذا ما صدق به الكتاب ما معهم، ذلك هو الضلال البعيد، ولن يكون في كتاب منزل من عند الله، ولا يدعيه إلا الذين هوت نفوسهم إلى مثل هذا الحضيض الأوهد من الأخلاق.
وإن اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلنون أنه سيكون نبي، وأنهم يتوقعون أن لا يكون منهم كما ذكر من قبل ؛ ولذلك قال الله تعالى :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ السين والتاء للطلب أي يطلبون الفتح، والفتح هو النصر كما في قوله تعالى :﴿ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده... ( ٥٢ ) ﴾ [ المائدة ] وأطلق الفتح على النصر العادل، لأن النصر يفتح الطريق أمام الحق، وقد بشر الله تعالى بالنصر في قوله تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( ١ ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ( ٢ ) وينصرك الله نصرا عزيزا ( ٣ ) ﴾ [ الفتح ].
كان اليهود إذا كانوا في حرب مع المشركين ممن يجاورونهم في المدينة يطلبون النصر بالنبي الذي حان حينه وحل، وأوانه ويحسبون أنه سينصرهم على المشركين ؛ لأنه سيجيء بمحو عبادة الأوثان وتحطيمها.
روى محمد بن إسحاق بسنده عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم : فينا والله وفيهم، ( يعني في الأنصار واليهود الذين كانوا جيرانهم ) نزلت هذه الآية :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، وهم يقولون : إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله، وكان من قريش آمنا به واتبعناه وكفروا به.
ولم يكن ذلك الاستفتاح بين اليهود من بني النضير وجيرانهم في المدينة، بل كان بين اليهود، وغيرهم في داخل الجزيرة، يروي ابن عباس رضي الله عنهما أنه كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود خيبر فدعت بهذا الدعاء. وقالوا :"إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه إلا تنصرنا عليهم" فكان إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان.
كان معروفا عند اليهود ذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يستفتحون به ويدعون الله بحقه أن ينصرهم، ولكنهم كسائر أسلافهم يتبعون أهواءهم، فلما جاء من غير قبيلتهم أنكروا معرفتهم، وادعوا أنه لا ينطبق عليه أوصاف من كان يستفتحون به، وهم كما قال تعالى :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم... ( ١٤٦ ) ﴾ [ البقرة ].
ولذا قال تعالى :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾، الفاء للترتيب أي أنهم مع هذا الاستفتاح ترتب نقيضه وهو أنهم لما جاءهم الذي عرفوه جحدوه وكفروا به، فهم رتبوا على الشيء نقيضه وبدل أن يذعنوا للحق الذي عرفوه أنكروه وكفروا به، وهكذا شأنهم هم وأسلافهم دائما يعرفون الحق ويكفرون به، عرفوا باطل فرعون ومع ذلك اتخذوا العجل.
عبر قوله تعالى عن إدراكهم للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمهم به بأنهم عرفوه، والمعرفة هي العلم الجازم المطابق للواقع عن دليل، ومع ذلك كفروا به، فكانوا مطرودين عن رحمة الله، والحق الذي جاء به النبيون، ولذا قال تعالى :﴿ فلعنة الله على الكافرين ﴾ الفاء للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر مؤداه إذا كانوا قد كفروا بما عرفوا واستيقنوا فلعنة الله تعالى عليهم، وأظهر في موضع الإضمار للتصريح بأنهم صاروا في عداد الكافرين، وخرجوا عن دائرة المؤمنين الذين يؤمنون بأي شيء في كتابهم فهم قد كفروا بكتابهم وبما عندهم واللعنة هي الطرد، ووراء الطرد المذلة، وإن كفرهم هو السبب في طردهم وذلتهم.
﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ﴾ بئس من أفعال الذم كنعم من أفعال المدح، ويكون معها تمييز ثم يعقبه المخصوص بالذم أو المدح كأن تقول : نعم محمد رجلا، ف"رجلا" تمييز ومحمد المخصوص بالمدح أو الذي يمدح. وقد تكون "ما" هي التمييز فتكون نكرة تامة بمعنى شيء مذموم.
ف"ما" – هنا على ما يخرجه النحاة نكرة موصوفة بالذم – لما اشتروا به أنفسهم – ويكون المعنى بئس شيئا مذموما، والمخصوص بالذم هو أن يكفروا بما أنزل الله بغيا.. إلى آخره. فاشتروا هنا بمعنى باعوا، أي أنه بئس هذا الفعل الذي باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل بغيا ظلما وحسدا وحقدا.
هذا ما يقوله النحويون في "ما" ونحن لا نرى مانعا من أن تكون اسما موصولا بمعنى الذي، فيكون المعنى بئس الذي باعوا به أنفسهم فقد باعوها بأمر حقير مضرته شديدة وهو أن يكفروا بما أنزل الله تعالى من قرآن كريم هاد إلى الرشاد وإلى سواء السبيل، وقوله : بغيا مفعول لأجله أي لأجل ما في نفوسهم من حسد أدى إلى ظلم شديد، والبغي في أصله طلب الشيء بشدة، إرضاء لهوى، وأن ذلك يؤدي إلى أن يطلب الشيء بغير حله، وإلى الظلم ؛ ولذلك أطلق البغي على الظلم الذي يبتغى ويطلب في حرص ولذا يقول تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( ٩٠ ) ﴾ [ النحل ]. وإن ذلك البغي الناتج عن الهوى والحسد هو أنهم يكرهون أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ومعنى النص الكريم ﴿ أن يكفروا بما أنزل الله ﴾ لأجل البغي المستكن في نفوسهم، وهو كراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
فهم ارتكبوا إثمين كبيرين بذلك :
أولهما – الكفر بما أنزل الله تعالى وذلك إثم في ذاته، وهو كفر مبين ؛ لأن من ينكر ما أنزل الله تعالى وقد قامت بيناته، وعرفوه من قبل في كتبهم فقد كفر كفرانا مبينا..
وثانيهما – أن الباعث إثم عظيم واغترار، بأنهم المختارون وحدهم لرسالة الله – فمعنى ﴿ من فضله ﴾ أي من رسالة ربه، فهي من فضل الله، والله ذو الفضل العظيم، يختص برحمته من يشاء والله أعلم حيث يجعل رسالته.
إن اليهود يحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه جاء من ولد إسماعيل لا من ولد إسحاق، يريدون أن يكون خاتم النبيين من ولد إسحاق، فهم يكفرون بما أنزل الله تعالى لأنهم يكرهون أن ينزل الله رسالته على من يشاء من عباده، فهم يريدون أن تكون إرادة الله تعالى على هواهم في إرسال الرسل، وقد بين الله تعالى أن ذلك أدى إلى غضبه عليهم، وبعدهم عن رحمته ؛ ولذا قال تعالى :﴿ فباءو بغضب على غضب ﴾ أي فرجعوا وكانت النتيجة لهذا البغي والحسد، أن نزل بهم غضب، والمراد أنهم باءوا بغضب متزايد متكاثر شديد لتزايد أسبابه، وتعدد دواعيه، وبواعثه.
ويقول فخر الدين الرازي :"إن غضب الله تعالى يتزايد ويكثر فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال متعددة".
وقد كفر اليهود الذين خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم مرتين كما أشرنا ؛ إحداهما – بكفرهم بما أنزل الله تعالى، وقد عرفوه من قبل، وكانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، والثانية – أنهم يريدون أن يكون أمر الله تعالى في رسله على هواهم.
ولذلك قال تعالى :﴿ فباءو بغضب على غضب ﴾ والغضب يكون حالا تليق بذات الله تعالى يتجلى في عدم رضاه وإنزاله العذاب بمن يغضب عليه وطرده من رحمته ولعنه، وكل ما يذكر الله تعالى من صفات وأحوال يتشابه أسماؤه مع ما يتصف به من صفات وما تكون عليه من أحوال لا يكون مشابها لنا، بل يكون أمرا يليق بالذات العلية :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ١١ ) ﴾ [ الشورى ] تعالى الله عن مشابهة الحوادث.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينزله بهم سبحانه من عذاب فقال تعالى :﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ أي عذاب يوقعهم في الذل والمهانة، وذكر سبحانه وتعالى العذاب لهم بأنه مهين مذل موقع في المهانة ؛ لأنه عقاب لاستعلائهم الكاذب، وغرورهم حتى حسبوا أن الله تعالى يتصرف كما يهوون، وكما يبتغون، والله تعالى القاهر فوق عباده وهو الحكيم العليم.
وإن الله يذل دائما كل من يتطاول، ويتسامى بغرور، روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله )١.
ونحن نقول مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم، متبعين له : اشتد غضب الله على كل عتل جبار أذل البلاد، وأفسد العباد، وأنه القادر الذي ليس فوقه أحد.
١ أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (٩٩٨٧) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله نبيه – وقال روح: قتله رسول الله واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك؛ لا ملك إلا لله عز وجل".
وهو متفق عليه رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: "أخنع اسم عند الله وقال سفيان غير مرة أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك". قال سفيان: يقول غيره: تفسيره شاهان شاه. وهذا لفظ البخاري: الأدب (٥٧٣٨)، وبنحوه عند مسلم: الآداب (٣٩٩٣)..

وإن اليهود سيرا على غلوائهم وزعمهم الفاسد أنه لا نبي إلا من بينهم. إنهم يبغون حسدا لغيرهم إذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا، ولذلك قال تعالى فيهم :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه ﴾.
كان الكلام للغيبة، ولم يكن بالخطاب لأنه للحاضرين من بني إسرائيل إذ هم الذين يعتذرون ذلك الاعتذار وبه يجحدون ذلك الجحود، وكان الكلام بالغيبة فيه تنديد بهم وبأسلافهم من قبل، وقوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم ﴾ بالبناء للمجهول لكثرة القائلين، فكتبهم تقول لهم ذلك، وهم أنفسهم كانوا يقولون ذلك، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يدعونهم، وحلفاؤهم من المؤمنين كانوا يدعونهم، فكثر القائلون، وإن البناء للمجهول له معنى آخر، وهو تركيز القول على ما يكون من ردهم للداعي فهذا موضع اللام، فلا لوم على من قال، فلا حاجة إلى ذكره، إنما اللوم كله في ردهم.
القائل يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل فيقول آمنوا بما أنزل الله تعالى، فالله هو الذي أنزله وهو جدير بالإيمان به، لأنه من عند الله والكفر به كفر بالله تعالى.
وردهم نؤمن بما أنزل علينا، أي لا نرى الإيمان إلا بما أنزل علينا نحن مع أن المنزل واحد، وهو الله تعالى ولكنهم يغالون في إتباع هواهم وشهواتهم، فيزعمون أنه لا أنبياء إلا فيهم وإنهم يكفرون بما وراءه، أي بكل ما جاء بعده، فوراء يبين ما جاء خلفهم وبعدهم كما كفروا من قبل بعيسى عليه السلام.
ويبين الله تعالى أن ما أنزل من القرآن هو الحق وهو مصدق لما معهم، فقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين أحدهما ذاتي وهو الحق أي أنه ثابت في ذاته ما أتى إلا بأمور ثابتة يقرها العقل، وتقرها الفطرة، وتدل عليها البينات وهو ذاته معجز، مثبت وجوده بنفسه، لا يحتاج إلى بينات وراءه، والثاني إضافي وهو أنه مصدق لما تضمنته المواثيق التي أخذت عليهم، وهذا الوصف يرد زعمهم الفاسد، بإثبات عدم المغايرة بين ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل، وبين ما عندهم ؛ فالأصل واحد وأن تفريقهم بين ما أنزل الله من قرآن، وما أنزل عليهم تفرقة بين شيئين غير متغايرين إن كانوا يؤمنون حقا بالحق من كتبهم.
ولكنهم قوم لا يؤمنون بشيء لا بما عندهم، ولا بما أنزل الله من قرآن كريم ؛ ولذا قال تعالى مثبتا كفرهم بكل شيء، بالوقائع التي كانت من أسلافهم، وارتضوها هم، فقال تعالى :﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ﴾. والمعنى : قل لهم يا نبي الله، إن كنتم تزعمون أنكم آمنتم بما عندكم، فلم تقتلون أنبياء الله ؟ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم، وذكر الأنبياء مضافا إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل، فقد قتلوا زكريا ويحيى، وهما من ولد إسحاق، وإنه إذا كان عندهم بقية من إيمان فما كان يصوغ قتل أنبياء الله ؛ ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي أن ما كان منهم في ماضيهم وأمره حاضرهم يتنافى مع صفات المؤمنين وذلك تنديد بهم، وبيان أنهم لم يؤمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، ولا يؤمنون بما عندهم.
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ( ٩٢ )
تبين في الآيات السابقة أن بني إسرائيل كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين وأنهم قرروا في ذاتهم ألا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم، فلا يؤمنون بالقرآن وإن جاء مصدقا لما معهم، وذلك الكفر أكبر العناد، وفي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أن العناد فيهم منذ أرسل موسى إليهم، لقد أتى لهم ببينات حسية قاطعة في الدلالة على أن موسى أرسله الله تعالى لإنقاذهم.
ولقد أوتي عيسى بينات كثيرة وكفروا به وحاولوا قتله، ولم يمكنهم الله تعالى منه، فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وموسى عليه السلام أتى لهم بمعجزات حسية بلغت تسعا، فقد قال تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم... ( ١٠١ ) ﴾ [ الإسراء ] ومنها العصا التي أبطلت سحر الساحرين، والتي ضرب بها البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، والتي ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، ومنها ما ظهر بين أيديهم مما جرى لفرعون وقومه، وقد قال الله تعالى في سورة الأعراف :﴿ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ( ١٣٢ ) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( ١٣٣ ) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ( ١٣٤ ) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ( ١٣٥ ) ﴾ [ الأعراف ]، ولما خرجوا إلى سيناء ظللتهم السحاب من هجيرها، وأمدهم الله تعالى بالمن والسلوى.
جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالبينات القاهرة الظاهرة المحسوسات، ومع وضوحها وظهورها ﴿ اتخذتم ﴾ أي اتخذوه معبودا وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم، ولذا قال تعالى :﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ﴾ وقد أشرنا إلى بعضها أو جلها، ثم قال تعالى مخاطبا الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم في تفكيرهم وجحودهم وعنادهم امتداد للسابقين يحذون حذوهم، وما يعملونه صورة مما عملوا والباعث واحد، ﴿ ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ والعطف بثم للمفارقة الواجبة بين ما تقتضيه الآيات الحسية الظاهرة من إيمان واتخاذهم العجل معبودا، وهو لا يضر ولا ينفع، ولا عذر ولا مبرر إلا أن يكون التقليد لفرعون وآله وقومه الذين عبدوا العجل وكانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم لأهوائهم وشهواتهم.
وقد قال تعالى :﴿ وأنتم ظالمون ﴾ ولم يقل سبحانه وتعالى : وأنتم كافرون ؛ لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه، فقد ظلموا أنفسهم بأن أعطوا قوة الحق، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم فهو كفر يتضمن ظلما، وكما قال تعالى في آية أخرى :﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ٥٧ ) ﴾ [ البقرة ].
هذه حالهم مع موسى الذي دفعه الله تعالى لإنقاذهم مع ما جاءهم من البينات، فكيف يمكن أن ينتزع الضلال من قلوبهم بالقرآن الكريم يا محمد، فلا تأس على القوم الفاسقين.
إن اليهود لا يؤمنون بشيء مهما تكن قوة أدلته ومهما تكن قوة الدعوة إليه. لقد رأينا الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى أنها بلغت تسعا، وكلها حسي قاهر، وفيه نعمة النجاة والرعاية الكاملة حتى ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ثم بين بعد ذلك قوة الدعوة إلى الحق فقال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا ﴾ دعوة إلى الحق الذي قامت أدلته بميثاق أخذه الله تعالى، وأخذه وقد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة أظلتهم وطالبهم الله تعالى على لسان كليمه أن يأخذوه بقوة أي بجد، ولا ينحرفوا عنه، وأن يسمعوا إليه ولا يخالفوه.
اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق، فهل أجابوا ؟.
﴿ قالوا سمعنا وعصينا ﴾ هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم. وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا :﴿ سمعنا ﴾ تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم، ﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم، ﴿ واسمعوا ﴾ فإنه لا بد أن يكون الجواب ﴿ سمعنا ﴾، أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا :﴿ وعصينا ﴾ فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم، والعهد قريب، ولذلك قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لا بلسان المقال، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم.
ويصح أن نقول : إن عصينا القلبية كانت مقارنة لسمعنا، أي أنهم قالوا سمعنا، وقلوبهم جافية معرضة كأنها تنطق بحالهم، وهو عصينا فكأنهم سمعوا، وهم على نية العصيان فقلوبهم جافية عن الاتعاظ بما يسمعون.
ولقد كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان :﴿ واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾. بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف المضاف تقديره حب العجل، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف فذكر القلوب، والقلوب لا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف، والقلوب تنكث فيها المفاسد، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( تعرض الفتن على القلوب عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ).
وبعد المتفقهين في اللغة قالوا : لا حاجة إلى تقدير محذوف ؛ لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة، وإلى أن تكون صورته في قلوبهم لا تفترق عنها، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة، أي خالطت أجزاءه، وتغلغلت فيه، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب، لا تنفصل عنه، وهذا نوع من الاستعارة، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها.
وكلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم، فالشيطان زينه لهم، وسول لهم عبادته، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه، والعشرة مستمرة لهم مع مظالمهم، وضلال نفوسهم كل هذا سهل سريان عبادة العجل إليهم ؛ ولذلك قال بكفرهم، أي بسبب كفرهم المستكين في نفوسهم، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقولهم :﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين واجهوه ( النبي صلى الله عليه وسلم ) بقولهم :﴿ قالوا نؤمن بما أنزل علينا... ( ٩١ ) ﴾ [ البقرة ] وهذا القرآن الكريم بين ما يدل على أنهم لا يؤمنون بشيء حتى تركوا ما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بما عندهم، وهذه صورة من الإيمان بما عندهم ﴿ بئسما ﴾ دالة على ذم ما يأمرهم به إيمانهم الباطل، وهذا تهكم شديد على حالهم وعلى ما يتصورونه إيمانا بما عندك، كقوله تعالى حكاية عن قوم شعيب له :﴿ أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا... ( ٨٧ ) ﴾ [ هود ]، وقوله تعالى :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن كنتم في الماضي والحاضر مؤمنين، وبيان أن إيمانهم موضع شك بل لا إيمان.
كان السبب في غرورهم، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك قالوا :﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... ( ٨٠ ) ﴾ [ البقرة ] وقد تلونا ذلك من قبل.
وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم مؤمنون، ويواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بكفرهم به فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت قال تعالى :﴿ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه، خالصة لكم من دون الناس، أي أنكم في منزلة والناس دونكم، ولا تكون إلا لكم ؛ لأن غيركم من الناس – سواء كانوا أتباع محمد أم لا – هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها، إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم ؛ لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول، أن يسرع في الذهاب إليها، وإنها جنات ونعيم مقيم، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون.
وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها :
الأولى : في كلمة ﴿ لكم ﴾ فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لدعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.
الثانية : الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.
الثالثة : الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون ؛ ولذلك كانت أداة التعليق إن في قوله :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه.
تنبيه : يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى :﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا... ( ٩٠ ) ﴾ [ البقرة ] وقوله تعالى :﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم... ( ٩٣ ) ﴾ [ البقرة ] وفي قوله تعالى :﴿ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله ﴾.
لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك ؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا – والله هو الحكيم العليم – إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام ؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم.
ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم، ويعلمون كذبهم ؛ ولذلك ليست الجنة لهم، ولذا لا يتمنون الموت، فقال تعالى :﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ﴾ نفى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا، وأكد ذلك النفي ب"لن" الدالة على النفي المؤبد، وبقوله سبحانه وتعالى :﴿ أبدا ﴾ وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم كاذبون في قولهم :﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... ( ٨٠ ) ﴾ [ البقرة ].
وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر، وما قدمه أسلافهم، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها.
وقوله :﴿ بما قدمت أيديهم ﴾ الباء للسببية، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم، من كفر قلوبهم، وجحودهم بآيات الله تعالى، واعتدائهم في يوم السبت، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك، ومن كفرهم ألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به، ولكن لماذا عبر بأيديهم، دون أنفسهم ؟ ونقول :
أولا – يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل، فهو الذي به البطش والاعتداء، وارتكاب المآثم الجماعية.
وثانيا – فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم، فهم أيد باطشة آثمة، وليس لهم قلوب مدركة عالمة.
ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم، فقال تعالى :﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم، وبين عظيم علمه، ودقة علمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال :﴿ عليم بالظالمين ﴾ ؛ ليسجل عليهم وصف ظلمهم، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجية لهم.
ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى، وهو طلب تمني الموت، وامتناعهم في سورة الجمعة :﴿ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( ٦ ) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( ٧ ) ﴾ [ الجمعة ] والفرق بين النصين، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر، في أمرين :
الأمر الأول – أن الشرط في الآية الكريمة التي تتصدى لتعرف معناها شرط كبير، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بلن، والشرط خال من معنى زعمهم.
الثاني- أن الآية الثانية كان الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس، فكان النفي ب"لا"، وهو دونه ؛ فكان النفي ب"لا" لا ب"لن" على مقدار الشرط، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم.
وبعد ذلك التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة، وأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا، وأنه يرتقبهم خير ؛ ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا ؛ لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها، ولا يرجون خيرا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى، فقال تعالت كلماته :﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ﴾.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة، وذكر سبحانه وتعالى "حياة" في قوله تعالى :﴿ على حياة ﴾ لتعميم معنى الحياة، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز، وسواء كانت حياة استبداد أم كانت حياة حرية، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها، أم كانت بكرامة من غير مهانة. وإن هذا يدل على كمال الحرص.
قال تعالى :﴿ ومن الذين أشركوا ﴾ أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا، ومن الذين أشركوا، وهم الوثنيون، وخصوا بالذكر، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية.
وهم أحرص من المشركين على الحياة ؛ لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة، أما المشركون من العرب فإنهم لا يريدونها إلا عزيزة لا ذلة فيها، وشاعرهم الجاهلي يقول :
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل
ولذلك كانوا أحرص على حياة، والمشركون يحرصون على حياة عزيزة كريمة، وإن كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور، ولا حساب ولا عقاب، ويصور الله سبحانه وتعالى حرصهم على الحياة بقوله تعالت كلماته :﴿ يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ﴾ يود هنا بمعنى : يتمنى أحدهم، أي أحد اليهود، لو يعمر ألف سنة. ولو هنا مصدرية وهي التي تجيء بعد التمني كقوله تعالى :﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ( ٩ ) ﴾ [ القلم ] فهنا "لو" مع الفعل بعدها مصدر غير أنها لا تنصب ( مثل أن ). وذكر ألف عام لأنه أكبر عدد في زعمهم..
طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بني أمية، فأعطاه ألفا، فقال له قائل : لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك، فقال : ولو كنت أعلم أن فوق الألف عدد لطلبته، فالألف كناية على أكبر عدد.
ومع أنهم يودون الحياة إلى أقصى أمد، ألفا أو أكثر، فإن العذاب ملاقيهم، ﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم... ( ٨ ) ﴾ [ الجمعة ] بالعذاب الذي يستقبلكم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ﴾ الزحزحة الإبعاد أو الإزالة، وهي تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه كقوله تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز... ( ١٨٥ ) ﴾ [ آل عمران ].
و"ما" في قوله :﴿ وما هو بمزحزحه من العذاب ﴾ النافية، والباء دالة على استغراق النفي، وهي زائدة في الإعراب لها دلالة في المعنى، والضمير "هو" يعود على الأحد الذي يود أن لو يعمر ألف عام أو أكبر عدد ممكن، والمعنى على هذا التخريج : وما هو ؛ أي هذا الشخص بمبعده ولو بمعاناة ومعالجة عن العذاب تعميره، فالمصدر المكون من ﴿ أن يعمر ﴾ فاعل لمزحزحه، وقد أكد سبحانه وتعالى النفي بإعادة الضمير لتأكيد النفي، وبالباء، وبكلمة مزحزح.
وما ذلك النفي المؤكد لوجود العذاب مهما طال الزمان إلا لأنه ارتكب من الخطايا ما يستحق ذلك، والله تعالى عليم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ ولذا ختم الآية بقوله تعالى :﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ والله ذو الجلال والإكرام القادر القاهر الفاعل المختار بصير أي عالم علم من يبصر على مثال ما به الناس، بما يعملونه من شرور وآثام وجحود بآيات الله تعالى في ماضيهم وحاضرهم، ومنزل من العذاب بمقدار ما يستحقون. ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
عداوة الملائكة
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ( ٩٧ )
قال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : أجمع مفسرو السلف على أن هذه الآية وما بعدها نزلت ؛ لأن اليهود يعدون الروح القدس جبريل الأمين عدوا لهم ؛ لأنه ينزل بالعذاب والهلاك، وأن ميكائيل وليهم لأنه ينزل بالغيث والرحمة، وتعددت الروايات عن الصحابة في ذلك، وكلها ينتهي إلى أنهم واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم بأن جبريل وهو ولي النبي صلى الله عليه وسلم، هو عدوهم، وأن ميكائيل وليهم، وأنهم لهذا يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه.
ولئن صحت هذه الروايات أو بعضها ليكونن مؤداها أنهم يتخذون تعلة لكفرهم سواء أكانت التعلة مقبولة في العقل أو مرذولة، ومهما يكن فقد رد الله تعالى قولهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد قولهم بقوله تعالى :﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ﴾ أي إذا كان جبريل عدوا لكم فأنتم تعادون الله تعالى ؛ لأن الله تعالى اختاره رسولا أمينا لنزول القرآن فما نزل القرآن بغير إذن الله تعالى إنما نزله على قلبك بإذنه سبحانه وتعالى.
وعبر سبحانه وتعالى بقوله :﴿ على قلبك ﴾ بكاف الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقول قلبي، لبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكي قول ربه، ولتأكيد معنى قوله تعالى بإذنه.
والضمير الأول في ﴿ فإنه ﴾ يعود على جبريل عليه السلام، والضمير الثاني في ﴿ نزله ﴾ يعود على القرآن باعتبار أنه حاضر للذهن ؛ لأنه ذكر في السياق في قوله تعالى من قبل :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله... ( ٨٩ ) ﴾ وقوله :﴿ مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ﴾ يعين أن الضمير يعود على القرآن الحاضر في الأذهان.
وإنه مع قبول الروايات التي انتهى المفسر السلفي فيها إلى إجماعهم من أن اليهود كانوا يعدون جبريل عدوا، فإنا نرى من المعاني القرآنية والإشارات البيانية أنهم كانوا يجعلونه عدوا ؛ لأنه نزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لسفه عقولهم وفساد تفكيرهم، فرد الله عليهم بأنه هو الذي نزل القرآن بإذن الله، فلا محل لعداوته، فعادوا من أنزله، ولكن سوء ظنهم جعلهم يحملون جبريل عليه السلام التبعة، وإذا كان نزول القرآن سببا للعداوة، فاتخذوا الله عدوا، ولا غرابة في ذلك ممن اتخذوا العجل وليا لهم.
ويكون المعنى الذي يفهم من الآية : لقد اتخذتم جبريل عدوا لما انتحلتم من كذب بأنه ينزل بالهلاك أو نحو ذلك، إنما اتخذتموه عدوا ؛ لأنه ينزل بالقرآن على قلب النبي عليه السلام وإذا كان نزول القرآن هو السبب فإنه يكون الله هو العدو ويكون قوله تعالى :﴿ من كان عدوا لجبريل ﴾ شرطا، ويكون قوله تعالى :﴿ فإنه نزله على قلبك بإذن الله ﴾ تعليلا لجواب الشرط المحذوف إذ تقديره، فإنه عدو لله تعالى ؛ لأنه الذي نزله على قلبك بإذنه.
والتعبير ب"قلبك" أي أن التنزيل على قلبك للإشارة إلى أن القرآن ينزل على القلب ليحفظ في الصدور، لا أن يكتفى فيه بالسطور ؛ لأن السطور يجري فيها التصحيف والتحريف، أما ما يحفظ في القلب فإنه في أمان لا يجري فيه تغيير ولا تبديل ؛ ولذا قال تعالى في نزول القرآن الكريم وتلقي قلب النبي صلى الله عليه وسلم له، ثم حفظه قلوب الصحابة من بعده في سور القيامة :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ( ١٦ ) إن علينا جمعه وقرآنه ( ١٧ ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( ١٨ ) ثم إن علينا بيانه ( ١٩ ﴾ [ القيامة ].
هكذا بين الله تعالى طريقة نزول القرآن على القلب ليحفظه ويحتويه ثم يحفظه أصحابه، ثم يتواتر من بعده ذلك محفوظا، وإن كان مع ذلك مكتوبا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم١.
وصرح القرآن بأن نزول جبريل به يكون متجها إلى قلب النبي عليه الصلاة والسلام في آيات أخرى، فقد قال تعالى :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين ( ١٩٤ ) ﴾ [ الشعراء ].
ولقد قال في وصف القرآن الكريم الذي نزله بإذن الله جبريل على قلبه بأنه مصدق، وقوله تعالى :﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ والمراد بما بين يديه من الكتب التي أنزلها تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم، والتعبير ببين يديه كناية عن أنه أمامه فما يكون أمام الإنسان يكون بين يديه سابقا له، فهو مصدق لكل ما اشتملت عليه الكتب السابقة التي لم يجر بها تحريف، ولم ينس فيها حظ مما ذكروا به.
وكان حقا عليهم ألا يعادوا الملك الذي اتخذه الله تعالى روحا أمينا نزل به، ولكنهم أعداء الحق دائما عادوا موسى وربه إذ كفروا بأنعم الله تعالى.
وقال تعالى في وصف الكتاب :﴿ وهدى ﴾ أي فيه الهداية إلى الحق في ذاته، وفيه البشرى بالنعيم المقيم للمؤمنين الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق إذ جاءه، وهو مع ذلك شفاء للقلوب ﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين... ( ٨٢ ) ﴾ [ الإسراء ].
١ عن البراء قال لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادع فلانا" فجاءه ومعه الدواة واللوح، أو الكتف، فقال: "اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله" وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم: يا رسول الله أنا ضرير، فنزلت مكانها (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله). [رواه البخاري، واللفظ له: تفسير القرآن (٤٢٢٨) ومسلم كتاب الإمارة (٣٥١٦)].
وعن زيد بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه – وكان ممن يكتب الوحي قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك؛ كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم) إلى آخرهما وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. [أخرجه البخاري: تفسير القرآن (٤٣١١)] ورواه الترمذي وأحمد بنحوه.
.

وإن الله سبحانه وتعالى بعد أن بين عداوتهم لجبريل ؛ لأنه الروح الأمين الذي نزل بالقرآن، بين سبحانه أنه من كان عدوا لله تعالى وملائكته، وكتبه ورسله، فإن الله عدو للكافرين.
في هذا النص الكريم إثبات أن من كان عدوا للملائكة أو لواحد منهم، ومن كان عدوا للكتب التي أنزلها التي لم تحرف والرسل الذين أرسلهم رحمة للعباد، وهداية لهم فهو عدو لله تعالى، وهو كافر، والله تعالى عدو للكافرين، ابتدأ الله تعالى بذكر عداوة الله تعالى فقال :﴿ قل ﴾ يا محمد أيها البشير النذير ﴿ من كان عدوا لله ﴾ فابتدأ سبحانه بلفظ الجلالة الكبير في ذاته خالق الوجود، وخالق الملائكة والجن والإنس، والشمس والقمر والسموات والأرض ابتدأ بذكره جل جلاله لبيان أن من عاداه، فقد تعرض لأعظم نقمة وأشد ضلال وخروج عن الحق، فالابتداء به سبحانه وتعالى لبيان أعظم خطورة يتعرضون لها بجهلهم وفساد نفوسهم وضلال فكرهم.
وثنى سبحانه بالملائكة، وأضافهم سبحانه وتعالى إليه للإشارة إلى أن عداوتهم هي عداوة له فهم يعادونه ابتداء بمعاداة ذاته العلية، ثم يعادونه ثانيا بمعاداة ملائكته الذين خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم في الملكوت.. ثم ثلث بكتبه التي أنزلها هداية للناس ورحمة، وشفاء لأدواء الجماعات، ونسبها سبحانه وتعالى إليه إشعارا لهم بأن عداوة هذه الكتب عداوة لله تعالى لأنها هجر لكلامه، ورد لرسالته، وأي ذنب أقبح من عداوة رسالات الله تعالى التي شرفت بإرساله واحتوت على البينات والحكم الباهرة، ثم بين بعد ذلك عداوتهم لرسله الأكرمين، وأنها عداوة لمن أرسلهم، فمن عادى الرسول فقد عادى من أرسله مبشرا ونذيرا، وداعيا إليه وسراجا منيرا.
وذكر سبحانه وتعالى عداوة جبريل وميكائيل وخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في عموم الملائكة ؛ لأن الله تعالى خصهما بالشرف والتفضيل على غيرهما من الملائكة وهو يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم، ولأن جبريل كان روح القدس الأمين الذي نزلت عن طريقه الرسالات الإلهية على من أرسلهم مبشرين منذرين، وأن اليهود حكى عنهم أنهم كانوا يفاضلون بين هذين الملكين الكبيرين، فيعادون جبريل، لأنه ينزل القرآن ويوالون ميكائيل ؛ لأنه يأتي بالرحمة والغيث، فأشار سبحانه إلى أن عداوة أحدهما عداوة له، ومن عادى جبريل لأنه مكلف بالقيام بأمر من الله تعالى فقد عادى الآخر ؛ لأنه قائم بمثل ما قام به.
هذا هو فعل الشرط الذي يتضمن عداوة الله وملائكته وكتبه ورسله، وجبريل وميكائيل، وجواب الشرط هو قوله تعالى :﴿ فإن الله عدو للكافرين ﴾ فجزاء هذه العداوة الظالمة، كراهية عادلة، ويتبعها العقاب الشديد، وهنا إشارتان بيانيتان :
إحداهما – في تقديم الكتب على الرسل، والسياق يسوغ تقديم الرسل على الكتب ؛ لأنهم الذين جاءوا بها، ونزلت عليهم، فلم قدمت الكتب ؟ والجواب عن ذلك أنها موضوع الرسالة ولبها، وهي المشتملة على أمر الله تعالى ونهيه وهي خطاب الله تعالى إلى عباده، فقدمت كما يقدم الكتاب الذي تكتبه على الرسول الذي تحمله الكتاب.
الثانية – أن الله تعالى أظهر في موضع الإضمار فقال : فإن الله عدو للكافرين، ولم يقل لهم، وذلك لبيان أنهم بهذه العداوة قد كفروا وجزاء الكفر العذاب الأليم فالإضمار كان فيه وصف هو سبب العقاب، ولقد جاء في البخاري في حديث قدسي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ( ٩٩ )
يذكر القرآن أخلاق بني إسرائيل في ماضيهم الممتدة في حاضرهم، إذ قد اتصف بها حاضرهم كما اتصف بها ماضيهم، وهو الإنكار لكل ما يجيء به نبي من الأنبياء، فيذكر الله سبحانه وتعالى ما تلقوا به ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات بينات.
الآيات البينات هي القرآن، وقد فسر بعضهم الآيات بالآيات الكونية، وإن ذلك بعيد، لأن وصف الآيات بالبينات دليل على أنها الآيات المتلوة، وهي بينة ؛ لأن الكتاب بين واضح في ذاته، وواضح الدلالة على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ونلاحظ إشارة بيانية في الدلالة على أنه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى :﴿ أنزلنا إليك ﴾ بالتعدية ب"إلى" دون التعدية ب"على" إذ كان التعبير في غير هذه بالتعدية ب"على"، كقوله :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) على قلبك لتكون من المنذرين ( ١٩٤ ) ﴾ [ الشعراء ]، وكانت التعدية للدلالة على أن النزول والرسالة هي متجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا النبي الأمي المقصود بالرسالة، وكان حقا عليهم أن يتبعوه بمقتضى البشارة التي بشرت به التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى :﴿ ولقد أنزلنا إليك ﴾ إشارة إلى أن هذه البينات وحدها فيها الدلالة على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المعجزة الكبرى التي تحدى بها عباده أجمعين، الجن والإنس والأجيال كلها ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( ٨٨ ) ﴾ [ الإسراء ] وقد جاءت على يد النبي صلى الله عليه وسلم خوارق للعادة حسية كثيرة، ولكنه لم يتحد المشركين وغيرهم أن يأتوا بمثله إلا بالقرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم :( ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي إلي، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )١.
وكانت المعجزة من هذا النوع ؛ لأن رسالة محمد خاتمة الرسائل الإلهية، وهو خاتم النبيين، فكانت من نوع الكلام الذي يبقى متحديا الأجيال كلها حجة قائمة إلى يوم القيامة.
ولقد أكد الله تعالى نزول القرآن باللام وقد، فقال تعالى :﴿ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ﴾ ولكن كفروا ﴿ وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾، أي المتمردون في الكفر الخارجون عن كل حد، إذ إنها آيات واضحة شاهدة بصدق ما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالفاسق الكافر المتمرد الخارج عن كل حد، ولقد قال الحسن البصري : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي، وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره، فالفاسق الكافر أشد أنواع الكفر ؛ لأنه تمرد على كل معقول.
وقوله تعالى :﴿ وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ نفي وإثبات للدلالة على أن الكفر بهذه الآيات البينات لا يمكن أن يقع من إنسان فيه الفطرة الإنسانية، بل لا يقع فيه إلا المتمرد على الفطرة وعلى كل ما يتقاضاه العقل المدرك، واللام في ﴿ الفاسقون ﴾ للجنس وليس المراد بها قوما معهودين، وإن كان أشد من ينطبق عليه الأمثال اليهود الذين كفروا بها. وإن اليهود إذا كانوا فسقوا، وكفروا بالقرآن الكريم معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم قد نقضوا العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه في الميثاق الذي أخذ عليهم، وناقضوا أنفسهم، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
١ عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". [متفق عليه: رواه البخاري: فضائل القرآن (٤٥٩٨) ومسلم: الإيمان (٢١٧)]..
فإذا كانوا قد كفروا بالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد نقضوا عهدا أخذ عليهم مرارا، نقضوا الميثاق الذي أوجب تعالى عليهم أن يؤمنوا برسله، ونقضوا العهد الذي أخذوه على أنفسهم إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، ولما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الميثاق بينهم وبينه عندما هاجر نقضوه جميعا ؛ فنقضه بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير وأوى الناقضون إلى خيبر، وشنوها حربا مشبوبة على المؤمنين١.
وقد بين الله تعالى أن ذلك شأنهم، فقال :﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري لإنكار الواقع، وهو ما يقع منهم من نقض العهد، ونبذ للمواثيق، والواو عاطفة وهي مؤخرة عن تقديم ؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والمعنى أنكروا الكتاب والنبي الذي عرفوه كما يعرفون أبناءهم ونقضوا الميثاق، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم إلى آخر الآية، وتأخير العاطف عن الاستفهام كثير في القرآن من مثل قوله تعالى :﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ( ٥٠ ) ﴾ [ المائدة ] وقوله تعالى :﴿ أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ( ٥١ ) ﴾ [ يونس ] وهكذا مثل ذلك كثير في القرآن المبين.
﴿ أو كلما عاهدوا ﴾ تدل على نقض العهد بين طرفين، وأكثر ما تكون عهود اليهود بين رب العالمين وبينهم، والعهد الذي يكون بين طرفين لا ينقض إلا بتراضيهم، ولكنهم لا يلتزمون بذلك، بل ينفردون بالنقض، أو بعبارة أدق لا يعرفون معهودهم، وقال تعالى :﴿ نبذه فريق منهم ﴾ النبذ الطرح والرمي، ومعناه في العهود، نبذ الوفاء وطرحه، من غير موجب ولا مراعاة ذمام، ولم يجز القرآن النبذ إلا عند الخيانة، كما قال تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( ٥٨ ) ﴾ [ الأنفال ].
ونسب سبحانه وتعالى النبذ إلى فريق منهم ولم ينسبه إلى جميعهم، لأن الله العدل الحكيم لا يقرر إلا ما هو عدل حكيم، وقد سكت سبحانه عن موقف الفريق الآخر فهل مالأه ؟ الظاهر أنه إن لم يمالئ فلم يستنكر، ولم يمنع وهو قادر على المنع ؛ ولذا يصح أن ينسب إلى جميعهم إذ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقوله :﴿ بل أكثرهم لا يؤمنون ﴾ ف"بل" هنا للإضراب ودفع معنى يتوهم من قبل، وهو أن أكثرهم فاضل، ومانع لهم من الشر، وذلك لقوله تعالى :﴿ نبذه فريق منهم ﴾، فبين سبحانه أن كثرتهم لا يؤمن بالحق فقال تعالى :﴿ أكثرهم لا يؤمنون ﴾ فنفى سبحانه وتعالى عنهم أصل الإيمان بشيء من الفضيلة أو الخلق فبعضهم يمعن في الشر إمعانا والآخرون يسكتون ولا يتحركون لأن الأكثر لا يؤمنون، فكل من كان على مثل حال هؤلاء اليهود كان كل كلامه وأفعاله لا يصدر عن قلب مؤمن مذعن للحق.
١ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة. [أخرجه البخاري: كتاب المغازي (٣٧٢٤)، ومسلم: الجهاد والسير (٣٣١٢)]..
وإذا كانوا لا يؤمنون بكتاب الله تعالى الذي أنزل متجها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم أيضا لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع ما كان منهم قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم، وينبذون كتابه.
ولذا قال الله تعالى :﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ﴾.
قوله :﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله ﴾ التعبير بلما دليل على أنهم كانوا يتوقعون مجيئه، وقد كانوا يتوقعون ذلك ويعرفونه ويستفتحون على الذين كفروا، وعبر سبحانه ب"رسول من عند الله" للإشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلالة الذي أنعم عليهم بالنعم المتوالية، و"رسول" التنكير فيها للتعظيم، أي رسول بالغ أقصى درجات الفضل وقد اختاره الله تعالى.
وقد وصفه الله تعالى بأنه مصدق لما معهم، وتصديقه لما معهم من ناحيتين :
الناحية الأولى : أنه قد جاء بالتكليفات الكثيرة التي جاءت في المواثيق التي أخذها الله تعالى عليهم، والناحية الثانية أنه تصديق للبشارات التي جاءت بها كتبهم، وقد بشرت به في عدة نصوص منها، كما أشار القرآن الكريم في مثل قوله تعالى :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ( ١٥٧ ) ﴾ [ الأعراف ]، ومثل قوله تعالى :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا...( ٨٩ ) ﴾ [ البقرة ].
هذا هو معنى التصديق، وليس التصديق الإقرار بصدق ما حرفوا وبدلوا حتى يقول ذلك الذين لا يفهمون، فإن القرآن يفهم بعضه ببعض، وقد كفرهم، وسجل التحريف عليهم ولا يزالون يغيرون ويبدلون.
ولما جاءهم محمد – رسول الله – نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله أي طرحوه، وهو يدل على أنهم لم يأخذوا به، ونبذوا تعاليمه، وراءهم ظهريا، وعبر الله تعالى بالذين أوتوا الكتاب توبيخا لهم، وتنديدا بفعلهم فإنهم كانوا جديرين بأن يكونوا أول من يأخذ بالكتاب لا أن ينبذوه ويجعلوه وراء ظهورهم، ودبر آذانهم. والكتاب الذي نبذوا تعاليمه وجعلوه وراء ظهورهم كما هو السياق يدل على أنه القرآن ؛ لأنه هو الذي جاء به الرسول الكريم، الذي جاء به مصدقا لما معهم.
وقال بعض المفسرين : إن المراد بكتاب الله التوراة، أي أنهم نبذوا بشاراته بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، ونرى أن ذلك بعيد، ولم نجد ذكرا للتوراة في هذا المقام، ولأن الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.
وقوله تعالى :﴿ وراء ظهورهم ﴾ مثل لمن يستغني عن شيء، فإنه يرميه وراء ظهره، ولا يعنى به، أو يقبل عليه بوجهه، مثل قول العرب :( اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك وتحت قدمك ).
فهذه أمثال للاستخفاف، وقوله تعالى :﴿ وراء ظهورهم ﴾ معناه أنهم لم يقرءوه ؛ لأن ما وراء الظهر لا يقرأ، وإنما يقرأ ما يكون أمامك، وتقبل عليه.
وقد صور الله سبحانه وتعالى حالهم فقال :﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ كأنهم لا يعلمون أمر النبوة ورسائل الله تعالى إلى رسله وهم أهل الكتاب، أو المعنى كأنهم لا يدركون ولا يفرقون بين علم نازل من قبل الله تعالى وأهوائهم، والله عزيز حكيم.
السحر
﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( ١٠٢ ) ﴾.
جاءت آيات الله بينات داعيات إلى الحق فنبذوها وجاءهم رسول الله تعالى بكتاب مصدق للحق الذي معهم، فنبذوه وراءهم ظهريا.
تركوا الحق الذي ظهر نوره، وكان من دأبهم أن يتركوا النور، ويتبعوا الظلام، لتعشعش فيه أوهامهم، ولذلك مع تباعد العهد بينهم وبين نبي الله سليمان عليه السلام الذي سخر الله له الطير والحيوان أخذوا يتبعون أوهاما كانوا قد حرفوا بها التوراة، لقد زادوا في التوراة قصة ما أنزل الله بها من سلطان، لأنهم كانوا يكتبون بأيديهم ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
لقد جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك أن السحرة هم الذين أقاموا ملك سليمان، وأن سليمان ارتد وكفر، فأخذوا يذكرون هذا السحر ! !
وذلك لأن الذين يضلون دائما عن الحق يتبعون أوهاما لا أساس لها من المنطق ولا من العقل.
ترك اليهود كتاب الله تعالى الذي يتلى بينا هاديا مرشدا إلى الحق، واتبعوا كلام السحر المكذوب، وراحوا يرددونه في مدارسهم، ومواضع عبادتهم، ولذا قال تعالى :﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ﴾ اتبعوا ذلك القول، وصغت قلوبهم العامرة الممتلئة بهذا العطن من الأقوال الفاسدة، والشياطين هنا هم أهل الشر من الإنس، كما قال تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( ١٤ ) ﴾ [ البقرة ] والشياطين يكونون من الإنس، كما يكونون من الجن كقوله تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا... ( ١١٢ ) ﴾ [ الأنعام ].
فالظاهر في هذه الآية أن الشياطين هنا من الإنس، وقوله تعالى :﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ﴾ أنهم يتبعونها مصغين إليها متتبعين لها، كما يتبع الكلام القيم ؛ ولذا عبر بتتلو لأن التلاوة قراءة واضحة بينة تتوالى كلماتها، فعبر بذلك للإشارة إلى أن الشياطين يحسنون تنسيق الكلمات ويلقونها بنغمات معينة كسجع الكهان، وأولئك اليهود يستمعون إليها بعناية مصدقين، مع أنها كاذبة، ولكن أوهامهم يثبت لهم صدقها، فسمعوها محافظين على السماع.
والله سبحانه وتعالى رد عليهم أوهامهم التي سجلوها في التوراة على أنها من عند الله، وما هي من عند الله فقال تعالى :﴿ وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ﴾.
ما هو هذا الكفر الذي نفاه الله عن نبيه سليمان عليه السلام، أهو ما ادعته الكذبة التي ألحقت بالتوراة – بتوراتهم – وما هي منها ؟ وهو أنه ارتد وكفر، فنفى الله تعالى عنه ذلك الكفر، وتلك الردة، وأن شياطينهم الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا بدعواهم على سليمان الكفر، وافترائهم عليه وادعائهم السحر، والتمويه على الناس به، فكل هذا كفر.
هذا هو ظاهر القول، إذ كان اليهود قد اتبعوا هذه القصة المكذوبة التي وضعت في التوراة افتراء على الله تعالى.
ونظر بعض المفسرين نظرة أخرى فقالوا : إن الكفر هو السحر، فما كفر سليمان بادعائهم أنه استعان بالسحر على تثبيت ملكه. وما كفر سليمان باتخاذه السحر واعتقاد أن فيه قوة ولا وقع منه ذلك، ولكن الشياطين الذين كانوا يتلونه على ملك سليمان، هم الذين كفروا باتخاذهم السحر وهو كفر.
وقوله تعالى :﴿ ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ﴾ أي على تثبيت ملك سليمان في زعمهم، وقال بعض علماء اللغة إن على تجيء بمعنى في، والمعنى ما تتلوه الشياطين في ملك سليمان. وعندي أن على في موضعها من حيث إنها تعويذات والتعويذات تقع على موضوعها، وموضوعها هو ملك سليمان في زعمهم الفاسد، وكما كذب ما في توراتهم.
وقد بين سبحانه أن أولئك الشياطين لا يقتصرون على ذكر ما ادعوه على ملك سليمان، وافتروه عليه، وهو النبي الذي سخر الله تعالى له بعض الرياح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، بل يتجاوزون ذلك إلى تعليم الناس السحر فقال تعالى :﴿ يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾.
هؤلاء الذين يسيطر عليهم الوهم، وتخيل الناس، فيتصورون أمورا واقعة وما هي بواقعة. ولكن حال السحر أهو حقيقة ثابتة أم هو تخييل وتصوير للأمور بغير صورتها فيخيل إليه أنه يرى ؟.
ونقول في الجواب عن ذلك : جاء السحر في القرآن ووصف بأوصاف، نتعرف حقيقته من هذه الأوصاف.. أول وصف جاء من أخبار موسى عليه السلام مع فرعون، فقد قال تعالى في سحر آل فرعون :﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ( ١١٥ ) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ( ١١٦ ) ﴾ [ الأعراف ] ونرى أنه يتصف بأنه سحر أعين الناس، أي أنهم لم يجعلوا الحبال أفاعي بل إن تأثيره أنه كان في الأعين لا في الوقائع، فتأثيرهم في الرؤية لا في تغيير الحقيقة وتحويلها من حبال إلى ثعابين، وفي سورة طه قال الله تعالى حكاية عنهم عندما التقوا يوم الزينة :﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ( ٦٥ ) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( ٦٦ ) ﴾ [ طه ].
ونرى أن السحر تأثير في الأعين المبصرة وليس تغييرا للحقائق الواقعة فلا يكون تغييرا، ولكن يكون تأثيرا في العيون، ولكنه تأثير نفسي قبل أن يؤثر في العين ؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من سورة الأعراف ﴿ استرهبوهم ﴾ أي اتجهوا إلى إلقاء الرهبة في قلوبهم ؛ ولذا جاء في سحر بابل أرض السحر أنه لا يؤثر في النفوس إلا بما يسبق إليها من تصديقه.
ولنذكر ما عرف من سحر بابل فقد جاء ذكره في الآية التي نتعرف معناها الكريم، فقد قال تعالى :﴿ يعلمون الناس السحر ﴾ إن تأثيره مثل له أبو بكر الرازي بمن يركب جارية تجري في الماء، فإن ضلال الأعين يجعل الناظر إلى الأشجار يحس أنها تسير لا الباخرة.
وربط أهل بابل الذين كانوا يعبدون الكواكب تأثير سحرهم بالكواكب، يقولون الرؤى والتمائم والعقد والنفث باسمها ويوهمون العوام والضعفاء صدقها ويشترطون في القيام بأفعالهم الساحرة أن ينالوا أولا ثقة من يريدون التأثير فيهم، ويعقد مجالس سرية لذلك، ولقد جاء في أحكام القرآن لأبي بكر الرازي ما نصه :"وكانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا، كما يفعل الساعة -أي في أيامهم- كثير ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار، والجهال الحشو، وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم، والاعتراف بصحته".
هذه إشارة إلى السحر، وما يعمله السحرة، وننتهي من ذلك إلى أن في السحر ثلاث صفات :
أولها- أنه يسبقه الثقة بالساحر ليستطيع أن يِؤثر تأثيره في النفوس.
ثانيها- أنه يكون فيه إلقاء الرهبة في النفوس، وتحويلها إلى الهبة من الساحر، كما قال تعالى :﴿ واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ( ١١٦ ) ﴾ [ الأعراف ].
الثالثة- أن السحر في أعلى صوره وأدناه يؤثر في النظر، فيجعل الرائي يتخيل غير ما يرى، ولا يمكن أن يعرف الحقائق، فالحبال حبال، وإن بدت ثعابين.
وإن هذه الأوصاف تتفق الآن مع الاستهواء الذي يفعله بعض الناس بالتأثير في غيرهم وتوجيه مشاعرهم وأهوائهم، والسيطرة على خواطرهم، ويمسحون أفكارهم، وهو ما يسمى بالتنويم المغناطيسي الذي يفعله كبار المجرمين الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا هو السحر فيما نعلم، وقد مهر فيه أهل بابل، حتى ضللوا به، وكان السحرة علماء، وكان اليهود يعلمون الناس السحر ﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ فاليهود كانوا يعلمون ما أنزل على الملكين هاروت وماروت، فهل هما ملكان حقيقيان نزلا لتعليم الناس السحر، أو طرق الوقاية منه، ولا يمكن أن نعرف طرق الوقاية إلا بمعرفة طريقة التأثير.
الظاهر أنهما ملكان ؛ لأن الله تعالى سماهما ملكين، ولأن الله تعالى سمى ما كان يقومان به أنزله تعالى عليهما، ولم يبين المدة التي أقاماها في بابل، لتعليم الوقاية منه وإنذار الناس منه، كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وإن نزول الملك للتعليم كما ثبت بنزول جبريل في حديث الإيمان الذي رويناه آنفا.
وإننا نسير فيما نكتب في فقه الإسلام وعلم القرآن على أساس أننا لا نعدل عن الظاهر إلا إذا تعذر تحقيق الظاهر، ولا ننتقل منه إلى غيره إلا مهتدين بنص ؛ ولذا نرى أنهما ملكان نزلا لبيان السحر في ذاته والتضليل به وطريق الوقاية منه فهما منذران كما قال الإمام علي.
ورأى بعض الكتاب المتأخرين في التفسير أن من سميا الملكين كانا رجلين متظاهرين للصلاح والتقوى في بابل وهي مدينة على نهر الفرات، ونالوا ثقة الناس حتى ظنوا أنهما ملكان نزلا من السماء، وبلغ مكر هذين الرجلين أنهما كانا يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر.
واحتج الذين قالوا هذا القول من مفسري هذا القرن بأن الملك لا ينزل إلى الأرض معلما منذرا ؛ لأن المشركين طلبوا أن ينزل ملك، فقال الله تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ] وكان المشركون يقولون :﴿ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه الملك فيكون معه نذيرا ( ٧ ) ﴾ [ الفرقان ]. وقالوا : إن نزول الملك مستحيل ؛ لأنه لو كان ممكنا لأرسل إليهم ملكا مؤيدا للرسول.
ونحن نقول إن نزوله ليس مستحيلا، والله لم يرد عليهم بأنه مستحيل، ولكن علم أنهم متعنتون، وقد طلبوا غير ذلك، وقالوا في طلبهم آيات أخرى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( ٩٣ ) ﴾ [ الإسراء ]. فهم طلبوا هذه الآيات الحسية الكونية كما طلبوا أن ينزل ملك بقرطاس من السماء، وذلك كله كفر بالقرآن الذي تحداهم فعجزوا.
فهل هذا كله مستحيل أن يأتي الله به، أم أن الله تعالى لا يريد أن يأتي بآية أخرى وهو يعلم أنهم لن يؤمنوا ؛ ولهذا نقول إنه لا يوجد دليل على استحالة أن ينزل الله تعالى ملكا إلى الأرض، وقد نزل جبريل عليه السلام في سورة رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإيمان الذي رواه البخاري.
لهذا نحن نرى كما ذكرنا أنهما ملكان ؛ لأن الله تعالى ذكر أنهما ملكان، وسماهما وذكر أنه أنزل عليهما، وأنهما كانا يحتاطان في بيان السحر، ويقولان ﴿ إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾.
كان هذان الملكان غير مضلين للناس، إنما جاءا لإنقاذ الناس من فتنة السحر إذ كانا يعلمان الحيل والتمويهات، وطرق الاستهواء التي أشرنا إليها من قبل آخذين لها من القرآن أدلة، كانا يعلمان الناس ذلك حتى لا يضلوا بالسحر، وقد اشتد ظلامه، وطم سيله ﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة ﴾، أي إن ما نعلمه فتنة يختبر الن
اليهود يختارون الشر
ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ( ١٠٣ )
يرشد الله إلى الحق بدل الباطل لليهود ؛ لأنهم يعرضون، ويطلبون السحر، وينبذون آيات الله تعالى البينات الداعية إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وذلك من اضطراب إدراكهم وعدم إيمانهم كشأن من تحكمه الأوهام وتسيطر عليه الأهواء ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ﴾.
لم يقل سبحانه آمنوا بمحمد، والضمير يعود إلى اليهود، بل قال سبحانه :﴿ ولو أنهم آمنوا ﴾ وذلك لأنهم لا إيمان عندهم بشيء، بل هم في اضطراب لا قرار في قلوبهم بشيء، والإيمان إذعان للحقائق، وجعلها مستقرة في القلوب مصدقة للحق فالمعنى : لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وصدقوا بالحق واتقوا غضب الله تعالى وطلبوا رضاه، واتجهوا إلى السير في الطريق السوي لكان ذلك خيرا بدل الاعوجاج الذي اختاروه لأنفسهم، فساروا في طريق عوج، لو فعلوا ذلك لكان لهم ثواب ؛ ولذا قال تعالى في جواب الشرط المقدر من "لو" ﴿ لمثوبة من عند الله خير ﴾، أي لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وسكن ذلك قلوبهم، واتقوا أي اتقوا غضب الله بعمل صالح ينفعهم وينفع الناس، ويكونون به مصدر خير لخلطائهم من الناس لكان لهم الثواب الدائم، فالمثوبة هي الثواب الدائم المستمر، وذكر سبحانه وتعالى أن ذلك خير لهم مما هم فيه من اضطراب مستمر وفساد قلب، وقوله تعالى :﴿ خير ﴾ إما عطف بيان، وإما خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو خير.
وقد أكد الله تعالى المثوبة باللام المؤكدة الواقعة في جواب فعل لو المحذوف، وبين سبحانه وتعالى بعد علمهم بهذه الأمور التي يكون علمها والأخذ بها خيرا لهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ وعلماء النحو يقولون في "لو" أنها حرف امتناع لامتناع أي يمنع جوابها لامتناع شرطها، والمعنى أنه يمتنع علمهم بذلك فيمتنع إيمانهم، فهم في ضلال مبين.
وإن اليهود دائما عشراء سوء، فكانوا يغمزون في القول دائما بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون يتوجهون إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالبين إرشاده وتوجيهه ودعاءه فكانوا يقولون ﴿ راعنا ﴾ وأصل راعنا مفاعلة من رعى يرعى، ومعنى المفاعلة راعنا بالقول الموجه الرشد نرعك بالاستماع والإنصات، فإنك هادينا ومرشدنا وقد تفيد معنى اتجه إلينا، ولقد روي عن ابن عباس في تفسير كلمة ﴿ راعنا ﴾ أنه قال :"كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا على جهة الطلب والرغبة من المراعاة أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا أي اسمع لا سمعت فانتهزها اليهود وقالوا : كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا.
كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم فقال لليهود : عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا أو لستم تقولونها فنزل قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ﴾.
نهاهم الله تعالى عن قول راعنا لأن اليهود فسروها بما يدل على السب كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه ولووا بها ألسنتهم بما يدل على أن معناها رعونة من القائل والمخاطب الكريم، ولقد صرح سبحانه وتعالى في موضع آخر بلي ألسنتهم فقال تعالت كلماته :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( ٤٦ ) ﴾ [ النساء ].
كانوا يقولون :﴿ راعنا ﴾ يقصدون الرعونة، بمعنى عدم الاستقرار الفعلي والفكري فأمر الله المؤمنين أن يتوقوا هذه الكلمة وأن يقولوا انظرنا بمعنى اشملنا بنظرتك وإرشادك وتوجيهك، وأمرهم مع ذلك بأن يسمعوا للرسول إرشاده وتوجيهه.
وإن ذلك يفيد أمرين :
أحدهما – إرشاد المؤمنين بأن يتخيروا العبارات التي لا تثير حولها المرتابين إلى ما يتعدى مقاصدهم، وما يحرفونها عن مقصودها، وأن يتخيروا جميل الألفاظ التي لا يؤذي جرسها الأسماع.
الأمر الثاني – أنه يجب الأخذ بسد ذرائع فساد الفهم، وما يؤدي إلى الغمز في القول، وإخراج الكلام عن معناه، وتعدي مقصده.
بل إن بعض المشتغلين بالفقه قال :"إنها دليل على الأخذ بمبدأ سد الذرائع الذي يقوم على أن الذرائع أو الوسائل تأخذ حكم ما تؤدي إليه، فما يؤدي إلى المطلوب يكون مطلوبا، وما يؤدي إلى الممنوع يكون ممنوعا" وإن لذلك وجها من القول، فإن نهي الله تعالى عن أن يقولوا ﴿ راعنا ﴾ سد لفساد اليهود الذين يغمزون في القول، ويتهكمون بهذا على المؤمنين، وعلى مقام النبوة السامي الجليل.
ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وللكافرين عذاب أليم ﴾ والمراد من الكافرين اليهود الذين لووا ألسنتهم غمزا واستهزاء، وقد أظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم ولبيان السبب في عذابهم فهم كافرون بما كان منهم، وجحودهم للنبوة المحمدية وإنكارهم للقرآن الكريم ونبذهم له وراءهم ظهريا، والكافر له عذاب أليم، وأليم بمعنى مؤلم، وتنكيره للدلالة على أنه عذاب أليم لا يدرون كنهه، ولا حقيقته.
وإن المشركين عبدة الأوثان لم ينزل عليهم كتاب بعد إبراهيم عليه السلام، واليهود أهل كتاب سماوي ثم حرفوه من بعده، ونسوا حظا منه وزادوا عليه أوهاما من عندهم، وكتموا جزءا كبيرا مما بأيديهم. إن هؤلاء المشركين واليهود جمعهم أمران : أحدهما الكفر، والثاني بغض محمد صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به، فإذا فرقهم العلم بكتاب سماوي، فقد جمعهم كفر وبغض لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾.
يود هنا معناها يحب، وإن الود يجيء بمعنى محبة الشيء، وبمعنى تمنيه، وهي هنا بمعنى المحبة فقط، وما هو بمعنى التمني قوله تعالى :﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ( ٩ ) ﴾ [ القلم ]، وقوله تعالى :﴿ ودوا ما عنتم... ( ١١٨ ) ﴾ [ آل عمران ].
وهنا تكون بمعنى المحبة، أي ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، ونفي المحبة يومئ إلى الكراهية، أي يكرهون أن ينزل الله تعالى عليكم أي خير من ربكم، وأعظم الخير من الله تعالى هو أن يكون رسولا من رب العالمين، وربكم الذي رباكم وصنعكم على عينه.
وقدم سبحانه وتعالى أهل الكتاب على المشركين ؛ لأن الكلام كان في أهل الكتاب ؛ ولأنهم أشد جحودا وإعناتا ؛ ولأن الجحود منهم وهم أهل كتاب أشد من جحود غيرهم الذين لم يؤتوا كتابا ؛ فالجهل قد يكون عذرا أحيانا، وإن لم يكن هنا عذرا. وإن سبب كراهية أن ينزل عليكم خير من ربكم يختلف عند المشركين عنه عند اليهود، فهو عند المشركين كفر للوحدانية، وخوف الرياسة، والتنافس بين العشائر، وأما عند اليهود، فهو كراهية أن تكون الرسل في ولد إسماعيل، وهم في طبيعتهم الحسد، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
وموضع الكراهية أن ينزل عليهم أي خير من ربهم، وتنزيل الخير من رب الوجود هو الرسالة، كان المشركون الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم ينفسون على عشيرته بني هاشم، ولقد قال عمرو بن هشام أبو الحكم الذي لقبه الإسلام بأبي جهل في سبب كفره :( تنازعنا وبني عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى تجاثينا على الركب، وصرنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي فأنى يكون ذلك ؟ والله لا نؤمن به ).
واليهود قد علمنا أنهم كانوا يستفتحون به، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين.
ولقد رد الله تعالى كراهيتهم، وأنه سبحانه وتعالى يسير في اختيار نبيه على مقتضى حكمته وإرادته فقال تعالى :﴿ والله يختص برحمته من يشاء ﴾، والله ذو الجلال والإكرام، والفاعل المختار يختص برحمته من يشاء وهي رحمة الرسالة التي ترحم الناس أجمعين، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( ١٠٧ ) ﴾ [ الأنبياء ] ورحمة القرآن الذي جاء هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين.
فمعنى يختص برحمته، أي يختص بحمل رسالته وقرآنه من يشاء، أي من يختاره بحكمته والله أعلم حيث يجعل رسالته، وإن ذلك من فضله ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي صاحب الفضل العظيم الذي يلازمه سبحانه وتعالى، فلا يكون منه إلا فضل عظيم يعم الناس أجمعين.
النسخ
﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( ١٠٦ ) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( ١٠٧ ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ( ١٠٨ ) ﴾.
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى بعض أفعال اليهود من إنكار وجحود وكفر بالنعمة وكفر بما يعرفون صدقه واتخاذ السحر وأوهامه واتباع ما يضر.. بين سبحانه النسخ لأنه يتضمن نسخ بعض ما جاء في التوراة وإن صدق أصله، ونسخ المعجزات التي كان يأتي بها موسى عليه الصلاة والسلام، ليؤمن بنو إسرائيل وآل فرعون، ذكر الله تعالى نسخ الشرائع القديمة ونسخ المعجزات الحسية السابقة وأنه أتى بمعجزة هي القرآن، وإنها أمر أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان آخر صرح للنبوة، إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر لبنة في صرح النبوة، وكان خاتم النبيين.
بعد ذلك تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للنسخ في الشرائع والآيات.
النسخ معناه الإزالة كما تقول نسخت الشمس الظل، أي أزالته وحلت محله، ويطلق أيضا النسخ بمعنى نقل المكتوب كما قال :﴿ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ( ٢٩ ) ﴾ [ الجاثية ].
والآيات تطلق على طائفة من القرآن مفصولة عما بعدها كآية الكرسي، وآيات المنافقين وآيات الربا، وآية حد السرقة وغير ذلك من آيات الله تعالى البينات.
وتطلق على الآيات الكونية التي تدل على قدرة الله تعالى وعلى حكمته، وبديع خلقه ومنها معجزات النبيين الحسية كالعصا، وفلق البحر وإبراء الأكمه وإحياء الموتى بإذن الله، والإخبار عما في بيوتهم، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية... ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( ٥٩ ) ﴾ [ الإسراء ] ومن الآيات الحسية قوله تعالى :﴿ أتبنون بكل ريع آية تعبثون ( ١٢٨ ) ﴾ [ الشعراء ] ؛ لأن البناء العالي فيه دلالة على براعتهم في البناء.
والنسخ في اصطلاح الفقهاء على أساس أن الآية هي الآية القرآنية هو إزالة حكم الآية، ويقسمون النسخ إلى ثلاث :
القسم الأول – نسخ الحكم وبقاء التلاوة، كما ادعوا لآيات نسخ حكمها وبقيت تلاوتها، كآية تقديم الصدقة بين يدي الرسول إذا ناجوا الرسول في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة... ( ١٢ ) ﴾ [ المجادلة ].
والقسم الثاني – آية نسخت تلاوتها ولم ينسخ حكمها، كما قيل إنه كان في القرآن آية "إذا زنى الشيخ والشيخة، فارجموهما ألبتة"١ فنسخت تلاوتها وبقي حكمها.
والقسم الثالث – وهو الأصل آيات محكمة لم يعرها نسخ ولا تأويل، وهذا القسم يقولون إنه أكثر القرآن.
وفي هذا الكلام نظر يستبين مما نقول إن شاء الله تعالى.
ويقولون : إن هذه أقسام بالنسبة لذات النسخ، أما بالنسبة للناسخ فيقولون القرآن ينسخ السنة، ولكن يشترط الشافعي لنسخ القرآن للسنة أن يكون من السنة ما يدل على النسخ، كالسنة التي دلت على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.
وادعوا نسخ القرآن بالسنة بل ادعوا نسخ عموم القرآن بأحاديث الآحاد.
وكل على تفسير الآية في قوله تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾. فإنها الآية القرآنية المشتملة على أحكام تكليفية بإلغاء تكليف ووضع تكليف آخر في موضعه كنسخ تحريم بإباحة، أو إباحة بتحريم، ولكن يلاحظ أن نسخ القرآن بالسنة لا يستقيم مع النص الكريم ؛ لأن النسخ يوجب أن يأتي بخير من المنسوخة أو مثلها، ولا يمكن أن تكون السنة خيرا من القرآن أو مثله.
ولكن هل الآية تدل على وقوع النسخ، أو تدل فقط على جوازه على فرض تفسير الآية بالآية القرآنية ( ولنا في ذلك نظر ) نقول إن الآية تدل على الإمكان لا على الوقوع ؛ لأن النص السامي بشرط وجواب هذا الشرط إذ إن "ما" من أسماء الشرط جزم به ننسخ وجوابه :﴿ نأت بخير منها أو مثلها ﴾ فهي دالة على الإمكان لا على الوقوع بالفعل، والوقوع بالفعل يجيء من تتبع الأحكام الشرعية الناسخ منها والمنسوخة كما ادعى في الآيات التي ذكرنا، والأحكام التي تكلم فيها الفقهاء مدعين فيها نسخ آيات بآيات.
فالآية لا تدل على وقوع النسخ، ولا على لزومه.
وقبل أن ننتقل بتفسير الآية إلى معنى آخر نتكلم في معنى ﴿ ننسها ﴾ وعلى هذه القراءة يكون ننسها من قلوب الناس لأنها من أنساها من قلوب الناس، أي أنه أنساها للناس، وربما يتفق هذا على قول الذين يقولون إن ثمة آيات نسخت تلاوتها، وبقيت أحكامها، كما ادعى في الرجم.
وهناك قراءة ( ننسأها ) بفتحتين وهمزة، وبمعنى نؤجلها من النساء بمعنى التأجيل، وخرج بعض اللغويين القراءة الأولى ﴿ أو ننسها ﴾ على هذا المعنى، فقال إن الهمزة قلبت ياء إذ أصلها ننسئها فسهلت الهمزة فعوملت الياء معاملة حرف العلة فحذف في حال الجزم، وعلى هذا المعنى تتلاقى القراءتان على معنى التأجيل، ويكون المعنى لا نزيل حكم آية أو نؤجل حكمها، إلا أتينا بخير منها أو مثلها
ثم قال تعالى مؤكدا جواب الشرط بقوله تعالت كلماته :﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ والمعنى تعلم علما يقينيا مؤكدا أن الله تعالى على كل شيء قدير. وقدم قوله على كل شيء لاختصاصه تعالى بكمال القدرة وعمومها، ﴿ ألم ﴾ استفهام للنفي مع التنبيه ونفي النفي إثبات مع التنبيه وتأكيد العلم.
وهذا القول كله على تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية.
وأولئك كما ذكرنا يقررون النسخ في القرآن، وقرره الشافعي، وغيره من الفقهاء الكبار، وعلى رأسهم شيخهم أبو حنيفة وإمام دار الهجرة مالك وإمام السنة أحمد بن حنبل.
وحجة قولهم هذه الآية، وما جاء عن الصحابة من نسخ بعض آيات لأخرى وإن كانوا يسمونه التخصيص كما أثر عن ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا... ( ٢٣٤ ) ﴾ [ البقرة ] وقوله تعالى في سورة الطلاق :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن... ( ٤ ) ﴾ [ الطلاق ] وفيها ظاهر التفارق في المتوفى عنها زوجها الحامل، فقرر ابن مسعود أنها تعتد بوضع الحمل، وهذا تخصيص للآية الأولى بأنها لغير الحامل، فقال رضي الله عنه : أشهد أن سورة النساء الصغرى، أي الطلاق نسخت الكبرى. وهي قد خصصتها، ولكن كان السلف يعتبرون التخصيص نسخا، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وإن النسخ في ذاته لا في القرآن بالذات لا ينكره أحد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي المؤمنين، ويدع الدين الحق في قلوبهم، وقد مكث بينهم ثلاثة وعشرين عاما يربيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وما كانوا ليقبلوا ذلك التهذيب الكامل الذي ينقلهم من الجاهلية إلى العلم والتفكير، والعمل التقي الطاهر دفعة واحدة ؛ بل لابد أن يأخذهم في رفق وأناة يقر أمورا على رجاء التغيير، حتى تشرب قلوبهم حب الإسلام، وحب آدابه، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :( ما من نبوة إلا تناسخت ) أي حولت النفوس بالتدريج، وترك أمور في مرتبة العفو حتى تتشرب النفوس الحقائق الإسلامية، وليس معنى ذلك أن الله تعالى كان يجهل الحقائق ثم علم وهو ما يسمى بالبداء، والله تعالى منزه عنه تبارك وتعالى، وإنما معناه أن الله عالم بكل شيء، ولكن نبيه كان كالمربي الذي يتدرج بتعليمه حتى يشب ويعلو فكره، فتتكامل الشريعة نزولا إذ تكامل عقله إدراكا وبيانا.
لذلك كان النسخ وكانت الأحكام التي تجيء في السنة موضع التناسخ الثابت بالحديث.
ولكن هل يجيء النسخ في القرآن، قال جمهور العلماء ذلك مستدلين بقوله تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ ولكن نقول : إن الآية الكريمة كما في بيان الشرط وجوابه، وتدل على الإمكان لا على الوقوع فعلا، وإن هذا على أساس تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية المشتملة على حكم تكليفي، ولكن كلمة الآية تدل معانيها على الآية الكونية، والمعجزات الكونية والحسية التي يجيء بها الرسل كإحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله تعالى، وإحياء الموتى من قبورهم، وتصويره كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله تعالى، وكعصا موسى عليه السلام التي فلقت البحر وفجرت الماء من الحجر، وكإرسال الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.
وإن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات أي معجزات دالة على رسالته كمعجزات عيسى وموسى ويظهر أن اليهود طلبوا مثلها، فرد الله تعالى عليهم بقوله :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ أي ما ننزل آية لنبي أو رسول أو نؤجلها إلا أتينا بخير منها أو مثلها، وفي ذلك إشارة إلى أن معجزة القرآن خير من المعجزات التي سبقت كمعجزة موسى وعيسى ؛ لأن معجزاتهم حوادث تنقضي، وتنتهي بانتهاء وقتها ولا تؤثر إلا في نفوس من عاينوا، وشاهدوا، أما معجزة القرآن، فإنها باقية خالدة تتحدى الأجيال كلها إلى يوم القيامة.
وإننا نميل إلى تفسير الآية بالمعجزة، وذلك للأمور الآتية :
أولا – تعقيب النسخ والتغيير بقوله تعالى :﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ فإن ذلك يتناسب بوضوح مع الآية بمعنى المعجزة القاهرة التي تدل ( على قدرة الله وصدق رسوله )، والمعجزة الكونية، ولا تظهر مناسبة مع آية التكليف.
وثانيا – قوله تعالى :﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ﴾ فذكر هذا النص السامي يدل قياسا أن النسخ أو الترك يكون لآية كونية بخير منها، تكون أبقى وأعظم أثرا.
ثالثا – أنه كان لوم على طلب آية أخرى، فقد قال تعالى :﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ﴾ هذه الآيات كلها جاءت تالية لآية النسخ وهي في تواليها تناسب أن تكون الآية المنسوخة معجزة من معجزات الرسالة الإلهية، ومعجزات النبيين.
ورابعا – أن النسخ يقتضي ألا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ، وليس في القرآن آية تتعارض، ولا يمكن التوفيق بينها، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
١ عن عبد الله بن عباس يقول: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم؛ قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت، أو كان الحبل، أو الاعتراف. [متفق عليه: رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٦٧٧٨)، ومسلم: كتاب الحدود (٣٢٠١) واللفظ له].
ورواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب بلفظ: إياكم أن تهلكوا عن آية؛ أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها (الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة) فإنا قد قرأناها. قال مالك: قال يحيى بن سعيد، قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله. قال يحيى: سمعت قوله تعالى، يقول: قوله الشيخ والشيخة؛ يعني الثيب والثيبة فارجموهما ألبتة. [موطأ مالك: كتاب الحدود (١٢٩٧)]..

وإن الله تعالى إذا أنزل معجزة لنبي، وبدل بها معجزة فذلك من كمال قدرته وليس لمؤمن أن ينكر معجزة، ولا يطلب معجزة معينة، وألا يقال : إن الرسول الذي جاء بالمعجزة القاطعة مفتر، فقد قال تعالى :﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ( ١٠١ ) ﴾ [ النحل ] فإن الله العليم الحكيم هو الذي يختار من الآيات الدالة على رسالة أنبيائه ما يراه أقوى دلالة، وأكثر بقاء، فهو الذي يعلم الآيات كلها، وهو الذي يدبر كل شيء بحكمته، وإرادته، وإن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بمكان آيته، ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي أي إنكار الوقوع، فما بعدها يكون منفيا بها، ولم نافية لما بعدها، فيكون نفي النفي، ونفي النفي إثبات، كما يقر علماء البيان، والنفي على طريقة الاستفهام فيه تنبيه بليغ، لأن الاستفهام في ذاته فيه إثارة للانتباه، والمعنى : تعلم أيها الرسول، أن الله تعالى له السلطان الكامل في السموات والأرض، فله التدبير المطلق الذي لا قيد يقيده لا يسأل عما يفعل وهم يسالون فإذا اختار آية دالة على رسالة نبي مرسل، فله أن يختار آية أخرى لنبي آخر، فإذا اختار تسع آيات لموسى، واختار مثلها لعيسى، فله أن يختار لمحمد صلى الله عليه وسلم غيرها أبقى وأدوم، وأقوى دليلا، وتحديا للأجيال كلها الإنس والجن.
وإن الله سبحانه وتعالى ببيان هذا العلم الشامل الواسع يشير سبحانه وتعالى إلى بيان القدرة على عقاب من يكذب وينكر، ويجحد بآيات الله تعالى ويقول حيث وضح الحق وقام، إنما أنت مفتر ؛ ولذلك قال تعالى من بعد بيان شمول علم الله تعالى :﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ وهذا أنفى لهم عند العذاب النازل بهم من أن يكون لهم ولي، أي صديق، أو ذو ولاية عليهم يحميهم بولايته، ويكلؤهم بمحبته أو نصير ينصرهم والشدائد نازلة بهم يوم القيامة.
وقد أكد الله تعالى نفي الولي والنصير، بمن التي تدل على استغراق النفي، أي ليس للمعاندين لآيات الله تعالى ولي أي ولي كان، ولا نصير أي نصير كان قويا أو ضعيفا، وأكد سبحانه النفي بتكرار لا. وإن ذلك النفي المؤكد يفيد أنهم يجيئون إلى الله تعالى فرادى كما خلقهم أول مرة، وهو سبحانه مالك يوم الدين.
أشرنا إلى أننا اخترنا أن يكون النسخ في هذه الآيات الكريمات هو نسخ الآيات الدالة على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تغيير آية يأتي الله تعالى بخير منها أو مثلها، وإن قدرة الله على ذلك ثابتة وله فيما يفعل حكم ظاهرة قد نعلمها بإدراكنا الناقص، وقد تعلو على إدراكنا.
ولذا قال تعالى موجها الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ملتفتا إليهم، وهم يشملون الوثنيين واليهود فهم جميعا أمة محمد فقد أرسل إلى الناس كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٢٨ ) ﴾ [ سبأ ].
﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ﴾ أم للإضراب عن الكلام السابق إضرابا لفظيا، مؤداه علمتم أن الله على كل شيء قدير، وعلمتم أن الله تعالى له ملك السموات والأرض، وأنه يصرف الآيات لرسله الكرام فيختار لكل رسول آية، ولا يستبعد أن تكون تلك الآيات كلها على نسق هذه الآية لمن يجيء بعده، والله يصرف دلائله وآياته.
أتريدون يا من تخاطبون برسالة محمد أن تسألوا رسولكم آية دالة على رسالته، كما سأل اليهود موسى من قبل ؟، أي أتريدون أن تختاروا معجزة دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، كما سئل موسى من قبل ؟.
والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي أنه كان ممن خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم، ممن سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء يحمله ملك، ومنهم من سأل أن يكون المبعوث ملكا ولا يكون رجلا يمشي في الأسواق، كان ذلك من المشركين، ومن أهل الكتاب، وقد قال تعالى في سؤال أهل الكتاب :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( ١٥٣ ) ﴾ [ النساء ].
والمخاطبون في قوله تعالى :﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم ﴾ هم الذين خوطبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الناس جميعا، مشركوهم وأهل الكتاب فيهم، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم للأحمر والأسود والذين طلبوا تغيير المعجزة المحمدية بغيرها من المعجزات الحسية كان منهم المشركون واليهود فهم أخص من بعث إليهم بالخطاب.
وقوله تعالى :﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم ﴾ إلى آخره فيه الاستفهام متجه إلى إرادة السؤال نفسه، وإذا كان الاستنكار للإرادة فهو للسؤال أشد لأنه إذا استنكرت ذات الإرادة، فالأولى يكون للفعل، وإنهم ما أرادوا المشابهة بين فعلهم وفعل بني إسرائيل من قبل، إنما نبههم الله تعالى إلى المماثلة بقوله :﴿ كما سئل موسى من قبل ﴾، أي مثل ما سئل موسى من قبل.
وإن ذلك انحراف عن السبيل، وترك للحق، وانصراف عما يوجبه الدليل إلى سؤال عن دليل آخر مع سلامة هذا الدليل الذي يعترضون عليه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴾ أي ومن يجعل الإيمان في مقابل الكفر فقد سار في طريق منحرف ولم يسلك السبيل المستقيم، وضل يعني بعد، ومعنى ذلك أن من يطلب الكفر يترك سواء السبيل والقصد، وفي ذلك إشارة إلى أمرين :
أولا – أنهم ضلوا القصد ولم يسلكوا سواء السبيل أي وسطه ؛ لأن وسط السبيل لا يكون اعوجاجا ولا انحرافا، وأنهم إذا ضلوا سواء السبيل وبعدوا عنه سلكوا طريق الكفر، واختاروه على الإيمان.
ثانيا – أن السبب في سلوكهم طريق الغي والضلال وطلبهم معجزات يريدونها هو أنهم في أصلهم جاحدون كافرون، ومن ترك الطريق الواضح مع وضوحه وقيام برهانه فقد كفر ؛ لأنه يتبدل الكفر بالإيمان.
الحسد في الدين
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا
من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ( ١٠٩ )
كان المشركون والذين أوتوا الكتاب لا يرضون معجزة النبي صلى الله عليه وسلم حجة دالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحداهم أن يأتوا بمثلها فعجزوا وعلموا مقامه من البيان، وأنه أعلى من البيان الإنساني حتى يقول قائلهم :( إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، والله ما يقول هذا بشر ). فقد تبين لهم الحق، وأن ما يشتمل عليه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل، ومع ذلك جحدوا وكفروا وتمادوا واضطهدوا ضعاف المؤمنين، وكانوا يودون أن يعود النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى ما هم عليه، حسدا لهم، إذ علموا أنهم على حق، وليكونوا تحت سلطانهم وليحتفظوا بهم وكانوا بين إحساسين : إحساس السلطان وحسد أهل الإيمان ولذا كانوا يتعنتون في طلب آيات غير القرآن.
واليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فالحق قد تبين وكان أشد تبينا، لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك طلبوا آيات أخرى وجحدوا، وما كان ذلك إلا تبريرا لكفرهم بما علموا، ولم يكتفوا بكفرهم بل ودوا أن يكون المؤمنون مثلهم كفرا وعنادا. ولذا قال تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾ ود هنا معناها تمنى، فإنها تستعمل بمعنى أحب، وبمعنى تمنى، وحيث كانت لو وما بعدها موضع الطلب كانت بمعنى تمنى ؛ فإن أمنية أهل الكتاب ( وكذلك المشركون ) أن يختفي هذا الدين، ولا يكون إلا الوثنية وخصوصا الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج لكيلا يكون محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه مسيطرين على المدينة.
ويلاحظ أمران :
أولهما – أن القرآن الكريم الذي أنزله العادل الحكيم لم يذكر أهل الكتاب جميعا، بل ذكر الكثير منهم فقال تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب ﴾ ؛ لأن بعضهم يرجى إيمانه ويسير في طريق الإيمان، ومن سار في طريق الإيمان لا يرجو زواله، ومن يريد الهداية لا يود زوالها.
الأمر الثاني – أنه ذكر أهل الكتاب دون غيرهم لأنهم كانوا أشد رغبة في تضليل المؤمنين، وكان الحق عندهم أشد بيانا، وأقوى برهانا ؛ ولأن حسدهم أوضح، فكلما كانت الحجة أقطع، كان حسدهم أوضح وأبين وعداوتهم أشد، ولجاجتهم في الباطل.
ويقول سبحانه في موضع التمني وباعثه :﴿ لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾ تمنوا أن تعودوا إلى الكفر، بعد أن ذقتم بشاشة الإيمان، وعبر بقوله تعالى :﴿ يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ﴾ للإشارة أن ذلك رجعة بعد تقدم، وانتكاسة بعد استقامة.
وما كان الباعث على ذلك الحسد ؟ وعبر عن حسدهم بأنه منبعث من نفوسهم، وذلك التعبير يشير إلى أمرين :
أولهما – أنه ليس له مبرر إلا من نفوسهم فلا وجه لأن يحسدوكم على ما آتاكم الله تعالى من فضله.
ثانيهما – تأكيد ما في نفوسهم من غل بقوله تعالى :﴿ من عند أنفسهم... ( ١٠٩ ) ﴾ [ البقرة ]، كما في قوله تعالى :﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله... ( ٧٩ ) ﴾ [ البقرة ].
والحسد تمني زوال نعمة غيره، سواء أعادت النعمة إليه أم لم تعد. فالحاسد لا يريد الخير لغيره، وهو بهذا يملأ قلبه بالضغن والحقد من غير أن يعود إليه شيء ؛ ولذلك قيل إن الحسد مرض نفسي، لا يؤذي إلا صاحبه لأنه بمقدار ما ينال غيره من خير تتوالى آلامه، وخير الدنيا كثير فيزيد مرضه بمقدار ما يؤتى الناس من فضل، وقد يسمي بعض الناس حسدا ما ينال الناس من غبطة كقول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله تعالى القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار"١.
واستعمال الحسد هنا من قبيل المجاز ؛ لأن موضوع الغبطة والحسد، هو الخير بيد أن الحاسد يتمنى الزوال والغابط يتمنى الدوام والإتباع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وإن حسد اليهود كان باديا في كل معاملاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي أقوالهم وأفعالهم، وحسد بعض الذين بقوا على وثنيتهم كان باديا في نفاقهم وفي أفعالهم، وكانوا يجاهرون بالحسد قبل وقوعه إذ كانوا يجاهرون به، ولا يخفون كفرهم.
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راكبا دابة فمر بمجلس فيه مسلمون، ويهود ومشركون من عبدة الأوثان من بقايا الأوس والخزرج الذين لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام بعد، ولو نفاقا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نزل عن دابته وأخذ يدعوهم إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي : إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك. فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغش مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المشركون والمسلمون واليهود، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب" يريد عبد الله بن أبي بن سلول فكناه تقريبا لنفسه "قال كذا وكذا" فقال : أي رسول الله بأبي أنت وأمي ! اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق، فذلك فعل ما رأيت٢.
والحسد هنا واضح.
ولقد قال تعالى :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾، والعفو معناه، ترك المؤاخذة على الذنب والرفق في المظهر، والمعاملة الحسنة، والصفح هو إزالة كل أثر في النفس، فالعفو يتعلق بالمظهر كقوله تعالى :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( ١٩٩ ) ﴾ [ الأعراف ] والصفح ألا يبقى في النفس أثر من الآلام التي أثارها الحسد والعمل على مقتضاه، وكلاهما أعلى درجة من الصبر المجرد ؛ لأن الصبر معناه الضبط والتحمل مع ملاحظة ورجاء، والعفو يتضمن كالصفح معنى الصبر، مع تجمل المظهر وألا تكون آلام قط مما يصنعون.
وقد حد الله تعالى نهاية للعفو والصفح، وهو أن يأتي أمر الله قال تعالى :﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ وإن ذلك يكون بأحد أمور ثلاثة : إما بالقصاص منهم، بإجلائهم أو قتالهم، وإما بنزع الحسد والحقد من قلوبهم وهدايتهم، وإما بالغلب عليهم وأن يكونوا في ظل المسلمين، ويعلنوا إسلامهم وقلوبهم ليست مؤمنة وإن الأمر بالصفح والعفو كان لإرضاء قلوبهم، وإخراج الحسد من نفوسهم فإنه لا يدني القلوب إلا عفو رفيق وصفح جميل.
ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات قدرة الله تعلى فقال تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾، فإذا أمر الله كان قادرا على نزع الأحقاد من القلوب، والقصاص من الظالمين، وكشف ضلال المنافقين ؛ لأنه قادر على كل شيء وقد أكد قدرته سبحانه بالجملة الاسمية وإن المؤكدة، وعموم موضوع قدرته واختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على كل شيء بتقديم الجار والمجرور على قدير. تعالت قدرته وعظمته وحكمته.
١ متفق عليه: أخرجه البخاري بنحوه: كتاب التوحيد (٦٩٥٧)، ومسلم: صلاة المسافرين (١٣٥٠)}..
٢ هذه القصة مذكورة في البخاري: تفسير القرآن (٤٢٠٠)، ومسلم: الجهاد والسير (٣٣٥٦)..
وإن العفو والصفح صفحا جميلا لا منة فيه، يحتاج إلى رياضة نفسية وطهارة روحية وإلف اجتماعي ؛ ولذلك قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والصفح والأمر بالصلاة والزكاة وتقديم الخير رجاء من عند الله قال الله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾.
إقامة الصلاة أداؤها على الوجه الأكمل بأن يأتي بأركانها الظاهرة، وأركانها الباطنة مقومة غير معوجة طيبة خارجة من القلوب ليست النفس منفصلة عما تقوم به الجوارح، فإذا قال :"الله أكبر" شعر بعظمة الله وأحس برقابته، وأنه دخل بالتكبير في ظل رحمته، وأنه رقيب عليه وأنه يواجهه، وأنه في حضرة منشئ هذا الوجود بما فيه من سماء وأرض وجبال ووهاد، وأن نفسه في قبضة يده، والوجود كله في قبضته، وإنه بذلك يحس كأنه يرى الله لأنه في حضرته، وبذلك يعلو عن الأحقاد وعن الحسد، وعن كل ضغن وإحن ؛ ولذا قال تعالى :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ].
والزكاة تعاون إنساني ؛ لأنها معاونة القوي للضعيف وإعطاء الغني للفقير، والربط بين الإنسان بالأخوة الجامعة والمحبة الراحمة والمودة الواصلة، وعندها يزول الحسد ولا يتمنى أحد زوال نعمة أحد، وعند ذلك يكون العفو الشامل والصفح الجميل، ويدرك معنى قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل، ويراه بقلبه عيانا.
وإن مع الأمر بالصلاة التي هي رمز للطهارة النفسية والائتلاف النفسي، وإيتاء الزكاة التي تدل على الطهارة الجماعية والائتلاف أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير في شتى صوره، وقال تعالى :﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ و"ما" هنا من أسماء الشرط، وفعله تقدموا، وجوابه تجدوه عند الله، والنص الكريم حث على فعل الخير وبيان جزائه ؛ لأن جزاءه يجده عند الله أوفى مما قدم، وأكثر مما فعل، وقال تعالى :﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير ﴾ ونلاحظ ثلاثة أمور في كل واحدة إشارة بيانية، وحكمة ربانية :
الإشارة الأولى – أن الله تعالى عبر عن فعل الخير سواء أكان لنفسه أم كان للجماعة بقوله :﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ لأن فعل الخير للجماعة فعل لنفسه، والخير يعود على فاعله ابتداء، ويعود على الجماعة انتهاء، فمن تصدق فإنما يتصدق لنفسه، لأن الفائدة إليه إذ يعيش في مجتمع متكافل غير متدابر، ولتطيب بفعله القلوب وتسود المحبة الكامنة، وكذلك كل فعل خير يكون لنفسه، وهو يقدمه لنفسه أو يكون له ثوابه.
الإشارة الثانية – أنه يجد العمل قائما ثابتا عند الله، فيكون مهيأ حاضرا يراه ويعاينه، وذلك كناية عن جزائه الذي لا ينقص عنه، بل قد يزيد عليه رحمة من الله تعالى، ويراه عند الله محفوظا لا يضيع.
الإشارة الثالثة – تذييل الآية الكريمة بما يفيد علم الله تعالى بقوله تعالت كلماته :﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ وهذه الجملة السامية تفيد علم الله الذي لا يخفى عليه خافية، فلا يضيع عمل عامل منكم، وقد أكد سبحانه وتعالى إحاطة علمه بما يظهر وما يخفى مؤكدات ثلاث :
أولها – إحاطته وسمو ذلك بالتعبير ب "ما" الدالة على العموم، فإنها بمعنى الذي، وهي تدل على العموم الشامل.
ثانيها – بالجملة الاسمية وتأكيد الجملة بأن وتقديم الجار والمجرور على بصير، والتقديم دال على التخصيص.
وثالثها – التعبير عن العلم بالبصير ؛ فمعناه علم كأنه مبصور بالبصر، يعلم الخفي الدقيق، والجلي الواضح، فلا يخفى عليه شيء من عمل الإنسان ويعلمه علم من يبصره.
ذكر سبحانه وتعالى حسد اليهود بالمدينة، وكيف يداوي المؤمنون داء الحسد عند هؤلاء وهو بالعفو والصلح رجاء أن يقربوا بدل أن يستمروا على جفوتهم ونفرتهم، حتى يكون اليأس من إدنائهم فيكون القصاص أو الإبعاد، والله تعالى على كل شيء قدير.
ولقد بين سبحانه سبب حسدهم وهو غرورهم بأنهم أهل الجنة وحدهم فقال تعالى :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ﴾.
الضمير يعود على أهل الكتاب في قوله تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾ والضمير في قوله تعالى :﴿ وقالوا ﴾ يتعين عودته على أهل الكتاب للقول نفسه ؛ لأن الذين قالوا هذا القول اليهود، والنصارى وهم أهل الكتاب وهم الذين كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول بالترتيب الجماعي فاليهود قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، والنصارى قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وإلا فكل فريق لا يؤمن بالآخر فاليهود لا يعترفون بالنصرانية وهم الذين عادوا المسيح، وحرضوا على قتله وإن كان الله تعالى قد نجاه من دسهم وشبه عليهم، وقد دل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء... ( ١١٣ ) ﴾ [ البقرة ].
وهود قيل إنها هنا بمعنى يهود، ولكنها بمعنى الجمع ؛ لأن "من" هنا لفظ يدل على الجمع فالجمع أنسب إليه ويكون جمعا لها كعوذ جمع لعائذ، ولأنه مقابل لنصارى ونصارى جمع، وإن قولهم هذا كذب نشأ من غرورهم وإغلاق قلوبهم على ما عندهم، وما يتمنونه من أمان كاذبة إذ يتمنون ولا يعلمون ؛ ولذلك قال تعالى في تصوير حالهم :﴿ تلك أمانيهم ﴾ وهي جمع أمنية وهي على وزن أفعولة فأصلها أمنوية اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وقد ذكرنا ذلك من قبل، أي أن هذا ما يتمنونه، ولكن لماذا قال تلك أمانيهم ولم يقل أمنيتهم فذكر ذلك بلفظ الجمع "قالوا" ؟ : إذ الجمع يدل على أنه أمنية كل واحد بعينه فجمعت للدلالة على عموم التمني ؛ وذلك لأنهم يحكمون لأنفسهم بأمانيهم لا بأعمالهم بما يتمنونه لا بما يتخذونه لنيله الأسباب.
ولأن لفظ الجمع تأكيد لأن يكون هذا تمنيا لهم استجابة لغرورهم وأهوائهم، وقد قال تعالى لبيان أنها أمان كاذبة ليس لها من سبب ولا دليل ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ أقر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : هاتوا برهانكم، ولم يقل سبحانه سنكل طلب البرهان إلينا ؛ لأن عالم الغيب والشهادة، يعلم كذب ما يقولون وافتراءهم، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنه ما يتمنونه لا ما يستحقون فلا يطلب الدليل من يعلم ؛ وقد فرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب لا ليقتنع ولكن ليبين كذبهم في ادعائهم.
طلب منهم أن يأتوا ببرهان، والبرهان هو الدليل القاطع الملزم الذي لا يعتريه ريب. ولا شك أنه ليس عندهم دليل ظني أو قطعي من كتاب منزل أو قول نبي مرسل.
ولذلك قال سبحانه :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ فجعل أداة التعليق الدالة على الشك، وهي "إن" ؛ إذ إنه لا دليل عندهم فهم غير صادقين.
ثم بين سبحانه وتعالى أن دخول الجنة بالإخلاص والعمل لا بالتمني الكاذب فقال تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ بلى حرف للجواب بالنفي كما أن نعم للجواب بالإيجاب، وبلى تتضمن معنى الإضراب وهذا الكلام رد على المفترين الذين يتمنون الأماني الكاذبة فليست الجنة إلا جزاء المتقين ولا تكون للكذابين الجاحدين.
﴿ من أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾ ومعنى أسلم وجهه لله تعالى أسلم نفسه كلها لله تعالى، فتكون كل جوارحه وكل أحاسيسه وحركات قلبه خالصة لله تعالى خائفة منه خاضعة لكل ما يأمر وينهى، وعبر بالوجه فإنه كثير ما يعبر به عن الذات كما قال تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه... ( ٨٨ ) ﴾ [ القصص ]، ولأنه مظهر النفس، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة وهو الذي يكون به السجود ومظاهر الطاعة والخضوع والاستجابة.
ولا يكون إسلام النفس إلا وهو معه الإحسان في الأعمال كلها، فمعنى وهو محسن أنه يكون محسنا للناس في معاملتهم فيمدهم بالعون عند موجبه يعين الضعيف ويغيث الملهوف، ويحمل الكل، فلا يحسد الناس على ما آتاهم من خير ولا يكذب ولا يحقد ولا يمشي بنميم بين الناس ولا يتخذ السعاية سبيله، ولا يقطع ما وصل الله، ولا يفرق بين الأحبة، هذا كله يشمله معنى الإحسان وهو لا يحصى في خصائصه ومزاياه. وجملة ﴿ وهو محسن ﴾ حالية ومعناها أنه متلبس بالإحسان لا يصدر عنه غيره.
و﴿ من ﴾ من أسماء الشرط و ﴿ أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾ شرطه، وجزاؤه قوله تعالى :﴿ فله أجره ﴾ ثواب ذلك الإحسان وإسلام الوجه لله تعالى، أما الادعاء المغرور، والتمني الكاذب فجزاؤه جهنم وبئس المصير، وإنه لا خوف عليهم من عقاب، ولا حزن يعتريهم من عمل أسلفوه.
ولذا قال تعالى :﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي أنهم لا يخافون حسابا ولا عقابا ولا يحزنون لأمر نالهم، بل إن إخلاصهم لله، وإحسانهم العمل لا يجعل للعقاب سبيلا لهم، فهم في أمن الله لأنهم أطاعوه، أما غيرهم فهم في غيهم وغرورهم يوم القيامة يخافون مما يستقبلهم ويحزنون على ما فاتهم.
الاختلاف بين أهل الكتاب
﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( ١١٣ ) ﴾.
زعم اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وزعم النصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وهم بذلك قد جمعهم الغرور، والأماني الكاذبة، لأن الاعتقادات الباطلة يجمع أهلها الأماني الكاذبة، أو يستحسنون أعمالهم ويحسبون أنها الأمور الحسنة، لتزين لهم أعمالهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا وأوهامهم تسيطر عليهم وتتردى بهم في مهاوي الضلال.
وفي هذه بين سبحانه وتعالى ما يفرقهم بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى ما يجمعهم. وما يفرقهم هو التناكر أو التكذيب والتضليل، فاليهود يقولون : ليست النصارى على شيء والنصارى يقولون ليست اليهود على شيء، ومعنى على شيء : على شيء من العلم، ولا من الحق، ولا من الهداية، والتنكير لبيان عموم نفي الخير والأشياء الحسنة الطيبة التي ترفع صاحبها إلى مقام عال من الإنسانية الكاملة.
واختلفوا ذلك الاختلاف المفرق الذي يجعل كل فريق منهم في جانب مع أنهم علماء بالكتب السماوية، ونزل عليهم في أصل نحلتهم رسول من الله تعالى رب العالمين ؛ ولذا قال تعالى موبخا مبينا سوء تفكيرهم :﴿ وهم يتلون الكتاب ﴾ والمراد الكتاب أي يقرؤونه، ويعلمون ما فيه إن أرادوا ولم يحرفوه، وفيه الميزان بين الحق والباطل، وما فيه رضا الله، وما فيه غضبه، وفيه بيان ما يرفع، وبيان ما يخفض، ولكن أهواءهم هي التي تحكمهم، والهوى يفرق، والحق يجمع، والحق يهدي، والهوى يضل.
وإن هذا النوع من التفكير الخاضع للأهواء المردية التي يسرف فيه صاحبه لا يفترق فيه من أوتي علم الكتاب عمن لم يؤت علما بكتاب ؛ ولذلك كان المشركون يقولون مثل قولهم ؛ لأن المنزع واحد، وأهل كل ملة يقولون مثل قولهم إذا كان مصدر الحكم الهوى والشهوة ؛ لأن كل حزب بما لديهم فرحون ؛ ولذا قال تعالى :﴿ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ﴾ أي قالوا ليس غيرهم على شيء من الحق والخير، بل الحق عندهم دون غيرهم وزينت لهم أفعالهم، فلم يروا غيرهم يستوجب الجنة فهي لهم وحدهم دون غيرهم.
ولعل عذرهم في عدم العلم، أما الذين يتلون الكتاب من يهود ونصارى فما عذرهم ؟ !
وقد بين سبحانه وتعالى أنه هو الذي يفصل بينهم يوم القيامة، فقال تعالت آياته :﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ أي ليست أمورهم سددا بددا لا حكم فيها يحكم، ولا الأهواء هي التي تتحكم، بل هناك الحاكم الذي لا يخفى عليه خافية في الأرض والسماء، وهناك يوم يكون فيه الميزان والحكم ؛ ولذا قال :﴿ فالله يحكم ﴾ أي الذي يحكم، هو الذي يعلم صغائر الأمور وكبيرها، هو الذي يحكم وسيكون حكمه الفصل يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، وموضوع حكمه تسامى في علمه وعدله وما كانوا فيه يختلفون أي الأمر الذي كانوا فيه يختلفون ويتجدد خلافهم آنا بعد آن. وهذا كقوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ( ١٧ ) ﴾ [ الحج ].
وإن الله تعالى نهى نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم عن أن يكون من الذين يفرقون دينهم شيعا، ونهيه نهي لأمته، فقال تعالى :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( ١٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
ومع هذا الخبر الناهي الذي فيه العبرة وقع المسلمون في الاختلاف ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المساجد للعبادة فلا يمنع منها أحد
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( ١١٤ )
ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتوهمه أهل الكتاب وما يجري بينهم من خلاف يكفر فيه بعضهم بعضا، وأن المشركين يفعلون مثل فعلهم، ويقولون مثل قولهم، بعد ذلك ذكر أمرا حدث من أهل الكتاب ومن المشركين معا، وقد جمعتهم الأماني الكاذبة كما جمعهم الاعتداء على بيوت الله تعالى التي خصصت لعبادته.
فقد وقع ذلك من اليهود والنصارى إذ يمنعون غيرهم من المسجد الأقصى حتى دمره المتمردون من المغول والرومان والنصارى، منعوه أيضا بعد أن دخل قسطنطين وحرف النصرانية في مجمع نيقية كما هو معروف، والمشركون منعوا المسلمين من حج بيت الله الحرام وصدوا المسلمين في الحديبية. فالمنع من المساجد. وقوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾. "من" هنا للاستفهام بمعنى إنكار الوقوع أي النفي، فالمعنى لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، فقوله :﴿ أن يذكر فيها اسمه ﴾ بدل من المساجد، والمنع إنما هو من أن يذكر فيها اسمه وأضيف إلى المساجد للإشارة إلى أن ذلك اعتداء عليها، والاعتداء عليها اعتداء على الله سبحانه وتعالى ؛ لأنها مساجد الله تعالى ؛ إذ قد خصصت لعبادته سبحانه وتعالى، ومنع أن يذكر فيها اسمه، منع من ذكر الله تعالى وهو أكبر الآثام.
ثم المنع أهو من مسجد واحد، أم منع من مساجد متعددة، أو حكم عام – وهو الظاهر – أم ذكر لوقائع معينة ؟ قال بعض العلماء، وعلى رأسهم ابن جرير الطبري : إن المراد مسجد واحد، وهو المسجد الأقصى، إذ منع النصارى الصلاة وذكر الله فيه، وخربوه بعد أن حرفوا النصرانية ودخلوا في الديانة المحرفة.
وقال الأكثرون من المفسرين : إن الكعبة المكرمة هي التي منع المشركون في مكة أن يذكر فيها اسم الله تعالى، وذلك عام الحديبية فقد منعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أن يدخلوا البيت الحرام، وعلى رأس هذا الفريق من مفسري السلف ابن كثير رضي الله تبارك وتعالى عنه ولنترك الكلمة له. قال : والذي يظهر لي القول الثاني وهو أن المنع كان من البيت الحرام، وروي عن ابن عباس أن النصارى منعت اليهود الصلاة في بيت المقدس ؛ لأن دينهم أقوم من اليهود ( وفي ذلك نظر ) وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا ؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وأيضا فإن الله تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد، وأما اعتماده ( أي ابن جرير ) على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ؛ فأي خراب أعظم مما فعلوه ؟ ! ! أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ٣٤ ) ﴾ [ الأنفال ] وقال تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ( ١٧ ) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( ١٨ ) ﴾ [ التوبة ].
ويسترسل الحافظ ابن كثير في سوق الآيات الدالة على منع المشركين من أن يدخل المؤمنون البيت الحرام، وفسر تخريب البيت لا بمعنى تدميره ونقض بنيانه، كما تمسك ابن جرير، بل فسر التخريب بمعنى خلوها من العبادة الحق، وإن ذلك هو الأقرب إلى الدلالة اللفظية ؛ لأن الله تعالى لم يقل تخريبها أو تتبيرها كما عبر عن اليهود إذا دخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، حيث قال :﴿ وليتبروا ما علوا تتبيرا ( ٧ ) ﴾ [ الإسراء ]، وإنما عبر في هذا المقام فقال :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ﴾ أي أنهم بهذا المنع من ذكر الله تعالى سعوا في خرابها. وأي خراب لبيت من بيوت العبادة المخصصة لها ولذكر الله أعظم من منع هذا الذكر ؟
ولذلك اختار ابن كثير أن يكون الذي منع ذكر الله تعالى فيه هو البيت الحرام، إذ منعوا المؤمنين من دخوله، وقد قال تعالى في ذلك :﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( ٢٥ ) ﴾ [ الفتح ].
فالخراب هو خلوها من العبادة. والبيت المسكون يكون خرابا إذا خلا من السكان، ويقول الحافظ : ليس المراد بالعمارة زخرفها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله تعالى فيها، وإقامة شرعه. وإن هذا الكلام ينتهي لا محالة إلى أن الكلام في المنع من مساجد الله تعالى المنع فيه كان من مسجد معين هو البيت الحرام، فلماذا عبر إذن بقوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾ فلماذا ذكر المساجد بدل المسجد ؟ ونقول في ذلك : إن المنع كان في مسجد، وهو سبب النزول والاستنكار والظلم فيه شديد، ولكن الظلم يكون أيضا في المنع من غيره، فالسبب إذا كان واحدا، قد يكون الحكم أوسع شمولا، ويكون الظلم في منع أي مسجد، ولأن التعبير بالجمع يدل على أن المنع ظلم لما يكون من جنس المساجد كلها، ولا يختص بواحد من بينها.
ولقد قرر الله تعالى لهم عقوبة الدنيا، بأن ينزل الله على هذا المانع الظالم عقابا دنيويا صارما، وهو أنهم لا يدخلونها، لأن من سكن مكانا اعتدى فيه لا يدخله، والجزاء من جنس العمل، وقد نبأنا القرآن الكريم بأن العقاب سينزل بهم، وأن مكة وما حولها ستكون في قبضة أهل الإيمان، وأنهم من بعد ذلك لا يملكون منعا به بل قد يمنعون إن شاء الله تعالى ؛ ولذا قال تعالى :﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ أي ما كان يسوغ لهم أن يدخلوها إلا وقد خرجت من أيديهم فلا يدخلون مستمكنين قاعدين مستقرين، بل يدخلونها مضطربين فيها خائفين من أن يؤخذوا بظلمهم عالمين أنها بعيدة عليهم، وليست مكان استقرار، وقال ابن كثير : إن هذه الأخبار معناها الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت هدنة، وهذا النص لما فيه من أمر وطلب فيه بشارة بأن أمرهم زائل، وأنه خارج من أيديهم إلى أيدي محمد وأصحابه.
وذكر الله تعالى عقابا دنيويا آخر وهو أنهم يلحقهم الخزي بعد استعلائهم، والذل بعد استكبارهم، فقال تعالى :﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾ وهو أن يخرج البيت من أيديهم، ويكون أمره لغيرهم، وأن تهدم أصنامهم، وترمى من فوقه، ويطهر بناء البيت المكرم من رجسهم، ثم أن يمنعوا من البيت إلا أن يكونوا مؤمنين وقد منعوا من البيت، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... ( ٢٨ ) ﴾ [ التوبة ] وقد بلغ أبو بكر في السنة التاسعة عندما كان أميرا على الحج، بألا يطوف بالبيت مشرك قط١. وقد أشرنا في بدء كلامنا بهذه الآية الكريمة بأن اليهود قد منعوا من بيت المقدس وخربوه، والنصارى، وقلنا أنهم فعلوا ذلك بعد أن حرفوا الإنجيل، وآمنوا بالتثليث.
ولقد جاء في عبارة ابن كثير أنهم – أي النصارى – خير من اليهود، وأنهم أقرب اعتقادا، ونقول : إن هذا ليس بصحيح. إنهم لا يقلون فسادا في اعتقادهم عن اليهود، وإنهم ملة واحدة في سوء الاعتقاد، وضياع الإيمان، وإذا كان بعض النصارى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أقرب مودة للذين آمنوا، فجلهم آمن واهتدى، ومن بعد ذلك فهم واليهود على سواء في العداوة الأثيمة.
والآية كما قال بعض المفسرين تشمل المشركين والنصارى واليهود، فالمشركون منعوا المسجد الحرام أن يذكر فيه اسم الله تعالى، والنصارى منعوا اليهود وخربوا المسجد الأقصى، واليهود بما حرفوا وبما عصوا واعتدوا، وبكفرهم عجزوا عن حماية المسجد الأقصى فدمره القوم عليهم تدميرا.
وإن الذين قالوا هذا : إن هؤلاء جميعا نالهم خزي الدنيا، فالمشركون بإزالتهم أصنامهم، ومنعهم من دخول البيت وهم مشركون، واليهود والنصارى بالجزية تفرض، ويدفعونها خائفين غير مستكبرين.
ثم ذكر سبحانه العذاب الأنكى والأشد في الآخرة فقال تعالى :﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ وقوله "لهم" معناه أنه مختص بهم، ونكر العذاب لشدته، ووصف بأنه عظيم لقوته.
وكان اليهود الذين يساكنون النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وعقد معهم العقود، وانتهكوا حرماتها، ونقضوها كثيري القول في الإسلام، لا يتركون أمرا يظنونه مكيدة للمسلمين إلا فعلوه، ولا علما علموه فيه إلا نابذوه وأشاعوا بين المسلمين الشك فيه.
١ عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر، في رهط يؤذن في الناس: "ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان". [متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الحج (٥١٧١) ومسلم: كتاب الحج (٢٤٠١)]..
كانت القبلة ابتداء – وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم – إلى بيت المقدس، فأخذوا يشيعون في المؤمنين تبعية محمد صلى الله عليه وسلم إلى دينهم، وقد كان من قبل يتجه إلى القبلتين، ولكن لما هاجر كانت مكة تحت سلطان الشرك وفي قبضته والأوثان حولها ولم يكن في ظاهر الأمر أنها ستخرج من أيديهم، وإن كان أخذ يضايقهم في عيرهم ؛ الرائح إلى الشام، والقافل منها.
مكث المؤمنون على الاتجاه إلى بيت المقدس في صلاتهم ستة عشر شهرا حتى أذن الله تعالى بأن الأمور ستخرج من أيديهم، وقاربت غزوة بدر الكبرى في علم الله تعالى، فحول القبلة إلى الكعبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على تحقيق ذلك، وكان يقلب وجهه في السماء طالبا داعيا، فحوله الله تعالى إليها، فأخذ اليهود يشددون غمزهم في القول لهذا التحويل، ويتخذون ذلك سبيلا للطعن في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ويقولون إن ذلك تقلب في الإيمان واضطراب في معرفة الحق، كيف يتغير من القبلة الحق – في زعمهم – إلى ما دونها، وهم سفهاء حقا في كلامهم.
وقد بين الله سبحانه أن ذلك لا يتعلق بلب الإيمان، فالقلب موطنه، والله يختار أي مكان يكون القبلة وذلك مثل قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ( ١٧٧ ) ﴾ [ البقرة ].
لما كثر لغط اليهود قال تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾ أي أن الأرض كلها ملك لله سبحانه وتعالى مشرقها ومغربها، وما بينهما، والمشرق المكان الذي تشرق منه الشمس، والمغرب المكان الذي تغرب فيه، ولا فضل لمكان على مكان إلا باختيار الله تعالى له، ﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ أينما شرطية دالة على المكان وتولوا الفعل المجزوم بها، لأن فعل الشرط، والجواب دال عليه "فثم وجه الله" أي فولوه واتجهوا إليه، فإن هناك وجه الله تعالى، فثم بمعنى مكان أو هناك وجه الله، والمراد ذاته العلية الكريمة وعبر بالوجه لأن الوجه بالنسبة للعباد هو الجزء الواضح البادي، وإذا رؤي فقد رؤيت الذات، ولذلك كان في التحدث عن الله تعالى الوجه هو الذات، كما قال تعالى :﴿ كل من عليها فان ( ٢٦ ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( ٢٧ ) ﴾ [ الرحمن ].
ومعنى ﴿ فثم وجه الله ﴾، ولوا وجوهكم فإنكم ستتجهون إلى الله تعالى إذ ستجدون الله بنوره وجلاله في أي مكان. ولا يضير المكان أن يتغير الاتجاه من قبلة إلى قبلة ؛ لأنه حيث كان يجد الله فيتجه، والأمر إليه سبحانه في اختيار مكان اتجاه المؤمن.
ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :﴿ إن الله واسع عليم ﴾ والسعة بالنسبة لله تعالى سعة الملك، فالله تعالى واسع ملكه وسلطانه لا يقتصر ملكه وسلطانه على مكان دون مكان، بل كله في ملكه سبحانه الذي وسع ملكه كل شيء، وهو عليم بما يجري فيه، فالعبادة المخلصة المحسنة يعلمها ويصل إلى صاحبها ثوابها، سبحانه وتعالى..
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ليس بوالد ولا ولد
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ( ١١٦ )
تكلم القرآن الكريم عن اليهود، وخياناتهم وغدرهم في ماضيهم وحاضرهم وكفرهم بآيات الله تعالى، ومع ما صنعوا ادعوا أنهم أهل الجنة، وأن النار لن تمسهم إلا أياما، وقالوا مع النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا، وذكر عنهم اختلافهم وتنابذهم مع أنهم يتلون الكتاب، ثم أشار سبحانه إلى كلامهم في شأن القبلة ولجاجتهم في التشنيع على المسلمين بشأن تحويل القبلة إلى الكعبة يقول تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾.
وبعد ذلك يشير إلى الوثنية في الديانة النصرانية المثلثة، التي ابتدأت بادعاء أن المسيح ابن الله، وإذا كان اليهود قد شاركوهم في أن عزيرا ابن الله، فإنهم لم يلجوا فيه، ويجعلوه جزءا من دينهم، كما لج النصارى قبحهم الله، وزادهم ضلالا فوق ضلالهم، ووهما فوق أوهامهم فقد ضلوا سواء السبيل ولا أمل في هدايتهم إلا أن يتخلصوا عن هذه الأوهام وإلا فذرهم في غيهم يعمهون، وإن الله تعالى يهدي من يشاء.
وقالوا – أي النصارى ومن قاربهم من اليهود، وإن لم يلجوا لجاجتهم – قالوا وعليهم إثم ذلك القول لأنه اختراع كاذب، ونسب سبحانه وتعالى القول إليهم، لأنه ضلالهم الذي به ضلوا، وخرجوا عن التوحيد إلى الوثنية.
وقولهم هو :﴿ اتخذ الله ولدا ﴾ أي أن الله تعالى هو الذي اختار ولدا، أو جعله ولدا، وهذا يدل على زعمهم الباطل من أن الله تعالى احتاج إلى أن يكون له ولد، ورغب فيه وأراده، أو اشتهى كما يشتهي الأحياء أن يكون له ولد لحاجته إليه.
وقد رد الله تعالى عليهم ذلك الزعم بأربعة أدلة تدل على بطلان ذلك الزعم الوثني الذي يشابه مقالة عبدة الأصنام :
الدليل الأول : قوله تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي تنزه عن ذلك وتقدست ذاته العلية أن تكون مشابهة لأحد من الحوادث الذين يتوالدون ويتناسلون، فهو الواحد الأحد الذي لا يشابه أحدا من خلقه، ليس كمثله شيء، ولو كان له ولد لكان مشابها للحوادث ولكان له زوج، كما قال تعالى :﴿ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة... ( ١٠١ ) ﴾ [ الأنعام ] وأنه لو كان له ولد تولد منه لكان له والد، وهو منزه عن ذلك فهو الواحد الأحد الذي ليس له والد ولا ولد.
الدليل الثاني : أنه لو كان له ولد لكان مفتقدا إلى من يكمل وجوده ؛ لأن الولد امتداد لأبيه، فهو كمال وجوده، والله تعالى ليس بمفتقر لأحد ؛ لأنه الكامل المنفرد بالكمال، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك الدليل بقوله :﴿ بل له ما في السماوات والأرض ﴾، وبل هنا للإضراب والانتقال من تنويه إلى تنزيه، والمعنى أن له الملك الكامل والسلطان التام في السموات والأرض، فيستحيل أن يكون محتاجا إلى ولد، بل كل الوجود في سلطانه، وليس فقيرا إلى ولد يعينه، وهو يقول :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( ١٥ ) ﴾ [ فاطر ] وأن كل شيء خاضع لسلطانه مسبح بحمده كما قال تعالى :﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( ٤٤ ) ﴾ [ الإسراء ].
الدليل الثالث : أنه إذا كان الوجود كله ملكا له، فكيف يتخذ ولدا، وإنه إذا كان الوجود كله ملكا له، فكيف يكون محتاجا له، وإن الوالد قد يحتاج للولد ليكون مسخرا في حاجاته يقوم بحق الوالد عليه، والله لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوجود كله في قبضة يده، وكلهم خاضعون له ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ كل له قانتون ﴾ والقنوت : هو الخضوع المطلق، والعبادة والتسبيح له سبحانه وتعالى. والتنوين في قوله تعالى :﴿ كل ﴾ دال على عموم كل من في الوجود خاضع لله تعالى لا يحتاج إلى من يكون في طاعته.
والقنوت يشمل العبادة من ذوي الإرادة، ومن يقنتون بمقتضى التكوين الفطري، والتكوين كما قال تعالى :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ( ١٥ ) ﴾ [ الرعد ].
الدليل الرابع : أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات والأرض على غير مثال، وخلق الوجود كله الأرض والسماء والأحياء فهو الذي ذرأ من في السماوات والأرض، وكلهم عبيده، كما قال تعالى :﴿ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ( ٩٣ ) ﴾ [ مريم ] فكيف يكون له ولد، وأنه إذا كان له ولد، فإنه يكون من جنسه، ويكون من مثله والله المبدع للوجود والخالق منزه عن أن يكون بعضه من الحوادث والولد بعض أبيه وبضعة منه.
وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى :﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ وبديع بمعنى مبدع أي منشئ على غير مثال سبق، وقد أخذ بعض المفسرين من هذا دليلا على أنه لا يمكن أن يكون الإبداع متفقا مع اتخاذ الولد، فقد قال الراغب في ذلك :"إن الأب هو عنصر للابن منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها فلا يمكن أن يكون عنصرا للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلا" اه.
وإن هذا بلا ريب يتنافى مع الإبداع.
وإن الذين قالوا : إن الله اتخذ ولدا قالوا : إنه نشأ عنه ملازما له، كما ينشأ الضوء من الشمس وكما ينشأ النور من السراج، أي أنه نشأ من الموجد الأول نشوء المعلول من علته والمسبب عن سببه، وهم قالوا ذلك آخذين له من الفلسفة، وهي الأفلاطونية التي تتوافق مع النصرانية تمام التوافق، وهي بعد أن حرفت عما جاء به المسيح عليه السلام كما هي والأفلاطونية الحديثة على سواء.
فهم يقولون : إن الله ليس فاعلا مختارا وإنما نشأ الولد نشوء المعلول عن العلة ؛ ولذلك كان رد الله تعالى عليهم بإثبات ملكه وقدرته على الخلق والتكوين، وأنه أبدع السماوات والأرض بإرادته رد لكفرهم وضلال عقولهم، وأوهامهم الباطلة، التي ضلوا بها، وأضلوا الناس بالدعوة إلى تصديقها.
ولقد بين سبحانه إرادته المختارة بأنه مبدع السماوات، وبقوله تعالى :﴿ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ أي أنه إذا أراد خلق شيء ممكن قال له كن فيكون.
والواو عاطفة والمعطوف عليه بديع السماوات والأرض، "بديع" صيغة مبالغة بمعنى مبدع فهي في معنى الفعل ؛ ولذا صح عطف الفعل عليها، أو عطف الجملة الفعلية عليها.
وهي بيان الاختيار والفعل المنافي للتوالد، وقضى بمعنى أنشأ وخلق وكون، والأمر هنا هو بمعنى الشيء فإذا أراد الله تعالى خلق شيء لا يكون بتوليد شيء في شيء أو مادة من مادة، إنما يكون بكلمة يقولها وهي "كن" والأمر أمر تكويني فيكون الشيء الذي أراده الله تعالى.
وهذا يدل على أمرين :
أولهما – أنه سبحانه وتعالى فاعل مختار يفعل ما يريد، وأن الأشياء نشأت بإرادته المختارة، فهو فعال لما يريد، والأشياء لم تنشأ نشوء المعلول عن علة، أو المسبب عن سببه.
ثانيهما – أنه لا يمكن أن يكون له ولد، لأن الولد يتولد عن الوالد، ولا يخلق الله تعالى الأشياء بطريقة التوالد، من توليد لاحق بسابق، بل إنه سبحانه وتعالى ينشئ في الابتداء، والتوالد بين الأحياء يكون بسلطانه، وبحكمته وهو العزيز العليم.
إن المسيحية بعد المسيح عليه السلام سارت في ذلك المسار الذي انتهى بوثنيتها وانحرافها، وتحللها من العقيدة التي دعا إليها المسيح عليه السلام، وهي عقيدة المسيح، وأنه رسول الله تعالى، وأنه عبده ﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله... ( ١٧٢ ) ﴾ [ النساء ] وقد تم ذلك على النحو التالي :
أ – عندما توفى الله المسيح إليه، توالى التعذيب على أتباعه، والتعذيب بدأ في حياته عليه السلام في هذه الدنيا فقد اضطهده اليهود ودسوا عليه عند الرومان حتى هموا بصلبه ونجاه تعالى إذ شبه لهم، وما قتلوه وما صلبوه. وتوالى من بعد ذلك تعذيب الرومان، في عهد ملوك كثيرين منهم، فكان منهم نيرون الذي كان يطلي أجسامهم بالقار ويشعل فيه، ويسيرون في مواكبهم مشتعلين، وكان زينة موكبه تلك المشاعل الإنسانية، ومنهم دقلديانوس الذي قتل مقتلة عظيمة في سنة ٢٨٢، وإنه في وسط هذا الاضطهاد كان المسيحيون يقيمون شعائرهم الدينية في الخفاء إذ كلما ظهروا عذبوا، وكانوا إذا ظهروا أخفوا عقائدهم فكانوا يفتشون القلوب وينقبون عن خبايا النفوس، ولا يسلم الدين مع هذا الاختفاء إذ لا يكون مرشد هاد، ولا رقيب يمنع دخول الزيف في دينهم.
ب – وفي هذه العصور دخلت عناصر من الوثنيين يحملون وثنيتهم، وخلطوا ما بينها وبين عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، وإن الاختلاط بمرضى الحقائق يجعل الضلال يسري إليهم كما تسري عدوى الأمراض.
ولعل أشد الوثنيين الذين أغاروا عليهم، بولس، الذي سموه رسولا، فقد كان عدوا للمسيح في حياته في هذه الدنيا، كان إلبا عليه يحرض الرومان، ثم ادعى أنه دخل المسيحية، وما دخل، أو دخلها ليخربها وهو أول من أدخل الوثنية فيها، واطرح فيها تعاليم المسيح اطراحا.
ج – وقد كانت الأفلاطونية الحديثة تتكون، وأساسها أن الأوثان الرومانية فقدت قوتها، والفلسفة هي الأخرى فقدت سلطانها، فأرادت الأفلاطونية الحديثة أن تصل إلى نفوس الرومان باسم الدين وأرادت أن تجمع من بقايا من الوثنية، ومن اليهودية والنصرانية التي ظهرت دينا جديدا، فكانت النصرانية التي خرجت عن دين المسيح عليه الصلاة والسلام، وهي جمعت بين الوثنية بألوهية وروح القدس مع الله، واليهود باعتبار التوراة أصلا لها فصارت النصرانية.
والأفلاطونية الحديثة التي يعد أكبر رؤسائها أفلوطين المتوفى سنة ٢٧ ميلادية تعتقد أن العالم نشأ عن الشيء الأول، وهو الله أو العقل الأول عندهم، ثم نشأ عنه العقل الثاني وهو ما سمي عند النصارى بالابن، ثم نشأ عنهما الروح العامة المتصلة بالمخلوقات جميعا.
د – مع هذه الأعراض التي ظهرت في المسيحية، ومع هذه المحاولات الوثنية كان التوحيد هو المسيطر وهو الأكثر أتباعا في القرون الثلاثة الأول والثاني والثالث، وخصوصا في الأول والثاني، وإذا كانت وثنية تظهر، فإن الكثرة الموحدة تطردها كما يطرد الجسم السليم بحيوية الأمراض ويتغلب عليها، واستمرت كذلك طول هذه القرون الثلاثة.
حتى جاء بطريق الإسكندرية، وهي موطن الأفلاطونية الحديثة، جاء باتفاق مع قسطنطين إمبراطور الرومان في أول القرن الرابع، وادعى أن التوحيد بدعة في المسيحية، وأن الأصل فيها ألوهية المسيح في زعمهم، وأن آريوس الموحد وكان في الإسكندرية قد ابتدع التوحيد مع أن كل كنائس مصر والشام موحدة لا يرتاب أتباعها في ذلك.
وأنه يجب طرد أريوس الموحد المنكر لألوهية المسيح من المسيحية، مع أنه صورة للكثرة المسيحية الكاثرة التي كانت منبثة في ربوع مصر والشام.
ه - دعي بسبب هذا لعقد مؤتمر عام في نيقية الذي عده النصارى المصدر الأخير لديانتهم، دعي في هذا المجمع العام ٢٠٤٨، ثمانية وأربعون وألفا أسقف، وجرى بينهم اختلاف، والسائد فيهم التوحيد وإن كان انحراف من بعض الطوائف.
ولكن قسطنطين يريد الدخول في النصرانية بعد أن يصيرها قريبة من دينه بإدخال الوثنية فاختار من هذا العدد الكبير ٣١٨ أي ثمانية عشر وثلاثمائة، وقد رضوا بما يدعو إليه، وسلطهم على المسحيين كلهم وأعطاهم شارة الملك وصولجانه.
فقرروا ألوهية الابن أي المسيح بقيادة بطريق الإسكندرية مهد الأفلاطونية الحديثة، وكان ذلك المجمع سنة ٣٢٥.
ولكن المسيحيين عارضوا ذلك المجمع، واعتبروه خارجا على المسيحية، وأيدت المعارضة مؤتمرات في الشام كمؤتمر صور.
ولكن الأفلاطونية الحديثة لم تتم فصولها، فقد تقررت في هذا المجمع ألوهية الابن في زعمهم، ولكن ثالوث الأفلاطونية الحديثة الله أو الأب، أو العقل الأول، والابن أو العقل الثاني، وروح القدس لم يتقرر بعد ! ولذا كان لابد من أن يتقدم بطريق من الإسكندرية سنة ٣٨١ بطلب تقرير ألوهية روح القدس فانعقد مؤتمر القسطنطينية، وقرر باقتراح بطريق الإسكندرية ألوهية روح القدس.
وبذلك تم ثالوث النصارى، وهو ثالوث الأفلاطونية الحديثة ﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة... ( ٧٣ ) ﴾ [ المائدة ] وهم بهذا وثنيون يشركون مع الله أحدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تشابه المشركين وأهل الكتاب
اليهود يتعنتون والمشركون طلبوا آيات مختلفة، آيات حسية مطرحين الآيات المعنوية، مع أن الله تعالى أجرى على يديه خوارق للعادات باهرة كالإسراء، والطعام الكثير من الغذاء القليل، وسح الماء بين يديه، وحنين الجذع إليه وتعشيش اليمام حول الغار، وسير السحاب معه لتضله، ونصره بالرياح وقد اشتدت الشديدة، وغير ذلك كثير، ولكنه لم يتحد إلا بالقرآن ؛ لأنه الآية الكبرى، والمعجزة الدائمة القاهرة.
ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم ﴾ الذين أي الذين لم يؤتوا علما سابقا وهم الأميون، وتكون الآية الكريمة نصا في المشركين ؛ لأنهم الأميون الذين لم يعلموا كتابا ولم يكونوا من أهل الكتاب، وقد جرى تعبير القرآن بذلك في مقابل أهل الكتاب، ولقد طلبوا آيات مختلفة، فطلبوا أن ينزل عليهم قرطاسا من السماء يخاطبهم به الله، أو ملكا رسولا، كما رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( ٨ ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
وهذا على أن الذين لا يعلمون هم المشركون، لقد طلبوا هذا وطلبوا آيات كثيرة في سورة الإسراء وتلونا من قبل قوله تعالى :﴿ لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ﴾ لولا هنا للتحريض والطلب، تقارب معنى هلا، وليست للشرط الدال على امتناع الجواب لوجود الشرط، مثل :﴿ لولا أنتم لكنا مؤمنين ( ٣١ ) ﴾ [ سبأ ] والفرق اللفظي أن لو التي تكون للطلب يكون بعدها الفعل، ولولا الشرطية يكون في صدر فعلها اسم، كما دل على ذلك استقراء اللغويين، وفسر كثيرون من الفقهاء، أن الذين لا يعلمون هم من أهل الكتاب الذين حضروا عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ويرشح لهذا التفسير قوله تعالى :﴿ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ﴾ فقد قال الذين من قبلهم أرنا الله جهرة.
وقوله تعالى :﴿ مثل قولهم ﴾ أي في التعنت وطلب الآيات الحسية، وإذا كانوا قد طلبوا ذلك مع تسع آيات بينات حسية، فإن الذين فعلوا مثلهم طلبوا ذلك مع ما هو أعظم من ذلك، وهو القرآن المعجزة الإلهية الكبرى.
وليس في الأمر تضاد بين الرأيين ؛ ولذلك يكون الجمع بينهما أولا، فالذين لا يعلمون الحق، ولا يدركون معاني الإيمان طلبوا ذلك سواء أكانوا من المشركين، أم كانوا من اليهود والنصارى المتعنتين الذين إذا كان علمهم بالكتاب فقد جهلوه أو تجاهلوه أو أنكروه، فهم مع الذين لا يعلمون على حد سواء.
وقد بين الله سبحانه وتعالى تشابه ما بين ماضي الكافرين وحاضرهم، فقال تعالى :﴿ تشابهت قلوبهم ﴾ أي أن قلوبهم تتشابه في الإلحاد في دين الله تعالى، وتعنتهم في طلباتهم، وجحودهم المستكن في قلوبهم الذي يظهر على أقوالهم، فإذا كانت أقوالهم متحدة، فلأنها ناشئة من قلوب متحدة في أنها لا تؤمن بشيء، ولقد جاء عيسى ببينات قاطعة من إحياء للموتى وإخراج لما في القبور، وتصوير للطين ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى. جاءهم بكل هذا فقالوا : هذا سحر مبين فالجاحد لا يؤمن بشيء وليس عدم إيمانه لنقص في الدليل، بل كلما زاد الدليل قوة زادوا عنتا وكفروا، وصرفوا عقولهم ونفوسهم لا في الإيمان به، بل في إعمال الحيلة لرده.
ولذلك رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى :﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ أكد الله سبحانه وتعالى أنه بين للذين لا يعلمون في الحاضر، والذين قالوا مثل قولهم في الماضي، وأتى لهم بآيات من شأنها أن تدخل إلى القلوب بالإيمان، ولكن بشرط تقبل القلوب للحقيقة، وإن من شأنها أن توقن بالحق إذا عين لها دليله ؛ ولذا قال تعالى :﴿ لقوم يوقنون ﴾، أي من شأنهم أن يوقنوا عند وجود الدليل، لا يترددون وليس من شأنهم التردد، وينتهي ترددهم بالجحود.
إن الدليل إذا كان قويا صدقوا بعقولهم، ولكن إذعانهم لا يكون إلا إذا كانت قلوبهم خاضعة من شأنها اليقين، وقد تستيقنها النفس لكن لا تسكن القلوب إلا إذا كان اليقين من القلب المؤمن بالحق أو المستعد له الذي يقذف الله تعالى في قلبه بالنور ؛ ولذا قال تعالى في شأن الجاحدين المتعنتين :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم... ١٤ ) ﴾ [ النمل ].
والآيات هنا إذا كانت عامة للحاضرين والماضين فهي الآيات التي سبقت لموسى ولعيسى، وآية محمد الكبرى، وهي القرآن العظيم الخالد الباقي إلى يوم القيامة.
ومعنى قوله :﴿ قد بينا الآيات ﴾ قد أنزلنا بينة مقنعة بذاتها ؛ لأنها العلامات والأمارات القاطعة في الدلالة على الله، وعلى نبوة الرسول الذي بعثه الله تعالى.
ويلاحظ أن هذا في موضوع نسخ الآيات المعجزات، واستبدال آية بآية، والقرآن الكريم في هذا النسق يفصل بعضها وما عرض من أخبار اليهود والنصارى والقبلة، والاعتراض والرد لم يكن بعيدا عن ذلك بعدا تاما.
وإن هذا التعنت في طلب الآيات، وعقد مشابهة بين آيته الكبرى، وآيات النبيين السابقين التي لم تأت بإيمان أهل الكتاب بل عاندوها، وجحدوا بها، وقالوا : هذا سحر مبين، وقالوا ائتنا بآية غير هذا القرآن، وقد ذكر أنه إن نسخ آية أي تركها يأت بمثلها، أو خير منها.
ولذا ذكر سبحانه وتعالى أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق في ذاته يدعو إلى نفسه، وقد أيدت بآية هي حق، ويدعو إلى الحق، فقال تعالى :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ﴾ أي إنا بعثناك نبيا مرسلا، مقترنة أو متلبسة رسالته بالحق، فهي حق يثبت نفسه، وما فيها حق، وما تدعو إليه حق، والحق وحده كاف لإقناع من يكون عنده قلب يدركه، ويمتلئ قلبه حكمة، وبصيرة، وإذا كان القلب مخلصا أدرك وآمن. يروى أن أكثم بن صيفي حكيم العرب عندما بلغه بعث النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولده يسألون عما يدعو إليه فلما ذهبوا إليه تلا عليهم قوله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( ٩٠ ) ﴾ [ النحل ]. فلما عادوا تلوا على أبيهم ما تلاه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال حكيم العرب : إن هذا إن لم يكن دينا كان في أخلاق الناس أمرا حسنا، كونوا يا بني في هذا الأمر أولا، ولا تكونوا آخرا فالحق نور يدعو إلى اتباعه.
وقوله تعالى :﴿ بشيرا ونذيرا ﴾ أي مبينا الحق، ومبينا أن جزاء من تبعه الحسنى، ومبينا أن من يعانده يكون السوء مصيره ف﴿ بشيرا ﴾ بيان لبشرى من يتبع، و﴿ نذيرا ﴾ بيان للسوء لمن يعاند ويجحد، إنما أنت عليك البلاغ وإنما أنت نذير، لما قال تعالى :﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ( ٤٠ ) ﴾ [ الرعد ]، و﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ لست أيها الرسول مسئولا عمن يتردون في الضلال، وهم أصحاب الجحيم، وعبر سبحانه وتعالى عنهم للدلالة على ما يستقبلهم من عقاب فللذين أحسنوا الحسنى وللذين أساءوا السوء.
والجحيم وصف من الجحمة والجحمة شدة تأجج النيران، والمعنى لا تسأل عن الذين يلازمون النار ملازمة الصاحب فهم أصحابها والمختصون بها.
وإنه لا يسأل عنهم، فهو النذير العريان الذي لا يتحمل تبعة مخالفة المخالفين، بل هذا جزاؤهم وهو بشير أو نذير، ﴿ بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها... ( ٤١ ) ﴾ [ الزمر ] ﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ( ٧ ) ﴾ [ الرعد ] فلست بمسئول عمن كفر وطغى.
وإن الذين يثيرون القول في الآيات البينات وخاصة معجزة القرآن هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين غلفت دون الهداية قلوبهم، وتعصبوا لأوهام باطلة سيطرت على نفوسهم، وحسبوا ألا يكون دين فوق دينهم يجب إتباعه، وجهلوا ما عندهم، وضلوا فيه ضلالا مبينا، وغاضبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾ في هذا النص إشارة إلى أنهم هم الذين يعارضون، ويتعنتون ؛ لأنه سبق إليهم ما يحسبون به أنهم فوق أن يتبعوا غيرهم، بل غيرهم عليه هو أن يتبعهم، وقد أكد الله تعالى أن ذلك المعنى في نفوسهم، فنفى عنهم الرضا على النبي صلى الله عليه وسلم نفيا مؤكدا للحال التي كانوا عليها عند المبعث المحمدي ؛ لأن رسالته عليه الصلاة والسلام، واجهت في نفوسهم شعورا مملوءا بالضلال والهوى والانحراف عن الجادة المستقيمة، ولكي يدخل الحق إليها لا بد من تفريغ ما فيها من ضلال وفساد، وهداية النفس الخالية من فساد المنكر أقرب من النفس الممتلئة بالباطل.
فهم يريدون أن يكونوا متبوعين لا تابعين، وتلك توجد فيهم جحودا، وقسوة في قبول الحق لا يقل عن المشركين، في تمسكهم برياستهم، وشرف قبائلهم وعشايرهم، والمنافسات بينهم.
والملة هي الشريعة، وقد قال الراغب في مفرداته :( الملة كالدين وهي اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوسلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي عليه السلام الذي تسند إليه نحو ﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم...( ٩٥ ) ﴾ [ آل عمران ]، ﴿ واتبعت ملة آبائي... ( ٣٨ ) ﴾ [ يوسف ] ولا تكاد توجد مضافة إلى الله، ولا إلى آحاد أمة النبي، ... لا يقال : ملة الله، ولا يقال : ملتي، ولا : ملته ).
وعلى ذلك يكون :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾ أي الملة التي جاءتهم عن أحبارهم ورهبانهم، وإن ملة اليهود، ومثلها ملة النصارى أوهام أوجدتها شهوات حبيسة، فملة اليهود أهواء وملة النصارى أوهام وأهواء، وكلهم ضلال في ضلال.
ولذا قال تعالى :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ﴾ أكد الله سبحانه وتعالى نهي النبي صلى الله عليه وسلم باللام الدالة على القسم مع إن، وهما أشد ألفاظ التوكيد في بيان عاقبة الاتباع، وأنه إذا كان الاتباع المنهي عنه نهيا مؤكدا، فالعاقبة ألا يكون لمن اتبع أهواءه إلا أن ينزل عليه عقاب الله تعالى، ولا يكون له ولي محب يدفع عنه، ولا نصير ينصره من غير الله.
فمعنى النص السامي أنك أيها الرسول إن اتبعت أهواءهم فإن من المؤكد أن العذاب نازل، ولا ينجيك منه ولي ولا نصير.
وهنا ملاحظتان بيانيتان : أولاهما – أن تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد به شخصه أولا بالذات، إنما يقصد به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وأن عليهم أن يحرصوا على مجانبتهم، وألا يغتروا بهم، وإنه في وقت ضعف النفوس المؤمنة يكون كيد هؤلاء مستمرا، دائما ومذهبا يصلون به إلى قلوب ضعاف الإيمان، فقد يميلون – وإن لم يكفروا – فيستحسنوا ما عندهم، وإنا نرى من ضعفاء الإيمان في عصرنا من يستحسنون كل ما عند النصارى واليهود، فإذا ذكرت أحوالهم استحسنوها، وإذا ذكرت مكارم المسلمين استهجنوها، حتى طمع أولئك الفجرة الفسقة في بعض المسلمين، فأخذوا يستهوونهم بكل الأساليب، وقى الله أهل الإيمان منهم.
الملاحظة الثانية – أن هؤلاء ما عندهم ليس بدين يتبع، ولكنه أهواء باطلة وأوهام فاسدة، وأي عقل يدرك أن الواحد اثنان وأن الاثنين ثلاثة ؟ ! ! ولكنها أوهام ضالة، والله المنقذ من الضلال.
وإن الله تعالى منصف في أحكامه، فهو سبحانه وتعالى لا يعمم فتشمل البريء والسقيم ؛ ولذا بعد أن ذكر حال اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أهل الكتاب من يتلونه حق تلاوته، ويتعرفون غايته ومراميه، وإن هؤلاء يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعونه ؛ ولذا قال تعالت كلماته :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾.
آتيناهم معناها أعطيناهم، وتقبلوا العطاء بنفس شاكرة، وعقل مدرك وقلب مؤمن، فلم يكن إعطاؤهم كأي إعطاء، والكتاب هو ما أعطاهم الله تعالى من قبل كتوراة موسى أخذوها من غير محاولة تحريفها، وإنجيل عيسى أخذوه كما هو داعيا إلى الوحدانية مع الإيمان بأنه بشر كسائر البشر، رسول كغيره من الرسل أولي العزم، ليس ابنا ولا إلها، قال لقومه : اعبدوا الله ربي وربكم، فالكتاب هو كتاب أهل الكتاب، وهم الذين عرفوه، وقوله تعالى :﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ أي يتعرفون معناه فينزجرون بزجره، ويتعظون بعظاته، ويعتبرون بقصصه ؛ ولذلك فسر بعضهم التلاوة في هذا المقام بالاتباع، كما في ﴿ والقمر إذا تلاها ( ٢ ) ﴾ [ الشمس ]، أي تلا الشمس أي اتبعها واستضاء بنورها.
فمعنى ﴿ حق تلاوته ﴾ أي التلاوة الحق، وهي التلاوة المتبعة المتفهمة المدركة، والمتقبلة غير المعاندة. وبين سبحانه وتعالى جزاءها وأوصاف أهلها فقال تعالت كلماته :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ يصدقونه ويذعنون لما يأمر به وينهى عنه، ويعملون بموجبه.
وهؤلاء هم من الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( ١١٣ ) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ( ١١٤ ) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ( ١١٥ ) ﴾ [ آل عمران ].
وهم الذين قال تعالى فيهم :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( ٥٢ ) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( ٥٣ ) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ( ٥٤ ) ﴾ [ القصص ].
هذا التفسير على أساس أن الكتاب هو كتاب أهل الكتاب الذين آمنوا به ولم يحرفوه عن مواضعه، ولم يكتبوه بأيديهم ويلوون به ألسنتهم، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
ولكن من المفسرين من قالوا إنه القرآن الكريم، وإطلاق اسم الكتاب عليه من غير ذكر أنه القرآن، للدلالة على كماله وأنه لا يماثله من الكتب كتاب ولو كان سماويا ؛ لأنه الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، مثل قوله تعالى :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه... ( ٢ ) ﴾ [ البقرة ].
ويكون معنى تلاوته أن يتدبر معناه، ويتعظ بمواعظه، ويعتبر بقصصه كما ذكرنا آنفا، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ١ ولقد قال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، في معنى قوله :﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ : الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منه. ولقد قال الحسن البصري في الذين يتلونه حق تلاوته : هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويتفهمون معانيه.
هؤلاء هم أهل الإيمان – من الماضين – بكتبهم، المؤمنون بالقرآن الكتاب الأكمل، أما من كفروا فقد ذكر الله تعالى ما يستميلهم، فقال تعالت كلماته :﴿ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾ الكفر به جحود بآياته وإنكار لأحكامه، ومعاندة، وقال أولئك الإشارة إليهم محكمين كفرهم متصفين به، وحكم سبحانه بالخسران مؤكدا له بضمير الفصل هم، وبالجملة الاسمية وبحصرهم في الخسران والله أعلم بهم.
١ عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة قال فافتتح البقرة فقرأ حتى بلغ رأس المائة فقلت يركع ثم مضى حتى بلغ المائتين فقلت يركع... الحديث إلى أن قال: "وكان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية فيها عذاب تعوذ وإذا مر بآية فيها تنزيه لله عز وجل سبح". [أخرجه أحمد: كتاب باقي مسند الأنصار (٢٢١٧٥) وغيره، وأصله عند مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (١٢٩١)]..
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ( ١٢٢ ) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ( ١٢٣ ) ﴾.
تقدم بيان معاني هاتين الآيتين الكريمتين١، وبقي أن يسأل سائل لماذا تكررت الآيتان، ونقول إنه ابتدأت قصة بني إسرائيل بهاتين الآيتين، وذكر من بعدها النعم المتوالية، والكفر المتوالي، وكيف كانت النعم لا تزيدهم إلا كفرا وخسارا، وذكر سبحانه وتعالى تقلبهم في نعمه تبارك وتعالى، وكفرهم المتوالي بهذه النعم.
وفي ذلك اعتبار للناس، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، وأنه ما كان حديثا يفترى.
وفي ختام قصصهم في هذه السورة ( سورة البقرة ) تأكيد لنعمه عليهم، وتأكيد لم كان زجرهم ؛ ليتبين أن ابتداء أمرهم كنهايته. ﴿ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ( ٥٨ ) ﴾ [ الأعراف ].
١ راجع تفسير الآيتين ٤٧، ٤٨ من سورة البقرة في هذا التفسير المبارك..
إبراهيم وبناء الكعبة
بعد أن قص الله تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل وما كفروا به هذه النعمة في حاضرهم وماضيهم، وكانوا يفخرون بأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإنهم لهذا أبناء الله وأحباؤه، وما أداهم ذلك الاعتقاد الواهم الباطل إلى ضلال توارثوه، وفساد فكر تناقلوه، وكفر بالله، وقتل للنبيين، أخذ سبحانه يقص قصص إبراهيم أبي إسماعيل وإسحاق وجد يعقوب وجد النبيين الذين ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن.
يقول سبحانه :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾ و"إذ" ظرف زمان يدل على الماضي متعلق بمحذوف تقديره : اذكر الوقت الذي ابتلى الله فيه إبراهيم بكلمات فأتمهن، وذكر الوقت ليس ذكرا للزمن المجرد، إنما هو ذكر للوقائع في هذا الزمن، للعبرة بها، والاتعاظ في مثلها.
وقد ابتدأ هذه الوقائع بابتلاء إبراهيم عليه السلام بكلمات. والابتلاء معناه الاختبار من الله تعالى لا عن جهل بما سيكون، بل لإظهار ما علمه الله تعالى عما يكون، ولا يكون إلا في أمر يعمله العبد بمجاهدة، وصبر وجهاد نفس، وقد كان الابتداء بذكر الابتلاء لبيان أن إمامة النبوة لا تكون إلا بمجاهدة، وجهاد النفس، وقدم المفعول على الفاعل وهو "الكلمات" التي ابتلي بها ؛ لأن موضوع الحديث هو إبراهيم ذاته وليس الكلمات، فكان هو موضع الاهتمام وحده، وكان المراد كشف حال نفسه القوية الطاهرة، كما قال تعالى :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين... ( ٣١ ) ﴾ [ محمد ].
والكلمات التي اختبر الله تعالى بها إبراهيم، ليست هي ألفاظها وكلماتها وحروفها، وإنما المراد بالكلمات المدلولات والمطلوبات التي تتضمنها من أوامر ونواه ووقائع.
وقد اتجه بعض مفسري السلف إلى إحصاء ما تدل عليه هذه الكلمات اعتمدوا في ذلك على أقوال الصحابة والتابعين، ولكن لم يسند فيها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شيء ؛ ولذا قال شيخ المفسرين السلفيين ابن جرير : لا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع.. ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة يجب التسليم له. اه.
وإذا كان لم يصح خبر بهذه الكلمات أو بالوقائع التي تدل عليها الألفاظ، فإننا نتلمسها من القرآن الكريم سجل النبوات وأخبارها.
فأول واقعة تجلى فيها اختبار الله تعالى لإبراهيم هو في طلب معرفة ربه رب الوجود، ورب المشارق والمغارب، فقد اختبره الله تعالى بذلك – كما حكى القرآن الكريم – فقد كفر بالأوثان، ابتداء ؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ثم أخذ يتعرف رب الوجود من الوجود والملك واقرأ قوله تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( ٧٤ ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( ٧٥ ) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( ٧٦ ) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( ٧٧ ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون ( ٧٨ ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( ٧٩ ) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ( ٨٠ ) ﴾ [ الأنعام ].
هذا اختبار من الله تعالى عرف به عقل إبراهيم السليم، وإدراكه المستقيم.
وقد اختبره الله تعالى وألهمه أن يحطم الأوثان فحطمها، وجعلها جذاذا، وألقوه في النار عقابا فقال الله تعالى :﴿ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ( ٦٩ ) ﴾ [ الأنبياء ]. واختبره الله تعالى بكلمة مدلولها أشد ما يكون على النفس البشرية أن يذبح ولده البكر عليه السلام، فاستجاب لأمر ربه وأخذ يذبح ولده الحبيب استجابة للحبيب، ولكن فداه الله تعالى بذبح عظيم.
واختبره الله تعالى بالهجرة من بلده إلى الشام، وإلى مكة حيث ولده العزيز إسماعيل وأمه واختبره الله تعالى بالحنيفية السمحة فحملها وكانت ملته المتبعة، وما كان من المشركين.
اختبره الله تعالى بكلماته، أي بمدلولها، وما ذكرنا بعضها، فأتمهن أي أتم ما طلب منه فيها، وكان أمرها عظيما وكان إبراهيم في إتمامها عظيما.
ولذا كانت مكافأة الله تعالى أعظم، فكانت جزاء وفاقا لما أتم به الكلمات، قال الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم :﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ أي يقتدى به ويتبع، فالإمام ما يؤتم به ويتبع و "جاعلك" أي مصيرك بإتمام الكلمات، ووفائك لهذا قدوة طيبة، وأسوة صالحة، فمن اتبعك فقد اهتدى، وأي امرئ عنده طاقة إبراهيم أبي الأنبياء في القدرة على الاقتداء به، والاهتداء بهديه والوفاء بكلماته. إن ذلك لمقام عظيم.
وإبراهيم كان شفيقا رفيقا محبا لأسرته في غير ظلم ولا اعتداء، وكان يعطف على الأطفال ويرفق بهم ؛ ولذلك لم يكتف بأن كان هو الإمام، بل أراد أن يكون إمام من ذريته يعمل بمثل عمله ويقتدى به في الهداية، فهو يطلب الهداية لذريته لا استئثارا بالمحبة ولكن بالتقوى والهداية ؛ ولذلك قال مناجيا ربه :﴿ ومن ذريتي ﴾ أي اجعل يا رب العالمين من ذريتي أئمة صالحين يؤتمون ويقتدى بهم، فهو يدعو الله تعالى إلى أن تكون ذريته طيبة صالحة يقتدى بهم، فتكون خلفا له في الإمامة لا بمجرد الانتساب إليه بل لعملهم وتقواهم وإيمانهم بكلمات الله.
ولكن الله تعالى العليم الذي يعلم كل شيء يعلم ما هو كائن، وما يكون أشار إلى أنه لن تكون ذرية إبراهيم كلها من الصالحين الذين يؤتم بهم، بل سيكون منهم الظالمون الذين يظلمون أنفسهم، وغيرهم بالمعاصي يرتكبونها وبالشر يعملونه ويطلبونه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾.
أي أن ذريته سيكون منهم محسن، وسيكون منهم ظالم لنفسه، بالمعاصي، فالمحسنون ينالهم عهدي، ويكون منهم أئمة يقتدى بهم، وأما الظالمون فلن ينالوا إمامة في الدين من الله سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى :﴿ وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ( ١١٣ ) ﴾ [ الصافات ] والمعنى أن ذرية إبراهيم من أحسن منها نال الإمامة، ومن لم يحسن فهو ظالم لا ينالها ؛ لأنه يضل الناس، ولا يهدي أحدا ؛ ولذلك كان من ذريته أئمة في الدين، وقد قال تعالى :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( ٢٧ ) ﴾ [ العنكبوت ].
والعهد في اللغة مراعاة الشيء والمحافظة عليه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( ١١٥ ) ﴾ [ طه ] والعهد أيضا الأمر الموثق الذي لا يجوز نقضه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( ٣٤ ) ﴾ [ الإسراء ] وقوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا... ( ٩١ ) ﴾ [ النحل ].
والعهد في هذه الآية هو الإمامة، وكأنها مأخوذة من العهد بمعنى الرعاية فعهد الله تعالى أن يعهد برعاية الدين والإمامة إلى إمام في الدين، وإنه لا ينال هذه الإمامة ظالم، ولا يشمل عهد الله بمعنى أن يعهد بالرعاية للظالمين، أي لا يشمل عهدي ظالما قط.
وقد تكلم بعض المفسرين على ضوء هذه الآية الكريمة على الولاية وإمامة الناس، فقال بعضهم : إن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز ولاية الظالم، ولا يصح أن يكون إماما، وأنه إذا ولي ظالم لا تجوز طاعته، أو على الأقل في ظلمه، وقال آخرون : تجب طاعته في الطاعة وتجب مخالفته في المعصية ؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويستمر في ولايته، ويسعى في تغييره.
وإن الاتفاق على أنه لا يجوز تولية الجائر، ولكن أتسقط ولايته بجوره ؟، أم تبقى ويسعى في تغييره ؟ المعتزلة والشيعة والخوارج قالوا : لا طاعة له، ويغير بالقوة.
والذي عليه الأكثرون كما قال القرطبي : أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الخوف بالأمن، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض.
وقد كان الإمام مالك يمنع محاربة الخوارج وأمثالهم إذا خرجوا على الظالمين ويقول : دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما، ولكن إذا خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس أن يقاتلوهم ويمنعوهم من طغيانهم.
أنعم الله تعالى على العرب بإبراهيم عليه السلام إذ جعل البيت الذي بناه وهو بيت الله الحرام مثابة للناس وأمنا، كما قال تعالى في سورة أخرى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم... ( ٦٧ ) ﴾ [ العنكبوت ].
ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ﴾. والمعنى : واذكر الوقت الذي جعلنا فيه البيت مثابة للناس، أي اذكر ذلك الوقت بما فيه من نعم، وإكرام لأهل التقوى، والبيت المراد منه المسجد الحرام، وإطلاق كلمة "البيت" وإرادة البيت الحرام إشعار بفضله، وإشارة إلى كماله، وإلى أنه أكمل بيت وضع للناس، لأنه أول بيت للعبادة، ولأنه بناء إبراهيم أبي الأنبياء، ولأنه موضع الأمن من الخوف، ومثابة الناس، ولأنه أنشئ مطهرا من الأصنام وما جاء بها العرب بعد ذلك إلا بعد أن انحرفوا عن ملة إبراهيم وإن كان – البيت – شرفهم ومحتدهم الكريم.
والمثابة : أي المرجع الذي يأوون إليه، والمثابة مصدر ثاب يثوب مثابا وثووبا، أي مأوى يأوون إليه عندما تشتد بأحدهم شديدة ويريد الالتجاء إليه سبحانه.
وقوله تعالى :﴿ وأمنا ﴾ فهو مصدر موصوف به البيت فهو أمن للناس يأمنون فيه من القتل أو الاعتداء، حتى إن الرجل ليلقى فيه قاتل أبيه وأخيه فلا يمتد إليه، وحرم فيه القتل والقتال، وكان محترما في الجملة من العرب أيام شركهم، وذلك من هداية الله تعالى لهم بالأخذ بأثارة من بقايا ملة إبراهيم.
ولقد قال الله تعالى في هذا البيت :﴿ وإن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( ٩٦ ) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( ٩٧ ) ﴾ [ آل عمران ].
وقوله تعالى :﴿ مثابة للناس وأمنا ﴾ فيه إشارة أولا إلى أن الكعبة مثابة للناس، يجيئون إليها في حجهم، كما صرح سبحانه وتعالى، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى.
وإن باني الكعبة المكرمة إبراهيم عليه السلام هو وابنه إسماعيل عليه السلام، وإنه ليبقى الاتصال بين الحاضر والماضي أمر الله تعالى أن يكون مقام إبراهيم للبناء مصلى لمن جاء بعده من الذين سماهم إبراهيم المسلمين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا قال الله تعالى :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ قرئ بالطلب بكسر الخاء، وقرئ بالفتح على أنها خبر، وفي الحالين هي معطوفة على ﴿ جعلنا ﴾ فعلى قراءة فتح الخاء يكون المعنى جعلناه للناس مثابة وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعلى قراءة الأمر يكون عطف جملة طلبية على مثلها ؛ لأن ﴿ جعلنا ﴾ وإن كانت بلفظ الخبر ولكن معناه الطلب ؛ لأن المؤدى أنها أمر من الله تعالى بأن يكون البيت مثابة للناس يرجعون إليه ويأوون ويحيطون به في صلاتهم إحاطة الدائرة بقطبها، وأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
و﴿ مقام ﴾ اسم مكان القيام، أي الشيء الذي قام إبراهيم عليه يبني البيت بمعاونة إسماعيل عليهما السلام، وقد قالوا إنه الحجر الذي يعرفه الناس، في الحج، واتخاذه مصلى، أي اتخاذ المكان الذي هو فيه مصلى أي مكانا للصلاة فالمصلى اسم مكان للصلاة.
وفي البخاري أن مقام إبراهيم الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت١ وغرقت قدماه فيه، وقال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه.
وإن اتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة إبقاء لذكر إبراهيم عليه السلام وتنويها بالصلاة في ذاتها وأنها الصلة بين الماضي والحاضر، وقد كانت بأمر الله تعالى، وليست بدعا قد أتيها.
وقد تكلم المؤرخون في الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء الكعبة المكرمة، وأوثق من قال في ذلك ابن كثير، لقد قال في ذلك :"مقام إبراهيم هو الحجر الذي صلى عنده، وهذا الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار وكان كلما أكمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة".
ويقول ابن كثير في موضعه الذي وضعه إبراهيم بعد البناء :"وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى مكان الباب مما يلي الحجرة يمين الداخل من البقعة المستقلة هناك، وكأن الخليل عليه السلام، لما فرغ من بناء الكعبة، وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا – والله أعلم – أمر الله تعالى بالصلاة عند الانتهاء من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة". اه.
وبهذا تبين أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم لإتمام البناء، ولما أتمه وضعه بجوارها، وكأن الصلاة عقب الطواف عنده حيث انتهى إبراهيم من البناء وحيث انتهى الطائفون من طوافهم. ولقد جاء في العام السابع عشر من الهجرة سيل شديد نقل الحجر من موضعه فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وركب إلى مكة وتحرى الموضع الذي كان فيه الحجر فوضعه فيه رضي الله تعالى عنه. لقد أقام البناء للبيت العتيق نبيان، وبهذا البناء بنيا مجد العرب وبنيا أمنهما ومكان عبادة الناس، ومثابتهم التي يستقبلونها فيحيطون بها.
وقد بنياه طاهرا، مطهرا، وعهد الله تعالى إلى اللذين بنياه أن يقوما على استمرار طهارته ليتحقق الغرض الأول، وهو أن يكون مقصدا للحجيج الطائفين والذين يجاورونه عاكفين على العبادة فيه، فقال تعالى :﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾.
والعهد في هذا النص السامي، من عهد إلى هذا برعاية بيته أو أهله في غيبه. فمعنى ﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ﴾، أي جعلنا لهما عهدا وفوضناهما برعاية البيت إنشاء وتطهيرا وقوله تعالى :﴿ أن طهرا بيتي ﴾ تفسير للعهد المذكور، وتطهيره هو التطهير من الرجس الحسي من الخبائث الحسية، والتطهير المعنوي بأن يخصص لعبادة الله تعالى وحده فلا يكون مكانا لوثن، ولا معبدا لغير الله تعالى، وقال تعالى في هذا المعنى السامي :﴿ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( ٢٦ ) ﴾ [ الحج ].
ويصح على هذا أن نقول إن العهد أن يبنياه مطهرا من كل خبث في بنائه بقلب سليم، ونفس مخلصة لوجه الله تعالى، وأن يجعلاه طاهرا معنى وحسا ليكون للقاصدين له من غير مكة، والمقيمين حوله، وسماهم هنا العاكفين مشيرا إلى أن البقاء بجواره مجاورين له قائمين بحقه عبادة، وعبر في الآية الأخرى بالقائمين أي المستمرين حوله. والطائفون عند أكثر الكاتبين هم القادمون للطواف وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا، وإنه مع أنه موطن الحجيج الطوافين والمقيمين حوله مجاورين معتكفين هو مسجد الله تعالى تقام فيه الصلاة، فيكون لهؤلاء الطائفين العاكفين ويكون للمقيمين للصلاة، وأشار إليهم سبحانه بقوله تعالت كلماته :﴿ والركع السجود ﴾ هم الراكعون وهو جمع تكسير، وهم الذين يخضعون لله تعالى راكعين متضرعين متبتلين، والسجود جمع ساجد، كقعود جمع قاعد، ورقود جمع راقد. ويراد الركوع الذي هو ركن الصلاة، والسجود الذي هو الركن أيضا، واكتفى بذكرهما دون بقية الأركان من قراءة وقيام وقعود ؛ لأنهما مظهر الخضوع الكامل، والتطامن لرب العالمين.
١ جاء في صحيح البخاري في حديث طويل عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له، فقال: يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا قال: أطع ربك. قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه؟ قال: إذن أفعل أو كما قال. قال: فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم). [أحاديث الأنبياء: باب (واتخذ الله إبراهيم خليلا): (٣١١٤)]..
بعد أن بنى خليل الله أبو الأنبياء بيت الله تعالى بأمر ربه اتجه ضارعا إليه، أن يجعل ما حول البيت آمنا، وقد أقاموا في مكان جدب ؛ ولذا دعا ربه أن يرزقهم من الثمرات، فقال تعالى حاكيا دعاءه :﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ﴾ وفي هذا دعاء إلى أن يكون ما حول البيت بلدا آمنا، وأن يرزقه من الثمرات وهذا يشير إلى أنه عند بناء البيت لم يكن البلد قد تكون، ولكن آية أخرى تشير أن هنا بلدا متكونا ؛ ولذلك ذكر بالتعريف، فقال تعالى :﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ( ٣٥ ) ﴾ [ إبراهيم ].
وقال بعض المفسرين إن الدعوة قد تكررت، فالدعوة الأولى كانت ولم يكن البلد، ولذلك كانت الدعوة بتكوين البلد وجعله آمنا، كما في قوله تعالى :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون٢٧ ﴾ [ إبراهيم ] وإنه عند تمام البيت استجاب الله تعالى لنبيه، فأخذ الناس يأوون إليه يبنون ويقيمون الخيام، وإن البلد ينشأ بعد بضع سنين فلما نشأ، وإبراهيم ذو ضراعة، وأواه حليم دعا فقال :﴿ رب اجعل هذا بلدا آمنا ﴾ وخشي من الكثرة النسبية في البلد الذي وجد أن يكون فيهم عبدة الأوثان فضمن دعاءه قوله ﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾، وإن كثيرين يرون أن طلب إبراهيم عليه السلام كان منصبا على الأمن، والإشارة إلى المكان، فالمعنى اجعل هذا بلدا موصوفا بالأمن، ويكون المطلوب الأمن، كما تقول مشيرا إلى ابنك اجعل هذا ابنا بارا، ويكون المراد وصفه بالبر، وقد أجاب الله سبحانه تضرعه، فجعله بيتا آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.
﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾، والرزق الإعطاء والتمكين، ومن هنا للبعضية، أي ارزقهم بعض الثمرات فكان الطلب قانعا غير مسرف فيه، وكذلك شأن الذين لا يسرفون على أنفسهم، والثمرات ظاهرها أنه يكون مما تنبت الأرض، وقد أعطاه الله تعالى الثمرات في حدائق الطائف وغيرها من نخيل وأعناب، وأعطاهم ثمرات التجارة، فكانت مكة موطن الاتجار في الجزيرة العربية، وكانت مزار العرب في الحج، وقد كان ذلك إجابة لإبراهيم خليل الله تعالى إذ قال :{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون٣٧ ] [ إبراهيم ].
وإنه في هذه الآية طلب أن تهوى إليهم أفئدة الناس، فيقدموا على الحج، وطلب أن يعطيهم من الثمرات، كما طلب في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها السامي، وطلب الثمرات لا يتنافى مع أنها غير ذات زرع، لأن الثمرات من الأشجار لا من الزرع وقد رزقهم النخيل والأعناب، والفاكهة والرمان، وغيره مما ينبت في الصحراء.
وخص خليل الله تعالى المؤمنين من ذريته بهذا الدعاء، فقال :﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ وقوله تعالى :﴿ من آمن ﴾ بدل اشتمال من أهله فكان الطلب لهؤلاء فقط، وذلك لأن الله تعالى رد طلبه بتخصيص غير الظالمين بالنسبة للإمامة، إذ قال تعالى بعد إتمام الكلمات التي اختبره الله تعالى بها :﴿ إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ﴾ فرد الله تعالى طلبه بقوله :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ فظن نبي الله تعالى أن الرزق يكون للمؤمنين فقط كالإمامة، فبين الله تعالى أن الرزق يعم والإمامة خاصة بالعادلين غير المشركين، ولذلك قال تعالى ردا لخليله :﴿ قال ومن كفر ﴾ أي أن الرزق يعم، البرئ والسقيم، والعادل والظالم، والمؤمن والكافر، بخلاف الإمامة التي تكون من الله تعالى، فلا تكون إلا لمؤمن عادل : ولقد قال تعالى في سورة الزخرف :﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ( ٣٣ ) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ( ٣٤ ) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ( ٣٥ ) ﴾ [ الزخرف ].
وإن ذلك ليس للمحبة ولا للرضا عن كفره، ولكنه لاستدراجه إذا لم يرشد ويهتد كما قال تعالى :﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ١٨٢ وأملي لهم إن كيدي متين١٨٣ ﴾ [ الأعراف ] ولذا قال سبحانه، بعد أن نبه خليله إبراهيم إلى أنه يرزق الكافر ﴿ فأمتعه قليلا ﴾ أي أعطيه المتعة أمدا قليلا، وهو ما يكون في الدنيا، والدنيا مهما طالت أمد قليل بالنسبة للآخرة التي هي الباقية الخالدة، وعذابها خالد، ونعيمها مقيم، ﴿ ثم أضطره إلى عذاب النار ﴾ والعطف بثم هنا، للدلالة على تفاوت ما أعطاه من رزق وما ادخره من عذاب، واضطره معناها ألجئه وأسوقه إلى جهنم سوقا، كما قال :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ١٣ ﴾ [ الطور ] أي يدفعون دفعا، وكما قال تعالى :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر٤٨ ﴾ [ القمر ]. وبذلك ينالهم عذاب الحرمان، والإلجاء إلى جهنم فاقدي الاختيار، لأنه جزاء وفاقا لما قدموا، والثاني النار الدائمة كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، جنبنا الله عقابه، وغفر الله لنا، وكتب ثوابه.
بناء الكعبة
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ١٢٧
كان بناء الكعبة من الكلمات التي اختبر الله تعالى بها نبيه إبراهيم، فقد قلنا إن المراد من الكلمة مدلولاتها من أمر ونهي، ونحوها، وقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم ببناء الكعبة لتكون المزار، وبها نسك الحج، ولذا قال تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾، "وإذ" ظرف زمان دال على الماضي، ويتعلق بمحذوف تقديره اذكر أو اذكروا الوقت الذي كان يرفع فيه القواعد من البيت وإسماعيل، وذكر الوقت ليس بذكر الزمان المجرد إنما يكون بذكر الوقائع التي وقعت فيه، وأنها تكون قليلة خطيرة، لها أثرها فيما وراءها، وحكى الله تعالى قصة البناء بقوله تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ﴾ وعبر بفعل المستقبل، وهي واقعة في الماضي، لأن الفعل المضارع الواقع كأنه حاضر تستحضره، وتراه : شيخ هو خليل الله تعالى وشاب هو ذبيح الله تعالى يقومان معا ببناء البيت، ويتضرعان إلى الله تعالى في كل حجر يضعانه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس لما فوقها، وكل حجر يوضع هو قاعدة لما فوقه، والحجر الثاني قاعدة للثالث، ولذا قال تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ﴾ وعبر سبحانه عن وضع القواعد بعضها فوق بعض ب "يرفع"، لأن البناء هو الغاية من الوضع، فعبر سبحانه وتعالى عن الفعل بغايته ونهايته.
وإن إبراهيم الخليل وولده الطاهر الذبيح المحتسب، لا يبنيان لذات البناء ولا لغرض دنيوي ولا للمأوى والسكن، بل استجابة لأمر الله تعالى، بأمره، ويتضرعان بالبناء، طالبين قبوله
ولقد ذكرنا أن البناء كان بأمر الله، روى البخاري وجاء مثله في مصنف عبد الرزاق أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده –الذي تركه في البيداء –الوقت بعد الآخر، فجاءه وقد صار فتى سويا وتزوج فوجده يصلح النبل، فقال : يا إسماعيل إن ربي عز وجل أمرني أن أبني له بيتا، فقال الابن البار المطيع : أطع ربك عز وجل، قال : إنه أمرني أن تعينني عليه، فقال الشاب القوي : إذن أفعل، فقام فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان :﴿ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ﴾ حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم١.
والدعاء على ما بينه الحديث كان محفوفا بالعمل فهما يعملان بأيديهم، ويحملان على عاتقهما، وقلوبهما ضارعة بالدعاء وألسنتهما لاهجة بالثناء على الله تعالى، والتقرب إليه، وقد قيل إن إبراهيم الخليل كان يبني وإسماعيل كان يدعو، وذلك يخالف النص في القرآن ويخالف الحديث ويخالف منطق العبادة، فإنه لا تكون عبادة أحدهما بالدعاء مغنية عن عبادة الآخر.
وإن هذا العمل من الخليل إبراهيم، وابنه الذبيح المفدى، يدل على أن أي عمل يمكن أن يكون عبادة إذا كان لله تعالى.. نعم إن ذلك العمل كان استجابة لأمر الله، فهو أجل من أي عمل، ولكن ذلك لا يمنع أن أي عمل فيه أداء فرض كفاية يكون بأمر الله ما دام مطلوبا لصالح الجماعة، وإذا اقترنت به نية القربى كان عبادة، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب العمل لا يحبه إلا لله )٢.
أقام إبراهيم خليل الله مع ابنه المطيع لأبيه وربه البناء، ودارا حول جدرانه يتممانها، وهما يحفانه بدعائهما ﴿ ربنا تقبل منا ﴾، وقد أحسا بالاستجابة، لكمال الضراعة، وخاطبا ربهما في إحساس بالقرب منه قائلين :﴿ إنك أنت السميع العليم ﴾ وقد أكدا أن علمه تعالى علم من يسمع من غير أذن، وعلم من يعلم علم إحاطة لا يخفى عليه شيء، أكداه بتعريف الطرفين، أي أنه لا سميع غيرك، ولا عليم سواك، وهكذا كانت ضراعة الإيمان.
أتم إبراهيم بناء الكعبة، وكان مما اختبره الله به، ومن الكلمات التي أتمها كما أشرنا إلى ذلك.
وقد اتجه الأواب الحليم بعد أن دعا ربه بقبول عمله، إذ قال :﴿ تقبل منا ﴾، أي اقبله راضيا عنا، لأن التقبل أبلغ من القبول، إذ القبول المجرد أقل من التقبل برضا، وجزاء لهذا العمل.
١ سبق تخريجه قريبا..
٢ يشهد له من الصحيح الكثير، ومنه ما رواه أبو داود في سننه عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الايمان). [كتاب السنة: باب زيادة الايمان: ٤٠٦١]..
اتجه خليل الله تعالى إلى ربه داعيا لجماعته، بعد دعائه لنفسه وابنه، فقال هو وابنه عليهما السلام :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾.
الواو في قوله تعالى ﴿ واجعلنا مسلمين لك ﴾، عاطفة على قوله تعالى :﴿ ربنا تقبل منا ﴾ وكرر بين المعطوفين كلمة ﴿ ربنا ﴾ للشعور بكمال ربوبية الله تعالى، وبكمال الضراعة له سبحانه، فتكرار الربوبية شعور بذكر الله تعالى دائما، وبذكر نعمه، وإنه كالئ هذا الوجود كله.
﴿ واجعلنا ﴾ هنا بمعنى صير، وكون، أي اجعل في كوننا ووجودنا أن نكون مسلمين لك، أي مخلصين لك ولوجهك الكريم، والإسلام هنا بمعنى الإخلاص والاستسلام، وأن يكونا لله وحده، مثل قوله تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون١١٢ ﴾ [ البقرة ] وإن الإيمان والإسلام هنا بمعنى واحد، بل إن الإسلام في هذا المقام درجة عالية بعد الإيمان، فالإيمان تصديق وإذعان والإسلام هنا تصديق وإذعان، وإسلام النفس والعقل والجوارح كلها لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.
وإنهما لم يدعوا لأنفسهما فقط، بل دعوا أيضا لذريتهما، فقالا في دعائهما الضارع المخلص، ﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ أي : واجعل في ذريتنا أمة مسلمة لك.
و "من" هنا للتبعيض، والمعنى اجعل بعض ذريتنا أمة مسلمة، أي مؤمنة مصدقة مذعنة مسلمة وجهها لك، بحيث تكون كلها لك.
وقالوا : إن الدعاء لبعض الأمة اتعاظا بقول الله تعالى له :﴿ لا ينال عهدي الظالمين١٢٤ ﴾ [ البقرة ] ونحن نرى أن "من" بيانية، لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لا بأدناه، والمعنى اجعل من ذريتنا أمة مسلمة، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة للبعض المختار منها، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع.
والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة.
هذا دعاء إبراهيم –عليه السلام- لذريته، وهو دعاء أب شفيق مخلص يرتاد لذريته أكمل المناهج، وأتم الإخلاص والضراعة. ولقد دعا عليه السلام هو وابنه المخلص المطيع قالا :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ أي اجعلنا نبصر ونعلم مناسكنا، والمناسك جميع منسك، وأصل النسك الطهارة، وأصله الغسل والتنظيف، ثم أطلق بمعنى العبادة عامة، ويطلق على العبادة بالحج، وإقامة شعائره من طواف، وسعي وذبح ورمي جمار بعد الوقوف بعرفة، وبالمزدلفة، ويقال كما ذكرنا لكل عبادة، ومن ذلك الناسك بمعنى المنصرف للعبادة.
وما المراد بالمناسك هنا ؟ فسرها بعض العلماء بأنها العبادات الدينية سواء أكانت تتعلق بالحج، أم تعم كل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها، ومنها الحج.
وقال بعض المفسرين إنها مناسك الحج من طواف، وسعي وذبح هدي ووقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار، وغير ذلك من شعائر الحج.
وإني أميل إلى تعميم المناسك ليشمل كل العبادات الشرعية.
والدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى :﴿ وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ﴾ التوبة : الرجوع إلى الله تعالى، وتاب عليه بمعنى قبل التوبة، ومعنى ﴿ تب علينا ﴾، اقبل توبتنا، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم، والتواب صيغة مبالغة من تائب، والمراد منها قبول التوبة، وكأن المعنى : إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ غافر الذنب وقابل التوب... ٣ ﴾ [ غافر ]، وإن قبول التوبة، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى، ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة، لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لا عن استحقاق.
وهنا يسأل السائل : إن الأنبياء معصومون عن الذنوب، فلم يتوبون، فإنه لا يحصل منهم ذنوب تستوجب التوبة والغفران ؟ والجواب عن ذلك أن التوبة رجوع إلى الله وتقرب إليه سبحانه، والتوبة على ذلك مراتب :
المرتبة الأولى : وهي أدناها الإقلاع عن الذنوب بالندم على ارتكابها والابتعاد عنها، واعتزام ألا تقع من بعد ذلك وهذه تكون للعصاة الذين ارتكبوا كبائر أو أصروا على صغائر، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن ينيبوا إلى ربهم فقال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا... ٥٣ ﴾ [ الزمر ].
المرتبة الثانية : وهي متوسطة بين أعلاها وأدناها، وهي الاستغفار عما يكون من خطأ أو نسيان، أو هفوات إنسانية فقط مما يؤاخذ عليه الأبرار الأطهار، وهو الذي ينطبق عليه قول بعضهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
المرتبة الثالثة : وهي الإحساس بالقصور في حق الله تعالى لفرط إيمانهم، وقربهم من الله، وهذه توبة الأطهار من النبيين والرسل، فهذه توبة إبراهيم.
والتوبة كيفما كانت رتبتها عبادة، وأهل الله يقولون : رب معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا، فالطاعة من الأنبياء لا تورث دلا، بل نفوسهم لقربهم من الله تحس بالذل له، فيتوبون، ثم يتوبون.
وإن نبي الله وخليله وابنه لا يكتفيان بالدعوة لذريتهما ولأنفسهما بالتوبة، بل يطلبان هاديا مرشدا لهم من بعدهما، ولذلك يقولان في دعواتهما :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ الواو عاطفة عطفت "ابعث" على "واجعل"، واعترضت كلمة ربنا لكمال الضراعة والشعور بنعمة الربوبية، والرسول هو المرسل من قبل الله تعالى، وبعثه تكليفه بالقيام برسالة ربه، وتبليغها، و "فيهم" أي في وسطهم على أنه منهم، ليكون بهم أرحم وعليهم أعطف، ولهم آلف، كما قال تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم١٢٨ ﴾ [ التوبة ] وواضح أن الرسول الذي دعا إبراهيم وإسماعيل ببعثته هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي أنه قال إجابة لنفر من الصحابة قالوا : يا رسول الله عرفنا بنفسك، فقال :( نعم، أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى ) فإبراهيم عليه السلام دعا، ببعثه وعيسى بشر به كما قال تعالى :﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد... ٦ ﴾ [ الصف ].
وقد نكر "رسولا" للتعظيم، أي رسولا عظيما كريما منهم. وقد ذكر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما أرسل به إليه فقال :﴿ يتلو عليهم آياتك ﴾ والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والقرآن هو المعجزة الكبرى الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى "يتلو" يقرؤها مرتلة تتلو كل كلمة أختها، ويتلوها عليهم يعني يقرؤها فقد نزل مرتلا كما قال تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾ [ الفرقان ] أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك باستمرار نزوله، ولنعلمك ترتيله حتى تحفظه، وقيل إن الآيات هي الدلائل على نبوته، وإذا علمنا أن المعجزة الكبرى الدالة على رسالة محمد هي القرآن المتلو، تكون النتيجة واحدة، وهي أن المتلو القرآن.
وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يتلو عليهم الآيات مرتلة ترتيلا، أن يعلمهم علم الكتاب من أوامر ونواه لهم تبيينا، ولذا قال تعالى :﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ والكتاب هو القرآن لأنه الكتاب الكامل الذي إذا أطلق اسمه انصرف إليه، لأنه الكامل كمالا مطلقا.
وتعليم الكتاب بتبيين أحكامه، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين له، والشارح لأحكامه، ولذلك قال تعالى :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم... ٤٤ ﴾ [ النحل ].
فتعليمهم الكتاب هو تعليم أحكامه، وبيان شرائعه، وما اشتمل عليه، و"الحكمة" : قال الشافعي : إنها السنة، ولذلك اقترنت بالكتاب باعتبارها المصدر الثاني وروى ابن وهب عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه : المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو منحة ونور من الله تعالى، وقيل : الحكمة هي الحكم، والفصل في عدالة بين الناس.
وإن الحكمة معناها حسن التدبير للأمور، وفهمها وفقه الدين، ومعرفة أسراره، وفي الجملة هي المعنى الجامع لصفة الإسلام وإدراك غاياته، وعلاجه للأمور، وسياسة الناس، وتصريف الأمور معهم، وكانت جلسات النبي صلى الله عليه وسلم تحوي الكثير من أدب النفس، وتعليم لياقة المجتمع والتقريب والتأليف بين النفوس، وكل ذلك من الحكمة النبوية حتى لقد قال أبو حنيفة : إن ساعة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم تغني عن فقه سنين. وإن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلاوة الكتاب وتعليمه تزكية النفوس وتنميتها وتطهيرها فقال تعالى :﴿ ويزكيهم ﴾ أي يطهرهم من رجس الجاهلية وينميهم، بمعنى ينمي فيهم قوة الخلق وقوة الدين، وما يكون سببا لنمو عددهم وشيوع أمر الإسلام، وبقائه خالدا قائما.
وإنه يستفاد من هذا أن القرآن الكريم يتعبد بتلاوته وأشار إلى ذلك قوله :﴿ يتلو عليهم آياتك ﴾، ويعلم الشرع منه، إذ فيه كله، ويشير إلى هذا قوله تعالى :﴿ ويعلمهم الكتاب ﴾.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم يهذب النفوس، ويزكي القلوب بتعليم الحكمة والتزكية.
وقد ختم إبراهيم عليه السلام دعوته بالضراعة إلى ربه فقال :﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ العزيز : هو ذو العزة. وتتضمن معنى القدرة والمنعة، والغلب، والسلطان، أي أنت الغالب المعز العزيز الحكيم المدبر المنظم للوجود، الواضع كل شيء في موضعه بإحكام.
وأكد هذين الوصفين بإن المؤكدة، وبتوكيد القول، بقوله "أنت"، وبتعريف الوصفين الدال على اختصاصه سبحانه وتعالى بالعزة والسلطان، فلا عزة لأحد بجوار عزته، ولا سلطان لأحد بجوار سلطانه.
ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء وهو أبوهم
إن إبراهيم أبو الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وجاءوا بعده، وقد يكون هناك أنبياء آخرون بل لا بد أن يكون ذلك، لأن الله تعالى يقول :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ٢٤ ﴾ [ فاطر ] ويقول :﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك... ٧٨ ﴾ [ غافر ].
ولقد دعا الله تعالى إلى ملة إبراهيم الناس جميعا من بعده، لأنها إجابة للفطرة، وتنبعث من النفس المستقيمة واتجاه العقل الحكيم، ولقد قال تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ ومن هنا استفهام إنكاري يتضمن معنى نفي الوقوع، ويتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا، والمعنى لا يرغب عن ملة إبراهيم ويتركها متجاوزا لها إلى غيرها من الأوهام الباطلة إلا من سفه نفسه.
وقوله تعالى :﴿ يرغب عن ﴾ فيها التجاوز والترك إلى أوهام، ونقيض يرغب عنها : يرغب فيها، فالرغبة فيها إقبال عليها، والرغبة عنها تجاوز عنها، وترك لها، وهذا يتضمن أمرين : أولهما –أنه علمها، وكان ينبغي أن يرغب فيها ولكنه تجاوزها وتركها لا عن انصراف مجرد، بل عن قصد وإعراض، وثانيها –أنه اتجه ورغب في غيرها، ونفى الله تعالى الرغبة عنها إلا ممن سفه.
وقوله تعالى :﴿ إلا من سفه نفسه ﴾، أي جهلها في حمق ورعونة، لأن النفس الإنسانية المستقيمة تتجه إلى الله لما في داخلها من ينبوع الخير الداعي إلى إدراك الحق المستقيم، ولأن كل ما في النفس من عقل مدرك، ويد تبطش وعين تبصر وأذن تسمع ورجل تسير بها كل يدل على الإيمان الحق ويهدي، كما قال في الذين يضلون إذ ينسون خلقهم وكونهم، فيقول :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل... ١٧٩ ﴾ [ الأعراف ]. فالنفس الإنسانية لو تأملنا خلقها وتكوينها تهدي وترشد إلى الحق، ولقد قال تعالى :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ٢١ وفي السماء رزقكم وما توعدون ٢٢ ﴾ [ الذاريات ].
وقوله تعالى :﴿ إلا من سفه نفسه ﴾، أي جهلها عن سفه وحمق ورعونة كما ذكرنا، والفرق بين جهل النفس، وأن يكون قد سفهها أن الجهل قد يكون عدم علم وعدم اهتداء إلى الحق، وألا يكون عنده أدوات العلم وطرق المعرفة، أما السفه فمعناه أن يجهل وعنده طرق المعرفة، وأسبابها ويتركها حمقا ورعونة، ولقد قال تعالى :﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم... ١٩ ﴾ [ الحشر ] وسفه نفسه، قيل إنها بمعنى سفه بتشديد الفاء بمعنى أوقعها في جهل وسلك بها غير ما تهدي إليه الفطرة.
وإن ملة إبراهيم هي ملة النبيين فقد قال تعالى :﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ٩٥ ﴾ [ آل عمران ] وقال تعالى في سورة الحج :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين... ٧٨ ﴾ [ الحج ].
وإن ملة إبراهيم كانت ملة النبيين، لأن الله تعالى اختاره للإمامة، وابتلاه بالكلمات، ولأنه كان يشكر نعم ربه، ولأنه اختاره لبناء البيت، ولأنه اختاره لتعليم مناسك الحج، ولأنه اختاره ليكون أب الأنبياء، ولذلك كله قال تعالى :﴿ ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ وقال تعالى في آية أخرى :﴿ شاكر لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ١٢١ ﴾ [ النحل ].
ومعنى اصطفاه الله تعالى، أي اختاره بعد أن ابتلاه بما صفى نفسه وخلصها لله تعالى، وصار ليس في قلبه موضع لغيره فاختاره من بين خلقه خليلا له، وكان أمة وإماما، وكان أواها حليما رجاعا إلى الله تعالى دائما.
وأكد سبحانه وتعالى أنه في الآخرة لمن الصالحين، ففي الدنيا اصطفاه، فكان معه فيها على الخير المطلق، وقد ابتلى فأحسن البلاء، وكان صفيا وكان وليا، واختص بأن يكون خليلا.
وقد وصف سبحانه وتعالى حاله في الآخرة مؤكدا فقال :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ وقد قال بعض الناس : إن العمل الصالح في الدنيا وإن جزاءه في الآخرة فالآخرة دار جزاء لا دار عمل، فكيف يقال في الآخرة إنه من الصالحين ؟ !
ونقول في الجواب عن ذلك أن ما ذكره الله تعالى عن حاله في الآخرة أنه سجل له الوصف بأنه من الصالحين فقد سجل عليه سبحانه وصف الصلاح، والمعنى أنه ختم أعماله في الدنيا بالخير، وصار في زمرة من كتب الله لهم الصلاح في الآخرة، ففي الآخرة جعله تعالى في جملة من رضي عنهم ووسمهم بالصلاح فكافأهم برضوانه تعالى وهو أكبر الجزاء، فليس في الآخرة عمل، وإنما في الآخرة تسجيل الصلاح، والجزاء عليه، وأنه يكون الصالح الذي جعل له لسان صدق في الآخرين.
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه في زمرة الصالحين الذين نالوا رضوان الله بقوله :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ فأكد بإن الدالة على توكيد الخبر، وأكد ب "اللام" في قوله لمن الصالحين، وأكده بتقديم في الآخرة، وذلك التأكيد لأنه من الذين وصلوا إلى أعلى درجات الصلاح.
وإن عده من الصالحين يوم القيامة، إنما كان لأنه أخلص وأسلم وجهه لله رب العالمين مستجيبا طلب الله تعالى منه، إذ طلب ربه منه أن يكون كله له وحده، ولذا قال تعالى :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ الإسلام هنا هو الإخلاص والإذعان لله تعالى، وهو كالإسلام في قوله تعالى :﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن... ١١٢ ﴾ [ البقرة ] فهو غاية الإيمان وأقصاه، وقد ذكرنا أن الإيمان تصديق وإذعان وتسليم، والإسلام تخليص القلب والنفس والجوارح لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.
وهو ليس الإسلام الذي هو نقيض الإيمان أو يغايره، وهو الإذعان المادي، والخضوع لأحكام الإسلام سواء أكانت مع القلب، أم لم تكن، وهو الذي قال فيه للأعراب إذ قالوا :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... ١٤ ﴾ [ الحجرات ].
وهذا هو الإسلام الذي يفرق علماء الكلام بينه وبين الإيمان، وليس موضوعه، وإنما هنا الإسلام بمعنى إسلام الوجه والجوارح لله تعالى، وهو الذي قال الله تعالى فيه :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾ [ آل عمران ].
وقد يقال إن إبراهيم أثبت إخلاصه لله تعالى ودعا الله تعالى أن يجعله وابنه إسماعيل مسلمين، فقال في ذلك :﴿ واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ١٢٨ ﴾ [ البقرة ] فلم كان الأمر بذلك، وقد طلباه ؟
فقالوا في الإجابة عنه أنه أمر بالاستدامة على الإسلام وتثبيت التوحيد، ونقول في ذلك أيضا إن الآية لبيان مقام إبراهيم عليه السلام في الاستجابة لأمر ربه، وخلوص نفسه إذ أمره بذلك فاستجاب فورا قائلا أسلمت لرب العالمين، فهذا النص لبيان مدى استجابة خليل الله تعالى لربه غير متردد، ولا متلكئ، ولكن صار إبراهيم يقول : أسلمت أي خلصت نفسي وجعلتها لرب العالمين، أي لخالق العالمين والقائم عليهم وربهم وكالئهم، وإن ذلك شكر له، فهو في ذلك شاكر لأنعم الله تعالى كحاله دائما.
وإن إبراهيم عليه السلام، وصى بهذه الملة بنيه من بعده جيلا، بعد جيل، وصى بها بنيه، ووصى بها أحفاده، وأبناءهم، فمن كفر بها، فقد كفر بالله وبوصية إبراهيم، وما كان إبراهيم ليرضى عنهم إذ كفروا بربهم كالمشركين، إذ غيروا وبدلوا في دين إبراهيم، وكاليهود الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا، ولقد رد الله تعالى قولهم :﴿ وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما... ٦٧ ﴾ [ آل عمران ].
ذكر الله تعالى وصية إبراهيم وقال تعالى :﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ﴾ الضمير في ﴿ بها ﴾ يعود إلى ملة إبراهيم التي هي موضوع الذكر من قوله تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾، ووصى بأنها الإخلاص لله فقد قال تعالى :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ فهي موضوع الحديث.
والتوصية طلب الشخص من غيره القيام بأمر معين والتشدد في طلبه، وهي غالبا يكون تنفيذها بعد الوفاة، فهي طلب أو إعطاء في الحياة أو في آخرها ليكون تنفيذها بعد وفاته.
وقد وصى إبراهيم بنيه بأن يستمروا مستمسكين بملته بعد وفاته، ويعقوب عليه السلام –وهو حفيد إبراهيم من إسحاق عليه السلام –قد وصى أيضا بذلك.
وأولاد إبراهيم المذكورون في القرآن هم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، وذريتهما من بعدهما، وقد قال تعالى في ذرية إسحاق :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ٢٧ ﴾ [ العنكبوت ] وقال تعالى :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ٨٤ ﴾ [ الأنعام ].
وقوله :﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ﴾ برفع يعقوب بالعطف على إبراهيم عليه السلام أي أن إبراهيم عليه السلام وصى بهذه الملة بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه كذلك، وكانت صيغة الوصية كما ذكرها القرآن ﴿ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ﴾ وهذه الجملة السامية تفسير لمعنى ووصى، لأنها صيغة الوصية، ولذا قالوا إن هناك تقديرا، وهو أن بفتح الهمزة التي تدل على أن ما بعدها بيان لما قبلها.
والوصية أو صيغتها كانت بنداء كل من إبراهيم، ويعقوب لأبنائه بقوله : يا بني، بجمع المذكر السالم الذي حذفت منه النون بالإضافة إلى ياء المتكلم.
وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم من نفسه، وفي ذلك دليل على الشفقة بهم والرفق، وأنه يؤثرهم بما يدل على محبته وحدبه عليهم، ومضمون الملة التي وصى بها ﴿ أن الله اصطفى لكم الدين ﴾، أي أن الله جل جلاله، وهو ربكم الذي ذرأكم وأنعم عليكم، اختار لكم الدين الكامل، والدين هنا، هو ملة إبراهيم، فهي دين إبراهيم ودينكم ودين الخليقة من بعده، وهو ملته، وهو الإخلاص لله رب العالمين وإسلام الوجه له، كما فسر الله تعالى، من قبل بقوله تعالى :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾.
وقد صرح سبحانه وتعالى بغاية الوصية ونهايتها كما جاءت على لسانهم، ﴿ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾، والفاء هي للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه الملة هي الدين الذي اختاره لكم وهو الإسلام، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى :﴿ وأنتم مسلمون ﴾ حال من تموتن.
وقد أكد سبحانه وتعالى الطلب بنون التوكيد الثقيلة، وليس النهي متجها إلى الموت، لأن الموت ليس أمرا اختياريا يجري فيه التكليف بالأمر، وإنما الأمر منصب على البقاء على الإسلام، أي لا بد أن تبقوا على الإسلام مؤكدا ذلك حتى تموتوا وأنتم على حاله وقيامه، كما تقول : لا تصل إلا وأنت خاشع فهو أمر بالخشوع وليس نهيا عن الصلاة.
وقوله تعالى :﴿ يا بني إن الله اصطفى لكم ﴾ أهي وصية إبراهيم وحفيده يعقوب معا ؟ الظاهر ذلك، وقال بعضهم : إنها وصية إبراهيم وأما وصية يعقوب فقد أشير إليها في قوله تعالى من بعد :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ١٣٣ ﴾ [ البقرة ].
وأرى أن قوله تعالى :﴿ يا بني إن الله اصطفى لكم ﴾ وصيتهما معا، ولما جادل اليهود في ذلك قال تعالى مفندا كلامهم، مبينا حقيقة الأمر ﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ﴾ إلى آخر الآية، وعلى هذا التخريج فالوصية واحدة. اللهم إنا أسلمنا وجهنا لك كما أسلم إبراهيم وجهه لرب العالمين.
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ١٣٣
ادعى المشركون أنهم على ملة إبراهيم، شرفهم وشرف محتدهم، وادعى اليهود أنهم يسيرون على ملة إبراهيم وقد غيروا وبدلوا، بل جرى على ألسنتهم ما يومئ إلى أن إبراهيم كان يهوديا، وبذلك يقلبون التاريخ، فيجعلون أوله آخره، وصدره عجزه، وادعى النصارى الذين يعبدون الأوهام أن ثالوثهم دين النبيين أجمعين وافتروا فرية واهمة تبهت العقول، ولكن الأوهام غلبتهم، فديانتهم وهم في وهم، ليس فيها إلا أوهام تكاثفت فاعتنقوها، والمسيح منهم براء.
هؤلاء جميعا، وخصوصا من كانوا ينتحلون نحلة ينسبونها إلى نبي من أبناء يعقوب عليه السلام كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
ولقد وجه الخطاب إليهم، وخصوصا اليهود والنصارى لبيان أنهم ليسوا على ملة إبراهيم، وهم على غير الوصية التي وصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوب، فقال تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ﴾ أم هنا تدل على الاستفهام والإضراب معا فهي تتضمن معنى "بل" و "الهمزة"، فهي استفهام إنكاري مع التوبيخ والإضراب عن إفكهم. والمعنى نضرب صفحا عما تقولون، ونسألكم :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ﴾ وشهداء جمع شاهد، كما قال تعالى في الشهادة على الديون :﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله... ٢٨٢ ﴾ [ البقرة ] وتكون جمع شهيد، والمعنى على كل حال أكنتم حاضرين الوقت الماضي الذي حضر فيه يعقوب الموت، أي كنتم حاضرين الوقت الذي بدت فيه على يعقوب أمارات الموت، فمعنى حضور الموت ظهور أماراته، ومقدماته، أي وهو يحتضر، ولذا كان التعبير بحضر، فحضور أماراته ومقدماته، حضوره، ولذا لم يقل نزل به إذ الأولى في قوله تعالى :﴿ إذ حضر ﴾ تدل على وقت حلول الموت بمقدماته وأماراته، وقد ذكر سبحانه وتعالى ﴿ إذ ﴾ مرة أخرى في قوله :﴿ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ﴾ وهما يدلان على وقت واحد قد مضى.
قال يعقوب أبو بني إسرائيل الذين غيروا وبدلوا، قال لبنيه :﴿ ما تعبدون من بعدي ﴾ أي من الذي تعبدونه من بعدي ؟، وعبر بما هنا دون من لأن ما يستفهم بها عن الماهية فيقال ما الإنسان، فالسؤال متجه إلى طلب حقيقة ما يعبدون من بعده أيستمرون على عبادة الله تعالى ؟ قالوا مجيبين في غير تردد ولا تلكؤ :﴿ نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ﴾.
ابتدأوا إجابتهم بما يدل على الأسوة والقدوة الحسنة وهي تدل على أنهم لا يغيرون ولا يبدلون بل هم مقتدون، ولذلك قالوا :﴿ إلهك وإله آبائك ﴾ ولم يقولوا مثلا : نعبد الله وحده.
وإن أباهم إبراهيم وإسحاق وليس من آبائهم إسماعيل بل هو عم يعقوب وليس أباه ولا جده ولكن العرب تسمي على المجاز العم أبا –كما يسمى العم ابن أخيه ابنه، كما قال أبو طالب لقريش عندما طلبوا أن يعطوا أبا طالب بدلا لمحمد ابن أخيه أنهد فتى من قريش ليسلم إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فقال لهم موبخا : آخذ ولدكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ وروى علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"عم الرجل صنو أبيه"١ هذا وإن عد إسماعيل عليه السلام في آباء يعقوب يدل على أن إسماعيل وإسحاق، لا يفرق بينهما في نسب ولا دين كما يفعل الحاقدون من بني إسرائيل.
وقوله تعالى :﴿ إلها واحدا ﴾ قيل إنها بدل من إلهك ولا مانع من أن تكون النكرة بدلا من المعرفة مثل قوله تعالى :﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ١٥ ناصية كاذبة خاطئة ١٦ ﴾ [ العلق ].
ويصح أن تكون حالا من إلهك، أي حال كونه إلها واحدا، أي نعبده على هذه الحال، ولعل اعتباره بدلا، على أنه يكون بدل اشتمال أي أن البدل والمبدل منه شيء واحد.
ونرى في ذكر الله سبحانه وتعالى مضافا إلى ضمير المخاطب يعقوب، ثم ذكره من بعد ذلك موصوفا بالوحدانية تصريح بالوحدانية في العبادة والامتناع عن إشراك غيره معه، وإشارة ثانية إلى الإتباع والقدوة والأخذ بالوصية التي أوصى بها إبراهيم ويعقوب، وفيها إثبات السلسلة الموحدة في أولاده في يعقوب عليه السلام، وأن هذا التوحيد هو الدين الذي اصطفاه الله تعالى لأنه دين الله تعالى، ولذا قال سبحانه :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ٢٥ ﴾ [ الأنبياء ]
ولقد ختم الأبناء المخلصون إجابة أبيهم، البر الرحيم، الذي ضرب به المثل في الصبر والشفقة بقولهم :﴿ ونحن له مسلمون ﴾، أي مخلصون قد سلمنا وجوهنا وقلوبنا له وحده، ولذا قدم قوله :﴿ له ﴾ على ﴿ مسلمون ﴾ لما يدل عليه التقديم من معنى اختصاصه سبحانه بإسلام أنفسهم له تبارك وتعالى، وقد أكدوا إسلام أنفسهم له بالجملة الاسمية.
١ عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في العباس: "ان عم الرجل صنو أبيه". وكان عمر تكلم في صدقته. [رواه الترمذي: كتاب المناقب ﴿٣٦٩٣﴾ وقال: هذا حديث حسن صحيح، كما رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين ﴿٦٨٧﴾، وبنحوه عند مسلم عن أبي هريرة: كتاب الزكاة ﴿١٦٣٤﴾]..
إن اليهود كانوا كلما ذكرت محمدة لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم، وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم، وإن لم يهتدوا بهديهم. فرد الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بأنهم سلالة إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم، ولا يسلكون مسلكهم، وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفا وذكرا عند الله والناس فقال :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾.
الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله تعالى بوصيتهم، وهي ﴿ قد خلت ﴾ أي مضت، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه، وعليكم معشر العرب أن تقتدوا بإبراهيم، وتأخذوا بوصيته، وأن تعبدوا إلها واحدا هو الله جل جلاله، إن كنتم تنتمون إليه فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع، والنسب وحده لا يغني فتيلا من غير اتباع.
وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم، وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم. وإن لم تجدوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم.
ولذا قال تعالى :﴿ لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ﴾ أي لها ما كسبته مكسوبا إليها بقدره محسوبا لها في اليوم الآخر بجزائه، ويتضمن قوله :﴿ لها ما كسبت ﴾ الجزاء لهذا الكسب، وهو خير ﴿ ولكم ما كسبتم ﴾ إن عملتم مثل عملهم، واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم وكانت لكم شعارا ودثارا تتحلون به، وهذا حث على الاقتداء، ودعوة إليه، فإن تجانفوا لإثم، وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون.
وأنكم لستم مسئولين عن أفعالهم إن خيرا أو شرا فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم، لأنكم انفصلتم بعملكم عنهم، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ وكذلك لا يكفيكم عملهم، إن خيرا فخيره لهم إلا أن تكونوا قد عملتم مثل عملهم ولا تزر وازرة وزر أخرى.
إن ملة إبراهيم عليه السلام، وهي التوحيد، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا، وهي الحق الذي لا ريب فيه، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل، فمن آمن بها فقد اهتدى، ومن خالفها فقد ضل وغوى، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق، وهو الهداية، كذلك ضلت أفهامهم، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون، ولذا قال تعالى :﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ﴾ أي قال اليهود : أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم : كونوا هودا، أي كونوا يهودا تهتدوا، لأن الهداية تحوطهم، وهم في قبتها، وقال النصارى المثلثون الوثنيون : كونوا نصارى تهتدوا، لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم، مع أنهم وثنيون، لا يتبعون نبيا مرسلا، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة١.
قال اليهود ما قالوا، وقال النصارى المثلثون ما قالوا، فأمر الله تعالى نبيه بأن يرد قولهم بقوله :﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾.
قل لهم يا رسول الله : إن المقياس الصحيح الواجب الاتباع، لأجل البعد عن الباطل، والاهتداء بهدى الحق –مضربا عن كلامهم صفحا –هو ملة إبراهيم، ولذا قال تعالى :﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا ﴾، وبل هنا للإضراب عن أوهامهم وترهاتهم، وملة مفعول لفعل محذوف تقديره : بل اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، أي مائلا للاستقامة أو مائلا نحو الحق هاديا إليه، فالحنيفية السمحة أي الحق، وجنف وحنف معناهما الميل، بيد أن الجنف الميل إلى الباطل كما قال تعالى :﴿ غير متجانف لإثم... ٣ ﴾ [ المائدة ]، والحنيف المائل نحو الحق، والحنف يطلق على الاستقامة والحنيف معناه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
ويثبت الله سبحانه وتعالى الوحدانية في ملة إبراهيم، فيقول :﴿ وما كان من المشركين ﴾ وهذا نفي للشرك عن ملته، ورد للعرب المشركين عن تبعيته، وإن كانوا من سلالته.
ووكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين، لأنه من تبليغ رسالة ربه، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها، وإن ذلك الرد كقوله تعالى :﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ٦٧ ﴾ [ آل عمران ].
١ راجع: "محاضرات في النصرانية" للمؤلف..
وحدة المؤمنين باتباع ملة إبراهيم
يجمع الرسل على اختلاف ما أنزل على النبيين من كتب لا تتباين في معناها، وإن اختلفت أزمانها، يجمع هذه الكتب أنها كلها في لبها وغايتها ملة إبراهيم عليه السلام، فهي ملة جامعة لا تختلف رسائل النبيين ولا تتباين عندها، فهي ملة النبيين أجمعين، وقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي ملة إبراهيم عليه السلام، ولذا قال تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل... ٧٨ ﴾ [ الحج ] وقد تلونا هذا النص الكريم من قبل، ولذا دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعلنوا أنهم يؤمنون بذلك فقال تعالى مخاطبا المؤمنين :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ﴾.
وإن هؤلاء جميعا على ملة إبراهيم، وهي التوحيد، وهذا كقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ١٣ ﴾ [ الشورى ].
إن إبراهيم ويعقوب وصى كلاهما أبناءه بملته، واتبعه من بعدهم موسى وعيسى والنبيون الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، فهم جميعا على ملة واحدة جامعة، وهي ملة إبراهيم التي هي التوحيد والتنزيه، والاستقرار على الحق، والحنيفية السمحة.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين، ولم يكن أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل كان أمره له ولمن اتبعه، وفيه بيان أن إيمانهم هو إيمان إبراهيم، وبنيه، ويعقوب وبنيه، والنبيين أجمعين، فهو إيمان عام بالرسالة الإلهية لا فرق بين رسول ورسول، ولذلك قال بحق بعض الذين علموا الإسلام وما يدعو إليه : إن الإسلام دين عام. وقيل لمسيحي أسلم : لماذا خرجت عن المسيحية ؟. فقال : إني لم أخرج عن المسيحية دين المسيح، ولكن دخلت فيها بدخولي في الإسلام.
أمر الله المؤمنين أن يقولوا :﴿ آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾، والأسباط هم ولد يعقوب عليه السلام الذي قال لهم : ما تعبدون من بعدي : وهم اثنا عشر، وقد ذكر القرآن لهم ذلك العدد في رؤيا يوسف بن يعقوب، إذ قال الله تعالى عنه :﴿ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ٤ قال يا بني لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ٥ ﴾ [ يوسف ]. وأن الأحد عشر كوكبا رمز لأبناء يعقوب غير يوسف، وبضم يوسف إليهم يكونون اثنا عشر.. والأسباط واحدهم سبط، وهو بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل إن السبط هو الحفيد، وسموا بذلك لأنهم في أصلهم حفدة إبراهيم.
ولماذا ذكر الأسباط مع أن ذكر يعقوب يغني عن ذكرهم، لأنهم أبناء يعقوب، وقد وصاهم باتباع ملة إبراهيم وشدد في الوصية ؟ والجواب عن ذلك أنهم صاروا من بعده جموعا، كونوا العشائر والقبائل، فكانت لهم صفة بهذا الانفراد وقد أمر الله تعالى المؤمنين، بأن يقولوا ﴿ لا نفرق بين أحد منهم ﴾ لأنهم جميعا يتكلمون عن الله، ويذكرون أمره ونهيه، ورسالتهم رسالة من الله تعالى، ﴿ ونحن له مسلمون ﴾، أي أسلمنا وجهنا وقلوبنا وكل جوارحنا له سبحانه وتعالى، جمع الله قلوبنا ونفوسنا وحواسنا لتكون لله تعالى، وهو الحكيم العليم.
إن ذلك هو الإيمان الحق، وهو الإيمان الجامع غير المفرق، ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم، وهو الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة الإلهية، ولذا قال تعالى :﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ﴾.
الضمير في قوله تعالى :﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ﴾ يعود إلى اليهود والنصارى، لأنهم هم الذين ظنوا أن الاهتداء عندهم فقط، ﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا... ١٣٥ ﴾ [ البقرة ] وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم :﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ١٣٥ ﴾ [ البقرة ].
وفي الآية السابقة صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لا يفرق، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان الجامع غير المفرق فقد اهتدوا، لا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق. ﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ﴾ والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها فقد اهتدوا، فكلمة "مثل" في موضعها من القول ولها دلالتها، فالمراد –وعند الله تعالى علمه –أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع، ولقد تهجم بعض المفسرين في العصر الحديث، فقال إن مثل "مقحم" أستغفر الله لي وله، أنه ليس في القرآن مقحم، إنما ألفاظ القرآن الكريم ليس فيها مقحم قط، إنما هي تنزيل من حكيم حميد.
ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ﴾ إلى آخر الآية الكريمة، يتحقق فيه أمران : أولهما –الإيمان بالوحدانية، والثاني- الصفة الجامعة، فالمثلية ليست في أصل الإيمان، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة.
ولذا قال تعالى :﴿ وإن تولوا فإنما هم في شقاق ﴾ التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر، لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب، والانحياز، ويفقد الدين سلطانه في القلوب، ويصير لجاجة، وعداوة وبغضاء بين الناس، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لا يلتقي ولا يهتدي، ولذلك قال :﴿ في شقاق ﴾، والشقاق : أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس.
وانه عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية، وكأن الله تعالى ينبه نبيه الأمين، إلى أن يتوقع منهم الشر، والبغضاء المستمرة، ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه، وأنه ناصره تعالى عليهم : ولذا قال تعالى :﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾ والمعنى : إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك، ومانعك منهم. يقال كفاك هذا الرجل، أي منعك ودافع عنك، و "السين" هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، ف "السين" و"سوف" الدالان على المستقبل القريب أو البعيد، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم.
وقد أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى :﴿ وهو السميع العليم ﴾ أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون، وما يخفون وما يعلنون، عليم علم من يسمع، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم، ويكفيك أمرهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
إن الإيمان الجامع بالنبيين أجمعين لا يفرق بين أحد من رسله، لأنهم جميعا يحملون رسالات ربهم إلى عباده وهي واحدة، إن هذا الإيمان هو دين الله تعالى : وهو ملة إبراهيم وهي الشارة الوحيدة للدين الحق، ولذا قال تعالى :﴿ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ﴾.
الصبغة هي الملة التي اختارها الله تعالى، وهي ملة إبراهيم، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه.
والصبغة في الأصل ما يصبغ منه، ويتشربه الثوب حتى يصير لونا غير قابل للتغيير، بيد أن هذه الصبغة في القلب يتشربها فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان، يخالط مداركه، ويتشربها قلب المؤمن كما يتشرب الثوب صبغته، لأنه مفطور على الإيمان في فطرته، إلى أن يتدرن بالأهواء والشهوات فتطمس الفطرة، ولقد قال تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ٣٠ ﴾ [ الروم ].
ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء )١.
وصبغة هنا منصوبة على الإغراء لفعل محذوف تقديره الزم صبغة الله، فإنها إيمان القلوب، وزينة النفوس للمؤمنين، كما يتزين الجسم بزينة الثياب الملونة بأبهى الصباغ.
وإن التعبير عن الدين بأنه صبغة الله إشارة لما يفعله اليهود والنصارى من صبغ أولادهم باليهودية أو النصرانية بما يغمسونهم فيه بماء يسمى المعمودية.
فإذا كان هؤلاء يعملون تلك الأعمال حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن صبغة الإيمان الجامع الذي اختاره الله تعالى دينا للعالمين هي أحسن صبغة وأبهاها حسا ومعنى، وطهارة، ولذا قال تعالى :﴿ ومن أحسن من الله صبغة ﴾ أي لا صبغة أفضل من صبغة الله تعالى، لأنها الحق والحق وحده زينة القلوب. وغيرها الباطل، وهو طمس للفطرة وفرق بين زين القلب وحسن الإيمان، والإشراق بنوره، وطمس النور منه وامتلائه بالظلمات.
وقد قال تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب... ٣٧ ﴾ [ ق ] من شأنه الإذعان للحق، والتمسك به، وقال هنا :﴿ ونحن له عابدون ﴾ فالقلوب قسمان : قلوب على الفطرة يدخلها الإيمان فيشرق فيها، وقلوب طمست عليها الأهواء وسيطرت عليها وأخفت منابع الهداية فهي في عمياء عن الهدى، غلقت فلا تدخلها هداية.
وإنما يدرك جمال صبغة الله تعالى، وتزيينها للقلب والنفوس الذين يوقنون بالحق، ومن شاء الإيمان به إذا قامت دلائله، وبدرت محاسنه، ولذا قال تعالى :﴿ ونحن له عابدون ﴾ خاضعون له لا لسواه، ولذا قدم "له" على "عابدون" إذ التقديم للاختصاص فلا نعبد سواه ولا نؤمن بغيره.
١ رواه أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء؟" [مسند المكثرين ﴿٦٨٨٤﴾، وبنحوه في البخاري: الجنائز ﴿١٢٧٠﴾، ومسلم: القدر ﴿٤٤٠٣﴾]. والجدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو غيره، ولفظ البخاري: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- كان يحدث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها... ٣٠﴾ [الروم]..
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ١٣٩
كان اليهود والنصارى يدعون أن ما عندهم هو دين الله تعالى، وأنهم أعلم الناس بالله، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وحسبوا أنهم أقرب إلى الله تعالى لأنهم ليسوا وثنيين ولم يشركوا به أحدا، والوثنيون ليسوا كذلك، وبذلك يحاجون النبي في أنهم أقرب إلى الله، وأنه أقرب إليهم، وأنهم أولى به، فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم أن الله ربنا وربكم، وأن القربى إليه بالعمل، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم فقال تعالى :﴿ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ﴾ كان الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وليتولى الحجاج معهم إعلاء لكلمة الله تعالى لمن يتولى المحاجة والمجادلة، والله أجل وأعلى من ذلك فترك للنبي صلى الله عليه وسلم أمر هذه المحاجة. والاستفهام هنا للتوبيخ، أي ما كان لكم أن تحاجونا في الله تعالى بادعاء القرب، وأنكم أولى به وبمحبته ومعرفته، فالمحاجة في الله تعالى لا في أصل وجوده، ولا في أصل وحدانيته لقوله تعالى :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ١٣ ﴾ [ الرعد ]. ففي هذا النص كان الجدال في الله تعالى، من حيث وجوده، وأنه الفاعل المختار.
أما هنا في هذا النص الذي نتكلم في معانيه، فالمحاجة في الله تعالى من جهة القرب منه، والمنزلة عنده لا محاجة أصل وجوده، والمحاجة من جانب اليهود والنصارى بادعائهم على الله سبحانه وتعالى بأن دينهم هو الذي ارتضاه وأنهم أقرب إلى الله، وأنهم أحبابه، وأنهم أبناؤه، إلى غير ذلك من الأوهام التي يثيرونها حول الله تعالى.
وهم يثيرون قولهم على اعتقاد أن النبي يحاجهم كما يحاجونه، ولذلك كانت صيغة المفاعلة.
وقد أمر الله تعالى نبيه، بأن يبين لهم أنه لا حاجة إلى المحاجة، ولذا أمره تعالى بأن يقول :﴿ وهو ربنا وربكم ﴾ فصلتنا بالله واحدة، وهو أنه ربنا جميعا، وقد بين المماثلة في الصلة بالله تعالى لصلة الربوبية، وهي متحدة في معنى الربوبية، ولا تفاوت بيننا في هذا، فلستم أقرب إليه، ولا نحن أقرب من هذه الناحية، ونبههم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه بأن التفاوت إنما هو بالأعمال، ولذلك أمره تعالى بأن يقول لهم :﴿ ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ﴾ فأعمالنا بما فيها من خير ونفع تتحمل في ذاتها استحقاق جزائها، ولكم أعمالكم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن القرب إلى الله تعالى أو البعد إنما هو بحسب الأعمال، فهي التي تقرب، وهي التي تبعد وهي التي يكون عليها الجزاء.
وقد وصف الله آمرا نبيه بقوله :﴿ ونحن له مخلصون ﴾ أي نحن قد أخلصنا بقلوبنا في عبادة الله تعالى فلا نشرك في العبادة سواه، ولا نعكر إخلاصنا لله تعالى بسبب من أسباب الدنيا، فنحن صرنا لله نحب الشيء لا نحبه إلا لله، وهذا تحريض لليهود وغيرهم على أن يكونوا مثلهم، فإن كانوا مثلهم التقوا على الإيمان الجامع غير المفرق.
والإخلاص كما قلنا تصفية النفس من أن يكون فيها غير الله تعالى، وتصفية الفعل من أن تكون لغير الله فيه شائبة، ولقد قال بعض الصوفية : الإخلاص سر بين العبد وبين الله لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده. وفي الجملة الإخلاص حصن العبادة الحصين.
إن اليهود والنصارى افتروا مع كفرهم وجحودهم وقولهم : عزير ابن الله، وقولهم : المسيح ابن الله وإيمانهم بالثالوث، وافتروا فادعوا أنهم أقرب إلى الله وأحب، ثم انحدروا في تفكيرهم فقلبوا التاريخ فجعلوا أوله لاحقا وآخره سابقا، وضلت عقولهم ضلالا بعيدا، فزعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو كان نصرانيا ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ﴾.
وإن هذا قلب كما قلنا للأوضاع، فاليهود والنصارى أولاد ليعقوب عليه السلام، وهم تابعون له، ولآبائه، فكيف يقلبون المتبوع ويجعلونه تابعا، ولكنهم يحسبون لغرورهم أن ديانة إبراهيم وأبنائه كانت متفقة مع اليهودية أو النصرانية، اليهود يقولون إنهم كانوا على ديانتهم، والنصارى يبهتون الناس بالكذب فيدعون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يؤمنون فيما يزعمون بثالوثهم الباطل بطلانا مطلقا، ولتفنيد أوهامهم أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم ردا طيبا متفقا مع قوله :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن... ٤٦ ﴾ [ العنكبوت ] وقال الله تعالى لنبيه :﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ﴾ كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم سؤالا لهم محرجا كاشفا لهم، لأنهم ادعوا أنهم أعلم بعد أن كفروا، وإن قالوا إن الله أعلم فقد كذبوا على أنفسهم، فهو سؤال ينتهي برد كلامهم بأنفسهم، وهو سؤال من علمه تعالى الحكمة وفصل الخطاب.
وإن أولئك اليهود والنصارى يعلمون أن ملة إبراهيم هي الإسلام، والإيمان الجامع لكل الرسل، ويعلمون ما حرف من التوراة والإنجيل، ويعلمون أن التوراة بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإنجيل بشر بأنه بعد المسيح رسول اسمه أحمد، يعلمون ذلك وغيره وينكرونه، ويكتمونه حتى لا يعلم، ولذلك قال تعالى :﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾، والمعنى أنه لا أحد أظلم ممن كتم شهادة أودعها الله تعالى في كتابه وما عنده من علم، فالاستفهام هنا إنكاري توبيخي لنفي الواقع والوقوع، فهو نفى أنه لا أحد أظلم ممن عنده شهادة من الله تعالى وكتمها، وفي الوقت نفسه أشارت الآية إلى أن ذلك وقع من أهل الكتاب من اليهود فهم يكتمون علم التوراة عن اليهود ﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ٧٨ ﴾ [ البقرة ] فيضلونهم بعلم، ويعلمون الكثير ويكتمونه.
والشهادة هي الخبر الذي يجب بيانه سواء أكان بين يد القضاء أم لم يكن، فإن هذه الأخبار في التوراة كان يجب بيانها، ولم تكن أخبارا تقرأ ولا تعلم، ولكنها حقائق يجب أن تعلم وتبين، فالإعلام بها كالإعلام بالشهادة. وقد هددهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ فهذا وعيد، وإخبار بأمر الله تعالى، وقد نفى الله تعالى نفيا مؤكدا أنه غافل عن عملهم، بل إنه سبحانه أخذهم بذنوبهم، فنفى بما وبالباء الدالة على استغراق النفي.
والغفلة هي : عدم التنبه إلى ما يقع، وهو مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا معالم فيها ولا بناء، والآية تهديد ووعيد بلا ريب، وقد صور فخر الدين الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" الوعيد في هذا قال : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أن الله تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا تخفى عليه خافية، وأنه من وراء ذلك مجازاته، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، لا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو خائف حذر، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة السلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك لا يعلم إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد.
وقد نبه سبحانه وتعالى اليهود والنصارى وغيرهم إلى أنه لا يصح لهم أن يتمسحوا بالأسلاف، فقال تعالى :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة في ماضي قولنا فلا نعيد ما قلنا في ذكر معاني ألفاظها.
ولكن نتلمس المعنى في إعادة ذكرها ونرى أنها ختام لما يقوله بنو إسرائيل وغيرهم بالنسبة لأسلافهم، ودعوة لهم إلى أن الله تعالى سائلهم عما يعملون هم لا ما عمل أسلافهم.
وأيضا فإن الناس تعودوا اتباع الأسلاف، فالله تعالى يكرر سبحانه أن كل امرئ بما كسب رهين، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولهم ما كسبوا وعليكم ما اكتسبتم، وأن خير الماضين ليس خيرا لكم وأن شرهم ليس وزره عليكم.
ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ١٣ ﴾ [ الإسراء ] وقال تعالى :﴿ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى... ١٦٤ ﴾ [ الأنعام ] قال تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ٣٩ ﴾ [ النجم ].
القبلة
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ١٤٢
اعلم أن القرآن كله متصل الأجزاء غير منفصل بعضها عن بعض، وقد رأينا في الجزء الأول اتصال معانيه ومبانيه اتصالا محكما حتى يكاد يكون لكل موضوع منه أجزاؤه المتصلة، فابتدئت سورة البقرة ببيان أقسام من تلقوا علم القرآن بعد الإشارة في ابتدائها إلى أنه الكتاب الكامل الجدير وحده بأن يختص باسم الكتاب.
وقد قسم الذين تلقوه إلى أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق، وصور النفاق وأهله بتشبيهات حسية تبين معانيهم النفسية، ثم بين سبحانه قصة خلق آدم ومكانه بين العالمين من جن وانس وأنه كامل التكوين.
ثم أشار تعالى إلى النعم التي توالت على بني إسرائيل، وتوالي كفرهم مفصلا آثامهم، وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم، وقد فصل بعض التفصيل أمر إبراهيم عليه السلام وبنيه من بعده، وحقيقة إيمان المؤمن الجامع الذي يؤمن بكل الرسائل الإلهية والأنبياء الذين جاءوا. وقد ذكر سبحانه أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، وكان الأمن حول البيت إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام :﴿ رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر… ١٢٦ ﴾ [ البقرة ].
وكان من مقتضى النسق أن يذكر عقب أخبار إبراهيم وبنيه، والإيمان الجامع لكل الرسالات الإلهية، أن يذكر أمرا يتعلق بالكعبة المشرفة، هو أن تكون قبلة المسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم والذين سماهم إبراهيم –خليل الله- المسلمين ولذا قال تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾.
وإن النبي بصريح هذا النص يشير إلى أنه كانت قبلته إلى الصلاة ليست هي الكعبة، وأن الله تعالى حوله عن القبلة السابقة إلى الكعبة، وذلك أنه عندما فرضت الصلوات الخمس عند الإسراء والمعراج أمر الله نبيه أن يتجه إلى الصخرة حول المسجد الأقصى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستدبر الكعبة في صلاته، بل يتجه إلى بيت المقدس واقفا بين الركنين من الكعبة متجها إلى بيت المقدس فكان في الحقيقة متجها إلى الكعبة وبيت المقدس١.
ولما هاجر كان لا يمكنه أن يتجه إلى القبلتين، فاتجه إلى بيت المقدس، لأن أمر الله بالاتجاه إليه قائم ثابت، ولم يكن من قبل أمر بالاتجاه إلى الكعبة، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على ألا يستدبرها تكريما لها وتشريفا، ولأنه كان يتجه إليها قبل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، وقد أخطأ من أهل الكتاب من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ليتألف قلوب اليهود فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرع عبادة أو فرعا من عبادة من تلقاء نفسه، بل إنه أمر تعبدي من الله تعالى لا يملك فيه رسوله الأمين تحويلا ولا تبديلا.
وإنه بلا شك كان ثمة ناسخ ومنسوخ، وقد كان المنسوخ هو الصلاة إلى بيت المقدس، والناسخ هو الصلاة متجها إلى الكعبة، ثم إلى بيت الله الحرام.
ولم يكن الناسخ والمنسوخ ثابتين بالقرآن، بل إن كليهما ثبت بالسنة فالمنسوخ ثبت بالسنة، وهي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، وتحويل القبلة –وهو الناسخ- ثبت بالسنة أيضا، فقد روى البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإن أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد –أي قباء- فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت٢.
ولقد أعلم من يصلون في قباء في صباح اليوم التالي، روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :"بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة٣.
ونرى من هذا أن استقبال بيت المقدس ثبت بالسنة، وثبت التحويل أيضا بالسنة، والقرآن ذكر آثار التحويل، وما يقوله الناس، وأكد التحويل، والقرآن الذي أشار إليه الراوي في الحديث هو الذي نزل بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بالفعل، وقد تأكد أمر القبلة بقوله تعالى :﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره… ١٥٠ ﴾ [ البقرة ].
قوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ﴾. قال بعض المفسرين إن الاستقبال هنا موضوع موضع الماضي، لأنهم قالوا : وإنما عبر بالمستقبل المؤكد بالسين للدلالة على دوام قولهم إذ قالوه في الماضي، وسيقولونه في المستقبل، فسفه القول لا ينتهي، بل هو يمتد ويكرر ما دام السفه قائما.
وإن ظاهر اللفظ يدل على أنهم سيقولون مع ما قالوا، وإن ذلك إخبار من الله تعالى، وخبر الله تعالى لا يقبل التخلف، ولم يثبت أنهم قالوا ذلك من قبل نزول الآيات، إذ إن نزول الآيات اقترن بالتحويل، أو بعده بقليل وإن لم يكن التحويل به بل كان بوحي من الله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وما كان الله تعالى ليقرئه القرآن وهو يصلي، فإنه عند القراءة كان يقرئه تعالى فقد قال تعالى :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ١٦ إن علينا جمعه وقرآنه ١٧ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ١٨ ثم إن علينا بيانه ١٩ ﴾ [ القيامة ].
وإنا لنستبعد أن يكون إنزال القرآن وإقراؤه وترتيله وهو في الصلاة يصلي، والله على كل شيء قدير.
والسفيه هو : الخفيف العقل، وذلك مأخوذ من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد يكون السفه نوعيا، فقد يكون متزن العقل حكيما، ويكون في أمور أخرى سفيها، كبعض العرب الذين كان فيهم عقل، ولكن الإدراك الديني فيه سفه، وكبعض أهل الكتاب، فإنهم كانوا في أمور الدين سفهاء، إذا تكلموا سفهوا أنفسهم.
ومن هم السفهاء الذين تكلموا في القبلة متعجبين من تحويلها ؟ قال بعضهم : المشركون، فقد توهموا أنه عندما حولت القبلة إلى مكة أن محمدا سيرجع إلى دينهم، وقالوا : لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقال اليهود : لقد التبس عليه أمره، وتحير، واستهزأ المنافقون بالمسلمين، وهم جميعا تساءلوا :﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾.
الاستفهام هنا للتعجب الساخر المتهكم المستهزئ –لعنهم الله تعالى- وهم جديرون بهذا بوصف السفه، فليست الحقائق الدينية موضع تهكم إلا من سفه نفسه، وكان جهولا، ومعنى ﴿ ولاهم ﴾ أي جعلهم يعدلون صارفين النظر عن القبلة التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس، فالتولية معناها العدول أو الانصراف أو الإعراض، وإن هذا السؤال يدل على جهلهم وعتوهم في الفساد، لأنهم نسوا أنهم يعترضون على الله تعالى.
ولقد رد الله تعالى آمرا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ قل لله المشرق والمغرب ﴾ وقد أمر الله تعالى : بأن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليهم، لأن الاعتراض المتهكم كان على النبي وأصحابه، وهم يرمونه بالتحير، وكان الرد ﴿ لله المشرق والمغرب ﴾، أي أن الله تعالى مالك الأرض شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها، وذكر الشرق والغرب، لأن من ملكها ملك الأرض كلها، لا فرق بين قريب وبعيد، وإذا كان هو المالك ملكية مطلقة للأرض، فهو يتخير لموضع قبلته ما يشاء من أرضه وليس لأحد سلطان فيما يريد، وهو يختار من أرضه ما يراه أصلح وأقرب وأنسب، وقد اختار البيت الحرام، كما اختار من قبل بيت المقدس، والبيت الحرام بناء إبراهيم وأول بيت وضع للناس، وهو كما قال علماء الكون في وسط الأرض، واختصه الله تعالى بأن به وحوله مناسك الحج، وقالوا إنه منذ خلق الله تعالى مكة لم يكن بها زلزال ولا خسف، فكأن الله تعالى قد أمنها من هذه الظروف الكونية، كما كان الناس فيها آمنين من القتل، وجعله سبحانه وتعالى حرما آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن هذا الذي اختاره من قبلة هو الهداية لا يرضى به إلا من هداه الله تعالى، فذيل الآية بقوله تعالت كلماته :﴿ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ أي أن الله تعالى بحكمته كان في عباده من اهتدى، وكان في عباده من ضل وغوى، فمن سلك الجدد، وحارب هواه، ووسوسة الشيطان، فإن الله تعالى يأخذ بيده، ويوجهه إلى صراط –أي طريق- مستقيم، والطريق المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى الغاية، إذ إن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتي الابتداء والانتهاء.
١ قاله ابن عباس وغيره، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري: باب الصلاة من الايمان..
٢ سبق تخريجه في المقدمة من رواية البخاري ومسلم..
٣ متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الصلاة ﴿٣٨٨﴾ ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة ﴿٨٢٠﴾..
وان الله تعالى اختار خير أماكن الأرض لتكون قبلة الناس، وهي وسط الأرض وخير بقعة فيها، لما ذكرنا من مناقب لهذا البيت، ولأن منشئها أول نبي عرف بأنه حطم الأوثان، وجعلها جذاذا، ولقد كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم –آخر محطم للأوثان والذي جعلها جذاذا مطروحا – خير أمة، وأنه كما اختار الله خير بقعة في الأرض لتكون قبلة إذ أنشأها محطم الأوثان فكذلك جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، ولذا قال تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾.
الوسط يطلق بإطلاقين : أحدهما –الشيء المتوسط أو الأمر المتوسط بين أمرين أو نحو ذلك مما يكون متوسطا، الثاني- الوسط بمعنى الخير، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ٢٨ ﴾ [ القلم ] أي : قال أعدلهم، ويقال وسط الوادي أي خير موضع فيه.
ولقد قال القائلون بالتفسير الثاني : إن الوسط كان خيرا، لأنه متوسط بين طرفين كلاهما إثم أو باطل، إذ الوسط مجانبة للغلو والتقصير، فاليهودية قصرت في حق الأنبياء، فقتلتهم، والنصرانية غلت في حق نبي فعبدته، فكان الوسط ألا يكون غلو ولا تقصير، بل تلق للرسالة، وإيمان بها، ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"خير الأمور أوسطها"١، لأن الأوسط بعيد عن الغلو والتقصير. ولقد أثر عن علي بن أبي طالب أنه قال :"عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل".
ولأن التوسط خير دائما، صار يطلق الوسط على الخير فيقال عن أفاضل الناس أوساطهم، وعن خيار الأمور أوسطها، وكل موضع فيه إصلاح أو صلح بين الناس يقال فيه وسط.
والنسبية في قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم ﴾ من المشابهة بين خيرية الكعبة وخيرية الأمة، والمعنى كما جعلنا لكم الكعبة قبلة، وهي خير بقعة في الأرض جعلناكم أمة وسطا.
وقد فسر بعض العلماء الوسط هنا بالإطلاق الأول، وهو التوسط بين أمرين، ومعنى التوسط أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق الأمم ودون الأنبياء، وهم على ذلك خير الأمم وأعدلهم، وأقومهم سبيلا، وإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تعلم الناس، وإن محمدا يعلمها.
وفسرها بعض العلماء بأن معنى ﴿ أمة وسطا ﴾ أي أمة عادلة قويمة ارتضاها الله تعالى دون غيرها من الأمم كما قال :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ١١٠ ﴾ [ آل عمران ].
ولماذا كانت أمة محمد الذين يتبعونه ويهتدون بهديه خير أمة أخرجت للناس ؟ الجواب عن ذلك أن خيرية هذه الأمة أو كونها فوق الأمم كانت لأنها بعيدة عن غلو النصارى في عيسى، وسقوطها في الأوهام الباطلة، وبعيدة عن حسد اليهود ومقتهم لكل حق، وفوق ذلك إنها تؤمن بجميع الأنبياء، كما تلونا قوله تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ١٣٦ ﴾ [ البقرة ] فهي أمة الكمال الديني الجامع، وفوق ذلك هي التالية لملة إبراهيم حقا وصدقا، من أجل هذا الإيمان الكامل بالأنبياء جميعا والشرائع السماوية كلها، كان لهم حق الشهادة على غيرهم بأنهم آمنوا بالله الإيمان الكامل، هل آمنوا برسالاته الإلهية، أم لم يؤمنوا، ولذا قال تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾.
أي تشهدون للناس بأنهم آمنوا بمثل إيمانكم، والرسول يشهد لكم بأنكم آمنتم بالله الإيمان الكامل وآمنتم بوحدة الرسالة الإلهية، فالرسول يشهد بإيمانكم الذي يسمح لكم بأن تشهدوا على غيركم، فمقياس الإيمان وميزانه عندكم.
واللام في قوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ هي للتعليل، أي لكونكم وسطا وعدولا في إيمانكم تكونون شهداء على الناس، مع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم، فالخيرية التي اتسمتم بها هي علة الشهادة، وهي باعثها، والسبب في أنكم فوق الناس تحكمون لهم أو عليهم٢.
ويصح أن تكون ( اللام ) ليست للتعليل، وتكون للعاقبة أو الغاية، والمعنى أن خيريتكم أو كونكم فوق الناس ودون الأنبياء غايتها وثمرتها أن تكونوا شهداء على الناس، وأن يكون الرسول شاهدا عليكم، بأنكم استحققتم هذه الخيرية.
والشهداء يصح أن تكون جمعا لشاهد، أو جمعا لشهيد، وقد ذكرنا أن من جمع الشاهد، قوله تعالى :﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله... ٢٨٢ ﴾ [ البقرة ].
وهنا أنسب أن تكون جمعا لشهيد، وذلك لأن الله تعالى ذكر المفرد في قوله تعالى :﴿ ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ والشاهد هو الحاضر الذي يعاين الأمر الذي يشهد عليه، وهذا الأمر الذي يعاينه، وينظر إليه إما أن يكون بعينه المبصرة، وإما أن يكون ببصيرته المدركة المؤمنة الفاهمة، ولا شك أن الشهادة في هذا المقام تكون بالأفئدة التي في الصدور، لا بالأبصار التي ترى الحسيات، ويصح أن تكون رؤية القلوب واضحة بينة كرؤية الأبصار.
وهنا إشارة بيانية يجب أن نذكرها، وهي أنه تعالى عدى الشهادة ب "على" دون اللام، فقال تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ مع أن الشهادة قد تكون لهم، وقد تكون عليهم. والجواب عن ذلك أن الشهادة هنا حكم، أو هي متضمنة معنى الحكم، ولذا تعدت بعلى، لتكون بمعنى الحكم، وقد تكون الشهادة بمعنى تعليم الناس، وشهادة الرسول بمعنى تعليم أمته.
وقد يسأل سائل : لماذا القبلة أولا إلى بيت المقدس، ثم حولت إلى الكعبة، بعد أن كانت في مكة ملتزمة إلى أمد يسير، إذ كان مع الاتجاه إلى بيت المقدس كان الاتجاه أيضا إلى الكعبة بعدم استدبارها كما نقلنا فيما سلف من قول.
ونقول في الجواب عن ذلك إن هناك بيانا لحكمة ذلك ذكره القرآن الكريم، وحكما أعظم وأعلى، وهناك سبب قد نتلمسه والسبب الذي نتلمسه هو أولا : بيان وحدة الأديان السماوية، وثانيا : الإشارة إلى أن بيت المقدس مسجده مقدس كالكعبة، وإن كان دونها تقديسا، وثالثا : إن الكعبة كانت الأصنام تحوطها في ذلك الوقت، وأن التحويل إلى الكعبة كان إيذانا بتحطيم الأوثان وزوال دولتها، إذ كان التحويل في النصف من شعبان، وكان يوم الفرقان بغزوة بدر حول منتصف رمضان كما هو ثابت في سيرة رسول الله صلى الله عله وسلم وهي سيرة الإسلام.
هذا ما نتلمسه وقد يكون غير ذلك.
أما ما ذكره الله سبحانه وتعالى، وهو المحكم الذي لا يأتيه الباطل أبدا، فقد ذكره سبحانه في قوله تعالت كلماته :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها متبعا في صلاتك لها إلا لنعلم من يستمر على تبعيته للرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه.
وما القبلة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم : أهي بيت المقدس ؟ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إليه قبل هذا التحويل، وذلك ظاهر، لا يحتاج إلى تأويل... أم هي الكعبة ؟، وهي التي كان عليها بمكة، وإن اشترك معها الاتجاه إلى بيت المقدس بأمر ربه كما ذكرنا من قبل، وكان يتجه إليهما، ولم يتغير ذلك الاتجاه إلا بعد أن هاجر، وللمفسرين في ذلك اتجاهان :
أولهما– أن القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، وقد كان الاختبار للمهاجرين، وللذين دخلوا في الإسلام، وفي قلوبهم مرض أو ضعف في الإيمان.
أما المهاجرون فقد ألفوا البيت الحرام، والاتجاه إليه، وقد كان مطافهم وشرفهم في الجاهلية، وقبلتهم في الإسلام، وإن الله تعالى قد أمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، فقد كانوا يتجهون للاثنين على ما أشرنا وروينا، فكانت القبلة على ما ألفوا من غير منافرة ولا استدبار لها، فلما كانت الهجرة، وكانت القبلة إلى بيت المقدس فقط، واستدبروها كان الاختيار، وقد أحسنوا الاختبار، وما كان لمهاجر في سبيل الله أن يرتد على عقبيه.
وأما الذين في قلوبهم مرض، فكان الاتجاه إلى بيت المقدس ثم التحول عنه مظهرا ما بطن من كفر المنافقين، ومن ضعف إيمان من الضعفاء في إيمانهم ولذا ارتد منهم من ارتد، وأظهر الكفر من أظهر فمحص الله الذين آمنوا. هذا على تفسير القبلة التي كانوا عليها ببيت المقدس.
ثانيهما- تفسيرها بالكعبة، فالمعنى على هذا : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وهي الكعبة قبل الهجرة، ثم الرجوع إليها إلا للاختبار، وقد وقع من المنافقين ما أظهر ما كانوا يخفون، وارتد بعض ضعفاء الإيمان، وبذلك كان التمحيص، وقد فسر بعضهم ﴿ كنت عليها ﴾، وهي الكعبة بمعنى صرت عليها، مثل قوله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس... ١١٠ ﴾ [ آل عمران ]، أي صرتم بإيمانكم خير أمة أخرجت للناس.
واني أرى أن تفسيرها ببيت المقدس هو الأقرب والأظهر، والتفسير لكتاب الله تعالى بما يكون ضاحيا واضحا أولى وإنه لا يحتاج إلى تأويل، ومن المقررات اللغوية أن ما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل.
ولقول الله تعالى :﴿ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ﴾ أي وإن كانت القبلة في تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة إلا على الذين أودع الله قلوبهم هداية ثابتة مطمئنة لا تزعزعها الرياح، ولا مكان فيها للشبهات التي يثيرها من لا يؤمنون.
ف "إن" هنا مخففة من "إن" الثقيلة، والدليل على ذلك دخول اللام المؤكدة، وهي لا تدخل على "إن" إذا كانت نافية، وكانت دالة على تأكيد القول ببقاء الحال لمن ضل، وبعدها عمن اهتدى.
والله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما يبين أن الاختبار كبير لا يثبت فيه من تزلزل إيمانه الشبهات وتطيحه الشكوك، ولذلك أكد عظم الاختبار ب "إن" المخففة من الثقيلة وبالفعل الماضي ﴿ كانت ﴾ وباللام.
بقي أن نشير إلى أمر لا بد من بيانه، وهو قوله تعالى :﴿ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ وهو : هل كان الله تعالى لا يعلم من يتبع الرسول من غيره، وهو يحيط بكل شيء علما ؟ ويجاب عن ذلك بجوابين :
أولهما- أن علم الله تعالى محيط بكل شيء، وهو يعلمه من قبل أن يقع، ومن بعد وقوعه ويعلمه واقعا، فذلك العلم لا غيره هو الذي يظهر به الفعل ويستبين، فالمعنى ليظهر من يتبع ممن لا يتبع، وليتبين الآثم من المطيع ومن يستمر على إتباعه ومن ينقلب على عقبيه.
والثاني- أن الضمير في ﴿ لنعلم ﴾ ليس لله وحده، ولكنه للجماعة المؤمنة والنبي صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى، وكون الله معهم لا يستلزم أنه لا يعلم، إنما الذي لا يعلم هم المؤمنون، فالاختبار وظهور الطائع المتبع، والعاصي المرتد على عقبيه إنما هو للمؤمنين وهم داخلون في قوله تعالى :﴿ لنعلم ﴾. والتعبير عن الأعلى، ويقصد من دونه كثير في اللغة العربية فإذا قال رئيس دولة استولينا على كذا، فإن الاستيلاء الفعلي يكون من الجند لا منه، وكأن يقول رئيس دولة صادقا أو غير صادق نظمنا الإدارة، وأحكمنا العمل، والذي عمل ونظم غيره.
وقد عبر سبحانه وتعالى عن الذين لم يحسنوا البلاء وكشفهم الاختبار فارتدوا أو أعلنوا كفرهم، وما كانوا مؤمنين بقوله تعالى :﴿ ممن ينقلب على عقبيه ﴾ والعقب هو مؤخر القدم، والمرتد على عقبيه، هو الخارج عن الإسلام، وهذا التعبير –على عقبيه- استعارة تمثيلية، فقد شبه الخارج عن الإسلام الذي دخل فيه أو أوشك
١ حديث: "خير الأمور أوساطها". رواه ابن السمعاني في ﴿تاريخه﴾، من حديث علي بسند فيه من لا يعرف حاله. وأخرجه ابن جرير في ﴿تفسيره﴾ من كلام مطرف بن عبد الله، ومن كلام يزيد بن مرة الجعفي. وروى أبو يعلى عن وهب بن منبه قال: "إن لكل شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك أحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك الوسط اعتدل الطرفان. فعليكم بالأوساط من الأشياء". [الدرر المنتثرة – ج١ ص ٤١٥] وروى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش... إلى أن قال: ويقول: "أما بعد فإن خير الأمور كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدتاثها وكل بدعة ضلالة". [المقدمة: اجتناب البدع والجدل ﴿٤٤﴾]..
٢ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدا، فذلك قوله جل ذكره: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... ١٤٣﴾ [البقرة] والوسط العدل". [رواه البخاري : كتاب تفسير القرآن ﴿٤١٢٧﴾]..
بين الله سبحانه وتعالى أنه سيقول السفهاء : ما ولاهم عن قبلتهم، وأن منهم أهل الكتاب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إلى ربه بقلبه ووجهه راجيا أن تكون القبلة هي البيت الحرام، فكانت إجابة هذه الرغبة، وكان التحويل، والسفهاء قالوا ما قالوا، ولج بنو إسرائيل في سفههم، وهم يعلمون أنه الحق، وهو تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، وقد قال الله تعالى في ذلك :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام، لأن الكعبة بناء إبراهيم، ولأن ملته هي ملة إبراهيم، ولأنه مثابة الناس وأمنهم، ولأنه مجتمع العرب، ومؤتلفهم، ولأن في الاتجاه إليه تأليف قلوبهم، ومعنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا، ويرفعه رجاء، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها، وترضى العرب، ولا يكون فيها تابعا لبني إسرائيل، بل يولي وجهه إلى قبلة إبراهيم وإبراهيم أبو الأنبياء.
فتقلب الوجه، هو الضراعة إلى الله تعالى لكي تكون القبلة هي البيت الحرام، والرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا، وراجيا أن ينزل قرآنا بتحويل القبلة.
وقد قصر بعض المفسرين تقلب الوجه وتردده بين رفعه ضارعا، وخفضه خاضعا، على رجاء نزول قرآن بالتحويل، وظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدم بالطلب على الله تعالى، والحق أن التقلب لرجاء الوحي وللضراعة إليه والدعاء، وليس في ذلك تقدم على الله في طلب شرعه، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما، وأنه سيعود إلى بيت الله الحرام، فهو إذا دعا بذلك وتضرع إنما يستنجز وعد الله تعالى، ويرجو أن ينزل قرآن بذلك.
ولقد أجابه سبحانه إلى ما يرضيه ويرجوه فقال تعالى :﴿ فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي إن الله تعالى استجاب لرجاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه، وقوله :﴿ فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ معناها لنمكن لك ونعطيك القبلة التي ترضاها، من قبيل وليت الأمير أي جعلته واليا، فالمعنى لنعطينك القبلة التي ترضاها، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التي ترضاها.
وقد أكد الله تعالى إجابة مطلب النبي صلى الله عليه وسلم أو دعائه ورجائه بالقسم المطوي في الكلام الذي دل عليه جواب المصدر بلام القسم، وتقدير القول : فوالذي يحلف به لنولينك قبلة ترضاها، وهي الحق الذي قدره الله تعالى في علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام، فلا بد أن يتجهوا إلى بنيته.
وإن هذه الآية في معناها سابقة على قوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء... ١٤٣ ﴾ [ البقرة ]، لأن تقدير قول السفهاء لا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، كما نص القرآن الكريم.
وقد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ والفاء للتفريع عما قبلها، والوجه المراد به حقيقة الوجه، لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام، وقد يراد به الشخص كله، ويكون الوجه المراد به الذات، والتعبير بالوجه عن الذات، لأنه الذي تكون به المواجهة، ولأنه أظهر جزء في جسم الإنسان.
والشطر الناحية والاتجاه، والنحو، ولقد جاء في تفسير أبي السعود العمادي : وقيل الشطر اسم لما ينفصل من الشيء، ودار شطر، إذا كانت منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبيه وإن لم ينفصل.
ويستعمل أيضا في نصف الشيء أو جزئه، ومهما يكن من الأصل اللغوي فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك، والبيت الحرام قبلة الناس في مشارق الأرض ومغاربها، روي عن ابن عباس أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي )١.
وقوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو إجابة لما رجاه، فخصه أولا بالإجابة إرضاء وتقريبا وإيناسا، وتشريفا، ولتبيين منزلته عند الله تعالى.
وقد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام، وليس بخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾.
وقد كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص، وإن كان لا يدل عليه، فقد يفيد خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوص المكان الذي يقيم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب، وعموم الناس، وعموم الأمكنة، وكل يتعرف مكانه وموضع اتجاهه، ففي أي مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جانب من جوانبها، وعلى أي ريح من ريحها ما دام متجها نحوها، غير مستدبر لها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا ويقولون :﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها... ١٤٢ ﴾ [ البقرة ] وكان اليهود مبعث هذا التشكيك، وإن كانوا لم ينالوا فيه مأربا. وقد بين سبحانه وتعالى أنهم دائبون على إنكارهم وسفههم، وإثارتهم للريب وإن لم يستطيعوا، فقال تعالى مبينا مبالغتهم في الجحود مع علمهم بالحق :﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ والضمير في قوله تعالى :﴿ ليعلمون أنه الحق ﴾ قد يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر في الأنفس وفي العقول، فكأنه حضور عقلي لا يقل عن العود على المذكور، لأنه مبشر به في كتبهم، معلوم عند أحبارهم، ومعنى ﴿ أنه الحق ﴾ أي أن ما جاء به هو الحق، فليس فيما أتى به الباطل.
ولعل ذلك قد يكون بعيدا من ناحية الصياغة البيانية، لا من ناحية الحقائق المنزلة، ولذا نرجح أن الضمير يعود على التحويل أو التولي الذي رجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه رجاء أن ينزل به وحي الله تعالى، ورجحنا ذلك، لأنه في الموضوع، ولأن السياق البياني يتلاقى معه، ولأنه الجدير بأن يوصف بالمصدر وهو الحق، فالنبي عند الكلام في شأنه يقال إنه جاء بالحق أو الصدق، أو نحو هذا من البيان.
وان ذلك هو الحق عندهم، فقد علموا مما عندهم من كتب أن النبي وجدوده كانوا في "فاران" وأن "فاران" هي بيت عبادة أولاد إسماعيل، و"فاران" هي مكة وما حولها.
وأكد الله تعالى علمهم بالحق فقال :﴿ أنه الحق من ربهم ﴾ فأكد سبحانه كونه الحق بأن المؤكدة، وبالقصر بتعريف الطرفين، فهو الحق، ولا حق سواه، ثم إنه وصفه بأنه من عند ربهم الذي خلقهم ورباهم، وخلق الأرض كلها، وله مشارق الأرض ومغاربها، فهو أعلم حيث تكون القبلة التي اختارها كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته.
ثم بين ما يعقب أقوالهم وإثارتهم للريب، فقال تعالت كلماته :﴿ وما الله بغافل عما يعملون ﴾ أي أن الله تعالى عليم بهم علم من لا يغفل عن أفعالهم من بث للشك، وغمز من القول، ومنهم ساخر بأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من عند ربه، فهم مراقبون في أعمالهم، وذنوبهم وآثامهم لا تخفى عليه، وهو آخذهم بها يوم القيامة.
١ رواه البيهقي في سننه: باب من طلب باجتهاده الكعبة ﴿٢٢٦٦﴾ ج٢ ص ٢٨٠. وانظر نصب الراية للزيلعي ﴿٥٢﴾ ج١ ص ٢٥٣..
إذا كان الذين أوتوا الكتاب قد أثاروا عاصفة من الشك حول تحويل القبلة من بيت المقدس، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، فليس ذلك لجهل منهم بالحق، كما بينا، ولكن للتعصب الذي استولى على قلوبهم، والتعصب إذا سكن القلوب حال بينها وبين الإدراك السليم فلا تغني الآيات والنذر، ولا تزيدهم البينات إلا خسارا، لذا قال تعالى :﴿ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ﴾.
اللام في قوله تعالى :﴿ ولئن أتيت الذين ﴾ هي اللام الموطئة للقسم أي الدالة على أن ثمة قسما محفوظا، وأن جوابه سد مسد جواب الشرط، وهو ﴿ ما تبعوا قبلتك ﴾ أي والذي يقسم به إن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية قاطعة ملائمة للعقل الحر الخالي من العناد والتكبر والتعصب لكي يتبعوا قبلتك ما اتبعوها، لأنهم ليسوا طلاب حق يقنعهم الدليل، بل هم معاندون مكابرون، لا تزيدهم الحجة القوية إلا إصرارا، ولقد قال تعالى :﴿ بكل آية ﴾، أي لو جمعت الحجج كلها، ورميت بها، ما تزايلوا عن إنكارهم الذي سيطر عليهم عداوة وبغضاء واستكبارا.
وقال المفسرون : إن الكلام فيه إظهار في موضع الإضمار فقد قال :﴿ ولئن أتيت الذين أتوا الكتاب ﴾ وكان موضع الإضمار، لأنهم ذكروا بهذا الإسلام في الآية السابقة، وكان الإظهار لبيان موضع الإنكار عليهم في تعصبهم، وإنغاض رءوسهم عن الحق وقد قامت أمارته وأدلته مما بين أيديهم، ومع ذلك إذا زدتهم آيات أخرى ما تبعوا قبلتك.
ولقد قال الله تعالى بأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لا يتبع قبلتهم، لأن الحق لا يخضع للباطل المعاند المستكبر، ولذا قال :﴿ وما أنت بتابع قبلتهم ﴾ أي أنت على الحق، ولست بتابع باطلهم، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام لا يتبع قبلتهم بالجملة الاسمية الدالة على استمرار نفي تبعيته عليه السلام لقبلتهم، وبضمير الخطاب وهو أنت، أي أنت بصفتك التي في علمهم، وهو أنك المرسل وهم الكذابون المبطلون، وأكده أيضا بالباء في ﴿ بتابع ﴾ الدالة على استغراق النفي وتأكيده، وكان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه في إتباع القبلة تبعا له وهم من ورائه وهو إمامهم.
كان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يمكنه أن يأتي لهم بكل آية، ولقد روي أن اليهود عندما تحولت القبلة أصابهم غم شديد بمقدار ما كان قد أصابهم من فرح عندما كانت القبلة متجهة شطر بيت المقدس، وقد كانوا يقولون : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وكان ذلك تغريرا وخداعا، ﴿ وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ٩ ﴾ [ البقرة ].
وإنه في الواقع أن أهل الكتاب ليست لهم قبلة واحدة، فاليهود لهم قبلتهم إلى الصخرة كما سارت عليه تقاليدهم، والنصارى كانت قبلتهم إلى المشرق حيثما كانوا كما روته التقاليد، لا كما جاءت به نصوص عندهم، ولقد عبر القرآن بإفراد القبلة دون جمعها مع تعددها، لإثبات أنها كلها باطلة في أصلها، لانتهاء دياناتهم، وبطلان ما هم عليه، بما فيها قبلتهم.
ولقد قال تعالى في اختلاف قبلتهم :﴿ وما بعضهم بتابع قبلة بعض ﴾ أي ليس اليهود قابلين لأن يتبعوا قبلة النصارى إلى المشرق حيثما كانوا، كأنهم يعبدون الشمس في شروقها في مطلعها، وليس النصارى بمختارين قبلة اليهود قبلة لهم، فكلا الفريقين يتعصب لقبلته، ويعاند الآخر، ويستكبر عن إتباع قبلته، فهم في عناد مستمر، وكلاهما يتبع هواه، ولا يتبع نصا جاء به دينه، فليس في التوراة نص على قبلة معينة حتى يكون ما هم عليه إتباعا لنص، وكذلك النصارى ليس في الإنجيل نص على قبلة، وإنهم بعد نزول القرآن وبيان القبلة يتمسكون بأهوائهم في التعصب والعناد، ولذا قال تعالى :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ﴾.
أي لئن اتبعت ما يدعون إليه، وليس له مصدر ديني عندهم، وهو يخالف ما جاءك من العلم الحق في أمر القبلة وغيرها فقد اتبعت الهوى، والأهواء جمع هوى، وهو ما يبتدعونه على حسب هواهم، إذ اتخذوا إلههم هواهم، ومن اتبع هوى الفاسدين الذين يكون هواهم منبعثا من شهواتهم الجامحة، لا من دين اتبعوه، ولا من نصوص، بل هواهم، وليس كمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )١، بل أهواؤهم تبعا لشهواتهم، وتبعا لانحراف في نفوسهم.
﴿ لئن ﴾ اللام فيها دالة على القسم، والجواب جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط، وهو قوله تعالى منبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يقع في اتباع أهوائهم إلا الظالمون ﴿ إنك إذا لمن الظالمين ﴾ ففي هذا تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم في ظاهر اللفظ وهو تحذير لأمته، وخصوصا من يقعون تحت مثل هذا الإغراء بإتيان الهوى، وإنه يجب الحذر من أن يكون في سلك الظالمين.
وقوله تعالى :﴿ إنك إذا لمن الظالمين ﴾ فيه إذن الدالة على الشرطية والجزاء والدالة على ترتب الحكم على ما كان من اتباع أهوائهم، إذ معنى إذن، أنه إذا كان ذلك الاتباع قد وقع، فبسببه تكون من الظالمين، فوقوع "إذن" بين اسم إن وخبرها فيه إشارة إلى سبب الحكم وهو هذا الاتباع الذي لا يمكن أن يكون ممن جاءه العلم النبوي بمقتضى الرسالة الإلهية.
هذا وإن الكلام فرضي لا واقعي، ولكنه فرضي فيه تحذير من الوقوع فيه، فالمعنى : إن فرض واتبعت أهواءهم مع علمك ببطلان ما عندهم، فقد سايرت الذين ظلموا ورسخوا في ظلمهم، فإنك إذن معدود في سلكهم وجمعهم الآثم. وقد أكد الله سبحانه وتعالى الظلم ممن يتبع الهوى، وهو عالم غير غافل أولا بإن، وثانيا باللام، وثالثا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والثبات، وإن ذلك كله للتحذير من اتباع الهوى، وموافقة الآثمين في إثمهم، والله سبحانه وتعالى هو العاصم من الضلال.
١ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. [فتح الباري: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم ﴿٦٧٦٤﴾]..
إن أهل الكتاب جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا بالنبي المنتظر في حروبهم مع المشركين، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر القبلة، وظنوا أنهم يستطيعون إغراءه عليه الصلاة والسلام بقبلتهم، وهم يعلمون أن أمرها معروف في التوراة عندهم، ولهذا سجل الله تعالى معرفتهم له صلى الله عليه وسلم معرفة مستيقن وهو علم جازم قاطع فقال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناهم ﴾ وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة، فإن الإنسان لا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم، فكذلك لا يجهلون الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام، وهو ممن آمن من أهل الكتاب : أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك ؟ فقال عبد الله بن سلام : نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه، والضمير في قوله ﴿ يعرفونه ﴾ يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما.
ومعرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم معرفة لرسالته، وما جاء به من حلال وحرام، وللأرض التي يبعث منها، ولقومه الأميين، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ١٥٧ ﴾ [ الأعراف ].
وإن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد صلى الله عليه وسلم قسمين : قسم آمن واهتدى، وقسم كابر وعاند فغوى، ولذلك قال :﴿ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه، وكانوا يستفتحون به على المشركين، وعبر سبحانه وتعالى عن النبي وشريعته، وأظهر في موضع الإضمار، فقال :﴿ ليكتمون الحق ﴾، وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة، فهم يكتمون الحق، ومن يكتم الحق يكتم النور، ولا بد من أن يظهر، ثم أكد فساد نفوسهم، فقال :﴿ وهم يعلمون ﴾، أي والحال أنهم يعلمون أنه حق، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد، فهم يعلمون أن فعلهم إثم، ويعلمون نتائج ذلك الإثم، ولكنهم في غي دائم وضلال مستمر.
هذا بشأن الذي يعلمون الحق ويكتمونه، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به، ويؤمن به، وقوله تعالى :﴿ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ قد يشير إلى أن هناك من لا يعلم، كما قال تعالى :﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ٧٨ ﴾ [ البقرة ] وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الحق.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجاور اليهود، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم، ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين، حتى لا تجرهم المودة إلى أهوائهم، أو الشك فيما عندهم، ولذا قال تعالى :﴿ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ﴾.
بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه، بعد هذا بين أن ما عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال :﴿ الحق من ربك ﴾ أي الحق الجدير بالاتباع الذي لا ريب فيه هو الذي ينزل عليك من ربك وما غيره باطل لا يتبع، فإن خالفت ما جاء من ربك، فقد خالفته إلى الظلم، لأن ما عداه سير وراء هوى التعصب المنحرف والشرك، وقوله :﴿ من ربك ﴾ إشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي رباك وعلمك وهذبك وهداك، وهو الذي يعلم ما ينفع وما يضر وما فيه الهداية وما فيه الضلال.
وإذا كان الحق لا يكون إلا ما هو من جانب الله وأن ما عند غيره هو هوى النفوس، ووسوسة الشياطين ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ الفاء لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى إذا كان ما نزل عليك هو الحق من منزل الحق الذي لا ريب فيه فلا تكونن من الممترين. والامتراء التردد بين الشك واليقين، وقد يطلق على مجرد الشك لتردده بين اليقين والشك، بل إن هذا التردد هو الشك في ذاته، فمعنى الشك موجود، واحتمال الشك ولو من وجه ينافي العلم الجازم.
والنهي عن الامتراء نهي عن أن تدخل أسبابه النفس، وأمر باليقين الدائم. ويقول بعض المفسرين : إنه أمر بالاحتياط والتوقي، ذلك أن الشك يدخل النفوس بسريان ما عند أهل الأهواء إلى غيرهم، يبتدئ باستحسان ما عندهم، وأول الشر استحسانه، ثم يدخل الشر إلى النفس شيئا فشيئا حتى يحدث الشك فيما عنده.
وقال الله تعالى :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾، أي لا تدخل في صفوف أهل الشك، وفي ذلك إيذان بأنه شك فيما عنده لدخل في صف الذين يمارون في الحق ويشككون فيه.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته، فإن الشك أو الامتراء غير متصور منه، وغير متصور أن تكون من النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الامتراء أو أن يدخل في صفوف المرتابين في أمر ربهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، إنما هو أمر لأمته، بأن يحتاطوا لدينهم الحق، فيزيدوا أنفسهم دائما بالعلم الذي يزيدهم إيمانا، وبالقيام بالفرائض، واتباع السنن التي تزيدهم قوة في الاعتقاد، وتبعدهم عن مواطن الشبهات فيزدادوا يقينا، ولا يبعد الشك ويحدث الاطمئنان إلا العمل الصالح وذكر الله تعالى دائما ﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ ﴾ [ الرعد ].
وإن الله تعالى ينبهنا إلى أننا يجب علينا أن نتجه إلى قبلتنا وشرعنا، وليس علينا أن نغير ما عند غيرنا إن اتبعوا أهواءهم بعد أن نبين لهم الحق وندلهم عليه بالآيات البينات، فإن أعرضوا فلهم أعمالهم، ولنا أعمالنا، ولذا قال تعالى :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ﴾.
الوجهة قال كثير من المفسرين إنها القبلة، والتنكير في "لكل" دال على محذوف، والمعنى : لكل ملة أو جماعة قبلة يتجهون إليها، وتبين الحق في هذه الجهات، ببينة الله المختارة من بينها، وأن العبرة بعد الاتجاه إلى القبلة الحق أن تستبقوا الخيرات، أي تسارعوا متسابقين إليها، غير مدخرين جهدا في الوصول إلى الخير من عمل صالح، وصلاة وصوم وزكاة، وتعاون على البر والتقوى، وهذا كقوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر... ١٧٧ ﴾ [ البقرة ].
هذا على تفسير الوجهة بالقبلة، ويصح أن تفسر الوجهة بالملة أو الشريعة أو الحق كقوله تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ٤٨ ﴾ [ المائدة ] وكقوله تعالى :﴿ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ٦٧ ﴾ [ الحج ].
وإن المعنى على هذا : إن لكل أمة اتجاها في اعتقاداتهم، وهم سائرون على ملتهم التي اختاروها، وعقيدتهم التي أرادوها ولهم طريقهم ومناهجهم، ولا نجادلهم، ولكن أمرنا بأن نستبق بالمسارعة في السبق إلى الخيرات، أي كل ما هو فيه خير في ذاته، وفيه نفع للناس والأنفس، وما فيه تطهير القلوب، والاتجاه بها إلى الله تعالى رب الوجود ومن في الوجود.
وإنه بعد الاستباق إلى الخير، والاختلاف في الملة سيكون الحساب، والثواب والعقاب، وبيان الحق والباطل، ولذا قال :﴿ أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ﴾ وأينما اسم شرط دال على المكان، وجواب الشرط يأت بكم الله جميعا.
والمعنى أنه في أي مكان كنتم لا بد أن يأتي الله تعالى بكم وتجتمعوا يوم القيامة، فيعرف أهل الحق من أهل الضلال، ويحاسب كل على ما قدم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وإن هذا النص السامي فيه تبشير وإنذار، فيه تبشير لمن استبقوا إلى الخير، وكان دينهم الحق، وإنذار لمن اعتقدوا الباطل، ولجوا فيه وعاندوا أهل الحق وكابروا.
وقوله تعالى :﴿ يأت بكم الله جميعا ﴾ فيه إشارة إلى أنها حياة لا يجيئون إليها مختارين، بل يأتي بهم الله تعالى طائعين أو كارهين، ومن يأتي بهم هو الله تعالى القاهر فوق عباده، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾. وقد أكد قدرته بهذه الجملة السامية المؤكدة بأن والجملة الاسمية، وتصديرها بلفظ الجلالة الدال على القدرة التي ليست فوقها قدرة، وهو سبحانه وتعالى الغالب على كل هذا الوجود، كل شيء في قدرته وفي سلطانه، وهو العزيز العليم.
تبين في الآيات السابقة اتباع القبلة في حال المقيمين، فبينت حيث يقيم النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت حيث يقيم المسلمون في الأماكن الإسلامية، كل في مكان إقامته، فقال فيما تلونا من قبل :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾.
وفي النص السامي يبين أن القبلة لا بد من الاتجاه إليها في السفر كما يجب الاتجاه إليها في حال الإقامة، فإذا خرج من مكان إقامته اتجه إليها، فلا تسقط فرضيتها في السفر، ولذا قال تعالى :﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ "من" هنا أي من أي مكان خرجت، وفي أي مكان حللت، فول وجهك شطر المسجد الحرام، أي ناحيته، إذ لا فرق بين مكان ومكان ولا سفر ولا إقامة، فالاتجاه ضروري، أي إن السفر لا يسوغ ترك الاتجاه شطر البيت أي ناحيته ووجهته.
وذكر ذلك النص لتأكيد الاتجاه، وأنه شرط لصحة الصلاة دائم مستمر لا فرق بين سفر وحضر، ولا فرق بين راكب وراجل، ولقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال :( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به )١، أي أنه كان يلاحظ دائما أن يكون ناحية القبلة.
وقوله تعالى :﴿ فول وجهك ﴾ الفاء هنا في معنى جواب الشرط.
وقد أكد الله تعالى القبلة إلى البيت الحرام، فقال :﴿ وإنه للحق من ربك ﴾ والضمير يعود على تولية الوجه، وقد أثبت الله تعالى بهذا أنه الحق، وأكده بأن واللام، والجملة الاسمية، وإسناد هذا الحق لله تعالى، والتعبير عن الله جل جلاله للدلالة بربك للإشارة إلى أنه اقتضته تربيته لك، وقيامه على شئونك، وأنه سار على حكمته، ولأنه رأى تقلب وجهك في السماء، وأن ذلك الحق ثابت في كتبهم، فإنه ثابت في التوراة أن القبلة تتحول إلى فاران أي إلى مكة.
وبعد أن أكد سبحانه وتعالى وجوب الاتجاه إلى القبلة في السفر والإقامة بين سبحانه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تحت سلطان علمه وحكمته، وأنه رقيب على المؤمنين ليس بغافل عنهم ليتحروا القبلة ويتعرفوها، ولا يصلوا إلا بعد هذا التحري فقال تعالت كلماته :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾.
نفى الله تعالى وجل جلاله عن نفسه الغفلة، أي أثبت العلم الكامل، بتأكيد نفي أن يقع فعل في الوجود على غير علم منه، باستغراق النفي، وبذكر لفظ الجلالة الذي يتصف بكل كمال، ويستحيل عليه أي نقص، وبالباء الدالة على استغراق النفي.
وإن هذا الكلام السامي قد يكون إنذارا، ولكنه موجه إلى المؤمنين، وليس موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أن الخطاب كان باللفظ الدال على الجمع، ﴿ عما تعملون ﴾.
١ رواه أبو داود في كتاب الصلاة: باب التطوع على الراحلة ﴿١٠٣٦﴾ بلفظ: عن أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر، فأراد أن يتطوع، استقبل بناقته القبلة، فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه".
كما رواه احمد ﴿١٢٦٣٥﴾ في مسنده عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم خلى عن راحلته فصلى حيثما توجهت به".

وقد أكد سبحانه وتعالى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتكراره، وذكر الأمر للمؤمنين أجمعين تعميما للأماكن، حيثما كانوا في سفر أو إقامة كما أشرنا، فقال تعالى :﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾. وكان التكرار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم لتعدد أسفاره، وغزواته، وأن القبلة الاتجاه إليها شرط لصحة الصلاة في كل الأحوال إلا أن يكون ذلك في حال الخوف، وتكون صلاة الخوف، ولا يمكن الاتجاه إلى القبلة، إذ يستدبر العدو، فيأتيهم من حيث لا يشعرون، وقد بين الله تعالى صلاة الخوف فقال تعالى :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ١٠٢ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ١٠٣ ﴾ [ النساء ].
وقد تشير هذه النصوص الكريمة إلى أن استقبال القبلة إذا تعذر في حال الحرب جاز الاتجاه إلى غيرها من غير استدبار للضرورة والله تعالى هو الواقي.
وإن الله سبحانه وتعالى كرر طلب الاتجاه إلى البيت الحرام حيثما كانوا، ومن حيث خرجوا في سفرهم وفي مغازيهم، وكرر ذلك تأكيدا للطلب لكيلا يرتاب مرتاب، ولكي يكون حجة على الناس، ولا يكون لهم حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولذا قال تعالى :﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ﴾، أي أكدنا الاتجاه إلى البيت من أجل ألا يكون للناس حجة في عدم العلم، ودليل عليكم في عدم تحويل القبلة إلى الكعبة، وأن يسيروا على القبلة التي كنتم عليها، وهي إلى بيت المقدس، والحجة هي التي يستدل بها المخالف، وذلك لأن اليهود والمنافقين لجوا في التساؤل والمناقشة وتوهين ذلك التحويل، فأكد الله تعالى التوجه إلى البيت الحرام، والحجة التي نفاها الله تعالى هي حجة عدم العلم فأكده.
وقد استثنى الله تعالى من الذين لا تقوم لهم قائمة الذين ظلموا فقال :﴿ إلا الذين ظلموا ﴾ وهذا الاستثناء أهو استثناء منقطع بمعنى لكن ؟ لقد قال الطبري : إنه استثناء متصل بمعنى إن الذين ظلموا لا تنتفي حجتهم، وإن كانت واهية داحضة عند ربهم، وقال : المعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا :"ما ولاهم"، وقالوا : تحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لا تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق، أي إنه لا حجة عليكم إلا المماراة وما يحسبونه حججا. وهو أقوال واهية تدل على ضعف الإيمان عند قائلها وأنهم يقولون ما لا يؤمنون به، ويكون الذين ظلموا هم اليهود والمنافقون.
وقال بعضهم : إن الاستثناء منقطع، ويكون المعنى، لئلا يكون للناس حجة عليكم، لكن الذين ظلموا، لا يقنعهم دليل ولا تعظهم حجة، بل إنهم يلجون في الباطل بأوهام باطلة، فلا تنتظر منهم أن يلزموا أنفسهم بدليل مهما كانت قوته، لأنهم معاندون جاحدون مكابرون.
ولذا قال :﴿ فلا تخشوهم واخشوني ﴾ الخشية نوعان : خشية الله تعالى وهي طمأنينة في القلوب تبعث على التوقي مما يغضب الله تعالى، وهذه هي الخشية من الله.
والخشية الأخرى الخوف والفزع، وهي ما نهانا الله تعالى عنه، فنهى أن نخاف أو أن نفزع أو أن نتوقع الأذى من هؤلاء الظالمين، وأن نخشى الله تعالى فتمتلئ نفوسنا بالاطمئنان والتقوى.
كان التأكيد للاتجاه إلى البيت الحرام لذلك، ولأمر جليل آخر، أشار إليه بقوله تعالى :﴿ ولأتم نعمتي عليكم ﴾ أي كانت القبلة لكيلا يكون للناس حجة عليكم. ﴿ ولأتم نعمتي عليكم ﴾، إن نعم الله تعالى تتوالى على النبي ومن معه من المؤمنين ومن تمامها نعمة الاتجاه إلى الكعبة، إذ إنها تضمنت إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان يقلب وجهه في السماء ليوليه قبلة يرضاها، ولما فيه من تشريف البيت الحرام، ولما فيه من إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، ولما فيه من تأليف للعرب، ولأن ذلك إيذان بفتح مكة وإزالة دولة الأوثان، وإقامة دعائم الإسلام، وتلك كبرى النعم.
وذكر الله تعالى أمرا آخر، وهو جماع الأمور كلها، وسبيل الحق والإيمان وهو رجاء الهداية الكاملة، فهذا من طرقها ﴿ ولعلكم تهتدون ﴾ الرجاء من الناس لا من الله، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولى الله تعالى نبيه إلى الكعبة، تكريما للبيت وتشريفا له ولبانيه، وأتم نعمته عليهم بالإيذان بإزالة الأصنام عنه، فعل الله تعالى ذلك لتتم الهداية كما أرسل رسولا منهم، ولذا قال تعالى :﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ﴾ وفي هذا إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، إذ قال تعالى في ذكر دعائه :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم... ١٢٩ ﴾ [ البقرة ] فكما أجاب دعاءه عليه السلام بجعله بلدا آمنا وأن يكون مثابة للناس وأمنا أجاب دعاءه بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته.
يمن الله تعالى على العرب بأن جعل فيهم رسولا منهم ليقول مانا عليهم بذلك كما من عليهم بجعل القبلة إلى الحرم الآمن الذي قدسوه وكرموه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل فيهم وهو منهم، كما قال تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ١٢٨ ﴾ [ التوبة ].
فهو فيهم ومنهم، وهو أكثر تأليفا لقلوبهم. ورعاية لنفوسهم وهو الحق من ربهم كما قال تعالى :﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم... ١٦٤ ﴾ [ آل عمران ].
وتلاوة الآيات التي جاءت في قوله :﴿ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ﴾، تلاوة الآيات هنا أي القرآن بقراءته في ترتيل وفهم، وإدراك لمعانيه، وإجابة لأمره، واعتبارا بقصصه، وذلك عبادة ﴿ ويعلمكم الكتاب ﴾ أي تعليمهم علم القرآن من بيان للصلاة والزكاة والحج والصوم وأحكام الأسرة، وأحكام الحرب وما يحل فيها وما يحرم، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وآداب وأخلاق المسلم فهو مأدبة الله تعالى، وهو سجل المعجزات التي جاء بها الرسل من عهد نوح إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام.
والحكمة هي الشريعة، وما فيها من إصلاح بين الناس، وإقامة للعلاقة الإنسانية. وفسرها الشافعي بأنها السنة وقد بينها عند ذكر قوله تعالى :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك... ١٢٩ ﴾ [ البقرة ]، فارجع إليها.
﴿ ويزكيكم ﴾ أي يطهركم من أرجاس الجاهلية ومآثمها كوأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر بله عبادة الأوثان والأنصاب، وينمي فيهم قوة الخلق والشكيمة ويوجهها نحو مكارم الأخلاق.
وقال الله تعالى :﴿ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ علمهم الله علما لم يكونوا يعلمونه من قبل، علمهم علم النبوة، وعلمهم علم البعث والنشور والقيامة والحساب، وعلمهم علوما تنفعهم في الحياة الدنيا، وتزودهم بالخير في الآخرة، وعلمهم مكارم الأخلاق وعلمهم تنظيم الدولة، وقيام حكم صالح يستظل في ظله البر والفاجر، وعلمهم العدالة والامتناع عن الظلم.. وأخيرا علمهم علم الإسلام، وقد جمعه تعالى في قوله جلت حكمته :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ٩٠ ﴾ [ النحل ] وجعل منهم دولة الإسلام الفاضلة التي لم تر الإنسانية لها نظيرا من يوم أن خلق السماوات والأرض.
بين الله تعالى نعمة الرسالة المحمدية في العرب، وفي الإنسانية كلها، وإن ذلك يقتضي أن يشكر صاحب هذه النعم ﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها... ٣٤ ﴾ [ إبراهيم ]، ولذلك قال تعالى :﴿ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ﴾، الفاء هنا هي ما تسمى فاء السببية، وهي ما يكون قبلها سببا لما بعدها، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط، ولا بترطيب القول بذكر جلاله وإنما تكون أولا بامتلاء النفس بذكره، حتى يكون كأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، نطق اللسان أو صمت أو جهر به أو خفت، كما قال تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية... ٥٥ ﴾ [ الأعراف ] و ﴿ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ٢٠٥ ﴾ [ الأعراف ] وإن الله تعالى يقول اذكروني أذكركم، اذكروني في كل حياتكم وفي قلوبكم أذكركم بالنعم والغفران، اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ٧ ﴾ [ إبراهيم ] روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة :( أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هو خير منه وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا، اقتربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيت إليه هرولة ) وقد أخرجه البخاري١. وإن ذكر الله تعالى يكون في القلب، ويبدو في العمل، فالطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى ويبتهل فيها إليه ويطلب رضوانه بها هي ذكر لله.
وكل الأعمال كالتجارة والصناعة والزراعة إذا قام بحقها، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي ذكر لله، وكل عمل لا يعمل إلا لحب الله تعالى، فالصانع في مصنعه، والزارع في مزرعته، والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى ونفع الناس يكون ذاكرا لله تعالى، وإن المؤمن لا يفرغ قلبه من ذكره، إذا قام بحق الله تعالى، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقي الله تعالى في كل عمل يعمله ويكون دائما في حذر من غضب الله تعالى، وقد قال تعالى في وصف المؤمنين :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ٢ ﴾ [ الأنفال ].
إن ذكر الله تعالى هو الخير كله، روى ابن ماجة أن أعرابيا قال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال :( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل )٢.
وإن أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى، ولذا قال تعالى بعد الأمر بالذكر :﴿ واشكروا لي ولا تكفرون ﴾ وهنا نجد الشكر تعدى باللام وقد قال الفراء : إن ذلك هو الأفصح، ولكن يجوز اشكر لي واشكرني.
وشكر العبد لله تعالى، الثناء عليه، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدي على حق غيره، وألا يؤذي، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم، ويغيث المستغيث، ويدفع الكوارث عن المؤمنين، وأن يفك العاني.. وشكر نعمة الرجل ألا يسعى إلا في خير، وألا يسعى في ظلم، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم.
وإن شكر نعم الله تعالى ليرجو به الشاكر زيادتها، ولقد قال تعالى :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ٧ ﴾ [ إبراهيم ].
وإذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر، وهو الطاعات، والأخذ بالهدى المحمدي، فقد نهى عن الكفر فقال :﴿ ولا تكفرون ﴾ والنهي عن الكفر معطوف على قوله تعالى :﴿ واشكروا لي ﴾ يجعلنا نتصور أن تكفرون فيها ياء المتكلم محذوفة أو بالياء كما في قوله تعالى ( فلا تخشوا الناس واخشون... ٤٤ ) ( المائدة ) ويكون معنى كفر الله تعالى عدم ذكره، وعدم معرفة حقيقة نعمه، ولكن الظاهر أن المراد النهي عن الكفر المطلق، وهو ألا يعتقد بالوحدانية وألا يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى. وفقنا الله تعالى للشكر وجنبنا الكفر.
١ البخاري: كتاب التوحيد –باب: قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه ﴿٦٨٥٦﴾ ومسلم: الذكر والدعاء ﴿٤٧٣٢﴾..
٢ رواه ابن ماجه: الأدب –فضل الذكر ﴿٣٧٩٣﴾ عن عبد الله بن بسر، وبنحوه عند الترمذي: الدعوات –فضل الذكر ﴿٣٣٧٥﴾ وأحمد: مسند الشاميين –حديث عبد الله بن يسر ﴿١٧٢٤٥﴾..
أول الجهاد جهاد النفس
اتجه المسلمون بأمر الله تعالى إلى البيت الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وقد اتجهوا إليه في الصلاة إيذانا بإبعاده عن الشرك، وأن تحيط به الأوثان، وأنه أشار سبحانه وتعالى بأنه سيكون الفتح، وأنه سيكون في حوزة أهل التوحيد، وأنه من بعد سيكون يأس الشيطان من أن يعبد في الأرض المباركة، وقد كان البيت الحرام في أيدي المشركين ولا يخرجون منه إلا بجهاد لإخراج أعداء الله من بيت الله، أو لجعل كلمة الله تعالى العليا في بيته، وإنه بالتحقيق ثبت بالتقريب أن تحويل القبلة كان في السابع عشر من رمضان، فكان بين التحويل ويوم الفرقان شهر واحد.
ولذلك جاءت الدعوة إلى الجهاد، عقب تحويل القبلة، وأول الجهاد جهاد النفس، فجهاد النفس قبل امتشاق الحسام في الميدان، وجهاد النفس بتعويدها الصبر وقمع الأهواء والشهوات والاتجاه إلى الله تعالى، ولذا ابتدأ به فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ استعينوا في أموركم، وفي استجابة أوامر ربكم والأخذ بأحكام دينكم وإعداد العدة للقاء عدوكم، فمجاهدة النفس مقدمة على جهاد العدو، بل هي عدته وقوته.
والصبر ضبط النفس والاستيلاء عليها، وهو يتنوع موضوعه، فهناك صبر على منازعة الأهواء والشهوات لتعميمها والاستيلاء عليها بجعل الشهوة أمة للعقل ليست مسيطرة عليه، ولا مسيرة للنفس، وهناك صبر لأداء الطاعات والقيام بالواجبات فإن ذلك يحتاج إلى عزم قوي لا يكل ولا يمل، وهناك صبر على لغو القول من الناس، واستهزاء السفهاء، وتهكم ذوي الأهواء، وهناك صبر بالإقامة مع الضعفاء وقد قال الله تعالى فيه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ٢٨ ﴾ [ الكهف ].
وهناك صبر عند المصائب في الدنيا فلا يفزع ولا يجزع ويعلم أن الصبر فيه أجر وأن الجزع فيه وزر، وهناك صبر عند لقاء الأعداء ولعله نتيجة لصفة الصبر وتشعبها في كل النواحي التي ذكرناها.
والصبر خير كله، وهو أول صفات المؤمنين، ومن الصبر ألا يكفر عند النعمة وألا ييئس عند النقمة، ولقد قال تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ١٠ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ١١ ﴾ [ هود ].
ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن صهيب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )١ فالصبر كله خير، وهو عدة الإيمان والأخلاق، وبناء المجتمع الصالح، وهو أقوى عدة للجهاد. هذا أمر الصبر. والاستعانة به مناجاة العبد لربه، وصرف القلب إليه، والاتجاه إليه، وهي التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فينسى ما بينه وبين الناس، وهي استحضار العزة من الله، وامتلاء الإنسان بجبروت الله، وأنه فوق قوى البشر، والاستعانة هي سلوك المؤمن. روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى"٢.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر والصلاة إذا اشتدت عليه شديدة الناس بالقول والعمل، فقال تعالت كلماته :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ١٣٠ ﴾ [ طه ] فعبر عن الصلاة هنا بالتسبيح فسبيل الرضا بالنوازل والشدائد من الناس –كما تدل الآية- الصبر على ما يقولون، والصلاة إذ هي اطمئنان القلوب، وسرور النفوس وبها تستبدل النعمة بالنقمة، والسراء بالضراء.
وختم تعالى الآية بقوله :﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بمعاونته لهم، فينصرهم، بسيطرتهم على نفوسهم، ثم ينصرهم على أعدائهم، ثم يغلبهم، على كل شر في الحياة، ثم تقوية عزمهم، وضبطهم لنفوسهم، فالله معهم في كل أعمالهم، وهو وليهم ونعم المولى ونعم النصير.
١ رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق ﴿٥٣١٨﴾، وبنحوه رواه أحمد والدارمي..
٢ رواه أحمد ﴿٢٢٢١٠﴾، وأبو داود ﴿١١٢٤﴾. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه..
هذا ما يعد الله به تعالى نفوس المجتهدين، صبر وذكر لله تعالى، وإنه من بعد ذلك يكون القتال، ويكون الشهداء، وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس القتال شهوة، ولا نزهة، ولكنه فداء وبلاء، واستشهاد، وإن الشهداء لا يموتون ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون، والحياة ليست للأشباح فقط، بل هي للأرواح، ولذا قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ﴾.
النهي عن القول، والقول دليل الاعتقاد فهو نهي عن الاعتقاد، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن الاعتقاد في آية أخرى في معنى هذه الآية الكريمة وفي موضوعها فقال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾ [ آل عمران ] وفي الآية التي نتكلم في معناها قال الله تعالى :﴿ ولكن لا تشعرون ﴾، أي ولكن لا تحسونهم بمرأى العين، وذلك لا يقتضي أنهم ماتوا، بل هم عند ربهم يرزقون، ولقد قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ١٧٠ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ١٧١ ﴾ [ آل عمران ].
وإن حياتهم روحية يستبشرون بها بأنهم فدوا إخوانهم، وأنهم قدموا أنفسهم، وآثروا إخوانهم، ولقد صور النبي صلى الله عليه وسلم حياتهم فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :( إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى، فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون )١.
هذا حديث مصور لحياتهم الروحية، وأنهم في جنات النعيم، وأنهم ما ندموا على أن قتلوا شهداء بل إنهم فرحون بذلك، وأنهم يتمنون أن يعودوا ليقتلوا في سبيل الله تعالى، لأنهم راضون بما فعلوا، فهم يطلبون الشهادة بأرواحهم كما طلبوها بأبدانهم، وإن ذكر الشهداء بعد الأمر بالصبر والصلاة تأكيد لضرورة الصبر، ولا يكون من غير صلاة.
١ رواه مسلم، عن مسروق قال: سألنا عبد الله –أي ابن مسعود- عن هذه الآية ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩﴾ [آل عمران] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا". وبنحوه عند الترمذي ﴿٢٩٣٧﴾ في كتاب التفسير، باب تفسير سورة آل عمران وابن ماجه ﴿٢٧٩١﴾ في كتاب الجهاد –باب فضل الشهادة في سبيل الله ﴿٢٧٩١﴾ وجاء من رواية جابر بن عبد الله عند الترمذي -٢٩٣٦} وابن ماجه ﴿٢٧٩٠﴾ واللفظ له يقول: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك؟" قلت: بلى قال: "ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال: يا عبدي تمن علي أعطك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي. فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩﴾ [آل عمران]..
وإن الجهاد بلاء، ولا بد أن يستعدوا له، فهو اختبار، ولذلك قال تعالى :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ﴾.
إن هذا النص جاء توطئة للجهاد، وليتحملوا كل ما فيه من شدائد، وكله شدائد إلا على المؤمنين الصابرين، وإنه يجب أن يتوقعوا ذلك ويتحملوه، فإن الأمر المتوقع إذا وقع سهل حمله، وإذا جاء على غير توقع صعب وقعه، وهلعت النفوس، وهذا النص كقوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ٢١٤ ﴾ [ البقرة ] ومثل قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ١٤٢ ﴾ [ آل عمران ].
فهذه من أخوات هذه الآية التي نتكلم في معناها، فهي بيان لما يتوقعه المجاهدون، وخصوصا أن هذه الآية كما يبدو من سياقها مع الآيات كانت في السنة الثانية من الهجرة، وقد فتح باب الجهاد الأكبر ويوم الفرقان قريب الوقوع وهو بدر الكبرى الذي فرق بين عهد النصر المؤزر، وعهد الاستضعاف.
﴿ ولنبلونكم ﴾ البلاء الاختبار لا ليعلم الله تعالى، بل ليظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه المكنون، ولقد أكد الله تعالى البلاء ليؤكد موضوعه بالقسم الذي دلت عليه لام القسم، ونون التوكيد الثقيلة ﴿ بشيء من الخوف ﴾ قال بعض العلماء : التنكير فيه للتقليل، وإني أرى أن المقام موجب أن يكون التنكير فيه للتكثير لكي يتحقق معنى الابتلاء فيقدمون على حرب لقوم شداد غلاظ من شأنهم أن يخوفوا ويفزعوا، وقد قيل إن ذلك الخوف يتنافى مع الشجاعة التي عرف بها النبي، وصحبه الكرام أمثال حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وعلي بن أبي طالب فارس الإسلام والزبير وغيرهم، من الصناديد الذين يتقدمون في الميدان لا يهابون إلا الله، ونقول في ذلك إن الشجاعة لا تنافي الخوف، لأن الخوف يحمل على تدبير الأمور، وبعد تدبيرها يفترق الشجاع عن الجبان، فالجبان لا يقدم والشجاع مقدم مقدرا النواحي المخوفة، والنواحي التي فيها جانب الله تعالى فيقدم على بينة، وقد حقق الذين درسوا النفوس فقرروا أن الشجاعة لا تكون شجاعة إلا إذا أحس بخطورة الأمر وأقدم غير هياب، وإن المؤمنين قد أصيبوا بما من شأنه أن يخيف ولكن لم يجبنوا عن اللقاء، بل أقدموا عليه في غير تلكؤ ولا اضطراب.
هذا شأن الخوف، ثم قال تعالى :﴿ والجوع ﴾ فقد أصيبوا بشيء غير قليل من الجوع، وقد كانوا يربطون الأحجار على بطونهم.
كما كانوا يفعلون في حفر الخندق، ﴿ ونقص من الأموال ﴾، فإنه في الحروب يتوقف اشتغال المؤمنين بالتجارة وغيرها، فهل كان أبو بكر التاجر تجري متاجره، والحروب قائمة ؟ وهل كان عثمان ذو النورين تستمر متاجره غادية رائحة والحرب قائمة بن الشرك وأهل التوحيد. ﴿ والأنفس ﴾، فإن ملحمة الحرب يكون فيها الشهداء، وقتل الأبطال. ﴿ والثمرات ﴾ وقد أصيب الأنصار في المعارك وقد خرجوا للجهاد فلم يسقوا زرعهم ولم يرعوا ثمرات نخيلهم فنقصت ثمارها.
ذكر الله تعالى ذلك الابتلاء قبل وقوعه، وكانوا على مقربة منه، لأن ذلك كان قبيل غزوة بدر الكبرى، فذكر الله تعالى ذلك ليتوقعوه قبل أن يقع فيعدوا له الأنفس بالصبر، وضبط النفس، والاستعانة بقوى النفس في الجهاد وتحمل الأذى من الحرب، فقد كتب عليكم القتال، وهو كره لكم، ولكنه خير في نتيجته ما دام ردا للاعتداء ومنعا للفتنة وفتحا لطريق الدعوة.
ولذا قال تعالى :﴿ وبشر الصابرين ﴾ والبشارة هي النصر الكامل، وذكر أن المبشرين هم الصابرون، فالوصف علة للحكم فكانت البشارة بالنصر بسبب الصبر، لأن الصبر عدة النصر، كما قال علي رضي الله عنه بطل الحرب الإسلامية : كنا ننصر بالصبر والتأييد.
وإن الصابرين هم الذين يضبطون أنفسهم فلا تنخلع قلوبهم بفزع، ولا يصيبهم عندما يفاجئون بما لا يحبون، ولذا عرفهم الله بقوله :﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾.
الصبر يكون بمعنى ضبط النفس عن الأهواء والشهوات، وعما يكون فيه معصية الله تعالى، ويكون بعزمة المؤمن القوي في طاعة الله، وبتحمل ما ينزل مما يفزع القلب، واطمئنان من غير أنين، ومن هذا النوع الصبر على ما يصيب من نوائب الدهر ومصائبه.
والمصائب جمع مصيبة، وهي كل ما يصيب الإنسان بالأذى في نفسه من مرض، أو ماله من خسارة فادحة، أو فقد حبيب، أو مفاجأة بما لا يسر بل يضر كهزيمة في حرب، أو غدر غادر، أو غير ذلك مما يكرث الإنسان من كوارث، والصبر المحمود في هذه الأحوال وغيرها هو الصبر الجميل الذي يكون من غير أنين وشكوى كصبر يعقوب عندما غاب ابنه يوسف إذ قال :﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ١٨ ﴾ [ يوسف ].
وإنه مما يجعل الصبر جميلا لا أنين فيه ولا شكوى، ولا تململ مما أنزل الله تعالى أن يفوض أمره إلى الله تعالى، وأن يحيل المرجع والمآب إليه، وأن يعتقد أن كل شيء من الله تعالى، وأن إليه مرجع الأمور وعنده المستقر والمعاد، ولذا قال تعالى في حال الصابرين وقولهم عندما تصيبهم المصيبة وتنزل بهم النازلة لا قبل لهم بها :﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾. وإن هذه الجملة فيها من كمال التفويض والاعتزاز بجلال الله تعالى والاطمئنان إلى قدرته ما يعلو بالنفس على الأنين والشكوى لغير الله تعالى العلي القدير.
ومعنى ﴿ إنا لله ﴾ أي أننا ملك له تعالى يتصرف فينا كيف يشاء، وأمورنا بين يديه يصرفها كما يشاء، وهو نعم المعتمد في كشف الضر وإزالة الكرب، وإنه ملكنا بخلقه وتقديره وتصريفه فينا وله الأمر والتدبير، وإليه مرجعنا فنحن راجعون إليه وحده، ولذا قدم الجار والمجرور ﴿ وإنا إليه راجعون ﴾ فنحن هنا في الحياة مملوكون له، ومن بعد ذلك نرجع إليه وعسى أن يكون ذلك خيرا لنا. روى مسلم بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته )١.
وقوله تعالى :﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ إقرار بالتوحيد واستشعار للعبودية، وإيمان بالبعث والنشور، وفي ذلك عزاء أي عزاء وسلوى عن البلاء، ولقد روى مسلم بسنده عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل :﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها )٢.
وإن الصالحين لا يفرون من المصائب تنزل بهم، ولا يرونها من جانبها الشديد، بل يرونها من جانبها الصالح المفيد، فهي تربي في المؤمن الإحساس بالربوبية والضعف أمام القدرة الإلهية والإخلاص لله تعالى، فالإخلاص حيث الضعف أمام الله، وأنه لا كاشف للضر سواه، وأن ذلك يجعله يرجع إلى الله تعالى ويكون ممن أناب إليه سبحانه كما قال الله تعالى ﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين... ٣٢ ﴾ [ لقمان ] وحيث يحس بشدة المصيبة يتضرع إليه، فيدعو إليه متضرعا ليكشف عنه الضر. وإن المصائب تجعل النفوس بعيدة عن الاستكبار فتطمئن إلى الضعفاء، ويتربى فيها الحلم، والعفو وكثرة الثواب بكثرة الصبر، ﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ١٠ ﴾ [ الزمر ] وإن الصالحين لهذه المصائب وثمراتها من طهارة القلب وتنزيه النفس يفرحون ولا يكربون، وإن كانت تجعل غيرهم في كرب، وإنه إذا فرح شكره وإنها تمحص القلوب وتطهرها من الغطرسة والعتو.
وإن الصالحين بتفويضهم أمورهم لله تعالى، وثقتهم بالله تعالى يعلمون أن وراء ما نزل من مصيبة ضرا لهم ولخيرهم ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ١٩ ﴾ [ النساء ] وأن المصائب تفطم النفس عن الأشر، وتبعد عن الترف، ووراء الترف الظلم فيكون الاستماع للبشير النذير قال تعالى :﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ٣٤ ﴾ [ سبأ ].
وإن الرضا بقدر الله تعالى فيما ينزل من نوازل يجعل النفس في اطمئنان من الجزع والهلع، وبعد عن السخط والغضب.
وأخيرا إن المصائب تصقل النفوس، وتربي فيها قوة الاحتمال إن صبرت وفوضت، ورجت الثواب والفرج من الله تعالى، وفيها يكثر الدعاء لله تعالى، والدعاء مع العبادة، ولقد قال تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم... ٦٠ ﴾ [ غافر ] وكان بعض الصالحين إذا ألم به مرض أو وصب دعا ربه أن يجعله يحس بنعمة المرض والسقم، إذ إنه يقربه من ربه فلا يطغى ولا يستغني بنفسه عن ربه.
١ متفق عليه، رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كتاب المرضى ﴿٥٢١٠﴾، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب ﴿٤٦٧٠﴾ واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ رواه بهذا اللفظ مسلم: كتاب الجنائز: باب ما يقال عند المصيبة ﴿١٥٢٥﴾، وبنحوه عند أحمد ﴿٢٥٤١٧﴾ في مسنده عن أم المؤمنين أم سلمة –رضي الله عنها-. كما رواه الترمذي، وابن ماجه، والنسائي، ومالك، والدارمي..
ولقد قال تعالى في جزاء الصابرين عند النازلة التي تكرثهم، والرضا بما يأتي به الله تعالى :﴿ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ﴾.
الإشارة هنا إلى الصابرين الذين يتحملون الخوف مهما يكن مقداره، ونقص الأموال والأنفس والثمرات في سبيل الله تعالى، وإذا نزلت بهم نازلة أصابت نفوسهم من فقد حبيب أو حرمان من مطلب من مطالب الدنيا. هؤلاء الذين تلك أحوالهم، هم الصديقين والشهداء ﴿ عليهم صلوات من ربهم ورحمة ﴾ الصلوات جمع صلاة، وجمعها الله تعالى لكثرتها، وتنوع آحادها، والصلاة معناها الدعاء ولكنها من الله تعالى استجابة الدعاء، وذلك بالعفو والمغفرة، وعفو الله ومغفرته دليل رضوانه، ورضوان الله تعالى أكبر الجزاء، كما قال تعالى في ختام جزاء الآخرة :﴿ ورضوان من الله أكبر... ٧٢ ﴾ [ التوبة ] وإن الله تعالى لم يمن على عباده الصابرين بالمغفرة والرضوان فقط، وحسبهما جزاء للصبر ولكن من بالرحمة، رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، فرحمهم في الدنيا بالهداية والتوفيق لفعل الخير، ورحمهم في الآخرة بالنعيم المقيم.
وقد وصفهم سبحانه بأنهم المهتدون، فقال تعالت كلماته :﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾ أي المتصفون بالصبر على الشدائد من الخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، هم الذين كتب الله تعالى لهم الهداية، وفي النص السامي ﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾ إشارة إلى قصر الهداية عليهم وأنهم المهتدون حقا، وذلك بتعريف المسند والمسند إليه وبالضمير "هم" وذلك أشرف بيان أنهم المختصون وحدهم بالهداية الكاملة. وهبنا الله تعالى عفوه ومغفرته ورحمته وهدايته.
مقدسات البيت الحرام
ما زالت النصوص القرآنية الشريفة تتكلم حول الكعبة من ناحية كونها قبلة، وأن الصلاة لا تصح من غير الاتجاه إلى البيت الحرام، وإنه مما حول البيت والصفا والمروة، وهما جبلان مجاوران للكعبة، قيل إن هاجر أم إسماعيل كانت تتردد بينهما عندما أصابهما الجوع والعطش وهي تناجي ربها أن يمن عليها بالغوث فأنبع الله تعالى لها زمزم، وقيل كانت لها طعما وغذاء وشفاء للعلة من عطشها، وقد قال تعالى فيها :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾.
والشعائر جمع شعيرة، وهي المتعبد الذي يكون فيه عبادة الله تعالى والقيام بحق الطاعة، وفي هذا النص تقرير بأن الصفا والمروة موضعا تعبد لله تعالى، وقد قال بعض العلماء : إن ذكر أنهما من شعائر الله دليل على طلب السعي بينهما، ولكن ابن جزي الكلبي الفقيه المالكي ضعف هذا، ولكنا لا نجد فيه ما يسوغ التضعيف لأن كونهما متعبدا يدل على طلب التعبد عندهما، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم التعبد فيهما بطلب السعي بينهما فقد قال صلى الله عليه وسلم :( كتب عليكم السعي فاسعوا )١ وإنه صلى الله عليه وسلم في حجه واعتماره سعى والناس بين يديه وهو وراءهم، لأنه كان راكبا، فهو منسك من مناسك الحج والعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :( لتأخذوا عني مناسككم )٢.
ويقول تعالى :﴿ فمن حج البيت أو اعتمر ﴾ فمن قصد البيت حاجا أو معتمرا فلا جناح عليه أن يطوف بهما والحج هو المعرف بأركانه وركنه الأكبر الوقوف بعرفات، ومن مناسكه النحر ورمي الجمار، والوقوف بالمزدلفة، أما العمرة فهي زيارة البيت والطواف حوله، والسعي بين الصفا والمروة، وقد سعى فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان النص في هذه الآية، ﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾، ونتكلم هنا في ثلاثة أمور :
أولها : أن نفي الجناح –والجناح هو الميل إلى الإثم –يقتضي نفي الإثم لا الوجوب، لأن نفي الإثم يؤدي إلى معنى الجواز لا الوجوب، أو الطلب فرضا أو سنة، فمن أين جاء الطلب ؟ نقول إن الطلب جاء من كلمة "شعائر" أولا، وقد بينا ذلك، ومن بيان النبي صلى الله عليه وسلم بأن بين أن السعي كتب علينا، ومن مداومته صلى الله عليه وسلم على السعي في عمرته وحجه، ولذلك قال مالك وأحمد والشافعي : إن السعي فرض، وقال أبو حنيفة : واجب وهو مرتبة بين السنة المؤكدة والفرض، ويعرفونه بأنه ما ثبت طلبه الحتمي اللازم بدليل ظني فيه شبهة.
الثاني : لماذا عبر سبحانه بنفي الجناح، ولم يعبر بالطلب ولا شك أنه كان ثمة موجب لنفي الإثم، وجعله أساس القول، ولقد قيل في هذا كلام فرددته بعض كتب التفسير قالوا : إنه كان على الصفا صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، وقد تحرج بعض المسلمين من السعي بينهما لمكان هذين الصنمين اللذين كان أهل الجاهلية يعبدونهما، ولأن الوحدانية طردت الوثنية من القلوب، فنفى الله تعالى الإثم لهذا، ولا يمنع نفي الإثم من الوجوب أو الطلب بشكل عام، وقيل إن بعض الأنصار لم يجدوا النص على السعي في القرآن فتحرجوا من أن يفعلوا ما كان يفعله الجاهليون من غير نص، فبين أنه لا إثم، ودل على الطلب بالنص الذي صدر به القول فيهما وبعمل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله.
الأمر الثالث : قوله تعالى :﴿ أن يطوف بهما ﴾ أصل يطوف يتطوف قلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء قوله تعالى :﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق ٢٩ ﴾ [ الحج ] والتطوف المبالغة في الطواف بأن يعددوه، ولا يكتفوا بواحدة، ولكن الصفا والمروة لا يطوف حولهما ولكن يسعى بينهما، والمشابهة بينهما ليست بعيدة، لأن السعي على الأرض بينهما وتكرار ذلك سبع مرات، فكان كالطواف في الأرض التي بينهما والله سبحانه وتعالى هو مبين مناسك الحج بالقرآن والسنة النبوية المبينة للقرآن.
﴿ ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾ التطوع المبالغة في الطاعة فيما أمر الله تعالى به من فرض وواجب ومندوب، فهي المبالغة في أصل الطاعة، وإطلاقها على النفل غير المفروض والمندوبات ونحو ذلك هو من قبيل الاصطلاح الفقهي باعتبار أن النوافل والمندوبات مكملات للفرائض التي هي أصل الطاعات، و"خيرا" وصف لمصدر محذوف وهو مفعول مطلق، والوصف يقوم فيه أحيانا مقام المصدر كما في قوله تعالى :﴿ واذكروا الله كثيرا... ٤٥ ﴾ [ الأنفال ].
والخير كل ما يكون فيه نفع للناس، وأداء لما أمر الله، وقيام بالواجبات الاجتماعية والإنسانية والدينية، ووصف طاعات الله أو المبالغة في الأداء بأنها خير، لأنها في ذاتها خير، ولا يكون ما يأمر الله تعالى به إلا خيرا خالصا، ونافعا خالصا، فكل أمر من الله تعالى فهو نافع لا ينفع سواه.
﴿ ومن تطوع خيرا ﴾ فعل شرط جزاؤه قوله تعالى :﴿ فإن الله شاكر عليم ﴾ وهذه الجملة السامية هي دالة على الجزاء، متضمنة له، لأن تقدير الجواب فله أجر يكافئ ما فعل، لأن الله شاكر عليم، أي مجاز حسنا على ما فعل، لأن الله شاكر، والتعبير بالشكر في هذا، وهو أعظم من أن يشكر عبدا له فالكل منه وإليه، وقد وصف نفسه بأنه غفور شكور، فكيف يشكر المنعم من أنعم عليه ؟ ! وكل ما يقدم العبد من طاعات هو شكر للمنعم جل جلاله، وشكر المنعم واجب بالعقل والنقل، فكيف يكون الله شاكرا لأنعمه ؟ ولكن عبر بذلك، تكميلا لنعمه وتفضله أولا، كما يشكر من يقوم بالواجب تفضلا، ولتحريض العبد على كمال الطاعة ثانيا، ولتعليم العبد شكر النعم ثالثا، ولإثبات رضوان الله تعالى رضوانا كاملا، فإن الشكر زيادة في الرضوان، والرضوان الجزاء.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه مع الشكر الدال على الرضا بقوله :"عليم" أي وصف نفسه بالعلم، للدلالة على أنه عالم بمن يقوم بالطاعات فيجازيه، ومن يعمل بالمعصية، فيجزيه بالسوء سوءا، فهو إشعار للطائع بأنه يعمل تحت رعاية الله تعالى، تحت سمعه وبصره، وهو القائم بكل ما في الوجود، وهو القادر على مكافأة كل بما يعمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وإن الله تعالى من أول قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم... ٤٠ ﴾ ] البقرة ] كان كلامه في بني إسرائيل، وكفرهم بنعم الله تعالى ومخالفتهم لشرائع النبيين الجامعة لرسائل الله تعالى إلى خلقه، وما تخلل ذلك من استقبال القبلة كان ردا على سفاهتهم وغيهم، ثم ما كان يومئ إليه تحويل القبلة من إيذان بفتح مكة، وأن ذلك يحتاج إلى جهاد، فبين سبحانه أن عدة الجهاد الصبر والصلاة، وجاء ذكر الصفا والمروة تبعا لذكر الكعبة وما حولها.
١ عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم السعي فاسعوا". [رواه أحمد في مسند القبائل ﴿٢٦١٩١﴾]..
٢ رواه مسلم: كتاب الحج ﴿٢٢٨٦﴾، وأبو داود: المناسك ﴿١٦٨٠﴾ وأحمد في مسنده ﴿١٤٠٩١﴾ عن جابر بن عبد الله بلفظ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: "لتأخذوا مناسككم فاني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"..
ويختم الله تعالى الكلام في أهل الكتاب ببيان أقبح ما كانوا يعملون، وهو كتمان آياته، ويكتبون بدلها بأيديهم ما يسمونه كتاب الله على أنه من عنده سبحانه، وما هو من عنده فقال تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ﴾، البينات الأخبار البينة، والأحكام المبينة في الكتاب بعد بيانها، وقد أنزلها الله تعالى في كتبه التي كانت للنبيين السابقين، والهدى هو ما بينه سبحانه من أوامر ومنهيات، فمن كتم البينات الدالة على الرسالات، والأخبار الصادقة عن النبيين، والأحكام الهادية إلى الصراط، فقد كتم علم الله، والكتمان للعلم، إنما يكون حيث تكون الحاجة إلى البيان من قبل أن يكون المقام مقام بيان وتوجيه وإرشاد، فيكون ممن عنده علم كما أنكر اليهود والنصارى ما عندهم من علم بالنبي صلى الله عليه وسلم ومكة وما حولها، وإبراهيم وأولاده، وكما ينكر العلم من يسأل عنه فلا يجيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار )١.
والآية موضوعها كل كتمان لعلم أو هداية، وقالوا إنها نزلت في اليهود، ولكن حكمها عام يشمل كل كتمان لعلم فيه هداية للناس، فيشمل الذين يعلمون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يبلغونها للناس، ومن لا يبينون الشرع الإسلامي لأهله، قربوا أو بعدوا، ولمن يجهله، فإنه كما قال علي كرم الله وجهه : لا يسأل الجهلاء لم لم يتعلموا، حتى يسأل العلماء لم لم يعلموا.
وقد حكم الله تعالى على الذين يكتمون العلم بقوله تعالت كلماته :﴿ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ﴾ اللعن الإبعاد والطرد، والنبذ من جماعة الخير، وجماعة الحق، وأولئك إشارة إلى الذين يكتمون العلم، والإشارة إلى موصوف بوصف، إشارة إلى أن الوصف علة الحكم، فكتمان العلم علة للإبعاد عن رحمة الله تعالى، ونبذه من الناس، ولعن الوجود كله، واللاعنون تشمل الملائكة والجن والإنس، وكل من يسبح بحمد الله تعالى.
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء )٢ وهذا إذا بين العلم وذكره للناس وهدى من ليس عنده علم، فإذا كتمه لعنه كل شيء لعنته الملائكة، ولعنه الناس، ولعنه كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فاللعن عند الكتمان جزاء، هو نظير الاستغفار عند البيان.
١ أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ﴿٨٢٨٤﴾، وأبو داود: كتاب العلم ﴿٣٢٧٣﴾، وابن ماجه ﴿٢٦٢﴾. وله طريق أخرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه..
٢ روى الترمذي: كتاب العلم –باب فضل العلم ﴿٢٦٠٦﴾ عن أبي الدرداء قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا الى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر). كما رواه ابن ماجه في المقدمة ﴿٢١٩﴾، وأبو داود: العلم ﴿٣١٥٧﴾، وأحمد في مسنده ﴿٢٠٧٢٣﴾ وغيرهم..
وقد استثنى من هؤلاء الملعونين الذين يبينون من بعد الكتمان، فقال تعالى :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ﴾ التوبة هي الإقلاع عن الذنب، والشعور بالندم، والعزم المؤكد على ألا يعود إليه من بعد، وإذا كان الذنب بالترك عمل، وإذا كان الذنب بالعمل ترك، فذنب الكاتمين كان بترك البيان والتبليغ فتكون التوبة بالبيان والتبليغ، ولذلك قال تعالى "وبينوا" أي أكدوا بفعل نقيض ما ارتكبوا.
وقوله "وأصلحوا"، أي تركوا الإفساد واتجهوا إلى الإصلاح، وعمارة الوجود، ونشر الخير بين الناس وإرشادهم إلى أقوم السبل في هذه الحياة، وفي ذلك إشارة إلى أمرين جليلين :
أولهما- أن كتمان العلم فيه فساد في الأرض، لأنه يجعل الناس في متاهة من الباطل فتنقلب الأوضاع، ويختلط الحق بالباطل، ولا يعرف الناس سبيلا للهداية، وتسد مسالك الخير، إذ لا هادي إلا أن يرحم الله عباده بها، ويرشدهم إليها.
ثانيهما- إن بيان الخير والحق هو الإصلاح في هذا الوجود فلا سلامة يسكت فيها الحق، وينطق فيها الباطل، وقد لعن بنو إسرائيل لسكوتهم عن البيان في وقت الحاجة إليه، وقد قال تعالى :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ٧٨ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ٧٩ ﴾ [ المائدة ] وكما قالت الحكمة : السكوت عن الحق نطق بالباطل، والساكت عن الحق ناطق بالباطل.
وقد جزى الله تعالى التائبين العاملين المؤكدين لتوبتهم بالبيان للحق والإصلاح بأنه يقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته :﴿ فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ﴾.
هنا التفات من الإخبار إلى التكلم، فالله تعالى أخبر عنهم في قوله تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ﴾ إلى آخر الآية، ثم التفت من الإخبار إلى التكلم عند الجزاء، وكذلك الأمر في أكثر البيان يكون ذكر المعاصي والتوبة منها بالإخبار أو الخطاب، ويكون الجزاء من الله تعالى بضمير المتكلم تربية للمهابة، والإشراق في النفس، والإشعار بالرضا، وإن قبول التوبة أحب إلى العاصي التائب من كل ما في الوجود، وهو رفع له من ذلة الذنب وخسته إلى رفعة الحق وعزته، ولذا قال عز من قائل :﴿ فأولئك أتوب عليهم ﴾ الإشارة إلى الموصوفين بالتوبة الذين بينوا ما كتموا وأقاموا الإصلاح مكان الإفساد، وكما قلنا وكررنا الإشارة إلى الموصوفين بيان أن العلة هي الوصف، فقبول التوبة سببه التوبة النصوح، والعمل على نقيض المعصية وما ترتب عليها، "وأتوب عليهم" معناها أرجع عليهم بالقبول والجزاء، فكما أنهم رجعوا إلي من تيه المعصية أرجع بقبول التوبة وغفران الذنوب، ثم قال عز من قائل :﴿ وأنا التواب الرحيم ﴾ أي كثير قبول التوبة لأني رحيم بعبادي، وإن كان الناس لا يذنبون أتيت بمن يذنب لأقبل توبته كما ورد في معنى الأثر١.
وإن هاتين الآيتين تدلان على وجوب بيان الهادي إلى الرشاد، كما ورد في الأثر، وإن تبليغ العلم يجب أن يكون على علم بسياسة البيان بأن يبين للناس ما يطيقون، ويتدرج من اليسير، حتى يكون العسير سهلا يسيرا، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( حدث الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! )٢
ويجب بيان الحق الذي لا زيغ فيه، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها، فتظلموها )٣ وقال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى :( لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير )٤. وفق الله العلماء للنطق بالحق وألا يفتحوا باب التأويل لذوي السلطان حتى لا يضعوا الدر في أعناق الخنازير.
١ عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم".
رواه مسلم: كتاب التوبة ﴿٤٩٣٤﴾ ورواه أيضا ﴿٤٩٣٦﴾ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". كما رواه أحمد والترمذي..

٢ أخرجه البخاري عن على موقوفا: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!" [كتاب العلم: ﴿١٣٤﴾]..
٣ جاء في كشف الخفا ﴿٣١٢٤﴾: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. رواه ابن عساكر عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قام في بني اسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتظلموها، والأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين لكم غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فذروا علمه إلى الله تعالى..
٤ جاء في سنن ابن ماجه: المقدمة ﴿٢٢٠﴾ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب"..
الوحدانية والوثنيون
بعد أن أنهى الله تعالى موضوعات أهل الكتاب في هذا الموضع من القرآن، وقد كان فيهم كفران النعم، والنفاق وكثرة العدوان والفساد في الأرض، والعبث بالأحكام، والاستهزاء بآيات الله تعالى، بعد ذلك أخذ يبين أقوال الوثنيين وإثبات وحدانية الله تعالى، وابتدأ القول في بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين ماتوا على الكفر، فقال تعالى :﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم... ﴾
ذكر بعض العلماء أن موضوع الآية الكريمة كفار مكة الوثنيون قبل أن يدخلوا في الإسلام، بدليل الكلام بعد ذلك في الوثنية والوثنيين، وبيان الوحدانية ودليل التوحيد من خلق الكون.
ونحن نرى أن وصف الكفار يعم المشركين والكتابيين، فالكتابيون كافرون كما قال تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين... ١ ﴾ [ البينة ] ولقوله :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة... ٧٣ ﴾ [ المائدة ] ولقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ٢٩ ﴾ [ التوبة ].
وهذه أوصاف الكفار، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، فهم داخلون في وصف الكفار، والكفر كله ملة واحدة، فلا تفاوت فيهم، ولا فضل لكافر على كافر وليس كفر دون كفر، بل جميعهم في الجحيم على سواء.
وقد حكم الله تعالى عليهم الحكم الأبدي، إذا ماتوا على الكفر مصرين عليه بعد أن بلغوا بالرسالة فكفروا بها، وماتوا على الكفر بها جاحدين معاندين منافرين معذبين الضعفاء، ومثيرين للبغضاء والأحقاد، حكم الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل :﴿ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾ لعنة الله تعالى إبعادهم من رحمته، وألا ينظر إليهم نظرة رضا، ومن تكون حاله كذلك يكون في النار خالدا فيها، ولعنة الملائكة تعذيبهم لهم بأمر الله تعالى، وإبعادهم عن رحمته، ولعنة الناس بنبذهم، والدعاء عليهم.
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما ونجمل ولا نفصل :
أولهما –أن الإشارة في قوله تعالى :﴿ أولئك عليهم لعنة الله ﴾ تعود على الكفار الذين ماتوا مصرين على الكفر قد بلغتهم دعوة الله، وكما قلنا ونكرر الإشارة إلى موصوف فيه إشارة إلى أن علة الحكم الوصف، وهو موتهم على الكفر بعد البيان والإنذار الشديد، ﴿... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ١٥ ﴾ [ الإسراء ].
الثاني- أن الله تعالى ذكر في بيان عذابهم أن عليهم اللعنة، أي أن اللعنة تنصب على رءوسهم انصبابا وتحيط بهم من فوق رءوسهم وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، فهم بعداء عن رحمته، وعليهم غضب الله وملائكته والناس أجمعين، وإن تلك اللعنة تنالهم بسبب موتهم على الجحود والإصرار على الكفر.
وقد أثار الناس جدلا موضوعه هل تجوز لعنة الكافر وهو حي، فناس لم يجيزوها، لأنه يجوز أن يتوب الله تعالى عليه، وجواز اللعنة إنما كانت على الكفار الذين ماتوا على الكفر، ومن كان حيا ترجى توبته، أو تجوز توبته.
ومن العلماء من أجاز اللعنة على الحال التي هو عليها، وخصوصا إذا كان ممن يؤذون صاحب الدعوة، ويروى في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عمرو بن العاص، وهو على الكفر، فيروى في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر، فالعنه واهجه عدد ما هجاني ).
وقد اتفق أهل العلم على أن اللعن الذي ذكرته هذه الآية عقاب من الله تعالى، وغضب على الكافر، وجزاء له كجزاء جهنم.
وأكثر العلماء على أن لعن المسلم لا يجوز ولو كان عاصيا، لأنه يخزيه ويذله، وخزيانه وذله يقربه من الشيطان ويجعل للشيطان مدخلا في نفسه، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم )١.
١ أخرجه البخاري: كتاب الحدود –باب ما يكره من لعن شارب الخمر ﴿٦٢٨٣﴾، كما أخرجه أبو داود ﴿٣٨٨٢﴾ وأحمد ﴿٧٦٤٥﴾]..
وقد بين سبحانه أنهم خالدون في عذابهم، فقال تعالت كلماته :﴿ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ﴾ الخلود هو البقاء الدائم الذي لا نهاية له، وكثيرا ما يذكر الخلود موصوفا بالدوام، وبصيغة مؤكدة، وقد انحرف بعض الناس فقال إنهم يبقون في العذاب بمقدار جرمهم الدنيوي وزمانه، وذلك انحراف في الفكر وإن قاله بعض الذين لم يعرفوا بالانحراف.
والضمير في "فيها" يعود على اللعنة، وتكون اللعنة من الله تعالى مقتضية الدخول في النار، لأنها متضمنة غضب الله تعالى يوم القيامة، وغضب الله تعالى مقترن به عذابه، وإنه عذاب مؤلم مستمر لا يخفف عنهم، ولا ينقطع بل هو مستمر، لأن سببه استمر طول حياتهم في الدنيا، ولا ينظرون، وقد أكد الله تعالى أنهم لا ينظرون ولا يؤجلون بذكر ضمير الفصل الذي يؤكد الحكم.
وقد صرح الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، فقال تعالى :﴿ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم ﴾ وقوله تعالى :"وإلهكم" بالإضافة إليهم فيه إشارة إلى أن المعبود الذي تعبدونه بحق إله واحد، فالذين تعبدونهم من أوثان وأحجار ليسوا بآلهة بل إلهكم الحق الذي يجب أن تعبدوه واحد لا إله إلا هو، لا يعبد بحق إلا هو، ولا يمكن أن يسمى غيره من الأوثان باسمه، إنما هي أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان، فالإله هو الخالق الذي ينفع ويضر، وأنشأ الوجود برحمته، وعمهم بنعمته، ولقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه "الرحمان الرحيم" الذي يتصف بالرحمة، وتعتبر صفة من صفاته، وهو الذي يرحم العباد فعلا، وقد بينا معنى الاسمين الكاملين من قبل.
وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الوصفين من بين الأسماء الحسنى، لأنهم يحسون بأنهم في آلائه، ورحمته، فهم إذا كانوا في شدة لا يستغيثون بآلهتهم، وإذا كانوا في ضر لا يلجئون إلا إليه ﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله... ٦٢ ﴾ [ النمل ] ويقول تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ١٢ ﴾ [ يونس ] ويقول تعالى في بيان حالهم في مأساتهم وشدائدهم وأنهم يضرعون إليه :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ٦٣ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ٦٤ ﴾ [ الأنعام ].
فأولئك الوثنيون من العرب كانوا يعرفون الله تعالى ولكن يعبدون أوثانهم، وعندما تشتد الشديدة عليهم يلجئون إلى الله وحده مستعينين طالبين الرحمة من عنده، ولا يرجون من غيره قط، ولذا كان وصفه بالرحمة، لأنهم يلجئون إليه وحده عند رجاء الرحمة فلا يرجونها من غيره، وكان المعنى : الواحد الأحد هو الذي يرحمكم عندما تضرعون إليه فكان المنطق يوجب عليكم ألا تعبدوا غيره.
ولقد بين سبحانه دلائل وحدانيته، وأن خلق الوجود بإرادته، ولم يخلق الوجود من غير إرادة خلاقة مسيطرة على ما في الوجود، يعرف ما خلق، ويدبره والدليل على ذلك :
أولا- تنوع خلقه من سماوات وأرضين، ومن ماء ينزل فيحيي الأرض بعد موتها، مما يدل على أنه مخلوق بإرادة واحدة.
ثانيا- تصريف الوجود من حال إلى حال، من ظلمة ونور وليل ونهار، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
ثالثا- المخلوقات المستمرة من رياح تتحرك وسحاب مسخر، وجريان الفلك على الماء بأمره، وكل ذاك لمعنى أريد، وغاية قصدت لا تكون إلا من خالق مريد منفرد بالإيجاد.
رابعا- الإيجاد بالتوالد المستمر، وانتظام هذا الوجود مما يدل على وحدة الموجد، { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ٢٢ ] [ الأنبياء ].
فهذه الآية الكريمة تشير إلى القدرة المنفردة بالتكوين، فتنفرد لا محالة بالعبادة والألوهية، وفي معنى هذه الآية وإن كانت بأسلوب بياني آخر :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ٦ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ٧ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ٨ ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ٩ والنخل باسقات لها طلع نضيد ١٠ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ١١ ﴾ [ ق ].
هذه إشارات إلى بعض ما في الآية من بينات، وأدلة على أن خالق الكون واحد مدبر وحده لا يشاركه في هذا الإيجاد المحكم الذي يسير على سنة رسمها منشئه، لا تقدير لخلق إلا من الله وحده، وهو العليم الحكيم. ولنذكر ما ساقه سبحانه وتعالى من كلمات في هذا الكون.
قوله تعالى :﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾، قالوا : إن المشركين لما ذكر الله سبحانه وتعالى وحدانيته طلبوا دليلا على الدعوى، وإردافها ببينة واضحة، فقال الله تعالى ذلك، وإذا لم يكن سؤال، فإنها جواب على فرض سؤال إذ العقل طلعة يريد معرفة سر كل شيء.
والسماوات جمع سماء، وجمعت لأنها تشتمل على طبقات مختلفة من أبراج ونجوم وكواكب يمسكهن الله تعالى برباط محكم مما سنه في الكون من جاذبية رابطة، ونسق بهيج، ﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده... ٤١ ﴾ [ فاطر ]، فهو سبحانه خلقها وأمسكها وحفظها من أن تنتثر أو أن تنفطر ووحد الأرض، لأنها في سطحها وظاهرها شيء واحد، وإن كانت هي الأخرى طبقات.
وآية السماوات ما فيها من أبراج ونجوم وارتفاعها بغير عمد ترفعها، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة الباهرة مشرقة ومغربة نيرة، وغير نيرة.
وآية الأرض ما فيها من بحار وجبال رواسي، وما في باطنها من فلزات ومعادن وماس، وما في بحارها من لآلئ ومرجان وعنبر، فكل هذا آية على وجود الله تعالى ووحدانيته، فهو خالق الوجود وحده.
وقوله تعالى :﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ بأن يكون كل واحد منهما خلفا، كما قال تعالى :﴿ هو الذي جعل الليل والنهار خلفة... ٦٢ ﴾ [ الفرقان ] واختلافهما من حيث الظلمة والنور، ومن حيث الطول والقصر وأن يطول الليل مرة أكثر من النهار وأن يطول النهار أخرى أكثر كما قال تعالى :﴿ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل... ٦١ ﴾ [ الحج ] وقد قال تعالى :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ٣٧ ﴾ [ يس ] وآية الليل والنهار هي انتظامهما وتغير أحوالهما بفعل الواحد الحكيم العليم.
وقوله تعالى :﴿ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ﴾ والفلك تذكر وتؤنث، وهي السفن التي تحمل الأثقال وتنقلها من بلد إلى آخر، أو إقليم إلى آخر، لينتفع أهل الأرض بكل خيراتها، وما يفضل من إقليم ينقل إلى غيرها، فيعم الخير، ويتبادل الناس جميعا ما في الأرض من نبات وحيوان، ولذا قال سبحانه :﴿ التي تجري في البحر بما ينفع الناس ﴾ وآية الفلك أنها تحمل أثقالا ويحملها الماء السائل الرقيق، ولقد قال تعالى :﴿ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ٤١ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ٤٢ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ٤٣ إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ٤٤ ﴾ [ يس ].
وإن في الفلك آيات أخرى في تسخير الله تعالى لها بالرياح تجريها وتتحرك حيث أراد محركها، وأنه بعد اتساع العلم، وقدرة الإنسان في تسخير الآلات والسيطرة عليها ما زالت الرياح عاملا قائما في تسيير الجاريات وقوله :﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء ﴾ السماء المراد بها ما علا مما يتصل بالأرض، وإن الله وحده هو الذي ينزل الماء أي الأمطار، ولأنها تجئ من غير حسبان، وتجئ بالاستسقاء أحيانا، أسند إنزال الماء إليه سبحانه وتعالى، لأنه المصرف للسحاب، ولا يمكن ابن الأرض أن يعرف متى تمطر السماء، ومتى يكون مطرها غيثا يسقي الناس والدواب والأنعام والحرث والنسل ومتى يكون وابلا عاصفا مفسدا وفاسدا. وبين الله تعالى وجها من وجوه النعمة في نزول المياه من السماء إلى الأرض بتسخيره، فقال تعالى :﴿ فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ والمراد الظاهر أنها من قبله كانت جرداء لا نبات فيها، ولا زرع ولا ثمر، فكانت كالميت فينزل الماء فيحييها بالخضرة والنضرة، وتصير كأنها الحي، في ريق حياته، كما قال تعالى :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ٣٣ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ٣٤ ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ٣٥ ﴾ [ يس ].
وقوله تعالى :﴿ وبث فيها من كل دابة ﴾ الدابة كل ما يدب على الأرض من الحيوان كما قال تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها... ٦ ﴾ [ هود ]، وبث أي فرقها ونشرها من أنعام وإنسان وطير وغير ذلك من الحيوان، فإن ذلك كله من الماء الذي ينزل من السماء سواء أكان سيلا يسيل، أم نهرا يجري، أم عينا تختزن فيها مياه الأمطار في باطن الأرض، ولقد قال تعالى :﴿... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ٣٠ ﴾ [ الأنبياء ] والآية في ذلك أن الماء به الحياة، والله تعالى منزله ومجريه ولو شاء ما كان في الناس هذه الحياة من كل زوج بهيج.
وقوله :﴿ وتصريف الرياح ﴾، معناه إرسالها على غير صورة واحدة، فقد تكون عقيما، وقد تكون مملوءة ماء، وقد تكون عاصفا وقد تكون رخاء، وتكون حارة أحيانا وباردة أحيانا، وقد تجئ من الشمال وقد تكون من الجنوب ومن الشرق أحيانا، ومن الغرب أحيانا أخرى، وفي مقدار تسييرها للسفن الجاريات في البحر ما بين كبيرة وصغيرة ودافعة ورافعة، وأن ذلك كله بتقدير العزيز العليم، وقد يقولون : إن ذلك كله يكون تابعا لسنن كونية آتية من حرارة الأرض أو برودتها، وإن ذلك لحق، ولكن من الذي سن هذه السنن الكونية ؟ إنه هو الله تعالى، وهو قادر على تغييرها، وهذه آية من آيات الله تعالى في الكون، وفيه بيان قدرة الله تعالى وحكمته العالية.
وإن الله تعالى نصر نبيه في غزوة الخندق، وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور )١، ولقد قال تعالى في غزوة الخندق :﴿ فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها... ٩ ﴾ [ الأحزاب ] وكل خواص الرياح من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتكوين وذلك يقتضي انفراده تعالى بالعبادة فلا يعبد سواه ولا إله إلا الله.
وقوله :﴿ والسحاب المسخر بين السماء والأرض ﴾ والسحاب ظلال تنتقل بين السماء والأرض، وسميت سحابا لانسحابها من مكان إلى آخر، وهي قد تكون ممتلئة فتنزل على الأرض إذا بردت، ويكون منها الودق. وقد قال تعالى :﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ٤٣ ﴾ [ النور ]. والسحاب المسخر المذلل لأوامر الله تعالى يبعثه من مكان إلى مكان كما يريد سبحانه، وهو العليم الخبير، فيذهب بمطره إلى الأرض التي يريد الله تعالى إحياءها، ولقد قال تعالى :﴿ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت... ٩ ﴾ [ فاطر ] ويقول تعالى :﴿ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت... ٥٧ ﴾ [ الأعراف ] فالسحب هي التي سخرت لتوزيع المياه بإرادة الله تعالى من أرض لا تنبت إلى أرض أخرى تنبت، فإذا كان الله ينزل من السماء ماء ليكون منه حياة كل شيء، فالله سبحانه وتعالى سخر السحاب لتوزيع هذا الماء الذي ينزله على حسب الحاجة وعلى حسب حكمته، وسنته.
هذا الذي ذكره سبحانه من خلق السماوات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والمطر الذي ينزله من السماء، وتصريف الرياح بسنن كونية نظمها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، فيه آيات بينات، وأدلة واضحات قاطعة تدل على وجود الله تعالى وانفراده سبحانه بتدبير الكون، وعلى أن إرادة واحدة هي التي أنشأته وهي التي تديره، سبحان الله رب العالمين، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر تلك الآيات البينات ﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾ هذه الجملة السامية فيها جواب "إن" في قوله تعالى :﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾ إلى آخر الآية الكريمة. "آيات"، أي أدلة قاطعة لا مجال للريب فيها ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي يعملون عقولهم لا أهواءهم، ولم تطمس عليها أوهام توارثوها، وتقليد استمسكوا به، وقالوا ما نعبد إلا ما كان يعبد آباؤنا من قبل.
وعبر سبحانه وتعالى ب "قوم" للإشارة إلى الأقوام التي لا تعقل ولا تفكر.
١ متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الجمعة ﴿٩٧٧﴾، ومسلم: كتاب الاستسقاء ﴿١٤٩٨﴾ عن ابن عباس رضي الله عنهما..
ذكر الله وحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه لا اله إلا هو، وذكر الأدلة على الوحدانية، وأنه حافظ الإنسانية ومنميها، والأحياء جميعا، ومع هذه الأدلة الواضحة ومع ما غمر الإنسان من نعم ووجود وكيان قائم، مع ذلك وجد من يجعل للخالق المدبر أندادا في العبادة، ولذا قال :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ﴾ الأنداد جمع ند وهو النظير المقابل المماثل، وأنهم يتخذون الأصنام أو الأشجار أندادا مماثلة لله تعالى يتعبدون الأصنام، ولا يذكرون الله إلا قليلا، أو الأشخاص فيطيعونهم كأن أوامرهم هي من الله تعالى، وإن ذلك كله مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها مما نيط بهم في هذا الكون الذي هو في ذاته دليل الوحدانية، ونعم من آلائه، سبحانه وتعالى فالإنكار ابتداء هو في اتخاذهم هؤلاء الأنداد أيا كانوا، وقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله ﴾ فيه إشارتان بيانيتان :
الإشارة الأولى- التعبير ﴿ ومن الناس ﴾ فمن للبعضية، أي بعض الناس، وفي ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا، أم كانوا عددا كثيرا فهم مهينون في تفكيرهم، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم، وما يحيط بهم، فضلوا ضلالا بعيدا، والتعبير عنهم بذلك ﴿ ومن الناس ﴾ إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس، فليس لهم وصف علم ولا إيمان، ولا شيء من المكارم التي تعلي الإنسان وتسير به في مدارج الرقي، كما تقول عن رجل محتقرا : هذا الآدمي، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي.
الإشارة الثانية- أن الله تعالى قال :﴿ يتخذ من دون الله أندادا ﴾. فيه إشارة إلى أنهم –أي الأنداد- ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا.
وأنهم لا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا.
وقوله تعالى :﴿ كحب الله ﴾ قد يكون معناه أنهم يسوونهم بالله تعالى في العبودية، والطاعة والرضا بما يعتبرونه مرضيا لهم مع أنهم يرون أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وإذا أنزلت بهم شديدة لا يلجأون إلا لله، ولا يطلبون كشف الضر إلا منه كما تلونا من كتاب الله تعالى ما يحكيه عنهم، فهم يفرقون بين معبوداتهم، وبين الله في شدائدهم، ولا يفرقون في رخائهم، وقد علمت أن وثنيي العرب ما كانوا ينكرون وجود الله وأنه المنشئ المكون للوجود، ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله... ٢٥ ﴾ ] لقمان ] ويقولون في أوثانهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله.
وهذا التخريج هو الأقرب إلى الخاطر، وهناك تخريج آخر، يقول إن معنى قوله تعالى :﴿ كحب الله ﴾ أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى، فهم ينزلون أندادهم منزلة الله تعالى عند أهل الإيمان فيفردونها بالعبادة كما يفرد المؤمنون الله تعالى بالعبادة وحده.
والتخريج الأول أظهر وأقرب إلى الخاطر، وهو المتبادر، ولقد قال بعد ذلك :﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾، أي إن المؤمنين لوصفهم بالإيمان ولإذعانهم بالحق ولأنهم يعبدون من يملك النفع والضر، وأنه خالق الكون، ولأن حبهم مقصور على الذات العلية، فإنهم بذلك أشد حبا لله، ومظهر حب الله تعالى الإخلاص له، وتسليم الوجه والطاعة له، والخضوع له، ولما يأتي من عنده، فحب الله طاعته، وأن تمتلئ النفس بذكره، وأن يكون حبه كله لله تعالى لا يحب شيئا في الوجود إلا لله، كما قال تعالى :﴿ يحبهم ويحبونه... ٥٤ ﴾ [ المائدة ] ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله )١ فالله في قلبه وفي عمله، وقوله واختلاطه بالناس، وهو معه دائما.
وإن الله تعالى قد أعد العقاب الشديد لأولئك الذين اتخذوا الأنداد، وقدسوا الحجارة، وعبدوا الطاغوت، وقد قال تعالى في وصف عقابهم الهائل :﴿ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ﴾ والذين ظلموا هم الذين اتخذوا الأنداد، وأظهرهم، ولم يعبر عنهم بالضمير أو الإشارة، لبيان أنهم ظالمون ظلموا أنفسهم وظلموا الحقيقة، وضلوا وأضلوا، وأن ما ينالهم من جزاء هو بسبب ظلمهم، وقوله تعالى :﴿ أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ﴾ مفعول يرى، ويصح أن تكون يرى الأولى علمية، ويكون المؤدى أن ذلك يوم القيامة وظلمهم كان في الدنيا، ويكون سياق الكلام هكذا، لو يرى الذين ظلموا ذلك، وهم يرون العذاب الواقع فعلا، والمعنى يرون العذاب رأى العين بالعين البصرية يوم القيامة ويعلمون أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العقاب.
فهم يرون العذاب فعلا رأى العين، وقد علموا في ذلك الوقت أن الله سبحانه وتعالى له القوة جميعا، فلا قوة لأحد أن يزحزحهم من النار التي هم فيها، ويعلمون أن الله شديد العقاب.
وهنا إشارتان بيانيتان لا بد من ذكرهما :
الأولى- أنه سبحانه يقرر أن الذين ظلموا لو علموا قوة الله وأنه شديد العقاب، ﴿ إذ يرون العذاب ﴾ وهم يرون العذاب برؤية العين البصرية، وإذ هنا للزمن الماضي وذكرت هنا لبيان تحقق الرؤية كما يذكر الماضي في موضع المستقبل لتأكد الوقوع.
الثانية- أن قوله تعالى :﴿ ولو يرى الذين ظلموا ﴾ إلى آخره، هذا فعل شرط، فأين الجواب ؟ ونقول : إن الجواب محذوف ومقدر بما يناسب المقام، وهو الهوان الشديد، ويكون المعنى لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا هولا شديدا لا يكتنه كنهه، ولا تدرك حقيقته إلا عند رؤيته.
وأن العلم بقوة الله تعالى، وشدة عقابه، وأنهم قد رأوا بوادره، فيه تهديد شديد، وعذاب شديد، ويلاحظ أن الله تعالى قال : شديد العقاب، ولم يقل شديد العذاب كما قال في موضع آخر، لأنه ذكر الجريمة، وهو اتخاذهم الأنداد، فالعذاب الذي يرونه هو عقاب، والعقاب دائما من جنس الفعل، وليس عذابا لذات العذاب بل هو جزاء وفاق لما قدموا.
١ عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان". [سنن أبي داود: كتاب السنة ﴿٤٠٦١﴾]..
وإنهم في هذا اليوم لا يكون لهم خل ولا شفيع، وإن الذين يتبرءون منهم، لأنهم جميعا في عذاب أليم، وكل يفكر في هول ما نزل به، ولذا قال تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ تبرأ المتبوع من التابع وتبرأ الرئيس المتغطرس من المرءوس الذليل الضعيف، وهذا كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم ﴿ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ٢١ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ٢٢ ﴾ [ إبراهيم ].
وقوله :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا ﴾ "إذ" للدلالة على الزمن الماضي، وهي هنا للمستقبل فيكون استحضار الحال المستقبل، أو يقال إنها لزمن القول، وهو عن زمن في الماضي وفيما بعد إخبار عن المستقبل، يتبرأ المتبوعون من التابعين الذين يقولون : هؤلاء الذين أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار. فيتبرأ المتبوعون منهم ويقال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون. فهم إذ يرون العذاب لا يفكر أحد منهم في تضليله للآخر، وإن ذلك التبرؤ وهم قد رأوا العذاب. لقد ضل التابع وضل المتبوع وقد كان مآل الفريقين النار.
وقد كانت بينهم مودة موصولة جعلت بعضهم يتبع الآخر على الشرك والضلالة، وكانت أحيانا الصلة نسبية، أو عصبية جاهلية، وقد بين سبحانه أن تلك الصلات كلها تتقطع، ولذا قال عز من قائل، ﴿ وتقطعت بهم الأسباب ﴾ الأسباب جمع سبب وهو في الأصل الحبل الذي يشد به الشيء أو يصل بين أمرين برباط بينهما، والمراد هنا الصلات التي كانت تربطهم، من عصبية جاهلية أو رحم أو رياسة أو من تبعية كانت. هذه الصلات تقطعت، وتقطعت مبالغة في القطع، أي أنها قطعت من كل ناحية لا يمكن وصلها بحال من الأحوال.
وإن أولئك الذين أضلهم كبراؤهم، وأخذوا عليهم طريق الهداية ينالهم الألم المرير، لأنه كان –بين طريق الحق المستقيم ومخاوف الشيطان على الطريق –النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويهدي، وعلى رأس السبل الأخرى شياطين الإنس يقودونهم إلى الضلال، فسلكوا طريقهم، فلما كان عذاب يوم القيامة يتخلى عنهم الذين قادوهم إلى مهاوي الشر، وكانوا معهم في النيران وتبرءوا منهم، فتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا، ليتبرأوا منهم كما تبرأوا هم منهم، ولذا قال الله تعالى :﴿ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ﴾ "الكرة" : الرجعة مرة أخرى إلى ما كانوا في الدنيا، و"لو" تفسير هذا التمني أنهم في الآخرة، أخلوا بهم وتبرأوا منهم فتمنيهم العود إلى الدنيا ليتبرءوا من دعوتهم إلى الباطل وينفروا منهم ويتبعوا الصالحات. فالمتبعون يتبرءون منهم في الآخرة، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ليعلنوا التبرؤ منهم ومنافرتهم بالبعد عنهم كما خذلوهم في هذه الشدة، وقد بين سبحانه أن تمنياتهم لو حققت ما تبرأوا وما عملوا فقال تعالى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه... ٢٨ ﴾ [ الأنعام ] وإن غرور الحياة لا يمكنهم من أن يعتبروا بل ستدفعهم أهواؤهم إلى مثل ما فعلوا أولا فهم في ريبهم يترددون، وإن ذلك التصوير الذي صوره الله تعالى لحالهم يوم القيامة هو ليريهم أعمالهم حسرات عليهم، ولذلك قال تعالى :﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ﴾.
أي كان هذا منهم كذلك ليكون ذلك عقابا لهم فوق عقابهم بعذاب النار، وذلك العقاب بأن يريهم أعمالهم التي مضت على أنها حسرات، توالت عليهم حسرة بعد حسرة، فكان جمعها للدلالة على كثرتها وأنها متوالية حسرة تخلفها حسرة، وإذ أعمالهم كثيرة، فحسراتهم كثيرة، وحسرات مفعول ثان، فالله تعالى يريهم تلك الأعمال حسرات تكبو لها النفوس بعد أن كانت في الدنيا مسرة يفرحون بها ويطربون بسوء ما يفعلون.
ومع هذه التمنيات التي تجعل نفوسهم متلهفة على العودة إن كان ذلك ممكنا، والحسرات المتتابعة فهم في النار خالدون فيها، ولذا قال تعالى :﴿ وما هم بخارجين من النار ﴾ فنفى الله تعالى نفيا باتا قاطعا خروجهم من النار، وأكد ذلك النفي باستغراق النفي الثابت بالباء وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية.
الطيبات حلال الله، والشيطان يأمر بالفحشاء
النداء بقوله تعالى ﴿ يا أيها الناس ﴾ يشمل الناس جميعا مؤمنهم ومشركهم، وكافرهم سواء أكان وثنيا أم كان كتابيا، وإن الله تعالى بين حال الذين اتخذوا من دون الله تعالى أندادا، وأنه يوسوس لهم في طعامهم وطيباتهم وما أحل الله تعالى لهم، ولذا جاء الأمر بالأكل من الحلال والنهي عن تتبع خطوات الشيطان، بعد التنديد باتخاذ الأنداد، وبيان الذين يتخذونها يوم القيامة.
وقال تعالى :﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ﴾ الأمر هنا للإباحة من حيث الجزء، ولكنه للطلب المفروض من حيث الكل، فيباح الأكل بالجزء في الأوقات التي يتخيرها، وفي الطيبات التي يستحسنها، ولكن لا يباح أن يترك الأكل جملة، لأنه يؤدي إلى الهلاك وهذا منهي عنه.
وقوله تعالى :﴿ مما في الأرض ﴾ أي مما تخرجه الأرض من نبات وزرع وثمار وما يمشي من حيوان طيب يحل أكله وما يكون في جوها من طير يطيب أكله.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما يباح أكله أو يطلب بوصفين : أحدهما أن يكون حلالا لم يحظر أكله كالخنزير والميتة وسباع البهائم وسباع الطير والمنخنقة والموقوذة والمتردية في بئر حتى ماتت، والنطيحة، وما أكل السبع من غير تذكية، وما كان في أصله حلالا، ولكن اقترن به ما جعله محظورا، كالذبح على النصب والاستقسام بالأزلام أو سمي عليه بغير اسم الله، أو لم يذك تذكية شرعية فإن ذلك كله ليس بحلال.
والطيب هو الذي تستطيبه النفوس، وينميها ويغذيها غذاء صالحا، ولا يكون طيبا إلا إذا كان كسبه من حلال ولا يكون من حرام، ولا يكون حلالا إذا كان من الرشوة أو من السحت أو الربا أو من غلول، وفي الجملة أن يكون كسبه خبيثا، ولو كان في أصله طيبا. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ﴾ فقال عليه الصلاة والسلام :( والذي نفسي بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت أو الربا، فالنار أولى به )١.
وبعد الأمر بالحلال نهى عن كل حرام بألا يطيع الشيطان، فقال تعالى :﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ وهذا يصل الكلام بالآية السابقة التي بينت أن من الناس من اتخذ أندادا بوسوسته وإغرائه.
الخطوات جمع خطوة بضم الخاء وهي الأفصح، ويجوز فيها خطوة بفتحها والخطوة ما بين القدمين عند انتقالهما، والخطوات ما بينهما متتابعا، وهذا كناية عن السير في طريق، وتتبع السير فيه، باتباع حركاته، وسيرها، وكأنما شبهت حال أتباعه بحال من يتبع سيره خطوة بعد خطوة، فلو سار به في ضلال سار معه، وانهوى به في هاوية من الفساد، وأن السير وراءه هو سير وراء عدو واضح العداوة، يخفيها ولا يطويها، فمبين بمعنى أن عداوته جلية واضحة، لأنه يبينها ولا يخفيها من يوم أن عارض آدم كما قال تعالى :﴿ اهبطوا بعضكم لبعض عدو... ٢٤ ﴾ [ الأعراف ]، وكما قال تعالى :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ٦ ﴾ [ فاطر ] وكما قال تعالى :﴿ إنه عدو مضل مبين ١٥ ﴾ [ القصص ]، وكما قال تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء... ٢٦٨ ﴾ [ البقرة ].
وإن النهي عن إتباع خطوات الشيطان له مغزاه ومعناه، ذلك أن الشيطان يجيء من الحلال الطيب الذي تشتهيه الأنفس فيخلطه بغيره، ويأخذ بالنفس التي تطيعه من طيب المال إلى سوئه، ويأخذهم من مشتبهات الحلال إلى الحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم :( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات )٢، فهو يجيئهم من هذه المشتبهات ومن أجل ذلك كان الأمر بالحلال قد اقترن به النهي عن تتبع خطوات الشيطان الآثمة لأنها تجيء على مقربة من الحلال.
وكذلك من تتبع خطوات الشيطان أن يحرم المباح على نفسه كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله... ٨٧ ﴾ [ المائدة ] ولقد أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح وجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم فقال : لا أريد. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. قال : فما شأنك ؟ قال : حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود :"هذا من خطوات الشيطان"٣، وكذلك كل تحريم للطيبات هو من خطوات الشيطان، فكان النهي عن اتباع الخطوات مقترنا بإباحة ما أحل الله تعالى، لأنه مخالفة لما قرره الشرع.
١ رواه بهذا اللفظ الطبراني في الصغير عن ابن عباس رضي الله عنهما. [راجع مجمع الزوائد ﴿١٠١٨١﴾، والترغيب والترهيب ﴿٢٦٦٤﴾ وتخريج أحاديث الإحياء للعراقي ج٢ ص ٩٠ ﴿الحلبي﴾]..
٢ متفق عليه، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان ﴿٥٠﴾ ومسلم: كتاب المساقاة. ﴿٢٩٩٦﴾ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه..
٣ رواه البيهقي في السنن الكبرى ﴿١٥٣٣٩﴾ ج١١ ص٢٥٩..
ولقد ذكر الله تعالى أن الشيطان لا يكون منه خير قط، بل سوء وفحشاء، وما لا يكون فطريا، فقال تعالى معللا النهي عن اتباع خطواته :﴿ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾.
الأمر هنا من الشيطان هو الغواية القوية، كما قال مخاطبا ربه :﴿ لأغوينهم أجمعين ٨٢ إلا عبادك منهم المخلصين ٨٣ ﴾ [ ص ]. ولما كان أهل الغواية يطيعونه شبه بالأمر فعبر عنه بالأمر، والسوء : هو ما يسوء وتكون عاقبته السوءى، سواء أكانت السوءى في النفس، فتسوء الأنفس، أم كانت الإساءة للمجتمع، فالسوء هو ما يكون فيه فساد وهو ضد المصلحة التي يأمر بها الله تعالى، وإذا كان إغواء الشيطان بما يسوء خاصة وعامة بلا ريب يكون مقتا للنفس وللجماعة وللأخلاق أن تتبع خطواته، لأنها إلى ضرر لا محالة.
ويأمر أيضا بالفحشاء أي يغوي بها، والفحشاء من الفحش والأمر الفاحش، وهو الذي يكون خارجا عن الفطرة المستقيمة، إذ الأمر الفاحش هو الزائد زيادة كبيرة، والفحشاء باعتبارها خروجا على الفطرة الإنسانية تعم المعاصي كلها من زنى وشرب خمر، وسعي في الأرض بالفساد، والإيقاع بين الناس بالنميمة والغيبة، وغير ذلك من المعاصي النفسية واللسانية والاجتماعية، وتطلق في كثير من آيات القرآن على الزنى فقط، كقوله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ١٥ ﴾ [ النساء ].
وتطلق الفحشاء على المعاصي الكبيرة التي تزيد عن المعقول، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ٩٠ ﴾ [ النحل ].
فالشيطان لا يأمر إلا بما فيه مفسدة تسوء الآحاد والجماعات وإلا بالمعاصي التي تفحش حتى لا يستسيغها عاقل إلا من يكون الشيطان قد أغواه.
ويأمر الشيطان أيضا، أي يغوي ويضل على ما فسرنا معنى الأمر، بأن يحرموا على أنفسهم ما لا يعلمون أن الله حرمه، ويقولون على الله تعالى ما لا يعلمون له دليلا من عند الله، ولذا قال تعالى في الأمر الثالث الذي يغوي به الشيطان بعد إغوائه بالسوء والفحشاء ﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ أغواهم الشيطان بأن يحرموا على أنفسهم بعض الغنم من الإبل والبقر والنعم يحرمون أنواعا منها، ويزعمون أن الله تعالى حرمها عليهم من غير حجة من عند الله، كما أشركوا وادعوا أن الله تعالى لا يكره ذلك، ولو كان يكرهه لمنعها، وقال الله تعالى في ذلك :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء١ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ١٤٨ ﴾ [ الأنعام ]، فالشيطان كما سول لهم الشرك بالله تعالى سول لهم أيضا أن يحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله ونسبوا ذلك لله تعالى، وهذا تطاول على الله تعالى كتطاول الشرك، إذ يقولون على الله ما لا يعلمون أنه قاله وحكم به، بظن آثم من عندهم، ولقد قال الله في جملة ما حرم :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ٣٣ ﴾ [ الأعراف ].
ونرى من هذا أن الشيطان يأمر بنقيض ما يأمر الله تعالى، وأن الشيطان يغري بالظنون الفاسدة، التي لا أصل لها، وأن من أقبح ما يقع فيه الإنسان، أن يحل ويحرم، وينسب إلى الله تعالى قوله كما قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ١١٦ متاع قليل ولهم عذاب أليم ١١٧ ﴾ [ النحل ].
١ قال المصنف رحمه الله: أي من النعم..
وإن إغواء الشيطان لا حدود له فمخارفه مختلفة متكاثرة وصراط الله المستقيم واحد، ولذا يغري أتباعه باتباع الباطل بكل الطرق يغريهم بالإشراك هم وآباؤهم، ويغريهم بتحريم ما أحل الله هم وآباؤهم، ويظهره لهم كأنه الحق جليا بينا، ولقد قال تعالى في ذلك :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾.
نهانا سبحانه وتعالى أن نتبع خطوات الشيطان، وبين لنا أنه يأمرنا بالسوء والفحشاء وأن نفتري على الله الكذب، وأشار سبحانه وتعالى إلى أثره في إغواء المشركين، وبين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إغواء شديدا آخر لهم، وهو اتباع الآباء من غير فكر ولا عقل يتدبر فعلهم وأقوالهم، ويتدبر ما أثر عنهم أهو حق فيتبع أم باطل فينبذ، أو هو صدق فيقبل أم كذب فيرد، أو هو حسن فيقتدى بهم أم هو قبيح عليهم فينكره عليهم، لا يفكرون في شيء من ذلك، بل إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، وألفينا معناها وجدنا آباء كانوا واستمروا إلى أن جاءوا وهم تابعون لهم. يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله، وما أنزل الله تعالى يحمل حجته في ذاته، لأنه أنزله الله ذو الجلال الخالق الرزاق ذو القوة المتين، فدليله معه لأنه من عند الله وكفى بهذا دليلا مبينا.
ولكنهم يعرضون عن هذا الأمر الموجه للحق إلى باطل لا دليل فيه، ﴿ قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ﴾، يضربون عن طلب اتباع الله ويستبدلون به اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير حجة قائمة هادية، ولا دليل مرشد. إن اتباع الآباء وحده ليس حجة، وكونهم استمروا عليه ليس دليلا مرشدا، وأن اتباع الآباء إنما يكون حجة إذا كان عن علم وبينة، وإذا علمتم أنه كان عن علم وبينة فيكون اتباعهم للحق في ذاته لا لآبائهم لمجرد أنهم آباؤهم، ولكنهم يتبعونهم من غير بينة ولا دليل، بل لمجرد التقليد الذي لا يهدي ولا يرشد، ولذا قال تعالى منددا بتقليدهم الذي أضلهم :﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾.
الهمزة للاستفهام التوبيخي الذي هو إنكار ما وقع منهم فقد اتبعوا على غير عقل يوجه، ولا على اعتقاد هداية قائمة، والهمزة داخلة على فعل محذوف، أي أيتبعونهم، ولو كانوا لا يعقلون ولا يدركون بعقولهم أي شيء في هذا الاتباع، يتبعونهم في إشراكهم بالله، ويتبعونهم في تحريم ما أحل الله من طيبات من غير أي سبب موجب، ولا أي دليل مرشد، ولا هو فيه هداية، بل فيه ضلال مبين، لم يكن عند آبائهم دليل على ما هم عليه عقلوه، ولم يكن عندهم داعية حق يهتدون بهديه، وذكر قوله "لا يهتدون" بجوار قوله "لا يعقلون" لاختلاف موضوعهما، فموضوع العقل تفكر وتدبر وطريقه المنطق والبرهان، وموضوع الاهتداء اتباع لهاد مرشد كنبي مرسل، فما كان لهم عقل مفكر ولا هاد يهتدون بهديه. ولقد قسم الغزالي أهل الإيمان إلى قسمين : قسم يدرك بالبرهان ويسير بالقسط المستقيم، وقسم يطمئن قلبه إلى الحق ويرتضيه بإشراق قلبه بنور الحكمة والفطرة المستقيمة، أو باتباع هاد يهديه ويوجهه ويهتدي به، وقد فقد هؤلاء الأمرين فليس لهم عقل يتدبر ولا هاد يهدي إلى التي هي أقوم، ولذلك استنكر الله تعالى على المشركين اتباع آبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله تعالى حيث حرموه ونسبوا التحريم إلى الله تعالى من غير حجة ولا سلطان مبين.
وإن ذلك مثل قوله تعالى في موضع آخر من الذكر الحكيم :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا... ١٠٤ ﴾ [ المائدة ] ومثل قوله تعالى عنهم :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ٢٣ ﴾ [ الزخرف ].
وإن هذا النص السامي الكريم يدل على أن التقليد في العقائد لا يجوز، وشذ من قال غير ذلك، وعلى الذين لا يعرفون دليلا أن يسألوا أهل العلم بذلك كما قال تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ٤٣ ﴾ [ النحل ]، ولذا يجب على العلماء أن يبينوا للناس عقائدهم لا بطريق علم الكلام، بل بطريق القرآن، فدليل القرآن هو الغذاء والدواء الشافي، وأدلة علم الكلام كالدواء الذي يعطى بقدر لمن أصيبوا في عقيدتهم.
وإن المشركين الذين يتبعون خطوات الشيطان في عقيدتهم، ويتبعونه فيما يحلون وما يحرمون، ويقولون نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ويقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون بسبب ما أركسوا أنفسهم فيه قد صموا أنفسهم عن سماع الحق، ولذا قال سبحانه في حالهم :﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ﴾.
وقد تكلم المفسرون في هذا التمثيل البليغ، فقال بعضهم : إن ذلك التمثيل هو تمثيل لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم والذين كفروا كمثل الراعي الذي يرعى غنمه، فينعق : أي فيصيح بالغنم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء زاجرا لينتقل بهم من كلأ إلى كلأ، ولكن هذا التشبيه لا يليق بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تسمى بهذا الاسم وهو النعيق.
وقال بعضهم : إن ذلك تشبيه للذين كفروا في دعوتهم إلى أصنامهم التي لا تملك نفعا ولا ضرا، كمثل الراعي الذي ينادي غنما لا تسمع إلا دعاء ونداء ما يزجره في الانتقال من كلأ إلى كلأ، وهذا تشبيه حسن في ذاته، ولكن القرآن نسق واحد في البيان تأخذ كلماته بعضها بحجز بعض، وربما لا يتقارب هذا التفسير مع قوله بعد ذلك ﴿ صم بكم عمي ﴾ لأن هذه أوصاف للكافرين وليست أوصافا للغنم.
بقي التخريج الثالث للمثل وهو بأن يشبه الذين كفروا وما معهم من غنم يرعونها، يشبهون بالبهائم التي تنعق بأن تصيح بما لا يسمع إلا دعاء إن كانوا في كرب، ونداء إن كانوا بعيدا.
والكافرون مع غنمهم مثلهم كناعق ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فأصوات الغنم تتبادل بنعيق لا يفهم، وبصياح مجاوب للنداء، فالجميع يتصايح بالنعيق، والجميع لا يفهم إلا دعاء ونداء.
ولذا صح أن يوصف المشركون بالأوصاف التي ذكرها الله عنهم، فقال ﴿ صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾ أي أنهم في عدم سماعهم للحق الذي دعوا إليه كالصم الذين لا يسمعون، وهو تشبيه حالهم المعنوية في عدم سماعهم لدعوة الحق إذا نادى المنادي بحال الصم الذي لا يسمع شيئا، وفي عدم نطقهم بالحق واستجابتهم له بحال الأبكم الذي لا يتكلم. شبه عدم إدراكهم الحق الذي بدت معالمه، وظهر نوره بحال الأعمى الذي لا يبصر ﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ٤٦ ﴾ [ الحج ].
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :﴿ لا يعقلون ﴾ ما يدعون إليه، ويتفكرون فيه ويبدون وكأنهم لم يسمعوه، ولا يفكرون في الاستجابة بالإذعان والتسليم ولا يستضيئون بنوره.
فتح الله قلوبنا للحق إذ نسمع داعيه، ورطب ألسنتنا بالحق لنجيب نداءه، وأنار بصرنا وبصيرتنا لنراه إنه سميع الدعاء.
بين الله سبحانه وتعالى أننا فيما أباحه الله لنا لا نتبع خطوات الذي يغوينا بتحريم ما أحل لنا، وذكر حال المشركين في اعتقاداتهم ثم بين بعد ذلك ما أحله وما حرمه، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ وكان النداء إلى الناس الذين كان منهم من اتبع خطوات الشيطان، أما الآن فالخطاب للمؤمنين خاصة، وهم لا يتبعون الشيطان إنما يتبعون شرع الرحمان.
الأمر هنا للإباحة، والإباحة بالجزء، أي لنا أن نتخير من الطيبات، وعلينا أن نتناول ما نحب، من غير أن نحرم على أنفسنا شيئا كما تلونا قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ٨٧ ﴾ [ المائدة ]، وبالنسبة لمجموعة الأوقات فالأكل من الطيبات فرض، فهو وإن كان مباحا بالجزء مطلوب بالكل، ليس لأحد أن يترك الأكل من الطيبات فإن ذلك يكون حراما، ويؤدي إلى الهلاك كما ذكرنا في ماضي قولنا.
والطيبات هي ما تستطيبه النفوس، ويكون حلالا، والأكل منه مطلوب لتقوى الأجسام ولتقوى العقول والنفوس في ذاتها، ولتقوى للجهاد في سبيله وبشرط أن تكون حلالا. وحرم الله الخبائث التي تكون في ذاتها مستقذرة كالخنازير والميتة أو التي تكون من كسب حرام كالربا والسحت، وأكل مال الناس بالباطل. وإن من أعظم القربات بعد تقوى الله، طلب الطيبات الحلال. وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها )١.
ولقد أردف الله سبحانه وتعالى الأمر بالأكل من الطيبات بالأمر بالشكر، لأن هذه الإباحة للطيبات نعمة، والنعمة توجب الشكر من المنعم، الذي أباح ومكن، والشكر يكون بترك المعاصي ولزوم الطاعات والتقوى والتقرب إليه سبحانه وتعالى، وطلب رضوانه، ويقول سبحانه :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم... ٧ ﴾ [ إبراهيم ]، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر )٢.
وإن هذه المباحات نعم الله تعالى في هذه الدنيا يسأل عن حقها وعن شكرها، فقد قال تعالى :﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ٨ ﴾ [ التكاثر ] وإن الشكر هو الطاعات الكاملة، والعمل الصالح، وإن ذلك شريعة الرسائل الإلهية كما قال تعالى :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ٥١ ﴾ [ المؤمنون ].
وقوله تعالى :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ أضيفت الطيبات، وهي إضافة تشير إلى المصدر، وهو إنعام المنعم، لأن الطيبات مما رزق الله تعالى، ومما تمكن عباده منه، فكان هنا نعمتان أنعم الله تعالى بهما، وهما : نعمة الرزق والعطاء، ونعمة الإباحة للطيبات، وكان الشكر على النعمتين واجبا.
ولذا قال تعالى :﴿ واشكروا لله ﴾ أي اشكروا الله، وقد بينا أن "شكر" تتعدى باللام، وهو الأفصح، وتتعدى بنفسها، وأن الشكر ملازم للعبادة أو هو منها، أو هو هي، ولذا قال تعالى :﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾ أي إن كنتم تعبدونه وحده من غير إشراك غير، وتقديم الضمير على الفعل للإشارة إلى اختصاصه تعالى بالعبادة وحده. اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك وراضين في السراء والضراء.
١ أخرجه مسلم: كتاب الدعاء ﴿٤٩١٥﴾ والترمذي في الأطعمة ﴿١٧٣٨﴾ وأحمد في مسنده ﴿١١٥٣٥﴾ عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
٢ ذكره البخاري تعليقا في كتاب الأطعمة –ترجمة باب الطاعم الشاكر، ورواه الترمذي: كتاب صفة القيامة ﴿٢٤١٠﴾، وابن ماجه: كتاب الصيام ﴿١٧٥٤﴾، ومن طريق عند أحمد بسند منقطع ﴿٧٤٧٣﴾ كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه..
بعد أن ذكر الله ما أحله من طيبات بين ما حرمه من خبائث سواء أكانت هذه الخبائث حسية أم كانت معنوية، فقال تعالى :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ﴾.
حرم الله تعالى ثلاثة أشياء من الخبائث الحسية، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير، ومن الخبائث المعنوية ما أهل به لغير الله، أي ما ذبح لصنم ونحو ذلك. والميتة هي التي ماتت حتف أنفها من غير ذبح شرعي، وتشمل النطيحة والمتردية، ولذا قال في الخبائث المحرمة في سورة المائدة :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون... ٣ ﴾ [ المائدة ].
وإنه يدخل في الميتة كل ما مات من غير أن يسال دمه ولو بسبب من العباد أو السبع، فيدخل في الميتة المنخنقة التي ماتت بالخنق من غير ذبح يسيل دمها، والموقوذة التي رميت حتى ماتت، والنطيحة التي ماتت بنطح ولم يسل لها دم، والمتردية وهي التي ماتت بهذا التردي، ولم تذبح وما أكل السبع بعضه، ولم يذبح فإنه أيضا يكون محرما، وحرم الاستقسام بالأزلام، وهي أقداح الميسر كما حرم الذبح على النصب، وحرمت هذه الأشياء لا لخبث في ذاتها ولكن لما اقترن بذبحها وهو النصب، كما حرم الاستقسام بالأزلام فهي في ذاتها طيبة حسيا، ولكن لازمها خبث معنوي وهو ما يقترن بها من ميسر، والقرآن الكريم قد حصر التحريم في هذه الأشياء المذكورة فقال تعالى :﴿ إنما حرم عليكم الميتة ﴾ وإنما أداة من أدوات القصر، أي حرمت هذه الأشياء من النعم التي هي البقر والإبل وغيرها مما يشبهها آكلة العشب كالغزال والأوعال، أما سباع البهائم كالأسد والذئب وغيرها فهي محرمة بذاتها، لأن لحمها لا يؤكل وتعافه النفوس المستقيمة، فالحصر في التحريم، إنما هو بالنسبة للنعم وما يشبهها من آكلة العشب، والمحرمات هي الميتة ويدخل فيها كما سبق من القول المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا أن يذكى بأن يبقى بعد أكله حيا، فيذكى والتذكية إسالة الدم.
والميتة يبقى فيها الدم، فبمضي الزمن يفسد أجزاء جسمها وتتعفن ببقائه فيها فيفسد لحمها وتسارع إليها الجراثيم المفسدة، فتكون خبيثة وتتحول من لحم طيب إلى لحم خبيث، ويدخل في ذلك الموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة والدم، والمراد به الدم المسفوح، أي السائل، وليس المتجمد بأصل تكوينه وإن كان التكوين من الدم وهو الكبد والطحال، والدم المسفوح يسارع إليه الفساد وهو ثقيل الهضم وهو يفسد الجسم والنفس، وإنما قيد الدم بالمسفوح، لأنه صرح في آية الأنعام بأن المحرم هو الدم المسفوح فقال تعالى :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به... ١٤٥ ﴾ [ الأنعام ].
ومن المقررات أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب، فيحمل الدم المذكور في الآية التي نتكلم في معناها على المقيد في آية الأنعام، والدم يسارع إليه الفساد وأكله يربي القسوة وهو ثقيل الهضم.
ولحم الخنزير ذكر الله تعالى في القرآن أنه رجس أي قذر يحتوي على كل ما يضر البنية الإنسانية، وقد ثبت بالتجربة أنه أثقل طعام على المعدة، والمعدة بيت الداء، وثبت أنه يحوي من الديدان ما يضر الجسم، وأنه يحدث فقد الشهوة، ويوجد أعراضا عصبية، ويظن كثيرون أنه مورد من موارد داء السرطان العضال. وما أهل لغير الله تعالى به، والإهلال رفع الصوت بذكر الله تعالى عند الذبح، والإهلال لغير الله تعالى بأن يذكر عند الذبح أنه لصنم أو وثن أو نار أو نحو ذلك، ويدخل في ذلك ما ذبح على النصب التي كانت تقام للأوثان وتذبح الذبائح عليها.
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك عند الاختيار، وأما عند الاضطرار فإنها يرفع عنها الإثم، ولذا قال تعالى :﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾ أي من كان في حال ضرورة، بحيث تتعرض الحياة للهلاك إذا لم يأكل شيئا من هذه المحرمات، فإنه لا إثم عليه إذا أكل، ويكون واجبا عليه أن يأكل إن لم يجد غيرها، لأن ضرر الموت أشد من ضرر الأكل، والضرر القليل يتحمل في سبيل دفع الضرر الكبير، ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الضرورة لمن سأله عن ذلك، فقال :( أن يأتي الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله )١، ولقد قال تعالى :﴿ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ٣ ﴾ [ المائدة ].
ولقد قيد الله تعالى رفع الإثم، فقال تعالت كلماته :﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ أي غير طالب لها تبتغي إشباع رغبتك، كأن يكون في عطش شديد ولم يجد إلا خمرا، فيشربها مبتغيا لها لا يقصد دفع الضرورة ولكن يرغب فيها، وكمن يكون في حال ضرورة فيكون بين يديه الميتة والخنزير فيبتغي الخنزير اشتهاء له ورغبة فيه، ولا عاد أي غير متجاوز حد الضرورة، والضرورة تدفع بأقل قدر فلا يتجاوزه، فيتعدى ما رفع الله تعالى الإثم عنه.
وروي عن مجاهد وابن جبير أنهما قالا في معنى باغ وعاد، غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي الخارج على السلطان العادل وقاطع الطريق، وبهذا أخذ الشافعي في أحد قوليه فمن اضطر للطعام ولا يجد إلا بعض هذه المحرمات وكان خارجا في معصية فإنه لا يترخص له في أكل واحد من هذه المحرمات، لأن وقوع الضرورة بسبب معصية، والمعصية لا تحل المحرم.
وأبو حنيفة ومالك وأحمد، والرأي الثاني عند الشافعي أن الرخصة قائمة وسببها ليس هو المعصية أو غير المعصية، وإنما سببها الاضطرار والخشية من الهلاك. والمعصية في قتل النفس أشد من المعصية في الخروج على الأحكام، ولأن الجهة منفكة، فرفع الإثم لدفع الجوع والظلم في العصيان فلا خلط بينهما، ومن المقررات أن الظالم في معصية لا يحرم من حقوقه في ناحية أخرى، وإلا كان ظلما والظالم لا يظلم، ولكن يقتص منه في موضع ظلمه، هذا وإن الرخصة نتيجتها أن يرفع الإثم لا أن تباح الميتة وأخواتها، ولكن قرروا أنه في حال الضرورة هذا يكون الأكل مطلوبا طلبا حتميا بحيث يأثم إن لم يأكل، لأن عدم الأخذ بالرخصة قتل للنفس والله تعالى يقول :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ٢٩ ﴾ [ النساء ].
ولقد ختم الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.
هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى، وغفرانه في الدنيا والآخرة، ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن المضطر إلى أكل المحرمات، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات، وأن حرم الخبائث، فتحريم الخبائث لأضرارها، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه، جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار.
وقبل أن ننتقل إلى آياته البينات نقرر أمرين. أولهما : ما قرره بعض العلماء ذوي النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها، أو لا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لا يتعدى حد الضرورة، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث. الثاني : أن هذه المحرمات إنما هي في حيوانات البر والنعم كما قررنا، أما صيد البحر فإنه حلال كما قال تعالى :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما... ٩٦ ﴾ [ المائدة ]. جعل الله طعامنا حلالا طيبا، وهنيئا مريئا.
١ عن أبي واقد الليثي قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؟ قال: "إذا لم تصطحبوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها". رواه أحمد في مسند الأنصار ﴿٨٩٣٢٠﴾، والدارمي في الأضاحي ﴿١٩١٢﴾ والحاكم في المستدرك ﴿٧٢٣٤﴾ وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
والمخمصة: المجاعة والشدة، والصبوح: شرب أول النهار، والغبوق: شرب آخر النهار، أي اللبن، ثم توسعوا فأطلقوه على الطعام أول النهار وآخره، وهو مقصود الحديث، وتحتفئوا: تقتلعوا فتأكلوا..

كتمان الحق
بعد أن بين الله تعالى في كتابه الحكيم ما يحل وما يحرم، وذكر أن الشيطان يجيء بوسوسته فيما يحل فيحرمه، وفيما يحرم فيبيحه فهو يجعل المشركين يحرمون على أنفسهم بعض ما أحل، ويحملهم على أن يستبيحوا الزنى والقذف والخمر والقتل والغصب، بعد ذلك بين سبحانه أن ما جاء في كتاب الله تعالى يجب أن يبين، وما جاء في الكتب السابقة يجب ألا يكتم من بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحلال وحرام في هذه الكتب، وأن من يكتم الذي أنزله الله سبحانه لغرض من أغراض أو هوى من هوى الأنفس أو رجاء رشوة أو سحت من المال، إنما يبيع الحق بثمن بخس مهما يكن مقداره، ولذا قال تعالت كلماته :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون ﴾. الكلام في كل من يكتمون ما أنزل الله في الكتاب سواء أكانوا مؤمنين لا يبلغون الدعوة إلى الله ويبينون ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام التي يجب إعلانها وبيانها للناس، أم كانوا من اليهود أو النصارى الذين يعلمون أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما يجيء به من أحكام ويكتمونها، وقد قال تعالى في ذلك :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم... ١٥٧ ﴾ [ الأعراف ].
وكان من المناسب ذكر كتمانهم، والقرآن الكريم يبين الطيبات التي أحلها، والخبائث التي حرمها، والأغلال التي رفعها، وقد كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.
وقوله تعالى :﴿ ويشترون به ثمنا ﴾ معناه يقدمونه في نظير قليل، وعبر سبحانه بقوله تعالى :﴿ ويشترون به ثمنا قليلا ﴾ لأن المشتري طالب لمقابل المبيع، فهم يتركونها طالبين ثمنها راغبين، وهو مهما يكن مقداره قليل، فهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، والثمن هو استعلاء واستكبار عن الاتباع، وإنكار وجحود، وعرض من أعراض الدنيا وقد بين الله تعالى سوء فعلتهم في الدنيا، وعذابهم في الآخرة، فقال تعالى :﴿ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ﴾.
الإشارة إلى الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب الحق، وتركوا الواجب في نظير قليل بالنسبة لما تركوه فهو زهيد مهما يكن مقداره بجوار الحق الذي باعوه، فقد باعوا غاليا بما لا يكافئه مهما يكن قدره، الإشارة إلى هؤلاء الذين اتصفوا بذلك، والإشارة إلى الموصوف بصفة يبين أن سبب الحكم هو هذه الصفة.
وقد حكم الله تعالى عليهم بأربعة أحكام : أولها أنهم ما يأكلون من الثمن الذي أخذوه إلا النار تلهب بطونهم، وقوله ﴿ ما يأكلون في بطونهم إلا النار ﴾ مجاز فيه عبر عن حالهم بالمآل الذين يئولون إليه، فعبر سبحانه عن حالهم في الثمن الذي أخذوه شرها، طمعا وإيثارا للباطل، وتركا للحق بأنهم أكلوا نارا، نزلت في بطونهم وألهبتها ومزقت لحومهم، واختار التعبير بكون النار في بطونهم، لأن المال الباطل يطلب لأجل شهوة البطن وملذاتها والتعبير عن الجزء وإرادة الكل إذ المراد أن النار تعمهم، وتشمل كل أجزائهم، ولكن عبر بالجزء، لأن ذلك الجزء له مزيد من الاختصاص، لأن شهوتهم وشرههم هو الذي جعلهم يختارون ذلك الثمن الحقير وإن كان كبيرا فإن الذي تركوه من الحق أكبر وأعظم وهو الحق الذي كتموه.
والعقاب الثاني : أنهم ينالهم غضب الله تعالى، وغضب الله الواحد القهار فيه إيلام لأهل الضمائر وإنذار شديد لأهل الشر، لأنه غضب المقتص الجبار الذي لا يفلت منه أثيم، ولا تنفع عنده شفاعة الشافعين، ولا يغني أمامه سبحانه وتعالى شيء في الوجود مهما يكن ومهما تكن صلته، ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو... ٦٧ ﴾ [ الزخرف ].
والعقاب الثالث : أن الله تعالى لا يزكيهم أي لا يطهرهم من ذنوبهم فإنهم في كون الجزاء، لا يخفف عنهم ولا يرجعون، يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ولكن لا يعودون، ولا يخرجون من النار التي تحيط بهم.
والعقاب الرابع : أن لهم عذابا أليما أي مؤلما، نتيجة لغضب الله تعالى، وعبر سبحانه وتعالى عن غضبه عليهم بأنه لا يكلمهم، وكأنه يقول لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون.
وإن الآية كما يقولون نزلت في اليهود أو النصارى كذلك، فإن اللفظ أعم وأشمل فهو يشمل اليهود الذين كتموا الحق غرورا واستعلاء وكبرياء وطلبا للدنيا وما فيها من سيطرة وسلطة ويشمل كل من يكتم الحق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشمل الذين تقاصروا عن الدعوة إلى الإسلام، وهم عليها قادرون، وتركوها استرخاء، وتقاصروا في الهمم وتركا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويشمل الوصف الذين لا يدركون ما أحل الله تعالى وما حرم، تهاونا وكسلا، أو لينالوا مأربا من مآرب الدنيا، وهو الثمن البخس الذي تركوا الواجب لأجله.
ويشمل الذين تركوا الأمر المعروف والنهي عن المنكر تخاذلا عن الحق، ورضا بالباطل، ويشمل الذين يمالئون الحكام، ويخطون على هواهم، ويقررون من الأحكام ما يخالف النقل والعقل، كأولئك الذين يستبيحون الربا، والذين يدعون إلى قتل النسل، لإرضاء الحاكمين وتقربا وازدلافا إليهم، ويشمل الذين يفتون الناس على حسب أهوائهم بأجر معلوم، أو رجاء معونة عند الحكام الذين ليس للدين حريجة في قلوبهم، وكل أولئك نراه في عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن أولئك الذين كتموا الحق الذي أنزله تعالى لغرض أو لمال أو لجاه، أو لرشوة وسحت أو لمنصب يريدونه أو يرجعونه، هؤلاء تركوا الهداية وطلبوا الضلالة، ولذا قال تعالى مشيرا إليهم :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ﴾. الإشارة في الأولى إشارة للذين اتصفوا بكتمان الحق وقت الحاجة إلى بيانه، وإن ذلك الوصف هو سبب الحكم الذي تقرر عليهم، وهو أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، أي تركوا الحق، وهو المبيع الثمين لأنه هدى الله تعالى وهو الطريق، وهو الإعلام بالحق المبين تركوه، وباعوه بثمن حقير في ذاته بالنسبة لمقابله، فهو الضلالة، في مقابل الهداية، قد تركوا الطريق المستقيم وهو الهداية التي منحهم الله تعالى بحكم الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، تركوا ذلك الطريق المستقيم إلى متعرجات الشيطان فضلوا في صحراء هذا الوجود ضلالا بعيدا.
وكما استبدلوا بالهداية الضلالة استبدلوا أيضا العذاب بالمغفرة، أي سلكوا الطريق الموصل إلى العذاب وتركوا الطريق الموصل إلى مغفرة الله تعالى، وقد عبر الله تعالى بالعذاب، والظاهر أنه أراد سببه والطريق الموصل إليه، إشارة إلى أنه موصل إليه لا محالة، والمغفرة هي الثواب والنعيم المقيم الذي أعده الله تعالى للمهتدين، وعبر عن الثواب بالمغفرة، لأن المغفرة دليل الرضا أولا، وللإشارة إلى أن من يعمل صالحا يغفر الله له ما عساه يكون من سيئات، لأن الحسنات يذهبن السيئات ثانيا، ولأن من ينال غفران الله تعالى من المقربين.
وقد أكد الله تعالى دوام عذابهم بقوله تعالت كلماته :﴿ فما أصبرهم على النار ﴾ أي أنهم يأخذون في أسباب الجحيم، ودخول النار والبقاء، ويقال في مثل من يكون في حالهم ممن يسيرون سيرهم، ما أصبرهم على النار وهو من قبيل التهكم كما يقول القائلون لمن يرتكب أسباب العقوبة من حد أو تعزير : ما أصبرك على السياط تكوي ظهرك كيا، لأنه يتخذ أسبابها، وقد يقال إن الصبر بمعناه اللغوي وهو الحبس كقوله تعالى :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ٢٨ ﴾ [ الكهف ]، ويكون المعنى ما أطول وأدوم حبسهم على النار يصلونها.
روي عن الكسائي أنه قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما فحلف فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله أي ما أجرأك عليه. والمعنى على ذلك : ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها.. اللهم قنا عذاب النار، وألهمنا الصبر على النطق بالحق إنك أنت الرحمان الرحيم.
وما كان ذلك الوجوب إعلاما بإعلان الحق في الكتاب الكريم والعقاب على الكتمان إلا لأن الكتاب أنزل بالحق، والذين يختلفون فيه اختاروا المشاقة على الإيمان، ولذلك قال تعالى :﴿ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ﴾ أي أن الله تعالى نزل القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك أن من يكتمه ولا يبينه للناس ليستضيئوا بنوره، وليهتدوا بهديه يرتكب إثما عظيما، يستحق عليه عقابا أليما، وهو الطريق المستقيم، ولا ينبغي لأحد أن يخالفه أو يختلف في شأنه وصدقه، ولذا قال عز من قائل :﴿ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ﴾، فمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ويترك ما يدعو إليه، أو يجعله عضين مفرقا يفهمه غير مستقيم في فهمه بل يفهمه متناقضا على حسب هواه، لا على مقتضى نسقه الحكيم، من يفعل ذلك فشأنه في شقاق بحيث يتخذ كل واحد شقة من القول، ويكون كل شق بعيدا عن الآخر، لا يتلاقون أبدا فهم في خلاف وكل حزب بما لديهم فرحون.
البر
﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ١٧٧ ﴾.
كان أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام أمر هذه النفوس المؤمنة، والنفوس المشركة والكتابية وأثار جدلا وحماسة، فالمؤمنون تقبلوها بقبول حسن، لأنها بناء إبراهيم، وهو الذي سماهم مسلمين، وهو الحرم الآمن الذي جعله الله تعالى للناس مثابة وأمنا، وهو مزار العرب إليه يحجون ويعتمرون من وقت أن بناه إبراهيم عليه السلام، وهو عزهم، وأما المشركون من العرب فقد ظنوا أن محمدا عاد أو سيعود إليهم وما علموا أن ذلك إيذان بذهاب دولة الأوثان، وإزالتها من حول الكعبة، وأما اليهود فقد أذهب أطماعهم في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعلموا أنه هو النبي الأمي الذي بشر به في التوراة يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وقد صدفهم الله تعالى.
إن هذا الأمر الذي يشغلهم جميعا، إنه الأمر الأعظم، وهو مقصد الأديان كلها، وغاياتها، وهو الذي يهذب النفوس، والمجتمعات ويربيها ويقيمها على التعاون على البر والتقوى ويحميها ويدفع عنها وهو نسب الأديان كلها، ولذا قال تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ أي ليس هذا هو البر المقصود الجامع لكل معاني الخير، الذي حرص الدين عليه حرصا كاملا، بل هو إلى الشكل أقرب، أو هو الوسيلة وما يكون من الأمة هو الغاية العليا من كل دين جاء من الله تعالى لهداية البشر، وتوجيههم نحو الصلاح الإنساني آحاد وجماعات، صلاحا يمس نفوسهم ويملأ قلوبهم إيمانا، وليس في العبارة السامية ما يومئ إلى الاستهانة بأمر القبلة، بل إن فيها توجيها إلى الناحية التهذيبية والكمالية للإنسان في آحاده، وجماعته، ولذا قال تعالى مستدركا مثبتا :﴿ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة ﴾.
قال العلماء : إن "من آمن بالله" إن الكلام فيها على تقدير مضاف ومعناه، ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.. وحذف المضاف إذا دل عليه المضاف إليه كثير في القرآن وهو إيجاز الحذف البليغ كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها... ٨٢ ﴾ [ يوسف ] أي أهل القرية، وكقوله تعالى :﴿ فليدع ناديه ١٧ ﴾ [ العلق ] أي فليدع أهل ناديه.
وإن ذلك الإيجاز من دلائل الإعجاز، وإننا نرى أن حذف المضاف أو عدم تقديره يعلو بالكلام إلى أعلى درجات البيان، إن الكلام يكون دالا على البر بمفهوم الحال المكونة من الكلام كله، فيكون المعنى ليس البر المقصود من الديانات الإلهية أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر المقصود وهو الغاية من الديانات الإلهية هو الحال التي يكون عليها من آمن بالله واليوم الآخر.. وآتى المال على حبه ذوي القربى إلى آخر ما بينته الآيات، فهذه الحال المجتمعة من تلك الصفات، وهذه الأعمال المهذبة المربية لمجتمع فاضل هي البر، وعلى ذلك لا تحتاج إلى تقدير، والبر كما يقول المفسرون هو المعنى الجامع لكل ما فيه نفع للنفس وللناس، وإني أراه مرادفا في العرف الخلقي.
وقد ذكر الله تعالى صنوف البر كلها في هذه الآية الكريمة، وكانت بحق آية البر، لأنها جمعت أطرافه، ونواحيه كلها، وهي من أجمع الآيات للتكليفات الدينية.
وأول البر وسنامه وأصله الإيمان، وهو التصديق والإذعان، وأول من يجب الإيمان به الله، فالإيمان به هو لب الإيمان كله، وهو الخضوع والإذعان والعبادة له وحده لا شريك له، وامتلاء النفس بذكره، بحيث لا تذكر غيره في الغدو والآصال، وفي الصحو، وفي المنام، ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه وحده الخالق للوجود، والإيمان بأنه وحده الموصوف بصفات الكمال، والإيمان بأنه وحده المستحق للعبادة، فليس في الوجود من يستحق العبادة سواه.
والإيمان باليوم الآخر، ويشمل الإيمان بالبعث والنشور، والإيمان بيوم القيامة، وما يجري فيه من حساب وعقاب وثواب، وأن من أحسن فله النعيم المقيم، ورضوان من الله أكبر، وأن من خالف وغير وبدل فجزاؤه جهنم، وبئس المصير، وأن ذلك كله مادي حسي، وليس روحيا كما توهم بعض الكاتبين.
وكان الإيمان باليوم الآخر تاليا للإيمان بالله تعالى، لأنه تصديق لما أمر الله به، ولأنه سلوان المحسن العابد وإنذار للمشرك المكذب، والمعاند المستكبر الجاحد، وقد تبين له الحق.
ثم يلي الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة الأخيار الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهو إيمان بالغيب الذي لا يرى ولا يحس، وأول شعار المؤمن الإيمان، وهو الفيصل بين المسلم والزنديق، فالزنديق أو الملحد في دين الله تعالى لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يصدق ما لا يرى ويحس، والمؤمن يعلم أن وراء المحسوس سرا خفيا، وقد أمرنا الله تعالى بالإيمان فحق علينا أن نؤمن بوجودهم، وهم مذكورون في كتابه الكريم، وفي الكتب التي صدقها، فالكفر بهم كفر بالله وبالقرآن، وذكر الله بعد ذلك الإيمان بالكتاب، وهو القرآن الكريم، والإيمان تصديق بكل ما جاء به ويدخل في ذلك الإيمان بالكتب السابقة، لأنه سجلها في قصصه، فهو سجل النبوة كله، فيه ذكر كتبها، وفيه بيان معجزات النبيين، فلولا قصصه الحكم الصادق ما عرف كتاب من كتب النبيين، ولا معجزة من معجزاتهم.
وذكر سبحانه وجوب الإيمان بالنبيين السابقين، لأن الإيمان الذي جاء به القرآن هو الإيمان الجامع بالنبوات الإلهية كلها، كما قال تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ١٣٦ ﴾ [ البقرة ].
هذا هو الإيمان الذي أمر به الله تعالى، وكانت حال المتصف به والقائم بما يأتي من تكليف، وأعمال، هي البر المطلق من الإنسان في كل دين.
ولننتقل إلى بيان الأعمال التي هي بر في ذاتها، وحال القائم بها هي البر الخالص التي تأمر به كل الأديان التي جاءت من الله لا من أوهام البشر :
* في حال من آتى المال على حبه، ولقد قال تعالى فيه، ﴿ وآتى المال على حبه ﴾ أي أعطى المال على حبه له فالضمير يعود إلى المال، والمعنى على حبه للمال ورغبته في اقتنائه، ولكنه آثر العطاء وعلى هذا السبب وذلك كقوله تعالى :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ٨ ﴾ [ الإنسان ]، وكقوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون... ٩٢ ﴾ [ آل عمران ].
ويفسر هذا ما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الصدقة أعظم أجرا، فقال صلى الله عليه وسلم :( أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان )١.
وقد فسر بعضهم بأن الضمير يعود على الإيتاء وهو المصدر المنسبك من آتى، والمعنى أعطى المال محبا للإعطاء راغبا فيه راضي النفس، طيبا بالعطاء، راغبا في رضاء الله به، وبذلك يجتمع له قربتان قربة العطاء في نفسه، وقربة الاتجاه إلى إرضاء ربه.
وهو في مؤداه لا يختلف عن التقدير الأول، وإن كان الأول يدل على مجاهدة النفس في العطاء بين ما يحبه ويشح به، بين إرضاء الله بالعطاء فيؤثر إرضاء الله تعالى متقربا إليه، فتكون قربة العطاء، وقربة المجاهدة حتى يكون مطيعا لله تعالى متقربا إليه، طالبا رضاه، وهو الغني الحميد.
وقد ذكرت الآية الكريمة من يخصهم بعطائه، أو من يؤثرهم بهذا العطاء، ويبدو من الذكر ومعناه ترتيبهم في العطاء وأن بعضهم يفضل في العطاء على بعض إن لم يتسع ماله لهم أجمعين.
( أ‌ ) ذوو القربى، ولذا قال تعالى :﴿ وآتى المال على حبه ذوي القربى ﴾ وهم قراباته، ويفضل الأقرب ويبدأ بالوالدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ردا على من سأله من أحق الناس بحسن صحبتي :( أمك ) كررها ثلاث مرات مع تكرار السؤال، ثم قال : ثم من ؟ قال :( أبوك، ثم الأقرب فالأقرب )٢، ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي :( إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة )٣، ولأن الإسلام أقام على دعامة الأسر المتحابة المتعاونة المتكاتفة، والأسرة مقصورة على الأبوين والأولاد، بل هي ممتدة إلى أن تشمل الأقارب، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :( من أراد منكم أن يبارك له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه )٤، ولقد عد من ذوي القربى الزوج إذا كان فقيرا، فقد سألت امرأة عبد الله بن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم أيعد إعطاء زوجها صدقة ؟، فقال صلى الله عليه وسلم :( نعم )٥.
( ب‌ ) والذين يلون أولي القربى في العطاء اليتامى، سواء أكانوا من ذوي القربى أم لم يكونوا، وإذا كانوا من ذوي القربى يكونون أولى من غيرهم من الأقارب إلا الأبوين.
واليتيم هو الذي مات أبوه، وهو صغير، ورعاية اليتيم مما حرض عليه الإسلام في عدة أحاديث، وأوصى القرآن بهذه الرعاية في عدة من آي القرآن، وأنه يجب ألا يذل ولا يقهر، ذلك لأن اليتيم إن أهمل كان عضوا هداما في المجتمع، إذ يخرج إلى الحياة ناقما عليها متمردا لا يألف ولا يؤلف، إذ إن تربية النزوع إلى الألفة تكون من الأبوين، ومن الشعور بالرحمة والحياطة والعناية وخصوصا من الأب الحاني الرفيق الحاني العطوف.
فإذا حرم من ذلك فقد يتربى على النفور وعداوة المجتمع إن لم يجد من يحل محله في إلفه ومودته وحياطته، ولذا نهى الإسلام عن قهر اليتيم، حتى لا يتربى فيه نزوع النفور، فقال تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر ٩ ﴾ [ الضحى ] وقال صلى الله عليه وسلم :( خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه اليتيم، وشر بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم )٦ وقال صلى الله عليه وسلم :( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى )٧.
وقال صلى الله عليه وسلم :( من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلي وعلي )٨ وهو اليتيم.
﴿ ج ﴾ والمرتبة التي تلي اليتيم في العطاء، هو المسكين وهو من أسكنته الحاجة، وهذا يشمل الزمن أي المريض بمرض مع الفقر، وعدم القدرة على العمل، ويشمل أولئك الفقراء الذين لا يملكون شيئا، ويتعففون عن أن يسألوا الناس، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ( ليس المسكين هو الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه )٩ وهو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى :﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف... ٢٧٣ ﴾ [ البقرة ].
﴿ د ﴾ والذي يلي المساكين ابن السبيل وهو الذي انقطع عن ماله، وصار في مكان لا يجد فيه ما يمده بأسباب الحياة من طعام يطعمه، أو مال ينفقه أو مأوى يأوي إليه، ولذلك أطلق عليه ابن السبيل، لأنه انقطع إلا عن السبيل الذي يسير فيه، وإن إيتاء المال لهذا يكون بإعطائه ما يسعفه من قوت، وبإيوائه حتى ي
١ متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الزكاة –باب فضل صدقة الصحيح الشحيح ﴿١٣٣٠﴾ ومسلم: كتاب الزكاة: بيان أن فضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح ﴿١٧١٣﴾..
٢ عن بهز بن حكيم، حدثني أبي عن جدي، قال: "قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب". [رواه الترمذي: كتاب البر والصلة ﴿١٨١٩﴾} وأبو داود: كتاب الأدب ﴿٤٤٧٣﴾ وأحمد: أول مسند البصريين ﴿١٩١٧٥﴾]..
٣ رواه الترمذي: كتاب الزكاة ﴿٥٤١﴾ والنسائي ﴿٢٥٣٥﴾ وابن ماجه ﴿١٨٣٤﴾ وأحمد في مسنده ﴿١٥٦٤٤﴾ عن سلمان بن عامر..
٤ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه". متفق عليه من رواية البخاري: كتاب الأدب ﴿٥٥٢٧﴾ ومسلم: كتاب البر والصلة ﴿٤٦٣٩﴾..
٥ رواه بالمعنى وأصله في الصحيحين من رواية البخاري: كتاب الزكاة ﴿١٣٦٩﴾، ومسلم: كتاب الايمان ﴿١١٤﴾ عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى –أو فطر- الى المصلى ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: "أيها الناس تصدقوا فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء". ثم انصرف فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه فقيل: يا رسول الله هذه زينب، فقال أي الزيانب ؟ فقيل : امرأة ابن مسعود. قال نعم ائذنوا لها فأذن لها. قالت : يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم"..
٦ سبق تخريجه..
٧ أخرجه البخاري: كتاب الأدب ﴿٥٥٤٦﴾. وقال بإصبعيه: أي أشار بهما يقرن بينهما، كما صرحت به رواية أحمد ومالك وغيرهما..
٨ متفق عليه أخرجه البخاري: كتاب الفرائض –ميراث الأسير ﴿٦٢٦٦﴾: ومسلم: كتاب الفرائض: باب من ترك مالا فلورثته ﴿٣٠٤٣﴾ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مالا فلورتثه ومن ترك كلا فإلينا". والكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله ويدخل فيه اليتيم الذي هذه صفته. وجاء في سنن أبي داود: كتاب الخراج –أرزاق الذرية ﴿٢٥٦٥﴾ عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي". والضياع الأبناء والذرية الذين لا يجدون من يعولهم..
٩ روى مسلم: كتاب الزكاة: ﴿١٧٢٢﴾ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان" قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا". وبنحوه النسائي ﴿٢٥٢٥﴾. ورواه أحمد عن أبي هريرة في مسنده ﴿٩٤٢٢﴾..
البر في القصاص
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ١٧٨
هذا كلام في البر أيضا، ذلك أن البر عمل موجب وعمل مانع، أو عمل يبني الجماعات فيكون موجبا، وعمل يحميها فيكون حاميا مانعا، والأول تبين بقوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب... ١٧٧ ﴾ [ البقرة ] إلى آخر الآية، والآية التي نتعرض للكلام في معانيها الآن، هي لحماية الجماعة الإسلامية من الآفات التي تفتك في بنائها، وتحميها أيضا من الاعتداء وتفريق النفوس، وتأريث الأحقاد، فإذا كان من البر إعطاء المال على حبه للضعفاء، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصبر لأنه يؤلف القلوب، فمن البر أيضا الضرب على أيدي المفسدين، ومنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا.
ولذا كانت آية القصاص في ترتيب التنزيل وراء آية البر، لأن كليهما في بناء الجماعات الإسلامية، ونفي ما يهدد بنيانها، وإن العرب في الجاهلية كانوا لا يقتصون من الجاني، وإنما يثأرون من القبيلة، والدماء فيهم لا تتكافأ في نظر العصبية الجاهلية، فإذا قتل رجل من عامة الناس رئيس قبيلة لا يقتل القاتل أو لا يكتفى بقتله، بل يقتل من يكافئ رئيس القبيلة، وقد يقتل بالواحد مئات لكي يتكافئوا مع من قتل، وهكذا كان قانون الغلب، وقانون العصبية لا قانون القصاص العادل هو الذي يحكم، وكان ذلك ناشئا من العصبية أولا، وفرض التفاوت ثانيا، والثأر الذي لا عدل فيه ثالثا.
جاء القرآن الكريم ليمحو هذه العادة الجاهلية، وإثبات أن الناس جميعا سواء، وأن المسلمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :( تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم )١، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لا يكون أقوياء أمام من سواهم إلا بالعدل الذي لا يفرق بين شريف وضعيف.
وجاءت هذه الآية الكريمة لرد هذه العادة الأثيمة فقال تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾، وكتب معناها فرض فرضا مؤكدا مسجلا، لا مرية فيه، والفرضية على الجماعة الإسلامية كلها، فيفرض على الحاكم أن يقتص من القاتل أو المقتول بشكل عام، وفرض على القاتل أن يقدم نفسه، وفرض على ولي الدم أن يطالب بالدم، أو يعفو حتى لا يطل دم قط في الإسلام، وفرض على الجماعة كلها أن يعين ولي الدم ليقتص القاضي من المعتدي، ولو كان ولي الأمر، فقد قرر الفقهاء على ضوء هذه الآية أن ولي الأمر، ولو كان الجامعة الأعظم إذا قتل شخصا بغير حق، وأراد ولي الأمر القصاص وجب على الأمة مجتمعة أن تعينه على القصاص فإنه لا يطل دم قط في الإسلام كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه٢.
والقصاص مصدر قاص، وهو المساواة وتتبع الأثر، وقد كتبه الله تعالى بأن يؤخذ الجاني بما جنى، وتكون العقوبة مساوية للجريمة، وأساس الإسلام في قواعده العامة، وإن ذلك هو العدل، وهو أردع للجاني، لأنه إذا علم أنه سينزل مثل ما نزل بالجاني، فإنه يتردد في الارتكاب ثم يعدل، ولقد قال بعض علماء الاجتماع والقانون : إن العقوبة إذا اشتقت من الجريمة كانت رادعة إذ تجعل المجرم يحس بأنه نازل به مثل إجرامه.
وقد فصل الله تعالى حكم القصاص، فقال تعالت كلماته :﴿ الحر بالحر ﴾ أي الحر يقتل في مقابل الحر، ﴿ والعبد بالعبد ﴾ والعبد يقتل في مقابل العبد، ﴿ والأنثى بالأنثى ﴾ والأنثى تقتل في مقابل الأنثى.
هذا هو العدل، وهو رد على الجاهليين الذين كانوا لا يسوون في الدماء، فالعبد إذا قتل حرا من قبيلة أو الحر إذا قتل حرا من قبيلة، وكان الأول من دهماء الناس، وكان الثاني من أشرافهم لا يقتل به بل يبحث عمن يكافئه وربما لا يكافئه واحد، وذلك من العصبية الجاهلية، ومن نظام التفاوت الذي لا يزال يسري بين الناس مقيتا، وإن كان مألوفا.
وبين القرآن حال المساواة في الوصف من حرية ورق، وذكورة وأنوثة، ولم يذكر إذا اختلف الوصف أو الجنس بأن قتل الحر العبد، والعبد الحر، والمرأة الرجل، والرجل المرأة، وذلك لأن النص سيق لإبطال العادة الجاهلية التي كانت تقتل غير القاتل، وتتعدى القاتل إلى قبيلة، وغير الشريف في زعمهم إذا كان هو القاتل إلى شرفائها، فرد الله تعالى زعمهم، وصحح الأمر في هذا المقام بالقصاص العادل.
أما التساوي في النفوس لا في الأوصاف، فقد ثبت بقوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص... ٤٥ ﴾ [ المائدة ]، ﴿ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف... ٢٧٥ ﴾ [ البقرة ].
وثبت أيضا بقوله تعالى بعد أن ذكر قصة ولدي آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل لأنهما قدما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ﴿ قال لأقتلنك... ٢٧ ﴾ [ المائدة ] إلى أن قال :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله... ٣٠ ﴾ [ المائدة ]، بعد هذه القصة التي تصور الاعتداء في أقبح صورة، قال الله تعالى :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا... ٢٣ ﴾ [ المائدة ].
وقد تقرر بذلك القصاص على أساس تساوي النفوس، وعلى ذلك يقتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والعبد بالحر، والحر بالعبد.
ولكن ترد هنا أسئلة من حيث شمول هذه الآية، والآيات التي تلونا للصور الآتية :
أولا : تكافؤ الدم بين المسلم والذمي، أيقتل المسلم بالكافر ؟، قد اتفقوا على أن الكافر إذا قتل المسلم قتل به، ولكن كان الأكثرون على ألا يقتل المسلم بالكافر لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لا يقتل مسلم بكافر )٣ ولعدم التكافؤ بين دم في أصله مباح، ودم في أصله حرام.
قال أبو حنيفة والثوري : يقتل المسلم بالكافر إذا قتله عمدا بمحدد، وذلك لأننا أخذنا عليهم العهد بأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولأننا أعطيناهم العهد بحقن دمائهم ولو لم يقتص لهم لكان في ذلك إخلال بالعهد، ولأنهم وقد عقدوا الذمة معنا صار دمهم حراما كدمنا، ولأننا إذا وجد من يسرق الذمي قطعنا يده، ومؤدى ذلك أن ماله غير مباح فبالأولى دمه.
ثانيا : إذا قتل الحر العبد أيقتص منه ؟ قال جمهور الفقهاء : لا يقتص لأنهما ليسا سواء فالعبد مملوك والحر مالك ولأنه لا ند، والعبد شيء يقوم بقيمته فإذا قتل به الحر وهو ليس بمال لا يكون عدلا، لأن الإنسان لا يقتل في نظير مال.
ولكن قال الإمام أحمد ونفاة القياس والثوري وبعض الكوفيين : إن الحر يقتل بالعبد إذا قتله، لأنه نفس والإسلام جعل أساس القصاص المساواة في النفوس، وقال عليه الصلاة والسلام :( النفس بالنفس ) وهؤلاء الذين قالوا إن الحر يقتل بالعبد قالوا : إن المالك يقتل إن قتل عبده، لما ذكرنا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي وأبو داود :( من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن أخصاه خصيناه )٤ وقد أخذ به البخاري وارتأى ما اشتمل عليه الخبر صحيحا، فكان تصحيحا ضمنيا له٥.
ولما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من إكرام للرقيق، وفوق ذلك فإن الأساس هو المساواة في النفس، وهي ثابتة فكان القصاص حقا على الحر إذا قتل عبدا، وعلى المالك إذا قتل عبده.
ثالثا : إذا قتل الجماعة واحدا فهل يؤخذون به ؟ فجمهور الفقهاء أقروا على أنهم يقتلون به لأنه ما داموا قد اشتركوا في القتل فقد قتل كل واحد منهم فيؤخذ بحكم القصاص، وإن تعددوا، وبهذا الاعتبار يكون التساوي لا بين الجماعة مجتمعين، بل بين كل واحد منهم، واستحق كل واحد منهم القصاص عليه.
ولأنه لو لم نقتل الجماعة بالواحد، لأهدرت الدماء، وإذا رأى واحد قتل شخص فقد تضافر مع غيره من الآثمين فيقتلون، وإن الآثار من الصحابة قد أقرت قتل الجماعة بالواحد، وقد روي عن الإمام عمر رضي الله تعالى عنه أن سبعة قتلوا واحدا، فقتلهم به، وقال كلمة حازمة : لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم به.
وقتل علي كرم الله وجهه جماعة من الخوارج لقتل عبد الله بن خباب بن الأرت، فإنه عندما أخبر الإمام علي بذلك قال الله أكبر، فدعاهم وقال لهم : أخرجوا إلينا قاتل عبد الله، فقالوا : كلنا قتلناه، ثلاث مرات، فقال الإمام لأصحابه : دونكم القوم. فما لبث أن قتلهم.
واقتص علي كرم الله وجهه بذلك من قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت، هذا ما نرى أن الأخذ بالقصاص في الآية ينطبق عليه، وثمة فروع في القصاص كقتل الرجل ولده وعدم جواز القصاص بتركه، لأنه ليس تطبيقا للآية، ولكنه أخذ بحديث٦.
والقصاص بإجماع الفقهاء كما قرر القرطبي في أحكام القرآن يتولاه ولي الأمر بطلب ولي الدم، لقوله تعالى :﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ٣٣ ﴾ [ الإسراء ].
العفو
والآية الكريمة فتحت باب العفو، وهو من سلطان ولي الدم، فقال تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ﴾.
وفي هذا النص تحريض على العفو، لكيلا تنهار دماء المسلمين، ولكيلا تتأرث الأحقاد، ولينسل البغض ويعود التسامح بين المسلمين، ولأن جعل الحق للولي في القصاص يرهب الجاني، وقد يكون القصاص ضارا لولي الدم، كرجل قتل أخاه، وولي الدم أبوهما فإنه إن كان القصاص، وأغلق باب العفو، فإن الأب المكلوم يفقد الولدين معا.
ولذلك كان من التخفيف والرحمة أن يكون حق القصاص قابلا لعفو، وإنه إذا كان العفو كانت الدية كما قال كثيرون من الفقهاء، ودل على ذلك قوله تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ﴾ وهذا يدل ضمنا على وجوب الدية، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( أيما عبد أصيب بقتل أو خبل –أي جرح- فله إحدى ثلاث : القصاص أو الدية أو العفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه )٧.
وقوله تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ يدل على ثلاثة أمور :
أولها : التحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة التي لم يقطعها الاعتداء، لأنها برباط الله تعالى فلا يفكه العبد.
ثانيها : أن أي قدر من العفو يسقط القصاص، فلو تعدد الأولياء في درجة واحدة، وعفا أحدهم سقط القصاص.
ثالثها : أن التعبير بالبناء للمجهول يدل على تلمس العفو.
ثم قال تعالى :﴿ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ﴾.
أي إذا كان العفو، فالأمر ينتقل من إراقة دم جديد إلى أن يكون اتباعا للقاتل من غير إرهاق بالملازمة، بل الأمر الذي لا يستنكر في العرف وتتعاون أسرة القاتل في أدائه من غير غباب، وهذا من جانب ولي الدم، ومن جانب القاتل وأسرته يكون الواجب هو الأداء بإحسان، أي تكون نفوسهم سمحة، ويؤدون الدية في مواقيتها من غير لي، والإحسان الإجادة والإتقان وهو في مثل هذا المقام يكون بالمسارعة في الأداء والسماحة ولا مانع من الزيادة تطييبا للنفوس المكلومة.
والنص الكريم يفيد بالإشارة إلى أن الدية بدل من القصاص عند العفو، ولذلك ذكرت مترتبة عليه، وكأنه إذا كان العفو ننتقل من القصاص صورة ومعنى بقتل القاتل، إلى القصاص معنى وهو الدية، فالقصاص ثابت في الحالين، وإن اختلف الشكل.
ولقد قال تعالى :﴿ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ الإشارة إلى العفو بعد وجوب القصاص، فهو تخ
١ أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد: مسند المكثرين ﴿٦٥٠٦﴾ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذكره، وبنحوه أخرجه أبو داود في الجهاد ﴿٢٣٧١﴾ وابن ماجه: الديات ﴿٢٦٧٥﴾.
ورواه النسائي: كتاب القسامة ﴿٤٦٥٠﴾ من طريق أخرى قال: عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه فقلنا: هل عهد إليك نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا إلا ما كان في كتابي هذا فأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه: "المؤمنون تكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد بعهده من أحدث حدثا فعلى نفسه أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وأصله في البخاري ومسلم. وقد سبق في المقدمة..

٢ جاء في صحيح ابن خزيمة ﴿٢٣٧٢﴾ عن بشير بن يسار أن رجلا من أهله يقال له ابن أبي حثمة أخبره: "أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: يا رسول الله إنا انطلقنا إلى خيبر...". فذكر الحديث وقال في آخره: "فكره نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه ففداه بمائة من إبل الصدقة"..
٣ أخرجه البخاري: كتاب العلم ﴿١٠٨﴾، والترمذي: الديات ﴿١٣٣٢﴾، والنسائي: القسامة ﴿٤٦٥٣﴾، وابن ماجه: الديات ﴿٣٦٤٨﴾، وأحمد: مسند العشرة ﴿٥٦٥﴾، والدارمي ﴿٢٢٥٠﴾ من حديث علي رضي الله عنه..
٤ رواه النسائي بهذا اللفظ: كتاب القسامة ﴿٤٦٥٥﴾ وأبو داود. كما رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه والدارمي من غير "ومن أخصاه خصيناه" كلهم عن سمرة بن جندب. قال الحاكم في المستدرك ج١ ص٤٠٨ ﴿٨١٦٣﴾: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وله شاهد من حديث أبي هريرة..
٥ قال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بحديثه: "من قتل عبده قتلناه" وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل السيد بعبده. [راجع نيل الأوطار للشوكاني: الدماء – ج٧ ص٩]..
٦ راجع كتاب "العقوبة في الإسلام" للمؤلف دار الفكر العربي..
٧ عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصيب بقتل أو خبل يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم". رواه أبو دود: كتاب الديات ﴿٣٨٩٨﴾ ورواه أحمد ﴿١٥٧٨٠﴾ بلفظ: "من أصيب بدم أو خبل –الخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه، فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل، فله النار خالدا فيها مخلدا". ورواه ابن ماجه ﴿٢٦٢٣﴾، والدارمي ﴿٢٢٤٥﴾..
وإن شرعية القصاص على النحو الذي ذكره القرآن الكريم فيه حفظ للأنفس، وإشاعة للطمأنينة في النفوس وإرهاب للعصاة المتمردين على المجتمع، وإحساس بالراحة، ولذلك قال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ وإن هذه الكلمات السامية أبلغ تعبير عن آثار شرعية القصاص في الأمة.
والقصاص كلمة عامة يشمل القصاص في الأنفس الذي اختصت به آية القصاص، إذ قال تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ أما في هذه الآية ﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ فإن القصاص في الضرب واللطم على ما حققه فقهاء السلف، وأخذ به الإمام أحمد.
وفي قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ تعميم للقصاص مع تعريفه بأل التي تفيد الاستغراق، وتنكيره لكلمة حياة، والتنكير هنا للتعظيم، أي حياة سعيدة هادئة مطمئنة خالية من عبث السفاكين، واعتداء المعتدين واستهزاء المستهزئين. هي حياة كريمة تظهر فيها الفضيلة، وتختفي فيها الرذيلة، تحترم فيها الحقوق، وتحقق فيها الواجبات، يقام فيها العدل، ويختفي فيها الظلم، ويتحقق الاجتماع، ولا يكون التنابذ والافتراق فلا شيء يربط الحياة بين الجماعات والآحاد سوى العدل والحق.
وكلمة الله السامية :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ اشتملت على إيجاز القصر البليغ إلى ما لا يصل إليه إلا كلام رب العالمين، ولقد كان هناك مثل سائر في العرب، يقولون إنه أبلغ الكلام في إيجازه، وأعمقه في أدائه، وهو قولهم :"القتل أنفى للقتل"، وعقد بعض العلماء موازنة بينها، وبين الجملة السامية ﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ وقد استنكر ابن الأثير هذه الموازنة، لأنه لا يوزن كلام الله تعالى بكلام أحد من الناس، وعقد هواة الموازنة ربما يكون فيها تنزيل من مقام المعجز الذي لا يستطيع أحد من البشر أو الجن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وإن الموازنة انتهت بأنه لا يمكن المماثلة بين كلام العرب وكلام الله تعالى، وأنه بالنظرة العابرة نرى كلام الله تعالى في مكانة وكلام العرب في دركه، فنجد أولا التكرار في لفظ "القتل أنفى للقتل"، ولا تكرار في قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ ونجد أن الآية تدل على القصاص العادل، و"القتل أنفى للقتل" لا تدل على القتل العادل، بل تدل على مجرد القتل، ونجد أن القصاص يشمل القتل وقطع الأطراف، بينما كلمة العرب لا تدل إلا على القتل فقط، ونجد أن لفظ العرب لا يدل على حياة الجماعة، بينما أن النص القرآني السامي لا يدل فقط على نفي القتل بل يدل على قيام الحياة الكريمة من هذا القصاص العادل، وإن المقابلة بين القصاص والحياة الكريمة تبين منزلة العدالة في القصاص.
وهكذا نجد أوجه الإعجاز في هذا الإيجاز بما لا يمكن أن يصل إليه كلام مهما بلغت مكانته من البيان عندهم، فهي بلاغة تليق بكلام الإنسان، وتتقاصر عن أن تصل إلى كلام الديان، وكلام الناس يجري في مساره، ولا يصل إلى برج القرآن الأقدس، تعالت كلماته وتعالى منزله.
ولقد قال تعالى مخاطبا الذين يدركون ما في القصاص من ثمرة وهي الحياة العزيزة الآمنة الطاهرة من رجس الآثام وفسق الفساق واعتداء المعتدين، فقال تعالى :﴿ يا أولي الألباب ﴾ الألباب جمع لب وهو العقل المدرك الذي لا يكتفي في إدراكه بمظاهر الأمور، فهؤلاء أصحاب الألباب التي تغوص إلى الحقائق فتدركها.
ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ لعلكم تتقون ﴾، ولعل هنا للرجاء من الناس لا من الله تعالى، فالتقوى منهم وهو سبحانه وتعالى يتقبلها ويقرب بها عباده إليه سبحانه وتعالى، فالتقوى رجاء من عند الله تعالى أن يتقوا بها عذاب النار وأن يتقوا في جماعتهم كل ما يفرقها، ويعملوا على أن يقوا من شر فسق الفاسقين واعتداء المعتدين. والله سبحانه وتعالى ولينا، وهو نعم المولى ونعم النصير.
الوصية في الأسرة
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ١٨٠
بعد أن بين سبحانه بناء الجماعة الإسلامية بما ذكره في آية البر، وبين حماية الجماعة الإسلامية من آفات المجتمع من الاعتداء والتفريق بالقصاص بين سبحانه وتعالى بعض أحكام الأسرة التي تربط بينها بعد الوفاة، وبين في آية البر إيتاء ذوي القربى في حياته، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى الوصية بالإيتاء بعد وفاته.
فقال :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ﴾.
وقد قال بعض الفقهاء مناسبة الآية بعد آية القصاص فوق ما ذكرنا أن آية القصاص تفيد أن للولي أن يقتص فيكون هذا الذي يقتص منه قد حضرته الوفاة، فكان له أن يوصي، بما يوصيه، إذ قد حضره الموت، فيجب عليه أن يوصي، إن ترك خيرا.
وهذه أول آية ذكرت فيها الوصية، وقد ذكرت بعد ذلك في توزيع الميراث، وأنه يكون بعد وصية يوصي بها أو دين، ثم ذكرت في آخر المائدة عند الشهادة عليها، إن حضر الموت وهو في سفر.
وقوله :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ﴾ إلى آخر الآية، كتب تدل على الفرضية المؤكدة مما يؤكد به القول عادة وهو الكتابة المقيدة المسجلة.
وقد قال بعض الفقهاء : إن الوصية لمن كان عنده مال يسمى "خيرا" تكون واجبة، وقد احتجوا بما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )١ وإذا استدل على هذا بأن ذلك إذا أراد الوصية، فإذا لم يردها لا جناح عليه إذا لم يوص ولم يكتب، فنقول إنه بعد ذكر صيغة الوجوب، وهي "كتب" الدالة على الفرضية يكون الحديث دالا على الكتابة تنفيذا للفرضية وتأكيدا لها، وتثبيتا، وقال الأكثرون الوصية ليست واجبة في غير الودائع، والديون التي عليه، والصدقات التي وجبت ولم يؤدها، وقد اتفق الفقهاء على وجوب الوصية في هذه الأمور التي تكون حقا عليه، ولم يقم بأدائه في حياته فيوصي به بعد وفاته.
والظاهرية من نفاة القياس قرروا أن الوصية واجبة بظاهر الوجوب في قوله تعالى :﴿ كتب عليكم ﴾ وأنه إن لم يقم بذلك كان للقاضي أن يأخذ قدرا من الوصية يعطيه لمن يستحقه أي قدر كان.
وقد علق تعالى طلب الوصية على وجود قدر من المال يسمى "خيرا" فقال تعالى :﴿ إن ترك خيرا ﴾ وما المراد بالخير ؟ قال بعض العلماء : إن أي قدر من المال خير، لأن الله تعالى سماه خيرا فقال تعالى :﴿ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ٢٧٢ ﴾ [ البقرة ] وإن المال القليل يطلق عليه إنه خير، ولذا قال تعالى عن موسى عليه السلام :﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ٢٤ ﴾ [ القصص ] وإطلاق كلمة خير على المال قل أو جل لأنه سبيل للخير، وخلق المال لجلب الخير، ودفع الضر.
وروي عن كثير من الصحابة أن الخير المراد به في الآية الكثير كثرة نسبية بالنسبة لحال الورثة وعددهم. روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لها : إني أريد أن أوصي، قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف درهم. قالت : فكم عيالك ؟ قال : أربعة. قالت : إن الله تعالى يقول :﴿ إن ترك خيرا ﴾ وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك٢.
وروي أن عليا كرم الله وجهه دخل على رجل يعوده، فقال الرجل : أوصي ؟ فقال الإمام كرم الله وجهه :"قال الله تعالى :﴿ إن ترك خيرا ﴾ إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لأولادك"٣.
ويفهم من هذا أن المراد بالخير المال الكثير، وتقديره نسبي بحسب حال الورثة وحاجتهم وعددهم، ولذلك اختلف الصحابة في تقدير الكثرة فمعظمهم قدرها بما فوق الستين دينارا، وقدرها بعضهم بثمانين دينارا فأكثر، وروي عن قتادة أنه قال : ألف فما فوقها، أي من الدراهم. وهكذا نرى أن الكثرة من علماء الصحابة فسروا الخير بأنه المال الكثير الذي يتناسب مع حاله وحال ورثته وعددهم وأن أحدا من الصحابة لم يفسره بأنه أي مال.
ولم يقدر مقدار الموصى به، ولا دليل على تقدير قدر معين له، وقد ترك التقدير لتحقيق كلمة بالمعروف، أي الأمر الذي لا تستنكره العقول، وتعرفه وتقر به، وتعبير القرآن الكريم في قوله :﴿ بالمعروف ﴾ يدل على ما لا يستنكر في العرف والعادات، المستقيم الذي يضع الأمور في مواضعها ويزنها بميزان الحق.
وقوله تعالى :﴿ للوالدين والأقربين بالمعروف ﴾ وقد ذكرنا معنى بالمعروف، وقد كان النصب يوجب على من يقول بالوجوب الوصية للوالدين والأقربين وذكر الوالدين أولا، لأن الله تعالى أوصى بالإحسان إليهما وأكد الإحسان ولو كانا مشركين وقال تعالى :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا... ١٥ ﴾ [ لقمان ].
والأقربون من الأقارب هم الذي تدنو قرابتهم أكثر من غيرهم كالإخوة والأخوات والأبناء والبنات، وغيرهم من ذوي العلاقات المباشرة بالقرابة كالعم وابن الأخ.
وهنا يثور بحث أيوصى لها وجوبا بالمعروف، ولو كان لهم ميراث مقرر في آية المواريث، والميراث فريضة محكمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث )٤.
لقد قال الأكثرون من الفقهاء : إن هذه الآية إنما يؤخذ بها إذا كان هؤلاء غير وارثين كما كان الأمر في أول الإسلام إذا أسلم وأبواه مشركان، وكما كان من بعد من تزاحم الورثة أو تقديم بعضهم على بعض، كأن يكون له أخت شقيقة أو لأب، وله ابن، فإن الأخت لا ترث وهي من الأقربين، وكذلك أخوه، لأن الابن حجبه ففي الحال إذا كان الأخ ذا حاجة كمتقدم السن فإنه يوصى له.
ولذا قال هؤلاء الغلبة من الفقهاء إنه يجمع بين آية الوصية وآية المواريث وتكون آية الميراث مخصصة لآية الوصية بأنها في غير الوارثين من الأقارب.
هذا ما عليه الجمهرة العظمى من الفقهاء، ولا يقال إن آية الميراث نسخت آية الوصية، لأنها بقيت شريعتها في غير الوارثين، وهي في ذاتها سير لما عساه يكون من حاجة عند بعض الأقارب الأقربين الذين لم يصل إليهم تقسيم الميراث ويكون هذا هو العدل، وهو البر والرحمة بذوي قرباه.
ويرى بعض الفقهاء أنه لا تعارض لا في الكل ولا في الجزء بين آيات الميراث، وآية الوصية، فآية الوصية في الثلث يوصي به لمن يراه أشد حاجة وأقوى قرابة، والميراث في الثلثين، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم )٥.
ولقد قال ذلك القول من الشيعة الجعفرية، وقالوا : إنه حديث ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث إلا بالثلث ). ولعلهم عللوا ذلك بأن بعض الورثة ربما لا يسد نصيبه حاجته، فالأخ قد يكون ذا متربة فلا يسد نصيبه حاجته، وقد يكون أحد الورثة زمنا مريضا بمرض لا يرجى البرء منه، وهو في حاجة إلى أكبر من نصيبه، فيوصى له بما يكمل حاجته وقد شرع الله تعالى الوصية لتكميل ما عساه يكون في توزيع الميراث من رأب يجب سده.
وقد أخذ القانون المصري برأي الإمامية في جواز الوصية.
ونقول إن الاعتبار في حال الأخذ بجواز الوصية للوارث أن يكون ذلك بالأمر المعروف الذي لا يستنكره الشرع ولا يستنكره العقل، فإن فعل فقد ارتكب إثما، فلا يوصي لابنه الغني، أو الذي يكون من الزوج المحبوبة ويترك الآخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"سووا بين أولادكم"٦ أو يوصي لابنه، ويترك ابنته فإن الوصية للوارث مهما يكن مبررها هي مخالفة للميراث، أو استثناء من أحكامه ويستقيم الاستثناء إذا كان في بر وعدل، لا في قطيعة وإثم.
وإن القاعدة الشرعية في الأمور الاستثنائية أو الاستحسانية التي تجيء على خلاف القاعدة أن تكون مكملة للقاعدة أو الأصل العام والباعث عليه، غير مناقضة له.
ولقد أكد سبحانه طلب الوصية، فقال تعالى :﴿ حقا على المتقين ﴾ وحقا في الآية مفعول محذوف يقدر بما يناسب القول أو الحكم، فيقدر مثلا يجعلها الله حقا، أو أوجبه حقا على المتقين.
وإن اقتران حكم الوصية الدال على وجوبها للوالدين والأقربين يومئ إلى أنها محكمة لا تنسخ، لأن الله تعالى لا يؤكد حكما جرى في علمه المكنون أنه سينسخه ذلك التأكيد.
وهو يدل على الوجوب ويؤكده، وذكر الوجوب على المتقين للإشارة إلى أنهم الذين يطيعونه اتقاء غضب الله سبحانه وتعالى وابتغاء رضوانه، وإلى أنهم يسارعون بإجابته، وأنهم ينفذون في دائرة المعروف غير المنكور.
١ متفق عليه، أخرجه البخاري: الوصايا ﴿٢٥٣٣﴾ ومسلم: الوصية ﴿٣٠٧٤﴾ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما..
٢ عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق –رضي الله عنهما- قالت: قال لها رجل: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، فقالت: قال الله سبحانه: ﴿إن ترك خيرا الوصية... ١٨٠﴾ [البقرة] وإن هذا لشيء يسير، فاتركه لعيالك فهو أفضل. [روه البيهقي في السنن الكبرى: باب من استحب ترك الوصية إذا لم يترك شيئا كثيرا ﴿١٢٧٢٧﴾]..
٣ رواه البيهقي: كالسابق ﴿١٢٧٢٦﴾ عن هشام بن عروة، بلفظ: أن الله تعالى يقول: ﴿إن ترك خيرا الوصية... ١٨٠﴾ [البقرة] وإنك إنما تدع شيئا يسيرا، فدعه لعيالك، فإنه أفضل..
٤ عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: "إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. الولد للفراش وللعاهر الحجر وحسابهم على الله، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة. لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها". قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: "ذلك أفضل أموالنا"، ثم قال: "العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم". رواه بهذا اللفظ الترمذي: كتاب الوصايا ﴿٢٠٤٦﴾ ورواه أبو داود مختصرا: كتاب البيوع ﴿٣٠٩٤﴾ ورواه ابن ماجه بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"..
٥ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم" [رواه ابن ماجه: كتاب الوصايا: الوصية بالثلث ﴿٢٧٠٠﴾ وأحمد عن أبي الدرداء ﴿٦٢٢١٠﴾ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم"..
٦ عن الشعبي قال: سمعت النعمان ﴿هو ابن بشير﴾ على منبرنا هذا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سووا بين أولادكم في العطية، كما تحبون أن يسووا بينكم في البر" [ شرح معاني الآثار: كتاب الهبة والصدقة ج٤ ص٥٨]..
وإن الوصية تكون عطاء من رجل فإن يتركها لمن بعده من ذوي قرابته أو الاتصال به، وهي تكون وديعة بين أيديهم، هي وديعة ذلك المتوفى الذي صار لا يملك من أمره شيئا، وهي أيضا وديعة الله إذا كانت في سبيل الخير الذي يرضاه الله تعالى، ولذا نهى الله تعالى عن تبديلها، وقال الله تعالى :﴿ فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ وهذا يدل على أن التبديل إثم ممن يقع منه التبديل سواء أكان وصيا في التركة أم كان وصيا على الورثة الضعفاء أم كان شاهدا، أم كان قد أودع الوصية، وبعبارة عامة، كل من يكون في قدرته التبديل والتغيير في موضوعها، أو في مقدارها، أو في مستحقها، ولا يقال إن التبديل من الموصي نفسه للسياق، إذ يقول ﴿ بعدما سمعه ﴾، أي القول الدال على الوصية، والموصي لم يسمع القول بل قاله، متفق عليه أن الموصي له أن يغير في الوصية، ويبدل ما دام حيا، لأنها تصرف غير لازم، ولا تنفذ إلا بعد وفاة، ولا يأثم إلا إذا غيرها من خير إلى غيره، ولا يكون الإثم إلا من قصد الشر.
وكان التبديل إثما لأنه خيانة للموصي الذي استودعه أسراره، ولأنه اعتدى فغير وبدل فيما لا يملك التغيير، ولأنه كشاهد الزور الذي يشهد بغير ما يعلم أنه الحق، ولأنه يفوت الخير المعروف الذي قصده الموصي بوصيته.
وقوله تعالى :﴿ فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ الفاء هنا واقعة في جواب الشرط، و"إنما" دالة على القصر، أي فإن الإثم واقع على الذين يبدلونه، وليس على الموصي وزر فيما فعلوه، فقد احتسب الخير ونواه، وأراد تنفيذه، وليس عليه وزر الذين غيروا وبدلوا.
وقوله تعالى :﴿ على الذين يبدلونه ﴾ بواو الجمع، وقد يكون الذي غيره واحدا، للإشارة إلى أن ذلك التغيير عادة يكون من الورثة الذين يريدون أن يغيروا إرادة المورث، ففي التعبير بواو الجماعة إشارة إلى ائتمار منه ولا ينسب إلى واحد يتحمل وحده الوزر، بل يتحملون جميعا الوزر.
ولقد هدد الله تعالى أولئك المغيرين المبدلين المناعين للخير، بقوله تعالى :﴿ إن الله سميع عليم ﴾ أي أنه سبحانه وتعالى سميع لأقوالهم التي غيروا بها وبدلوا، ومنعوا الخير عن صاحبه، وعليم بكل شيء، عليم بالوصية الحق التي كتبها الموصي، وعليم بمن غير وبدل وهو المتصف بالعلم الكامل، وهو الذي أحاط بكل شيء علما سبحانه وتعالى.
وإن ذلك إنذار شديد لمن يغير.
وقد أكد سبحانه الكلام بإن المؤكدة، والجملة الاسمية، وذكر اسم ﴿ الله ﴾ سبحانه وتعالى العالم بكل شيء.
وإنه قد يكون الموصي ظالما، أو ميالا لظلم، أو يريد إثما لوصيته كمن يوصي في موضع، أو يعين في وصيته على إثم فهل تنفذ هذه الوصية، وهل يجوز تغييرها ؟ قال الله تعالى في ذلك :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ﴾.
الخوف يكون في الأمر المتوقع فيخاف أن يقع، فتقول أخاف أن تفعل كذا، إذا كنت تتوقع الفعل المخوف، كما قال يعقوب :﴿ وأخاف أن يأكله الذئب... ١٣ ﴾ [ يوسف ]، أو رأيت بوادره من قول أو فعل أو نحو ذلك، والجنف الميل إلى ناحية الظلم، وهو ضد الحنف فهو الميل إلى ناحية العدل فقوله تعالى :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما ﴾ معناه من خاف من موص ميلا إلى ظلم، أو توجها خطأ إلى ظلم أو إثما مقصودا فأصلح بينهم أي بينه وبين ورثته وحمله على الاتجاه إلى العدل والخير، أو قصد إثما بأن أوصى لبنيه دون بناته أو أراد أن يوصي في معصية، أو في ناحية لا خير فيها، فحملوه على اختيار ما لا معصية فيه ولا ظلم، وله فضل الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر وفضل الصلح والصلح خير، وفضل منع الظلم، ومنع الظلم خير لا شك فيه.
وإن مثل هذا عمل عام يجب القيام به على عامة المؤمنين، وإن قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، وإنه يجب على والي الحسبة القيام بالإصلاح في هذه الوصايا التي تجنف لإثم والقاصدة الإثم.
وإذا كانت الوصية فيها جنف لإثم أو تعمد لإثم، ومات الموصي مصرا عليها، كأن يوصي لغير قرابته، وهم أغنياء، وفي قرابته فقراء فإنه إن حولت الوصية إلى فقراء ذوي قربا كان أولى لأنها عدلت إلى الخير.
وقد روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن معنى الآية من علم بعد موت الموصي جنفا أو تعمد إيذاء بعض فأصلح ما وقع من الإثم وما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم أي لا يكون إثم التبديل، بل يكون له ثواب الإصلاح. وروى النسائي أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته، وليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب من ذلك وقال :( لقد هممت ألا أصلي عليه )، ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة١، وقد أخرج مسلم هذا الحديث.
وقد اشترط في نفاذ الوصية ألا يكون فيها مضارة، فلقد قال تعالى :﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار... ١٢ ﴾ [ النساء ] وقرر مالك أن كل وصية فيها مضارة تكون باطلة.
هذا وقد اتفق الفقهاء على أن الوصية بمعصية تكون باطلة، وكذلك الوصايا التي تكون الباعث عليها معصية من المعاصي كأن يوصي لخليلته لتبقى معه على العشرة الحرام، وإن تكلموا في مدى قوة الباعث.
وفي الجملة أن الآية الكريمة تدل على أنه لا إثم على من بدل وصية آثمة فحولها إلى الخير، أو أبطلها إن لم يمكن تحويلها، وإن ذلك يكون للقضاء أو لوالي الحسبة.
ولأن التبديل لا يكون في دائرة الإثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي إن الله تعالى بالغ الغفر، غفار للموصي أن هم وعدل، وغفار لمن أصلح ونجح، ولا يأثم من غير بعد الوفاة، وحولها من جنف إلى عدل، وأن الله يرحم الموصي ويرجى ألا يؤاخذه ما دام لم يتم ما أقدم عليه، وقد أكد سبحانه الغفران والرحمة بصيغة الغفور الرحيم، وبأن المؤكدة، وبالجملة الاسمية. اللهم اجعلنا ندخل في غفرانك، ونحن في رحمتك.
١ رواه بهذا اللفظ عن عمران بن حصين النسائي: كتاب الجنائز –باب من يحيف في وصيته ﴿١٩٣٢﴾، ورواية مسلم عنه أيضا بلفظ: "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا". [كتاب الأيمان –باب من أعتق شركا له في عبد ﴿٣١٥٤﴾]..
الصوم
ذكر الله تعالى في آية البر، أن من البر إتيان المال مع حبه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأشار إلى الجهاد، ولم يذكر الصوم والحج، وقد ذكر هنا الصوم، وسيذكر من بعد الحج في محكم آياته، وبذلك تجتمع الأركان الخمسة التي هي عماد الإسلام، وهي الإيمان بالله وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
وقد بين الله تعالى صوم رمضان في هذه الآيات الكريمات التي تلوناها ونتكلم في معناها الآن، قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ كتب بمعنى فرض لأنه قرره الله تعالى، وكتبه حتى صار مكتوبا على المؤمنين، وقد أكد سبحانه الفرضية بقوله تعالى عليكم، وبأنه شريعة النبيين أجمعين، ولذا قال تعالى :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ وأنه سبيل لتقوى النفس، ولذا قال :﴿ لعلكم ﴾ وذكر أنه أياما معدودات معروفة القدر، مبينة الابتداء والانتهاء، وقد بينها سبحانه وتعالى في قوله تعالت كلماته :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾.
والصوم في اللغة الإمساك، وذلك كقول مريم فيما حكى القرآن :﴿ فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ٢٦ ﴾ [ مريم ]، والصوم في المعنى الديني القرآني الظاهر هو الإمساك عن الطعام والشراب، وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما قال تعالى فيما سيأتي :﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل... ١٨٧ ﴾ [ البقرة ] بهذا النص الكريم يحد الصيام من طلوع الفجر، حتى يدخل الليل وذلك بغروب الشمس.
كتب الصوم على الذين آمنوا فهو فرض مؤكد، وقد قال :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ من أهل الديانات السماوية كديانة موسى عليه السلام، وديانة عيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتشبيه كما قال معاذ بن جبل من فقهاء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم : التشبيه واقع على أصل الصوم، لا على صفته وعدد أيامه. وهذا يكفي في التشبيه فهو يثبت أن الصوم شريعة في الشرائع السماوية كلها، وهذا يدل على كمال فرضيته، وأنه لا يختص بالمسلمين وحدهم بل يعم الديانات السماوية كلها.
وقد بين الله تعالى حكمة شرعيته الأزلية الباقية بقوله تعالى :﴿ لعلكم تتقون ﴾ أي رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين، فتتقوا المعاصي، وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم، وذلك لأن الصوم يربي النفس على الضبط، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها وحيث قويت الإرادة قوي سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات، ولذاك كان من آدابه المكملة له أن يمتنع عن المحظورات كلها فلا يسب ولا يقول الزور، ولا يعمل به، ولا يجترح المنهيات بلسانه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )١ وقال صلى الله عليه وسلم :( الصوم جنة )٢ وإن الصوم بهذه المعاني الجليلة المهذبة للنفس الضابطة للإرادة كان من أعظم العبادات عند الله تعالى، ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه :( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )٣، وكان الصوم من بين العبادات مختصا بأنه لله تعالى، لأنه تجرد روحي، وانخلاع من الأهواء والشهوات وعلو بالنفس الإنسانية عن العالم المادي وشهواته وهو سر بين العبد وربه.
١ أخرجه البخاري: كتاب الصوم ﴿١٧٧٠﴾ عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد..
٢ متفق عليه، أخرجه البخاري: باب فضل الصوم ﴿١٧٦١﴾، ومسلم ﴿١٩٤٣﴾ عن أبي هريرة –رضي الله عنه- بلفظ: "الصيام جنة"، وفي بعض رواياته عند الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي بلفظ: "الصوم جنة"..
٣ متفق عليه، أخرجه البخاري ﴿١٧٧١﴾، ومسلم ﴿١٩٤٤﴾ عن أبي هريرة –رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه"..
وحد الله سبحانه وتعالى مقدار الصوم بأنه أيام معدودات ليست كثيرة، ولا مرهقة، ولكنها في مؤداها جليلة وهذه الأيام المعدودات التي لا تتجاوز الحسبة هي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
وإن الصيام في هذه الأيام المعدودات فرض، رخص فيه لذوي الأعذار أن يفطروا ويؤدوا بدل الأيام ولذا قال تعالى :﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام ﴾.
العدة العدد من الأيام، وقال أحمد : إن هذه العدة تبتدئ من وقت قدرته على الصوم بعد رمضان، وأوجب الشافعي أن تكون في السنة التي يكون فيها رمضان، وقال أبو حنيفة : إن القضاء واجب على التراخي وهو يقدر، ويحسن أن يكون عند القدرة، والمرض الذي يبيح الإفطار قسمان : أحدهما : المرض الذي لا يسع المريض فيه أن يصوم قط، وهذا بالاتفاق يسوغ الإفطار والقضاء، والقسم الثاني– مرض يمكن معه الإفطار والصوم، ولكن الصوم يكون بمشقة زائدة عن المعتاد من المشقات التي يجيز الشارع احتمالها، وقالوا إنه الصوم الذي يزيد المرض شدة، أو يطيل مدته، أو يخبر طبيب مسلم عادل بأن الصوم يضره لوجود هذا المرض.
والسفر الذي يجيز الإفطار اختلف فيه الفقهاء باختلاف أنظارهم في السفر الذي يوجد مشقة توجد الرخصة، فقيل سفر يوم وليلة : وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام، بالسير المعتاد للإبل بحيث يسير نصف النهار، ويستريح النصف الآخر وإن السفر بدابة على هذا المعنى مشقة ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : لولا الأثر لقلت العذاب قطعة من السفر، والأثر الذي يشير إليه حبر الأمة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم :( السفر قطعة من العذاب )١ ولا شك أن الانتقال في الصحراء ينطبق عليه ذلك الوصف.
وهنا يثار بحث : أيكون الأفضل في المرض والسفر الفطر، أم الصوم ؟ وقد أجاب عن ذلك بعض العلماء بأنه إذا لم يجد مشقة شديدة في المرض يكون خيرا أن يصوم، ولا يكون معاندا لرخصة الله تعالى، ولكن يكون محتاطا في معنى المرض الذي يسوغ الرخصة، وإلا فالرخصة أفضل، وكذلك في حال السفر، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد، فالأفضل الصوم، ويكون ذلك ليس معاندة للرخصة.
والسفر المجرد في هذه الأيام لا مشقة فيه، ولذا أرى أن الأفضل الصوم، من غير أن نقرر وجوبه حتى لا نكون معاندين لرخص الله، فإن الله تعالى يجب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه.
والسفر أقسام ثلاثة : سفر لجهاد في سبيل الله، وهذا لا يحسن فيه الصوم، والا خالف السنة وعارض الرخصة، لأن الله تعالى اختبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان وهما غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، كانت الأولى في السابع عشر من رمضان، والثانية في الثالث عشر، وقد أفطر فيهما النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن معه من المجاهدين.
والقسم الثاني : السفر في مباح كالتجارة، والانتقال من بلد إلى بلد للإقامة ويترك الأمر فيه إلى المسافر على النحو الذي ذكرناه، إن وجد المشقة شديدة أفطر وإلا صام وينطبق عليه رأينا في السفر في السكة الحديدية.
القسم الثالث : السفر للمعصية، وكثيرون من الفقهاء لا يرون أن الرخصة تشمله لأنه عاص بسفره، والرخصة نعمة، والمعصية لا تبرر النعمة.
وهناك عذر يبرر الإفطار من غير قضاء ولكن تكون فدية هي طعام مسكين يوما، وقد قال الله تعالى فيه :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة.. ، فقوله تعالى :﴿ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به... ٢٨٦ ﴾ [ البقرة ] معناه ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا.
والمعنى على ذلك لقوله تعالى :﴿ وعلى الذين يطيقونه ﴾ أي يتكلفونه مشقة هي أقصى الطاقة لا يستطيعون المداومة عليها، وهم الشيوخ الفانون الذين تقدمت سنهم، وقد قال ابن مسعود في تفسير "يطيقونه" أي يصلون إلى أقصى المشقة، ولا أمل لهم، في قضاء وقال ابن عباس : إن قوله تعالى :﴿ وعلى الذين ﴾ نزلت في الشيخ والشيخة إذا كانا لا يصومان إلا بمشقة..
وقد أفطر أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما طال عمره، فأفطر سنتين في آخر حياته، وكانت الجفان تقام لإطعام المساكين ثلاثين جفنة لثلاثين مسكينا على عدد أيام الصوم.
ولقد قال تعالى بعد ذلك :﴿ فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾.
﴿ فمن تطوع ﴾ الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا، أي فمن قصد الطاعة، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة، فالتطوع هنا ليس النافلة كما قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها، بل تخضع للغة، والآثار النبوية فقط، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا، فهو خير له وقوله تعالى :﴿ وأن تصوموا خير لكم ﴾ تحريض على القيام بالواجب المفروض الذي كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم ولا شك أن أداء الواجب خير عظيم، وقال تعالى :﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم، وما الواجب عليكم، وقد ذكر سبحانه التعليق ب "إن" حثا على طلب علم الغاية من فرضية الصيام وهو تربية نفوسكم على الصبر، ولقد ورد أن الصوم نصف الصبر، والصبر صفة المؤمنين، كما أشرنا من قبل.
ويلحق بذوي الأعذار الحامل والمرضع، وقد اختلف في شأنهما أهما ملحقان بالمرضى مرضا قريب البرء فيكون لهما الإفطار وعليهما عدة من أيام أخر، إذ هما كحال المريض الذي يصعب الصوم عليه، ويضره الصوم، أو يضر ما في أرحام الحوامل، ومن يتغذى منهما، ونظر آخرون إلى أن المرأة الولود، وهي التي ينبغي التزوج منها، إما أن تكون حاملا، وإما أن تكون حائلا، وفي هذه الحال تكون مرضعا فتتردد بين الإرضاع والحمل، ولا فرصة لأن تكون لها عدة من أيام أخر، ولذلك تدخل فيمن لا يطيقون، ويكون عليهن فدية، وروي عن ابن عباس : لا فدية، وتكون كالمريض بمرض مزمن إذا كان لا يجد ما يفدي به، يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر.
١ متفق عليه، أخرجه البخاري: كتاب الحج ﴿١٦٧٧﴾، ومسلم: كتاب الإمارة ﴿٣٥٥٤﴾ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فاذا قضى نهمته فليعجل الى أهله"..
وبعد أن بين سبحانه وتعالى فرضية الصوم أياما معدودات ذكر الله تعالى تلك الأيام وعينها بشهر رمضان، فقال تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾.
أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي كان أول نزول القرآن فيه، فقد أنزله تعالى في ليلة القدر وهي في العشر الأواخر منه، كما قال تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ١ وما أدراك ما ليلة القدر٢ ليلة القدر خير من ألف شهر ٣ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ٤ سلام هي حتى مطلع الفجر ٥ ﴾ [ القدر ].
وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم، لأنه نزل فيه القرآن فيه تذكير بمبدأ الوحي، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، ونعمة إرسال نبي الرحمة، فقد قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ١٠٧ ﴾ [ الأنبياء ].
ولقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ما خلاصته : أنه في شهر رمضان نزلت هداية الله تعالى من السماء إلى الأرض فناسب ذلك أن يفرض فيه الصوم، لأن الصوم فبما فيه من إمساك عن شهوتي البطن والفرج، وفيه علو من الأرض إلى السماء بالتجرد الروحي الذي كان في الصوم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الذي هو احتفال بذكرى البعث المحمدي :( إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه احتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )١.
وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس، فقال :﴿ هدى للناس ﴾ أي حال كونه هاديا للناس، لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهو معجزة الله تعالى الكبرى وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية، وهو مع ذلك فيه آياته البينات، ولذا قال تعالى :﴿ وبينات من الهدى ﴾ أي إن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل، والظلم والعدل والشورى والاستبداد، والإصلاح والإفساد، وعمران الأرض وخرابها.
هذا شهر رمضان شهر البركات، ولقد بينه سبحانه وتعالى، والابتداء يرمز إلى الانتهاء فقال تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ وقد تكلمنا في أعذار المرض والسفر والعجز في الآيات السابقة.
وقال تعالى في ابتدائه ﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾، ويريد سبحانه بالشهر هنا هلال رمضان، وشهده أي حضره ورآه، وعبر عن الهلال بالشهر، لأن العرب كانت ترى الهلال ويراد الشهر عرفا عندهم، وهذا في الأصل مجاز، والمجاز إذا اشتهر صار عرفا وإطلاق الشهر وإرادة الهلال من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، وذلك من علاقات المجاز المرسل، لأن الهلال أمارة ابتداء الشهر، فكان جاريا مجرى السبب، ولأن الاعتبار بالرؤية، والرؤية لا تكون إلا لمحسوس والشهر عدد من الأيام يعد بالحساب، وذلك معنى نعيش فيه ولا نراه، والهلال هو الذي يرى فكان التعبير بالشهر عنه تعبير بالمدلول على الدال الذي يرى ويعلن الابتداء.
وإذا كان الهلال دليل الابتداء فهو الذي نيط به الوجود، فيكون دليلا على الانتهاء، برؤية هلال الشهر فهو دليل الابتداء والانتهاء معا، ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال :( صوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )٢ وهذا النص يدل على أمرين :
أولهما : أن الصوم يجب عند رؤية الهلال، في ابتداء الشهر، والفطر عند رؤية هلال شوال أي الشهر الثاني، وإنه إن غم أولا أو آخرا فتكمل العدة ثلاثين يوما، فإن غم الهلال أولا أكمل عدة شعبان ثلاثين وذلك بعد ارتقاب الهلال في التاسع والعشرين من شعبان، فتكمل ثلاثين إن غم، وكذلك هلال شوال إذا غم تكمل عدة رمضان.
الأمر الثاني : الحديث يدل على أن الهلال واحد، وذلك أنه القمر في أول منازله، والقمر واحد، في كل الشهور وفي كل شهر يتغير من هلال حتى يصير بدرا، ثم يتغير من بعد ذلك حتى يكون المحاق، ويرتقب من بعد ذلك الهلال، فالأخير، والأول واحد.
ويثار في هذا الموضوع أمران :
أولهما : إذا غم الهلال تعرف الهلال أولد أم لم يولد بالحساب، وقد كان معروفا بتتبع أدوار القمر في منازله من حاله هلالا، حتى يصير بدرا، ثم يضؤل من بعد حتى يختفي في السرار، أم نقف عند حد الغمة فتكون ثلاثين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه في المنزلة الأولى ولا معقب لقوله ؟ رأي الجمهور الأكبر من العلماء الوقوف عند النص، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم :( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا العدد )٣ وإن الشريعة نزلت ابتداء لقوم أميين لا يعرفون حساب النجوم، فيكون على قدر ما يحسون ويرون، وجاء الحديث بذلك.
وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة فقالا : يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لرؤي لقوله صلى الله عليه وسلم :( فإن أغمي عليكم فاقدروا له )٤ أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه"٥.
وقد قال بذلك بعض الشافعية، وروى ابن نافع عن مالك أنه أجاز ابتداء الشهر بالحساب، وانتهاءه بالحساب٦.
وإن الأخذ بالحساب الدقيق قد يكون ممكنا، وخصوصا أن الإرصاد يكون رؤية بآلة فهل يؤخذ بها ؟ يقول الله تعالى :﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ٣٩ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ٤٠ ﴾ [ يس ].
وإن التقدير بالمنازل كان ممكنا عند العرب والأعراب، حتى إنهم كانوا يعرفون اليوم من الشهر بمعرفة منزلة الهلال ليعرفوا اليوم الأول من رؤيته في ليلة، واليوم الثاني بما كان من تغيير، وهكذا حتى يصير بدرا، ثم اليوم السادس عشر من التغير إلى آخره. ونقول في هذه القضية : بعد أن كانت الأرصاد، وهي تخترق الغمة فيرى الهلال من ورائها، يجوز الاعتماد عليها عند الغمة، وتكون هذه رؤية، ويكون الصوم لرؤيته والإفطار لرؤيته، ويكون العمل بالحديث قائما. ويكون الحديث بظاهره منطبقا على من ليس عندهم أرصاد، فإنه يؤخذ بالنظر المجرد إذا لا سبيل إلى الرؤية إلا بالنظر الطبيعي وعلى ذلك قرر مجمع العلماء في القاهرة، وأقره المؤتمر الإسلامي العام أنه يؤخذ بالحساب العلمي إذ غمت الشمس ولم تمكن الرؤية.
الأمر الثاني الذي يثار وقد أثير في القديم وهو أن مطالع القمر مختلفة في البلاد شرقا وغربا، فقد يرى الهلال في المشرق، قبل أن يرى في المغرب، فهل يصوم كل على مطلعه، أم الأساس هو أول رؤية، فيصوم أهل الغرب مثلا على رؤية أهل الشرق الهلال على أساس أول رؤية، ولا اعتداد باختلاف المطالع، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، ولا يفرق بينهما اختلاف الأقاليم ليكون ابتداء الصوم واحدا، وانتهاؤه واحدا فلا يصوم إقليم ويفطر آخر في يوم واحد ؟.
قال الشافعي الرأي الأول، وقال الجمهور الرأي الثاني، أي إن الاعتداد بأول رؤية، وروي عن ابن عباس، وقد كان بمكة فرأى أهل الشام الهلال ليلة الجمعة فصاموا يومها، ورأى أهل الحجاز الهلال ليلة السبت فلم يصوموا السبت، وقال : هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم٧.
ففهم الشافعي من هذا أن اختلاف المطالع يعتبر، بحيث لا يكلف أهل مطلع، إلا على مقتضى مطلعهم، وإني أرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن العبرة بمطلع مكة، أولا : لأنه كان بمكة ولم يعتبر برؤية الشام وثانيا : لأن مكة قبلة المسلمين يتوحدون عندها، فيكونون كالدائرة حولها، وثالثا : إن هلال ذي الحجة لا يعد إلا بهلالها، ويوم عرفة وأيام التشريق وغيرها لا يعتد إلا بها، ولأنها مجتمع الوحدة في الصلاة والحج فتكون مجتمع الوحدة الإسلامية في الصوم.
هذا رأي رأيناه وعرضناه والله أعلم بالصواب.
وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة، ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلفت تكليفا فيه مشقة فتحت باب الترخيص ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات ولذا قال تعالى :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾، وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى، الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( يسروا ولا تعسروا ) وما خير النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية، وقال تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج... ٧٨ ﴾ [ الحج ] ولمقام التعليل في قوله تعالى :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾، عطف عليه تعليل آخر، وهو قوله :﴿ ولتكملوا العدة ﴾ أي لتتموا عدة الشهر في يسر من غير إعنات، وهنا فعل محذوف تقديره، شرع لكم ذاك التيسير لكيلا يكون حرج وضيق في صومكم، ولتكملوا العدة أي لتستطيعوا أداء العدد كاملا غير منقوص بالأداء لمن لا عذر له، وبالأداء مع القضاء من أيام أخر لمن كان ذا رخصة تجيز الفطر وتوجب القضاء، فتكون عدة الشهر قد كملت، أداء وقضاء أو أداء فقط لمن له عذر.
﴿ ولتكبروا الله على ما هداكم ﴾، ولتتجهوا إلى الله مكبرين ضارعين إليه جل جلاله على هدايته لكم بأن وفقكم للإيمان بدل الكفر، وبأن مكنكم من أداء الواجب كاملا.
و قالوا إن ذلك إيذان بالعيد، وهو تكبير الله إذ إن التكبير يكون للفرح بالعيد، وللصائم فرحتان يوم فطره ويوم لقاء ربه٨، وفرحته يوم فطره هي فرحته بأداء الواجب وسروره بالطاعة، وفرحته يوم لقاء ربه هي فرحته بالنعيم المقيم، وبالرضوان من الله تعالى وهو لدى الأبرار أكبر من النعيم كما قال تعالى :[ ورضوان من الله أكبر... ] ٧٢[ التوبة ].
و إن هذه النعم نعمة الإيمان، ونعمة التيسير، ونعمة أداء الواجب كاملا ونعمة الفرحة به يوم الفطر، وتكبيره سبحانه وتعالى يقتضي الشكر، ولذا قال تعالى :[ ولعلكم تشكرون ] ولعل للرجاء وهو من الناس، ومن ترتيب الأمور، لا من الله تعالى أي لترجوا شكرا لله تعالى على هذه النعم المتوالية، والله غفور رحيم.
١ رواه – عن عبد الرحمان بن عوف –النسائي: الصيام ﴿٢١٨٠﴾ واللفظ له، وأحمد في مسند العشرة ﴿١٥٧٢﴾، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها ﴿١٣١٨﴾..
٢ متفق عليه، أخرجه البخاري: الصيام ﴿١٧٧٦﴾، ومسلم ﴿١٨١٠﴾ بنحوه عن أبي هريرة –رضي الله عنه-، وبلفظ المصنف –رحمه الله- أخرجه النسائي عن ابن عباس –رضي الله عنهما-: كتاب الصيام- ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار ﴿٢٠٩٥﴾..
٣ رواه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه: كتاب الصيام –صوموا لرؤيته ﴿١٨١٠﴾ عن أبي هريرة –رضي الله عنه-. راجع –متفضلا- التخريج السابق والذي قبله..
٤ رواه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه: كتاب الصيام –صوموا لرؤيته ﴿١٨١٠﴾ عن أبي هريرة –رضي الله عنه-. راجع –متفضلا- التخريج السابق والذي قبله..
٥ هذه رواية مسلم عن ابن عمر –رضي الله عنهما-: كتاب الصيام ﴿١٩٩٥، ١٩٩٦﴾..
٦ ذكر المصنف –رحمه الله- أنه أفاد هذا المبحث من ﴿تفسير القرطبي﴾ وهو كذلك من بداية قوله: وقد ذهب مطرف بن الشخير [تفسير سورة البقرة: ١٨٥]..
٧ عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال فقلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. [أخرجه مسلم: كتاب الصيام –بيان أن لكل بلد رؤيتهم ﴿١٨١٩﴾]..
٨ متفق عليه من رواية أبي هريرة. و قد سبق قريبا..
وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ( ١٨٦ )
إن شهر رمضان شهر التجرد الروحي، والاتجاه إلى الله تعالى، فقد كتب الله تعالى علينا صيامه، وسن صلى الله عليه وسلم قيامه، وسن صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في المساجد، وإن المؤمن إذا تجرد ذلك التجرد كان الله تعالى ملء قلبه وناجى ربه سرا وعلانية وذكره خفية وجهرة، ودعا ربه ضارعا إليه، وقد وعده الله تعالى بإجابة دعائه إنه قريب منه وإنه مستجيب له لأنه استجاب له، ولذا قال تعالى :[ و إذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ] وإن العبد إذا أحس بعظمة الله وامتلأ قلبه بخشيته أحس بأنه عونه، وأنه سنده، وإن أولئك الذين يشكرون لله تعالى نعمته في شرعه الرخص بجوار العزائم يتجهون إلى الله تعالى وكأنهم يسألون قربه ليصل دعاؤهم فقامت حالهم مقام سؤالهم أو هم سألوا فعلا ولذا قال سبحانه :[ و إذا سألك عبادي عني فإني قريب ] جعل سبحانه الشرطية تتعدى بإذا الدالة على تحقق السؤال قد كان بحالهم الخاشعة الضارعة الطالبة، وقال سبحانه عن السائلين بحال نفوسهم :[ عبادي أي ] الذين يشعرون بحق العبودية ويرتضونها طيبة نفوسهم راضية خائفة قلوبهم فإذا سألوك فإني قريب منهم قرب نفوسهم بإحساسهم بمقام العبودية وأنا قريب منهم بالربوبية ثم قال سبحانه عن نتيجة هذا القرب :[ أجيب دعوة الداع إذا دعان ] أي أن هذا القرب ليس قرب مكان ولكن قرب إجابة ورضا ورحمة وكأنه سبحانه وتعالى يقول : ادعوني أستجب لكم كما قال في آية أخرى :[ وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ٦٠ ] [ غافر ] وهذا يدل على أن الدعاء عبادة إذ قال عن الذين لا يدعون :[ إن الذين يستكبرون عن عبادتي ] : فالدعاء عبادة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الدعاء مخ العبادة "١، وإن الله تعالى يحب دعاء عبيده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أن الله يحب الملحين في الدعاء "٢، روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عيه وسلم قال :" من لم يدع الله تعالى غضب عليه "٣.
فالدعاء على هذا عبادة واستغاثة واتجاه إلى الله تعالى كما جاء في المعنى اللغوي فقد جاء في القاموس وشرحه : الدعاء الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالعبادة والاستعانة وبالثناء عليه تعالت ذاته العلية عن الشبيه والمثيل.
و إذا كان ذلك شأن الدعاء ومقامه، فقد قرب الله الداعين إليه وقال تعالى :[ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ].
الفاء للإصلاح عن شرط مقدر مضمونه إذا كنت قريبا منهم أجيب دعوتهم إذا دعوني واقبل عبادتهم –إذا كان دعاؤهم عبادة واستغاثة وثناء عليه سبحانه –إذا كنت كذلك بالنسبة لهم فليستجيبوا لي فيما أدعوهم إليه من إقامة للعدل ودفع للظلم، وإصلاح ذات بينهم، ومن إفراده بالعبادة والالتجاء إليه. والاستجابة الإجابة بعد معالجة النفس وحملها على الإجابة أو المبالغة في الإجابة بالطاعة والإحسان فيها وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فليشعر أنه في رقابة الله تعالى.
قال تعالى :[ وليؤمنوا بي ] أي حق الإيمان بأن يؤمنوا بأن الله واحد أحد لا شريك له، وأن يؤمنوا بقدرته التي أبدعت وخلقت كل شيء فقدرته تقديرا، وأنه المستعان في الشدائد والملجأ في المكاره، وليستنوا بسنته في كل أحوالهم، ولقد قال الله تعالى :[ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ٢ ] ( الأنفال ).
ثم بين سبحانه وتعالى أن طاعة الله تعالى في كل ما أمر به، وينهى عنه، والإيمان به حق الإيمان هو سبيل الرشاد في هذه الدنيا، وإدراك حقيقتها وفهمها والإصلاح فيها، ولذلك قال تعالى :[ لعلهم يرشدون ]، أي يرجون بالإيمان الصادق والالتجاء إليه سبحانه وحده أن يرشدوا بأن يسيروا في طريق الرشاد الذي لا عوج فيه فيصلحون ويصلح الناس بهم، ويسلكون جميعا طريق الهداية والله يهدي من يشاء.
١ سبق تخريجه من رواية الترمذي عن أنس بن مالك –رضي الله عنه-.
٢ أخرجه الطبراني في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة –رضي الله عنها – مرفوعا [ أفدته من فتح الباري- أول كتاب الدعوات ]..
٣ رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج٢ ص٤٤٣، ٤٧٧ بلفظ( من لم يدع الله غضب الله عليه )..
كانت آية الدعاء وقرب الله تعالى لمن يدعوه واستجابته له، كان هذا إشارة إلى صفاء النفس الذي يكون للصائم إذا قام بحق الصيام، وقرب من الله تعالى، ولقد كان ابن عمر – وغيره من الصحابة المقربين –كثير الدعاء في رمضان، وسماه بعض العباد شهر الاستجابة.
وبعد ذلك أخذ القرآن الكريم يبين بعض أحكام الصيام يشرح وقته، وإزالة بعض الأوهام، فقال تعالى :[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وانتم لباس لهن ].
فهم بعض الناس أن اتصال الرجل بأهله في ليل رمضان كان ممنوعا ثم أحل، وفهم ذلك من قوله تعالى :[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ]، فالإحلال لا يكون إلا في موضع كان محرما، وقد نسخ التحريم، وإن ذلك ظن الذين يفرطون في ذكر الناسخ والمنسوخ في القرآن، وعندي أن "أحل" تدل على أن الرفث إلى النساء حلال قد أحله الله تعالى، وذكر بالبناء للمجهول للدلالة على أنه حلال من قبل ومن بعد.
و إنه قد جاءت الروايات عن الصحابة بأن بعضهم حسب أنه مجرد نوم أحدهم ينتهي وقت الفطر، ويبتدئ وقت الصوم١، ويظن من يأتي امرأته بعد أن ينام أنه قد انتهك حرمة الصوم، فرد الله تعالى ذلك الزعم بقوله تعالت حكمته :[ أحل لكم ليلة الصيام الرفث ]. والرفث ذكر ما يكون بين الرجل والمرأة من جماع ومقدماته ونحو ذلك من القول، وهو هنا كناية عن الجماع كما يكنى بلفظ لامستم النساء عن الجماع، وكذلك بلفظ لمستم.
و قول الله تعالى [ إلى نسائكم ] لتضمن الرفث معنى الإفضاء إلى النساء بجماعهن كما قال الله تعالى :[ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ٢٠ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ٢١ ] ] ( النساء ).
و قد بين الله تعالى صلة الرجل بامرأته بأدق عبارة وأرق قول، فقال تعالى :[ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ] اللباس ما يستر البدن للرجل والمرأة، فالعلاقة بين الزوجين تجعل الزوجة كأنها لباس لزوجها تستره، وتمس جسمه وتكون منه بمنزلة الشعار والدثار٢، وهو لها كأنه لباس يسترها، ويكون منها بمنزلة الشعار والدثار يلامس جسمها جسمه، فتكون المشاعر التي تثير وتهيج.
وان هذا اللفظ يدل على الحاجة الحسية من الرجل لامرأته ومن المرأة لزوجها، والحاجة النفسية والرباط الروحي الذي يربط بينهم بالمودة والرحمة، كما قال تعالى :[ و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة... ٢١ ] ( الروم ).
و قد بين الله تعالى أنهم كانوا يكلفون أنفسهم ما لم يكلفوا، فكانوا يمتنعون عن مباشرة النساء ظانين أن ذلك غير حلال لهم فقال تعالى :[ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ] أي تخونون باستباحة ما أحل الله لكم إذ تضطرون بحكم العلاقة الشرعية والإنسانية أن يكون منكم لأزواجكم ما يظنونه ممنوعا، وهو غير ممنوع فتاب عليكم من هذا الظن وبين لكم أنه حلال. قال الله آمرا بإباحة المباشرة، وحدا لميقات الصوم [ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ].
المباشرة كناية عن الجماع، ككناية الملامسة والرفث إليهن، ولكنها أقرب إلى الصراحة من الملامسة والمس. وابتغاء ما كتب الله تعالى هو ابتغاء الولد حفظا للنسل، وعمارة للكون بالإنسان الذي هو الخليفة في الأرض، فالنكاح ما شرعه الله تعالى إلا لابتغاء ذلك لا لمجرد الشهوة، وإن الله تعالى قد أودع غرائز الإنسان ما ينوط به تكليفه فأودع فيه الشهوة ليسهل وجود النسل وتكاثره، وإن الأسرة تكليف شديد، ويتعلق به تبعات كثيرة من تربية الأولاد، والإنفاق وحضانتهم، وحمله كرها ووضعه كرها، وحمله وهنا على وهن، وغير ذلك من المشاق الظاهرة ولولا الشهوة الدافعة ما تزوج ولا تزوجت، ولكن الله تعالى لحكمته، ولما كتبه من البقاء للإنسان ركب فيه هذه الغريزة الجنسية لتدفعه إلى الزواج راغبا ولطلب الولد محبا.
و الذين يدعون إلى الحد من النسل وأن تكون الشهوة للشهوة لا لطلب الولد، محاربون للفطرة، وينحدرون إلى درك دون الإنسان، بل دون الحيوان.
و ذكر نعمة الولد وقال :[ وابتغوا ما كتب الله لكم ]، أي ما قدر الله تعالى لكم من ولد. وهذا إشارة إلى أن الولد، رزق كتبه الله تعالى لكم، فأكرموه، لأنه عطاء الله، واحفظوه لأنه أمانته التي كتبها لكن وائتمنكم عليها.
و حد الله تعالى ميقات الإفطار والصوم، فقال تعالت كلماته :[ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ].
والخيط الأبيض هو خيط الفجر يشق السماء بنور كالخط ثم ينتشر ذلك الخط شيئا فشيئا حتى يختفي الظلام ويكون النهار. والخيط الأسود ما يكون حول ذلك الخط الأبيض من ظلام وقوله من الفجر من هنا بيانية أي أن الخطين يبدوان في الفجر وهو ابتداء النهار وهو ابتداء الصوم، و لذا قال تعالى :[ ثم أتموا الصيام إلى الليل ] أي إلى غروب الشمس فالخط الأبيض في سواد الليل هو نهاية الأكل والشرب وكل المباحات في الإفطار وابتداء المنع بالصيام حتى يكون الغروب، وبذلك حد الوقت للإفطار وللصوم معا.
و إنه في العشرة الأخيرة من رمضان يستحب الاعتكاف في المسجد بأن يبقى فيه متعبدا متنسكا لا يخرج منه إلا لحاجة ضرورية ويعود فور زوالها ويمنع من النساء، ولذا قال تعالى :[ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ].
و بهذا أشار سبحانه وتعالى إلى استحسان الاعتكاف وهو سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إنه بهذا البيان الحكيم قد حد الله تعالى ما يحل وما لا يحل ووقت الحل ووقت الصوم، وحد ميعاد الصوم وميعاد الفطر، ولذلك قال تعالى :[ تلك حدود الله فلا تقربوها ] فالتزموها ولا تقاربوا الابتداء ولا الانتهاء أو لا تقربوها بمعنى لا تعتدوا عليها فتمتنعوا حيث لا يجوز المنع كالامتناع عن الأكل والشرب ثم قال تعالى :[ كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ] أي كذلك البيان الذي بين فيه الصوم ورخصه وعزائمه وحدوده وما لا يجوز ولا بيان كهذا البيان. يبين الله تعالى الأحكام والتكليفات رجاء أن يتقوا الله تعالى ويجعلوا وقاية بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وينالون رضوانه.
فقوله تعالى :[ لعلهم يتقون ] لعل فيه للرجاء، والرجاء من العباد لا من الله تعالى، لأن الرجاء معنى لا يليق بذات الله العلية الذي جل علمه وتنزهت ذاته.
و هذا يفيد أن كل التكليفات الشرعية وخصوصا العبادات لتربية النفس المؤمنة على التقوى، وإيداع المهابة من الله تعالى في قلوب العباد فلا يتجرؤون فينتهكوا حرمات الشهر الذي عظمه الله تعالى، وجعله مباركا، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
١ عن البراء –رضي الله عنه – قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية [احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم... ١٨٧] (البقرة) ففرحوا بها فرحا شديدا ن ونزلت [و كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود١٨٧] (البقرة رواه البخاري : كتاب الصوم (١٧٨٢)].
.

٢ الشعار: ما ولي شعر جسد الإنسان دون ما سواه. والدثار : الثوب الذي يستدفأ به من فوق الشعار وفي المثل : هم الشعار دون الدثار يصفهم بالمودة والقرب. لسان العرب..
تطهير النفس من المال الخبيث
[ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون( ١٨٨ ) ]
بعد أن بين سبحانه وتعالى الصوم وما فيه من تهذيب النفس بين سبحانه وتعالى أن من التهذيب النفسي أو بث التقوى في روح الجماعة الإسلامية نزاهة المال عن الخبث كنزاهة النفس، ولذا عطف علة الأوامر والنواهي الخاصة بالصوم النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى :[ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الأحكام ].
الواو هنا عاطفة على ما سبق من إباحة ونهي، في قوله، [ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله ] وما تبع ذلك من صيغة أمر تبيح الأكل والشرب، ونهى عن المباشرة، وجاء النهي بعد ذلك عن أكل مال الناس بالباطل، لأنه من جنس الأوامر والنواهي السابقة، فإذا كانت لنزاهة النفس والمجتمع وطهارتها، فالنهي عن أكل مال الناس بالباطل لنزاهة النفس والمجتمع وطهارته من أسباب النزاع، فالنواهي تتدرج في النصوص الإسلامية في هذه الآيات من إبعاد نفوس الآحاد عن الإرجاس في العبادات، إلى النهي للجماعة كلها عما يفني الجماعات من أخذ المال بالباطل، لأنه قتل لها كما قال الله تعالى في آية أخرى :[ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ٢٩ ] ( النساء ).
فأخذ أموال الناس بالباطل، وشيوع ذلك، واستمراؤه يقتل الأمة، لأنه يشيع فيها الفساد، ضياع الحقوق، وألا يحترم العدل، ويسود الظلام، وبذلك تفنى الأمم، وتذهب قوتها أمام من يتربص بها الدوائر.
وقوله :[ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ] أمر عام للجماعة الإسلامية، بأن يكون التعامل المالي بينها على أساس من احترام كل حق الآخرين، وألا يأخذ مالا إلا بحقه، فلا يأخذه بربا أو غش أو تدليس أو بميسر، أيا كان شكله، ولا بسرقة أو غصب.
وعبر سبحانه وتعالى عن الأخذ بالأكل، لأن أظهر مظاهر الانتفاع بالمال الأكل حلالا أو حراما وهو أشد ما يطلب المال لأجله ولأن الأكل وإن لم يكن مصدره حلالا كان كالنار وتدخل بطن الآكل.
و قال تعالى :[ أموالكم ] للإشارة إلى أن مال الآحاد مال الأمة، إن نما قويت، وإن ضعف ضعفت، وان كان حلالا كان طيبا، كان عزا، والإشارة إلى وجوب التعاون بين الناس في جعله لخير الجماعة، وتنميته لعمومها، و للناس كافة مع بقاء كل ملك كان على ملكيته لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه "١.
و قوله تعالى :[ بينكم ]، أي متبادلا بينكم منتقلا من حيز إلى حيز بالحق، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يصح أن ينقل بينكم إلا بالحق، فلا يصح أن ينتقل من حيز إلى حيز إلا بالحق ولا يجوز أن ينتقل بالباطل، سواء أكان بالرضى كالربا، والبيوع الربوية وكالميسر، والعقود التي تشتمل عليه، وغير ذلك من العقود التي جاءت على غير ما أمر به الشرع، أم كانت بغير رضا صحيح كامل، كالغصب والسرقة والغش والتدليس والتغرير، فإن أخذ المال بهذا الشكل لا يجوز مطلقا، لأنه غير مبني على علم صحيح فلا يكون الرضا كاملا.
وقال تعالى بعد ذلك :[ و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم ] هذا معطوف على النهي، فالنهي منصب على أكل مال المؤمنين بينهم، وعن الإدلاء إلى الحكام، و قد وردت قراءة أبي بزيادة "لا"، وهي أقرب أن تكون تفسيرا، ومهما يكن فإن النهي ثابت عن الإدلاء، كالنهي عن الأكل لأنه ينتهي إلى أكل المال بالباطل، فالآية تنهى عن الأكل الظالم سواء أكان في ضمن التعامل الآثم بينكم، أم كان بالاستغاثة بالحكام، بتضليل القضاء، أو بتحويل الحاكم عن الإنصاف بسحت من المال يقدم.
و الإدلاء في أصله إلقاء الدلو في الماء ليحمل الماء إليه من البئر، أو من حفرة فيها ماء، ثم أطلق على إرسال أي شئ يأتي بما يفيد، وأطلق على الذي يحتج على غيره، أدلى بحجته لأنه أرسلها، ليأخذ الحق من غيره، ويقال أدلى بنسب إنما اتصل بالنسبة.
و معنى أدلى إلى الحكام بالمال، أي أنهم يقدمونها للحكام الآثمين، من نسقه الذين يجلسون في مناصب القضاء، أو الحكام الذين يملكون العطاء والمنع، أو يملكون القسمة بين الناس، ومعنى الإدلاء بالمال على هذا تقديم المال لهؤلاء ليعدلوا بهم عن قسمة الحق إلى القسمة الضيزى التي تمنع الحق، وتقرر الباطل. و الرشوة لها صور شتى، فمرة تكون بإعطاء المال لتحول من هو في منصب القضاء عن العدل، أو بالإهداء، أو بالضيافة، أو بأداء الخدمات حلالها وحرامها، أو بمقارضة الظلم، كأن يظلم في قضية لمجلس في منصب القاضي، ليظلم في قضيته وكل ذلك استخدام للمال، أو ما يقوم مقامه من أداء أمور تقوم بمال أو لا تقوم بمال وفيها نفع واضح.
هذا تفسير قوله تعالى :[ و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم ]أي أكلا متلبسا بالإثم، وأنتم تعلمون أنه إثم، لا حق لكم في أكله، وهذا تأكيد لمعنى الإثم والظلم وأكل أموال الناس بالباطل، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لعن الله الراشي والمرتشي " ٢.
و هناك تخريج آخر لقوله تعالى :[ و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم ]بأن المراد بالإدلاء بها الخصومة بشأنها، والترافع في أمرها، وأنت تعلم أنك آخذها بغير حق، ولكن لا حجة لخصمك على أن ما في يدك سلطانك عليه بالباطل، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية :[ و تدلوا بها إلى الحكام ]في الرجل يكون عنده مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه.
فهؤلاء رشوا من هو في منصب القضاء، ولكن يضله ليأكل مقدارا من أموال الناس بالإثم، فكلمة فريق معناها مقدار قطعه من مال الناس، وهو يعلم أنه إثم.
و من هؤلاء من يلحن بالحجة ليضل الحاكم، وقد روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"ألا إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار "٣.
هذان تخريجان لمعنى النص الكريم [ و تدلوا بها إلى الحكام ] وإن الإدلاء لتحويل الحكام عن الحكم يكون بسحت من المال يقدم لحكام السوء، فيحولهم عن الحق إلى الباطل، وإما بحجة براقة، أو نقصان في دليل الخصم يتحولون به مخطئين من الحق إلى الباطل، ويصح الجمع بين التخريجين إذ لا معارضة بينهما. والحكام هم المنفذون للأحكام.
١ رواه أحمد في مسنده عن أبي حرة الرقاشي عن عمه في حديث خطبة الوداع الطويل، وأورده أبو يعلى بلفظ المؤلف دون زيادات –عنه أيضا – في باب مسند أبي سعيد الخدري، ج٣ص ١٤٠ (١٥٧٠)، والدارقطني عنه ج ١ ص ٢١(٢٨٤٣)، كما أورده الدارقطني من رواية أنس رضي الله عنه (٢٨٤٢)..
٢ "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " رواه الترمذي : الأحكام، ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (١٢٥٧)عن عبد الله بن عمرو، وقال : حديث حسن صحيح، كما رواه أبو داود، وابن ماجة، وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص (٦٢٤٦)..
٣ متفق عليه، رواه البخاري : الأحكام : موعظة الإمام للخصوم (٦٦٣٤)، ومسلم : الأقضية : الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (٣٢٣١)..
الأهلة
[ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون( ١٨٩ ) ]
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الشهر وهو الهلال هو حد ابتداء شهر رمضان، وحد انتهائه، ففي أوله برؤية هلاله، وفي آخره برؤية هلاله، فناسب بعد تمام ما أراد الله تعالى بيانه من الصوم أن أشار سبحانه إلى ما كان يدور على الألسنة خاصا بالأهلة بجوار ما ابتدعه الجاهليون من دخول البيوت من ظهورها في موسم الحج، فقال تعالت كلماته :[ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ].
كان الناس من اليهود والمشركين، وبعض المسلمين يسألون عن أمور ليست من الدين وقد تكون عن الكون، وما يجري فيه أمر الوجود، وما كانت الشريعة الإلهية لذلك، إنما هي لبيان ما يعبد الله تعالى به، وما يصلح به العباد في معاشهم، فليس منها لماذا كانت الشمس مضيئة كحجمها، والقمر نور يتغير حجمه من هلال كالخيط، ثم يزيد، حتى يصير بدرا، ثم يأخذ مرة ثانية في الضيق حتى يكون المحاق.
كانوا يسألون هذه الأسئلة، وهي في موضوعها معقولة من حيث علم الخلق والتكوين والبحث في أسرار الوجود، ولكنها ليست من أحكام الدين، وما يجب أن يبينه ويعلم الناس به، بل أمره إليهم يتعلمونه ويتعرفونه ويذاكرونه على أمور دنياهم، لا من أمور دينهم الذي به صلاح معاشهم ومعادهم.
و لذلك لما سألوا هذه الأسئلة التي لا تتعلق بعلم الدين صرف الله تعالى نظرهم وأخذهم إلى الناحية الدينية التي يجب أن يعرفوها ويدركوها، فقال تعالى :[ قل هي مواقيت للناس والحج ] وهذا لفت لهم إلى أن الواجب أن يسألوا عن فوائدهم في الدين والمعاملات، وهذا يقال عنه في علوم البلاغة الأسلوب الحكيم، وذلك هو أن يكون السؤال في غير موضعه فيجيب المسئول عن أمر آخر هو الذي ينبغي أن يكون السؤال فيه، ومن ذلك في القرآن الكريم :[ يسألونك ماذا ينفقون.. ٢١٥ ]( البقرة )، فيجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه :[ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين... ٢١٥ ] ( البقرة ) إلى أخر الآية الكريمة، وكذلك هنا سألوا النبي عن الأهلة عن كونها، وبدوها للناظر صغيرة ثم تكبر فأمر الله تعالى نبيه أن يقول :[ هي مواقيت للناس والحج ].
مواقيت للناس في معاملاتهم، وفي بيوعهم وفي ديونهم المؤجلة وإجارتهم، ومزارعاتهم، ومساقاتهم وغير ذلك مما يجري، وفيها تتبين مواقيت الحج، [ الحج أشهر معلومات ١٩٧ ]( البقرة ) وبها تعين أوقات المناسك، ويضاف إلى ذلك مواقيت الصيام، على آخر ما هو معلوم في الدين وأعراف الناس.
و جمع في الآية الأهلة وهي هلال واحد في كل الأوقات والشهور، ولكن لتغير حاله من ضمور فاتساع حتى يصير بدرا، ثم يصير كالعرجون القديم عدت هذه الصورة أهلة، وإن كانت الحقيقة واحدة، والتغيير في المنظر بسبب توسط الأرض بين الشمس والقمر في دورانها حولها.
و القمر حساب يدل العرب في صفو الصحراء على أيام الشهر، ولقد قال تعالى :[ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب
... ٥ ]( يونس ).
ولقد بين سبحانه وتعالى أن الأمور يجب أن توضع في مواضعها، وأن يعلم أن البر هو التقوى، وليس المظاهر والأشكال، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "١، ولذا قال تعالى :[ و ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ].
قيل إن بعض العرب كان إذا أحرم، لا يدخل بيته من بابه وإنما يدخل من ظهره، قال ابن عباس في رواية عنه كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج، فإن كان من أهل المدر ( أي البيوت المبنية بالآجر ) نقب في ظهر بيته نقبا، فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه ويحدر عليه، وإن كان من أهل الوبر ( دار أهل الخيام ) يدخل من خلف الخيمة.
و قالوا إن الآية التي نزلت لإبطال هذه العادة التي كانت بقية من بقايا الجاهلية، وبين أن هذا ليس من الإسلام، لأن هذه أمور شكلية لم يأمر بها الله تعالى، وكل ما لم يأمر به الله تعالى ويتخذ على أنه عبادة يكون بدعة محرمة وخصوصا إن كان له صلة بالعبادة.
هذا هو التخريج الذي يتفق مع بعض المأثورات وإن كانت لم تثبت صحتها على وجه الجزم واليقين.
و هناك تخريج آخر، وهو أن هذا الكلام تصوير للذين يسألون عن الأهلة، ولا يعنون بصلتها الشرعية من حيث إنها مواقيت للناس والحج، من حيث إنهم مثل الذين ينظرون إلى أمور من ظواهر الشرع، فلا يأتون الأمور من بابها، وهو ما يتعلق بالقلب فهم لم يدخلوا الأمور من بابها بتساؤلهم عن الأهلة، وأخذوها من غير بابها، وقد قال في ذلك الراغب في تفسيره قال الله تعالى :[ و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ] بأن تطلبوا الأمر من غير وجهه، وذلك أنه يقال إن فلان أتى الأمر من غير وجهه، وجعل ذلك مثلا بسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم لما هو ليس من العلم المختص بالنبوءات وإن ذلك عدول عن النهج، وذلك أن العلوم ضربان : دنيوي يتعلق بأمر المعاش لمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن والنبات، وطبائع الحيوانات، وقد جعل سبيلا إلى معرفته على غير لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
الضرب الثاني : شريعة وهو البر ولا سبيل لأخذه إلا من جهته، وهو أحكام التقوى ومؤدى ذلك أن قوله تعالى :[ و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ] إلى آخر الآية رد على الذين سألوا عن أدوار الأهلة. إنهم طلبوا العلم الإسلامي من غير طريقه المرسوم كمن أتى البيت من ظهره لا من بابه، وإنه كان عليهم أن يسألوا عن البر في الشريعة لأنه المختص بالنبوة.
و لذا قال تعالى :[ و لكن البر ]يتمثل في من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها، فاسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به، وهو تبليغ رسالة الله تعالى حتى ترشدوا وتدركوا لعلكم تفلحون، أي رجاء أن تفلحوا وتنالوا الفوز برضا الله تعالى، وهو التواب الرحيم.
١ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". ( رواه مسلم: كتاب البر والصلة (٤٦٥١))..
أحكام الجهاد١
ذكر الله تعالى في آية البر أن من أعلى أوصاف أهل البر، [ و الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس... ١٧٧ ]( البقرة )، والجهاد هو البأس الذي يوجب الصبر ولذا قال تعالى :
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( ١٩٠ )
قوله تعالى :[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ]. فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى :[ و قاتلوا ]هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله :[ ادفع بالتي هي أحسن... ٩٦ ] ( المؤمنون )، وقوله :[ فاعف عنهم واصفح... ١٣ ]( المائدة )، وقوله [ واهجرهم هجرا جميلا ١٠ ]( المزمل )، وقوله :[ لست عليهم بمسيطر٢٢ ]( الغاشية )، وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل :[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ] قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال [ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا... ٣٩ ]( الحج ). والأول أظهر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن يقاتل من المشركين. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة –و الحديبية اسم بئر، فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر – فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال عشر سنين ورجع إلى المدينة، فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال لمن قاتلوكم من الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهرها، فكان صلى الله عليه وسلم قاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل :[ فاقتلوا المشركين... ٥ ]( التوبة ) فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع : نسخها [ و قاتلوا المشركين كافة... ٣٦ ] ( التوبة ) فأمر بالقتال لجميع الكفار. وقال ابن عباس وعمر بن عبد ا لعزيز ومجاهد : هي محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وما شابههم على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس : وهذا أصح القوانين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان. رواه الأئمة ٢. وأما النظر فإن "فاعل" لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية. أخرجه مالك وغيره. وللعلماء فيهم صور ست :
١- النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون : في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله :[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ]و [ اقتلوهم حيث ثقفتموهم ]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
٢- الصبيان فلا يقتلون، للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل قتل.
٣- الرهبان لا يقتلون ولايسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموال، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة، فروى أشهب أنها لا تهاج – أي لا تزعج ولا تنفر – وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي :" والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله :" فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ".
٤- الزمني ٣، قال سحنون : يقتلون. وقال ابن حبيب، لا يقتلون. و الصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
٥- الشيوخ، قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان : أحدهما – مثل قول الجماعة. والثاني – يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا أنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة. فأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال، فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء : القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية.
٦- العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون، وقال الشافعي : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والأول أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رباح بن الربيع :" الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسفا "٤و قال عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرثا، ذكره ابن المنذر.
الثانية : روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله :[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ] أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل واحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة "براءة" بقوله :[ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار... ١٢٣ ] ( التوبة ) وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله صلى الله عليه وسلم :" الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم "٥ وقيل : غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة.
و قوله تعالى :[ و لا تعتدوا ]قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل : لا تعتدوا، أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم.
١ بدءا من الآية ١٩٣: ١٩٠ من سورة البقرة ساقط من الأصل، وقد آثرنا استكماله من تفسير القرطبي، لما له من مركز الصدارة في مراجع المؤلف رحمه الله، وإتماما للفائدة بعيدا عن اجتهاد ربما لا يرضاه المصنف رحمه الله تعالى. والله من وراء القصد. الناشر..
٢ عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. (متفق عليه أخرجه البخاري وهذا لفظه : كتاب الجهاد والسير – قتل النساء في الحرب (٢٧٩٢)، ومسلم (٣٢٨٠) كما روه الترمذي وابن ماجة ومالك والدارمى، وأحمد..
٣ جمع زمن، وهو من به آفة من عرج أو عمى أو مرض شديد..
٤ جامع الأحاديث والمراسيل (٤١٣٠). ورواه أبو داود : قتل النساء (٢٢٩٥) عن رباح بن ربيع بلفظ : قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شئ فبعث رجلا فقال : انظر علام اجتمع هؤلاء فجاء فقال : على امرأة قتيل فقال : ما كانت هذه لتقاتل قال : وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال : قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفا " ورواه ابن ماجه : الجهاد –قتل النساء والصبيان (٢٨٣٢) بنحوه عنه قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس فأفرجوا له فقال :" ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل ". ثم قال لرجل :" انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك يقول لا تقتلن ذرية ولا عسيفا " وبنحوه رواه أحمد : مسند المكيين (١٥٤٢٣) والذرية الأطفال والصبيان، قلت : والعسيف الأجير. ومثله العسف، غير أن الأولى على صيغة المبالغة (فعيل) والثانية على صيغة المبالغة (فعل)..
٥ متفق عليه، رواه – بهذا اللفظ عن عروة البار قي – البخاري: كتاب الجهاد والسير – الجهاد ماض إلى يوم القيامة مع البر والفاجر (٢٦٤٠)، ومسلم: كتاب الإمارة – الخيل في نواصيها الخير (٣٤٨٠). ورواه الترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد، إما مثله أو نحوه..
قوله تعالى : و اقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ( ١٩١ ) وفيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى [ ثقفتموهم ]يقال ثقف يثقف ثقفا، ورجل ثقف لقف : إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. وفي هذا دليل على قتل الأسير. سيأتي بيان هذا في "الأنفال" إن شاء الله تعالى. [ و أخرجوهم من حيث أخرجوكم ]أي مكة. قال الطبري : الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش.
الثانية : قوله تعالى :[ و الفتنة أشد من القتل ] أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد : أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة. وقال غيره : أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشر من القتل الذي عيروكم به. وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب بالشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبد الله بن جحش. على ما يأتي بيانه، قاله الطبري وغيره.
الثالثة : قوله تعالى :[ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ] الآية. للعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما – أنها منسوخة، الثاني – أنها محكمة. قال مجاهد : الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه قال طاوس. وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وفي الصحيح عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :" إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة "١. وقال قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى :[ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم... ٥ ]( التوبة ). وقال مقاتل : نسخها قوله تعالى :[ و اقتلوهم حيث ثقفتموهم ]ثم نسخ هذا قوله، [ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ]. فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم. ومما احتجوا به أن "براءة " نزلت بعد سورة " البقرة " بسنتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر ٢. فقيل إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال :" اقتلوه "٣.
و قال ابن خويزمنداد :[ و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ]منسوخة، لأن الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال : لأقاتلنكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة، لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال. فمكة وغيرها من البلاد سواء. وإنما قيل فيها : هي حرام، تعظيما لها، ألا ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال :" احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا "٤. حتى جاء العباس فقال : يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم. ألا ترى أنه قال في تعظيمها :" ولا يلتقط لقطتها إلا منشد "٥. و اللقطة بها وبغيرها سواء. ويجوز أن تكون منسوخة بقوله :[ و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ]. قال ابن العربي :" حضرت في بيت المقدس –طهره الله – بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس يوم الجمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدراع الرعاء. فقال القاضي الزنجاني : من السيد ؟ فقال : رجل جلبه الشطار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا : سلوه، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم، هل يقتل أم لا ؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل. فقال قوله تعالى :[ و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ] قرئ "و لا تقتلوهم، ولا تقاتلوهم "فإن قرئ " ولا تقتلوهم " فالمسألة نص، وإن قرئ "و لا تقاتلوهم " فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك – وإن لم ير مذهبهما – على العادة، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :[ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ] فقال له الصاغي : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعمله، فإن هذه الآية التي اعترضت بها، عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص. فبهت القاضي الزنجاني. وهذا من بديع الكلام. قال ابن العربي :"فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه. وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن ".
و أما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه في الحرم فلا حجة فيه، " إن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل فيها القتال، فثبت وصح أن القول الأول أصح، والله أعلم.
الرابعة : قال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر، والكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع، ولا يجهز على جريح.
١ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :" لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا " وقال يوم فتح مكة :" إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي ألا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولاينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا من عرفها ولا يختلى خلاه " فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال صلى الله عليه وسلم " إلا الإذخر ". (متفق عليه، رواه البخاري : كتاب الجزية – إثم الغادر البر والفاجر (٢٩٥١)، ومسلم : كتاب الحج – تحريم مكة (٢٤١٢))..
٢ المغفر ومثله المغفرة والغفارة (كلها بالكسر) : زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة..
٣ عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال :"اقتلوه". (متفق عليه، رواه البخاري : كتاب الحج- دخول الحرم ومكة بغير إحرام (١٧١٥) وأطرافه في ثلاثة مواضع أخر، ومسلم : كتاب الحج (٢٤١٧))..
٤ تفسير القرطبي : سورة البقرة : ١٩٢..
٥ جزء من حديث متفق عليه، رواه البخاري: الديات – من قتل له قتيل (٦٣٧٢)، ومسلم: الحج – تحريم مكة (٢٤١٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه :" ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد".
الخامسة : قوله تعالى :[ فإن انتهوا ] أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم. نظير قوله تعالى :[ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قدم سلفا... ٣٨ ] ( الأنفال ). وسيأتي.
قوله تعالى :[ و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ] فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى :[ و قاتلوهم ] أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال : المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم :[ فإن قاتلوكم ] والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق، لا بشرط أن يبدأ الكافر. دليل ذلك قوله تعالى :[ و يكون الدين لله ]. وقال صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ١. فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هوا لكفر لأنه قال :[ حتى لا تكون فتنة ] أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم : الفتنة هنا الشرك، وما تابعه من أذى المؤمنين. وأصل الفتنة : الاختبار والامتحان، مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها. وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى.
الثانية : قوله تعالى :[ فإن انتهوا ] أي عن الكفر، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في " براءة " وإلا قوتلوا وهم ظالمون لا عدوان إلا عليهم. وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله :[ و جزاء سيئة سيئة مثلها... ٤٠ ] ( الشورى ). والظالمون هم على أحد التأويلين : من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر : من بقي على كفر وفتنة٢.
١ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ". (متفق عليه : رواه البخاري : الإيمان (٢٤)، ومسلم (٣٣))..
٢ انتهى كلام القرطبي من الجامع لأحكام القرآن..
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ( ١٩٤ )
بينت الآيات السابقة بعض أحكام القتال، وفي هاتين الآيتين بيان لبعض آخر، وقد تبين مما سبق أن المشركين إن انتهكوا حرمة البيت الحرام، وقاتلوا عند المسجد الحرام، واعتدوا على المسلمين فيه، فإنه لا يصح أن يحول بينهم وبين رد الاعتداء حرمة ذلك البيت الكريم، لأن الله سبحانه وتعالى جعله حرما آمنا، فمن اعتدى من المشركين بالقتال فيه فقد ازدوج اعتداؤه، ابتدأ بالاعتداء، واعتدى على أهل الحق، واعتدى على حرمة البيت، وكان من الواجب أن يرد كل هذا الاعتداء، ليشفي الله قلوب قوم المؤمنين، ولأن إلقاء السلم لمن حمل السيف تمكين للباطل من الحق يجعل المبطل يمترئ للظلم، فيكرر الاعتداء في البيت الحرام، إذ يراه أنهز للفرصة، وأنكى للمسلمين، إذ يقتلون ولا يقاتلون.
و مثل حرمة القتال في البيت الحرام القتال في الشهر الحرام، فإن الله سبحانه قد حرم القتال فيه، ولكن إن اعتدى المشركون فقاتلوا فيه لا يلقي إليهم المسلمون السلم لينالوا منهم، وهذا ما تعرضت له الآية الأولى من هاتين الآيتين :
[ الشهر الحرام بالشهر الحرام ] : الباء هنا للمقابلة، أي الشهر الحرام من جانبكم مقابل بالشهر الحرام من جانبهم، فإن تقيدوا بالحرمة فيه ولم يثيروا حربا ولم يعتدوا، التزمتم حرمته، ولم تقاتلوهم فيه، ولو كان قتالهم في ذاتهم عدلا، بعد أن فتنوا الناس عن دينهم، وإن انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ونابذوكم فيه وقاتلوكم فلا تكفوا عن قتالهم، ولا تقبضوا أيديكم عنهم احتراما له، بل ابسطوا عليهم أيديكم، وخذوهم إلى الحق من نواصيهم، لأنه إذا كان الشهر الحرام واجب الصيانة فنفوس المؤمنين ألزم صيانة وأحق بها، وإذا تعارضت الحقوق والواجبات قدم ألزمها، وأحفظها لدين الله وإعلاء كلمته، ولا شك أن ترك المشركين يَكْلَبُون في المؤمنين ويشتدون عليهم، أشد ضررا من القتال في الشهر الحرام الذي انتهكوا حرمته، وقد أخرجوا من قلوبهم كل حريجة دينية وخلقية وإنسانية.
و "أل" في كلمة [ الشهر ] هي التي يسميها علماء اللغة : أل الجنسية، والشهر هنا مفرد في معنى الجمع، لأن الشهر الحرام ليس واحد، بل هي أربعة أشهر : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، والتعبير بالمفرد وإرادة الجمع فيه إشارة إلى المعنى المشترك في هذه الأشهر الأربعة، وهو تحريم القتال ابتداء فيها، واحتراما لها، ولبث روح الأمن والطمأنينة بين الناس، لأن المعنى الجامع لها جعلها وحدة قائمة بذاتها، وكأنها معنى واحد تعددت صوره، فالتعبير عن الجمع بلفظ هو في أصل ذاته للمفرد، مشيرا إلى الوحدة المشتركة الجامعة بين الأفراد، مبينا أن الحكم قد نيط بالمعنى الجامع بينها، ولا يتصل بالصفات الشخصية المميزة لآحادها.
و قد ذكرت عدد الأشهر الحرم آية أخرى هي قوله تعالى في سورة التوبة :[ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم... ٣٦ ]( التوبة ).
فهذه الآية تصرح بأنها أربعة وليست واحدة، ثم بينت السنة هذه الأشهر الأربعة من أشهر السنة كلها، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع :"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان "١.
و قد اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بقتال في الشهر الحرام، فلم يبتدئ فيه بغزو، ولكن إذا قوتل فيه لم يكن يمتنع عن القتال، وكذلك إذا ابتدأ القتال قبل الشهر الحرام، واستمر القتال إلى أن حل الشهر، لم يكن ينقطع عن القتال حتى يأمن الرجعة، فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال :"لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ "٢.
و لقد استعد النبي صلى الله عليه وسلم للقتال في الشهر الحرام مرتين، إحداهما عام الحديبية عندما ذهب معتمرا هو وصحبه ومنعوه من البيت الحرام، حتى هم بقتالهم إن بدأوه بالقتال، ولكنه صالحهم على الدخول من قابل، والثانية عندما عاد إلى قضاء عمرته، فلقد كان على استعداد لأن يقاتل المشركين إن قاتلوه على ألا يبدأهم، وكان ذلك في ذي القعدة في العامين.
ولقد ابتدأ في العام الثامن مع هوزان وحنين في الأشهر الحلال، ولكن استمر القتال حتى دخل ذو القعدة الشهر الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاصرهم، وقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحصار أياما ثم قفل راجعا احتراما للشهر الحرام، ولعل الأيام التي استمرها لينظم الرجوع ويأمن ظهره، وحتى لا يأخذه في رجعته عدو الله وعدوه.
هذه حقائق مقررة ثابتة تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرم على نفسه ابتداء القتال في الشهر الحرام إلا أن يقاتل فيقاتل، ولقد تقرر التحريم بالقرآن الكريم في أكثر من آية، منها قوله تعالى في أول سورة المائدة، وهي من آخر القرآن نزولا :[ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد... ٢ ] ( المائدة ).
ولكن مع ذلك اختلف الفقهاء، فقال بعضهم وهم الأكثرون : إن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ بقوله تعالى :[ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين٣٦ ] ( التوبة ) وقالوا إن معنى قوله تعالى :[ فلا تظلموا فيهن أنفسكم... ٣٦ ] ( التوبة ) أي بمنع القتال فيها كما ذكر ابن جرير الطبري وقالوا : لقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم هوازن وحنينا فيها، وما لأحد أن يحرم ما أحله رسول الله. ذلك قولهم ودليله.
و قال بعض آخر أقل عددا من الأول : إن تحريم القتال فيها ابتداء من غير اعتداء من الأعداء فيها شريعة باقية، لأنه لم يوجد نص صريح يعارض نصوص التحريم، ولا يمكن إعماله إلا بالنسخ، ولأن تحريم هذه الأشهر ثبت بآيات من آخر آيات القرآن نزولا وهي سورة المائدة كما نوهنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد التحريم بذكر تلك الأشهر في خطبة الوداع التي سجل فيها شرع الله على عباد الله، وأشهد عليهم فيها أنه بلغهم رسالات ربه، وما كان قتال النبي صلى الله عليه وسلم لهوازن وحنين في الشهر الحرام ابتداء بل كان امتدادا، ولقد قطع القتال ولم يستمر فيه لما صارت الرجعة عن القتال لا تعرض جنده لمضار تكون أشد من تحريم القتال في الشهر الحرام.
و لأجل هذا قال عطاء بن رباح حالفا بالله : إنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت.
ولعل الفقهاء الذين قرروا إباحة القتال في الأشهر الحرم، قد استمدوا حكمهم مما ذكرنا متأثرين بأحوال زمنهم، فإنه بعد أن اتسع الفتح الإسلامي صار جند المسلمين في مذأبة من الأمم المعادية تنتهز الفرص من غير هوادة أو مهادنة، فإذا رأوا المسلمين قد أغمدوا القُضب في أجفانها انقضوا عليهم، وأتوهم من مأمنهم بل لعلهم وجدوا أن الفتوحات الإسلامية التي تمت في عهد الصديق والفاروق، وامتدت في عهد ذي النورين، لم تغمد فيها السيوف في الأشهر الحرم، لأنها كانت حربا ممتدة مستمرة موصولة غير مقطوعة، فحسبوا أن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ، ولكنا إذا قيدنا التحريم بالابتداء وفي غير حال مباكرة الأعداء بالاعتداء، نجد النصوص سائرة مع عمل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من غير تضارب يسيغ النسخ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ولماذا حرم الله سبحانه وتعالى القتال في الشهر الحرام ؟ يظهر لي أن السبب في ذلك أمران جليلان :
أحدهما : تأمين السبل في الحج، ذهابا وجيئة، ولذلك كان أكثرها أشهر الحج، كما قال الله تعالى :[ الحج أشهر معلومات... ١٩٧ ] ( البقرة ) فمنع القتل فيها تأمينا للسبل، ولأمن بيت الله الحرام، وأما رجب الذي بين جمادى وشعبان فقد كان شهر الاعتمار، فيه تؤدى العمرة المندوبة انفرادا، وعلى هذا يكون تحريم القتال في الشهر الحرام ليتحقق الأمن الكامل للبلد الحرام ولحرم الله الآمن إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه :[ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم... ٦٧ ]( العنكبوت ).
و لعل الفقهاء الذين قالوا : إن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ لاحظوا هذا المعنى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى صارت الصحراء العربية بوبرها ومدرها كلها تحت سلطانه، وفي ظل الله، فصار الحجيج يصلون إلى البيت الحرام آمنين، ولو كان القتال دائر الرحى في غير البلاد العربية، فظنوا النسخ، لأن التحريم حينئذ يكون قد استوفى أغراضه والغاية منه، واستنبطوا مع ذلك من نصوص وحوادث ما يزكي ذلك وينميه، على نظر في ذلك.
و ثاني الأمرين اللذين نظنهما حكمة التحريم : أن الإسلام يكره القتل والقتال، وهو في نظره أمر بغيض لا يلجا إليه إلا عند الاضطرار، وإن النفوس السليمة تقر ذلك، ولذلك قال سبحانه :[ كتب عليكم القتال وهو كره لكم... ٢١٦ ] ( البقرة ) فكان من حصر القتال في أضيق دائرة أن يتفق الفريقان على إلقاء السلاح وحقن الدماء. وإذا كان ثمة أشهر يحرم فيها، ويرتضي الفريق الآخر ذلك التحريم حقنا للدماء فيه، فإنها ستكون هدنة في أوار الحرب، ولعلها تكون نسيم السلام، ولقد لاحظ الناس بالتجارب المستمرة أنه ما كانت هدنة في حرب ضروس إلا فلَّت حدتها، وأضعفت شرتها، والله عليم بذات الصدور.
[ و الحرمات قصاص ] تعالت كلمات الله، تلك حكمة بالغة، وكلمة جامعة لكل ما سبقها من معان في القتال ومبينة لمقاصد الإسلام في علاقات المسلمين مع غيرهم، وعلاقة بعضهم ببعض في اجتماعهم، وهي قضية خلقية سليمة صحيحة تقبلها العقول السليمة، وتقرها الأخلاق القويمة.
و الحرمات : جمع حرمة، كما أن الحجرات جمع حجرة، والظلمات جمع ظلمة، والحرمة الأمر الذي حرمه الله ومنع انتهاكه والقصاص من معانيه المساواة، وتتبع آثار الجريمة بالعقوبة، ومعنى القصاص في الحرمات أن يعامل منتهك الحرمات بمثل ما فعل، وأن يكون العقاب من جنس العمل، وألا يقيد المعاقب بحرمة انتهكها الجاني، فإذا انتهك الجاني حرمة النفس بقتلها، لا يتقيد المعاقب بحرمة نفسه، بل يقتص منها، لأنه إذا انتهك حرمة غيره بقتل أو اعتداء فقد أباح من حرماته مقابل ما انتهك.
ومعنى قول تعالى :[ و الحرمات قصاص ] في هذا المقام ٣ أن ما انتهكوه من حرمة الأنفس بقتلها وفتنتها عن دينها، وحرمة البيت الحرام التي انتهكوها بإخراج أهله منه وصدهم عنه، وقتالهم فيه، وحرمة الشهر الحرام إذا انتهكوها، كل هذا يعامل بالقصاص والمساواة والعدل، فما انتهكوه من حرمات في حق غيرهم يقتص بمثله منهم ولا تحترم فيه حرمة لم يحترموا مثلها في غيرهم.
و ذلك قانون شامل يعم ولا يخص، ينظم العلاقات الدو
١ البخاري : كتاب تفسير القرآن – باب إن عدة الشهور (٤٢٩٤)، ومسلم : كتاب القسامة (٣١٧٩) عن أبي بكرة – رضي الله عنه – وهو نفبع بن الحارث بن كلدة. ورواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والدرامي..
٢ عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزوا، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ. (رواه أحمد في مسنده (١٣٠٥٦))..
٣ يثير الفقهاء بحوثا في هذه القضية عند تطبيقها تطبيقا جزئيا، ويختلفون في حل ما يثيرونه بتطبيقها عليه، ومن هذه الأمور التي يثيرونها: أيسوغ للشخص أن يقتص لحقه بغير أمر حاكم ؟ لقد اتفقوا على أنه في الدماء لا يسوغ ذلك قط، بل لابد من حكم الحاكم ليكون القصاص، أما في الأموال إذا اغتصبت أو أنكرت فهل يسوغ أخذها من غير حكم ؟ بعض الفقهاء منع ذلك منعا مطلقا، ولكن أولئك ليسوا الأكثرين، وجمهور الفقهاء على أن الشخص إن ظفر بعين حقه أو بمال من جنسه أخذه، ويكاد ينعقد الإجماع على الأول، أما ما كان من الجنس فالأكثرون على الجواز ما دام لا يعد سرقة، فعلى ذلك الحنفية والشافعية وأكثر المالكية، وأما إن ظفر بغير جنسه من مال مغتصبه، فقال بعضهم يسوغ، وبعضهم لا يسوغ، وهو المعقول حتى لا تكون أمور الناس فوضى..
[ و أنفقوا في سبيل الله ] بين سبحانه مشروعية القتال عند الاعتداء، ورد الاعتداء بمثله قدرا وزمانا ومكانا مع ملاحظة الدين وعدم الاسترسال في أمر يخالفه إن وقع من المشركين، أو المحاربين بشكل عام مثله، ولقد أخذ بعد ذلك يبين ما هو عدة الحرب، وقوة الجماعة الإسلامية، ورباط بنيانها وهو المال، فأمر الأغنياء بإنفاق المال في سبيل الله أي في كل ما هو خير وبر، فإن كل خير وطاعة يعد سبيل الله سبحانه، وإنفاق المال على ذلك هو قوة الأمة في سلمها، وقوة السلم هي عدة الحرب، وإن من الإنفاق في سبيل الله الإنفاق في الحرب، وإعداد العتاد الحربي، ولكن ذلك وإن كان قوة الحرب المباشرة، لا ينفي أن قوة الحروب تعتمد على وحدة القوة في الأمة، وقوة الصلة بين ضعفائها وأقويائها، وأغنيائها وفقرائها، وذلك يكون بسد حاجة المعوزين، وإعطاء المحرومين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" ١.
[ و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ]التهلكة بضم اللام : مصدر بمعنى الهلاك، كما قال أبو عبيدة والزجاج، وادعى بعض علماء اللغة انه لم يوجد مصدر على وزن "تفعلة" إلا هذا، ولكن روي عن سيبويه كلمتان أخريان هما تنصرة وتسترة، بمعنى نصر وستر. وقد جوز الزمخشري أن يكون أصلها "تهلكة" قلبت الكسرة ضمة، ككسرة الجوار قد تقلب ضمة فيقال "الجُوار " ‘ ومهما يكن فإن التهلكة إذا كانت بمعنى الهلاك في المال، فلابد أن يكون ثمة فرق دقيق اقتضى العدول من لفظ الهلاك إلى لفظ التهلكة كما هو الشأن في التخير من الألفاظ المترادفة في الكلام البليغ، ولو أن لنا أن نلتمس فرقا فهو أن نقول : إن التهلكة هلاك خاص، وهو الذي يباشر سببه من ينزل به الهلاك، وربما لا ينزل دفعة واحدة، بل يسري شيئا فشيئا، ولكن نتيجته تكون مؤكدة، أما لفظ الهلاك فهو يشمل ما ينزل دفعة واحدة وما لا يكون للإنسان فيه إرادة غيرهما.
و الباء في قوله سبحانه [ ولا تلقوا بأيديكم ] قيل زائدة في الإعراب لتقوية معنى الإلقاء المنهي عنه، فيقوى النهي، وقيل المعنى : لا تلقوا أنفسكم مجذوبة بأيديكم وإرادتكم إلى التهلكة، فلا تكون زائدة. وعلى أن الباء زائدة في الإعراب يكون المراد بالأيدي الأنفس، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، والمعنى : لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. والمؤدى في التخريجين واحد.
و النهي عن الإلقاء في التهلكة بعد الأمر بالإنفاق وبعض شؤون القتال يعين المعنى بأنه فيما يتعلق بشؤون الدفاع عن الدولة والذود عن حياضها، وحفظ كيانها، أو على الأقل يتجه نحو هذه الغاية أو ذلك المرمى أولا وبالذات، ولذلك فسر الأكثرون الإلقاء إلى التهلكة بأنه الكف عن القتال والتقاعد عنه فتكون الأمة نهبا للمغيرين بسبب ذلك، والكف عن الاستعداد للحرب بإعداد العدة وأخذ الأهبة كما قال تعالى :[ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... ٦٠ ] ( الأنفال ) وبقبض الأغنياء أيديهم عن إعطاء حق الفقراء، فيكون بأس الأمة بينها شديدا، يسهل إغارة المغيرين عليها، ولذلك روى ابن عباس في تفسير هذه الآية وهو ترجمان القرآن ما نصه : لا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا.
هذا هو معنى الآية على ما عليه الأكثرون وهو الذي يتفق مع السياق، ومع المروي في جملته، فقد روى البخاري في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في النفقة، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم قال :" غزونا القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمان بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو فقال الناس : مه مه ٢ ! لا إلاه إلا الله : يلقي بيده إلى التهلكة ! فقال أبو أيوب الأنصاري :" سبحان الله أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه، وأظهر دينه قلنا هلم نقيم في أموالنا، فأنزل الله عز وجل :[ و أنفقوا في سبيل الله ] والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد.
و قد تضافرت الروايات بمثل ذلك مما يجعلنا نفهم أن الآية الكريمة تتجه إلى حماية الدولة والجماعة من أن تلقي بيدها إلى التهلكة، بترك الضعفاء فيها، وترك الجهاد دفاعا عنها، وعدم الاستعداد لأعدائها.
و لكن عموم الآية قد يشمل حال الآحاد إذا أقدموا على ما يضرهم من غير أي فائدة تعود على الجماعة من إقدامهم ولو كانت الفائدة معنوية أدبية، فإن ذلك يسير عليه النهي بمقتضى العموم، وليس منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق للظالمين، فإن ذلك فيه فائدة معنوية للأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله "٣.
و قد اختلف العلماء فيمن أقدم على مهاجمة عدو كثير العدد وحده، فسوغه ناس٤ لما فيه من فائدة للجماعة ولو معنوية، ومنعه آخر لأنه لم ير فيه أية فائدة للأمة، وفيه المضرة على من أقدم، فتنطبق عليه الآية.
و الخلاصة أن الآية ينطبق النهي فيها على الأمة إن تركت أمر حمايتها من الآفات الاجتماعية في الداخل، وغارات الأعداء في الخارج حتى هلكت، وينطبق النهي على الآحاد إن أقدموا على ما يهلكهم من غير أي نفع مادي أو أدبي لأمتهم.
[ و أحسنوا إن الله يحب المحسنين ] الإحسان في لغة القرآن الكريم يطلق بإطلاقين، أحدهما، الإتقان والإجادة في العمل والقيام بالطاعات على وجهها، ومن ذلك قوله تعالى :[ إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ٣٠ ] ( الكهف )، وقول تعالى :[ الذي أحسن كل شئ خلقه٧ ] ( السجدة ). والثاني : التفضل على غيره بالعطاء والزيادة فيه، وعندي أن هذا في الجملة يعود إلى الأول لأن ذلك من قبيل إتقان العبادة، والإخلاص الكامل فيها.
و على ذلك نرى أن الإحسان هنا هو الإجادة والإتقان، وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بعد الأمر بالقتال أن يجيدوا كل أعمالهم كل الإجادة، وأن يحتاطوا في كل ما هو متصل بحياتهم الشخصية وأحوالهم الاجتماعية، وشؤون دولتهم وما يقيم أودها ويصلح أمرها، ففي الحرب جلاد وجهاد وفداء، وفي السلم إعداد واستعداد ومحبة وولاء، ومودة بينهم وإخاء، ليكونوا كما وصف الله الأسلاف [ أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ] ( الفتح ) [ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين... ٥٤ ] ( المائدة ) فإن لم يكونوا كذلك فقدوا عون الله ونصرته، بعد أن فقدوا عزة الإسلام وهدايته، لأن الله مع من يحسن، ولا يحب سواه، إذ قال :[ إن الله يحب المحسنين ].
١ عن أبي الدرداء قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" (رواه الترمذي: الجهاد، ما جاء في الاستفتاح بصعاليك المسلمين (١٦٢٤) وأحمد : باقي مسند الأنصار (٢٠٧٣٨) وبنحوه رواه ابن ماجة والنسائي ). ابغوني بهمزة الوصل والقطع بمعنى الطلب..
٢ بمعنى: اكفف..
٣ " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله " أي : فقتله السلطان أو أمر بقتله.(دليل الفالحين باب ٨٠- وجوب طاعة ولي الأمر، ولسان الميزان – باب من اسمه حكيم (حكيم بن يزيد) عن جابر رضي عنه رفعه " أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه فأمر فقتله "). و قال الأزدي : حكيم متروك الحديث.
و رواه الحاكم في المستدرك عن علي موقوفا بلفظ: أفضل الخلق الرسل، وأفضل الخلق بعد الرسل الشهداء وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب..

٤ ذكر الإمام محمد بن الحسن في كتابه السير الكبير أنه لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو كناية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن قصد تجرئة للمسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنعه فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن قصد إرهابا للعدو، وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه..
الحج
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ( ١٩٦ )
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمات من قوله تعالى :[ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر... ١٧٧ ] ( البقرة ) فيها تنظيم للجماعة الفاضلة، ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لا فرق بين قوي ولا ضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة [ و لكم في القصاص حياة... ١٧٩ ] ( البقرة ) وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها، بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوي الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي، فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصد يقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء، بل في بعض كفاراته الصوم، وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع، فكان حقا أن يجئ الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح، لأنه يجمعها في أحكامه.
و لكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرا أو متعسرا، لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة، فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشعيرة الإسلامية، لذلك جاء القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى :[ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها... ١٨٩ ] ( البقرة ) وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى :[ و أتموا الحج والعمرة لله ]. ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها، ولذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله.
ثم هناك مناسبة خاصة بين الآية الأولى وأحكام القتال، لأن فيها بيان حكم من يمنعه عدو من الوصول إلى البيت الحرام، وقد حدث في العام السادس أن منع النبي صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى البيت الحرام، وهم بأن يمتشق السلاح ويقاتل حتى يصل إليه بقوة السلاح، ولكن كان الصلح على أن يرجع من عامه هذا، ثم عاد في العام السابع وأدى عمرة القضاء. فكانت هذه الآية ذات مناسبة خاصة تربطها بالقتال والجهاد في سبيل الله تعالى.
و هذه الآيات في بعض أحكام الحج، ولذلك نبين هذه الأحكام ولا نتعرض للتفريع واختلاف الفقهاء إلا بالقدر الذي يكون تفسيرا لكلماتها، أو يكون مستمدا من ظلالها أو قابسا من نورها.
[ و أتموا الحج والعمرة لله ] الحج في أصل معناه اللغوي : القصد، وخصه الراغب الأصفهاني بالقصد للزيارة، ومن ذلك قول الشاعر :
.................................. *** يحجون بيت الزبرقان المعصفر
والعمرة في الأصل اللغوي تتلاقى مع مادة العمارة التي هي ضد الخراب ويراد بالعمرة في اللغة : الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان، وعمارة القلوب بالود، وتلاقيها على صفاء المحبة والإخلاص.
هذا هو الأصل اللغوي لمعنى كلمتي الحج والعمرة، وقد صارت الكلمتان من الألفاظ الإسلامية التي خصها الشرع بمعان تتصل بأصل معناها اللغوي، فالحج في أصل معناه كما رأيت قصد المكان للزيارة، فصار في المعنى الإسلامي يطلق على قصد بيت الله الحرام وعرفات والمشعر الحرام للزيارة بشروط خاصة وأركان خاصة، جماعها المتفق عليه الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم ثلاثة : الإحرام، وهو بالنسبة للحج كتكبيرة الإحرام بالنسبة للصلاة، والوقوف بعرفة، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" ١ لأن له وقتا معينا إذا فات الشخص فاته الحج في هذا العام، ووجب الحج من قابل، والطواف.
و قد اختلف في الوجوب فيما عدا هذه الثلاثة من السعي بين الصفا والمروة والوقوف بالمزدلفة وغيرهما.
و العمرة قد رأيت أنها في أصل معناه للزيارة المقصود بها عمارة المكان بالأشخاص، وعمارة النفوس بالمودة والإخلاص، وقد خصها الإسلام بزيارة بيت الله الحرام، وتلاقي النفوس فيه على مودة ورحمة وإخاء، ولها أركان خاصة وشروط، وجماع أركانها المتفق عليها بين الفقهاء اثنان : الإحرام والطواف.
و قد أمر الله سبحانه وتعالى بإتمام الحج والعمرة لله، فنص بهذا على وجوب أن تكون هذه العبادة خالصة لله سبحانه وتعالى لا يشرك المؤمن فيها مع الله سبحانه وتعالى أحدا، وكذلك الشأن في كل عبادة، بل في كل عمل خير، يجب أن يتجه العبد فيه إلى الله سبحانه وتعالى، لا يقصد غير الله، ولا يريد بعمله إلا وجهه، لأن من كمال الإيمان أن يحب المؤمن الشئ لا يحبه إلا لله، ومن كمال الإيمان أن يكون هوى المؤمن وغاياته ومقاصده تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقصد به إلا وجه الله سبحانه وتعالى.
وكل عبادة لا يقصد بها وجه الله لا يثاب عليها صاحبها، بل إنها جديرة بالعقاب لا بالثواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرر بأن ذلك شرك، وهو الذي يقول عنه العلماء إنه الشرك الخفي، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك "٢ وقد سماه العلماء شركا خفيا لأن صاحبه يخفيه ولا يبديه، ولأنه دقيق لا يدركه إلا ذوو النفوس الطاهرة، والقلوب البارة التي تحاسب نفسها، ولأنه بلا ريب دون عبادة الأوثان، وإن كان من بابها، وقد وجدنا في عصرنا ناسا يجاهرون بأنهم يتصدقون بالصدقة العظيمة يبتغون بها الجاه، أو ملق أصحاب الجاه، فبأي اسم يسمى عملهم ؟ أيسمى شركا خفيا، أم يسمى شركا جليا ؟ وهو على أي حال مروق من الدين، إذ قد اطرح فيه جانب رب العالمين.
و ما المراد بالأمر بإتمام الحج والعمرة : أيراد بالأمر إقامتهما، وإيجادهما، أم يراد بالأمر إتمامهما لا أصل إقامتهما بأن يراد الإتيان بهما تامين فيكون الأمر منصبا على الإتمام، لا على أصل الأداء، ويكون المعنى على الأول : أقيموا الحج والعمرة أي أدوهما، كقوله تعالى :[ ثم أتموا الصيام إلى الليل... ١٨٧ ] ( البقرة ) فليس الاتجاه إلى الإتمام بل إلى الإنشاء، والمعنى الثاني ائتوا بهما تامين، أي كاملي الأركان قد استوفيت شروط كل منهما، خالصين لوجه الله سبحانه وتعالى لا تشوبهما شائبة من رياء.
هناك اتجاهان في هذا المقام، فبعض الفقهاء ومعهم بعض المفسرين، وسبقهم بعض التابعين والصحابة على أن المراد بالأمر الإنشاء والإتيان والإقامة، فمعنى أتموا الحج والعمرة ائتوا بهما، وعلى هذا المنهج علقمة والنخعي وسعيد بن جبير وعطاء، وطاوس، وروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولهذا قرروا أن العمرة واجبة كالحج، وهذا ما قرره الشافعي على أحد قوليه وسفيان الثوري.
والاتجاه الثاني هو أن المراد بالأمر الأمر بالإتمام، أي أنه إذا شرع فيهما أو في أحدهما عليه أن يتمه ويأتي به كاملا، وإذا لم يستطع إتمامه أو عدل عنه فعليه أن يعيده، وتكون الإعادة واجبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في عمرة القضاء، وعلى ذلك الرأي لا تكون العمرة واجبة لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في هذه الآية الكريمة ما يفيد الوجوب فهي لا تفيد وجوب حج ولا وجوب عمرة، بل تفيد وجوب الإتمام إن شرع في أحدهما، وفد ثبتت فريضة الحج بآية أخرى، وهي قوله تعالى :[ و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا... ٩٧ ]( آل عمران ).
و على هذا الرأي جمهور الفقهاء وجمهور التابعين وكثرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهي على هذا الاتجاه سنة. وقد تأيد استنباط هؤلاء من الآية الكريمة بأقوال للنبي صلى الله عليه وسلم قد صحت عنه، وثبتت نسبتها إليه، ووفق ذلك فإن أركان العمرة تدخل في ثنايا أركان الحج، ولذلك ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة "٣.
و القول الجملي أن فريضة الحج مجمع عليها، وأما فريضة العمرة ففيها خلاف، وقد فرض الحج في العام التاسع من الهجرة على أرجح الروايات.
و قد ذكرنا أن أول أركان الحج الإحرام، وأنه من الحج كتكبيرة التحريم بالنسبة للصلاة، ينوى به الدخول في الحج، كما ينوى بها الدخول في الصلاة، وإذا تم الإحرام على وجهه صار الشخص حاجا، فيلبس غير المخيط، ولا يحلق رأسه، ولا يقصر شعره، ويحرم عليه الصيد، وتحرم عليه النساء، كما يحرم على المرأة الرجال.. وهكذا يستمر في تلك الشعيرة المباركة حتى يتحلل من الإحرام بالذبح والحلق، كما يخرج المصلي من الصلاة بالتسليم.
والإحرام له ميقات من الزمان والمكان، فهو بالنسبة للزمان يكون في أشهر الحج، كما تبين، وفي المكان يكون في مداخل الحرم المكي، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأمكنة لأهل كل جهة ومن وراءهم ويجيء عن طريقهم، فجعل لأهل المدينة ومن وراءهم قرية ذي الحليفة، ولأهل الشام ومن وراءهم كأهل مصر قرية الجحفة التي تقرب من قرية رابغ، ولأهل نجد جبل قرن، ولأهل العراق ذات عرق ٤.
فإذا نوى الحج أحد من هذه الأماكن صار محرما تحرم عليه محرمات الحج، إلا أنه قد يعرض له ما يرخص له قطع الإحرام أو التحلل من بعض ما حرم عليه، وذلك في ثلاثة أحوال، اثنتان فيهما معنى الاضطرار، وثالثة فيها اختيار، فالأوليان حال الإحصار، وحال المرض، والثالثة حال التمتع، قد ابتدأ سبحانه بذكر الأولى فقال :[.. فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ].
مادة الحصر في اللغة تدل على التضييق، ومن ذلك قوله تعالى في شأن القتال :[ و احصروهم ] أي ضيقوا عليهم، ولذلك أطلقت على الحبس. وقال سبحانه :[... وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ٨ ]( الإسراء ) أي محبسا.
هذا موضع اتفاق بين علماء اللغة، ولكن الخلاف بينهم في الفرق بين الإحصار والحصر، فقد قال الكسائي وأبو عبيدة وكثيرون من علماء اللغة : الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة، أي ما يكون الحبس فيه من ذات الشخص لا من أمر خارج عنه، والحصر هو حصر العدو، وعلى هذا يقال أحصره المرض، وحصره العدو، وقال الفراء : هما بمعنى واحد، فيقال حصره المرض وأحصره، وحصره العدو وأحصره، وقال الراغب الأصف
١ جزء من حديث رواه في المناسك الترمذي (٨١٤) والنسائي (٢٩٩٤) وأبو داود (١٦٦٤) وابن ماجة (٣٠٠٦) وأحمد في أول مسند الكوفيين (١٨٠٢٣) والدار مي. كلهم عن عبد الرحمان بن يعمرالديلي رضي الله عنه..
٢ رواه أحمد : مسند الشاميين : حديث شداد بن أوس (١٦٥١٧)..
٣ رواه مسلم : كتاب الحج – حجة النبي صلى الله عليه وسلم (٢١٢٧) عن جابر بن عبد الله، ورواه أحمد في مسنده (١٣٩١٨)، والدارمي (١٧٧٨)، والترمذي (٨٥٤) والنسائي (١٥٢٥) وأبو داود (١٦٢٨) وابن ماجة (٣٠٦٥)..
٤ عن عائشة قالت :: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الحجفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل نجد قرنا، ولأهل اليمن يلملم ". أخرجه النسائي – ميقات أهل العراق (٢٦٠٨) وفي الصحيحين من رواية عبد الله بن عباس قال :" إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة ". (البخاري –مهل أهل مكة للحج والعمرة (١٤٢٧)، ومسلم – مواقيت الحج والعمرة (٢٠٢٢) )..
[ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ] قد بين في الآية السابقة بعض أحكام الحج، وفي هذه الآية الكريمة يبين ميقاته، وما ينبغي للمؤمن في وقت حجه.
و قوله تعالى :[ الحج أشهر معلومات ] أي وقت الحج أشهر معلومات، وإنما جعلت النسبة إلى الحج نفسه، لا إلى وقته، فكأن الإسناد إليه – للإشارة إلى أن هذه الأشهر لأنها ميقات تلك العبادة المقدسة، تكتسب تقديسا منها، وكأنها هي. والأشهر المعلومات اتفق على أن منها شوالا وذا القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة، واختلف في العشرين الأخيرة أ هي منها أم ليست منها، وعلى أنها ليست منها الأكثرون والصحاح من الروايات.
و إن هذه الأشهر سميت أشهر الحج، لأن أركانه تستوفى فيها، وتأخذ الأهبة له فيها، ويحرم به فيها، ولكن قال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يصح الإحرام بالحج قبلها، وذلك رأي جمع من التابعين، ورأى الشافعي تابعا لبعض الصحابة والتابعين أن الإحرام بالحج لا يكون إلا في أشهره، كما أن نية الصيام لا تكون إلا في رمضان، وكما أن نية الصلاة لا تكون إلا وقت أدائها، وإن ذلك هو ما يشير إليه قوله تعالى :[ فمن فرض فيهن الحج ] إذ جعلهن وعاء الفرض وظرفه.
و معنى فرض الحج فيهن الإحرام به، فإذا أحرم بالحج نزه نفسه ولسانه عن كل قول يؤدي إلى نزاع، ولذا قال سبحانه :[ فلا رفث ولا فسوف ولا جدال ]. وقد فسر بعض العلماء الرفث بما يكون بين الرجل والمرأة، والفسوق بالخروج عن محظورات الحج، كلبس المخيط والحلق من غير رخصته، والصيد، وغير ذلك مما حظر الله سبحانه. والجدال هو المماراة.
وقد فسر بعض العلماء الرفث بأنه النطق بالفحش مما يكون بين الرجل والمرأة وغيره، والفسوق بالسباب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"١. والجدال : المماراة والمنازعة.
و عندي أن مرمى القول الكريم والنهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزه، وكل قول يؤدي إلى النزاع، والجدال يؤدي إلى الخصام، لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمان الروحية ليتعارفوا، وليتلاقوا، وليقوى اتحادهم، ويعتزوا بعزة الله، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام.
[ و ما تفعلوا من خير يعلمه الله ] وإذا كنتم قد تنزهتم في حجكم عن كل شر فاعلموا أنكم اجتمعتم لعمل الخير، فتنافسوا فيه، وتبادلوا النفع، وليتعرف الشرقي حال الغربي، واعملوا على ما يقوي جمعكم، ويزيل الضر عنكم، ويدفع عنكم كيد الكائدين، فإن الحج الذي يزكي نفوسكم لا يثمر ثمرته، ولا ينتهي إلى غايته، إلا إذا اعتبرتموه المؤتمر الأكبر لدولتكم، و المجتمع الأعظم لممثلي أمتكم، وإن الوادي المقدس هو ناديكم الذي اجتمعتم فيه، واعلموا أن خيركم محسوب لكم [ و ما تفعلوا من خير يعلمه الله ] سبحانه، فيعرف المحسن والمسيء، وحسب المحسن فضلا أن يعرف الله فضله، وأن يكون عنده من الأخيار الأبرار، وأن يكون عمله مقدورا من ربه، مذكورا عنده، ثم إنه يجازي الإحسان إحسانا، وما عنده خير وأبقى.
[ و تزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ] التزود هنا معنوي نفسي، لا مادي مالي، فالتزود : الإكثار من التقوى، وتهذيب النفس، وإشعار المؤمن بمودة المؤمن، وتوثيق العلاقة به، والتحاب على مائدة الرحمان وتحت سلطان الديان. و الدليل على أن الزاد معنوي لا مادي قوله سبحانه من بعد معللا لطلبه، مثبتا الحكمة من أمره :[ فإن خير الزاد التقوى ] ففي الكلام استعارة، وهو تشبيه التقوى والمودة والمحبة والإخلاص الذي يملأ قلب الحاج بالزاد المادي، لأن الأول غذاء القلوب، كما أن هذا غذاء الأجسام.
و لقد قال بعض العلماء إن التزود مادي، وهو نهي للحجاج الذين لا يتزودون في حجهم ويتكففون الناس، وقد كان يفعل ذلك أهل اليمن فنهوا عنه.
و لكن المعنى الواضح من الآية هو الأول، ولذلك أردفت الآية بالأمر بالتقوى أمرا عاما فقال سبحانه :[ و اتقون يا أولي الألباب ] أي اتخذوا من عمل الخير واجتناب الشر، والقيام بالطاعات والامتناع عن المنهيات وقاية من غضبي، وخص ذوي الألباب بالنداء، وهم ذوو العقول المدركة الواعية للإشارة إلى أن من لا يتقي الله ليس عنده لب يدرك، ولا قلب يعي، ولا إرادة تعمل على مقتضى العقل والحكمة. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير.
١ متفق عليه، رواه – عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه – البخاري : الإيمان – خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر( ٤٦) ومسلم : الإيمان – سباب المسلم (٩٧)..
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ( ١٩٨ )
هذه الآيات الكريمة في ذكر بقية مناسك الحج، وقد ابتدأت الآيات السابقة، فذكرت ابتداءه وأشارت إلى انتهائه، وكيف يكون الانتهاء، وفي هذه الآية بيان أو بالأحرى إشارة إلى ركن الحج الركين الذي يفوت الحج بفواته، وهو الوقوف بعرفات. فهذه الآيات وما سبقها في موضوع واحد.
و قد انتهت الآية السابقة بأن الحاج عليه أن يتزود من المعاني الروحية، لأنها لب الحج ومعناه، وغايته ومرماه :[ فإن خير الزاد التقوى ]. وقد ابتدأت هذه الآيات ببيان أن التزود الروحي لا يتنافى مع بعض الأغراض المادية، إذا توافرت التقوى، وتسامت النفس وعلت قوة الروح، فإن المادة في هذه الحال تكون مطية الروح، وفي خدمة المبادئ الفاضلة، فليست التقوى في الإسلام هي التجرد النفسي، والانخلاع من دواعي الجسم أو تعذيب الجسم لتطهير الروح، إنما التقوى في الإسلام تقوية الروح لتسيطر على الجسم، وتقوية الجسم ليؤدي مقاصد الروح، ويصل إلى غاياتها ومراميها، ولذلك أردفت الآية الداعية إلى طلب الزاد الروحي من التقوى بالآية التي تنفي الإثم عن مطالب الجسد، مادامت خاضعة لقوة الإرادة والعقل، لأن المادة ومقتضياتها من ملاذ ومتع ليست محرمة في الإسلام، بل هي محللة على أن تكون أمة للعقل والروح والإرادة الحازمة الفاضلة لا أن تكون سيدا حاكما مسيرا، أو أن تكون الغاية والقصد، فتلك هي الحيوانية.
[ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ] الجناح هنا الإثم، وأصله من جنح إذا مال، يقال جنحت السفينة إذا مالت، وقال تعالى :[ و إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله... ٢١ ] ( الأنفال ). ولما كان الإثم ميلا متطرفا نحو الباطل صارت كلمة الجناح تطلق على الإثم لما فيه من معنى الانحراف المائل عن الحق، والابتغاء : الطلب الشديد. والفضل أصل معناه الزيادة وهي تكون في الخير وفي الشر، ولكن يعبر عن الزيادة القبيحة بأنها فضول، وعن الزيادة في الخير بأنها فضل فزيادة العالم على الجاهل فضل، وزيادة المصلح على المفسد فضل، وزيادة الأعمال والمقاصد الخيرة على غيرها فضيلة.
و تطلق كلمة فضل ويراد بها المال الحلال من التجارة التي لوحظت فيها الفضيلة، ولقد جاء ذلك في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى :[ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ] ( الجمعة )، وقد تطابقت كلمة المفسرين على أن الفضل في هذه الآية الكريمة هو المال الحلال المكتسب من التجارة أو غيرها، لأنه جاء في السنة النبوية التصريح بذلك، فقد كان الناس يتأثمون من الاتجار في عشر ذي الحجة الأولى ١، لأنهم يحسبون أن تلك الأيام تكون للعبادة خالصة لا يخالطها أي أمر من أمورا لدنيا وكانوا يسمون من يتجر في هذه الأيام الداج لا الحاج، لأنهم أعوان الحجيج في غايتهم الروحية فنزل قوله تعالى :[ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ]
و لقد روي أن رجلا سأل ابن عمر فقال : إنا قوم نكري، أي نستأجر، فهل لنا من حج ؟ فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية :[ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ] ٢. و المعنى على هذا : ليس عليكم إثم أن تبتغوا رزقا حلالا في أيام الحج، على أن تكونوا في طلبكم وأخذكم للأسباب معتمدين على الله الخالق المنعم الذي رباكم، و أنشأكم ونماكم، فإضافة الرزق إلى الله تعالى ليس معناه أن نطلبه بالدعاء والتفويض، بل معناه أن نأخذ في الأسباب ونسعى، ثم نفوض أمور المقادير إلى مدبر الكون العليم الخبير.
و إباحة طلب المال في الحج لا يقتصر على الاتجار الآحادي، أو طلب المال من الآحاد فقط، بل يشمل العمل على التبادل الجماعي، ونمو الاقتصاد بين الأقاليم الإسلامية، فأهل الخبرة بشؤون المال من الحجاج يتصل بعضهم ببعض من الأقاليم المختلفة، ويعرف أهل كل إقليم ما عند الآخرين من فاضل الرزق الذي تخرجه أرض الله، وما ينقصهم من أسباب الحياة، ويتبادلون الفائض، ويسدون النقص وهو ما يسمى في لغة العصر الحاضر التبادل التجاري، فيعم الخير، ولا يكون إقليم من الأقاليم الإسلامية في نقص من الموارد، و آخر في الكثير منها.
و هذه تكون إحدى منافع الحج المادية التي اشتمل عليها قوله تعالى :[ ليشهدوا منافع لهم... ٢٨ ] ( الحج ).
و لقد قال بعض العلماء : إن الاتجار وطلب المال هو من قبيل الرخصة، لأن الله لم يطلبه بل نفى الإثم، فقد قال :[ ليس عليكم جناح ] ونفي الإثم يشير إلى أنه عفو، لا مباح، أي أن الأولى تركه، ونحن نخالف أصحاب هذا الرأي لأن الرخصة تقتضي أن تكون هناك عزيمة مانعة من الكسب، ولم يقم دليل على منع الكسب، فيبقى على الإباحة الأصلية، وجاءت الآية الكريمة مؤكدة لهذه الإباحة بنفي الإثم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ الذين يتوهمون أن الاتجار مانع من الحج، ولا يكون الفعل من قبيل العفو إلا إذا كان موضعه غير مباح، ولكنه لأحوال خاصة نفى الإثم نحو كل لهو باطل إلا لعب الرجل بقوسه.. إلخ. وطلب المال الحلال أمر مباح بإطلاق، ولقد قال رجل لعمر رضي الله عنه : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
و فوق ذلك أن المعنى العام الذي يهيأ له الحج وهو التبادل التجاري بين المسلمين أجمعين، بأن يقدم كل إقليم فائض ما عنده لأهل الإقليم الذي ينقصه، هو أمر مطلوب يقوي الوحدة الإسلامية، وهو إحدى منافع الحج المذكورة في قوله :[ ليشهدوا منافع لهم... ٢٨ ]( الحج ) كما نوهنا، فما نفى عنه الإثم هنا ذكر فائدة هناك، فكان مشروعا على سبيل الإباحة من الآحاد، وأحسب أنه مطلوب على سبيل الوجوب من الجماعات الإسلامية، فهو من قبيل المباح من الجزء المطلوب بالكل، أي أنه مباح للآحاد أن يتجروا في الحج، وواجب على جماعات كل إقليم وأهل الخبرة منهم أن يقيموا أسباب التبادل التجاري، فالحج فرصته المهيأة لهم، ولا فرصة سواه، أو تبلغ درجته.
[ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ] الفاء هنا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله تعالى :[ فمن فرض فيهن الحج... ١٩٧ ]( البقرة ) إلخ. والإفاضة السير متدافعين في جمع متزاحمين، وذلك تشبيه لهم بالماء إذا أفاض ودفع بعضه بعضا فانتشر وسال من حافتي الوادي أو الإناء. وعرفات هو الجبل المعروف الذي اتفق الفقهاء على أن الوقوف عنده هو ركن الحج الأكبر حتى لقد قال عليه السلام، كما ذكرنا من قبل :"الحج عرفة" وسمي اليوم التاسع يوم عرفة، لأنه اليوم الذي يقف فيه الحجيج في ذلك الجبل الذي شرفه الله ذلك التشريف، وقد اختلف في السبب في تسميته عرفات مع اتفاقهم على أنه اسم مرتجل لا منقول، فقال بعضهم : لأن إبراهيم عليه السلام عرفه بمجرد أن وصف له.
و قيل لأن إبراهيم عليه السلام علمه جبريل فيه مناسك الحج، فكان يقول : عرفت، عرفت. وقيل لأن عرفات من عرف بمعنى طيبه الله بالعرف بخلاف منى، فإن فيها الذبح وأفراث الذبائح. وأحسن تعليل للتسمية ما جاء في الزمخشري : قيل لأن الناس يتعارفون فيها. وهذا ما أختاره، وإن كانت الأسماء لا تعلل، وذلك لأن عرفات يجتمع الناس جميعا عليه في وقت واحد، فيجري التعارف بينهم، وليست هذه الخاصة في غيره من المناسك، فغيره يؤدى إفرادا أو جماعة، أما هذا فيؤدى في جماعة زاخرة، هي جماعة الحجاج أجمعين.
و المشعر الحرام : هو المزدلفة، وسمي كذلك، لأنه من معالم الحج التي لا يصح أن بعمل فيها إلا ما ورد به النص، وهو منسك له حرمة وتقديس، وقد سمي المزدلفة، لأن الحجيج يزدلفون إليه من عرفات، كما سمي جمعا، لأنهم يجتمعون فيه، ولأنهم يجمعون فيه صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، كما يجمعون بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في عرفات. ووقت الوقوف بعرفات عند الجمهور٣ من بعد زوال اليوم التاسع إلى فجر اليوم العاشر، والوقوف بمزدلفة بعد فجر اليوم العاشر.
و قد روى المسور بن مخرمة أن رسول الله النبي الله عليه وسلم خطب الناس فقال :"أما بعد هذا اليوم الحج الأكبر، ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس، إذ كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدى أهل الشرك "٤ ويبين ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يدفع من عرفات بعد الغروب ويدفع من المزدلفة قبل الشروق، بينما المشركون كانوا يدفعون من عرفات قبل أن تغيب الشمس، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس.
و الوقوف بالمزدلفة ليس شأنه في الحج شأن الوقوف بعرفات، فجمهور الفقهاء اتفق على أن من تركها لا يفوته الحج ٥.
و عرفات لها امتدادات أربعة، فهي تمتد في أولها : إلى طريق في المشرق، وثانيها : يمتد إلى حافة الجبل الذي وراءها، وثالثها : إلى البساتين التي تلي قرينها على يسار مستقبل الكعبة، والرابع : وادي عرنة، وليس منها، ولذا لا يصح الوقوف فيه.
و المزدلفة تمتد من عرفات إلى واد محسر، وليس منها، بل هو في أصله مسيل ماء، وقد استوت أرضه الآن٦.
و إن الآية الكريمة تشير إلى ذلك العمل الإجماعي الذي يقوم به الحجيج، وقد وقفوا في عرفات تهز أعطافهم، وتنير قلوبهم ابتهالات جموعهم الضارعة، وتلبيتهم نداء الله الجامع، وتعلو الأرواح، وتسمو عن منازل الأشباح، تنادي الألسنة رب العالمين، وتناجي القلوب علام الغيوب، حتى إذا قضوا الساعات في تلك المشاهد الربانية، وتلك المدارك الروحية، أفاضوا مسرعين إلى المشعر الحرام، سائرين حيث سار محمد النبي الكريم، ومن قبله أبو الأنبياء إبراهيم، وقد طولبوا بالذكر الحكيم، بأن يذكروا الله وهم في المشعر الحرام بالقلوب المبتهلة الخاشعة، و بالألسنة الجاهرة التي تقرع أجواز الفضاء بذكر الله العلي العظيم ( الله أكبر الله أكبر، الله أكبر لا إلاه إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد ).
[ و اذكروه كما هداكم وإن كنتم من قلبه لمن الضالين ] الخطاب في هذه الجملة الكريمة، إما أن نجعله خطابا خاصا بالذين صاحبوا النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنجاهم ربهم من ضلال الوثينة ورجسها إلى نور الوحدانية وسموها، ويكون المعنى اذكروا الله وقوموا له بحق العبودية، واملئوا قلوبكم وألسنتكم وأعمالكم لا يقصد بها إلا وجه الله، فإن ذلك ثمن الهداية، وأجر التوفيق، و لذا قال :[ و اذكروه كما هداكم ] أي في مقابل هدايتكم، فالكاف التي تفيد في أصل معناها التشبيه تقتضي أن يكون المعنى اجعلوا الذكر لله مشابها ومساويا للهداية الربانية التي فاض نورها عليكم، وإنكم لتعلمون ذلك الفضل السابغ، و إشراق الهداية إن تذكرتم ما كنتم عليه من قبل ذلك النور الذي قذف الله به في قلوبكم، ولذا ذكر حالهم [ و إن كنتم من قبله لمن الضالين ] إن هنا هي المخففة من الثقيلة، أي إن حالكم أنكم كنتم من قبل هدايته من زمرة الضالين وجماعتهم، فاعرفوا ماضيكم من حاضر أولئك الذين ما زالوا على ضلالهم ووازنوا بين حالكم وحالهم، فإن تلك الموازنة تريكم نعمة ربكم عليكم، وتريكم ح
١ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت عكاظ ومجنة ودو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه، فنزلت [لبس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسو الحج ]. قرأها ابن عباس.
(صحيح البخاري) : كتاب البيوع (١٩٠٩) )، وقراءة ابن عباس "في مواسم الحج" معدودة من الشاذ الذي صح إسناده وهو حجة وليس بقرآن. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح..

٢ عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا نكرى فهل لنا من حج ؟ قال أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف – أي عرفة – وترمون الجمار وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا بلى. فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل – عليه السلام – بهذه الآية (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال :"أنتم حجاج ". أخرجه بهذا اللفظ أحمد : مسند المكثرين (٦١٤١)، وبنحوه أبو داود : المناسك – الكرى (١٤٧٣))..
٣ قال المصنف- رحمه الله - : اتفق الفقهاء على أن الوقت من الزوال إلى الفجر وقت للوقوف، واتفقوا على أن من وقف قبل الغروب وبعده فقد صح حجه إذا استوفى ركنه. واختلفوا في أمرين فيما إذا وقف بعد الزوال وافترق بعد الغروب، فقد قال الجمهور يصح، وقال مالك في المشهور لا يصح حتى يكون الغروب ليفترق عن المشركين، كما نص الحديث، واختلفوا إذا وقف بالزوال، فقال الجمهور لا يصح، وقال أحمد يجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى ثفته " والسؤال والنبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة..
٤ عن المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" أما بعد، فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس حين تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، فهدينا مخالف لهديهم، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها فهدينا مخالف لهديهم ". رواه الحاكم في المستدرك ج٢ص٣٠٤(٣١٤٧) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه بنحوه البيهقي : شعب الإيمان (٩٥٢٩) والطبراني في الكبير، و مسند الشافعي (١٤٦٣)..
٥ قال المصنف – رحمه الله - : أقوال الفقهاء في الوقوف بالمزدلفة ثلاثة أولها : أنه فرض وركن كالوقوف بعرفات، وعلى هذا رأي بعض التابعين، وبعض الشافعية، وقال آخرون : إنه واجب وليس بركن بحيث من فاته وجب عليه دم، ولا يبطل حجه، وعلى هذا الحنفية والشافعية، وقال آخرون : إن الوقوف بالمزدلفة سنة مؤكدة، وعلى هذا أكثر المالكية..
٦ راجع تفسير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده الذي نقله عن درسه الشيخ رشيد رضا..
[ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ] بعد أن أشار سبحانه إلى الوقوف بعرفة والإفاضة إلى المزدلفة، وذكر الله فيهما، بين طريق الإفاضة فقال هذه الجملة الكريمة، واستعمل "ثم" لبيان الترتيب والتراخي البياني أو المعنوي، ففي الأول ذكر مطلق الإفاضة، ثم ذكر طريق الإفاضة وكيف تكون، كمن يقول أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، لبيان التفاوت بين مطلق الإحسان وتخصيص الكريم بالإحسان، وكذلك هنا كان التعبير بثم لبيان التفاوت في الفضل بين مطلق الإفاضة، والإفاضة مع الناس وفي جمعهم الزاخر المتدافع ليشعر كل مسلم بأنه في نزلة واحدة مع غيره من المؤمنين، فيستوي السوقة والأمير، والكبير والصغير، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، فتصقل هذه الزحمة القدسية قلوب المؤمنين، وتشعرهم بالمساواة أجمعين.
فهذه الجملة عامة في خطابها تشمل الحجاج أجمعين إلى يوم الدين، فهم جميعا مطالبون بأن يفيضوا مع الناس، ومن حيث يسيرون، لا يختص أحد بطريق، ولا يمنع لأحد طريق ولا يكون لفريق مسلك، ولا يمنع الناس حتى يمر بعض الناس، بل الجميع في المرتفع والمهبط، والسير والموقف سواء، لأنهم في ساحات رب العالمين الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.
و لقد قال بعض مفسري السلف : إن الخطاب في هذه الجملة خاص بقريش وحلفائها، لأنهم في الجاهلية كانوا يسمون أنفسهم الحمس يقفون بالمزدلفة، ولا يقفون مع سائر الناس بعرفة، فأمرهم الله سبحانه بأن يقفوا كما يقف كل الناس، ويفيضوا كما يفيض كل الناس.
و عندي أن الخطاب عام، ويدخل فيه النهي عن هذه الحال التي كانت من قريش، ومرمى الآية في معناها العام أو الخاص هو التسوية المطلقة بين الناس في تلك البقعة المباركة وفي ذلك النسك العظيم.
[ و استغفروا الله إن الله غفور رحيم ] ختم سبحانه الآية الكريمة التي تشتمل على آخر منسك من مناسك الحج، إذ يكون بعده التحلل، وإن بقيت بعض العبادات الأخرى، بالأمر بالاستغفار وهو طلب المغفرة من الله القدير، وطلب المغفرة فور العبادة أمر توحي به النفس المؤمنة البرة، وذلك لأن العبادة تطهر قلب العابد، وتزيل أدرانه، فتجعله يحس بما كان منه قبلها، فيضرع إلى المولى أن يستره بسترته، ويصفح عنه بعفوه، ولأن المؤمن الخالص الإيمان كلما أرهفت مشاعره وقويت روحه، أحس بأنه مقصر أمام النعم، لا يصل إلى الوفاء بحقه، فيلجأ إلى الاستغفار عن التقصير، ولأن الاستغفار نفسه عبادة، وهو أبر الطاعات، ولذا يقول بعض الصوفية : رب معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت دلا واستكبارا.
و الاستغفار ثمرة الحج، لأنه التطهير النهائي للنفس، فيعود الحاج الذي لم يفسق ولم يرفث كيوم ولدته أمه، ولقد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :[ إن الله غفور رحيم ] أي أن الله سبحانه وتعالى كثير المغفرة، وأن الغفران وصف له سبحانه في معاملته لعباده، والسبب في ذلك أنه رحيم بالناس، ومن الرحمة بهم أن يغفر للمذنب، ليعطيه فرصة النجاة من ماضيه واطراح مآثمه، واستقبال حياة جديدة نزهة ينعم فيها بالطهر وينتفع منه الناس، وذلك رحمة به وبالناس، فالمجتمع يستفيد من كثرة التائبين، ولا يستفيد من كثرة اليائسين من رحمة الله، إذ يستمرون في غيهم يأسا من غفران ربهم، ولذا قال سبحانه [ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم٥٣ ] ( الزمر ).
[ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ] المناسك : جمع منسك وهو العبادة، أي إذا أديتم عبادتكم التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم على وجهها، و كما شرعها ربكم، فاملئوا قلوبكم بثمرتها، وهي ذكر الله دائما وعمران القلوب به، فهو غاية العبادة ومرماها، وذكر الله دائما في كل الأعمال والأقوال هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فإن المرء إذا عمر قلبه بذكر ربه آناء الليل وأطراف النهار ما أقدم على معصية، وما آذى مخلوقا، وما أفسد مجتمعا، وما ظلم وما بغى، ولذلك قال سبحانه :[ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر... ٤٥ ]( العنكبوت ).
و لذلك طالب سبحانه الحجاج بأن يذكروا الله كذكرهم آباءهم، فإن المرء لا ينسى أباه، وإذا كان لا ينسى أباه لأنه كان السبيل الذي وصل به إلى هذا الوجود، فليذكر خالق أبيه وخالقه وخالق كل من في هذا الوجود.
و إن ذكر الله سبحانه يقتضي أن يغضب المؤمن لعصيان الله في الأرض، لأن ذلك اعتداء على محارم الله، ومن اعتدى على محارم الآباء قوتل فمن اعتدى على محارم خالق الآباء أولى أن يقاتل ويحارب، وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى :[ فاذكروا الله كذكركم آباءكم ] فقيل له : قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر أباه فقال ابن عباس : ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما، ففسر ابن عباس رضي الله عنه الآية بلازمها ونتيجتها وغايتها، إذ إن نتيجة ذكر الله دائما الغضب عندما تنتهك محارم الله سبحانه وتعالى، وإن الله طالب بأن نذكره كذكر آبائنا أو أشد ذكرا أي اذكروه سبحانه كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا من آباءكم، و "أو" في معنى الإضراب والترقي، أي أنه يطالبهم سبحانه بأن يذكروه كما يذكروا آباءهم، ثم يترقى في معاني التقرب منه، فيطالبهم بأن يكونوا أشد ذكرا له من آبائهم، وكأن لطالب الهداية درجتين : أولاهما، أن يكون ذكره لله كذكر الآباء، فيغضب لمحارمه كما يغضب لشتم أبويه، ثم تترقى حاله في مراتب التهذيب الروحي والنفسي، فيكون أشد ذكرا لله فيغضب لمحارمه أكثر مما يغضب لشتم الآباء.
و في الآية فوق هذه المعاني السامية تعريض بما كان يفعله أهل الجاهلية من قيامهم بعد يوم النحر في الأسواق يتفاخرون بالأنساب والآباء، كما تروي كتب الأدب عما كان يجري من المسابقات الشعرية في الفخر والغزل في سوق عكاظ.
و لقد استبدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المفاخرة خطبة استعرض فيها أمر الإسلام وذكر بعض أحكامه ليقتدي من بعده الأمراء فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي نضرة قال : حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، فقال :"يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم "١.
[ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ] بعد أن بين سبحانه وتعالى ما يجب على الناس أن يذكروه عقب القيام بمناسك الحج، وهو أن يذكروه هو وحده، وينسوا أهواءهم وشهواتهم ويغضبوا لمحارم ربهم، بين ما يقع من الناس، فذكر أنهم طائفتان : طائفة تذكر الدنيا، ولا يدعون الله بعد ناسك الحج إلا بما يشبع رغباتهم وأهواءهم، ولا يذكرون الآخرة، كأن العبادة في نظرهم ليست إلا ذريعة لطلب الشهوات أو الرغبات، أو مصالحهم الشخصية في الدنيا، وفريق يذكر الدنيا والآخرة، وقد ذكر الفريق الأول بقوله :[ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ] الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان ذلك أمر الله فالناس ليسوا جميعا سواء في طاعته، فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا، وقد حذف المفعول للفعل آتنا للدلالة على تعميم المطلوب، فهم يطلبون كل ما يمكن أن يصل إليهم، ومن طلب الدنيا لا يفرق بين هوى يرديه، وصالح يقيمه، ومعنى [ و ما له في الآخرة من خلاق ] أي لا نصيب لهم. وخلاصة المعنى : أن هؤلاء يلجأ ون إلى ربهم لينيلهم حظهم من الدنيا، راغبين في كل ما فيها لأنها همهم، ولا شيء سواها في نفوسهم، ولا غاية عندهم غيرها، وليس لهم أي نصيب في الآخرة.
١ رواه أحمد: باقي مسند الأنصار – حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (٢٢٣٩١). وأبو نضرة هو المنذر ابن مالك بن قطعة، من الطبقة الوسطى من التابعين..
[ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ] هذا هو الفريق الثاني، ليس همه الدنيا وليست مطالبه مقصورة عليها، بل مطالبه ثلاثة :
أولها : حسنة في الدنيا، أي حال حسنة في الدنيا، فلا يذل للئيم، ولا يرام بضيم، ولا تكرثه كوارث الحياة، ولا يبتلى في دينه ومروءته وخلقه، ولا يسلط عليه حاكم ظالم أو متسلط غاشم، وهكذا يعيش آمنا في سربه عنده قوت يومه، ينفع الناس ويصل رحمه، فكل ما يؤدي إلى الاطمئنان والبعد عن الحرام فهو حال حسنة في الدنيا.
و المطلب الثاني : حسنة في الآخرة، أي حال حسنة في الآخرة، بأن يكون من المرضي عنهم من رب العالمين، فلا تلحقه آثام من آثام الدنيا. والمطالبة بالحال الحسنة في الآخرة هي مطالبة بأن يجنبه السيئات في الدنيا، ويوفقه للطاعات فيها، لأن حال الآخرة مبنية على حال الدنيا، فإن كان قائما بالطاعات نافعا للناس فيها غير ظالم ولا متكبر، لا يعيث في الأرض فسادا، فحاله في الآخرة حسنة، وإن انهوى في الشر وركبته الآثام في الدنيا، وأحاطت به خطيئته، فليست حاله في الآخرة حسنة.
و المطلب الثالث : أن يقيه عذاب النار، وقد ذكر ذلك مطلبا قائما بذاته مع أنه داخل في حسنة الآخرة، إذ إن حسنة الآخرة تقتضي ألا يكون في النار، لأن المؤمن الخاشع الخاضع يغلب الخوف على الرجاء، فكلما ازداد قربا من الله ازدادت خشيته ورهبته، وكلما أكثر من الطاعات استصغر ما صنع في جانب ما أنعم عليه الكبير المتعال، ولذلك كان الصديقون والنبيون أخوف لله من غيرهم لأنهم أقرب إليه، وأدنى منه، ومراتب الناس في الخوف من العقاب هي كمراتبهم في الطاعات لا كدركاتهم في المعاصي، لأن أهل المعاصي في لهو شاغل، أما أهل الطاعات فهم في ذكر لله دائم، وقد وصف الله الطائعين بقوله :[ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ٢ ]( الأنفال ).
و لقد وصف القاسم بن عبد الرحمان ذلك القسم الذي يطلب حسنة الدنيا والآخرة، فقال : من أعطي قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وجسدا صابرا، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار.
و لقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"١.
و لم يذكر قسم ثالث وهو الذي يطلب الآخرة فقط، ولا يطلب الدنيا، لأن الإسلام لا يرضى أن ينسى المسلم حظه من الدنيا، ولأن من يطلب الآخرة يطلب الأعمال الحسنة في الدنيا، لأنها قنطرة الآخرة، ولأن الإسلام لا يقر الانقطاع عن طيبات الدنيا لحظ الآخرة لأنه لا يرضى بتعذيب الجسد لتهذيب الروح كما يزعم الذين يسلكون ذلك المسلك.
و لقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :"هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟" قال : نعم كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"سبحان الله ! !لا تطيقه، أفلا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "٢.
١ متفق عليه رواه البخاري : كتاب الدعوات (٥٩١٠) ومسلم : الذكر والدعاء (٤٨٥٥) عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
٢ رواه بهذا اللفظ مسلم : الذكر والدعاء (٤٨٥٣) وقال في آخره : فدعا الله له فشفاه. والترمذي : الدعوات (٢٤٠٩) وأحمد (١١٦٧) عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
[ أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ] في هذا بيان لجزاء الذين يتجهون إلى ربهم داعين أن يوفقهم لما فيه حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة، ويقيهم عذاب النار. والإشارة للبعيد لبيان علو منزلتهم، وقد بين أن الجزاء هو نصيبهم مما كسبوه من عمل الخير والقيام بالحق الواجب عليهم، وفي هذا التعبير الذي يفيد أن النصيب مأخوذ مما كسبوه من أعمال إشارة إلى أمور ثلاثة :
أولها : إن هؤلاء الذين دعوا ربهم بالتوفيق لابد أن يقرن دعاؤهم بإرادة قوية عاملة متجهة إلى تحقيق ما يبغون وما يدعون الله سبحانه وتعالى في التوفيق له، وإن لم يكن عمل فالدعاء أمان وأحلام، ولا يتحقق فيها القصد الكامل والضراعة الخاشعة لرب العالمين، لأن الدعاء مخ العبادة، فإن كان صادقا فالإرادة تتجه نحوه.
الأمر الثاني : الذي يشير إليه التعبير الكريم : أن الجزاء ليس على الدعاء، وإنما الجزاء على العمل، فيجب أن يعملوا، فليس الدعاء وحده بمستحق جزاء إن كان العمل ينافيه.
الأمر الثالث : أن كسب العبد لعمل الخير يطوي في ثناياه جزاءه، وكذلك كل عمل الإنسان جزاؤه مشتق من منهاجه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فمن أسدى للناس معروفا، فقد قدم بهذا الإسداء لنفسه، ومن أعان مكروبا، فقد كسب الجزاء ساعة عمل، وكذلك من قتل نفسا، فقد قتل نفسه إذ استحق ذلك الجزاء، ومن سرق فقد قطع يده، ومن زنى فقد رجم نفسه، و هكذا [ كل امرئ بما كسب رهين ] ( الطور ).
و قد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله الكريم :[ و الله سريع الحساب ] وسرعة حسابه سبحانه وتعالى كناية عن تحقيقه، وتحقق يوم القيامة وقربه، وعلمه سبحانه وتعالى بإحسان المحسن وإساءة المسيء، لأن تطويل الحساب يكون من جهل المحاسب، فيبطئ ليعرف، فإذا كان المحاسب هو العليم الحكيم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإن حسابه يكون سريعا، إذ لا تخفى عليه سبحانه خافية.
و في هذا التذييل إشارة إلى عقاب الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق على ما يرتكبون من موبقات ما داموا قد جعلوا الدنيا كل همهم، وغاية أمرهم، ومقصد وجودهم.
[ واذكروا الله في أيام معدودات ] هذا ذكر لله خاص في أيام مذكورة بعد قضاء مناسك الحج، وقد أمر الله في الآية السابقة بالذكر العام، وفي هذه الآية ذكر خاص، والأيام المعدودات التي يصحبها ذكر خاص، أيام التشريق الثلاثة، وقد نقل القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن عن أبي عمر بن عبد البر الإجماع على أن الأيام المعدودات في الآية الكريمة هي أيام منى، أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وهي أيام أكل وشرب. وذكر الله الخاص في هذه الأيام بالتصدق على الفقراء من الذبائح التي ذبحوها في يوم النحر، ورمي الجمار فيها، بعد أن يكون الحجيج قد رموا جمرة العقبة في يوم النحر، وفي رمي الجمار يكبر عند كل حصاة يرميها، وهذا بلا ذكر خاص.
و رمي الجمار على ذلك الشكل في أيام منى الثلاثة عمل حسي مادي يقترن به عمل نفسي وجداني، وهو إشعارالقلب بعظمة رب العالمين، وتلك الحركات الجسمية هي للدلالة على التعلق القلبي بالأرض التي بارك الله فيها، وبالتالي التعلق بمن شرفها بالانتساب إليه، فسماها حرمه المقدس، وبيته الآمن. وكون الحركات على هذا الشكل وبهذا الوضع ليس من الأمور التي تعلل، كما أن محاولة معرفة العلة في كون الصلاة على هذا الشكل محاولة في غير جداء، إنما هذا أمر توقيفي، قد ارتضاه رب العالمين على لسان النبي الكريم سبيل الزلفى إليه، وتوجه القلوب نحو ذاته العلية التي لا يحدها مكان، ولا يجري عليها الزمان.
و قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه الأيام هي أيام منى بما روى الدارقطني والترمذي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى :"الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه "١.
وإن هذه الأيام يحرم الصوم فيها عند جمهور الفقهاء، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله "٢.
[ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ]
هذه الأيام هي التي يكون بعدها النفير إن كان قد أدى الحاج كل الأركان، وقد بين القرآن الكريم أنه لا يلزم أن يبقى الأيام الثلاثة بمنى فإن شاء بقي يومين يرمي فيهما الجمرات، ونفر قبل فجر اليوم الثالث، وهذا معنى الجملة الكريمة [ فمن تعجل في يومين ] أي سافر معجلا في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل [ ومن تأخر فلا إثم عليه ] أي من بقي إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه.
و قد قيد الله سبحانه نفي الإثم بقوله [ لمن اتقى ] للإشارة إلى أن العبرة بتقوى القلوب فتلك الحركات الحسية من التزام مكان معين في زمان معين، ورمي الجمار الثلاث لكل جمرة سبع حصيات، كل هذا لا غاية له، ولا ثمرة إلا تربية التقوى وتنميتها في القلوب، لتتهذب النفس، ويربى الوجدان، ويخشى العبد الديان، فيراقبه في كل الأفعال وكل الأقوال، فيكون مجتمعا مهذبا كاملا صالحا قويا، لأن تهذيب الآحاد تقوية لبناء الجماعة، فلا تتنافر أجزاؤها، ولا تتباعد آحادها، وتقوم على تقوى من الله ورضوان.
و إن هذه الأيام التي يقوم فيها الحجيج بذلك الذكر في البقعة المباركة، يشاركهم فيها المسلمون في كل بقاع الأرض في بعض أفعالهم، وذكرهم، فالحجيج ينحرون ليتحللوا، وسائر المسلمين ينحرون ليضحوا، ويشاركوا وفود الله في صدقاتهم، والحجيج يكبرون ويرمون الجمار، والمسلمون في الأمصار يشاركونهم في التكبير عقب الصلوات.
و قد اتفق الفقهاء على أن المسلمين يسن لهم أن يكبروا عقب الصلوات من صبح يوم عرفة وهو اليوم التاسع إلى ما بعد صلاة العصر يوم عيد الأضحى، واقتصر أبو حنيفة على ذلك وتبع في ذلك عبد الله بن مسعود، ولكن أبا يوسف ومحمدا مع جمهور الفقهاء على أن التكبير لا ينتهي عقب صلاة عصر يوم النحر، بل يستمر إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، أي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وأن تكبير المسلمين جميعا إشعار لهم بأنهم جميعا مع الحجيج بقلوبهم وذكرهم، وأن المجتمع الأكبر في حرم الله هو جمعهم أجمعين، وأن أولئك الضيوف الذين حلوا في ساحة الكريم المنان هي وفودهم إلى ذلك المؤتمر الأكبر، وأن المؤمنين مهما تتباعد الديار كلهم على قلب رجل واحد في رفع راية الإسلام ونشر مبادئه الفاضلة.
[ و اتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ] ختم الله سبحانه وتعالى آيا ت الحج التي أشار فيها إلى مناسكه، وذكر فيها بعض أعمال الحجيج الواجبة فيها، بهذه الجملة السامية، وبذلك الأمر الجازم القاطع، وهو الأمر المكون من عنصرين أحدهما : تقوى الله، وثانيهما : العلم اليقيني بالحشر، وأنه سيكون إلى رب العالمين، وفي هذا إشارة إلى خلاصة التدين وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، فإن لم تؤد أية عبادة إلى هذين الأمرين، فهي صورة لا روح فيها، وشكل لا ثمرة منه، فإن لم ترب العبادة قلبا خاشعا، وعقلا خاضعا، وهوى ممنوعا، وترقبا خائفا، فهي عبادة جوفاء، وإن نسي الشخص لغفلة في نفسه أو غفوة من عقله، أو غشيان الضلال على قلبه الحشر والحساب والعقاب والثواب فقد ضل ضلالا بعيدا.. إن الإيمان باليوم الآخر هو لب الدين، وهو الفاصل بين المهتدي والضال، فمن حسبها دنيا لا آخرة بعدها، فقد خسر خسرانا مبينا، خسر نفسه، فضل وأضل، وخسر حياتها ففهمها أجلا محدودا لا غاية وراءها، ولا سمو بعدها وخسر العزاء الروحي الذي يجعله يرضى بشدائد الحياة رجاء لما وراءها، ولذلك قال الله تعالى :[ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله... ٣١ ] ( الأنعام ).
و في الجزء الثاني من الأمر تهديد بالعقاب، بعد الترغيب في الثواب، وعند الله حسن المآب.
١ رواه الترمذي عن عبد الرحمان بن يعمر : كتاب الحج – من أدرك الإمام بجمع (٨١٤)، ورواه النسائي (٢٩٩٤) وأبو داود (١٦٦٤) وابن ماجة (٣٠٠٦) وأحمد (١٨٠٢٢) والدارمي (١٨١١)..
٢ رواه مسلم: كتاب الصوم – تحريم صوم أيام التشريق (١٩٢٦) وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٧٩٧)..
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ( ٢٠٤ )
يبين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بعض العبادات التي تطهر النفوس وتزكي القلوب، وتحمي الجماعات وتوجهها نحو الخير العميم، فذكر الصدقات ثم ذكر الصوم، ثم ذكر الحج الذي تتلاقى فيه القلوب وتلتقي فيه وفود الجماعات الإسلامية من كل فج عميق في الساحة الربانية، وقد ذكر في طي الكلام أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم، وأن منهم من يطلب الدنيا، ولا غاية له وراءها، ومنهم من يقول :[ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ٢٠١ ] ( البقرة ).
والعبادات أيا كان نوعها دواء الجماعة وبلسم القلوب الشافي، وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الدواء الناجع ذكر سبحانه داء الجماعات المستحكم، ومرضها الممض، وهو النفاق، وخلابة اللسان مع فساد القلب والمظهر الحسن مع القصد السيئ، ومحالة اجتذاب الناس بالقول المعسول مع فعله المرذول حتى إذا نال ثقتهم ملأ الدنيا بالشر، وظهر الفساد في البر والبحر.
و هكذا يذكر الله سبحانه دواء القلوب، ويذكر داءها، ليطب كل امرئ لنفسه بما يداويها، وتطب الجماعة لنفسها باجتثاث الشر من بين ربوعها، ونفي الخبث عنها كما ينقي الكير خبث الحديد.
و هذا التداوي يقوم به فريق الخير الذي نصبه الله سبحانه حجة للحق ومنارا للشرع، وهذا ما ترمي إليه الآيات الكريمات :[ و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ] إلى آخر الآيات المذكورات.
و قد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أن الناس فريقان : فريق الشر أهل النفاق، وهم الداء، وهم درن الأمة، بل السرطان الذي يقضي عليها، إن لم يجتث من أصله. والفريق الثاني، وهم الذين يتولون العلاج وهم الأخيار الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.
و قد ابتدأ سبحانه بذكر الداء، ليعلم أهل الخير مقدار ما يبتلون به، وقد ذكر صفات أهل الشر، فكانت ثلاثة :
أولها : حسن البيان والقول الحلو.
و ثانيها : كثرة الحلف الكاذب.
و ثالثها : اللدد في الخصومة.
[ و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ] هذه هي الصفة الأولى، وهي أصل الداء القاتل وقوته، فإن خلابة اللسان المنافق، وقوة البيان الكاذب، وحسن العرض للقول الباطل، هي المعاول القوية التي يرفعها المبطلون لهدم الفضائل، فهم بمعرفتهم بمأتى القول ومورده يثيرون الإعجاب بحسن تأتيهم، وينالون الاستحسان العظيم بلطف مداخلهم، أو بزخرف القول وزوره، ويسترعون ألباب بعض أهل الخير الكرام، فالمؤمن غر كريم، والمنافق خب لئيم ١.
وقوله تعالى :[ في الحياة الدنيا ] إما أن يكون متعلقا بالقول، ويكون المعنى يعجبك قولهم الذي يكون موضوعه الحياة الدنيا، إذ يفهمون ما فيها ولا يدركون سواها، لأنها خلب أكبادهم، وغاية أمورهم، ومن أحب شيئا أحسن القول فيه، ومن كانت الدنيا همه أحسن حكاية أمورها، حتى إن قوله فيها ليكون عجيبا، أما الآخرة فلا يحسن القول فيها، لأنه لا يبتغيها، فإن تكلم في أمر يتعلق بها اعترته حبسة وعي وحصر.
و إما أن يكون [ في الحياة الدنيا ] متعلقا بالإعجاب، أي أن قدرته على إثارة الإعجاب والاستحسان لبيانه إنما يكون ذلك في الدنيا فينتج ثمرته حيث يكون الحكم للظاهر، ولا ينقب عن القلوب والسرائر، كما قال عمر رضي الله عنه : أيها الناس إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم هذا أمر الدنيا، أما الآخرة فالحكم فيها علام الغيوب الذي يعلم ما تخفي الصدور، فلا سبيل للخديعة بالقول، فالله يكشف مستور القلوب، ويحكم عليه بمقصده وغايته، لا بقوله وإجادته.
و نحن نختار أن يكون متعلق الجار والمجرور لا القول، لأنه الذي يتفق مع السياق، إذ إن السياق في بيان الذين يخدعون الناس في الدنيا وقلوبهم مريضة لا بيان حال من يجيدون القول فيها، وإن بعض الذين يجيدون القول في الدنيا أخيار لا أشرار.
هذا أول حال من أحوال الذين يظهرون ما لا يخفون، ويقولون ما لا يفعلون.
أما الصفة الثانية فهي قوله تعالى :[ و يشهد الله على ما في قلبه ] أي أن هذا الذي يثير إعجاب الناس في الدنيا بخلابة لسانه وقوله الحلو المعجب المطرب، إن رأى الناس يتشككون في قوله أقسم بصدقه، لأنه قد يبدو من فحوى بيانه ما يدل على جنانه كما قال تعالى سبحانه في شأن المنافقين ومن في قلوبهم مرض :[ و لتعرفنهم في لحن القول... ٣٠ ] ( محمد ) فإذا لمح المخادع من النظرات التي توجه إليه استغرابا لدعاويه، أو استبعادا لها، وثقها بأن أشهد الله على أن ما في قلبه يوافق ما يجري على لسانه.
فمعنى قوله تعالى :[ و يشهد الله على ما في قلبه ] أنه يقسم بالله تعالى إن ما جرى على لسانه هو نفس ما يختلج قلبه، أو ما يؤمن به. ولقد قرر علماء اللغة أن من ألفاظ القسم : الله يعلم أني فعلت كذا، أو الله يشهد أني قلت كذا، فهذا توكيد بالإيمان معروف في لغة العرب، ولقد قرروا أن الحلف على هذا النحو أوكد وأوثق من القسم الصريح، وقال بعض الفقهاء : إن من يقول كذبا : الله يشهد بكذا أو يعلم بكذا، مؤكدا كذبه بذلك، يعتبر مرتدا، لأنه كذب على الله، أو رماه بالجهل، وعندي أن ذلك لا يعد كفرا لعدم القصد إلى ذلك المعنى الإلحادي، ولكنه على أي حال مستهين بحق الله عليه كشأن كل حالف بالكذب، سواء بلفظ صحيح في الحلف، أو بلفظ يؤدي إليه.
أولئك المخادعون الذين يخدعون الناس ولا يخدعون الله هم الذين يقطعون أوصال الأمة، وبهم تبتلى، وبسببهم تنزل الفتن ويثور الشر، وتذهب الثقة بين الناس، وتقوم العداوة بينهم مقام المودة، والبغضاء محل الإخاء، لأنهم بخديعتهم للناس، ثم تكشف أحوالهم بمرور الأيام تضيع الثقة، ثم الذين يعمدون إلى تلك الأساليب الماكرة لا يبغون خيرا، بل لا يبغون شرا، لأن الأخيار لا يحتاجون إلى إخفاء نياتهم، وما يجول في قلوبهم، إن الذين يبدون ما لا يخفون هم الذين توسوس نفوسهم بالشر والهوى، ولا يريدون أن يطلع عليه أحد، ولذلك عرف النبي صلى الله عليه وسلم الشر بأنه :" ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس "٢، فالشر لا يعيش إلا في كن مظلم والنور يقتله، والخير يزيده النور وضوحا وقوة ونماء، ومن كان الشر غايته فهو عنصر مخرب مفسد مهلك، وهو بلاء لأمته وجماعته وأسرته، بل بلاء على نفسه في الدنيا عندما يعلم أمره، وفي الآخرة له عذاب أليم.
و لذلك كان أخوف ما يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده : رجلا عليم اللسان منافق القلب٣، فإن ذلك النوع من الرجال يثير التظنن بالصالحين، ويفسد الأمر على المحقين، ويجعل بأس الأمة بينها شديدا، ولقد روى ابن جرير عن بعض الصالحين أنه قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، ويقول الله عز وجل : فعلي يجترئون وبي يفترون، وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران ٤.
و مهما يكن من أمر ذلك الخبر، فإن معناه متحقق سجله الإسلام، وأثبتته الوقائع، فما من أمة ابتلاها الله بهيمنة هذا النوع من الرجال إلا فسد أمرها، واضطرب حالها، وسارت في طريق أوله نفاق وفساد، وآخره فتنة وخراب.
[ و هو ألد الخصام ] هذه هي الصفة الثالثة الملازمة للمخادعين الذين يستلبون قلوب الناس من جنوبهم بحسن بيانهم وكذبهم على الله بأيمانهم، والألد من معناه في اللغة : العوج، وفسر بعض العلماء قوله تعالى :[ و تنذر به قوما لدا ٩٧ ] ( مريم ) أي عوجا، والمنافق ألد دائما لأنه أعوج دائما.
و اللدد من معناه اللغوي أيضا : الشدة في الخصومة والمبالغة فيها، ويقال رجل ألد وامرأة لداء، وقد لدد يلد –كفرح يفرح – لددا، أي صار ألد، ولددته ألد كنصر ينصر إذا جادله فغلبه، وقال الزجاج في أصل اشتقاق اللدد بمعنى الشدة في الجدل والخصومة إنه مأخوذ من لديدي العنق، وهي صفحتاه، وتأويله أنه من أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الجدل غلب.
و الخصام – إما أن يقال إنه مصدر خاصم أي جادل أو عادى، أو تقول جمع خصم كضخم وضخام، وقال أبو عبيدة الأول أي أنه مصدر خاصم، وقال الزجاج الثاني.
و المعنى على الأمرين : أن ذلك النوع من الناس الذي يحاول أن يخدع الناس بحلو لسانه، ويضلهم بقدرة بيانه، فيه طبع ملازم له، وهو شدة الخصومة، ويصح أن نفسر الخصومة بالعداوة، كما يصح أن نفسرها بالجدل والمبالغة البيانية في ميدان المناظرات.
و على الأول أن يكون المعنى إنه شديد العداوة واللجاجة في الخصومة، فليس هينا لينا قريب الرضا سهل الرجوع، بل إنه لحب نفسه وكراهيته لخير الناس، لا يصفح عمن ينال منه ولو بالحق فهو قد أكل الحقد قلبه، واعتركت في نفسه حسكة٥ الحسد، وكذلك كل شرير، لا يحب الناس، ولا يظهر لهم المودة إلا برئاء القول : بل ذلك شأن المجرمين، ففي طبيعة كل مجرم بغض للمجتمع، وكأن بينه وبين الناس ثأرا لا يطل، وترات٦ يجب استيفاؤها، وكلما انحدر في جريمة وتلقفته يد العدالة ازداد للناس كرها وعاد إلى مثلها أو أكثر، وكذلك أولئك الذين في قلوبهم مرض، وفي ألسنتهم حلاوة يخدعون بها الناس : يبغضون الناس ولا يحبونهم إلا بمقدار ما ينالون من أرب فيهم، ولا يصفحون عمن ينالهم بالقصاص العادل، ويتبعون العورات، وهكذا هم في خصومات قلبية بينهم وبين الأخيار، يظهرون القول الحسن ليستمكنوا من الرقاب، ثم يشفوا غيظهم.
و على الثاني، وهو أن يكون الخصام بمعنى المجادلة والمنازلة البيانية، يكون المعنى : أن هؤلاء الذين يخادعون الناس بالقول الحلو، يثيرون الإعجاب بحسن بيانهم، ويوثقونه بالأيمان المغلظة، ويجادلون عنه بقوة وعنف وغلب، فالكلام يكون كله في بيان مناهجهم في خدع الناس، وسلب ثقتهم بقول الزور، ولذلك كان هذا المعنى أنسب للسياق.
واللدد في الجدل في ذاته صفة ملازمة للمراء والمهاترة، لأن من يكون همه الجدل يندفع إلى تأييد مذهبه بالحق وبالباطل، إذ لا يهمه الحق بمقدار ما يهمه انتصار فكره، وغلبه في ميدان النزال البياني، ولذلك كان مبغضا إلى الله، وإلى الذين يدعون إلى الحق المجرد، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم :" إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" ٧ ولقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول : كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادع فيهم الأمران السابقان : فيهم البغض الشديد للناس، وفرضهم أعداء وخصوما، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا، وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل.
بل إن بغضهم للناس، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة أخوة واصلة، ومودة مقربة، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق، واليمين الغموس، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ، ويختفي فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين، ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ولكرهوا ما يكرهون لهم، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة،
١ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم". (رواه الترمذي : كتاب البر والصلة – ما جاء في البخيل، (١٨٨٧) وأبو داود : كتاب الأدب – حسن العشرة (٤١٥٨)، وأحمد في مسنده (٨٧٥٥)). الغر : قليل الفطنة للشر لكرمه وحسن خلقه. والخب : الخداع الذي يسعى بالإفساد بين الناس..
٢ عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال :"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ".(رواه مسلم : البر والصلة : البر والإثم (٤٦٣٢)، والترمذي في الزهد (١٦٩٧٣)، والدارمي : الرقاق (٢٦٧٠))..
٣ عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ". (رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة (١٣٧))..
٤ روى الترمذي : كتاب الزهد – باب ما جاء في ذهاب البصر (٢٣٢٨) عن أبي هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل : أبي يغترون ؟ أم علي يجترئون ؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا "..
٥ الحسكة : نبت له ثمرة خشنة (السعدان)، أو عشب له شوك يؤذي، وحسكة الصدر : العداوة والحقد والضغينة، على التشبيه. لسان العرب..
٦ ترات : جمع ترة، من تر العضو إذا بان وانقطع بضربة بالسيف ونحوه. لسان العرب..
٧ متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المظالم والغضب (٢٢٧٧)، ومسلم: العلم (٤٨٢١) عن أم المؤمنين السيدة عائشة –رضي الله عنها وأرضاها..
[ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ] في هذه الآية الكريمة بيان الغاية التي تغياها من يريد أن يخدع الناس، فهو يخدعهم ليمكن لأهوائه وشهواته. وإذا تمكنت الأهواء والشهوات واندفاع الشخص في اجتراعها، يشتار عسلها ١ من غير دين رادع، ولا حكم زاجر – سرى الفساد في جسم الأمة كما يسري الداء العضال في جسم المريض، وبذلك يهلك الحرث والنسل، أي يهلك الزرع والحيوان، وفيهما جماع حاجات بني الإنسان، فما من أمر يحتاج إليه الإنسان في مقومات جسمه إلا كان من الحيوان أو من النبات، وهلاكهما كناية عن الخراب العام، والضيق الشديد، والفساد المستحكم، وضياع المصالح.
و الحرث : مصدر حرث يحرث، بمعنى أثار الأرض لإعدادها للزراع ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض نفسها، ثم أطلق وأريد به ثمرات الحرث وهو الزرع الذي حان حصاده، والثمر الذي آتى أكله، والمراد به هنا ذلك.
والنسل في أصله : مصدر نسل ينسل بمعنى خرج وسقط، ومنه قوله تعالى :[ إلى ربهم ينسلون ٥١ ] ( يس ) وقوله تعالى :[ من كل حدب ينسلون ٩٦ ] ( الأنبياء )، أي يخرجون، ثم أطلق على خروج الحيوان ٢ من بطن أمه وولادته، ثم أطلق وأريد به ذات الحيوان الوليد.
و في التعبير بهلاك الحرث والنسل بسبب استحكام الشهوات وسيطرة أهل الأهواء، إشارة كما قلنا إلى عموم الفساد في المدائن والقرى، وبين أهل الزرع وسكان البوادي، أي بيان عموم الشر للحاضرة والبادية، لأن هلاك النسل رمز لهلاك ما تقوم عليه البادية وما به قوام حياتها، إذ إن رأس مال البادية النعم من الإبل والبقر والغنم وأخواتها، وقيام الثروة في سواد الأرض الزرع وما تنتجه الأرض، فإذا هلك الأمران بسبب استحكام الأهواء والشهوات، فقد عم الفساد، وهلك العباد.
و قوله تعالى :[ و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ] قد قال العلماء فيه إن التولي يحتمل أحد أمرين : إما أن يكون معناه الانصراف والذهاب بعد أن خدع الناس بحلو القول وأقسم بالأيمان المغلظة الكاذبة وجادل وناضل فيما يدعيه من حب للخير والإخلاص، وإما أن يراد به التولي بمعنى الولاية والإمرة على الناس، ولقد قال العلماء إن الآية الكريمة تحتمل الأمرين كما نوهنا.
و على الأمر الأول يكون المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده : إن ذلك الذي يدعي الصلاح والإصلاح، وحب الخير والمنفعة، ويعلن ذلك بحلو اللسان، ويقسم عليه الأيمان، ويجادل عنه بأبلغ البيان إذا تفرقت المجالس، وانصرف إلى العمل، بدت طويته، وظهرت نبته، وانكشفت سريرته، فاندفع إلى الشهوات ينال منها، وقد ترك قوله دبر أذنه، وما قال ما قال إلا ليكيد أو ليخفي حقيقة أمره، فيكون منه الشر والفساد، وإذا كثر من على شاكلته فسدت الحال، وكانت العاقبة السوءى.
و على الأمر الثاني، وهو يكون معنى تولى صار واليا : أن هذا الذي اجتذب ثقة الناس بالأماني البراقة، والأقوال الخادعة والأيمان الكاذبة واللسن في الجدل إذا تحققت بغيته، ونال طلبه، وصار واليا على الناس، لا يسعى لنفعهم، ولا يقيم الحق بينهم، بل يسعى لإشباع رغباته، ويحكم الناس لنفسه لا لهم، والفاصل بين الحكم العادل والحكم الظالم أن الحاكم العادل يعتقد أنه تولى أمر الناس لتكون ثمرة الحكم للناس، كما كان الشأن في أبي حفص عمر رضي الله عنه، وأما الحاكم الظالم فهو الذي يحكم الناس لتكون الثمرة له ومن معه، وأمثلة ذلك في التاريخ كثيرة لا يحصيها العد.
و هذا الخادع الكاذب المجادل المرائي يكون حكمه الناس لنفسه لا لهم، ومن ثم تحكم رغباته وأهواؤه، ومن حكمت رغباته وأهواؤه فإن سعيه لا محالة يؤدي إلى الفساد، لا إلى الصلاح، لأن الطمع يلد الطمع، والهوى يلد الهوى فتتسلسل الأهواء في سلسلة أولها إعجاب بالنفس وزهو وخيلاء، وآخرها ضياع وفساد، وهلاك للحرث والنسل، ثم ذل واستخذاء.
و اللام في قوله تعالى :[ ليفسد فيها ] هي التي يسميها العلماء لام العاقبة أي أنها تشير إلى أن العاقبة – في عمل المتولي الذي يحكم الناس لنفسه ولرغباته وأهوائه لا لمصالحهم ونفعهم- هي الفساد في الأرض، والهلاك العام لكل ينابيع الثروة في البلاد، والله يتولى برحمته العباد.
ونحن نختار أن يكون معنى التولي هو صيرورته واليا، لأن ذلك هو الذي يتفق مع الآية الآتية، وهي قوله تعالى :[ و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ].
و قد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :[ و الله لا يحب الفساد ] وذلك لعدة أمور :
أولا – لبيان أن الله لا يحب ذلك الصنف من الناس الذي يخدع الناس ويكذب على الله، ويجادل ويماري، ويضل عن بينة، ويسعى في الأرض بالفساد، إذ الله لا يحب الفساد فلا يحب المفسدين، ومن لا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته، معرض لنقمته.
ثانيا- ولبيان أن الله سبحانه وتعالى لا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم، فهو الغني الحميد الذي لا يكسب من عبادة عابد، ولا يضار من فسق فاسق، إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم.
ثالثا – وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر، وأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة.
رابعا- وأن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها لا ليفسدها، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا إلى ما يدمر الأرض ويخربها ويجعلوا عاليها سافلها قد ضلوا عن سنة الله، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله، لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
١ اشتار العسل : اجتناه من خلاياه ومواضعه. قلت : وسياق الكلام يدل على المقصود وهو ما يجده الفاجر من لذة الشهوات المحرمة، هي عنده كالعسل حلاوة لما مات قلبه، وفسد حسه، حتى إذا ما جاءهم الموت حيل بينهم وبين ما يشتهون..
٢ الحيوان: الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة (التعريفات – باب الحاء – ج١ ص ١٣) فيشمل الإنسان والبهائم..
[ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ] هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون، وينزلون بالناس ما ينزلون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك، فإذا تقدم أحد الناس مرشدا واعظا نهروه، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى، وأخذتهم العزة، أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء، ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان، و فوق ما ارتكبوا من آثام، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام.
والباء في قوله تعالى :[ بالإثم ] إما أن تكون بمعنى المصاحبة والاقتران، والمعنى على هذا أخذتهم العزة واستولت عليهم مقترنة بالإثم مصاحبة له، فهي ليست عزة محمودة، بل كبرياء مبغوضة، أو تكون الباء للسببية بمعنى لام التعليل، ويكون المعنى : أخذتهم العزة الغاشمة والعنجهية الظالمة بسبب الإثم الذي استغرق قلوبهم وأحاط بنفوسهم، أي أنهم لفرط ما ارتكبوا من آثام، قد أحاطت بهم خطيئاتهم فسدت مسارب الهداية إلى قلوبهم، فإذا سمعوا كلمة الرشاد لم يتقبلوها، وأنغضوا رءوسهم حاسبين أن ذلك إهانة لسلطانهم، وإصغار لشأنهم، وما هو في حقيقة الأمر إلا حماية للسلطان، وإكبار للأمر، وخصوصا إذا كان من ناصح أمين.
و إذا كانت تلك حالهم فلا صلاح لهم في الدنيا، وهم في إحدى حالين وكلتاهما نتيجتها السوءى : إما أن يديل الله منهم في الدنيا، ويجعلهم عبرة المعتبرين، ويذيقهم وبال أمرهم في الدنيا، وتمامه في الآخرة.. وإما أن يمهلهم ويملي لهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويلقى بهم في نار جهنم، ولذا قال سبحانه :[ فحسبه جهنم ولبئس المهاد ]، الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه حال ذلك الطاغي الفاجر : لا يقيم الحق، بل يفسد، ولا يطيع الناصح، بل يؤذيه، وربما يقتله، فالله كافيه ومتوليه، وهو العزيز المنتقم الجبار، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم، بإلقائه في نار الجحيم، فمعنى [ فحسبه جهنم ] أي جهنم هي التي تكفيه، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه، [ و لبئس المهاد ] اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهي داخلة على جوابه، والمهاد جمع مهد وهو المكان المهيأ للنوم، والتعبير عن جهنم بأنها بئس المهاد لا يخلو من تهكم بأولئك الفاجرين، كما يقال :( تحية بينهم ضرب وجيع ) وكقوله تعالى :[ فبشرهم بعذاب أليم ٢٤ ] ( الانشقاق ).
و بعد، فإن أول مظاهر الطغيان صم الآذان عن سماع كلمة الحق، ولعل الإمارة الظاهرة للحاكم العادل هي سماعه النقد والملام، فضلا عن الوعظ والإرشاد، وأمارة الحاكم الطاغي تبرمه بنصح الناصحين ونقد الناقدين فضلا عن لوم اللائمين، والمثل في التاريخ كثيرة مستفيضة، يروى أن رجلا قال لعمر بن الخطاب أمثل الحكام : اتق الله، فقال بعض الحاضرين أو تقول لأمير المؤمنين :( اتق الله ) فالتفت الفاروق، وقال : ألا فليقلها، لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها ! وعمر هذا هو الذي صاح عندما تولى : من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه فقال أعرابي : والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ! فقال أبو حفص : الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر إذا اعوج !
و لو تنزلنا عن مقام عمر مقام الصديقين لوجدنا من بعض الحاكمين حتى في عصور الاستبداد من يستمع إلى كلمة الحق أحيانا، يروي التاريخ أن يهوديا له حاجة تلقى هارون الرشيد، وهو خارج، وقال له : اتق الله يا أمير المؤمنين وذكر حاجته، فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا، ثم أمر فقضيت لليهودي حاجته، فقيل له : يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي ! قال : لا، ولكن تذكرت قول الله تعالى :[ و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ].
و بجوار هذه الذكريات العطرة، توجد صورة معتمة، ومن ذلك ما قاله أحد ملوك بني أمية : من قال لي : اتق الله قطعت عنقه.
بل إن هذه الصور المعتمة هي التي يسود بها تاريخ المستبدين، فإن لم يقولوها بلسان المقال قالوها بلسان الفعال، وهو أقوى أثرا وأبعد طغيانا، ولذلك كان من الجهاد في سبيل الله : أن يقول المؤمن لهم كلمة الحق، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر "١.
١ رواه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (١٠٧١٦) في حديث طويل فيه مواعظ وفوائد. ورواه الترمذي في الفتن (٢١٠٠)، وأبو داود في الملاحم (٣٧٨١)..
[ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ] بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد، وإلى الهلاك، وحالهم إذا تولوا حكم الناس، ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء، وعلاج ذلك المرض الفتاك، وصلاح ذلك الفساد، فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره، و يصدعون بأمر الله، وهم الذين باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق، ولذا قال سبحانه :[ و من الناس من يشري نفسه ] أي يبيع نفسه لله سبحانه، فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك، وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه، وإزالة أوضاره، فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى، بل للتلف، ومن قتل في سبيله قتل شهيدا، بل إنه يكون أفضل الشهداء، كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ١.
وإن هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه، ويفدي الحق بنفسه وماله، لا يطلب إلا ثمنا واحدا، هو أعلى الأثمان، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، ولذا قال سبحانه فيما يطلبه :[ ابتغاء مرضات الله ] الابتغاء : الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة، ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره، والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا، فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق، أو في صورة الموجود المتحقق، وعلى ذلك يكون معنى [ ابتغاء مرضات الله ] أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم، فيشتد طلبهم، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم.
و أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت، وحكم الظالمين، فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه، ويجهرون به، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره، وجعل كلمة الله هي العليا، وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه، بين هؤلاء قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وبذلك يكون الناس أربع طوائف :
أولها – أهل الشر الطاغون، الظالمون.
و ثانيتها – أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق.
و ثالثتها – أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم.
و رابعتها – أولئك الذين ينظرون، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر، وأولئك هم الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم الإمعة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن مسلكهم، فقال :"لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا ٢.
[ والله رءوف بالعباد ] ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية، للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا :
أولها – إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة، ولولا ذلك لعم الفساد، وهلك العباد، [ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض... ٢٥١ ] ( البقرة ).
و ثانيها – الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما، لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ، وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية.
و ثالثها – إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين، وأن يمكن للعادلين، فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم، والحاكم العادل ظل الله في أرضه، ورحمته بخلقه، وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم.
ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به"٣ اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
١ عن نعيم بن همار أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الشهداء أفضل ؟ قال :"الذين إن يلقوا في الصف يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك ينطلقون في الغرف العلى من الجنة ويضحك إليهم ربهم، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه."(رواه أحمد : باقي مسند الأنصار (٢١٤٣٨) ).
و روى الترمذي : فضل الشهداء عند الله، عن عمر بن الخطاب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"الشهداء أربعة رجل مؤن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا " ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته – قال : فما أدري أقلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبي صلى الله عليه وسلم قال :"و رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن أتاه سهم غرب فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الرابعة ". قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب. ورواه أحمد في مسند العشرة المبشرين (١٤٥). .

٢ رواه الترمذي : كتاب البر والصلة – باب الإحسان والعفو (١٩٣٠). و الإمعة من يقلد غيره في قوله أو فعله..
٣ عن عبد الرحمان بن شماسة قال : أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت ممن أنت ؟ فقلت : رجل من أهل مصر، فقالت : كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه ؟ فقال : ما نقمنا منه شيئا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت : أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول في بيتي هذا :"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ". (رواه بهذا اللفظ مسلم : فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (٣٣٠٧) ورواه أحمد مختصرا (٢٣٤٨١))..
يأيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( ٢٠٨ )
بين الله سبحانه في الآية السابقة على هذه الآيات حال أولئك الذين يفرقون بين الجماعات، ويعيثون في الأرض فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، وفيهم لدد وعنف وخصومة تغري بالعداوة، وتنشر الفرقة والانقسام، وكل هذا ضد مبادئ الإسلام، ولذلك ناسب بعد أن بين عمل المفسدين، أن يبين واجب المصلحين، وهو السلم بين بني الإنسان، والوحدة بين أهل الإسلام، ولذلك قال سبحانه :
[ يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ] قرئ السلم بكسر السين، كما قرئ في قراءة مشهورة بفتحها، وكذلك قوله تعالى :[ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله... ٦١ ] ( الأنفال ) فقد قرئ بفتح السين، كما قرئ في قراءة أخرى مشهورة بكسرها ١، ولذلك قال الكسائي وعلماء البصرة : إن السلم والسلم بمعنى واحد، ويطلقان على المسالمة وعلى الإسلام، وفرق عمرو بن العلاء فقرأها في هذه الآية بالكسر، وقال : إنه الإسلام، وفي قوله تعالى :[ و إن جنحوا للسلم... ٦١ ] ( الأنفال ) قرأها بالفتح، وقال : المراد الموادعة والمسالمة، وأنكر المبرد هذه التفرقة.
وعندي أن لفظ السلم بالكسر أو الفتح هو للمسالمة والصلح، وإطلاقه على الإسلام من حيث إن أحكام الدين الحنيف تتجه كلها نحو تحقيق السلام بين الناس، وتخليص القلوب من أدرانها، وتوجيه الناس نحو السلامة، والبعد بها عن مواقع الهلاك.
و ما معنى السلم في الآية : أهو الإسلام، أم هو المسالمة والموادعة والصلح ؟
اتجه بعض المفسرين من السلف والخلف إلى أن معنى السلم في الآية الإسلام، ومعنى كافة : مجتمعين، و تكون كافة حالا من الواو في "ادخلوا" أو تكون حالا من كلمة "السلم"، والمعنى على الأول : يأيها الذين آمنوا وصدق إيمانهم ادخلوا في الإسلام مجتمعين غير متفرقين ولا متنابذين، أي انقادوا لأحكامه مجتمعين لا يفرقكم إقليم ولا يحاجز بينكم جنس ولا لون، لأن وصف الإيمان جامعكم، وكلمة التوحيد رابطة بينكم، فإيمانكم يبعثكم إلى أن تكونوا طائعين منقادين للإسلام في اجتماع لا افتراق معه، ويوجب عليكم أن توحدوا كلمتكم.
و المعنى على أن كافة حال من "السلم" : ادخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، فلا تأخذوا بحكم وتتركوا حكما، فلا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة، ولا تأخذوا بأحكام الزواج وتتركوا أحكام الربا، ولا تأخذوا بنظام الميراث وتتركوا أحكام الحدود وتعطلوها، وهكذا لا يصح أن يؤخذ بعض الإسلام، ويترك بعضه، من فعل ذلك كان كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، وكان كمن جعل أحكام القرآن عضين، فيفرق بينها بالطاعة والعصيان، والأخذ والترك. وأحكام الإسلام كل لا يقبل التجزئة، ومجموعها هداية العقول، وطب القلوب، وعلاج الأدواء الاجتماعية والشخصية، فمن أخذ ببعضها وترك الآخر، فقد فتح في قلبه للشيطان ثلمة ينفذ منها، وحيثما حل الشيطان في قلب زلت الأقدام، وحكمت الأوهام، فيطمس نور الهداية من قلبه، وتنحل عُرَى الإسلام في نفسه من بعد ذلك عروة عروة.
هذا توضيح المعنى على تفسير كلمة السلم بمعنى الإسلام، وهو قول الأكثرين. وقال قتادة ووافقه بعض مفسري السلف : إن معنى السلم المسالمة والموادعة والصلح، وهو يشمل مسالمة المسلمين فيما بينهم، فلا يفترقون، ولا يختصمون، ولا يتنازعون حتى لا يكون بأسهم بينهم شديدا، ويكونوا طعمة للآكلين ونهزة للمفترضين، كما يشمل مسالمتهم لغيرهم، فلا يعتدون على غيرهم مادام لم يعتد عليهم.
والمعنى على هذا : يأيها الذين أمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم أن تدخلوا في السلام العام، فلا تنابذوا أحدا لم يعتد عليكم، ولا تقاتلوا من لم يرفع عليكم سيفا، ولم يوال عليكم عدوا، ثم قووا وحدتكم بالسلم الموثقة والإخاء الجامع.
و لاشك أن السلام بين المسلمين أمر يفرضه الدين، وهو مما علم من الدين بالضرورة لا يماري فيه من في قلبه ذرة من إيمان، ومن قال غيره فقد أعظم الفرية على الإسلام وأهله.
أما مسالمة المسلمين لغير المسلمين فقد أثار القول حولها من فهم ظواهر الأمور، ولم يتغلغل في بواطنها، إذ قال إن الإسلام قد أباح القتال، والقتال والسلام نقيضان لا يجتمعان، والكثرة الكبرى من فقهاء المسلمين تقرر أن الأصل في العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم الحرب، حتى يتقدموا بعهد أو موادعة. كما قال سبحانه :[ و إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله... ٦١ ]( الأنفال ).
ذلك قول الذين فهموا الأمور بظواهرها. والحقيقة أن الإسلام دعا إلى السلام وحث عليه، ومبدؤه العام التعارف بين بني الإنسان لا التنابذ بينهم، ولذا قال تعالى :[ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ١٣ ] ( الحجرات ) فما جاء الإسلام للحرب والخصام بل جاء بالهدى والسلام، ولكن سلام الإسلام سلام عزيز قوي، وليس بسلام ذليل خانع، والسلام القوي يرد الاعتداء بمثله، و لذلك لما اعتدى المشركون على المسلمين أباح الإسلام القتال وقال سبحانه :[ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ٣٩ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز٤٠ ] ( الحج ) فما أباح الإسلام القتال إلا لدفع الاعتداء، وليس القتال لدفع الاعتداء إلا دعوة إلى السلام القوي الفاضل، وفرق ما بين السلم العزيزة القوية، وبين الذل والخضوع، أن السلام القوي هو القدرة على رد اعتداء المعتدين إن اعتدوا، أما الذل فهو الاستسلام والخضوع للمعتدين، وما بذلك أمر الإسلام، وليس هذا من السلام في شيء، بل هو إغراء بالقتل والقتال وتمكين لظلم الظالمين.
و إنه لا يغري بالقتال إلا ضعف الضعفاء واستخذاؤهم، فإن أخذوا الأهبة وأعدوا العدة وقاوموا الشر بمثله، تروى القوي في غارته، أو امتنع عن عدوانه، فما استمرأ الذئب لحم الشاة إلا لأنها ليس لها ناب، وما عاف الأسد لحم الأسد إلا لأن له نابا وبراثن يفتك بها، فالحرب أنفى للحرب، والقوة العادلة سبيل السلم العزيزة.
و لقد قرر الفقهاء أن الأصل الحرب حتى يكون عهد، لأن الأصل بين الدول في وقت استنباطهم كان الاعتداء حتى يتعاهدوا، فما كان الإسلام ليسالم وهم يحاربون.
[ و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ] الخطوات : جمع خطوة بفتح الخاء وضمها، وهي ما بين قدمي من يخطو، والمعنى : لا تتبعوا سير الشيطان. وعبر عنه بخطواته لأن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لا تجر المرء إلى الشر دفعة واحدة، بل تأخذه إليه درجة درجة، فيبتدئ بأيسرها وأصغرها فيقتحمه من أغواه لصغره، حتى إذا ألفه جرأه على ما هو أكبر منه، ثم ما هو أكبر حتى تحيط بالنفس خطيئاتها، وتستغرقها مآثمها، فيكون الشرير الآثم الذي تصعب عليه التوبة. ولقد قال العلماء : إن كثرة ارتكاب الصغائر تجرئ على الكبائر، والشيطان يأتي من صغائر المعاصي ليغرس في النفوس غرس الرذائل، فخطوات الشيطان مدارجه يغري بالواحدة بعد الأخرى حتى يصل بالمرء إلى أقصى درجات الرذيلة.
و لقد كان ذلك النهي بعد الأمر بالدخول في السلم، لأننا إن فسرناه بالإسلام يكون المعنى ادخلوا في الإسلام كله، ولا تحلوا عراه عروة عروة باتباع خطوات الشيطان، وإطاعة هوى النفس الأمارة بالسوء، فإن ذلك يذهب بالإسلام كله وبحرماته في النفس، وإن فسرنا السلم بالسلام والموادعة، فيكون المعنى : لا تحلوا وحدتكم، ولا تتبعوا خطوات الشيطان المفرق لجماعتكم بإغرائه وتدرجه في الإغراء وإردافه المعصية المفرقة بأكبر منها حتى يكون الانقسام، ويكون بأس المسلمين بينهم شديدا.
و لقد ذيل الله سبحانه الآية بقوله :[ إنه لكم عدو مبين ] أي أن الشيطان الذي يتحكم في النفس الأمارة عدو مبين، أي ظاهر العداوة، بظهور آثار المآثم التي يحرض عليها، في تفريق الجماعة، وضياع الكلمة، وإصابة أهل الإسلام بالذلة، وجعلهم طعاما سائغا، فظهور العداوة بظهور آثار الأعمال الوخيمة، إذ إنه يغري باتباع الشهوات وهي حلوة المذاق، فإذا ذاقها من أغواه اندفع فيها، وهي مردية في نتائجها، وبيئة في نهايتها، فيكون الضرر المحقق بالآحاد والجماعات.
و إن عداوة الشيطان مقررة ثابتة من بدء الخليقة، فهو الذي أغوى آدم وأنزله من الجنة، وبمثل ما صنع مع الأب يصنع مع الأبناء، وإن الله سبحانه قد سجل أن عداوته مستمرة، فقال سبحانه :[ و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين٣٦ ]( البقرة ).
١ (للسلم) هذه القراءة لأبي بكر والمفضل كلاهما عن عاصم، وقرأها بالفتح [للسلم] نافع وابن كثير وأبو جعفر والكسائي. غاية الاختصار – ج ٢/ ٤٢٧..
[ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ] يقترن في آي الله الحكيم الأمر بالشيء بالنهي عن نقيضه، وعن أسباب المخالفة، ويقترنان بالترغيب في نعيم الله أحيانا، وبالترهيب من بطش الله العزيز الحكيم أخرى ؛ وفي هذه الآية قد اقترن النهي بالترهيب من العصيان، لأن النهي كان منصبا على اتباع خطوات الشيطان والخضوع لإغرائه، وهو يجئ للنفس من جهة شهواتها وما تألفه، فناسب ذلك الترهيب من العقاب، ليعلم من يجترح اللذات أن وراءها محاسبة القوي الجبار الذي لا تخفى عليه خافية، ولقد بين عداوة الشيطان للإنسان، فمن والاه فقد عادى نفسه وربه، ويحق عليه العقاب، وقبل نزوله يلزم التهديد به ليكون على بينة من أمره.
[ فإن زللتم ] أي عدلتم عن الطريق المستقيم إلى الطريق المنحرف. وأصل الزلل يكون في القدم، ثم استعمل في الآراء والمسالك المعنوية، يقال زل يزل زللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وهناك لغة في زل تجعلها من باب فرح يفرح، [ و من بعد ما جاءتكم البينات ] أي من بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى لكم الحجج والأدلة المبينة لكم الحق من الباطل والضلال من الهدى.
و معنى الآية إجمالا : إن حدتم عن طريق الاستقامة والإخلاص والحق من بعد أن علمتموه ببرهانه، فليس ثمة إلا العقاب الرادع بعد الدليل القاطع، واعلموا أن الله عزيز لا يغلب، ولا يهزم من ينصره، ومن عاداه وعادى أولياءه فهو عرضة لنقمته، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يجعل المسيئ كالمحسن، ولا المصلح كالمفسد، فكان من مقتضى حكمته أن يفرق بين الأخيار والأشرار وأهل الإيمان وأهل الكفر.
[ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ] نادى الله سبحانه أهل الإيمان بأن يدخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، وأن يدخلوا في السلام العام، كما يقيم فيما بينهم السلام والأمن، وحذرهم من الشيطان وغروره، وحذرهم من أن يزلوا فيحرموا من نصر الله، وينزل بهم عقابه، وبعد ذلك أشار سبحانه إلى أهل الضلال، وكيف استمرءوا الغواية، وسدوا في نفوسهم طريق الهداية، وقد أقام سبحانه عليهم الدليل بعد الدليل والحجة بعد الحجة، وفد استنكر حالهم منذرا، فقال :[ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ] وينظرون : معناها ينتظرون، يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد، و"ظلل" جمع ظلة. كظلم جمع ظلمة، و"الغمام " اسم جنس جمعي لغمامة، وهي السحاب الرقيق، وسمي بذلك لأنه يغم أي يستر، و الاستفهام إنكاري، فمعنى [ هل ينظرون ] لا ينتطرون. وقد وجه بعض المفسرين الآية على أن الكلام على حذف مضاف، فمعنى إتيان الله إتيان عقابه، وعلى ذلك يكون المعنى : إن هؤلاء المشركين الذين كفروا بالله بعد أن جاءتهم البينات هم في غيهم يعمهون، وكأنهم لا ينتظرون بعد هذه الحجج الدامغة القاطعة إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من السحاب يحسبونها عارضا ممطرهم، وهي عذاب يسحقهم، فتأتيهم النقمة من حيث ينتظرون النعمة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون فعلى هذا التخريج تكون الآية للوعيد، ويكون معنى إتيان الله وملائكته إنزال العذاب الدنيوي، ومعنى قوله تعالى :[ و قضي الأمر ] على هذا التخريج أنه إذا نزل عذاب الله في الدنيا فقد قضى أمره فيهم، إذ لم يكن ثمة رجاء في إيمانهم، وكذلك كان يفعل الله سبحانه في الأقوام الذين طغوا وبغوا، وحالوا بين الناس والهداية، كما فعل بعاد قوم هود، وبثمود قوم صالح، وبفرعون وجيشه، ومن قبل ذلك بقوم نوح، وغيرهم، أما الذين علم الله أن سيكون فيهم هداية، فإنه يمهلهم ولا يهملهم.
و هناك اتجاه آخر، وهو عدم تقدير كلمة عذاب، وأن مجيء الله هو تجليه يوم القيامة، وكشف الحجاب للناس يوم الجزاء، فيتجلى عليهم ربهم وملائكته، والمعنى على هذا الاتجاه أن أولئك الجاحدين سادرون في ضلالهم ولهوهم حتى يأتيهم أجلهم، وكأنهم لا ينتظرون وهم مستمرون في ضلالهم إلى اليوم الآخر حيث يحاسبهم الديان، وتجرهم إلى النار ملائكة الجبار، وينال المؤمنون مثوبة الرحمان، ويكون معنى [ و قضي الأمر ] أنهم عاينوا الحقائق التي أنكروها حيث قضي الأمر نهائيا ولم تعد لديهم فرصة للتوبة والرجوع إلى ربهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي "١.
و قد بدا معنى لي غير المعنيين السابقين في إتيان الله سبحانه وملائكته، أن أولئك المشركين قد كفروا مع أن الحجة قاطعة، والبيانات دامغة، والحق واضح أبلج والرسول بين ظهرانيهم قد عرف طول حياته بالصدق والأمانة، وإذا كانوا قد كفروا مع تلك البينات فهل ينتظرون أن يأتيهم الله وهو وملائكته في ظلل من الغمام، لكي يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن يشاهدوا الله وملائكته، ولقد طلبوا أن ينزل ملك من السماء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم :[ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( ٨ ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ] ( الأنعام ) فالاستفهام حينئذ للتوبيخ واللوم مع النفي، أي أن حالهم حال من لا يريدون أن يؤمنوا إلا بعد أن يعاينوا ويروا الله وملائكته جهرة، كما قال إخوان لهم سبقوهم لموسى :[ أرنا الله جهرة... ١٥٣ ]( النساء )، ومعنى [ و قضي الأمر ] أي انتهى الأمر عند هذه المعجزة التي حاء بها محمد، [ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... ٢٩ ]( الكهف ).[ و إلى الله ترجع الأمور ] إليه سبحانه وحده لا إلى أحد سواه، ولا إلى أحد معه، تصير الأمور خيرها وشرها، وسيجزي كلا بما يستحق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
١ رواه ابن أبي الدنيا، والطبراني من طرق أحدها صحيح، والحاكم وقال : صحيح الإسناد. ذكره المنذري في الترغيب والترهيب..
[ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ] وإذا كان المشركون قد كفروا مع البينات وطلبوا ملائكة ينزلون من السماء، أو كتابا في قرطاس يقرءونه، فليس ذلك لنقص في الدليل، أو لأنه عقلي ويريدون حسيا، بل الكفر غشاوة تكون على قلب الكافر تجعله ينكر الحق، ولو كان مع الحق ألف دليل، وهذا أمر بني إسرائيل : نزلت عليهم عدة آيات، ومع ذلك قالوا أرنا الله جهرة، ولذا قال سبحانه :[ سل بني إسرائيل ] سل الحاضرين منهم أو استقر أخبار السابقين وسل تاريخهم :[ كم آتيناهم من آية بينة ] من معجزة واضحة مثبتة إثباتا لا مجال للشك فيه، ولا إثارة الريب حوله، فيد موسى تنقلب بيضاء من غير سوء، وعصاه تنقلب حية تسعى، ويضرب بها البحر فتفلقه اثني عشر طريقا، وتضرب الحجر فينبجس منه اثنتا عشرة عينا، وتظلهم الغمام في الحر، وينزل عليهم المن والسلوى، ومع كل هذه الآيات البينات قالوا : أرنا الله جهرة، ومنهم من كفر وعبد العجل، فقوة الدليل لا تحمل الجاحد على الإيمان، ومن كفر لا يكفر عن نقص في الدليل، ولكن عن فساد في الفكر، بسبب غشاوة على القلب وضلال في النفس، وقوة الدليل مع هذه الحال لا تزيده إلا عنادا وإصرارا.
[ و من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ] نعمة الله هنا عامة تشمل نعمه الظاهرة والباطنة، فتشمل نعمة الصحة، ونعمة المال، ونعمة الجاه، كما تشمل نعمة العقل، ونعمة الهداية بإرسال الرسل وإقامة الأدلة على رسالتهم، ومن يبدل هذه النعم السابغة فيجعلها حجة عليه تؤدي إلى العقاب، فلا يبذل جهده في مرضاة الله، بل في معصيته، ولا يبذل ماله في النفع بل في الضرر، ولا يبذل جاهه لإعانة الضعيف، بل لحيف الشريف، ولا يعمل عقله ليصل إلى الحق، بل ليضل نفسه، ولا يقبل الهداية بل يردها، ومن يبدل نعمة الله ذلك التبديل، فإن الله سبحانه وتعالى سيعاقبه لا محالة، ولذلك قال :[ فإن الله شديد العقاب ] والكلام فيه حذف، إذ حذف السبب، اكتفاء بذكر المسبب، كما تذكر المقدمة ولا تذكر النتيجة لأنها مفهومة ضمنا، والمعنى : من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقابا شديدا، لأنه سبحانه شديد العقاب، كما أنه عفو غفور، تواب رحيم.
[ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ] بعد أن بين سبحانه أن الذين كفروا قد جحدوا بالله، وقد كثرت البينات، وقامت الدلائل القاطعة، بين السبب في غشيان الضلال في قلوبهم، وهو أن الدنيا زينت لهم فحسبوها كل شيء وأنساهم ذلك ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب، بل إنه بسبب ضيق عقولهم انحصر تفكيرهم في هذه، وحسبوا أن لا بعث ولا نشور، وأنكروا ذلك إنكارا تاما، ولذلك قال سبحانه :[ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ] فهي كل شيء في تفكيرهم وقد دفعهم إلى اللجاجة في الكفر والجحود أن وجدوا من لم يؤتوا حظا من الدنيا، وهم الضعفاء والفقراء والعبيد هم الذين سبقوا بالإيمان، ولذلك سخروا من الحق والمؤمنين إذ علموا في أنفسهم أن التقدير عند الله هو التقدير بحال الدنيا من مال وجاه، وحسب ونسب، لا بمقدار الحق في ذاته، ولم يعلموا أن الله لا ينظر إلى الأحساب والأموال والصور ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال١، ولذلك سخروا من الذين أحبوا الإيمان وأهله وقالوا : أهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان ؟ ولذلك قال سبحانه :[ و يسخرون من الذين آمنوا ] يستهزئون بالذين آمنوا. ولقد قال عطاء في هذه الآية : نزلت في المنافقين : عبد الله ابن أبي وأصحابه، كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، وفقراء المهاجرين، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
و إن أهل الحق دائما ليسوا ممن نالوا حظا كبيرا في الدنيا، فإن أولئك أقرب إلى بذل النفوس في سبيله بعد الإيمان، والعبر كل يوم قائمة شاهدة مثبتة.
و لقد ذكر سبحانه منزلة المؤمنين الذين يستهزأ بهم فقال :[ و الذين اتقوا فوقهم ] الذين آمنوا واتقوا الله فوق أولئك الجاهلين الجاحدين الذين كفروا بالآخرة، وآمنوا الإيمان كله بالدنيا، ولا ارتباط بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، بل قد يكون محروم الدنيا هو المنعم في الآخرة، والجزاء على الأعمال لا على الأموال، وعلى القلوب لا على الأحساب، وعلى التقوى لا على الأنساب، ولذلك قال سبحانه :[ و الله يرزق من يشاء بغير حساب ] فالله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحاسبه، وليس عطاؤه دليل رضاه، فقد يعطي الكافر، وهو غير راض عنه كما قال تعالى :[ و لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون٣٣ ] ( الزخرف ) والرزق في الدنيا منوط بأسباب دنيوية يجيدها الكافر كما قد يجيدها المؤمن، ومن سلك سبيلها وطلبها من مظانها رزقه الله، مؤمنا كان أو كافرا، ومن تنكب الطريق، لم يرزقه الله، وله فوق الأسباب تصريف الحكيم وتدبير العليم سبحانه، إنه على ما يشاء قدير.
و الخطأ أن يجعل تقدير الناس بأموالهم لا بأعمالهم، وبمظاهرهم لا بنفعهم، روي أن رسول الله كان بين أصحابه فمر بهم رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل جالس عنده :"ما رأيك في هذا " ؟ فقال : رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن تكلم أن يسمع فسكت رسول الله، ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما رأيك في هذا " ؟ فقال يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم :" هذا خير من ملء الأرض مثل هذا "٢.
وإن المال الذي يضل العباد فيجعلهم يخطئون في تقدير الناس، وتقطع به الأواصر، لو قدره الناس حق قدره، ولم يتجاوزوا به الحد ما كانت تلك الآفات، ولو كان الناس يقدرون بفضائلهم لا بأموالهم وتساووا في الحقوق أمام القانون ما كان ذلك الألم الذي يمض الفقير، وحسب الغني أن المال عبء عليه، وانه ظل زائل، وعرض حائل، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس "٣ والله سبحانه مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
١ ذكره المنذري في الترغيب والترهيب وقال : رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدهما صحيح واللفظ له والحاكم وقال : صحيح الإسناد..
٢ رواه البخاري: النكاح – الأكفاء في الدين (٤٧٠١) عن ابن سعد رضي الله عنه..
٣ رواه – بهذه الزيادة في آخره :" وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس"- مسلم : الزهد (٥٢٥٩) وأحمد (٨٤٥٧). و الترمذي (٢٢٦٤)، والنسائي في الوصايا (٣٥٥٥) وأحمد في مسنده (١٥٧١٥)..
[ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ٢١٣ ) ]
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس فريقان : فريق يسعى في الأرض فسادا، ويضل الناس بخلابة لسانه، وفريق باع نفسه للحق يفتديه، ولربه يبتغي رضاه، ولا يرجو سواه، وإن النضال بين الفريقين قائم، على مقتضى سنة هذا الوجود، من التنازع بين الخير والشر، وبين أهل الحق والضلال، وإنه من أجل ذلك سوغ سبحانه وتعالى لأهل الخير أن يحملوا السيف مناضلين مدافعين، وإن كان أصل الفضيلة في الأمن والسلام، ولكن إن كانت الحرب سبيل السلام الفاضل فهي مطلوبة لأجل السلم، وإن كانت شجرة السلام التي تظل أهل الحق لا تقوم إلا إذا سقيت بالدماء، وجب القتال، لأن ما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، والسلام واجب على بني الإنسان.
و في هذه الآية يشير سبحانه إلى أن الاختلاف بين الناس ما بين محق فاضل ومبطل شرير، مستكن في أصل الوجود قائم على أصل من الفطرة التي ألهمت فيها النفوس فجورها وتقواها، وهداها الله النجدين، وأن الله العليم الحكيم بعث الرسل مبشرين بحسن العقبى لأهل الخير وسوء العقبى للأشرار، وليكون من ضل إنما يضل عن بينة، ومن اهتدى فعن بينة، ولتتحقق التبعة على الأفعال بالعقاب والثواب، وليكون الجزاء العادل على العمل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وليخفف بعث النبيين الخلاف وإن كان لا يمحوه، فإن المماراة واللدد في الخصومة التي اختص بها أهل الشر يمنعانهم من أن يسلموا بالحق رغبا، وإن كانوا أحيانا يسلمون به رهبا، وبعضهم يطمس الله على بصيرته فلا يجديه ترغيب، ولا يؤثر فيه ترهيب، بل هو ضال مضل إلى يوم الدين.
و لهذا قال سبحانه وتعالى :[ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ] الأمة مأخوذة من أم بمعنى قصد، والجماعة من الناس التي تربطها رابطة، وتجمعها جماعة تسمى أمة، لأن كل واحد منها يؤم المجموع ويقصده، ويعتمد عليه في مدلهم الأمور. ولقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في معنى الأمة ما نصه :"و الأمة كل جماعة يجمعهم أمر، إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء أكان الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا، وجمعها أمم، وقوله تعالى :[ و ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم... ٣٨ ] ( الأنعام ) أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة١، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع، وقوله تعالى :[ كان الناس أمة واحدة ] أي صنفا واحدا وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر، وقولها :[ و لو شاء ربكم لجعل الناس أمة واحدة... ١١٨ ] ( هود ) أي في الإيمان، وقوله :[ و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير... ١٠٤ ] ( آل عمران ) أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم، وقوله :[ إنا وجدنا آباءنا على أمة... ٢٣ ] ( الزخرف ) أي على دين مجتمع.. إلخ ".
و من هذا التحقيق، وتتبع الآيات الكريمة، تبين أن معنى "أمة" الطائفة التي يجمعها أمر، ويربط بينها وصف جامع، فقوله تعالى :[ كان الناس أمة واحدة ] أي كان الناس على اختلاف أجناسهم وأقاليمهم وألوانهم أمة واحدة، أي تجمعها رابطة واحدة، ووصف مشترك يوحد بينهم جميعا، مهما تختلف المنازع. وهنا يتطلع العقل لمعرفة ذلك الأمر الذي اشترك الناس جميعا فيه، فكانوا بذلك الاشتراك أمة واحدة ثم إلى ما تدل عليه كلمة "كان " أ هو الدلالة على الماضي من غير استمرار، بمعنى أن ذلك الوصف الجامع كان في الماضي وانتهى وانقطع، أي أن الناس في الماضي كانوا أمة واحدة، وفي الحاضر والاستقبال زال ذلك الوصف عنهم، أو على الأقل في حكم المسكوت عنه، والحكم على الماضي يشمل الحال والاستقبال، أم أن مدلول كان هو الوجود والاستقرار، فتدل على الوقوع في الماضي يشمل الحال والاستقبال، فتدل على وقوع في الماضي والاستمرار في الحاضر، والبقاء إلى المستقبل ككان في قوله تعالى :[ و كان الله غفورا رحيما ٧٠ ]( الفرقان ).
هذان هما الأمران اللذان يعدان مجال القول، عند تفهم مدلول تلك الجملة السامية :[ كان الناس أمة واحدة ] فلنقصد لذكر أقوال العلماء فيهما، وهي في نظرنا ترجع إلى ثلاثة أقوال :
أولها – أن الوصف الجامع الذي كان يجتمع الناس جميعا عليه هو أنهم كانوا مهديين، وعلى الفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها، وقد اختلف العلماء في هذه الهداية وأسبابها، و الذي نختاره ما أشرنا إليه من أنها هداية الفطرة، و"كان " تكون للماضي ولا يستمر الحكم بها في الحاضر، ولا يمتد إلى القابل. ويكون على هذا التخريج لابد أن يقدر ما يدل على زوال وصف الهداية، حتى تكون الحاجة إلى بعث الله النبيين، ولذلك قال العلماء : إن معنى الآية على هذا التخريج : كان الناس أمة واحدة مهديين فاختلفوا ما بين ضال ومهتد، فبعث الله النبيين بالكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
و يصح أن نقول : إن "كان " تدل على الاستمرار، ويكون المعنى أن الناس كانوا وما زالوا أمة واحدة مهديين بمقتضى الفطرة، ولكنهم يضلون أنفسهم، فبعث النبيون ليكونوا حجة على الناس، وليكون الجزاء من عقاب وثواب، وليتحمل كل امرئ عاقبة ما صنع بالتبليغ.
القول الثاني – أن الناس كانوا أمة واحدة من حيث إنهم كانوا ضالين، فبعث الله الأنبياء لهدايتهم، ولإنقاذهم من حيرتهم، وليكونوا حجة عليهم، ولتترتب تبعات الأعمال، من عقاب وثواب، وذلك بالإنذار والتبشير.
و "كان " على هذا التخريج تكون للماضي واضحة المعنى، بينة، ولا حاجة إلى تقدير كلام محذوف.
القول الثالث – وهو قول القرطبي، إذ يقول في أحكام القرآن : المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بإرسال الرسل إليهم، فلا تختص "كان" على هذا التأويل بالمضي فقط. بل معناه معنى قوله تعالى :[ و كان الله غفورا رحيما ٧٠ ] ( الفرقان ).
و إن هذا هو الذي نختاره ٢. وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف، لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع، ولا تهتدي عقولهم إلى الحقائق بنفسها، توجب البعث، ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين، وذلك لأن النفوس إن تركت لمقتضى جبلتها من غير شرع مبين، ولا كتاب يحكم، تكون بين نفس غلبت عليها شقوتها، وبين نفس ضالة حائرة، تدفعها الغرائز إلى الشهوات دفعا، فيكون التناحر والتنابذ، ولابد حينئذ من حاكم يقضي، ويقدع النفوس عن شهواتها.
ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع، واستعانة بعضهم ببعض، وحيث كان الاجتماع لابد من نظام يربط، وشرع يحكم، وعقاب يردع، وإلا أكل القوي الضعيف، كما يأكل كبار السمك صغارها عند اجتماعها، وكما تفترس السبع الأوابد من يكون أضعف منها.
و على هذا تكون الفاء في قوله تعالى :[ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ] للترتيب والتعقيب في موضوعها من غير حاجة إلى التقدير، لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف، فكان لابد من شرائع السماء لتبخع الشهوات، ولتقضي على الخلاف، ولتهدي الناس وتنقذهم من الضلال.
و لأن اتحاد الفطرة واتحاد الغرائز، واندفاعها إن لم يكن لها عاصم من شرع زاجر وعقاب مانع، يجعل الناس يتناحرون ويتنابذون فلابد من حكم صالح بين الناس، فكان ذلك الحكم من السماء.
"و كان" على هذا التأويل تكون دالة على الاستمرار والثبوت، لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى الشرع من السماء، لا يهتدون إلا به، ولا ينير السبيل لهم شيء سواه، وإنه مهما تعل العقول فلن تقوى على التهذيب من تلقاء نفسها، بل لابد من دين قد اشتمل على الترغيب والترهيب من بارئ الكون ومنشئ الخلق، الذي خلق الإنسان وهداه النجدين : طريق الخير، وطريق الشر. واعتبر بما ترى بالمدينة الحاضرة، فقد علت العقول عند أهلها، حتى استخرجوا كنوز الأرض، وتعرفوا على كثير من نواميس الوجود، ولكنهم يأكل بعضهم بعضا لهجرهم الأديان، وعدم وجود داع ينادي بينهم باسم القرآن.
و قد يقول قائل : إن جعل "كان" للاستمرار، يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديها إلى التناحر يقتضي بعث النبيين إلى يوم القيامة، وإنه لابد من نبي لعصرنا، ونحن نسلم بالاعتراض، ولا ندفع إيراده، ونقول نعم إنه لابد من قيام رسالة إلى يوم القيامة، و تلك الرسالة قائمة إلى يوم القيامة، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفنى الأرض ومن عليها، وذلك بالقرآن الكريم لا تبلى جدته، وبقائه محفوظا إلى يوم القيامة من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل، وكون الذي يقرأه كأنما يتلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيتلقى التكليف، وهو في ذاته حجة قوية معجزة، ولا يختص إعجازها بجيل من الأجيال، ولا عصر من العصور، إذ هو بما اشتمل عليه من علم وشريعة، وقصص مستقيم، معجز إلى يوم الدين، وإذا كان الناس في جهالة به، ولم يتلقوا رسالته، فهذا من تقصير الذين توارثوه وانتقل إليهم متوارثا جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة، فبعثة النبي صلى الله عليه وسلم مبشرا ومنذرا إذن متجددة فيه، وحق على حملته، ومن توارثوا علمه أن يعلنوه بين الناس، ليصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"العلماء ورثة الأنبياء "٣ وإلا فهم عن ذلك في واد يهيمون.
[ و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ] بعث الله سبحانه وتعالى النبيين مبشرين ومنذرين، أي مبشرين بحسن العقبى في الدنيا والآخرة إن أطاعوا ربهم، ومنذرين بسوء العقبى في الدنيا والآخرة إن عصوا ربهم، ووقعوا في الشر، ولم يستقيموا على الطريقة.
و لقد أنزل الله سبحانه كتابا مشتملا على الحق مع كل نبي يرشد به ويبين ويهدي ويقوم ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، بالحق الذي اشتمل عليه، إذ إن الاختلاف من طبيعة التكوين الإنساني، ومشتق من كونهم أمة واحدة في الجهل بحقائق الوجود إلا من رحم الله، وإن الغرائز إن لم يكن لها عاصم من الإرادة القوية والهداية الإلهية تندفع إلى الشهوات فتتناحر القوى ويأكل القوي الضعيف. ولقد ذكر الكتاب بصيغة المفرد، مع أن كل نبي مبعوث له كتاب، وجاء محمد بكتاب جامع مصدقا لما بين يديه وما خلفه يهدي للتي هي أقوم، عبر بصيغة الواحد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت هي في لبها كتاب واحد، لاشتمالها على شرع واحد في أصله، كما قال تعالى :[ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ١٣ ] ( الشورى ).
و كلمة [ ليحكم بين الناس ] قرئت بضم الياء للبناء للمجهول، وقال القرطبي إنها قراءة ش
١ السرفة بضم السين وسكون الراء : دويبة تتخذ بيتا من دقاق العيدان فتدخله وتموت، ومنه المثل : أصنع من سرفة – قاموس..
٢ قال المصنف – رحمه الله - : وهو عين ما اختاره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وقد استفاض في توجيهه، وحرره بقلمه البليغ رضي الله عنه، فارجع إليه..
٣ جزء من حديث رواه الترمذي في العلم (٢٦٠٦(، وأبو داود : العلم (٣١٥٧)، ابن ماجة في المقدمة (٢١٩)، والدارمي (٣٤٦)، وأحمد في مسند الأنصار رضي اله عنهم (٢٠٧٢٣) كلهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وذكره البخاري تعليقا في ترجمة باب "العلم قبل القول والعمل"..
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ( ٢١٤ )
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن الناس جميعا قد فطروا على فطرة واحدة، وأن من هذا الاتحاد كان الافتراق والاختلاف، ولقد ألهم الله كل نفس فجورها وتقواها، وخلق الناس مستعدين للخير وللشر، وللطاعة وللعصيان، فكان منهم من غلبت عليه شقوته فاتجه نحو الشر، ومنهم من عمته رحمة الله فاهتدى إلى الخير، فكان من الناس الأخيار والأشرار، وكان هذا من مقتضى الاستعداد للأمرين بمقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها وكانوا فيها على سواء.
و لا شك أن العاقبة للخير ؛ لأن الله هو الذي أمر به، فإذا كان الناس فيهم الفجار والأبرار، وأن في كل نفس امرئ استعدادا للفجور والتقوى، فالله سبحانه قد دعا للخير، وحث عليه، وهو غالب على أمره، وهو لابد ناصر للخير، هازم للشر، والعاقبة للمتقين، ولكن النصر يكون على مقتضى تدبير محكم، وصبر على البلاء، وعدم استنامة إلى الرخاء.
فلا ينتصر الخير على الشر إلا بشدائد ومكاره تنزل بالأخيار ويتغلبون عليها بعد مغالبتها، ومغالبة الأشرار معها، ولذلك أردف الله سبحانه وتعالى الآية الدالة على اتفاق الناس واختلافهم، بالآيات الدالة على الشدائد النازلة بالأخيار وأتباع النبيين، فقال سبحانه :[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ].. إلخ.
في هذه الآيات إذن يبين الله سبحانه وتعالى ما ينزل بالأخيار في سبيل الاستمساك بالحق والدفاع عنه، وكيف يغالبون المحن التي تنزل بهم، والأعداء الذين يحيطون بدولتهم، ولقد وصف سبحانه وتعالى أولا البلاء في الداخل والخارج، ثم وصف علاجه في الداخل بالبر والإنفاق ثم وصف علاجه في الخارج بالمقاومة وحمل السيف عند الاضطرار.
[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ] في هذه الجملة السامية بين الله سبحانه وتعالى أن طريق الجنة محفوف بالشدائد، كما قال صلى الله عليه وسلم :"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات "١ وأن نعيم الجنة مرتقى عظيم، لا يرتفع إليه إلا المجاهدون، وأنها كلما عظمت الشدة وطالت المدة كان الخير أعظم، ومعه رضوان الله وهو أكبر، وأن البلاء منوع مختلف، فهو بالبأساء وهي الشدائد والمكاره التي تكون خارج الجسم، كحرب ضروس، أو خطر داهم، والبلاء قد يكون بالضراء، وهي الآلام والشدائد التي تحل بالجسم، كجراح شديدة، أو أمراض ممضة، أو آلام نفسية مزعجة، وإن هذه الآلام قد تزعجهم وتشتد عليهم، وتصير كالزلزال تهز نفوسهم هزا عنيفا، كما يهز الزلزال أديم الأرض، وإذا كان زلزال الأرض يهزها حتى يلقي ما عليها من قصور مشيدة، فزلزال المؤمنين لا يقلب أنفسهم، ولا ينكس ما في صدورهم، بل يصقلها وينفض عنها ما عساه يعلق بها من درن.
و لقد فسر العلماء البأساء – بالشدة من خارج الجسم، والضراء بما يكون داخلها كما نوهنا – و هي واضحة في الآحاد، و قد تكون البأساء والضراء بالنسبة للمجموع، فالبأساء التي تنال المجموع هي مهاجمة الأعداء، اعتداؤهم وتوالي إيذائهم، وعدم تركهم أهل الحق في قرار اطمئنان، والضراء في المجموع هي ما يكون من فقر ومرض، وما يتخلل صفوف المؤمنين من منافقين يرجفون بينهم بالأقوال الكاذبة، ويخذلون ضعاف الإيمان عند لقاء الأعداء، ثم ما يكون من نقص في الأموال والأنفس والثمرات كما قال سبحانه وتعالى :[ و لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ١٥٥ ] ( البقرة ).
و "أم " في قوله تعالى :[ أم حسبتم ] قد اختلف العلماء بشأنها من حيث التخريج اللفظي بمقتضى الأحوال التي تستعمل فيها "أم"، فقال بعضهم : إنها للاستفهام المجرد، وهذا هوما قاله الزجاج، و جوزه الزمخشري، والمعنى على ذلك التخريج واضح، ويكون من قبل الاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار النهي، أي لا تحسبوا أنكم تدخلون الجنة [ ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ] أي لم تأتكم حال كحال الذين مضوا من قبلكم إذ مستهم أي أصابتهم البأساء والضراء، و التعبير بمستهم للإشارة إلى أنها نالتهم بالأذى أحسوا به، والآلام نالت حسهم، ولكن لم تنل قلوبهم.
و قال بعضهم : إن "أم" هي "أم المتصلة"، وكأن في الكلام محذوفا دل عليه لازم قوله تعالى :[ كان الناس أمة واحدة... ٢١٣ ] ( البقرة ) وما قبلها، وكأن تقدير القول هكذا : أفرضيتم بالحق تنصرونه، وتدفعون بغي الباغين عليه متحملين الشدائد والمكاره، "أم" حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء... وبهذا تكون "أم " متصلة، دالة على المعادلة بين حالين، والموازنة بين أمرين، وقد قال سبويه في الكتاب : إن "أم "المتصلة تكون دائما دالة على المعادلة والتسوية، وإن كان التعادل غير مذكور، كان مقدرا في القول مطويا في ثناياه.
و قال بعضهم إن "أم " هي أم المنقطعة الدالة على الإضراب، وقد قال البصريون : إن أم المنقطعة تدل على الإضراب والاستفهام معا، وكأن تقدير القول : لقد نزلت بكم الشدائد من أذى شديد في مكة وأنتم مستضعفون، ومن حرب وبلاء وهزيمة أحيانا وأنتم بالمدينة، ونزعت العرب كلها عن قوس واحدة في غزوة الأحزاب، لتقتلع مدينة الله من أرضه، فعليكم أن تصبروا.. [ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ٢١٤ ] ( البقرة ).
و "لما " في هذا الكلام الكريم تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي كما قال الزمخشري، والمعنى : لم ينزل بكم مثل حال الذين خلوا من قبلكم وقد ينزل أو سينزل، وإن نزل فاصبروا واعلموا أن الله مع الصابرين.
و الزلزلة : شدة التحريك، وهي تكون في الأشياء وفي الأشخاص، وفي الأحوال، فيقال زلزلت الأرض إذا تحركت واضطربت، وزلزلوا أي خوفوا. وقال الزجاج : أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت زلزلته فمعناه كررت زلله.
و المعنى في الجملة أن أهل الحق دائما معنون بظلم الظالمين، وتضييق الأشرار عليهم، ودس الأشرار ونفاق المنافقين، ودعاة التردد والهزيمة، وهم لهذا في بأساء وضراء، ولقد نزل ذلك بالذين خلوا من قبل، فحياة الأنبياء كانت كلها امتحانا واختبارا، وأن على أصحاب محمد أن يعلموا أنه نازل بهم ما نزل بالسابقين من بأساء وضراء وشدائد تزلزل النفوس وتضطرب لها القلوب بين الجنوب، وأن ذلك طريق الجنة. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"ألا إن عمل الجنة حزن بربوة، ألا إن عمل النار سهل بسهوة "٢.
و إن تلك الشدائد كانت تبلغ أقصاها، حتى إذا وصلت القلوب إلى حال تقارب اليأس من الفرج، إذ تغمرها الشدائد غمرا، حتى تكون في شبه ظلماء لولا نور القلوب، جاء نصر الله، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى :
[ حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ] أي أن الشدائد كانت تنزل بالماضين من أنصار الحق والدعاة إليه، ويطول زمنها، ويتطاول فيها أهل الباطل، حتى تصير النفوس في حال تريد النصر القريب.
و ليس معنى ذلك أن الهلع يستولي عليهم، أو أن اليأس يملك قلوبهم، فإن المؤمن لا ييئس من روح الله، إنما معناه أنهم تنزل الشديدة فيحتملونها ويألفونها ثم تنزل الأخرى التي تكون أشد قسوة، فيروضون نفوسهم على احتمالها مستعذبين العذاب في سبيل الحق، وهكذا تترادف عليهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن حتى تصل إلى أقصى ما تحتمله النفوس الآدمية، و تبلغ حد الطاقة البشرية، عندئذ يطلب الرسول والذين آمنوا معه النصر. وقدم الرسول في هذا المقام للدلالة على أمرين : أولهما : أن الشدة قد بلغت منتهاها بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم سارع بطلب النصر من رب العالمين، والثاني : أن رأفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأتباعه تجعله يسارع بطلب نصر الله، رحمة بهم، وإشفاقا عليهم.
و عند بلوغ الشدة هذا الحد يكون ابتداء الفرج، ولذا قال سبحانه :[ ألا إن نصر الله قريب ] أي الله سبحانه وتعالى يبشرهم في هذه الحال بأن النفوس قد انتهى اختبارها، وبدا جوهرها، وأن النصر لا محالة آت وهو قريب، فهذه الجملة الكريمة من كلام الله تعالى لهم. وقد قال بعض العلماء : إن هذه الجملة يصح أن تكون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، أي أنهم لفرط إيمانهم بحسن العقبى، ورجائهم في نصر ربهم، وإيمانهم بأن الحق منصور، يحسون في الحال التي يطلبون فيها النصر بأن النصر منهم قريب، فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد طلب النصر ويستمعون إليه مصدقين كأنهم القائلون :[ ألا إن نصر الله قريب ] والتعبير على هذا الشكل يدل على توكيد الخبر بالنصر، من جملة وجوه، ففيه التعبير بالجملة الاسمية في مقام الفعلية فلم يقل ستنصرون، والتعبير بالجملة الاسمية دليل على التوكيد، و فيه أداة الاستفتاح، وفيه "إن " الدالة على التوكيد" وفيه إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء، [ و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ٤٠ ] ( الحج ).
و الرسول في الآية الكريمة للجنس، أي أن هذه الحال هي حال عامة تعرض لكل رسول من الرسل في قومه إذ يدعوه إلى الحق، وإن قصص القرآن عن النبيين ينبئ عن ذلك، فموسى عليه السلام آذاه وأصحابه فرعون حتى قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم في جذوع النخل، وعيسى عليه السلام آذوه هو ومعه الحواريون، ومن قبل إبراهيم ولوط ونوح، وهكذا أهل الحق لا يصلون إلى الغاية الفاضلة إلا بعد أن يقطعوا كل ما يلقيه في طريقهم أهل الباطل من أحجار تدعثره، وأشواك تعوق السالك فيه.
و لقد قال العلماء : إن هذه الآية نزلت بعد أن أصاب المسلمين القرح في أحد، فكانت هذه الآية للتسلية لهم، ولكن الذي نزل في غزوة أحد هو قوله :[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ١٤٢ ]( آل عمران )، بدليل ما قبلها، وهو قوله تعالى :[ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس... ١٤٠ ]( آل عمران ) ولذلك يرجح أكثر العلماء الذين عنوا ببيان أسباب النزول أن هذه الآية نزلت عند غزوة الأحزاب، حين أصاب المسلمين ما أصابهم من جهد ومشقة، وهم يحفرون الخندق، ثم أصابهم من تهديد في الأموال والأنفس عندما جاء أولئك الأحزاب مجتمعين، كما قال الله تعالى :[ وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله ظنونا ١٠ ] ( الأحزاب ).
و مهما يكن من سبب لنزول هذه الآية الكريمة فإنها تدل على أن أهل الحق في مغالبة دائمة، وأنهم لا ينتقلون من شدة إلا إلى أعلى منها حتى يفوزوا، فإن الشيطان من يوم أن وسوس لآدم وحواء وأخرجهما من الجنة، وأبناؤهما في بلاء : تستغوي الشهوات جموعهم، فيندفعون فيها مجترعين من عسلها الوبىء، ثم يلغون في الشر ويكلبون على أهل الخير، فإذا تقدم دعاة الخير يدعونهم بعد أن يتبين الرشد من الغي ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، عادوهم وناوءوهم وأصابوهم، واعتقدوا أن ما يدعون إليه فيه ذهاب طغيانهم، وقدع شهواتهم، والحد من أهوائهم، وحاولوا افتراسهم كالوحوش الأوابد عندما
١ رواه مسلم: صفة الجنة (٥٠٤٩)، والترمذي (٢٤٨٢)، و أحمد في مسنده (١٢١٠١)، والدارمي في الرقاق (٢٧٢٠) عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
٢ رواه أحمد في مسند بني هاشم (٢٨٦٠)..
ولقد أخذ يبين الله سبحانه أساس التكافل الاجتماعي، وهو معاونة الفقير والضعيف ودفع حاجته بالمال، ولذا قال تعالى :[ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ] لقد سألوا عن نوع ما ينفقون، وقد تضافرت الآيات الحاثة على الإنفاق الداعية إليه، باعتبار أن التعاون الاجتماعي ركن من أركان الإسلام، فقد قرن الله سبحانه وتعالى الصلاة بالزكاة باعتبارهما صنوين لا يفترقان، سألوا عن نوع ما ينفقون ومقداره بعد أن سمعوا الدعوة إليه، ولكن الله سبحانه وتعالى قال في الإجابة عن هذا السؤال :[ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ]. وظاهر القول أن الجواب ليس عن السؤال، لأنهم سألوا عن النوع، فأجيبوا عن المصرف، وعلى حد تعبير علماء الاقتصاد : سألوا عن وعاء الفريضة فأجيبوا بموضع صرفها، فلماذا عدل الله سبحانه وتعالى عن الإجابة عن سؤالهم إلى هذه الإجابة ؟ الجواب عن ذلك أن النوع والمقدار يبينه المصرف، فأجاب عن المصرف، ليعلموا أن المطلوب هو سد حاجة هؤلاء، والنوع الذي يسد حاجتهم مطلوب إنفاقه. فالإجابة ببيان المصرف فيها أسلوب حكيم، وفيها إيجاز معجز، لأنه قد بين بها موضع الصرف، وإن لم يسألوا عنه، وبين فيها المقدار، لأن حاجة هؤلاء هي التي تعنيه، وفيها بين النوع، فإن كانوا محتاجين إلى ثياب يكسون، وإن كانوا محتاجين إلى طعام يطعمون، وإن كانوا محتاجين إلى مأوى يؤوون. وفي هذه الإجابة فوق ذلك تصريح بحق هؤلاء على ذويهم وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه، وهو أن يمكنوا من العيش طاعمين كاسين آوين مطمئنين، وأي مقدار ينفق في ذلك من حقهم على ذويهم وعلى الناس.
و إن ذلك الحق واجب على كل من عنده يسار بالنسبة لهم، واليسار يفهم في قوله تعالى [ ما أنفقتم من خير ] فكلمة خير تطلق بالنسبة للمال على الوفير منه، لا على القليل، ومن ذلك قوله تعالى :[ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين... ١٨٠ ] ( البقرة ) فالخير هنا هو المال الوفير كالخير في تلك الآية الكريمة.
ذكر سبحانه أن موضع الإنفاق هم الوالدان، والأقربون، واليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل، ذكر هؤلاء بذلك الترتيب، وإذا كان العطف بالواو لا يفيد ترتيبا من الناحية النحوية فمن المؤكد أن الترتيب في الذكر يفيد معنى الأولوية من الناحية البلاغية، فالترتيب في الذكر إذن يشير بلا شك بأولوية البعض على البعض، فيسد حاجة الأبوين، ثم يسد حاجة الأقربين، ثم يسد حاجة المحتاجين من غير أسرته.
و قد روي في سبب النزول عن عطاء : أن هذه الآية نزلت في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي دينارا، فقال :"أنفقه على نفسك " قال : إن لي دينارين، قال :"أنفقهما على أهلك" قال : إن لي ثلاثة، قال :" أنفقها على خادمك " قال : إن لي أربعة، قال :" أنفقها على والديك "، قال : إن لي خمسة قال :" أنفقها على قرابتك " قال : إن لي ستة، قال :"أنفقها في سبيل الله تعالى "١. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"تصدقوا "، فقال رجل : عندي دينار. قال :"تصدق به على نفسك " قال عندي دينار آخر، قال :"تصدق به على زوجك " قال : عندي دينار آخر قال :" تصدق به على ولدك "، قال عندي دينار آخر، قال :" تصدق به على خادمك " قال : قال عندي دينار آخر، قال :"أنت أبصر "٢.
فهذه الآثار تبين أن الترتيب في الذكر هنا يفيد الأولوية في العطاء إن ضاق الخير عن أن يشمل الأنواع كلها، وقد ذكر الله سبحانه الوالدين والأقربين من غير ذكر ما يدل على الحاجة، وذكر بقية الأصناف مع ذكر بقية الأوصاف الدالة على الحاجة، لأن الوالدين والأقربين يجب رعايتهم والإحسان إليهم، وإن لم تكن فيهم حاجة شديدة، فإن كانوا في حاجة شديدة فالإنفاق ألزم. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك "٣، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه "٤. والبر بذي الرحم مطلوب في القطيعة أشد منه عند المودة، فقد قال صلى الله عليه وسلم :" أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح "٥ وقال صلى الله عليه وسلم :" ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة "٦.
أما بقية الأصناف فإن العطاء فيها أساس الحاجة، فاليتامى يعطون لاحتياجهم إن تركهم آباؤهم من غير مال. والمسكين : هو الفقير الذي أسكنته الحاجة، أو أسكنه المرض أو السن وجعله في عوز. وابن السبيل : المسافر الذي لا مأوى له، وقد انقطع عن ماله إن كان له مال، وأولئك يعطون ما يسد حاجتهم، وينقع غلتهم.
[ و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ] ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لبيان فضل عمل الخير، والحث عليه، لأنها تدل على فضل ذلك العمل وتدفع إلى الرغبة فيه، إذ إن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وإحساس المؤمن التقي بأن الله يرى عمله في الخير حين يعمله، وأنه يبصره وهويقدم عليه، يشجعه على الاستمرار عليه، لأنه إذا كانت رؤية أي عظيم من الناس لعمل خير يعمله الإنسان يحمله على الاستمرار فكيف إذا شعر المؤمن الذي يحس بعظمة خالق الكون بما فيه ومن فيه ؟ ثم إنه فوق ذلك ينال جزاءين مع ذلك، أولهما : رضاه : وهو وحده جزاء ليس فوقه جزاء، ولذلك قال سبحانه بعد بيان ثوابه في الآخرة :[ و رضوان من الله أكبر... ٧٢ ] ( التوبة ). وثانيهما : النعيم المقيم يوم القيامة جزاء وفاقا لما قاموا من عمل صالح علمه رب العالمين وقت وقوعه، وحين أدائه.
١ ذكر ذلك عن عطاء الرازي في تفسيره : البقرة (٢١٥) وجاءت الرواية في البحر المحيط، وفي آخرها :" أنفقهما في سبيل الله، وهو أحسنها "، وذكرت في ضعفاء الكامل عن جابر قال : قال رجل : يا رسول الله عندي دينار. قال :"أنفقه على نفسك " قال : عندي دينار آخر، قال :"أنفقه على زوجتك " قال : عندي دينار آخر قال :"أنفقه على ولدك أو خادمك "- شك الوليد -، قال: عندي دينار آخر، قال :"اجعله في سبيل الله وهو أحسنها موضعا ". وروي عن جابر أيضا: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جالس عنده فقال: يا رسول الله عندي دينار. قال: "أنفقه على نفسك " قال : عندي دينار آخر، قال :"أنفقه على زوجتك " قال : عندي ثالث. قال:" أنفقه على خادمك إن كانت لك ". قال يا رسول الله عندي الرابع والذي أكرمك ما عندي غيره، قال: " فاجعله في سبيل الله عز وجل وهو أدناها أجرا"..
٢ رواه النسائي في الزكاة (٢٤٨٨)، وأبو داود (١٤٤١)، وأحمد (٧١١٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ رواه النسائي : كتاب الزكاة (٣٤٨٥) عن طارق المحاربي، وأبو داود : بر الوالدين (٤٤٧٤) عن ج كليب بن منفعة، وأحمد عن بني رمثة رفاعة بن يثربي (٦٨٠٨)..
٤ سبق تخريجه..
٥ رواه أحمد / مسند المكيين (١٤٧٨١)، والدارمي : الزكاة (١٦١٧) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
الكاشح: الذي يطوي العداوة في باطنه ولا يظهرها..

٦ رواه البخاري : الأدب (٥٥٣٢)، والترمذي : البر والصلة (١٨٣١)، وأبو داود في الزكاة(١٤٤٦)، وأحمد في مسنده (١٤٤٦)..
[ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ] بين سبحانه الطريق لدفع الضراء، والآلام الداخلية، وهو التعاون، ثم بين بعد ذلك ما يدفع البأساء، وهي الشدائد التي تدهم الجماعة من الخارج، وهو أخذ الأهبة والاستعداد للقتال، فقال تعالى :[ كتب عليكم القتال وهو كره ] وقد قرئ بضم الكاف وفتحها، والضم أكثر، وهو بمعنى الكراهة، أي القتال لشدة ولايته وما فيه من إزهاق الروح كأنه الكراهة نفسها، ويصح أن يكون كره بمعنى المكروه أي خبز بمعنى المخبوز، أي هو أمر مكروه في ذاته وعلى قراءة الفتح يكون فيه معنى الإكراه، فيكون المعنى عليه : كتب عليكم القتال، وهو أمر أنتم تلجئون إليه إلجاء، وتضطرون إليه اضطرارا، إذ أن الكره ضد الطوع، فكأنكم لا تدخلون الحرب طائعين، بل تدخلوها مكرهين كارهين، مضطرين غير مختارين، ألجأكم إليها الاعتداء عليكم، وانتهاك الحرمات والفتنة في الدين، فأنتم مضطرون مكرهون على القتال، لإزالة الفتنة وصونا للحرمات، وذودا عن الدين، تقاتلون حتى يكون الدين كله لله.
و الأمر على قراءة الفتح واضح، لأن القتال في الإسلام أمر غير مرغوب فيه لذاته، إنما اضطر إليه المسلمون اضطرارا، كما قال تعالى :[ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ٣٩ ]( الحج ).
و أما على القراءة المشهورة، وهي قراءة ضم الكاف، فكيف كان القتال مكروها، مع أن الصحابة كان الموت في سبيل الله أحب إليهم، وكانوا يرون الشهادة في سبيل الحق غنما وليست غرما ؟.
لقد قال المفسرون : إن القتال مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد تتلوها شدائد، ومشقات تتلوها مشقات، فلا يمكن أن يكون محبوبا مع ما فيه من صعاب، ومع ما يكتنفه من شدائد، فهو كان مكروها لشدائده، والعافية أحب.
و لكن ذلك لا يتفق مع ما عرف عن العرب عامة من أنهم أهل بأس وقوة، و عزيمة ونجدة، ولا ما عرف عن أصحاب محمد خاصة من أنهم كانوا يتنافسون على أماكن الردى، يلقون بأنفسهم في مواطن الموت، لا يهمهم إلا أن يغنموا النصر أو يغنموا الشهادة، ففي كليهما فضل عظيم.
و لذا لابد أن نبحث عن سبب آخر للكراهة، وذلك السبب هو الذي يتفق مع الهدى المحمدي، والمنزع الإسلامي، ذلك أن الإسلام أودع قلوب المؤمنين رأفة ورحمة، وإلفا وائتلافا، وسلاما واطمئنانا، و برا بالرحم، وحنانا على الأقربين، وتلك المبادئ لا تلتقي في قلب مع الحب في إزهاق الروح، وقتل النفوس، وإلقاء الحتوف في ميادين القتال، فليس من خلق المؤمن المحب للسلام، أن يكون محبا للقتال، ولعله كان من الصحابة من يؤثرون مطاولة المشركين، رجاء إيمانهم، ورغبة في هدايتهم، مساوقا بذلك الهدي الإسلامي، ولكن الله سبحانه وتعالى كتب القتال مع هذه الكراهة، لأنه الأهدى سبيلا بعد أن قامت الحجة، و وضحت المحجة، واستطالوا على المؤمنين بالأذى، و أخرجوهم من ديارهم، وألبوا العرب عليهم، وجمعوا الجموع.
[ و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ]أي عسى أن تكرهوا القتال رحمة بمخالفيكم ورجاء هدايتهم، ورجاء الخير منهم، وهم لا يريدون لكم إلا خبالا، ولو سكتم عنهم لكان أمرهم وأمركم وبالا، وفسدت أمورهم وأموركم، واضطربت حالهم وحالكم، فكانوا يغيرون عليكم، وأنتم ساكتون، ولو قاتلتموهم وأريتموهم الحق مؤيدا بالسلاح يقمع رءوس المعاندين المعتدين الذين يفتنون الناس عن دينهم ويحاولون نشر الفساد، لكان ذلك خيرا لكم ولهم. ووجه الخير لكم أنه رد الاعتداء، ووقف الأعداء، والذود عن الحياض، وأما وجه الخير لهم فهو أنهم عساهم يهتدون، فإن الناس أقسام ثلاثة في قبول الحق : نوع يقنعه الدليل ويهديه البرهان، ونوع تجديه الموعظة الحسنة، ونوع جائر بائر طاغ فاسد مفسد لا تجدي فيه الموعظة ولا يقنعه الدليل، فقال الله فيه :[ و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس... ٢٥ ] ( الحديد ) فبقتاله قد يسكت عن الشر واللجاجة فيه، ويتدبر الأمر من جديد، كما قال أبو سفيان في غزوة : لو كانت آلهتنا تنفع وتضر لنفعتنا ! فكان ذلك هو السبيل لدخول الإيمان إلى قلبه، فآمن وصار من المهتدين وإن لم يكن من السابقين بالقبول والإحسان.
ثم عسى أن تحبوا الأمن والسلام وتؤثروا المحبة على الخصام، وأعداؤكم يتربصون بكم الدوائر، ويرتعون في الشر رتعا شديدا، فلو تركتموهم وأمرهم لكان ذلك شرا لكم، ولكانوا هم قوما بورا، لا يرشدون ولا يسترشدون، فمن الرحمة ما تحوي في نفسها أقصى الظلم، ومن الرفق ما يشجع أشد العنف، ولذا ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :[ و الله يعلم وأنتم لا تعلمون ] فالله يعلم مغيب الأمور ومكنون المستقبل وأنتم لا تعلمون، والله يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه وأنتم لا تعلمون، والله يعلم ما تصلح به أمور الناس في الدنيا والآخرة وأنتم لا تعلمون، وأنى يكون علم المخلوق كعلم الخالق، وعلم الناقص كعلم الكامل، وعلم القاصر كعلم اللطيف الخبير.
و قبل أن ننهي الكلام في تفسير هذه الآية نقرر أمرين :
أحدهما : أن قوله تعالى [ و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ] هي قضية عامة في كل التكليفات الشرعية يجب أن نقر صاغرين بها، وأن نقبلها طائعين ما دامت قد ثبتت بدليل قطعي لا شبهة فيه، وألا نمكن أهواءنا من التحكم في أمور ديننا، فعسى أن يكون ما نحب شرا، وما نكره خيرا، كما يجب ألا نتململ بأحكام الشارع بدعوى معارضتها للمصالح، أو لروح العصر، فقد يكون ذلك هوى لا مصلحة، وفساد ومضرة. وليس صالحا ومنفعة !.
ثانيهما : أن هذه الآية فيها فرضية القتال، وظاهرها أنها تفرض الجهاد على جميع الناس القادرين عليه، وقد قال بعض العلماء لهذا : إن الجهاد فرض عين على القادرين عليه، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة الجاهلية "١ وقال بعض العلماء : إن الجهاد فرض كفاية إذا قام به بعض سقط الحرج عن الباقين، وقد قال الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر. وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسلمين، كل بمقدار قدرته، و قد ابتلى الله أكثر البلاد الإسلامية بالعدو نزل بساحتها، فالجهاد حق على كل مسلم حتى لا يكون فيها عدو متحكم، وتكون العزة لله ولرسوله، وللمؤمنين.
١ رواه مسلم : الإمارة (٣٥٣٣)، والترمذي : فضائل الجهاد (١٥٨٩)، والنسائي : الجهاد (٣٠٤٦) وأبو داود (٢١٤١) وأحمد في مسنده (٨٥١٠)..
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيها قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( ٢١٧ )
شرع الله القتال دفعا للأذى، ومنعا للفتنة، ونصرا للحق وخفضا للباطل، ولقد بين سبحانه أن المؤمنين الذين أرهف وجدانهم ومازج حب البشرية قلوبهم، كرهوه، فقال سبحانه :[ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ] كرهه المؤمنين المخلصون، وتمنوا لو أن قومهم آمنوا طائعين أو كفوا عن أذاهم حتى لا تزهق أرواح، ولا تخضب الأرض بالدماء، ولكن الله سبحانه بين لهم أن لا سبيل لرفع الحق إلا بعزة أهله، ولا عز له بين المشركين إلا بنور الحق، وبريق السيف، وإن ذلك في مصلحتهم، كما فيه إعلان الحق لهم، و منع الأذى عن المؤمنين، وزوال الفتنة في الدين، حتى يصير الدين كله لله، يطلبه من يريده حرا، ويريده من يريده مخلصا، لا لوم ولا تثريب، ولا فتنة ولا تعذيب.
و المؤمنون الذين كرهوا القتال في ذاته كرهوه أيضا لملابساته، فقد يكون في زمان له حرمة وتقديس، أوفي مكان مقدس قد حرم فيه القتال جاهلية وإسلاما، فتتضاعف الكراهة، إذ تتجمع الكراهة الذاتية، والكراهة الإضافية لزمان القتال أو مكانه، فبين الله سبحانه ما يطمئن قلوب المؤمنين، وإن من يرد الاعتداء بر لا فاجر، ولو اضطر إلى القتال في الشهر الحرام أو البيت الحرام ولذا قال سبحانه :[ يسألونك عن الشهر الحرام ].
الشهر الحرام : قد بيناه في تفسير قوله تعالى :[ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص... ١٩٤ ] ( البقرة )، وإنه مفرد أريد به الجمع وإن الأشهر الحرم أربعة، هي : رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وبينا البلاغة التي أدركناها في التعبير بالمفرد في معنى الجمع.
وقوله تعالى :[ قتال فيه ] بدل اشتمال من الشهر الحرام، قد وقعت كلمة قتال في موضع الجر على البدلية، والمعنى : أن السؤال عن القتال في الشهر الحرام، لا عن ذات الشهر، وإنما ابتدأ بذكر الشهر لأنه موضع القداسة في نفوسهم، ولأنه أساس التحريم، فالقتال في ذاته لم يعد موضع تفكير، بعد أن اطمأنت قلوبهم إلى أمر ربهم، وأنه سبيل الدفاع عن نفوسهم، إنما موضع السؤال هو القتال في تلك الأزمنة، فابتدئ بذكرها، لأنها الباعث على السؤال : وهو الذي سارع إلى الخاطر، فكان الابتداء به مجاوبة للمسارعة الفكرية بالسبق البياني.
و من هم الذين سألوا ؟ أهم المشركون، فيكون السؤال تشنيعا، أم هم المؤمنون فيكون السؤال تحرجا وتأثما من الوقوع، أو ندما أن فرط ذلك منهم ؟ إن ذلك أمر لا يعرف إلا من صحيح الآثار.
لقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في سننه بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثا على رأسه عبد الله بن جحش ليتبع عيرا لقريش قبل غزوة بدر، وكتب له كتابا، وأمره ألا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا، وقال له :"لا تكرهن أحدا على السير معك "، فلما قرأ الكتاب قال : سمعا وطاعة، وخير أصحابه، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع منهم اثنان وتبع العير فغنم غنائم وأسر أسيرين، وكان ذلك في أول ليلة من رجب حسبوها آخر ليلة من جمادى، وقيل في آخر ليلة من رجب، ولم يستأنوا إلى أول شعبان حتى لا تفلت طلبتهم، ولما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علم أنهم قاتلوا في الشهر الحرام، توقف وقال :" ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام "١.
ويروى أن المشركين قالوا : قد استحل محمد الشهر الحرام، فسفك فيه الدماء، وقالوا لمن عندهم من المسلمين المستضعفين : يا معشر الصبأة استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه.
و هذا الخبر يفيد فائدتين : أولاهما – أن تلك السرية قاتلت في الشهر الحرام جاهلة بدخوله، أو مضطرة، وكلتا الحالين تحمل العذر والمسوغ.
الثانية – إن قريشا عيرت المسلمين بذلك وأن النبي صلى الله عليه وسلم توقف عن التصرف حتى ينزل قرآن فنزل، وعلى ذلك يصح أن يكون السؤال من المشركين، وهو أوضح.
و مهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه. ولقد قال جابر : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ ٢.
و لقد قال بعض العلماء : إن تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله تعالى :[ و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة... ٣٦ ] ( التوبة )، وبقتال النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فيه، ولكن قال عطاء : إنه لم ينسخ.
والحقيقة إنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله تعالى :[ وقاتلوا المشركين كافة ] العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختارا قط، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار، ولذا قال سبحانه :[ فلا تظلموا فيهن أنفسكم... ٣٦ ] ( التوبة ) ولأن الأشهر الحرم نص عليها في خطبة الوداع، وكل ما جاء فيها غير منسوخ. وقد بينا حكمة تحريم القتال في الأشهر الحرم عند تفسير قوله تعالى :[ الشهر الحرام بالشهر الحرام... ١٩٤ ] ( البقرة ).
[ قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ] عير المشركون المؤمنين بأنهم قتلوا أو قاتلوا في الأشهر الحرم مع أنهم كانوا معذورين، لجهلهم بالميقات، أو لدفع الضرر عن أنفسهم بمبادرة عدوهم قبل أن يقتلهم. وما سوغ أحد ترك الدفاع عن النفس إن هاجمه العدو، فرد الله سبحانه قولهم بقوله تعالى :[ قل قتال فيه كبير ] فهو رد بالموافقة، أي أن القتال في الشهر الحرام كبير على النفوس تستثقله القلوب المؤمنة فكيف إذا كان هو أمرا مكروها في الجاهلية والإسلام، لأن الشهر الحرام مقدس في الإسلام، أو يقال عن المعنى القتال فيه ذنب كبير، وعمل خطير، لأن فيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس.
و هذا التسليم ليس لأن المؤمنين جديرون بأن يعيروا، لأنهم معذورون بل إن التسليم ليأخذ الكفار من نواصيهم على الحق، ويبين لهم مقدار ضلالهم وفسادهم، فإذا كان كبيرا وخطيرا وذنبا وإثما قتال في الشهر الحرام لأنه اعتداء عليه، فكيف يكون الصد عن سبيل الله، والكفر بالله، والكفر بالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، وكيف تكون الفتنة في دين الله، وحمل الناس على الخروج منه ؟ إن ذلك يكون بلا شك أعظم وأخطر لأنه اعتداء على الله وعلى بيت الله، وعلى الأنفس، وعلى الأهل والعشيرة، ولذا قال سبحانه :[ و صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر ]. أي أن هذه الأمور مجتمعة ومنفردة أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومع ذلك ارتكبوها وأخذوا على الناس القتال الشريف اضطرارا في هذا الزمان.
و الكلام مستقيم تمام الاستقامة على أن السؤال كان من المشركين، والإجابة له مفحمة ملزمة موجهة باعثة على الخير. وإذا كان السؤال من المؤمنين كالسؤال في قوله تعالى :[ يسألونك ماذا ينفقون... ٢١٥ ] ( البقرة ) وكالسؤال فيما يأتي :[ يسألونك عن الميسر والخمر... ٢١٩ ] ( البقرة ) إذا كان السؤال من المؤمنين إعلانا لندمهم على صنيعهم، فقوله تعالى :[ قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله ] فيه بيان معذرتهم، وأنهم مضطرون لا مختارون وإن الذين قاتلوهم ارتكبوا معهم الشر بكل صنوفه، فإن أخطأتم غير قاصدين فأولئك ارتكبوا أصناف الشر قاصدين، وهم لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة.
و الأصناف التي ذكرها الله سبحانه من اعتدائهم خمسة : هي الصد عن سبيل الله، والكفر بالله، والكفر بالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، والفتنة في دين الله.
أما الصد عن سبيل الله فمعناه المنع من سبيل الله، أي السنن المستقيم الذي سنه الله سبحانه وتعالى لخلقه ليسيروا على الفضيلة متآخين متحابين. وابتدأ الله بيان صدهم عن سبيله للإشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته ويمنعون أن تقام العلاقات بين الناس على أسس من الفضيلة.
و الفعل صد : يستعمل لازما ومتعديا، فيقال : صد عن هذا الأمر أو عن فلان صدودا إذا أعرض عنه وانصرف، ويقال : صده عن هذا الأمر صدا أي منعه وصرفه.
والكفر بالله يشمل الشرك، ويشمل كفر النعم التي غمرهم الله بها وأسبغها عليهم، سواء أكانت مادية ببسط الرزق، أم كانت معنوية بآياته البينات، وبعث الرسالة فيهم تهديهم وترشدهم، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم [ و كذب به قومك وهو الحق... ٦٦ ] ( الأنعام ).
و الكفر بالمسجد الحرام عدم شكر الله على نعمته إذ جعلهم في حرم آمن والناس يتخطفون من حولهم :[ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم... ٦٧ ]( العنكبوت )، ومن الكفر أنه بيت الله ومع ذلك يقيمون عليه الأصنام وهي الأحجار التي يشركونها بالله في العبادة، ومن الكفر به أن يمنعوا الناس من القيام بحقه في الزيارة والطواف في الحج والاعتمار، ومن الكفر أن يؤذوا الناس حوله ويقتلوهم ويفتنوهم عن دينهم في بطحاء مكة، وهكذا لم يقيموا للبيت أي حرمة ويتمسحون بالشهر الحرام والقتال فيه، فيعيبون ناسا اضطروا إلى القتال غير قاصدين، وقد ارتكبوا هم معهم المنكروالزور.
و إخراج أهل المسجد منه، فإن إخراج الآمنين من مستقرهم جريمة كبيرة، وإخراج الساكنين حول البيت أكبر جرما وأعظم إثما، لأنه اعتداء عليهم، اعتداء على البيت واعتداء على الأمن الذي بقي لهم من شريعة إبراهيم عليه السلام، إذ قال :[ رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ٣٥ ] ( إبراهيم ) فهم تعدد اعتداؤهم عليه : فأزالوا الأمن الذي أوجبه الله، ووضعوا حوله الأصنام، وأخرجوا أهله منه.
هذه الأمور الأربعة كلها جرائم متتالية، وكل واحدة منها جريمة بذاتها، ولكنها في مجموعها تساوي جريمة واحدة قائمة بذاتها وهي الفتنة في دين الله، ولذلك خصها الله سبحانه وتعالى بالذكر كأنها وحدها تساوي الكل أو تزيد وهي مبعث أكثرها، فقال سبحانه :[ و الفتنة أكبر من القتل ].
و أصل اشتقاق كلمة الفتنة من الفتن، وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الناس النار، قال تعالى :[ يوم هم على النار يفتنون ١٣ذوقوا فتنتكم... ١٤ ]( الذاريات ) أي عذابكم، وتستعمل الفتنة في الاختبار ومن ذلك قوله تعالى :[ و فتناك فتونا... ٤٠ ]( طه ) وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، وقد جاء فيهما قوله تعالى :[ و نبلوكم بالشر والخير فتنة... ٣٥ ]( الأنبياء ). وقال في الشدة :[ إنما نحن فتنة... ١٠٢ ] ( البقرة )٣.
و الفتنة التي أنزلها المشركون بالمؤمنين، وهم مستضعفون بمكة كانت أكبر من القتل، لأنها أذى شديد يقلق الروح، وأذى الروح وبخعها بحملها على الكفر بعد الهداية لا يقل عن القتل، فهذا موت مادي، وذلك موت أكبر وأعظم، ولقد قال سبحانه :[ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها... ١٢٢ ]( الأنعام ) فالضلال كال
١ رواه البيهقي في السنن الكبرى، ج١٣ ص ٢١٠عن جندب بن عبد الله (١٨١٠٩(، وعن عروة بن الزبير ج١٣ ص ٣١٦(١٨٣٦٢). وانظر البداية والنهاية لابن كثير ج ٤ ص ٤٥..
٢ سبق تخريجه..
٣ جاء في الهامش : مفردات القرآن للراغب الأصفهاني – فتن..
وقد بين بعد ذلك حال المؤمنين ومنزلتهم من ربهم ليزول ندمهم، فقال سبحانه :[ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ].
هذه أوصاف ثلاثة لأولئك المقربين الصديقين :
أولها – أنهم آمنوا، والإيمان تصديق للحق، وإذعان لحكمه وتنفيذ لأوامره، وإخلاص في القلب، ونور في البصيرة، وذلك وحده كاف للجزاء إن قام المؤمن به، وحقق لوازمه وخواصه، وصار شعاره ومظهره، وسريرته وحقيقته.
و ثانيها – الهجرة، فقال تعالى :[ الذين هاجروا ] وكرر الموصول هنا للإشارة إلى أن الهجرة وحدها عمل زائد على الإيمان يستحق وحده الثواب لأنه ترك للمال والأهل، وطلب للعزة وإعزاز للدين، بدل البقاء في الذلة والرضا بحياة المستضعفين. وقد أمر الله بالهجرة عند الاستضعاف، ونهى عن البقاء تحت نير غير المسلمين، ولذا قال تعالى :
[ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ( ٩٧ ) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ( ٩٨ ) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ( ٩٩ ) ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( ١٠٠ ) ] ( النساء ).
و ثالثها – الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو باب الجنة، وهو رهبانية هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"رهبانية هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل"١.
ولقد بين الله سبحانه جزاءهم فقال :[ أولئك يرجون رحمة الله ]أي أن أولئك المتصفين بهذه الصفات ليس من شأنهم أن يخافوا العذاب لخطأ غير مقصود في الجهاد، بل إنهم يرجون الرحمة والثواب، ومن رجا طلب، ومن خاف هرب، فلا تخافوا في الجهاد إلا الله، ومن أخطأ فله أجر، ثم ذيل سبحانه الجملة الكريمة بقوله :[ و الله غفور رحيم ]لبيان أنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده فيقبل إسلام الكافرين، والإسلام يجب ما قبله، وكما قال تعالى :[ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف... ٣٨ ]( الأنفال ) ويقبل توبة العاصي ويدينه، وإن غفران الذنوب تشجع على الطاعات وهجر المنكرات، وعند اليأس تموت النفس ولا يقدع الهوى، وإن ذلك كله برحمة الله تعالى لعباده آحادا وجماعات، فمن مصلحة الآحاد أن يهجروا المعاصي ويكونوا عاملين في بناء الفضيلة، ومن مصلحة الجماعة تكثير العاملين على الخير وإقامة الحق والعدل، والله من ورائهم محيط.
١ رواه أحمد (١٣٣٠٦) في مسنده..
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ( ٢١٩ )
أسئلة ثلاثة وإجابتها، وكلها يتصل بإصلاح المجتمع، وتقوية بنيانه، وكل واحد منها يتجه إلى ناحية إصلاحية، وكلها يتلاقى نحو مقصد واحد، وهو إقامة بناء المجتمع على دعائم من الفضيلة والمودة والتعاون على الخير، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وقد جاءت هذه المعاني الإصلاحية التي توثق الوحدة، وتقوي الروابط بعد الأمر بالجهاد مع بعض أحكام القتال، لأن القتال حماية للدولة من أن يلتهمها العدو الخارجي، والإصلاح في هذه المسائل الثلاث يتناول حماية الأمة من أن تأكلها نيران العدو الداخلي، وهو التنابذ، وأن تنظر كل طائفة للأخرى نظر العدو المترصد، لا نظر العضو المتعاون والأخ المتودد، ولأن الوحدة الداخلية والاتحاد المكين عدة القتال، وذخيرة الحرب، فقوة الحرب تستمد من السلم، ولأن مقصد الإسلام الأسمى هو إيجاد جماعة متآخية متحابة على أسس من الفضيلة والخلق الكريم، ولكنه ما إن دعا بدعايته، حتى خرج عليه إخوان الشيطان يحاولون أن يبيدوه وأن يقضوا عليه في مهده، وفتن المسلمون في دينهم، وعذبوا في إيمانهم عذابا شديدا فأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وساروا على سنة الوجود، وهو أن يدافعوا ذلك العدو المعتدي الذي يريد الفتك بهم، حتى إذا دفعوه وأمنوا شره، أو فلوا قوته، وخضدوا شوكته، اتجهوا إلى إقامة مدينتهم الفاضلة، وإرساء قواعدها وحققوا بهذا القصد الأول، ومكنوا لأنفسهم وأعدوا بالفضائل عدة أقوى لمنازلة الأعداء.
و قد ابتدأ القرآن الكريم في إصلاح المجتمع الإسلامي بهذه المسائل والإجابة عنها، لأنها هي التي تنفي الأذى وتدفع الخطر الاجتماعي. ومن المقرر عند علماء الإسلام أن التخلية مقدمة على التحلية، أي أن نفي الإثم مقدم على جلب النفع، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة، إذ إنه لا منفعة مع أن الفساد يشيع، والداء يستشري، والأذى يستمكن، ومثل الجماعة في علاجها من أدوائها، كمثل الجسم الإنساني في علاجه من أمراضه، فإن الطبيب النطاسي ١ لا يبادر بتقوية الجسم ويترك الجراثيم تفتك به بل يجتهد أولا وبالذات في محاربة هذه الجراثيم والقضاء عليها، ثم يقوي الجسم، وإن عمد إلى التقوية في أثناء العلاج فلتقوى المقاومة، ولتزداد الحصانة، ولتشتد المناعة، وغرضه الأول محاربة الآفات، وكذلك الأمر في إصلاح الأمم : يبتدئ بإماطة الأذى الذي يفتك بها، ثم يثني بأعمال الإنشاء، التي تقيم البناء.
و إن هذه الأسئلة الثلاثة – هي : السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن مقدار ما ينفق والسؤال عن اليتامى وإصلاحهم.
أما السؤال الأول، فقد جاء فيه قوله تعالى :[ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ] السؤال عن الخمر والميسر هو بلا شك عن الحل والتحريم لا عن الحقيقة والذات، فإنهم يعرفونهما بلا شك، وكان الأغنياء وذوو المقدرة فيهم منغمسين فيهما، ولذلك كان الجواب مشيرا إلى عدم رضا الشارع عنهما أو مشيرا إلى تحريمهما، لأن ما غلبت مضرته على منفعته – كما هو حكم الإسلام – يكون حراما، ولا يكون حلالا، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك، فكان يحق على المؤمن النقي النفس، الذي خلص من أدران الهوى أن يكتفي بذلك ويجتنبهما، وكذلك فعل خواص المؤمنين، والعلية من أصحاب الرسول الأمين كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين المقربين. ولقد كان عمر رضي الله عنه يحس أن شرب الخمر لا يسوغ في الإسلام، ولذا كان يدعو الله قائلا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، خصوصا بعد أن نزلت الآيات التي تشير إلى التحريم، ولا تصرح به.
ولماذا السؤال عن الخمر والميسر، وممن كان السؤال ؟ إن السؤال بلا ريب من المؤمنين، ولم يكن من غيرهم، لأنهم رأوا الخمر تذهب الرشد، وتضعف العقل، وتجعل المرء يقع فيما لا يحسن، حتى أنه ليروى أن حمزة بن عبد المطلب شرب الخمر، فعقر ناقة لعلي بن أبي طالب قد أعدها ليحتطب عليها، ويجمع بذلك مهر فاطمة الزهراء، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمه، ولما خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم كان سكران، فقال للرسول الكريم، ما أنتم إلا عبيد أبى ٢ ! فما كان المؤمنون الأولون وقد أرهف الإيمان قلوبهم وزكت أرواحهم، وطهرت نفوسهم ليرضوا عن الخمر، وإن لم يصرح القرآن بالتحريم، ولذلك كثر سؤالهم عنها، ليكون القطع في أمرها.
و لقد نزل في الخمر أربع آيات من القرآن الكريم :
أولها :[ و من ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ٦٧ ] ( النحل ).
و الثانية : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ].
والثالثة :[ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى... ٤٣ ]( النساء ).
و الرابعة :[ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ٩٠ ]( المائدة ).
و لقد اتفق العلماء على أن الآية الأولى أول ما نزل في القرآن خاصا بالخمر، مشيرا إليها، لأنها نزلت بمكة، إذ أنها من صورة النحل وهي مكية. وقد اتفقوا على أن آية المائدة وهي الرابعة آخر آية نزلت في الخمر، لأنها القاطعة في التحريم، ولذا قال عمر عندما سمع قوله تعالى في آية المائدة :[ فهل أنتم منتهون٩١ ] ( المائدة ) : انتهينا، وشفى ذلك ما في نفس الفاروق من الخمر. والأكثرون على أن قول الله تعالى :[ يسألونك عن الخمر ] سبقت في النزول آية :[ يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى... ٤٣ ] ( النساء ) ولكن يميل بعض المتأخرين ٣ إلى أن آية [ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ] مقدمة على آية [ يسألونك عن الخمر ] لأن هذه فيها إشارة إلى التحريم المطلق لأنه من المقررات الشرعية أنه إذا كان الضرر أكبر من النفع، فإن الحكم هو التحريم، وكذلك كل المحرمات ضررها أكبر من نفعها، ولا يكاد يوجد أمر يكون ضارا ضررا محضا، إذ أنه ما من ضار إلا وفيه نفع، وما من شر إلا كان فيه بعض الخير، وما من نفع إلا تأشب به بعض الضرر، والعبرة في التحريم بالغالب فإن غلب النفع كانت الإباحة، وإن غلب الضرر كان التحريم، فإذا كانت آية [ يسألونك عن الخمر ] قد صرحت بعلة التحريم فقد أومأت إلى التحريم المطلق، أما آية [ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ] فهي لم تصرح بالتحريم المطلق، بل أومأت إلى التحريم المؤقت أو المعلل بكونه لأجل الصلاة، وإذا كان الترتيب في النزول لأجل التدرج في المنع، فالمنطق يوجب أن يكون ما فيه إشارة التحريم المطلق مؤخرا عما فيه إشارة إلى التحريم المؤقت، والمعلل بكونه لأجل الصلاة.
و قبل أن نترك الكلام في آيات الخمر عامة إلى الكلام في هذه الآية الخاصة [ يسألونك عن الخمر ] لابد أن نشير إلى معنى خاص بالآية الأولى وهو قوله تعالى :[ و من ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا... ٦٧ ] ( النحل )، فقد فهم بعض الناس أنها تبيح الخمر، ومن المقررات العلمية في الإسلام أن ما أباحه الله لا يرد نص صريح بإباحته بل يكون متروكا لا نص فيه بالإباحة ولا بالمنع، ولذا يقول علماء الأصول أنه لا يكون مباحا، بل يكون في مرتبة العفو لأن ما فيه من أسباب التحريم قائم، ولكن لا نص يمنع، فيكون محل عفو الله، إذ لا عقوبة من غير نص، فيكف تكون هذه الآية مشيرة للإباحة ؟ والإجابة عن ذلك أن ذا الفهم المستقيم لا يأخذ من الآية الأولى دلالة على الإباحة لا بالإشارة ولا بالعبارة، بل إنها تدل على التحريم بالإشارة، وإن لم تكن قريبة بالإشارة في قوله تعالى :[ يسألونك عن الخمر والميسر ] ووجه الإشارة إلى التحريم في تلك الآية أن الله سبحانه وتعالى يمن عليهم بنعمه وذكرها لهم، فذكر أنه سبحانه وتعالى رزقهم ثمرات النخيل والأعناب فاتخذوا منها سكرا، ورزقا حسنا، أي أنهم أخذوا منه نوعين متقابلين : أحدهما مسكر والآخر شراب حسن وطعام جيد سماه رزقا حسنا، فتسميته أحد النوعين بأنه رزق حسن معنى ذلك أن مقابله ليس رزقا حسنا، بل هو استعمال سيء لما أنعم الله به، وفي ذلك بلا ريب إشارة إلى أنه مبغض غير مستحسن، ولا يقر من يتخذه كذلك على ما يفعل، فليس في هذه الآية إذن إشارة للإباحة بل فيها إشارة إلى التحريم أو تصريح بعدم الاستحسان أو ما هو فيه حكم التصريح من حيث الدلالة اللغوية.
و بعد ذلك نتكلم عن حقيقة الخمر عند الفقهاء، ثم نتكلم عما فيها من إثم، وما فيها من نفع، ووجه الكبر في إثمها والقلة في نفعها، وقبل أن نخوض في كلام الفقهاء نذكر الاشتقاق اللغوي لكلمة الخمر :
أصل كلمة خمر تستعمل بمعنى الستر، وبمعنى الترك، وبمعنى الاختلاط فيقال خمر بمعنى ستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها، ومنه : خمروا آنيتكم أي : غطوها، ويقال للشجر الملتف ( خمرا ) لأنه يستر بعضه بعضا ومنه قول القائل : دخل في غمار الناس وخمارهم، أي اختفى فيهم وستر بهم.
و من استعمالها بمعنى الترك قولهم : اختمر العجين، أي ترك حتى بلغ إدراكه، وقولهم خمر الرأي واختمر أي تركت حتى تبين وجه الحق فيه، ومن استعمالها بمعنى المخالطة أن يقول القائل : ما خمرني شك، أي خالطني شك.
و الخمر التي تسكر فيها المعاني الثلاثة، فهي تستر العقل، وهي لا تكون كذلك مسكرة إلا إذا تركت مدة طالت أو قصرت حتى تتكون منها المادة المسكرة، وهي تجعل الشارب لها يختلط عقله، ويغلب صوابه، فلا يعرف الحق من الباطل، واللائق من غير اللائق، والضار من النافع.
و قد اختلف الفقهاء في مدلول كلمة خمر التي نص عليها القرآن بالتحريم مع أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما، إنما موضع الخلاف في الأمر، الذي حرم بنص الآية أيشمل المسكرات كلها، فيدخل في عموم التحريم بالنص كل الأنبذة وكل المواد التي من شأنها أن تسكر، وإن لم يسكر المتناول فعلا سواء أكانت تلك المواد من عصير العنب أم من غيره.. أم أن النص الوارد بالتحريم في الخمر هو فيما كان من عصير العنب، و غيره من المحرمات ثبت تحريمه بالقياس عليه لتحقق علة التحريم فيه، ولعموم النص في الحديث "كل مسكر حرام "٤.
قال الجمهور الأول، وهو أن كلمة خمر تشمل كل مسكر، وحجتهم في قولهم أصل الاشتقاق لأن كل مسكر يتلاقى مع أصل الاشتقاق في الكلمة، لأنه يستر العقل، ويجعل الشارب مختلط الفكر مضطرب النظر لا يعرف الحق من الباطل، وقد تبين من قبل أصل الاشتقاق. وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"كل مسكر خمر " فكان هذا تبيينا من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى كلمة خمر، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين الأول للقرآن الكريم، فلا تفسير وراء تفسيره صلى الله عليه وسلم، ولقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :" إن من العنب خمرا وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا "٥ فلم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره على عصير العنب، بل شمل أكثر المواد التي كان يتخذ العرب منها خمورهم.
و لقد فهم الصحابة، وهم من العرب الذين أوتوا علم هذه اللغة، تحريم كل مسكر عندما نزل قول
١ نطاسي: عالم بالأمور حاذق بالطب وغيره.(لسان العرب – نطس)..
٢ متفق عليه، رواه بنحو من ذلك البخاري : كتاب المساقاة – بيع الحطب والكلأ(٢٢٠٢)، ومسلم : الأشربة – تحريم الخمر (٣٦٦٠) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
٣ قال الشيخ رحمه الله: ذكر ذلك الأستاذ الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا رضي الله عنهما..
٤ متفق عليه، رواه البخاري : كتاب المغازي – بعث أبى معاذ إلى اليمن (٣٩٩٧)، ومسلم : الأشربة – بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام (٣٨٢٩)..
٥ رواه أبو داود : كتاب الأشربة (٣١٩١)، وبنحوه الترمذي (١٧٩٥)، وابن ماجة (٣٣٧٠)، وأحمد(١٧٦٢٧) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه .
و أما السؤال الثالث فقد جاء في قوله تعالى :
[ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ]. و الإجابة فيه وأساسها أيضا إماطة الأذى عن الجماعة الإسلامية، فإنه إذا كان الإنفاق على الفقراء يحمي المجتمع من الفقر وأهواله وغوائله، فحماية اليتامى وكلاءتهم تحمي المجتمع من أن يكون منهم شريرون يبغضون المجتمع، ويجلبون له الويلات وهم في كنف المجتمع ورعايته. لقد سألوا عن اليتامى أيضمونهم إليهم ويأكلون معهم أم يدعونهم وأموالهم، وكيف يرعونها، وكيف يقومون عليها ؟ سألوا هذه الأسئلة وما يشبهها، وقد قرؤوا قوله تعالى :[ فأما اليتيم فلا تقهر ٩ ]( الضحى ) وقوله تعالى :[ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن... ١٥٢ ]( الأنعام ) وقوله تعالى :[ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ١٠ ] ( النساء ) فكانوا من أمرهم في حيرة : إن قاربوهم وأموالهم يخشون على أنفسهم أن ينالوا إثما، وإن تركوها ضاعوا وهم في كفالة المجتمع كله، فأمر الله نبيه أن يقول لهم إن المطلوب إصلاحهم، فقال سبحانه :[ قل إصلاح لهم خير ] أي أن المطلوب إصلاحهم وإصلاح مالهم. وذكر إصلاحهم، لأنه المقصد الأول، ولأن إصلاح مالهم إصلاح لهم، وخير لهم ولكم، وإصلاح حالهم بالتهذيب والتربية والعطف والمحبة، والرأفة، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم، لأن الغلطة معهم تربي فيهم الجفوة، وتنشأ عنه القسوة، فينشئون وهم يبغضون الناس، ويتربصون بهم الدوائر. و قد أثبت علم النفس الجنائي أن روح الإجرام تنبعث عند النشأة الأولى في الغلمان الذين يحسون بأن المجتمع يجفوهم، ويغلظ عليهم فيخافونه ويبغضونه، ويترقبون الفرصة السانحة ليستلبوا المال أو الأرواح، أو ما يمكنهم أن يصلوا إليه، فكان لابد من تربية اليتيم بالإصلاح والتهذيب، وألا يقهر نفسه حتى لا يجفو فيكون من ورائه ذلك الشر المستطير والخطر الكبير.
وإذا كان المطلوب هو الإصلاح بكل وسائله، وهو الغاية المطلوبة فإن كان الإصلاح بمخالطتهم وضمهم إليهم من غير أن تؤكل أموالهم، فالمخالطة سائغة جائزة، و لذا قال سبحانه :[ و إن تخالطوهم فإخوانكم ] أي عند المخالطة استشعروا أنهم إخوانكم في الدين والإنسانية وأبناء إخوانكم، وعاملوهم بتلك الأخوة الرحيمة الرابطة، ولا تنظروا إليهم شذرا، وتؤكلوهم نزرا، لأنهم غرباء عن بيتكم، بل أشعروهم أنهم دائما في بيت أهلهم وذويهم، حتى لا تتربى نفوسهم على الجفوة فيبغضون الناس، ويتربصوا بهم الدوائر، ويكون ذلك في طبعهم إذا كبروا وبلغوا أشدهم..
ثم قال سبحانه :[ و الله يعلم المصلح من المفسد ] وهذا ترغيب في الإصلاح، وترهيب من الفساد، لأنه إذا كان يعلم المؤمن أن الله مطلع على ما يفعل، تجنب الشر، وآثر الخير، فتجنب إهمال اليتيم لكيلا يفسد، وعمد إلى تهذيبه لكي يكون عضوا عاملا في الجماعة يبني كما يبني غيره، وتقوم الجماعة على سواعد قوية يشترك الجميع في إقامتها. ثم إنه إذا علم الله المصلح فسيجزيه خير الجزاء، وما دام يعلم المفسد، فحسابه وعقابه بمقدار فساده.
ثم قال سبحانه :[ و لو شاء الله لأعنتكم ]. العنت المشقة، وأعنتكم : أوقعكم في المشقة، وذلك بأن يترككم تهملون أيتامكم، فيكونون إلبا عليكم في قابل حياتهم، وشوكة في جنب الدولة، ويكون منهم قطاع الطريق واللصوص والمنتهكون لحرمات المنازل، ويفتكون بمجتمعكم، وينزلون الأذى بكم، ولكن الله سبحانه كان من رحمته أن دعاكم إلى العناية باليتامى ليكونوا عاملين بدل أن يكونوا هادمين، وليكونوا قوة للجماعة بدل أن يكونوا قوة عليها هادمة في بنائها.
ثم ذيل الله سبحانه الآيات بقوله تعالى :[ إن الله عزيز حكيم ] للإشارة إلى ثلاثة أمور :
أولها : أن الله سبحانه عزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء، فمن أذل يتيما أذله الله، ومن أعزه أعزه الله سبحانه.
و ثانيها : أن الله سبحانه وتعالى هو الغالب على كل شيء، فهو الذي سيجزي القوامين على اليتامى بما يفعلون، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
و ثالثها : أن هذا التنظيم هو من حكمته ورحمته، فمن رحمته بخلقه أن حثهم على معاونة اليتيم وإصلاحه، والقيام على شئونه، وليكون التراحم بين الناس، وليضعف الشر فيهم، ويكثر الخير والإنتاج. والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ( ٢٢١ ) ].
ابتدأ الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ببيان الروابط التي توثق العلاقات الفاضلة في المدينة الإسلامية، التي هي المقصد الأول من هذا الشرع الحكيم، فقد تضافرت الأخبار والآثار، وجاءت آيات الله البينات المثبة أن شرع الله سبحانه وتعالى لخير الناس في الحال والمآل، وإقامة مدينة فاضلة في الدنيا، يكون الثواب لمن شاد بنيانها، في الآخرة، وكل عبادات هذا الدين تتجه نحو هذه الغاية، وتستهدف هذا الهدف، ولقد قال سبحانه في وصف شرعه وكتابه :[ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ٥٧ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ٥٨ ]( يونس ).
و قد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين بعض الأمور التي تحل عرى الجماعة، و توقع بينهم العداوة والبغضاء، وعلاج هذه الأمور، والطب لها بدواء ناجع يشفي من سقامها، فذكر ما في الخمر والميسر من مآثم، واكتفى في هذا الموضع بذلك بيانا للعاقل الرشيد، وأشار إلى التنابذ والتدابر إن ضن الغني بالعطاء، وفقد الفقير الرجاء، فأوجب الإنفاق، وأشار إلى المعاول التي تهدم الجماعة الإسلامية، وتقوض أمنها، وتكثر شذابها، وأولئك هم الضعفاء واليتامى ومن لا مأوى لهم، فإن لم يصلحوا وعودهم أخضر، كان منهم الشطار واللصوص والهادمون الذين يأتون بنيان الجماعة من قواعده.
و بعد أن أشار إلى الأذى والوقاية منه، والداء ودفعه، أخذ يبين أساس البناء الاجتماعي الفاضل، وابتدأ من هذه الأسس بالقاعدة التي يشاد عليها البناء، والوحدة التي يتكون منها البنيان، والتي إذا قويت فيها الروابط قوي، وشد بعضه بعضا، وتلك القاعدة هي : الأسرة، فهي وحدة البناء الاجتماعي، وقاعدة كل بناء فاضل، وفيها تتربى كل المنازع الاجتماعية الفاضلة.
و لقد ابتدأ من أحكام الأسرة ونظمها الإسلامية الفاضلة بالانتقاء في ركنيها، وهما الزوج والقرينة، فإنه إن كان الاختيار فيهما حسنا كانت العلاقة موثقة بروابط المودة والرحمة والإخلاص، كما قال تعالى :[ و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة... ٢١ ] ( الروم ).
و لقد ابتدأ ببيان أساس الاختيار وهو التدين، فقال تعالت كلماته :
[ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ]عندما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته، وانبعث في مكة نور هدايته، كان أكثر المؤمنين، من الضعفاء غير ذوي الجاه والنسب والحسب، والأقلون كانوا كذلك، وكل المعاندين أو جلهم من أوسط قريش نسبا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالة الكفار الذين سبقوهم لأنبيائهم :[ و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي... ٢٧ ]( هود ). ولما قويت شوكة الإسلام، كثر دخول ذوي الأنساب فيه شيئا فشيئا، وإن كانوا مع ذلك قلة من قريش، وكان أولئك بمقتضى نسبهم الرفيع يرون في بني أعمامهم من قريش الكفاءة النسبية في الزواج، وربما كان فيهم بعض الميل لمصاهرتهم، بل كان من بعضهم فعلا من أبدى رغبتهم في المصاهرة، فجاء النهي القرآني عن نكاح المشركات، حتى يؤمن.
و النكاح في أصل معناه اللغوي : الضم، وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض، ثم أطلق على العقد الذي يحل علاقة الرجل بالمرأة، وعلى العلاقة التي تكون بينهما بما يتقاضاه الطبع ١، وإطلاقه بمعنى العقد إطلاق معروف قبل الإسلام، وقد أقره الإسلام بشروط، والدليل على أنه بمعنى العقد كان معروفا في الجاهلية قوله صلى الله عليه وسلم :"ولدت من نكاح، ولم أخرج من سفاح "٢أي أنه صلى الله عليه وسلم في سلسلة نسبه الشريف لم تكن ولادة أي جد من جدوده، أو جدة من جداته إلا من نكاح صحيح حتى إسماعيل عليه السلام، وعلى ذلك يكون المراد من قوله تعالى :[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ] النهي عن العقد عليهن.
و الإنكاح : هو التزويج، فالنكاح الزواج، والإنكاح مباشرة العقد، وهو أكثر ما يكون عندما يتولى الشخص الزواج عن الغير، فمعنى [ و لا تنكحوا المشركات ] لا تتزوجوهن، ومعنى [ لا تنكحوا المشركين ] لا تزوجوهن من نسائكم، فقد جرى العرف على أن المرأة يتولى زواجها أحد قرابتها، وقد استنبط الجمهور من هذه الصيغة أن المرأة ليس لها أن تتولى عقد زواجها، وأن العقد لا ينعقد بعبارة النساء، وخالف في ذلك أبو حنيفة وانفرد بالمخالفة وروى عن أبي يوسف تلميذه أنه يرى رأيه، وقد قال أبو حنيفة : إن المرأة لها أن تتولى زواج نفسها، وتنفرد بالعقد، بشرط أن يكون الزوج كفئا، فإن كان غير كفء فلا يجوز العقد، وأن قوله تعالى :[ و ل تنكحوا المشركين ] جرى مجرى الأغلب الشائع، ولأن ذلك هو الحسن المندوب إليه، لا اللازم الذي لا يجوز خلافه.
والمشركون – هم عبدة الأوثان. وأصله من الإشراك، وأصل كلمة أشركته بمعنى جعلت الشيء بينه وبين غيره شركة، والشركة كما تكون في الحسيات والأشياء، تكون في المعاني، فيقول أشركته في أمري، وقد قال سبحانه وتعالى حاكيا عن موسى عليه السلام [ و أشركه في أمري ٣٢ ]( طه ) وفي الحديث النبوي :" اللهم أشركنا في دعاء الصالحين ".
و من هذا الباب أطلقت كلمة "إشراك" على عبادة غير الله معه، لأن من فعل ذلك فقد أشرك مع الله غيره في العبادة والتقديس والألوهية، وألفاظ القرآن الكريم الدالة على ذلك كثيرة جدا، ولا تكاد تحصى، ولكثرة استعمال القرآن هذا اللفظ في هذا المعنى كان لكلمة "مشرك" إطلاق خاص فيه، وهو إطلاقه على من يعبد الأوثان، فكلمة : مشرك، ومشركين، و مشركات، كلها إذا ذكرت في القرآن انصرفت إلى عبدة الأوثان من غير أية قرينة دالة على ذلك، لأنها صارت في الإسلام حقيقة عرفية عليهم، ولا تطلق على اليهود والنصارى، وإن قال الله سبحانه عن النصارى :[ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة... ٧٣ ] ( المائدة ) وعن اليهود :[ و قالت اليهود عزير ابن الله... ٣٠ ] ( التوبة ) إذ صار لفظ المشركين اسما لجنس معين، ولذا كان يذكر النصارى واليهود بعنوان أهل الكتاب، وعبدة الأوثان باسم المشركين، فقد قال تعالى :[ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ١ ]( البينة ) فذكر في هذه الآية الكريمة الجميع بأهل الكفر، ولكنه فصل بينهما، فجعلهما جنسين مختلفين، وإن ذلك أدى إلى الاختلاف في المعاملة، والاختلاف في الأحكام، وكانت العلة في هذا الاختلاف مشتقة من التسمية نفسها، فأولئك لهم كتاب، وإن كان محرفا، و المشركون ليس لهم كتاب، فلا ضابط يضبطهم، ولا عاصم يحول بينهم وبين الإيغال المطلق في الشر، ولا حريجة دينية تقيدهم، بل هم حائرون بائرون.
و على هذا التحقيق اللغوي يتبين أن قوله تعالى :[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ]
لا يدخل في عموم النهي إلا الوثنيات، ولا يدخل فيه قط الكتابيات، لأن الحقيقة العرفية القرآنية لا تدخل اليهود والنصارى في عنوان المشركين، ولا في عموم الوثنيين، وإن كانوا مثلثين. و لقد قال بعض المفسرين : إن كلمة المشركات تشمل بمقتضى عمومها الكتابيات، لأنهن يشركن بالله في العبادة، ويثلثن، ولكن جاء بعد ذلك النهي العام إباحة زواج الكتابيات في قوله تعالى :[ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم... ٥ ]( المائدة ). فكان في نظر أولئك تخصيصا لعموم النهي، أو نسخا لبعض هذا العموم، كما يقول بعض الفقهاء.
و لكن ذلك التوجيه غير مستقيم عند الدارسين للقرآن الكريم العارفين لأسلوبه، وتقييد العبارات التي اشتمل عليها، والتبديل الذي يطرأ في أسلوبه على عمومها، فما من نص يخص أهل الكتاب وصفوا فيه بالإشراك، بل ترى كل النصوص الخاصة باليهود والنصارى إما أن يعبر عنهم باليهود والنصارى، كما في قوله تعالى :[ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذي قالوا إنا نصارى... ٨٢ ]( المائدة ) أو يعبر عنهم بأهل الكتاب، كما في قوله تعالى [ و من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك... ٧٥ ]( آل عمران )، وقوله تعالى :[ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ١١٣ ] ( آل عمران ).
و حتى إنهم في مقام الذم يوصفون بالكفر ولا يوصفون بالشرك، كما في قوله تعالى :[ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون٧٨ ]( المائدة ).
و بهذا كله يتبين أن التحريم من أول الأمر كان خاصا بالمشركات، ولم تحرم الكتابيات، بل جاء النص بإباحة الزواج منهن، و على ذلك تضافرت الأخبار عن الصحابة والتابعين بإباحة زواج الكتابية، وتحريم زواج المشركة، وقد قال جمهور المفسرين إنه لا يعرف أن أحدا من الصحابة قد حرم زواج الكتابية، وقد جاءت الروايات بأن عثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت وأن طلحة بن عبيد الله، وحذيفة اليمان تزوجا يهوديتين، ولكن مع ذلك روي عن عمر وعبد الله ابنه رضي الله عنهما أنهما حرما ذلك أو كرهاه، والثاني هو الصحيح، فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان رجلا متوقفا حذرا، وقد خشي على المسلم من زواج الكتابية، أما أبوه النافذ البصيرة القوي الفراسة، الصادق الحس والحدس، فقد رأى أن المسلم الذي يتزوج الكتابية لا ترضى به كرائم العقائل منهن، بل ترضاه من ترضاه لمأرب حسي من مال أو جمال، أو نسب، ولا ترضاه ذات الأسرة الكريمة العريقة منهم، ولذلك ورد أنه استنكر من طلحة وحذيفة ما صنعا، فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال :( لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ! ) رضي الله عن أبي حفص الفاروق ! لقد خشي ألا يتزوجوا إلا المومسات منهن، وإن ذلك الظن الذي ظنه وخشيه نرى كثيرا منه يقع فيمن يتزوج من غير دينه، إذ لا يجد إلا المنحرفة في نفسها وخلقها وعقلها التي ترضى أن تخرج عن أهلها وذويها، وأهل دينها لتتبع مسلما، لماله أو جماله أو جاهه، لا لدينه وخلقه، لأنها لو كانت كذلك لارتضت الإسلام دينا.
و إن المسلمين قد أجمعوا على كراهة تزوج المسلم غير المسلمة، وإن كان جمهورهم على حل الكتابية إتباعا للنص القرآني الكريم :[ و المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم... ٥ ] ( المائدة ) وكانت الكراهة لما سبق من أنه في الغالب لا يرضى بالمسلم منهن إلا المنحرفات، ولأن المودة التي تكون بين الزوجين قد تؤثر في دينه فينخلع من أوامره، وإن لم ينخلع من عقيدته، وتؤثر قطعا في دين الأطفال، فيخرجون إلى الحياة، وقد رضعوا الميل إلى دين أمهم، فغذتهم به كما غذتهم بلبانها، وقد رأينا رجالا متعلمين يعدون في عداد المسلمين في الإحصاء ويدخلون الكنيسة، لأن أمهاتهم عودتهم ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله !و لولا النص الكريم لقلنا إن حالنا، وانحلال الدين في نفوس ال
١ قال الشيخ رحمه الله : يختلف فقهاء الحنفية وفقهاء الشافعية في قضية الحقيقة والمجار في كلمة النكاح، فيقول الحنفية : هو مجاز في العقد حقيقة في الوطء، ويقول الشافعية : هو مجاز في الوطء حقيقة في العقد، ولقد قال بعض الحنفية والزجاج والفارسي : إنه مشترك بينهما، فهو حقيقة فيهما، ولقد صرح الزمخشري أن أكثر وروده في القرآن بمعنى العقد، وقال أبو الحسين بن فارس : إن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج إلا قوله تعالى :[و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح... ٦](النساء)، ويختار الراغب الأصفهاني أنه مجاز في الوطء، لأن العرب ما كانوا يصرحون بهذه العلاقة بل يكنون، فالأولى أن يكون إطلاقه على الوطء مجازا..
٢ رواه البيهقي : باب نكاح أهل الشرك وطلاقهم ج١٠ ص ٤٥٥، عن جعفر بن محمد عن أبيه، ورواه البخاري في الأدب المفرد، والطبراني في الأوسط عن علي رفعه..
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( ٢٢٢ )
يبين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة من شئون الأسرة كيف يختار الزوج، وكيف يصطفى عشير الحياة، وأن الأساس هو الدين والفضيلة في الاختيار، لا جاه الدنيا ولا أحسابها ولا أنسابها، لأن العشرة الحسنة تقوم على الفضيلة ومكارم الأخلاق، لا على الاستعلاء بالنسب، والتفاخر بالحسب.
و في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى العشرة الحسنة، وقد تصدى فيها القرآن الكريم لبيان النزاهة البدنية في العلاقة الطبيعية التي يتقاضاها الطبع السليم بين الرجل والمرأة، والتي بها يعمر الكون، ويبقى الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى في الأرض خليفة.
و قد ذكر سبحانه وتعالى وصايا كريمة في أمرين، وتشير هذه الوصايا إلى بعض مقاصد الزواج العليا، ثم ذكر حكما شرعيا قاطعا في أمر ينفذ فيه بحكم القضاء، لا بحكم التدين المجرد.
أما الأمران اللذان جاءت فيهما الوصايا الكريمة المرشدة الهادية، العفيفة النزهة، فهما يتعلقان بمباشرة الحائض، والنهي عنه، وبالمقصد من الزواج وملاحظته عند المسيس وقضاء الوطر الجنسي، وهو النسل القوي ذو الخلق الكريم، والأمر الثالث الذي ينفذ بحكم القضاء هو الامتناع عن العلاقة الفطرية الطبيعية مضارة وإيذاء لامرأته بأيمان يحلفها للضرر والإيذاء، فقد حكم فيه الشارع حكما مقررا، وهو الفرقة بعد الامتناع أمدا معلوما، ونؤجل الكلام في هذا الأمر في موضعه من تفسير الآيات الكريمة التي تصدت لحكمه، ونكتفي هنا ببيان الوصايا في الأمرين الأولين.
[ و يسألونك عن المحيض ] السؤال كان من المؤمنين، ولم يكن من غيرهم، لأنهم أرادوا أن يعلموا حكم دينهم في أخص شئونهم، ولأنهم أدركوا بقوة وجدانهم الديني أن الإسلام مرشد إلى الأمر الصالح في كل شيء وفي كل الأمور، ما دق منها وما جل، بل ما خص منها وما عم، وليس أي شأن من الشئون الخاصة إلا له صلة بالشئون العامة، لأن الإنسان ليس شيئا قائما بذاته منفردا عن غيره مفصولا عن سواه، بل هو جزء من كل، موصول بما عداه، فالأجزاء تتلاقى فتكون ذلك المجموع وتربطه بروابط من الفضيلة، فما من خصوص للآحاد إلا له صلة وثيقة بعموم الجماعة، ومن فصل الأمور الشخصية عن الأمور العامة لم يفهم علاقة الإنسان بالإنسان ولم يفهم قانون الجماعات وسر الاجتماع.
من أجل هذا المعنى سأل المؤمنون عن هذا الأمر الخاص الذي يتصل بأدق العلاقة بين الرجل والمرأة.
والمحيض مشتق من الحيض، وأصله بمعنى السيل، يقال : حاض السيل بمعنى فاض، ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في حال فراغه من الحمل، والمحيض قال الزمخشري فيه : إنه مصدر ميمي ك : مجيء، ومبيت، وعلى ذلك يكون السؤال عن المحيض أي عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة عند وجوده. وقد يراد منه اسم الزمان، ويكون السؤال عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة في وقته، وقد يراد منه اسم المكان من حيث العلاقة في مكان الحيض وهو جهاز المرأة التناسلي.
و الظاهر أن السؤال عن حكم العلاقة عند وجود الدم وكل التخريجات السابقة تصلح لذلك وكلها تحتاج إلى تأويل محذوف مقدر وهو السؤال عن الحكم، وكل التقديرات تنتهي إلى معنى واحد. وما جرى بين المفسرين من خلاف في هذا هو خلاف لفظي لا جدوى – من حيث المعنى – فيه، ولماذا كان السؤال ؟ ألم يكن من مقتضى الفطرة أن يعلموا الجواب ؟ نعم لقد كان من مقتضى الفطرة أن يعلموا أن الحيض أذى في كل أحواله، وأنه يعتزل موضعه إبان ظهوره، ولكن أهل الديانات السماوية التي كانت تصاقب ١ أماكنهم في بلادهم من اليهود والنصارى قد اختلفوا، ما بين متشددين في شأن الحائض، ومتسامحين في شأنها، فالنصارى ما كانوا يفرقون بين حائض وغير حائض في المعاملة والمباشرة، واليهود كانوا يشددون عليها وعلى أنفسهم في المعاملة فيتجنبونها اجتنابا تاما، ولا يعتزلونها في المباشرة وحدها، بل يعزلونها في كل الأحوال عن أنفسهم عزلا كاملا، حتى ليعتبرون كل ما مسته يكون نجسا، ومن يمسها يكون نجسا، وكأنها تكون من الأنجاس في هذه المدة٢.
و كان من العرب من تأثروا بطريقة اليهود، ومنهم من سلكوا مسلك النصارى، فسألوا عن حكم الإسلام إلى أي الطريقين يتجه، فكان الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكان بين ذلك قواما، فأباح المعاملة ومنع المباشرة.
[ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ] أجاب الله سبحانه وتعالى بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب به [ هو أذى ] أي هذا الدم الذي يلفظه الرحم أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسميا، فرائحته، يتأذى منها من يشمها، وهو قذر في ذاته، وهو فوق ذلك أذى نفسي للرجل والمرأة معا، فالمرأة لا تكون في حال تستسيغ معها المباشرة، بل إنها تكون متقززة منها في هذه الحال نافرة إلا في الأحوال الشاذة والصور النادرة، وجهازها التناسلي يكون في حال اضطراب، فتتألم من كل مباشرة، وأعصابها وأحوالها وعامة شئونها تكون في حال تتأذى معها من كل اتصال جنسي، والرجل يتأذى نفسيا، إذ يكون خليطه في حال نفرة بل بغض لما يقدم عليه، ثم إن المباشرة في هذه الحال لا يتحقق معها القصد الاسمي وهو النسل، فإن المرأة في هذه الحال لا تكون صالحة للإنسال.
و إذا كان موضع الحيض أو الحيض نفسه شيئا يتقزز منه، فإن الوصية الواجبة في حاله هي الاعتزال، ولذا قال سبحانه مرتبا الوصية على تلك الحال التي يتأذى منها [ فاعتزلوا النساء في المحيض ] أي اعتزلوهن في وقت الحيض، والمراد بالاعتزال الامتناع عن المباشرة، وقد روي عن ابن عباس أن المراد بالاعتزال هو اعتزال الفراش، وهو في ذلك أقرب إلى مسالك اليهود، ولكن تلك الرواية شاذة لا يلتفت إليها، ولا تنقض إجماع العلماء على أن المراد بالاعتزال هو الامتناع عن المباشرة، لا ترك الفراش وتجنب النوم معها على فراش واحد، فقد أجمع العلماء وتضافرت الروايات على أن المنهي عنه فقط هو المباشرة نفسها.
و لعل تلك الرواية المروية عن ابن عباس رضي الله عنه تتجه إلى أن اعتزال الفراش بأن ينام في مكان وهي في مكان إنما هو للاحتياط حتى لا يكون اتحاد الفراش مؤديا إلى ذلك الأمر الممنوع.
و لئن أخذنا بهذه الرواية لكان تحريم المباشرة لذاته، وتحريم الاجتماع في المبيت على فراش واحد لغيره، لأنه يؤدي إلى الممنوع ذاته.
و يلاحظ في نسق الكلمات السامية [ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ] أنه قد قدم السبب على المسبب، والعلة على المعلول، فإن سبب الوصية بالاعتزال هو كون المحيض أذى يجب الاعتزال فيه.
و إذا كان سبب الاعتزال وعدم المباشرة هو أذى المحيض فإن الاعتزال مؤقت بوجوده، ويزول بانتهائه، ولذلك بين سبحانه مدى تحريم الاعتزال بقوله تعالى :[ ولا تقربوهن حتى يطهرن ] والقرب المنهي عنه كناية عن المباشرة، وهي من الكنايات القرآنية التي تربي الذوق وتمنع عن الأسماع الألفاظ التي يجافي سماعها الأذواق السليمة، وكم للقرآن من كنايات ومجازات تعلو بمستوى القارئ، ولها وضوح وقصد إلى المعاني من غير خطأ في الفهم، ولا غموض في الموضوع، وأي قارئ يقرأ كلمات [ فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ]، ولا يفهم منها النهي عن الحال التي يتقاضاها الطبع في الأحوال الاعتيادية، وأن النهي موقوت بذلك الوقت المعلوم.
و القراءة المشهورة هي بفتح الراء في [ و لا تقربوهن ] وبضم الهاء [ يطهرن ] من غير تشديد الطاء. و قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية المفضل :[ يطهرن ] بفتح الهاء، وتشديد الطاء.
و يذكر العلماء في مادة"قرب" أن هذا الفعل من باب كرم، ومن باب فرح، فيقال قرب يقرب، ويقال قرب يقرب، والأول لازم والثاني متعد، والمعنى فيهما مختلف، فالأول يكون بمعنى الدنو، والثاني كذلك، ولكنه غلب في العرف أنه مجاز عن اللبس أي الاتصال بالشيء، ومن ذلك قوله تعالى :[ و لا تقربوا مال اليتيم... ١٥٢ ]( الأنعام ) وقوله تعالى :[ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... ٢٨ ] ( التوبة ) أي لا يدخلوه وكذلك قوله تعالى :[ و لا تقربوهن ].
و قوله تعالى في القراءة المشهورة يطهرن يكون معناها انقطاع الدم، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم، فانقطاعه طهور منه، فهو وصف وحال قائمة بالمرأة تثبت عند انقطاع الدم لزوال سبب النجاسة. وأما قراءة يطهرن، فمعناها يغتسلن، لأن التطهير غير الطهور، إذ هو فعل من المرأة نفسها منسوب حدوثه إليها، فهي التي تنشئه لا لأنه حال طهر يعود بعد زوال سبب النجاسة المؤقتة.
هذا تفسير بعض العلماء، وبه أخذ الحنفية. وقال آخرون وعلى رأسهم شيخ المفسرين ابن جرير الطبري : إن القراءتين في معناهما واحد، وهو التطهر، فلا تعد طاهرة إلا بالاغتسال، وهذا ما سلكه جمهور الفقهاء غير الحنيفة.
و قد انبنى على ذلك الخلاف في التفسير خلاف فقهي، فالحنفية قالوا : بمجرد انقطاع الدم إذا كان الانقطاع لأقصى مدة الحيض وهو عشرة أيام تحل المباشرة ولو قبل الاغتسال أخذا بالقراءة المشهورة وهي قراءة [ يطهرن ] لتأكد زوال الدم، وبه الطهارة، وإن كان الانقطاع لأقل من عشرة أيام فلا بد من تأكد زوال الدم بعمل آخر من جانبها وهو الاغتسال الفعلي، وبذلك تنطبق قراءة [ حتى يطهرن ] فالحنفية قد أعملوا القراءتين في نظرهم.
و غيرهم لم يفرق بين القراءتين في المعنى وفسرهما بمعنى الاغتسال فلا تحل قبله مطلقا، فالطهر حقيقة فيه، وغيره مجاز، ولا قرينة تدل على إرادة المعنى المجازي، فلا يعدل عن الحقيقة، وفوق ذلك فإن إباحة المباشرة صرح فيها بأن ذلك متصل بالطهر، لا بالطهور، فقد قال سبحانه :
[ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ] وإذا كان المنع مؤقتا، فإنه بزواله تجيء الإباحة، وتعود الحال إلى ما كانت عليه، وهنا كلمتان ساميتان نشير إلى بعض ما اشتملتا عليه من معان سامية، وهما قوله تعالى :[ فأتوهن ] والثانية قوله [ من حيث أمركم الله ]. و الطلب في قوله تعالى :[ فأتوهن ] ليس المراد به الحتم واللزوم، فليس بلازم الإتيان عقب التطهر، لأن ذلك مبني على الرغبة والطاقة، إنما المراد هو إباحة المباشرة فإنه من المقرر عند علماء الأصول أن الأمر بعد النهي يكون للإباحة، وخصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، مثل قوله تعالى :[ و إذا حللتم فاصطادوا... ٢ ] ( المائدة ) ومثل قوله تعالى :[ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله... ١٠ ]( الجمعة ).
و أما الكلمة الثانية وهي [ من حيث أمركم الله ] فمن هنا المسماة بمن الابتدائية، أي الإتيان يكون مبتدئا من المكان الذي أحله الله سبحانه، وهو الذي كونه الله سبحانه على أنه المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو مكان البذر والإنسال، فالمراد من أمر الله في هذا المقام الأمر الإلزامي الذي جاء الإلزام فيه بحكم الشرع الإلهي، وبحكم الفطرة التكوينية، فقد أمر الله بأن تكون المباشرة في موضع النسل والحرث والبذر، والفطرة التي فطر الله الناس عليها توجب ذلك وتلزم به، إلا من إيفت مشاعرهم وشذ
١ صاقبه مصا قبة، وصقابا : إذا قاربه وواجهه، يقال : جار مصاقب.(الوسيط (صقب))..
٢ قال الشيخ رحمه الله : جاء في الفصل الخامس عشر من سفر اللاويين (أن كل من مس الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل، فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا ). و بهذا يستبين أن اليهود كانوا يشددون في شأن الحائض، حتى تنطوي على نفسها، فلا تمس شيئا حتى لا تنجسه..
[ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ] في هذه الآية يشير الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أمور :
أولها : بيان أن المقصد من الزواج ليس هو قضاء الوطر وإشباع الشهوة، فإن ذلك كما يكون في زواج شرعي يكون في المسافدة الحيوانية، إنما المقصد هو النسل وبقاء هذا الإنسان في الوجود على أكمل وجه، وتهذيب النشء بين أبويه وفي أحضانهما لتنمو غرائزه وتتهذب طبائعه، وتستيقظ ينابيع الخير فيه.
و ثاني هذه الأمور : أن ما يكون بين الزوجين اللذين جمعهما الله بكلمة الشرع وحكمه هو الأنس الروحي مع المتعة الجسدية، وإن ذلك ليقتضي زوال الكلفة، وأن يكون بينهما من المباسطة ما تسهل معه الحياة، ويكون في البيت تخفيف أعبائها، واستجمام القوى، ليستطيع تحمل تكليفاتها.
و ثالث هذه الأمور : أن الدين يجب أن يكون مسيطرا، ويجب أن تكون العدالة قائمة، والمودة حاكمة فيما بين الرجل والمرأة.
و قد أشير إلى الأمر الأول بقوله تعالى :[ نساؤكم حرث لكم ] وأشير إلى الأمر الثاني بقوله تعالى :[ فأتوا حرثكم أنى شئتم ] وأشير إلى الأمر الثالث بقوله تعالى :[ و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ].
و بعد هذا الإجمال نتكلم في معاني هذه الجمل السامية لنستبين هذه الإشارات من تلك العبارات القدسية، فنتكلم في معنى قوله تعالى :[ نساؤكم حرث لكم ] أصل كلمة حرث تطلق على إثارة الأرض لإلقاء البذر فيها، وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المحروثة نفسها، فتسمى الأرض المحروثة المهيأة للزراعة أو المزروعة فعلا حرثا، ومن ذلك قوله تعالى :[ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ٢٢ ]( القلم ) ثم أطلقت كلمة حرث في الآية الكريمة وأريد بها الزوجة على سبيل التشبيه، وقد قال في وجه التشبيه الراغب الأصفهاني ( بالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان، كما أنه بالأرض زرع ما به بقاء أشخاصهم ).
ففي الكلام إذن تشبيه الزوجة بالحرث، ووجه التشبيه الذي ذكره كان بين الزوجة وبين الأرض الخصبة المنتجة من حيث إن كليهما يمد الوجود الإنساني، فالزوجة تمده بعنصر تكوينه وإنشائه، والأرض تمده بالزرع الذي يكون به بقاؤه. وذكر الزمخشري أن التشبيه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة والبذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه، ويكون به البقاء والتوالد. وكيفما كان توجيه التشبيه من الناحية اللفظية، فإن الجملة الكريمة ترمي إلى معنى كريم، وهو أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست هي قضاء الوطر لإشباع الشهوة المجردة، بل هي تنظيم النسل فلا يصح للرجل الكامل الذي اتجهت به الإنسانية نحو الكمال أن ينظر إلى زوجه إلا على أنها مستودع سر الوجود الإنساني، وأنها مرمى ولده، وأن قطعة منه تتصل بها فيختلط وجوده بوجودها، وتخرج من رحمها وديعته، وقد امتزجت فيها عناصرهما وخواصهما وطبائعهما، وصارت صورة في الوجود لأشخاصهما، ومنازعهما، وإذا كانت الخلطة الفطرية قد أوجد الله بها ذلك المخلوق الذي يريان فيه أنفسهما موحدة متلاقية، فإن ذلك يتقاضاهما أو يحملهما على تنشئته على صورة لما يصبوان إليه من كمال، وإذا تقاصرت نفس أحدهما عن الآخر فقد يكون الاضطراب في تكوينه الخلقي، بل يكون نقص في تكميل نموه الجسمي.
و إذا كان ذلك بعض ما يشير إليه التعبير عن الأزواج بأنهن حرث، فإنه بلا شك يحث الرجل على أن يتخير موضع حرثه، كما يتخير موضع زرعه، فإنه لا يطلب لبذره إلا الخصبة القوية من الأرض، فكذلك لا يطلب إلا القوية من النساء في جسمها وخلقها ودينها، وطيب أرومتها، وكرم بيئتها، ليكون الولد قويا، ولينشأ نشأة كاملة تربي فيه قوة الجسم والخلق والدين والعقل، ولذا جاء في المأثور " تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم "١ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إياكم وخضراء الدمن " وهي المرأة الجميلة التي نبتت في منبت سوء٢. فلا تطلب المرأة لجمالها ولمالها، ولا لجاه أسرتها، ولكن تطلب لدينها وخلقها، ولبيئتها الدينية الخلقية الطاهرة.
وقوله تعالى :[ فأتوا حرثكم أنى شئتم ] تشير إلى المباسطة التي تكون بين الزوجين، وإبعاد ما يتكلفه الإنسان في لقاء الإنسان، فإن ذلك يزول عندما يكون الرجل مع زوجه، ويستروح راحة الحياة، ومودة العشرة الزوجية، فإن قوله :[ فأتوا حرثكم أنى شئتم ] معناه قاربوا أو باشروا نساءكم كيفما شئتم. وقد روى الرواة أن اليهود الذين كانوا يجاورون أهل المدينة كانوا عند المباشرة لا يرى الرجل من زوجه شيئا، ولا تكون المباشرة إلا بإبعاد حرف من الثياب، وقد سرت تلك الحال من التكلف إلى الذين كانوا يساكنونهم من أهل يثرب، ولعلهم ظنوا ذلك أدبا وتهذيبا، وحسبوه أمرا في هذه الحال مطلوبا، فسلكوا مسلكهم، وكانت قريش تزيل كل تكلف من هذا عندما يختلي الرجل بزوجه، فلما كان التزاوج بين المهاجرين من قريش، والأنصار من أهل المدينة الذين سرى إليهم ذلك التزمت من اليهود، كانت تحدث نفرة أحيانا بين الزوجين بسبب التزمت من جانب، ورغبة التبسط من جانب آخر، فكان قوله تعالى :[ فأتوا حرثكم أنى شئتم ] مزيلا للتكلف، داعيا إلى المباسطة، ليكون ما بين الرجل والمرأة فيه استرواح للنفوس، واستجمام للقلوب، فكلمة ( أنى ) معناها ( كيف ) أي باشروا نسائكم في موضع الحرث على أي شكل كانت المباشرة.
و يقول علماء اللغة إن ( أنى ) يستفهم بها وتكون بمعنى كيف، وذلك أصل استعمالها، وقد تكون مع استعمالها بمعنى كيف للمكان أيضا، ولذلك يقول الراغب الأصفهاني :( أنى للبحث عن الحال والمكان، ولذا قيل هو بمعنى أين وكيف لتضمن معناهما، قال الله عز وجل :[ أنى لك هذا... ٣٧ ]( آل عمران ) أي من أين وكيف لك هذا ؟ ).
و هي هنا بمعنى كيف الذي هو أصل استعمالها. وذكر الحرث ٣ في قوله سبحانه :[ فأتوا حرثكم ] للإشارة إلى أنه مع إباحة الاستمتاع الجسدي، والاسترواح النفسي، وإحلال المباسطة محل التكلف والتزمت، مع كل هذا لا ينسى المقصود الأصلي، وهو أن الغاية هو النسل والقيام على شئونه وتربيته، فإذا كانت الحياة الزوجية يزول فيها كل ما يحجب الإنسان عن الإنسان من ظواهر وأشكال، فإن لذلك غايتين ساميتين :
إحداهما : النسل وتهذيبه والقيام على شئونه.
و الثانية : الاستجمام والاستعداد بهذا الاستجمام للقيام بأعباء الحياة موفور القوى النفسية التي هي معين الصبر، وأساس الاحتمال.
[ و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ] اشتملت هذه الجمل السامية على ثلاثة أوامر، وبشرى، أما الأوامر الثلاثة فهي [ و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ]، وأما البشرى، فهي [ و بشر المؤمنين ].
و الأمر الأول : وهو قوله تعالى [ و قدموا لأنفسكم ] معناه اعملوا في حاضركم ما يكون لمستقبلكم ذخرا وعتادا، وقدموا من الأعمال الصالحة في الحاضر، ما يكون نفعا لكم في المستقبل، لأن من يعمل عملا صالحا في حاضره، يمكن للمستقبل الحسن لنفسه، وهذا المعنى عام يشمل كل عمل صالح، وكل بر يقدم عليه الإنسان، فهو حصن المستقبل، يقدمه لنفسه من بناء الحاضر على عماد مكين من الخير، وهو في هذه الآية يدل مع هذا العموم على معنى فيها على وجه الخصوص، وهو ما يتناسب مع الزواج وعشرة الأهل، والقيام على شئونهم، فالمعنى على هذا : قدموا لأنفسكم في أمر الزواج وما يثمره، بأن تختاروا عند الزواج ذات الخلق والدين والعفاف والاعتدال، حتى يكون لكم حياة هنيئة في حياتكم الزوجية، فمن اختار الزوج العفيفة ذات الدين فقد قدم لنفسه، ولمستقبله، وإذا أحسنتم الاختيار فاطلبوا النسل وقوموا على شئونه وتعهده بالخلق الجميل وبث الفضيلة في نفسه، فإن من قام على تربية ولده فقد قدم لنفسه، والولد عمل صالح لأبيه، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من بر يؤثر عنه، وولد صالح يذكره ويدعو له، وصدقة جارية مأثورة عنه، ثم إذا أحسنتم اختيار الزوج فأحسنوا عشرتها، وخذوها بالرفق والدين والفضيلة والمعاملة الحسنة والقيام بحقها، فإن من يفعل ذلك يقدم لنفسه، فإن المرأة إذا جمحت نغصت البيت، وكان العيش نكدا، فمن أحسن معاملة أهله فقد قدم لنفسه.
و على هذا يكون لقوله تعالى :[ و قدموا لأنفسكم ] معنى عام يشمل كل خير، ويدخل في عمومه معنى خاص، وهو ما يتعلق بالزواج والعشرة الزوجية والولد.
و الأمر الثاني : قوله تعالى :[ و اتقوا الله ] وله معنى عام هو أن يجعلوا بينهم وبين عصيان الله وقاية، ويخافوا الله سبحانه، ويجتنبوا المعاصي، والأذى، وظلم الحقوق، والاعتداء على الناس، وخصوصا الرقيق، ويدخل في هذا المعنى العام معنى خاص يتصل بموضوع الآيات الكريمة، وهو الزواج وما يثمره، وهو أن يتقي أذى العشير، وظلم المرأة، وهضمها حقوقها، وظلم الأولاد بعدم القيام على شئونهم، وحسن تربيتهم، وإن أذى المرأة ظلم ليس فوقه ظلم، وهو ظلمات يوم القيامة. وفي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ٤. و كان آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقوا الله تعالى في المرأة والرقيق.
و الأمر الثالث : قوله [ و اعلمو أنكم ملاقوه ] والإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يربي النفس على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، وهو الذي يجعل الإنسان يطمئن إلى فعل الخير، إذ يعلم أن فيه رضوان الله، وهو سيلقاه، ويجنب نفسه فعل الشر، لأن فيه غضب الله، وسيلقاه، وسيجزيه الجزاء الأوفى، سيجزيه على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا، إنه بكل شيء عليم. وهذا المعنى عام في كل شئون الحياة، ويدخل في هذا العموم المعنى الخاص بالحياة الزوجية، وهو أن يراقب الله في معاملته لأهله وولده، وإن المرأة إن كانت بين يديه قد فقدت النصير، أو حيل بينها وبين نصرائها، فليعلم أن الله معها، وأنه عليه رقيب، وانه سيلاقيه وسيأخذه أخذ عزيز مقتدر، ومنتقم جبار، وأنه إن استبد به طغيانه فأكل حقوقها، وانحرفت فطرته فضيع أولاده، فإن الله عليه رقيب، وسيلقاه، ويجزيه على سوء ما صنع، وإذا أحسن العشرة، وقام بحق الله وحق الزوج وحق الولد، فأعطى كل ذي حق حقه، فإن الله سيلقاه، وسيجزيه من الخير بما قدمت يداه.
وإن هذه هي بشرى المؤمنين، وهي قوله تعالى :[ و بشر المؤمنين ] فالإيمان يتقاضى المؤمن أن يقوم بحق أهله وبحق ولده، وأن يكون حسن العشرة، وألا يهضم أهله، وإن لم يفعل فليس من الإيمان في شيء، والله ولي المتقين.
١ رواه ابن ماجه : كتب النكاح –الأكفاء (١٩٥٨)..
٢ مسند الشهاب (٩٥٧)، وجاء في كشف الخفا (٨٥٥) :"إياكم وخضراء الدمن ". رواه الدارقطني في الأفراد والرامهرمزي والعسكري في الأمثال، وابن عدى في الكامل..
٣ قال المصنف رحمه الله : أصحاب النفوس المنحرفة والأهواء المردية يتقولون الأقاويل، وقد انحرفوا في تفكيرهم بمقدار انحراف نفوسهم عن الفطرة القومية، فقد زعم بعض الجهلاء الذين إيفت نفوسهم أن معنى قوله :[أنى شئتم ] أي في أي مكان شئتم في القبل أو الدبر، ولم يكتفوا بذلك الفهم الضال بل حاولوا إسناده إلى عبد الله بن عمر، وإلى مالك، وقد كان ذلك كذبا لا شك فيه، فقد نفاه ابن عمر نفيا باتا عندما ترامى إليه، بل إنا لا نتصور أن شخصا مستقيم الفطرة يقوله، وكذب الثقات بالإجماع نسبته إلى مالك، والآية لا تفيده، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :[فأتوهن من حيث أمركم الله ]أي بمقتضى الفطرة والتكوين وذلك في موضع النسل، ولأن الله يقول :[نساؤكم حرث ] ويكون حرثا إذا كان المقصود موضع النسل، ولأن الله يقول :[فأتوا حرثكم أنى شئتم ] أي ائتوا موضع الحرث، ولا يتصور ذلك إلا في موضع النسل، وما كان لنا أن نخوض في هذا لولا هؤلاء الذين انحرفت فطرتهم فضل فهمهم. .
٤ رواه مسلم : الحج (٢١٣٧)، وأبو داود : المناسك (١٦٢٧)، وابن ماجه (٣٠٦٥) عن جابر رضي الله عنه، والدارمي (١٧٧٨)، وهو جزء من حديث طويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. ومعنى قوله عوان عندكم يعني أسرى في أيديكم. كما رواه ابن ماجه : النكاح – حق المرأة على زوجها (١٨٤١) ورواه أحمد في أول مسند البصريين، عن عم أبي حرة الرقاشي '١٩٧٧٤)..

ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٢٤ )
كلام الله سبحانه وتعالى من قوله :[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن... ٢٢١ ]( البقرة ) في الأسرة وبيان أسس التلاؤم بين ركنيها ودعامتها، وهي الدين والأخلاق، لا المال ولا الجاه ولا الجمال، فإن تلك أمور قد تكون عند التفاضل بعد تحقق الأصل وهو التدين والخلق، فلا ينظر إلى هذه الأمور إلا بعد تأكد هذين الأصلين.
و قد بين سبحانه بعد ذلك شيئا من العشرة الزوجية يتصل بالعلاقة الفطرية بين الزوجين، وفي هذه الآيات ذكر الأمر الذي يتصل بظلم الرجل لزوجه فيما يتصل بتلك العلاقة، وذلك بأن يمتنع عما يتقاضاه الطبع مضارة لها، وقد يكون له زوج أخرى يشبع عندها حاجته الفطرية، ويترك هذه كالمعلقة، لا هي زوج تأنس الحياة الزوجية، ولا هي مطلقة تأنس بأهلها ولا تذوق مضاضة الظلم والحرمان مما أحله الله، وقد يوثق ذلك بيمين يحلفها، ويتوهم أن من الخير البر بهذه اليمين، وأن يترك زوجه تأكلها الغيرة، وتكتوي بلوعة الظلم والأذى والمكايدة، وتستوحش بتلك النفرة المستحكمة.
و لقد بين سبحانه وتعالى الأمر، ووثق البيان، فنهى عن الأيمان إن حلف وكان الاستمرار بالحلف على البر باليمين ظلما، وذكر العقوبة الرادعة لمن يعمد إلى مكايدة أهله، والإساءة إليها والإضرار بها إن استمر في غيه ولم يسلك الطريق الذي بينه رب العالمين للخروج من تبعة اليمين، وهو تحلتها، وهي الكفارة.
و في بيان الأمر الأول قال سبحانه وتعالى :
[ و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ] العرضة بضم العين : تطلق على النصبة التي تتعرض للسهام ونحوها، وأطلقت على كل ما يتعرض للأشياء والأمور، ويكون هدفا لها فيقال : فلان عرضة للسفر أي متعرض له. وتطلق العرضة على القوة والهمة، ومن ذلك قول بعض الشعراء في مدح الأنصار :" والأنصار عرضتها اللقاء " وتطلق العرضة على الحاجز الذي يحول ويمنع.
و اليمين تطلق بمعنى الحلف والقسم، وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا وثقوا عهودهم بالقسم يقسمونه، وضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه، وأطلق على القسم كلمة اليمين، وتطلق اليمين على الأمور المحلوف بها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك"١.
و كلمة العرضة في الآية الكريمة يصح أنت تكون بمعنى القوة، والمعنى عليه لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم التي تمتنعون فيها عن أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، أي لا تتخذوا من قسم الله سبيلا للامتناع عن فعل الخير.
و يصح أن تكون العرضة بمعنى المعرض للأمر كقول القائل :( فلا تجعلوني عرضة للوائم ) ويكون المعنى على هذا كما قرر الزمخشري : لا تجعلوا الله سبحانه وتعالى معرضا لأيمانكم فتبتذلوا القسم بالله بكثرة الحلف، وذلك لكي تبروا وتتقوا وتصلحوا، وذلك لأن من يكثر الحلف يكون مهينا بين الناس، كما قال تعالى :[ و لا تطع كل حلاف مهين ١٠ ]( القلم )، و لأن المكثر من الحلف لا يكون ممن يصون يمينه فيبر به، ولذا قال تعالى :[ و احفظوا أيمانكم... ٨٩ ]( المائدة ) ومن لا يصون يمينه لا يبر بها بل يقع في الحنث الكثير وقد يكفر وربما لا يكفر، ومن يعرض اليمين في القليل والكثير، والعظيم والحقير من الأمور لا يكون متقيا لله، ولمهانته لا يصلح بين الناس.
و يصح – وهو الراجح – أن تكون العرضة بمعنى الحاجز المعترض، ويكون المعنى على ذلك : لا تجعلوا الحلف بالله سبحانه وتعالى حاجزا ممانعا بينكم وبين فعل الخير، فلا تحلفوا في أمر يكون الامتناع فيه امتناعا عن خير وتقوى وإصلاح بين الناس، وذلك لأن الرجل كان يحلف على الامتناع عن بر غضبا على من يطلبه، كما روي أنا سيدنا أبا بكر حلف ألا يعطي ذا قرابة له عندما خاض في شأن ابنته عائشة في حديث الإفك عليها، فنزل قوله تعالى :[ و لا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ٢٢ ]( النور ).
و قد روي أيضا أن عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه ( زوج أخته ) النعمان بن بشير شيء، فحلف بالله ألا يدخل عليه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصمه، وإذا قيل له فيه قال : قد حلفت بالله ألا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني، فكانت الآية الكريمة ناهية عن ذلك فمن حلف على شيء فرأى خيرا منه، فلا يصلح أن يجعل الحلف بالله عرضة محاجزة دون فعل الخير، بل عليه أن يفعل الخير ويحنث ويؤدي كفارة اليمين المذكورة في سورة المائدة، في قوله تعالى :[ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم... ٨٩ ]( المائدة ).
و إن تفسير العرضة بمعنى المحاجز المعارض دون فعل الخير، هو الأرجح كما نوهنا، والأيمان حينئذ تفسر بأنها أفعال الخير المحلوف على الامتناع منها، ووجه الترجيح من ناحيتين :
أولهما – إن هذا التفسير هو المناسب لما يجيء بعد ذلك، وهو المقصد من السياق، وهو قوله تعالى :[ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ] فإن مقتضاها أنه لا يصح أن تكون اليمين محاجزة دون فيء الرجل إلى أهله، و منع الأذى والضرر عنها.
و ثانيتهما – أن الأحاديث كثيرة متضافرة تحث الحالف على الحنث في يمينه إذا كان الحلف مؤداه الامتناع عن البر، فقد روي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أوتيت الذي هو خير وتحللتها "٢ وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمان بن سمرة :" يا عبد الرحمان بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك " ٣.
و روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه"٤.
و قال تعالى :[ أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ] هو بيان للخير الذي كانت اليمين تحاجز دونه، وتمنع القيام به، والمعنى : لا تجعلوا الله محاجزا دون أيمانكم لكي تتمكنوا من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس. و النسق البياني الكريم يفيد أن علة النهي في قوله تعالى :[ و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ] هو [ أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ].
فالخير الذي يطلب به، ولا يصح أن تحاجز اليمين دونه ثلاثة أنواع على حسب ما كان يقع من الناس في أيمانهم :
أولها : البر بالرحم، كما حصل في يمين الصديق الكريم أبي بكر رضي الله عنه.
و ثانيها : التقوى بأن يجعل بينه وبين أذى الناس وغضب الله بأذاهم وقاية، كما يتبين في حلف الرجل في أهله مضارة بهن وإيذاء لهن.
و النوع الثالث : الصلح بين الناس كما حدث في يمين عبد الله بن رواحة مع ختنه النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وما من خير يحلف الناس عن الامتناع عنه إلا وهو داخل في هذه الأنواع الثلاث.
[ و الله سميع عليم ] ذيل الله سبحانه وتعالت كلماته الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أنه سميع لأيمانهم عند النطق بها وتوثيقهم القول بها، عليم بالدوافع إليها، والبواعث التي بعثت عليها، والنتائج التي تتأدى إليها، وإنه تقدست ذاته، وتعالت صفاته، يغفر لهم أيمانهم بالحنث ثم الكفارة في نظير الخير العميم والنفع العظيم، ومنع الضرر والضرار بالأهل، والبر بذوي الأرحام، ثم ذلك التذييل الكريم لا يخلو من إنذار بغضب الرحمان الرحيم إن أصروا على ما هم عليه ولم يثوبوا إلى رشدهم ويتخذوا تحلة أيمانهم طريقا للعودة إلى البر.
١ متفق عليه، رواه البخاري : الأيمان والنذور قول الله تعالى :(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم (٦١٣٢ )، ومسلم : الأيمان – ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها (٣١٢٠)..
٢ متفق عليه، رواه البخاري في عشرة مواضع أولها في كتاب فرض الخمس –الخمس لنوائب المسلمين (٢٩٠٠) ومسلم في ثلاثة مواضع أولها : الأيمان – ندب من حلف يمينا فرأى خيرا منها (٣١٠٩)..
٣ سبق تخريجه.
٤ متفق عليه، رواه البخاري: الأيمان والنذور ( ٦١٣٥)، ومسلم (٣١٢٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
[ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ] اللغو من الكلام : ما لا يعتد به، ولا يصدر عن فكر وروية. وأصله من لغا الطير وهو صوت الطيور الذي لا يفهم منه شيء ويظن الإنسان أنه لا يقصد به شيء، وقد يطلق اللغو على الكلام القبيح الذي ينبغي ألا يعتد به، ومن ذلك قوله تعالى :[ لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ٣٥ ]( النبأ ) وقوله تعالى :[ و إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه... ٥٥ ]( القصص ) وقوله تعالى :[ و إذا مروا باللغو مروا كراما ٧٢ ]( الفرقان ).
و إذا كان اللغو من الكلام ما لا يعتد به ولا يورد مورد الروية والتفكير، فلغو اليمين ما لا يعتد به ولم يصدر عن روية وتفكير. وقد روي في الآثار صور لأيمان اللغو، وأخذ بعض الفقهاء صورة منها وحصر اللغو فيها، وأخذ غيره بصورة أخرى، وقصر اللغو عليها.
و أرى أن كل صور أيمان اللغو الواردة عن الصحابة تدخل في معنى يمين اللغو التي كان من فضل الله على عبيده، ورحمته بهم أن رفع عنهم إثمها، ولم يجعلها موضع مآخذة ولا اعتداد، فلا إثم ولا كفارة فيها.
و لنسرد هذه الصور بإسنادها، وكلها يقع مثله في الحياة اليوم، كما وقع مثله بين الناس في الماضي :
( أ ) ومن صور يمين اللغو ما رواه الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن اللغو هو ما يكون بين القوم يتدارءون به في الأمر، فيقول هذا والله وبلى والله، وكلا والله يتدارءون في الأمر، ولا تعقد عليه قلوبهم، أي أن القوم يتحادثون أو يتذاكرون فتجري على ألسنتهم ألفاظ اليمين لا يقصدون بها يمينا، فلا يقصدون توثيق قول، ولا تأكيد خبر، وقصر الشافعية اللغو على هذا.
( ب ) ومن صور اللغو ما روي عن عائشة أيضا أن اللغو هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه، أي أن الشخص يحلف على أمر يعتقد أنه الصدق، ثم يتبين أنه كان مخطئا في اعتقاده، فهذا لا يؤاخذ عليه رب العالمين، ولا كفارة فيه. و بهذا فسر الحنيفة اللغو.
( ج ) ومن صور اللغو المروية عن ابن عباس يمين الغضب الذي يذهب فيه اللب، ويفقد التقدير، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ( لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) وإن ذلك فيه بعض النظر، وهو سليم إن قصد به الغضب الذي يفقد فيه الغاضب وزن الأمور.
( د ) ومن صور اللغو ما روي مرسلا عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قم ينتضلون – يعني يترامون بالسهام – ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فقام رجل من القوم فقال : أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم :" حنث الرجل يا رسول الله ! قال :" كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة "١. وهذه الصورة قريبة من الصورة الأولى أو الثانية.
و إنا نرى كما نوهنا من قبل أن هذه الصور كلها تدخل في معنى اللغو، لأن معنى اللغو يفهم من مقابله، وهو ما ليس بلغو، وغير اللغو هو ما يقصده القلب قصدا صحيحا مبنيا على علم صحيح، وهو موضع المؤاخذة. والله سبحانه عبر عن موضع المؤاخذة بأنه ما اكتسبته القلوب أي قصدته واتجهت إليه بعزيمة وعلم صحيح، وكل الصور السابقة ليس فيها كسب للقلب مبني على إرادة وعلم صحيح، فلا مؤاخذة، فتكون لغوا.
و معنى عدم المؤاخذة أنه لا إثم في الآخرة ولا عقوبة في الحنث، لأنه لا يمين حتى يكون منع، وحتى تجب الكفارة، وقد يقول قائل : إن الحلف بالله ولو لغوا وتكرار ذلك فيه بلا شك ما لا يتفق مع ما للاسم الكريم من إجلال وما يستحق من صون وتحفظ عند النطق، وهو الأمر الذي اتفق عليه العلماء، فكيف لا تكون مؤاخذة في لغو الأيمان ؟
ونقول في الإجابة عن ذلك : إنه بلا شك يجب أن يصان اللسان عن النطق بأيمان اللغو ما أمكن، وإن ثمة إثما إذا كررها وأكثر منها في الجليل والحقير، والصغير والكبير، حتى صار اللفظ يجري على لسانه من غير احتياط، لأن ذلك قد يؤدي إلى الحلف غير لاغ، بل مع اكتساب القلب، ولكن ذلك الاسم الذي جاء من الإكثار والتكرار والاستمرار، ليس هو الإثم المنفي في الحلف الواحد، فالإثم الثابت هو ما كان في الكل والاستمرار، والإثم المنفي ما كان في الجزء والانفراد. على أن نفي المؤاخذة إنما هو ليقدم على الفعل من غير تحرج، وذلك متحقق في كل أيمان اللغو، سواء أكانت ممن يكثر أم كانت ممن يقل، وإن كان ثمة لوم فهو موجه إلى الشخص في جملة أحواله وصفاته، لا في ذات اليمين منفردة.
[ و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ] هذا موضع المؤاخذة، وهو ما كسبته القلوب، أي قصدته وأرادته. ولم يجيء عفو الخاطر، أو لم يبن على علم ناقص. وما قصدته القلوب نوعان :
أحدهما – أن يقصد إلى فعل أمر أو الامتناع عن أمر مستحصدا عزيمته على ذلك، موثقا تلك العزيمة بيمين الله سبحانه وتعالى.
و ثانيهما – أن يحلف على شيء كاذب مؤكدا قوله لسامعه ليعتقد السامع صدقه، والحالف جازم بأنه كاذب، وتسمى هذه اليمين يمين الغموس، ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور، والكاذبون في التقاضي.
و المؤاخذة في النوع الأول بوجوب الكفارة إن حنث في يمينه، وفي النوع الثاني بالإثم المستمر، حتى يتوب توبة نصوحا، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على يمينه ضياع حق أو حكم بباطل. ولقد قرر الشافعي رضي الله عنه أنه تجب مع ذلك كفارة يمين، ولم ير الحنفية فيها كفارة، إنما الكفارة فيما يقبل الحنث، وتلك لا تقبل الحنث.
و عبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى :[ بما كسبت قلوبكم ] وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد، وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه، قد اكتسبه منها، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو.
و الأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها، فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وموضعها، والإصرار عليها لا ينتج إلا خيرا، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير، وإصرارا عليه وإيمانا به، فتشرق بنور الله، وتستنير بذكر الله. وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم، فإن القلب يكسب منها شرا، إذ ينكث فيه الإثم نكتة سوداء، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته، وتستغرقه سيئاته، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام.
و إن كانت اليمين غير فاجرة، ولكن الإصرار على موضوعها فيه منع للخير، يكون الكسب شرا إن أصر عليها، ويغفر الله إن اتخذ السبيل الذي يكون به تحلة الأيمان، وهو الكفارة السهلة الميسرة لكل إنسان.
هذا بعض ما يشير إليه التعبير الكريم السامي [ بما كسبت قلوبكم ].
[ و الله غفور حليم ] ذيل الله سبحانه هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو، و لبيان أنه سبحانه يأخذ عباده بالرفق، ويسهل لهم سبيل العودة إلى الجادة المستقيمة إن حادوا عنها، وتنكبوا سبيل المؤمنين، ويرشدهم إلى ما يخرجون به مما يلقون بأنفسهم فيه من أقوال وأفعال، فهو يبين طريق التحلل من الأيمان إن حلفوا ليتركوا خيرا، أو ليرتكبوا شرا، وهو بحلمه وتدبيره وحكمته يبين لهم الحق والسبيل إليه، وإن سبقت الأيمان محاجزة دون الخير طلب إليهم ألا يستمسكوا بها ويفعلوا الخير.
و أن رحمة الله سبحانه وتعالى في الأيمان وغفرانه وحلمه قد بدا في الإعفاء من يمين اللغو، وعدم اعتبارها، وفي المؤاخذة على ما تكسبه القلوب مع تسهيل العودة إلى فعل الخير، وفي بيان التحلل من اليمين إن حالت بين صاحبها والبر والتقوى والإصلاح بين الناس.
١ من مراسيل الحسن، ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح باب (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)...
[ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ] هذه إحدى الأيمان التي لو استمسك بها الحالف كانت محاجزة ممانعة دون البر والتقوى، فهي من جهة تطبيق عملي للحكم الذي قرره العلي القدير في قوله تعالى [ و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ]، ومن جهة ثانية هي بيان لحكم حال تعرض في أثناء العشرة الزوجية، وذلك جزء من موضوع الأسرة الذي ابتدأه سبحانه بقوله :[ و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير... ٢٢٠ ]( البقرة ) أو بقوله تعالى :[ و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن... ٢٢١ ] ( البقرة ) على حسب الاختلاف في معنى الأسرة من حيث العموم والخصوص.
و الإيلاء مصدر آلى يؤلى بمعنى حلف، وخصه الأصفهاني بالحلف على التقصير في الأمر فقال :( حقيقة الإيلاء والألية الحلف المقتضي لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه ).
و قد خص في الشرع بالحلف على الامتناع عن القرب من امرأته ومسيسها، وكان ذلك التخصيص مشتقا من هذه الآية :[ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ]. و التربص الانتظار، والترقب، ومعنى الجملة الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل للذين يحلفون ويجعلون موضع حلفهم الابتعاد عن نسائهم وتجنبهن متجنين عليهن ظالمين، تربص أربعة أشهر ينتظروها، والله يرقبهم فيها، وحكم الله يترقبهم، فإطلاق التربص من غير أن يضاف إلى الحالفين، ولا أن يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كان بمعنى الانتظار، و هو من العبيد توسعة لهم، ومن الله سبحانه وتعالى وشرعه، ترقب لهم حتى يقطع السبيل على ظلمهم إن طال الأمد وقست قلوبهم.
و تلك المدة التي وسع لهم فيها ليعودوا إلى رشدهم، ويقلعوا عن غيهم، وإلا حقت عليهم كلمة الله سبحانه وتعالى، هي أربعة أشهر، وبعدها يوضع حد لذلك الظلم والمضارة في العشرة الزوجية.
إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني، والإنسال، ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا، فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها، واشتط واتخذ المضارة والكيد، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله، إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر، والأمور تضطرب، وتحل البغضاء محل المحبة، والمضرة محل المودة، فوجب أن تنتهي هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا.
و إن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع، والهجر غير الجميل في المبيت، فإنه أذى شديد، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر، بل لأنه يدل على البغض الشديد، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها، وأعطته قلبها، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر.
و لقد جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر، وبعدها يكون الفصم، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء.
و لماذا كانت المدة أربعة أشهر ؟ لقد ذكر بعض العلماء أن تلك المدة أقصى ما تصبر عليه المرأة في المضارة بذلك الهجر غير الجميل. ولقد سأل عمر نساء عن مقدار ما تصبر المرأة عن زوجها، فقالت بعضهن شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة، وينفد صبرها في أربعة أشهر. ولقد كان عمر رضي الله عنه بعد هذا يسترد الغزاة ويستبدل بهم غيرهم بعد أربعة أشهر.
ثم إن التقدير بأربعة أشهر هو الذي يتفق مع جملة الأحكام الشرعية، ذلك لأن الرجل أبيح له أن يتزوج أربعا من النساء، وإذا كان في كل شهر يقرب نساءه مرة، ويبادل بينهن، فإن قسمها يكون مرة كل أربعة أشهر، فكان من تناسق الأحكام الشرعية أن جعلت المدة التي تصبر فيها المرأة مع هذا الهجر أو تتصبر أربعة أشهر، وذلك فوق أن الفطرة تقول : إن ذلك أقصى غاية الصبر على البعد المتعمد.
[ فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ] وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر، والله يرقبه، و الشرع يترقبه، إنما هي لكي يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره، وقرب من امرأته ومسها، وحنث في يمينه، كفر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلة الأيمان، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه، ولذا قال سبحانه :[ فإن الله غفور رحيم ] أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهلهم، وأقاموا المودة، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه وحشة، ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم، لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبد في قسمه، ما دام الخير يريد والشر يجتنب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره، والأليف وأليفه، ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها.
[ و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ] هذا هو الفرض القاسي الغليظ بعد الفرض الرحيم الرفيق، وهذه هي العقوبة التي وضعها الشارع الحكيم، أي أنهم إن أصروا طول الأشهر الأربعة ولم يرعووا عن غيهم، فإن الطلاق واقع لا محالة بحكم الشارع. وكان ذلك الاستمرار هو عزيمة الطلاق القاطعة، وإرادته من الزوج حين صمم عليها، لأن الشارع جعله عقوبة لفعله، فمن لم يأت امرأته أربعة أشهر كاملة بيمين حلفها، فإن طلاقها يقع، وهو عقوبة ثابتة مقررة يعتبر الزوج قد اعتزمها وأصر عليها.
فهذه الآية الكريمة تفيد وقوع الطلاق عقوبة للزوج إن أصر على يمينه ولم يحنث فيه، ولم يتحلل منها ويحسن عشرة أهله، وهو في ذلك إنهاء لحال ظالمة للمرأة لا تقوم فيها حقوق الزوجية، ولا هي حرة يختارها من يريد الزواج، وهو منع للمرأة أن تتردى في مهاوي الرذيلة بسبب هذه المضارة، بل يفتح لها الباب لتختار زوجا عادلا بدل هذا الظالم.
و قد يقول قائل : إن إيقاع الطلاق بحكم الشارع هو عقوبة، فكيف تنسب عزيمة الطلاق إلى الزوج الذي حلف فعوقب بإيقاع الطلاق بغير إرادته، ورغم أنفه، مع أن من يعزم أمرا ويقطعه لابد أن يكون مختارا حرا، وأن يكون الفاعل للأمر ينسب إليه على وجه الجزم واليقين ؟ والجواب عن ذلك السؤال من وجهين :
أحدهما – أن طائفة من العلماء قرروا أن الطلاق لا يقع فور انتهاء الأربعة الأشهر، بل يمهل الحالف إما أن يفيء إلى أهله بأن يقربها ويحسن العشرة، وإما أن يقع الطلاق عليه، فإن لم يفئ واستمر مستمسكا بقوله، فقد اختار الطلاق واعتزمه حقا وصدقا، وأراده عن بينة وعلم، ولا ينفي تلك العزيمة أن يوقعه القاضي، أو يوقعه هو، لأنه باشر سببه واختار الطلاق وأصر عليه، وذلك هو قول طائفة من الصحابة والتابعين، وقول مالك والشافعي وأحمد والليث وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وداود الظاهري.
و أما قول أبى حنيفة رضي الله عنه فهو أن الطلاق يقع بانتهاء الأربعة الأشهر، والفيء إنما وقته في الأربعة الأشهر، فلا زيادة فوقها بنص الشارع، وحينئذ يقال كيف اعتزم الطلاق وهو لم يوقعه ؟ وحينئذ يكون الجواب هو :
الوجه الثاني – أن هذه العقوبة حتمية بأمر الشارع أعلنها دفعا للظلم، أو منعا لاستمراره، أو حملا على العشرة الحسنة، ويجب أن يضعها الزوج الحالف نصب عينيه طول مدة الإيلاء، وأن يعرف أنها نتيجة لازمة لاستمراره عليه، فإن أصر عليها من بعد، فقد ارتضى الطلاق وعزمه، وكيف لا يقال أنه اعتزم الطلاق من استمر أربعة أشهر مصرا على الامتناع الظالم وهو يعرف أن نتيجته الطلاق الحتمي ؟ وكيف يعطى فرصة أخرى من ترك فرصة أربعة أشهر ؟
و الطلاق في هذه الحال هو عقوبة عادلة، لأنه من جنس الجريمة، وهي نتيجة طبيعية لمن يظلم زوجه في العشرة الزوجية، وهو باب الفضيلة، إذ يمنع الزوج من أن تتقحم في الرذيلة.
و الطلاق الذي يقع يكون رجعيا عند الأئمة الثلاثة، ودليلهم أن كل طلاق رجعي إلا ما ورد النص بأنه بائن، وليس منه ذلك الطلاق، وعلى هذا يكون له الرجعة في العدة، وقد روي عن مالك رضي الله عنه أنه اشترط للرجعة أن يفيء إلى أهله، فلا تتم بمجرد القول، بل لابد من الدخول، وقال أبو حنيفة : الطلاق بائن لأنه دفع للضرر، ولا يتحقق إلا بالبينونة، وإلا كان تمكينا للزوج من معاودة الظلم.
وقد أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق، فقد جعل جزاء الشرط كونه سميعا عليما، إذ قال :[ و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ] أي أن الله سبحانه وتعالى سميع إلى ما كان من الزوج الحالف، قد سمع يمينه التي لم يرد بها خيرا، وكلامه الذي لم يرد به إلا ضرا، عليم بما وقع منه من مضارة وإيذاء، وأنه لم يحسن العشرة الزوجية، ولم يحسن الفراق، فإنه لم يسرحها بمعروف، بل تركها هملا حتى أنقذها الله من ظلمه بحكمه العادل الحاسم الرحيم. وإن الله سبحانه إذا كان عليما بما وقع، سميعا لما قيل فإنه لابد يوم القيامة مجاز الإحسان إحسانا والسوء سوءا. والطلاق ليس العقوبة الكاملة، إنما العقوبة الكاملة يوم الجزاء الأوفى، وعندئذ تجزى كل نفس بما كسبت، وإلى الله مرجع الأمور.
[ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحق لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ( ٢٢٨ ) ].
أشارت الآيات السابقة إلى أمثل السبل لاختيار الزوج، وهو أن يكون أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق، لا المال والنسب، [ و لأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم... ٢٢١ ]( البقرة ).
ثم أشارت الآيات أيضا إلى حسن العشرة الواجبة، ولطف المودة الواصلة، وبينت أن العلاقة بين الزوجين طهر لا دنس فيه، ونظافة لا رجس معها يستوي في ذلك الحس والمعنى، والمخبر والمظهر.
و أوجبت أن تكون العلاقة قائمة على العدل من غير ضرار ولا ظلم، وبينت الحكم في الظلم الواقع إن استمر عليه مرتكبه، ووثق إصراره بيمين يحلفها، وذكرت أن القطع في هذه الحال أولى من الوصل، والإنهاء أولى من البقاء، لأن بقاء الحياة الزوجية في هذه الحال استمرار للظلم، وبقاء للإثم، ولا منفعة ترجى، ولا جدوى تلتمس، ولذلك قرر سبحانه وتعالى حكمه الصارم وهو الطلاق القاطع لهذا الظلم المستمر.
و لقد بينت بعد ذلك هذه الآية الكريمة التي تلوناها، والتي سنتكلم في معناها حكم الطلاق، وفصلت أحواله ومراته الآيات من بعدها.
و قبل أن نخوض في معنى هذه الآية الكريمة، والإشارة إلى دقائق ألفاظها ومعانيها، نقرر أن شريعة القرآن شرعت الزواج عقدا أبديا في أصل شرعته، لأنه شرع لمعان وأغراض لا تتحقق إلا مع البقاء والدوام، فقد شرع لإقامة الأسرة، وتنظيم الحياة بين الرجل والمرأة، وإنجاب النسل، والقيام على تربيته وتهذيبه والسير به في مدارج الحياة، وتلك أغراض لا تكون على الوجه الأكمل إلا إذا استمرت الحياة الزوجية موصولة موثقة بروابط من المودة والأخلاق والشرع إلى أن يقضي الله قضاءه. ذلك حكم الشرع، وهو سنة الوجود، وهو أكثر أحوال الزواج بين بني الإنسان، لا يختلف في ذلك شرقي عن غربي ولا مسلم عن مسيحي.
و الإسلام هو دين المبادئ السامية، يبين المثل العليا ويدعو الناس إليها، يشير إلى المثل السامي في الزواج في مثل قوله تعالى :[ و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ٢١ ]( الروم ) وبقوله سبحانه وتعالى في العلاقة الزوجية [ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن... ١٨٧ ]( البقرة ).
و لكن الإسلام مع دعوته إلى تلك المثل العليا في العلاقة الزوجية يعترف بالحقائق الواقعة ويعالجها، ويطب لها، ليأخذ النفوس إلى السير في طريق الكمال، فإن عجزت أو انبتت في الطريق عالج ذلك العجز.
و كذلك عالج الأمر في شأن الزواج فشرعه أبديا، ولكن الشرط في استمراره أن يكون الوداد هو الرابطة الواصلة، وأن تلك الرابطة قد تتقطع أشبابها وتنفر القلوب بعد مودتها، وتنفصم عروتها، فهل يبقى المثل السامي في الزواج وهو الاستمرار ولا يلتفت إلى النفرة المستحكمة والعداوة المسيطرة، ونيران البغضاء الملتهبة ؟ لذلك اتجه الإسلام إلى علاج تلك الأدواء القائمة والطب لها، فلم يكتف بالمثل العليا يعلنها ويدعو إليها، بل اعترف بالواقع وعالجه، وطب للأسقام، فكان دين الحقائق الثابتة، والسمو النفسي.
و النزاع بين الزوجين أمر يقع، مهما يكن الزوجان، ومهما تكن درجة كمالهما، وقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يختلفن معه في الشأن الذي يربط بينهما، بمطالبته بما ليس عنده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لقومه وأمته في أخلاقه ومعاملته لأهله، في الغضب والرضا، وفي الوفاق وفي الخلاف، ولكن أنى يكون للناس أخلاق النبيين، والوحي ينزل عليهم من السماء، ونفوسهم علت إلى الملكوت الأعلى. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " ١.
و لقد دعا الإسلام إلى إصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة بينهما تسير في غير طريق المودة، ولذا قال تعالى :[ و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ١٢٨ ] ( النساء ).
و دعا الزوجين من له بهما صلة أن يتدخلوا عند الشقاق بينهما أو عند خوفه، بأن يحكموا حكمين عند خوف الشقاق وتوقع النزاع، ولذا قال تعالى :[ و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ٣٥ ]( النساء ).
و إذا تعذر الإصلاح ولم يمكن التوفيق وصار الأمر نيرانا، ولم يكن سلاما كان لابد من التفريق، ولذا قال سبحانه :[ و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ١٣٠ ]( النساء ).
لابد إذن من التفريق بينهما، لأن عقد الزواج أصبح غير صالح للبقاء، ولكن من ذا الذي يملك التفريق ؟ لاشك أنهما إن اتفقا عليه وقع الطلاق، ولا ضير في ذلك ما دام لم يكن في نوبة غضب جامحة، ولم يكن لأمر عارض، فيجب الاحتياط لذلك ما أمكن الاحتياط.
هذا إذا لم يتفقا فهل يقع الطلاق بإرادة منفردة من غير حكم قضائي ؟ لقد قال بعض الذين يظنون أن في ذلك صلاحا أنهما إن لم يتفقا على الطلاق لا يقع إلا بأمر القضاء، وإن ذلك القول له وجهته لو كانت كل أمور الأسرة يجري فيها التقاضي، ويسوغ فيها الإعلان، وأن تتكشف أسرارها بين الناس، ولكن الأمور بين الزوجين لا تجري فيها البينات، وهي مستورة بستر الله لا يسوغ إعلانها، وليس من مصلحة المجتمع إظهار العيوب الخاصة فيها.
و هب السبب المسوغ للطلاق هو النفرة الشديدة فكيف يمكن إثباتها ؟ إنها لا تعرف إلا من صاحبها، لذلك لم يكن الطلاق في الإسلام في عامة أحواله بيد القضاء، بل جرى الأمر فيه على أن يكون بيد الزوج إن كان هو الراغب، وبيد القضاء إن كانت هي الراغبة فيه.
و هنا يرد سؤالان : لماذا كان بيد الزوج مطلقا وبيد الأخرى مقيدا ؟ والثاني : ألا يخشى أن تكون النفرة مستحكمة، ويطلق الزوج لنوبة غضب جامحة، وتحت تأثير هوج ليست فيه إرادة مستقيمة ؟
و الجواب عن السؤال الأول : أن الزوج تكلف في سبيل الزواج مالا كثيرا، وسيعقب الطلاق تكليفات مالية أخرى، فوق ما يحمله الزوج الجديد من أعباء جديدة، فكل هذا يدفعه إلى التأني والتروي فلا يندفع وراء هوى جامح إلا إذا إيفت مشاعره، وفسدت مداركه، أما المرأة فعكس ذلك، فلو كان الطلاق بيدها من غير تدخل قضاء لاندفعت وراء هواها جامحة، ولكان في ذلك ظلم شديد على الرجل بضياع ماله، وتكليفه بأعباء مالية جديدة فكان لابد أن يتدخل القضاء ليعرف أكان الزوج ظالما فيذوق وبال أمره بضياع ماله، وهدم الحياة الزوجية التي أقامها على الظلم، أو ليعرف أن الزوجة ظالمة بالنشوز فيقضي بالطلاق، ويكلفها المغارم المالية التي غرمها الزوج في سبيل الزواج كما هو مذهب مالك ؟ وليس السبيل لمعرفة الحق في الأمر هو الإثبات في البينات فقط، إنما هو الإثبات بتحكيم الحكمين من أهلها وأهله.
وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو الخاص بألا تقع الحياة الزوجية تحت تأثير الغضب الجامح، فقد احتاط الشارع الإسلامي لأمر ذلك الغضب في الطلاق بأحكام شرعها قبل الطلاق وبعده :
( أ‌ ) فهو أولا : فرض أمر الحكمين والإصلاح ما أمكن الإصلاح إذا كان شقاق بين الزوجين كما أشرنا من قبل.
( ب‌ ) و أوجب ثانيا : أن يكون الطلاق في وقت لا تكون المرأة فيه على حال تسوغ النفرة، إلا إذا كانت مستحكمة، فمنع الطلاق في حال الحيض، ومنع الطلاق في الطهر الذي دخل بها فيه، و ظواهر السنة أن يكون الطلاق في هذه الأحوال باطلا.
( ت‌ ) و احتاط الشارع الإسلامي ثالثا بالنسبة للزوج المدخول بها وهي التي قامت معها الحياة الزوجية فعلا، فلم يسوغ أن يكون الطلاق في هذه الحال باتا، فلم يسوغه إلا واحدة، ولم يسوغه إلا رجعيا في أثناء العدة.
( ث‌ ) و احتاط الشارع رابعا : فجعل للزوج الحق في مراجعة زوجته من غير عقد جديد ولا مهر جديد مدة طويلة تقارب نحو ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة الطويلة، مع الإصرار والباب مفتوح وتدخل أهل الخير بينهما محتمل، فإن ذلك يكون دليلا على استحكام النفرة، وإن القلوب قد تشعب ودها، ولم يعد من الصالح بقاء الحياة الزوجية في ظلها.
( ج‌ ) و احتاط الشارع الإسلامي خامسا فسوغ لهما أن يستأنفا حياة زوجية جديدة، إن عادت القلوب النافرة، واستقامت على الحق، وندم كل واحد على ما فرط منه في جنب صاحبه.
فإن تكرر الطلاق من بعد، تكررت الاحتياطات السابقة، فإن كانت الثالثة فهي التحريم المؤقت، حتى تكون التجربة القاسية بزواجها من رجل آخر زواجا صحيحا للدوام والبقاء وقيام العشرة الزوجية الجديدة ثم انتهائها بأي سبب من أسباب الإنهاء الشرعية الصحيحة، فإنها بعد ذلك تحل لزوجها الأول، وقد صقلته التجربة وصقله البعد، والله عليم بذات الصدور.
و لقد سقنا هذا القول في مقدمة تفسير هذه الآيات الكريمة المشتملة على أحكام الطلاق لأن ذلك خلاصتها، وهو مرماها، ولنضع الأحجار في أفواه الذين يعيبون أحكام الطلاق في القرآن، وهي أحكام قد اشتقت من الفطرة وطبيعة الحياة الزوجية، والاحتياط لها ما أمكن الاحتياط ولم يكن شيء منها معروفا من قبل، ولم يصل العقل البشري لأدق منها وأحكم من بعد، إنها شريعة اللطيف الخبير.
[ و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاث قروء ] التربص معناه : التأني والانتظار، وقد قال بعض العلماء إنه مقلوب التصبر، فهو تكلف الأناة، وتكلف الانتظار مع صعوبة الاحتمال، كما هو الشأن في أمر الصبر والتصبر، وسواء أصح ذلك القول أم لم يصح، فالتصبر والتربص متلاقيان في المعنى، ومتشابهان في اللفظ.
و التعبير "يتربصن" يدل على الأمر، وهو الطلب اللازم المؤكد، وإن كانت الصيغة في ظاهرها صيغة خبرية، وقد قرر الخبراء بالبيان العربي أن أوكد الصيغ دلالة على اللزوم الموثق : الصيغ الخبرية التي تساق للطلب، مثل [ و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة... ٢٣٣ ]( البقرة )، ومثل هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها، ولكن مع ذلك لماذا كان النسق البياني السامي في أن يجيء الأمر في هذا المقام بتلك الصيغة الخبرية، فيكون معنى يتربصن : ليتربصن ؟.
و الجواب عن ذلك من عدة وجوه :
أولها : الإشارة إلى أن ذلك التربص يجب أن يكون من ذات نفس المطلقة، لأنه هو الذي يليق بكرامتها، ويتفق مع فطرتها، فإن كانت الرغبة تدفعها إلى الزواج العاجل السريع إن كان الزوج الجديد كفئا، فإن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث، فلا يليق بالحرة الكريمة أن تنتقل بين الأزواج انتقالا سريعا، لا فاصل فيه بين الزوجين.
و ثانيها : أن نداء الفطرة يوجب عليها الانتظار لتستبرئ رحمها، حتى إذا كان حمل نسب لأبيه ولا يتنازعه الأزواج، فهن إذا انتظرن وامتنعن عن الزواج هذه المدة فكأن ذلك من أنفسهن لا من أمر فوقهن، وكأن ذلك إلزام الفطرة قبل أن يكون إلزام الشرع.
و ثالثها : الإشارة إلى أن الأمر بالتربص أجيب وحصل التربص فعلا، فالتعبير بصيغة الخبر إشارة إلى الأمر والتنفيذ معا.
و إن من أبلغ الإشارات السامية الإتيان بكلم
١ رواه ابن ماجه : النكاح – حسن معاشرة النساء (١٩٦٧) عن ابن عباس رضي الله عنهما..
[ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ( ٢٢٩ ) ].
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة شرعية الطلاق، ومداه إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها طلقة رجعية، وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الحد الذي ينتهي فيه ما للرجل من حق المراجعة، فيبين سبحانه وتعالى أن الرجل ليس حرا يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع لغير حد محدود، ولقد قيل إن الرجل في الجاهلية كان يطلق ويراجع لغير عدد ولا حد فتضطرب حياة المرأة، وقد يتخذ ذلك للكيد والأذى، لا للعشرة الحسنة، والرغبة في البقاء، ولقد روي أن رجلا قال لامرأته : والله لا آويك ولا أفارقك ! قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل [ الطلاق مرتان ].
و سواء صح هذا سببا لنزول الآية أم أن الآية مقترنة بالآية قبلها متممة لموضوعها مقيدة لإطلاقها، فقد ذكرت الأولى أن المطلق أحق بامرأته ما دامت العدة قائمة، ثم بينت هذه وهي الثانية أن ذلك ليس على إطلاقه إنما هو مقيد بالطلقتين الأولى والثانية، أما الثالثة فقد ذكر من بعد حكمها، وهو أنها لا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره.
[ الطلاق مرتان ] كلمة الطلاق في هذه الجملة السامية، ذكر الزمخشري أن المراد بها التطليق، كالسلام بمعنى التسليم، أي أن التطليق الشرعي الذي يقره الشرع ويسوغه هو الطلاق الذي يكون على التفريق، واحدة بعد واحدة، ومرة بعد مرة، وليس التطليق الذي يكون بالإرسال مرة واحدة، وعلى هذا التخريج الذي ساقه الزمخشري يكون مساق الآية لتقرير أن الطلاق الشرعي لا يكون دفعة واحدة، بل يكون مرة بعد مرة، وتكون التثنية في هذه الحال لبيان التكرار لا للعدد، كقوله تعالى :[ ثم ارجع البصر كرتين... ٤ ]( الملك ) وكقول :( لبيك اللهم لبيك ) ويكون قوله تعالى من بعد :[ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ] لبيان الغرض من التكرار وهو أن يكون بعد كل طلاق فرصة مراجعة نفسه ليمسك زوجه ويبقيها معاملا لها بالمعروف لدى أهل العقول المستقيمة الذي لا ينكره عقل ولا شرع، أو يصر على طلاقها، وإخراجها.
و إن ذلك التخريج يستقيم في ذاته، ولكن قرن بالآية الكريمة بعد ذلك قوله تعالى :[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره... ٢٣٠ ] ( البقرة ) فدل هذا على أن المراد حقيقة التثنية، لأن بعد الثانية الثالثة.
و لذلك نختار التخريج الثاني، وهو أن الطلاق في قوله تعالى :[ الطلاق مرتان ] ال فيه للعهد الذكري، أي الطلاق المشار إليه في قوله تعالى :[ و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء... ٢٢٨ ]( البقرة ) فالطلاق المذكور هو الذي يكون فيه للزوج حق مراجعة زوجته فيه، فالسياق يكون لبيان الطلاق الذي تبقى معه عصمته الزوجية، ولذلك قال بعد ذلك :[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره... ٢٣٠ ]( البقرة ) فهو ذكر حكم المرتين، ثم ذكر من بعد ذلك حكم الثالثة، وتكون التثنية على هذا التخريج المستقيم من كل الوجوه على حقيقتها لا لمجرد التكرار.
و مهما يكن السياق، فإن قوله تعالى :[ الطلاق مرتان ]، يستفاد منه أن الطلاق لا يقع العدد به مرسلا دفعة بل هو دفعات ومرات، وكل واحدة منها يتخللها رجعة أو عقد جديد، وذلك ليتحقق المقصد الحكيم الذي قصد إليه الشارع من عدد الطلاق، وإعطاء فرصة المراجعة بعد كل طلاق نحو ثلاثة أشهر، ثم تكرار تلك الفرصة، حتى إذا كانت الثالثة فصم ذلك العقد الذي أصبح بقاؤه شرا، [ و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته... ١٣٠ ]( النساء )، وأصبح من الضروري أن يكون ثمة تجربة قاسية، عساها تصلح من قلب الناشز منهما.
و ذلك ما فهمه السلف الصالح، فما كان الطلاق يقع دفعة واحدة، بل كان يقع دفعات، لكيلا لا يقطع الرجل السبيل على نفسه، ولكيلا يتعدى حدود الله، وكما قال الله تعالى في هذا المقام :[ و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ١ ]( الطلاق )، فلعل الله في مدة العدة أو بعدها إذا طلق واحدة، أو اثنتين على دفعتين، أن يحدث أمرا بإحلال المودة محل العداوة، والرحمة محل البغضاء، فتستأنف حياة زوجية هنيئة سعيدة.
و إذا أوقع الرجل الطلاق دفعة واحدة، ولم يوقعه على ثلاث مرات، أو أوقعه في مجلس واحد متتابعا، أو أوقعه في مجالس متفرقة، فما حكمه، وما مؤداه ؟
لاشك أن صريح الآية أن الطلاق لا يقع مرة واحدة، فلا يقع الطلاق الثالث بلفظ الثلاث ثلاثا، ولكن يقع طلقة واحدة لأنه مرة واحدة، وليس ثلاث مرات، ولكي يكون ثلاثا يجب أن يكون ثلاث مرات.
وذلك لأن اقتران الطلاق بكلمة ثلاث لا يجعله ثلاث مرات، بل إنه مرة واحدة، ولو وصفه بالمائة، كمن يقول أحلف بالله ثلاثا، فهو يمين واحدة، وكمن يقول قرأت هذه السورة ثلاث مرات، وقد قرأها مرة واحدة، فهو كاذب.
إن كلمة المرة توجب أن يكون الطلاق في حال واحدة، ولسبب واحد، وفي مجلس واحد، ولغاية واحدة، مرة واحدة ولا يخرجه عن كونه مرة واحدة، تعدد الألفاظ في المجلس، أو لأجل السبب، أو لهذه الغاية، ولهذا قرر كثيرون من العلماء منهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وطائفة من شيوخ قرطبة، منهم ابن زنباغ، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام، وإصبغ بن الحباب، أنه يقع واحدة، وكل أولئك قد اختاروا رأي ابن عباس.
و قد روي عن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود والزبير بن العوام وعبد الرحمان بن عوف، وقاله من بعدهم بعض التابعين، ثم تتابع بعض العلماء يقولونه.
و قد روى طاووس عن ابن عباس أنه قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه :( إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ) فأمضاه.
هذا تفسير قوله تعالى :[ الطلاق مرتان ]، وهذا ما فهمه منه بعض العلماء تابعين لبعض الصحابة والتابعين، ولكن الأئمة الأربعة يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة يكون ثلاثا أو اثنين على حسب ما اقترن به، وقد قال العلماء إنه قد اتفق عليه أئمة الفتوى، وكأن غيره من الأقوال من شواذ الفتيا الذي لا يلتفت إليه وقد استندوا إلى الأخذ بفتوى عمر، وادعوا أن الإجماع قد انعقد عليه، ومن المؤكد أن طائفة كبيرة من الصحابة كانت على ذلك الرأي، وما كان لمثلهم أن يقولوا ما يخالف ظاهر القرآن من غير سند من حديث صح عندهم، والآية الكريمة تبين ما ينبغي، ولا تبين بطلان سواه، وأنه لا يقع إلا ذلك النوع من الطلاق ١.
[ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ] الإمساك بالمعروف هو العشرة الحسنة، والمعاملة الرفيقة بأهله، فالمعروف هو الخلق الفاضل الذي تعرفه العقول السليمة، وتدركه الفطر المستقيمة، وتعالج به النفوس، وتطمئن به القلوب. والتسريح إرسال الشيء وتفريقه، ولذلك يقال سرح الشعر، أي فصله وفرقه ليخلص بعضه من بعضه، ويقال سرح الماشية، أرسلها وفرقها في المرعى.
و لاشك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال، معنى الرفق في التفريق، فلا يفرق بعنف، و جرح للنفوس، وخدش للمروءة، ولمكارم الأخلاق، بل يفرق في رفق وعطف، من غير حرمان، بل بإعطاء من غير منع، كما قال تعالى في هذا المقام :[ و لا تنسوا الفضل بينكم... ٢٣٧ ] ( البقرة ) فالإحسان في هذا المقام، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي، فهو من أحسن إليه، بمعنى أسدى إليه خيرا، أو أدى معروفا، أو أعطى إعطاء.
و وقت الإمساك أو التسريح في هذا المقام، مقام ذكر الطلاق ومراته، هو ما بعد الطلقة الأولى أو الثانية، أي أنه بعد إحدى هاتين الطلقتين، إما إمساك بمعروف، بمعنى رجعة على نية البقاء والإصلاح، واطراح أسباب النزاع والخلاف، والأخذ بالرفق والحسنى، والعيشة الهنيئة الكريمة، وإما تسريح بإحسان، بمعنى تركها حتى تنتهي عدتها، ويغني الله كل واحد عن الآخر من سعته.
فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير، وهي الأجل المفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها، بأن يفكر في ماضي أمره، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق، فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه، والتقويم من معوجه، والأخذ بالرفق، وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجاف ولا مشاق ولا مضار، كما قال تعالى :[ و سرحوهن سراحا جميلا ٤٩ ] ( الأحزاب ).
و على هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما.
و لقد قال بعض العلماء : إن المراد من التسريح بالإحسان هو الطلقة الثالثة، أي بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق الطلقة الثالثة.
و عندي أن ذلك التخريج بعيد لوجهين :
أولهما : أن التسريح يكفي فيه بعد الطلقتين أن يسكت من غير مراجعة حتى تنتهي عدتها، ولأن التردد بين الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان لا يكون إلا في وقت يجوز فيه الأمران، والأنسب في ذلك ما بعد الطلاق، وهو المراجعة أو تركها، وليس المناسب في ذلك هو إرداف الطلاق بالطلاق، إن ذلك لا يكون فيه تسريح بإحسان، بل فيه تضييق على نفسه وظلم لها، إذ قطع السبيل، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. وفوق ذلك فيه مفاجأة ومبالغة فيها بإيقاع طلاق ثان من غير حاجة إليه.
ثانيهما : قوله تعالى بعد ذلك :[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره.... ٢٣٠ ]( البقرة ) فإن هذه الطلقة الثالثة، ولو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لكانت هذه رابعة، ولم يقل ذلك أحد.
[ و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن يقيما حدود الله ]إذا كان الفراق بين الزوجين يجب أن يكون مصحوبا بالإحسان والرفق، وألا ينسوا الفضل بينهم، فلا يصح أن يأخذ شيئا مما آتاها من مال، لأن ذلك يكون مجافاة لا إحسانا، ولأن ذلك يكون ظلما لا عدل فيه، ولقد قال سبحانه وتعالى :[ و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ٢٠ ]( النساء ).
و قال تعالى :[ و لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة... ١٩ ] ( النساء ).
و إن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها، أو لها الفراق الذي لا تريده، وثانيهما استرداد ما وهب. وقد يقول قائل : إذا طابت نفسها بذلك فلماذا لا يأخذ ؟ فنقول إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها، والبغض منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده، فإن ذلك مكارم أخلاق منها، وفساد نفس منه، ومثل ذلك لا يكون حلالا، وليس من ذلك قوله تعالى :[ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ٤ ] ( النساء ) لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية، كما أنه ليس من قوله تعالى :[ و أن تعفوا أقرب للتقوى... ٢٣٧ ]( البقرة ) لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف ا
١ قال المصنف رحمه الله: الأقوال بالنسبة للطلاق بلفظ الثلاث ثلاثة:
أولها: قول الأئمة الأربعة أنه يقع الثلاثة، وقد اعتمد ذلك الرأي على قول عمر ومن معه من الصحابة.
و ثانيها : قول بعض الشيعة إن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث لا يقع به شيء، لأنه بدعة، فهو جاء على خلاف المنهاج الذي سنه القرآن، وسنه النبي صلى الله عليه وسلم للطلاق، والطلاق إنما ثبت في الحدود الشرعية التي حدها الشارع، وما جاء على خلاف ما حده فهو باطل مهما يكن العدد.
القول الثالث : إن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث لا يقع إلا طلقة واحدة، وهذا رأي بعض الشيعة، ورأي ابن تيمية وابن القيم وبعض الظاهرية وغيرهم، لأن الطلاق الموصوف بالثلاثة لا يكون إلا مرة واحدة بنص الآية، وما دام مرة واحدة فهو يقع واحدة. وقد اختار القانون المصري ذلك الرأي في قانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ (راجع في هذا الموضوع كتاب "الأحوال الشخصية " وكتاب "ابن تيمية " للمؤلف )..

[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون( ٢٣٠ ) ].
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى طريقة إيقاع الطلاق، وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة، حتى لا يضيق الرجل على نفسه، ولا يغلق بابا قد فتحه الله سبحانه وتعالى له، ولعل الله سبحانه وتعالى يحدث من بعد ذلك أمرا [ و من يتق الله يجعل له مخرجا ٢ ]( الطلاق ). و بين سبحانه الطلاق الذي يكون للرجل فيه أن يستأنف حياة زوجية، ثم بين سبحانه وتعالى الحكم إذا كان الطلاق بافتداء المرأة نفسها من الرجل على براءة من صداقها أو بمال تدفعه، أو بإسقاط حقوق مالية نشأت عن الزواج، أو نشأت حال قيام الحياة الزوجية.
و في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه الطلاق الذي لا يمكن بعده استئناف الحياة بل تحرم عليه مؤقتا، وهو الطلاق المكمل للثلاث، فقال تعالى :
[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ] أي أنه إن طلقها بعد الطلقتين اللتين سوغ الله سبحانه وتعالى له الرجعة بعد كل منهما في أثناء العدة، أو عقد زواج بعد انتهائها، إن طلقها بعد هاتين الطلقتين فلا تحل له من بعد طلاقه حتى تنكح زوجا غيره، فمعنى "تنكح" : تتزوج بعقد شرعي صحيح.
ففي هذه الجملة السامية بيان لانتهاء الحل بالطلاق الثالث، وإثبات الحرمة ووقوعه، كما أن فيها بيان انتهاء ذلك التحريم، فهي قد حدت المبدأ والغاية، فمبدأ التحريم من الطلقة الثالثة، وينتهي التحريم بعد تزوج شخص آخر، والدخول بها، ثم تطليقها من بعد ذلك.
و النكاح المراد في الآية هو الزواج. وظاهر الآية أن الزواج ثم الطلاق من بعده يحلها للزوج الأول من غير حاجة إلى الدخول، وبذلك أخذ سعيد بن المسيب، ولكن جمهور الفقهاء والتابعين من قبلهم والصحابة أجمعين قد قرروا أنه لا بد من الدخول الحقيقي لكي تحل له، وذلك لنص الحديث المخصص لظاهر الآية، فقد ورد في البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، ومسند الشافعي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجني عبد الرحمان بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال :" أتردين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك " ١ وواضح أن معنى ذوق العسيلة أن يفضى إليها ويدخل بها.
و قد تعددت روايات الحديث بهذا المعنى، فكان حديثا مستفيضا مشهورا، وهو يخصص عموم القرآن الكريم، بل هو في الحق تفسير لظاهره، وليس بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لكتاب الله تفسير، وعلى هذا انعقد الإجماع قبل سعيد بن المسيب، وانعقد الإجماع بعده، فقوله من شواذ الفتيا التي لا يلتفت إليها.
[ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ] أي فإن طلق الزوج الثاني، فلا جناح على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعا، أي لا إثم عليهما في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة، فالضمير في "عليهما " يعود إلى المرأة والزوج الأول، لأن العلاقة بينهما في مساق الآية الأول، فقد بينت الآية التحريم بالطلقة الثالثة، وأنه ينتهي الزواج من الثاني والتطليق منه، ثم صرحت هذه الجملة السامية بابتداء الحل بعد انتهائه، وهو أن يبتدئ بالطلاق من الثاني وزوال بقايا النكاح الثاني وآثاره بانتهاء العدة، فهذه الجملة الكريمة توضيح لابتداء الحل، كما كانت الأولى فيها بيان لابتداء التحريم وإشارة إلى انتهائه.
و على هذا سار أكثر المفسرين، وكلامهم واضح بين، ولكن اختار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه أن يكون الضمير في "عليهما " في قوله تعالى :[ فلا جناح عليهما أن يتراجع ] يعود على الزواج الثاني والمرأة لا على الزواج الأول فهي كقوله تعالى :[ و بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا... ٢٢٨ ]( البقرة ). فهي تدل على معنى جديد، لم يتضمنه معنى الجملة التي سبقتها، وهو بيان أن الزواج الثاني يكون ككل أنواع الزواج، وله كل أحكامها وحدودها، فلا يكون زواجا مؤقتا، ولا لغرض مؤقت، إنما يعقد للبقاء والدوام ويقصد فيه معنى الزواج كاملا غير منقوص، وقد يتوهم بعض الناس أن الزوج الأول أحق بها، فدفع ذلك بأن المراجعة في العدة حق ثابت للمطلق الثاني، وهو أولى بمقتضى الحكم العام الذي جاء به النص الذي نوهنا عنه، وهو قوله تعالى :[ و بعولتهن أحق بردهن... ٢٢٨ ]( البقرة ).
و قد يعترض معترض على ذلك الرأي فيقول : إنه لا يوجد على ذلك التخريج ما يفيد حلها للأول، فنقول في رد ذلك الاعتراض : إن الحل بالزواج ثم الطلاق بعد التحريم وانتهاء العدة فهم من انتهاء التحريم بقوله تعالى :[ حتى تنكح زوجا غيره ] فالتحريم مؤقت بتوقيت زمني غير معلوم ينتهي بالزواج الثاني، وزوال سائر أسباب التحريم الأخرى.
و مهما يكن من الأمر، فإن السياق يسير على مقتضى رأي الجمهور، لأن السياق كله متعلق بشأن المرأة مع زوجها الأول، والكلام في الزوج الثاني جاء ليتمم الكلام في الزواج الأول وإنهائه، ومدى ذلك الإنهاء، ويزكي ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن عودة الزواج بقوله :[ أن يتراجعا ] وهذا يفيد أن ذلك بعقد جديد، ولو كان المراد الرجعة ما عبر بصيغة المشاركة، لأنه ينفرد بها الزوج إن كان الثاني.
و حلها للزوج الأول منوط بأمر ديني مقرر ثابت، وهو أن يكونا قد انتفعا من ذلك الدرس القاسي، وهو الفرقة المحرمة بينهما، وتجربتها عشرة غيره، وتجربته لرؤيتها عشيرة لسواه، ولذلك قال سبحانه وتعالى في بيان إنهاء التحريم :[ إن ظنا أن يقيما حدود الله ] فنفي الإثم في العودة إلى الزوج الأول مربوط دينيا وقلبيا بقصدهما إلى العشرة الحسنة وإرادتهما لها، وظنهما القدرة عليها، وزوال النفرة التي كانت توجب الشقاق والنزاع، وتؤدي إلى الطلاق وتكراره المرة بعد الأخرى.
و قد فهم بعض العلماء أن المراد بالظن هنا هو العلم واليقين، فالمراد إن تيقنا أنهما سيقيمان حدود الله، فليس للرجل والمرأة، وقد فرق بينهما تفريقا بمحرم بالطلاق الثلاث المتكرر، أن يستأنفا حياة زوجية بعد زوال التحريم إلا إذا علما على وجه الحزم واليقين أنهما سيقيمان في هذا الزواج الجديد حدود الله بإعطاء كل واحد منهما ما للآخر من حقه، ويقوم بما عليه من واجب، لتكون المودة بينهما في ظل من الرحمان الرحيم.
هذا نظر بعض العلماء في تفسيرهم الظن باليقين، ولكن الزمخشري لم يرتض ذلك النظر، ولم ير أنه يتفق مع الذوق البياني لمن يذوق كتاب الله، ذلك بأن إقامة حدود الله أمر يتعلق بالمستقبل، والمستقبل مغيب مستور غير معلوم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أن يجزم في أمر يتعلق بالمستقبل بأنه سيكون على ما ينبغي ويريد، ولو كان يتعلق بقلبه وبنيته، فالله سبحانه مقلب القلوب، وهو وحده علام الغيوب، بل إن أقصى ما يستطيعه الزوجان في مثل هذا المقام أن يعتزما العشرة الحسنة، ويطرحا أسباب الخلاف التي كانت منها الفرقة الجافية، والتي هي أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى، وهما مع ذلك يظنان أن في قدرتهما تنفيذ ما أرادا، واجتناب ما كان منهما قبل تلك التجربة الشديدة.
و إنه لواضح كل الوضوح من أن الرجل إذا طلق امرأته مرة بعد مرة، حتى أتم الثلاث، يكون هو وهي في حاجة إلى علاج، إذ إن العشرة بينهما صارت غير صالحة للبقاء، وأنهما إن يتفرقا نهائيا يغن الله كلا من سعته، فهو وهي يسيران في خطين متقاطعين، لا يلتقيان إلا يصطدمان، فيطلقها، ثم يراجعها أو يعقد عليها، حتى إذا التقيا تنابذا للمرة الثانية وتدابرا، فيطلقها ثم يراجعها أو يعقد عليها، حتى إذا استأنفا حياتهما الزوجية تكررت منهما المأساة، إن ذلك هو الكفر في الإسلام، وإن ذلك هو الظلم الذي يجب اجتثاثه من أصله، وذلك بمنعهما من استئناف الحياة الزوجية، فقد أثبتت التجربة المريرة أن الزوجية بينهما غير صالحة للبقاء، إما لعيب فيه أو لعيب فيها أو لعيب فيهما، وذلك هو غالب الأحوال، لأن أحدهما لو كان خالصا من العيوب التي تتعلق بالحياة الزوجية لصبر على الثاني، ولأصلح بصبره حاله، ولسارت السفينة في جو هادئ لا يؤدي إلى الفصم والقطع.
و بعد تلك الفرقة المحرمة قد يحدث أن تتزوج زوجا آخر، وتعاشره معاشرة الأزواج على قصد أن تدوم العشرة بينهما، ولكن بعد مدة طالت أو قصرت ينتهي هذا الزواج وتزول آثاره، إما بموت الزوج وانتهاء عدة الوفاة، أو بتطليقه وانتهاء عدة الطلاق، فيبدو لزوجها الأول أن يستأنف حياة زوجية وتبادله هذه الرغبة، عندئذ ينهي رب العالمين التحريم الذي أوجده الطلاق المكمل للثلاث، لأنه عسى أن يكون الزمان والتجربة، وعشرة غيره قد صقلت نفوسهما وأصلحت قلوبهما، ولطفت من حدة النفور منهما.
و ترى من هذا أن الزواج الذي ينهي التحريم هو الزواج غير المؤقت الذي لا يقصد به مجرد التحليل الأول، بل الزواج الدائم المستمر، أو الذي يكون على نية الدوام والاستمرار، لأن الشارع الكريم جعل نهاية التحريم هو هذا الزواج والدخول فيه ثم الطلاق، لتكون تلك التجربة الشديدة المريرة، ولتصقل النفوس الرعناء المتمردة، فإذا لم يكن العقد زواجا قصد به البقاء والدوام، ما كانت تلك التجربة، وما كان ذلك الغرض المقصود من الشارع الحكيم.
و لكن الناس ضيقوا على أمرهم ما وسع الله، ثم أخذوا يفكون ما قيدوا أنفسهم به، فطلقوا لأدنى ملابسة، وطلقوا الطلقات الثلاث إما في مجلس واحد أو بلفظ واحد، أو في دفعات متقاربة، وقطعوا على أنفسهم الطريق ولم يفهموا قول الله تعالى :[ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ١ ] ( الطلاق ) ثم بعد أن سدوا طريق الحلال، وأخذوا يتحايلون لفتحه بمفاتيح من الحرام، فأوجدوا ما سمي في عرف الناس والفقهاء "زواج المحلل" أي الزواج الذي لا يقصد به عاقده العشرة الزوجية الدائمة، إنما يقصد به مجرد إحلالها للأول، فهو في الواقع يتحايل على الأحكام الشرعية ليهدمها، لقد جعل الشارع نهاية التحريم أن تنكح زوجا آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به دوام العشرة، ثم تجيء الفرقة عارضة لتكون تلك التجربة التي تهذب النفوس، وتضبط الإرادة، وتمنع الأهواء من الاندفاع، ولكن يجيء الناس فيهدمون مقصد الشارع ويمنعون التهذيب الذي أراده، فيكون ذلك العقد الذي ما قصد به الدوام ولا تتحقق به تجربة، وإن كانت تسقط به المروءة، وتنحرف النفس عن الجادة، ويتحايلون على أوامر الله بذلك ليسقطوها، ويخدعوا الله [ و ما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ٩ ]( البقرة ).
و لقد ابتدأ ظهور ذلك النوع من الخداع الديني في صدر الإسلام، ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في النهي، وتضافرت بذلك الأخبار عنه وعن الصحابة، وسماه استهزاء بكتاب الله، ونقتبس من تلك الآثار النبوية قبسة تضيء للناس في عصرنا، حتى لا يضلوا، فيضيقوا على أنفسهم واسعا، ثم يجتهدوا في فتح باب الإثم إذ ضيقوا الحلال، ومن ذلك :
( أ ) - أنه روي عن ابن عباس أنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال صلى الله عليه وسلم :" لا، إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ولا مستهزئ بكتاب ا
١ متفق عليه، رواه البخاري: الشهادات – شهادة المختبئ (٢٤٤٥)، ومسلم: النكاح، لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح (٢٥٨٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ( ٢٣١ )
بين الله سبحانه وتعالى نظام الطلاق في الإسلام، فذكر عدده، وأن الرجل أولى بزوجه، له ردها من غير عقد ما دامت في العدة، إذا كان ذلك بعد الطلقة الأولى والثانية، ثم بين متى يسوغ أن تفتدي المرأة نفسها بمال تقدمه، وبين التحريم الذي يعقب الطلقة الثالثة، ومتى ينتهي ذلك التحريم، وفي الجملة بين نظام الطلاق الذي يجعله في دائرة المعقول، و عند الحاجة إليه، وبين معه طريق تفادي نتائجه من الفصم، متى كانت ثمة ندحة، أو متى كان هناك أمل في استئناف حياة زوجية سعيدة، يعالج فيها كل واحد من الزوجين نفسه، ويجعلها ملائمة لنفس صاحبه، ويصلح من حاله وحال من معه، متى كان ذلك في دائرة الإمكان.
بعد بيان ذلك النظام المحكم الوثيق الأركان، أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يجب على الرجال إذا كانت الفرقة، وقد انشعبت القلوب، ولم يكن سبيل للالتئام، أو كان ثمة سبيل موصل إليه، أي أن الآيات السابقة في بيان نظام الطلاق، وهاتين الآيتين في بيان ما ينبغي إتباعه في معالجة نتائجه، ليكون العدل والحق، ولا يكون الجور والباطل، أو الشطط والتهور. وقد قال سبحانه عز من قائل :[ و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ].
الأجل هنا : العدة، ويصح أن يطلق على آخرها، فإن كلمة أجل تطلق على المدة كلها، كما تطلق على الزمن الذي تنتهي إليه، فيقال : أجل الدين هو شهران، ويقال : أجل الدين هو نهاية شهر كذا، وكلا التفسيرين يصح أن يكون مرادا هنا، والأقرب أن يراد به انتهاء المدة.
و بلوغ الأجل المراد به هنا قرب انتهاء العدة، ومشارفة ذلك الانتهاء، وذلك لأن الإمساك بالمعروف، وهو المراجعة، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا فسرنا بلوغ الأجل بقرب انتهائه، إذ لا معنى للإمساك بمعروف بعد انتهاء الأجل، فإن المراجعة لا تكون بعد انقضاء العدة.
و لقد قال الراغب الأصفهاني في معنى البلوغ ما نصه :
( البلوغ والبلاغ : الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكانا كان أو زمانا، أو أمرا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه، وإن لم ينته إليه، فمن الانتهاء [ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة... ١٥ ]( الأحقاف ) وقوله عز وجل :[ و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ] وأما قوله عز وجل :[ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف... ٢ ] ( الطلاق ) فللمشارفة، فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها له ).
و إن استعمال البلوغ بمعنى مشارفة الانتهاء مثاله في المكان أن تقول : بلغت المدينة. إذا وصلت إليها، وصرت على مقربة منها بحيث صرت تشرف عليها، وتبدو لك مطالعها.
و معنى الجملة السامية : إذا شارفت العدة الانتهاء، وقاربت العلاقة على الانقطاع التام وجب على الرجل أن يتدبر في أمره، فينظر في ماضيه معها وحاضره، وما يرجوه في المستقبل ويترقبه، فإن رجح لديه أن البقاء أولى من القطع، وأن ما كان سببا لكلمة الطلاق لا يصلح أن يكون سببا لقطع العلاقة قطعا باتا، وأن يتفرقا، وأنه إن أعاد الحياة أقام العدل معها، ولم يكن فيها ما يدفعه إلى الظلم، ولا في طباعه ما يدفع إلى الأذى، إن كان ذلك كذلك فليمسكها بمعروف، أي فليرجعها إليه معتزما إمساكها والبقاء معها بالمعروف، أي بالتزام الأمر المعقول الذي تعرفه العقول وتقره، ويرضاه الناس، ويزكيه الحق سبحانه وتعالى.
و إن رجح لديه بعد أن ينظر في غابر أمره وحاضره أنه لا يرجو في المستقبل خيرا، وتأكد لديه ذلك، أو كان قريبا منه، أو غلب الظن بذلك، فليسرحها ١ بمعروف أي فليمض الطلاق، ويخل بينه وبينها بمعروف، أي بالأخلاق الحسنة من غير مشاحة ولا معاندة ولا إيذاء، فإن ذلك هو الذي يعرفه العقلاء، ويؤمن به الأتقياء، ولقد كان الصالحون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم لا يذكرون نساءهم اللائي يطلقونهم بسوء قط. سئل بعض التابعين : لم طلقت زوجك ؟ فقال : إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله.
و إن التسريح بالمعروف يتقاضى أن يؤدي لها كل حقوقها من مال كان عليه، وألا يذكرها إلا بخير، وأن يعاونها إن كانت في حاجة إلى معونته، حتى لقد قرر الفقهاء أنه تستحب المتعة لكل مطلقة، وقد ادعى بعض الفقهاء وجوبها، عملا بقوله تعالى :[ و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين٢٤١ ]( البقرة ).
و في الجملة إن التسريح بالمعروف يتقاضى الامتناع عن كل أذى، ومد يد المعونة إن تعينت إليه، وهذا هو التسريح الجميل المذكور في قوله تعالى :[ و سرحوهن سراحا جميلا٤٩ ] )الأحزاب ).
[ و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ] وإذا كان الإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان هو المطلوب، فإن الإمساك الذي يترتب عليه الضرر لا يسوغ. وقد يسأل سائل : إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان، وإن ذلك يفهم منه ضمنا النهي عن الإمساك ضرارا وإيذاء، إذ إن الله سبحانه وتعالى قد خير المؤمن بين أمرين لا ثالث لهما، فكان ذلك نهيا عن الثالث والرابع، وهو الإمساك ضرارا، و التسريح مع الإيذاء.
و الجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد خص الإمساك ضرارا بالنهي بعد أن فهم النهي عنه وعن غيره ضمنا، ليبين للمؤمن أنه لا يحل له أن يراجع إلا إذا كان قد اعتزم العدل وأراده، ولم يجد معوقا له عن إقامته، بل وجد أنه يستطيع أن يتعاون مع أهله عليه، وأن التنفير من الطلاق والنهي عن القطيعة لا يسوغان له أن يرضى بإعادة العشرة مع توقع الضرار والأذى، واستمرار الحياة المعتكرة بالشر والحدة والأذى، فإنه إذا كانت القطيعة والفراق أمرين غير مرغوب فيهما، ويتنافيان مع المودة التي يدعو إليها الإسلام، فإن الضرار بين الزوجين أمر منهي عنه، وإن المودة هي المطلوبة، فإن تعذر قيامها، أو غلب على الظن عدم قيامها، فلا يسوغ استئناف الحياة الزوجية مع النفرة المستحكمة، والأذى والنشوز، فإن ذلك هو الكفر في الإسلام، لأنه كفر في العشرة، وعداوة في موطن المودة، ومكايدة في موضع المسالمة.
و قد فهم بعض العلماء أن المراد من الضرار هو الإضرار، فإن ذلك هو الذي يصلح سببا من جانب الذي يملك الرجعة وحده وهو الزوج، أما الزوجة فإنها لا تملك الرجعة فلا يتصور ضرر من جانبها يكون مقصودا عند الرجعة، والضرار يوجب عملا مشتركا من الجانبين، والاشتراك غير متصور، فالضرار يكون بمعنى الضرر، وإن ذلك الفهم صحيح في جملته، ولكن لم عبر عن الضرر بالضرار، وعدل عن اللفظ الأصلي الموضوع له إلى لفظ آخر ؟
و الجواب عن ذلك هو أن الرجل عند الإمساك الذي يؤدي إلى الضرار – وهو مبادلة الضرر التي تنشأ عن المعاندة والمكايدة – له حالان :
إحداهما : أن يقصد إلى الضرر والأذى بالرجعة، بأن يمسكها مكايدة وعناتا ومبالغة في الظلم لتكون كالمعلقة، وذلك كما كان يقع من بعض الناس في عصر التنزيل، إذ يرجعون أزواجهم قبل انتهاء العدة، ثم يطلقونهن لتطول العدة، وليبالغوا في الأذى، وذلك أمر منهي عنه، لا حاجة إلى النص عليه، ومعنى الضرار فيه خفي، لأن الضرر فيه واقع على جانب واحد، ومن جانب واحد، أو هو على الأقل واضح في أحد الجانبين، وليس واضحا في الآخر.
ثانيهما : هو أن يكون المطلق قاصدا الرجعة الحق، ولكنه لم يلتزم العدل، ولم يتوقعه، ولم ير أن أسباب الطلاق قد زالت، بل أراد العودة مع قيام أسباب النفرة، فإن ذلك يكون كقاصد الضرار، وإن لم يعلمه وإن لم يشعر، لأنه سيكون بينهما لا محالة وسيقع، ويكون حينئذ الضرار على أصل معناه، ويكون مقصودا من فاعل الرجعة، أو في حكم المقصود.
و قد بين سبحانه وتعالى أنه سيترتب على الرجعة مع قيام الأسباب التي أوجبت الطلاق والتي اعتبرت ضرارا أمران :
أحدهما : أن يعتدي في الحياة الزوجية فيظلم، بل إن إقدامه مع توقع الكيد والأذى اعتداء، ولذا قال سبحانه وتعالى :[ لتعتدوا ] فاللام هنا هي التي تسمى لام العاقبة، فهي تبين أن ثمرة الرجعة التي لا يتوقع فيها العدل هو الاعتداء، بل إن ذات الرجعة في هذه الحال من الاعتداء والظلم.
الأمر الثاني : الذي يترتب على الرجعة ضرارا، هو أنه يظلم نفسه، فكما أنه يترتب على ذلك الضرار اعتداء على غيره يكون فعله ظلما لنفسه، ولذا قال سبحانه :[ و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ] أي أن من يرجع مطلقته إضرارا أو ضرارا فقد ظلم نفسه ظلما مؤكدا، وإذا كان قد أراد ظلمها فمن المؤكد أنه قد ناله حظ عظيم من الظلم قبل أن ينالها، وذلك لأنه عصى ربه فاستحق عذابه ولأنه جعل البيت الذي هو مثابة الراحة والقرار مكان نكد واضطراب يستبدل فيه بالمودة البغضاء، ولأنه لا يعيد إلى حظيرة الزوجية زوجا ودودا، بل عدوا شديدا، وأشد الأعداء من كان منك قريبا، وقد يكون كالثعبان بين جنبيك، وأي ظلم للنفس فوق هذا الظلم.
[ و لا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ] بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن أن تتخذ الرجعة ضرارا، أو يقدم الرجل عليها وهو يعلم أو يظن أنه لن يكون إمساك بمعروف، أعقب ذلك بنهي آخر هو توكيد للنهي الأول، فقال :[ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ] وذلك لأن الله سبحانه وتعالى رسم في آياته حدودا ونظما تتقرر بها الحياة الزوجية، فشرع الرجعة لتدارك ما فاته وقت الغضب، ولرجاء أن يستقيم الأمر، وتقام الحياة الزوجية بالمعروف، بعد أن تهددتها القطيعة، وقاربت على الانفصال، فمن اتخذ الرجعة للضرار، أو وهو غير مستيقن صلاح الحال أو يرجو ذلك، فهو كمن يستهزئ بأحكام الله، وآياته سبحانه، لأنه ينفذ الأوامر في غير موضعها، ويكذب على نفسه وعلى دينه وعلى ربه، فهو يعمل عمل من يريد الصلاح ولا يؤيده، وعمل من يقيم الحياة الزوجية الصحيحة ولا يقيمها، ثم هو في أعماله يشبه اللاعب الهازئ، بل إنه لاعب هازئ في موضع الجد، يطلق لأتفه الأسباب، ويرجعها من غير أن ينوي الصلاح والعشرة بالمعروف، فيطلق ثانيا عابثا، ثم يرجعها عابثا، ثم يطلق، فيكون التحريم بسبب العبث والمجون.
و يصح أن يراد بالآيات الآيات التكوينية، لا الآيات القرآنية الحكيمة المتلوة، وذلك لأن من آيات الله في الكون أن جعل الزوج سكنا تربط به المودة، فقال :[ و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة... ٢١ ]( الروم ) فمن طلق عابثا ورجع عابثا، وجعل الحياة الزوجية اضطرابا وضرارا وعداوة بدل المودة، فقد استهزأ بآيات الله الكونية، فحرم نفسه من نعمتها، ولذا قال سبحانه بعد هذا النهي :[ و اذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ]. فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يتذكروا دائما نعمة الله تعالى عليهم، وأن يتذكروا ما في الكتاب وما جاءت به السنة من أحكام وعظات.
أما النعمة التي يجب تذكرها فهي نعمة الزوجية خاصة، ونعمه سبحانه وتعالى عامة، ونعمة الزوجية تتج
١ قال المصنف رحمه الله تعالى : حقق الراغب الأصفهاني معنى التسريح، فقال :" السرح شجرة لها ثمرة، الواحدة سرحة، وسرحت الإبل أصله أن ترعيه السرح ثم جعل لكل إرسال في الرعي. قال تعالى: [و لكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ٦] (النحل) والتسريح الطلاق نحو قوله تعالى :[... أو تسريح بإحسان... ٢٢٩] (البقرة) وقوله :[... و سرحوهن سراحا جميلا ٤٩] (الأحزاب) مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق مستعار من إطلاق الإبل..
[ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ] بعد أن بين سبحانه العواقب الوبيلة التي تترتب على الإمساك ضرارا، وما فيه من ظلم للرجل والمرأة معا، أخذ يبين حكمه سبحانه في ظلم آخر يقع بالنساء وعاقبته وبيلة للمجتمع، فقال سبحانه :[ و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ].
بلوغ الأجل هنا هو بلوغ أقصى العدة، فالبلوغ هنا غير البلوغ في الآية السابقة، إذ الأول كان للمقارنة والمشارفة، وهنا للانتهاء، والسياق هو الذي عين معنى البلوغ في الأول كما بينا، وهو الذي عين معنى البلوغ الثاني، إذ إن العقد المعبر عنه بقوله تعالى :[ أن ينكحن أزواجهن ] يدل على أن المراد هو انتهاء العدة، إذ لا يتصور النكاح وهو العقد الذي يكون من طرفين إلا بعد انتهاء العدة، ولذا قال الشافعي رضي الله عنه في هذه الآية والتي سبقتها :( دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين ).
و العضل معناه هنا المنع الظالم، وأصله بمعنى الحبس والتضييق مع الألم، ومنه : عضلت الدجاجة إذا تعلقت بها بيضتها فلم تخرج منها، وعضل المرأة يمنعها من الزواج من غير مبرر فيه حبس لها وتضييق عليها، وإرهاق لنفسها ولحسها.
و إن النساء اللائي يطلقن يتعرضن لظلم المطلقين، فيحاول المطلقون أن يرهقوهن من أمرهن عسرا، بأن يمنع كل مطلق من طلقها من أن تتزوج من غيره، خصوصا إذا كان صاحب سطوة باغية، أو كان ذا جبروت طاغية، وتلك نزعة جاهلية، لا يقرها عرف ولا شرع ولا عقل، ويتعرض أولئك المطلقات لظلم ذويهن، فقد يردن العودة إلى أزواجهن، ويتراضين معهم على ذلك، ولكن يقف الولي محاجزا، حاسبا أن ذلك مهانة له ولها، كما فعل بعض الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ترتضي المطلقة رجلا زوجا لها، عفا في عرضه، تقيا في دينه فيملأ نفسها، ولكن لا يرتضيه أولياؤها لأمر لا ينقص من قدره، كفقر أو نحوه، فيمنعونها من ذلك الزواج !
في كل هذه الصور يكون عضل المرأة، وحبسها والتضييق عليها في ذات نفسها، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في قوله تعالى :[ و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ].
و قد قال بعض العلماء : إن الخطاب للمطلقين ليمتنعوا عن تلك العنجهية الجاهلية، وقال بعضهم الخطاب للأولياء لكيلا يحولوا بين النساء وبين الزواج ممن يردن من غير سبب ومبرر، سواء أكان الزوج الذي ارتضته هو المطلق السابق أم كان غيره.
و نحن نرى أن الخطاب عام لكل المؤمنين ممن يقع في دائرتهم ذلك، فهو يعم المطلقين، ويعم الأولياء، ويعم غيرهم ممن يتصلون بهم، ويعم أولياء الأمر الذين بيدهم الهيمنة على الأمور، والتعميم بهذا الشكل يدل على التكافل بين آحاد الأمة، ووجوب التعاون بينهم في منع كل ظلم، وخصوصا ما يقع على الضعفاء، وما يمس الحرية الشخصية في أدق ما تتجه إليه، ولا شيء يهم المرأة أكثر من اختيار زوجها، ولا عقد أمس بالوجدان من عقد الزواج، ولا اتفاق أكبر خطرا في الحياة من ذلك الاتفاق، فالظلم فيه خطير بمقدار ماله من خطر وشأن.
غير أن المرأة ليست لها الحرية المطلقة في اختيار من تشاء من الأزواج، بل إن رضاها مقيد بالمعقول والمشروع، ولذا قيد التراضي بقوله :[ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ] أي بالأمر الذي تسير عليه العقول، ويجري به العرف، ويقره العقل، و لم يكن ثمة سبب للاعتراض، فليس من المعقول أن يطلق اختيارها ويحترم إذا اختارت لمجرد الهوى العارض، سواء أكان كفئا لها أم لم يكن كفئا، و لذلك سوغ أبو حنيفة للولي أن يعترض إن تزوجت بغير كفء، فهو قد أطلق حريتها، ولكن إن أساءت الاختيار كان للولي الاعتراض، وغير أبي حنيفة أشركوا الولي معها الاختيار حتى لا تضل، ولكن نهاهم القرآن عن أن يمتنعوا من غير سبب معقول، وإلا كان ذلك عضلا، ولها أن ترفع الأمر إلى القاضي صاحب الشأن ليرفع ظلم الأولياء.
و هنا نكتة بلاغية نشير إليها، ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن الذين يختارهم النساء ويمنعن عنهم ظلما بالأزواج مع أن الزواج لم يتم، للإشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة، و هو أن من يقع اختيارها عليه، و يتراضيان عليه بالمعروف، و لم يكن الزواج بينهما فيه ما يشينها أو يشين أسرتها هو الذي ينبغي أن يكون ازدواجها به، وهو في حكم الفطرة زوجها، وعلى الأولياء ألا يعاندوا حكم الفطرة، بل عليهم أن ينفذوه ويقروه، ولا يصح لأحد أن يعارضه.
[ ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ]ذلك القول الحكيم، والأمر الكريم يذكر الله به تذكيرا يرق معه قلب المؤمن وتخشع نفسه، ويوجل قلبه إذا كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ذلك لأن الإيمان بالله، والإحساس بعظمته وكبريائه، يمنع الظالم من أن يظلم، ولا يظلم الظالم إلا وهو في غفلة عن الله، ولو أحس بأن الله محاسبه، وأنه يأخذ الظالم بظلمه، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ما استمر في ظلمه، ولا استرسل في غيه، ولكنه يكون حال ظلمه في غفوة عن الإيمان، ونسيان للواحد الديان، وهو القاهر فوق كل شيء.
و الإيمان باليوم الآخر من شأنه أن يحس معه المؤمن بالحساب والعقاب الذي يرتقبه، ومن شأنه أن بجعل المؤمن يستهين بالدنيا وما فيها، ويعلم أنها ظل زائل، وعرض حائل، و أن الآخرة هي الباقية، وإذا كان كذلك قلل من الرغبات، وإذا قلت الرغبات ضعفت الدوافع إلى الظلم، وخمدت نوازع الشر.
[ ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون ] ذلكم أيها المؤمنون أجمعون من غير تخصيص طائفة بالخطاب، وهو ما شرعه الله سبحانه من أحكام خاصة بسلطان الأزواج والأولياء، أزكى وأطهر، والزكاة النماء، أما أنه أزكى وأنمى، فلأن قيام الأسرة على العدل والمودة والتراحم يزيد في عدد الأمة فيكثر النسل، ويزيد من قوتها، لأن الجماعات القوية هي التي تقوم على أسرة قوية، ولا شيء يقوي الأسرة أكثر من المودة والعدل والرحمة، وأما أنه أطهر فلأن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة بالحق والعدل وأطلقت حريتها في دائرة المعروف المعقول ولم تظلم في رغباتها العادلة، أدى ذلك إلى الطهر والعفاف، فإن احترام النفس صون وعفاف، وامتهانها نقيض ذلك، لأن النفس إذا أكرهت جمحت، وإذا جمحت لم ترتبط برباط من الحكمة والصون والعفاف، بل إنها إذا جمحت عميت، فلا تدرك خيرا ولا شرا. ولقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :( إن للقلوب شهوات، وإقبالا وإدبارا، فأتوها من قبل شهواتها وإقلالها، فإن القلب إذا أكره عمي ) ولا عفة ولا طهر عند عماية القلوب.
و لقد قال سبحانه :[ ذلكم ] بضمير الجمع، وغير النسق، للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها، إن كان الاختيار في دائرة المعقول، حق على الجميع، وفائدته للجميع.
و لقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله :[ و الله يعلم وأنتم لا تعلمون ] للإشارة إلى أن شرع الله تعالى فيه النفع الدائم، والمصلحة الحقيقية، والنتائج المرضية، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئا، وليس للناس أن يتمردوا عليه، أو يخالفوه، أو يهونوا مخالفته في أنفسهم بدعوى أنهم يرونه في الظاهر مخالفا للظاهر من مصلحتهم، فإن ما يدركونه مصلحة ليس بمصلحة في ذاته إذا جاء نص الشرع القاطع خلافه، لأن علم الإنسان قاصر، وعلم الله وحده هو الكامل، فلنتبع شرع الله، و لا نحكم الهوى في نصوص الكتاب، ولنحث التراب في وجوه الذين يحاولون مخالفة النصوص الصريحة القاطعة بدعوى أن المصلحة في خلافها، لأنه لا توجد مصلحة قاطعة تخالف نصا قاطعا، إنما هي أوهام، وعقول خاضعة لأزمان محكومة بالشر المتكاثف، حتى حجب النور، ولنقل لهم إن شرع الله هو المصلحة :[ و الله يعلم وأنتم لا تعلمون ].
[ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ( ٢٣٣ ) ]
بين الله سبحانه وتعالى حقوق الزوجين، وما لكل واحد منهما على صاحبه، ثم أحكام الافتراق إن لم تكن المودة سائدة، وبهذا بين العشرة الحسنة والتسريح بإحسان، أو الفراق الجميل.
و بعد بيان حقوق الزوجين في الاجتماع والافتراق، أخذ سبحانه وتعالى يبين حقوق من كانوا ثمرة لهذا الزواج، في حالي الاجتماع والافتراق أيضا، وهذه الآية تبين ذلك، وقد ذكرت أول حق يتقرر للطفل فور ولادته، وهو حق التغذية الأولى التي تناسب سنه، وتكون لحمه، وتنشز عظمه، ولذا قال سبحانه وتعالى :[ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ].
الوالدات : هن الأمهات، سواء أكن أزواجا لآباء ١ الأولاد أم كن مطلقات منهم، والتعبير عن الأمهات بالوالدات فيه إشارة إلى أمرين :
أحدهما – أنهن اللائي ولدنهم وكن الوعاء الذي برزوا منه إلى الوجود، ولقد تربوا فيه ومنه تغذوا، فكان من الحق أن يتغذوا منه حتى يستغنوا عنه، وفي هذا إيماء إلى وجوب الإرضاع على الأمهات.
و ثانيهما – أن الغذاء الذي يناسب الطفل في مهده هو الغذاء الذي يكون من نوع ما كان يتغذى منه في بطن أمه، وكان في التعبير بالوالدات إشارة إلى ذلك، لأن الولادة انفصال الحمل عن أمه وبروزه إلى الوجود، فهي تشير إلى الصلة بين المكان الذي خرج منه، وحياته التي يستقبلها، وذلك إيماء إلى وجوب التناسب بين الحالين، والتناسب بينهما من حيث الغذاء، يوجب التجانس بين حالي الغذاء، وذلك يوحي من جهة ثانية إلى وجوب إرضاع الأم ولدها، وهو ما سيقت له الجملة السامية.
و قوله تعالى :[ يرضعن أولادهن ] هو أمر جاء على صيغة الخبر، فمعنى [ يرضعن أولادهن ] ليرضعن، أي عليهن إرضاع أولادهن، وعبر عن الطلب بصيغة الخبر، للإشارة إلى أن ذلك الوجوب تنادي به الفطرة، ويتفق مع طبيعة الأمومة، وأن الأمهات يلبين الطلب فيه بداع من نفوسهن، فلذلك عبر بالخبر، كأن الإرضاع وقع من غير طلب خارجي، فكان ذلك التعبير مفيدا للأمر التكليفي، ومقررا للأمر الفطري.
و الفقهاء يقررون أنه مطلوب من المرأة أن ترضع ولدها، ولكنهم يختلفون في مدى هذا الطلب، فالحنفية يرون أن هذا الطلب للندب في جملته، فليس على الأم إرضاع ولدها، إلا في حال الضرورة، بأن لم يوجد من يرضعه سواها، أو لا يلقم الولد إلا ثديها، أو كان الأب عاجزا عن استرضاع ولده عند ظئر، إذ لا يملك أجرتها، وينافي هذا الرأي قوله تعالى :[ و إن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم ] لأن هذا يفيد أن الأب غير ملزم بالاسترضاع، بينما رأي الحنفية يفيد بأنه الملزم، والأم غير ملزمة، ولما رأوا ذلك قالوا : إن الأم عليها الإرضاع ديانة لا قضاء.
و المالكية يرون أن المرأة عليها إرضاع ولدها إلا لعذر، واعتبر من الأعذار أن تكون من الطبقة التي لا ترضع أولادها عادة.
وقوله تعالى :[ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ] يفيد أن الإرضاع اللازم للغذاء لا يتجاوز حولين كاملين، و وصف الحولين بأنهما كاملان، للإشارة إلى النهاية الكاملة التي لا يدخلها تجاوز ولا تسامح، وليتناسب مع قوله :[ لمن أراد أن يتم الرضاعة ]و إن بيان الحدود من حيث الابتداء والانتهاء يجب أن يكون دقيقا، وإن الناس قد يعدون ما دون الحولين إذا كان قليلا كشهر أو نحوه غير ناقص للمدة، فذكر سبحانه وتعالى وصف الكمال، لينفي مثل هذا الاحتمال.
و في التعبير عن السنة بالحول في هذا المقال، إشارة إلى معنى دقيق، يبين أنه في انتهاء السنتين يكون الطفل قد بلغ حد الاستغناء، ذلك أن كلمة حول تدل على التحول من حال إلى حال، فيكون التعبير بها مشيرا إلى تحول الطفل في مدارج نموه من وقت ظهوره في الوجود، ورؤيته شمسه، فإنه ينتقل شهرا بعد آخر في التغذية، تبعا لنمو قواه، وحاجة جسمه، فهو يبتدئ ضعيفا لا يستطيع أن يتناول غذاءه إلا من ثدي أمه، ثم يتناول غيره قليلا، ثم يزاد حتى إذا أتى على الحولين حالت الحال، واستغنى تماما عن الرضاعة، ولذا قال سبحانه :[ لمن أراد أن يتم الرضاعة ] وهذه الجملة السامية تشير إلى أنه قد يستغني الطفل عن أمه قبل الحولين، وأن من أراد التمام إن وجدت أسبابه يصل إلى نهاية الحولين، سواء أ كان المريد الأب أو الأم.
و هذه المدة هي حد لثلاثة أمور عند جمهور الفقهاء :
أولها – أجرة الرضاعة التي تستحقها الأم، والتي دل عليها قوله تعالى من بعد [ و على المولود له رزقهن وسكوتهن بالمعروف ].
و ثانيها –على نهاية الوجوب الذي أوجبه الشارع على الأم عند القائلين بأنه يجب عليها قضاءا إرضاع ولدها، وعلى نهاية الوجوب الديني عند الذين لا يفرضون عليها إلا الوجوب الديني دون القضائي.
و ثالثها – أن الرضاع المحرم الذي يكون موجبا لصلة تكون الأنثى فيها حراما كالنسب تماما في كل أحوال التحريم لا يكون إلا في هذين الحولين، أما بعد ذلك فالرضاع لا يحرم٢، وعلى ذلك الرأي جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة : الرضاع المحرم مدته ثلاثون شهرا، وأما الرضاع من حيث الأجرة، ومن حيث الوجوب على الأم ديانة أو قضاء فمدته حولان كنص الآية الكريمة.
و إن هذا الوجوب الذي أوجبه القرآن الكريم على الوالدة يدل على مقدار عناية الإسلام بالرضاعة، ومقدار عنايته بتربية الأطفال، وتغذيتهم، وعنايته بأجسامهم، وسلامة دمهم، فإن لبن الأم هو الغذاء الطبيعي لولدها، ينمو بنموه، ويسير من حيث كم الغذاء مع تقدم سن الطفل شهرا بعد شهر، وهو غذاؤه في بطن أمه، فيكون هو غذاءه بعد ولادته. وإن تعرض الطفل للمراضع يعرضه للأدواء الوراثية تنتقل إليه، بل يعرضه للأدواء النفسية والعقلية تؤثر فيه، فإن المرضع تحمل إليه مع اللبن ما في جسمها من عيوب وراثية، وما في نفسها وعقلها من عيوب أيضا، وقد أثبت التجربة أن العيوب النفسية في المرضع تسري إلى من أرضعته، وتتشربها نفسه، بل تتكون منها طباعه، كما تكون من لبنها جسمه.
و من عناية الشارع بالرضاعة جعلها من أسباب التحريم، فيوجد الرضاعة بين الطفل ومن أرضعته وذويها وكل من تلقوا من ثديها صلة تشبه صلة النسب، ولكي يتحرى الآباء من يرضعن أولادهن، وتتحرى الأمهات من تقمن مقامهن، أو من يشركنهن في الأمومة الفطرية التي أوجدتها الولادة.
[ و على المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفسا إلا وسعها ] في الجملة السامية السابقة نص على واجب الأمهات المشتق من كونهن والدات، وفي النص واجب يقابله على الآباء لكونهم قد ولد لهم، فالتعبير عن الأب بقوله تعالى :[ و على المولود له ] هو في مقابل التعبير عن الأمهات بالوالدات، وكما أن الأول أوجب عليهن الرضاعة، فالثاني أوجب على الآباء النفقة، لأن الولادة لهم، فالنسب لهم، والولد تابع تبعية مطلقة لهم، وكأنه كسب كسبوه، وغنم غنموه، فحق عليهم القيام على شئونه ورعايته، والإنفاق على من خصصت نفسها وخصصتها الفطرة لخدمته ورعايته وتغذيته بلبنها الذي هو در من دمها.
و يلاحظ هنا، عندما أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء الإنفاق على الأمهات اللائي يرضعن أولادهن، أمران :
أولهما : أنه قيد الإنفاق بالمعروف، وهو الأمر الذي يتعارفه العقلاء، فلا تستنكره العقول ولا يجفوه الذوق السليم بأن يليق بحالها ويكفيها شئونها، ولا يخرج عن طاقة الأب، ولا يكلفه شططا، ويسهل لها الأب ذلك الإنفاق، فيجيء إليها من غير جهد منها، ولا إعنات لها.
ثاني الأمرين : أن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الإنفاق يكون في وضع الرجل فلا يرهقه، ولا يشق عليه، ولذا قال :[ لا تكلف نفس إلا وسعها ]، وهي قضية عامة، وقاعدة كلية في كل تكليفات الشارع الإسلامي، يلاحظ فيها أن تكون في وسع المكلف، وليس معنى الوسع هو الطاقة، فإن الفرق بينهما كبير، لأن الطاقة هي أقصى قدرة المكلف بحيث لا يستطيع الأمر إلا بمشقة وجهد، أما الوسع فهو قدرة المكلف على الأمر، مع بقاء فضل من جهده، بحيث لا يستغرق العمل أقصى قدرته، وقد وضح ذلك المعنى في إيجاز بليغ فجعل مناط التكليف ما تسعه قدرة المكلف، قال تعالى :[ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... ٢٨٦ ]( البقرة ) تنبيها إلى أنه لا يكلف دون ما تنوء به قدرته.
و إذا كان الأمر كذلك فكل التكليفات الشرعية يكون في الوسع القيام بها، بمعنى أنها تؤدى بيسر وسهولة ولا مشقة فيها لمن ذاق طعم الطاعة، وفهم معناها، ولذا قال تعالى :[ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر... ١٨٥ ]( البقرة ).
و لا شك أن الإنفاق على الأم بالمعروف، هو تكليف بما في الوسع الذي يقوم به المرء بيسر وسهولة، لأن أساس المعروف ألا يكون فيه غضاضة على المرأة، وألا يكون شطط على الرجل، فلا يكلف أحدهما إلا وسعه، وما يكون يسرا من أمره.
و لقد عبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن الإنفاق بالرزق والكسوة، أي بالإطعام والإيواء والكسوة، وعبر في آية الطلاق بالأجرة، فقد قال الله تعالى :[ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن... ٦ ]( الطلاق ) فالأجرة هنالك هي الكسوة والرزق هنا، وتخالف التعبيران، لأن كل واحد فيما يناسبه، فالتعبير بالأجرة، لأن الكلام في المطلقات، وما يفرض لهن من نفقة وأمدها، ثم بين ما يستحق في مقابل الإرضاع إن أرضعن وقد خرجن من بيت الرجل وسلطانه.
أما في هذه الآية فالكلام في أصل وجوب الإرضاع على الأمهات، وبيان توزيع التكليفات، والآية هنا عبر القرآن فيها عن الأم بوصف كونها والدة، وعلى الأب بوصف كونه مولودا له، فناسب أن يعبر عن النفقة هنا بالرزق والكسوة لأن مؤدى التعبير الكريم أن الواجبات للطفل موزعة، والحقوق فيه متقابلة، فالأم لأنها تفرغت لخدمته، وقامت على حياطته، وغذته من لبنها بعد أن غذته من دمها، وأوجب عليها الشارع ذلك الغذاء، كان على الأب في نظير ذلك أن يكدح ويعمل ليوفر لها رزقها وكسوتها بالمعروف من غير غضاضة ولا شطط.
[ لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ] هذه الجملة السامية في مقام التعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الوالد والوالدة، والتي أساسها القيام بحق ذلك المخلوق الذي كان كل واحد منهما طريقا لخروجه إلى هذا الوجود الإنساني. والمعنى أنه لا يصح أن يقع الضرر على الأم بسبب ولدها لما لها من حنو وعطف، فيستغل ذلك الحنو وذلك العطف لإنزال الأذى بها وإعناتها وتكليفها ما ليس في وسعها، وما ليس متفقا مع فطرتها، وكذلك لا يصح أن يقع ضرر بالأب بسبب ولده، لأنه يعنى بإنباته نباتا حسنا وتنشئته على أكمل وجه، فيرهق بالمطالب المالية، ويكلف ما ليس في وسعه أو لا تتسع له قدرته عليه إلا بمشقة وجهد شديد.
و في هذه الجملة السامية بحثان لفظيان نقولهما بإيجاز :
أولهما – أن كلمة [ لا تضار ] من مادة المفاعلة من الضرر، وقد قرأت مرفوعة على معنى نفي الضرر، ونفي الضرر يقتضي النهي عن
١ قال المصنف رحمه الله: كون المراد بالوالدات الأمهات سواء أكن أزواجا أو مطلقات هو الذي اخترناه من بين ثلاثة آراء لأنه هو الذي يتفق مع عموم كلمة الوالدات ومع المعاني التي يشير إليها التعبير بالوالدات، والرأيان الآخران:
أولهما : أن المراد المطلقات، لأن السياق كله في الطلاق وأحكام الطلاق والمطلقات، ولأنهن مظنة إهمال الولد عند المكايدة، ولأن إيجابه الرزق بعد ذلك في نظير الرضاع يوجب ذلك، وللنهي عن المضارة وهي لا تتصور إلا عند الطلاق.
ثانيهما: أن المراد الزوجات وهذا قول لا حجة له، وما اخترناه أولى لما فيه من عموم ولا دليل على التخصيص.
.

٢ قال المصنف رحمه الله : فرق أبو حنيفة بين مدة الرضاعة التي تجب فيها الأجرة، ومدة الرضاعة المحرمة، فاعتبر الأولى حولين كاملين كنص الآية الكريمة، واعتبر الثانية ثلاثين شهرا، بقوله تعالى :[و حمله وفصله ثلاثون شهرا ] إذا فهم منها مدة الفصال الذي ينتهي بانتهاء الرضاعة تحتمل أن تكون ثلاثين شهرا، فللاحتياط أعمل ذلك الاحتمال في التحريم بالرضاعة..
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير ( ٢٣٤ )
في الآيات السابقة بين سبحانه إنشاء الزواج، و ما ينبغي أن يكون في الاختيار وما يجب، ثم بين العشرة الزوجية، ثم بين الفراق بين الزوجين والأحكام التي تتبع عند الافتراق، وأن الزواج إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وأنه إذا لم يكن واحدا منهما فهو الكفر في الإسلام، أو الجهل بأحكامه أو الزيغ عن قانونه، و الخروج من ربقته ونظامه، ثم أشار سبحانه إلى حقوق ثمرة الزواج في حالي الوفاق والخلاف، وأنها حقوق مقرة في الحالين.
و بعد ذلك بين الحكم إذا فرق بين الزوجين الموت، فذكر القيود المعقولة التي تقيد بها المرأة، وبعدها تكون الحرية التي يكون من آثارها اختيار الزوج الكفء، فقد قال تعالى :
[ و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ] في هذه الآية الكريمة يتبين عدة المتوفى عنها زوجها، وهي أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام. وعبر سبحانه عن العشر بما يدل على أن المعدود مؤنث، إذ إنه حذف التاء، فدل على أن المراد عشر ليال والمؤدى واحد، ولكن التعبير بالليالي فيه فائدة أكبر من التعبير بالأيام ؛ لأن فيه إشارة إلى أن تقدير الأشهر بالقمرية كما نوهنا، لأن الليالي هي التي تعرف فيها أحوال القمر وأدواره، فكان التعبير بها توجيها لما يكون فيها، وهو القمر بأطواره وأحواله.
و قبل أن نخوض في حكمة تقدير عدة الوفاة ذلك التقدير، وما يعارض ظاهرها في سورة الطلاق، وما كان عليه العرب من عادات في حداد المرأة على زوجها، قبل ذلك نذكر بعض مباحث لفظية في تلك الجملة السامية.
و أول تلك المباحث اللفظية، هو في كلمة [ يتوفون ] بالبناء للمجهول، ولم تقرأ غير ذلك، لأن الفعل متوفى متعد، فالله سبحانه وتعالى يقول :[ الله يتوفى الأنفس حين موتها... ٤٢ ]( الزمر ) فإذا لم يذكر الفاعل بني للمفعول.
و ثانيها : في كلمة "يذرون" معناها يتركون، وقد ادعى علماء النحو أنه من الأفعال التي مات ماضيها، ولم يعرف إلا فعل المستقبل لها، مضارعا كان أو أمرا، ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري ما دل على أن ماضيها حي وليس بميت، فقد جاء فيه ما نصه :( ذره واحذره والعرب أماتت المصدر منه فيقولون : ذر تركا، وإذا قيل لهم : ذروه. قالوا : وذرناه ) ١. ونرى من هذا أن ذلك العالم اللغوي العظيم لم يعترف إلا بأن العرب أماتوا المصدر، أما الماضي فلم يميتوه، وذكر الاستعمال الذي يدل على حياته، فقال :( إنهم إذا قيل لهم : ذروه. قالوا : وذرناه ).
و ثالث المباحث اللفظية : في كلمة " أزواج" وهي جمع لزوج، وهو كلمة تفيد بأصل معناها الدلالة على اثنين اتحدا في الخواص والصفات وكل المشخصات حتى صار كل واحد منهما صورة كاملة من الثاني، و كأنه هو في شخصه، ولذلك أطلق على كل واحد منهما بأنه زوج، وأطلق على كل واحد من الرجل والمرأة بعد ذلك العقد المقدس بأنه زوج، لأنه ثاني اثنين قد امتزجت حياتهما، وتلاءمت شخصياتهما حتى صار كل واحد منهما كأنه صورة من الآخر، وكأنه شخص في كونه ووجوده لما ارتبطا به من حياة، ولكمال الخلطة بينهما، ولتماثل الحقوق والواجبات عليهما ولاتحاد شخصيتهما بذلك الزواج الموحد بينهما.
و رابع المباحث اللفظية : في كلمة "يتربصن" والتربص معناه الانتظار، فقد قال تعالى :[ فتربصوا به حتى حين ٢٥ ]( المؤمنون ) وقال تعالى :[ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر... ٩٨ ]( التوبة ) وقال تعالى :[ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ٣٠ ]( الطور ) وفي كل هذه الآيات الكريمة كان التربص معناه الانتظار مع الترقب، والتربص من المتوفى عنها زوجها في هذا المعنى تقريبا.
و " يتربصن" هي خبر في معنى الطلب فالمعنى ليتربصن، كقوله تعالى :[ و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين... ٢٣٣ ]( البقرة ) وفي ذلك إشارة إلى أن التربص أمر نظري يتلاقى مع الأمر الشرعي، فإن الحرة الكريمة لا ترضى لنفسها ولا ترضى معها أسرتها أن تتزوج فور وفاة زوجها، أو بعدها بمدة قليلة، فإن ذلك أمر مستهجن في الفطرة السليمة، وفي الشرع الحكيم، وفي عرف الناس، ولا ترضى العقول به والمدارك الصحيحة.
و كان من ذلك التعبير قوله تعالى :[ بأنفسهن ] فيه إشارة إلى أن ذلك التربص فيه صيانة لأنفسهن، وحفظ لكرامتهن، ودفع لمعنى الامتهان والعار الذي يلحق المرأة من أن يموت ضجيعها، فلا تلبث إلا قليلا بعد أن يسجى ويدفن، حتى تعرض نفسها طالبة الأزواج، كأنه ليس المتوفى عشيرا أليفا يستحق الحداد.
و قد حد الشارع للمتوفى عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات، لأن تلك ثلاثة قروء تجيء عادة في نحو ثلاثة أشهر. وهنا يرد سؤالان :
أولهما : لماذا كانت العدة في المتوفى عنها زوجها بالأشهر دون الحيض، فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاثة ؟.. ولماذا كانت الزيادة ؟
و لم نجد أحدا تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا – وإن كانت الحكمة الشرعية السامية قد تعلو على مداركنا – هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها، وللصغيرة والكبيرة، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انتهى بوفاة أحد ركنيه، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع مادام السبب واحدا في الجمع، وفوق ذلك إن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض، وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع، وفي المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها، أو يظهر كذبها، وهي تخشى صولته، فتبتعد ما أمكن من المراء، أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خاصا، فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وادعاء ما لم يحصل، لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب، وليست أمرا يعرف من جهتها فقط.
أما الجواب عن الأمر الثاني وهو : لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق ؟ فيبدو بادي الرأي، من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة، أن الطلاق نتيجة شقاق، فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قويا، ومعنى براءة الرحم وإعطاء الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة، ويكفي لذلك نحو ثلاثة أشهر، أما حال الموت، فإن مرارة الفراق فيها أوضح وأشد، ومعنى الحداد يغلب فيها معنى براءة الرحم، ولذلك تجب على المدخول بها وغير المدخول بها، وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق، وإن الشارع الحكيم قد خفف من حدة ما كانت تعمله النسوة الجاهلية، فقد كانت المرأة في الجاهلية تغلق على نفسها أضيق مكان في مسكنها وتقضي فيه سنة كاملة، حدادا على زوجها، فجاء الإسلام، وخفف عليها وجعلها أربعة أشهر وعشرا، ولنذكر لك ما كان في الجاهلية وما كان في الإسلام، كما روي في صحاح السنة :
فقد روى البخاري ومسلم عن زينب بنت أم مسلمة أنها قالت :"دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان ( أبوها ) فدعت أم حبيبة بطيب فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر :" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ٢، قالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا" مرتين أو ثلاثا. ثم قال :"إنما هي أربعة أشهر وعشرا، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ قال الراوي ٣ قلت لزينب : ما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ٤ ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة، فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره " ٥.
و ترى من هذا أن الإسلام قد ألغى تلك العادات الجاهلية، وقصر أمد الحداد على الوفاة، فجعله أربعة أشهر وعشرا بدل سنة.
و قد يرد سؤال آخر : لماذا حد العدد بأربعة أشهر وعشرا ؟ وإن تقدير الأعداد كما يقرر الفقهاء أمر توفيقي خالص لا يجري فيه القياس، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا حكمة فيه، وإن الحكمة يقررها العلماء في أمرين :
أولهما – أن الأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط، وتعرف أعراضه وظواهره، وذلك لأنه لما وكل أمر براءة الرحم إلى مدة، لوحظ فيه المدة التي فيها يعرف ويستبين وتظهر أعراضه.
ثانيهما – أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال، ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر، بحيث إذا حلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر، ومضى في يمينه وانتهت المدة طلقت منه، فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة، ومقاربة لها في الجملة، وليس من المعقول أن يعاقب الشارع الرجل إذا أصر على هجر زوجه بالفراق إذا أصر عليه أربعة أشهر، وفي الوقت نفسه يلزمها بالحداد مدة أطول من ذلك، بل ينبغي أن تكون مدة الإحداد حول هذه المدة أيضا.
[ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ] بينت الجملة السامية السابقة مدة العدة للمتوفى عنهن أزواجهن، وفي هذه الجملة الكريمة يبين سبحانه وتعالى انتهاءها وما يترتب على الانتهاء، والمعنى : إذا انتهت المدة المقررة للتربص، فلا إثم على الناس فيما يفعلن في أنفسهن من زينة واستعداد للزواج والزواج بالفعل، ونرى في التعبير الفعل المباح منسوبا لهن، ونفي الإثم عن الناس المتصلين بهؤلاء المتوفى عنهن أزواجهن، وفي ذلك دلالة على أمرين :
أحدهما : أن المرأة تباح لها الزينة بالمعروف، أي بالأمر المعقول الذي تقره العقول، وتدركه الأفهام، وتعرفه أهل المدارك السليمة والأذواق الدقيقة المحكومة بشكائم الأخلاق، يدخل فيما يفعلن بأنفسهن الزواج، فلها اختيار الزوج، وتولي العقد، بشرط أن يكون ذلك في دائرة العرف والتقيد بالكفاءة، وألا تجلب عارا على أسرتها وذويها.
وثانيهما : أن نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن بأنفسهن بالمعروف غير المستنكر، دليل على أن الجماعة الإسلامية متعاونة متآزرة متماسكة بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وأن على كل امرئ أن يصلح من شأن أخيه، ويقومه بالمعروف، ويبين له أوامر الشرع وحكم الله تعالى، و لا تذهب عنه هذه المسؤولية حتى يكون عمل من يكون ذا صلة به في دائرة الشرع والخلق القويم.
و قبل أن نترك الكلام في عدة المتوفى عنها زوجها، نشير إلى موضوع يتصل به، أو هو من لبه، وهو مقدار شمول هذا النص للمعتدات من وفاة : أيشمل الحامل وغير الحامل، أم يختص بغير الحامل فقط ؟ لقد ورد في عدة الحامل قوله تعالى :[ و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن... ٤ ] ( الطلاق ) وورد في عدة الوفاة هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها، وهذان عمومان متعارضان، أو يبدو في الظاهر أنهما متعارضان.
و قد قال جمهور الفقهاء : إن
١ قال المصنف – رحمه الله - : انظر أساس البلاغة ج ٢ ص ٤٩٨ طبع دار الكتب..
٢ متفق عليه، رواه البخاري : الجنائز – إحداد المرأة على غير زوجها (١٢٠١)، ومسلم : الطلاق : وجوب الإحداد في عدة الزواج (٢٧٣٠)..
٣ الراوي هو حميد بن نافع، شيخ البخاري، من الطبقة الوسطى من التابعين، وكنيته أبو أفلح..
٤ الحفش : المكان الضيق في البيت..
٥ هذا الحديث متفق عليه، رواه البخاري : الطلاق : تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا (٤٩٢٠)، ومسلم : وجوب الإحداد (٢٧٣٠)..
[ و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ] الخطبة من الخطاب، وهي مخاطبة المرأة أو ذويها في أمر زواجها، والتعريض ضد التصريح، وهو إفهام المراد لكلام يحتمل ما يريده المتكلم، ويحتمل غيره، وهو في ظاهره غير ما يريد، ولكن يبدو من لحن القول وإشارته والمقام ما يريده، وهو من عرض الشيء وهو جانبه، كأنه يحوم به حول الشيء وعلى جوانبه ولا يظهر مراده. و النساء المراد بهن في الآية هن المتوفى عنهن أزواجهن في أثناء العدة. و الإكنان في النفس أن يخفي إرادة الزواج والرغبة فيه مع الإصرار عليه، واعتزامه من غير إعلانه لأحد.
و معنى الجملة الكريمة : أنه لا إثم في التعريض بخطبة المتوفى عنهن أزواجهن، كما أنه لا إثم في الرغبة في الزواج منهن مع إكنان ذلك وستره من غير كشف وإعلان ؛ لأن الكشف والإعلان قد يؤذي الميت، وهو فوق ذلك لا يليق بأهل المروءة من الرجال.
و التصريح بالخطوبة لا يجوز، حتى لا يؤذي أهل الميت، وحتى لا يدفعها إلى الامتناع عن الحداد على زواجها، فوق أن ذلك نقص في الخلق. وفساد في الذوق لا يصدر عن ذي إحساس كريم، فالتعريض فقط هو المباح في الخطبة في حال عدة الوفاة، وأساليب التعريض متباينة يبينها المقام، ومن ذلك ما يروى عن سكينة بنت حنظلة أنها قالت :" استأذن علي محمد بن علي زين العابدين فقال : قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، وموضعي في العرب.. فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي ! ! قال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي ".
وقد أخرج الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال :" لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي ". وكانت تلك خطبة ١.
[ علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ] في هذه الجملة الكريمة يشير سبحانه وتعالى إلى طبائع النفس البشرية فيمنعها من الانسياق فيما يردي ويفسد، ويبيح لها ما لا ضرر فيه، وقد يكون فيه ما تطيب به نفوس، وتطمئن إليه قلوب.
فالله سبحانه وتعالى علم أن العارفين لأخبار المتوفى عنها زوجها وأحوالها وحقيقتها، من جمال أو نحوه، ومن حسن عشرة ولطف مودة، أنهم سيذكرونها في نفوسهم ويقرنون الذكر بالرغب والاتجاه إلى طلبها، وإعلان الرغبة والتحبب إليها وإمالة قلبها، ولقد علم الله سبحانه وتعالى حال النفوس هذه فأباح للناس ما تكون مغبته حسنة، ومنع غيره، فأباح إكنان الرغبة في الأنفس وحديث النفس بها، فإن حديث النفس ليس موضع مؤاخذة، وأباح التعريض بالخطبة، ونهى عن أمرين :
أولهما : المواعدة السرية، سواء أكانت تلك المواعدة على الزواج أو غيره. وقد تكلم العلماء في معنى كلمة "سرا" فقيل : إن معناها ما يكون بين الرجل وزوجه من متعة جسدية. وقيل إن معناها عقد الزواج. و قيل إن سرا، معناها زنا. وروي أن ابن عباس وابن جبير والشعبي ومجاهدا وعكرمة والسدي، فسروا "سرا" بألا يأخذ عليها ميثاقا بألا تتزوج غيره في استسرار وخفية.
و إن الذي نميل إليه أن "سرا" وصف لمحذوف أي لا تواعدوهن وعدا سريا بأي شكل من الأشكال، وفي أي موضوع من الموضوعات، لأن الإسرار يدفع إلى الخلوة فتكون الحال في مكان النهي حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما " ٢ والمعنى على هذا : لا تندفعوا وراء رغباتكم فتلتقوا بهن سرا وتقولوا معهن ما تستحيون من قوله جهرا، إما لأنه قبيح لا يعلن، وإما لأنه في غير وقته فيستنكر القول فيه فور الوفاة، وذلك فوق قبح الخلوة في ذاتها.
و لقد استثنى سبحانه استثناء منقطعا في قوله تعالى :[ إلا أن تقولوا قولا معروفا ] والمعنى لكن المباح لكم أن تقولوا قولا معروفا لا تستنكره العقول، وتقره الأخلاق، ولا يقبح إعلانه، بل يقال في غير استسرار، وبهذا الاستثناء يحد الله سبحانه فرق ما بين الحلال والحرام في هذا المقام، فالسرية ممنوعة أيا كان موضوعها، لما يكون معها من ملابسات محرمة، والقول المعروف الذي يكون بالتعريض، وإظهار المودة بشكل لا يؤدي إلى محرم، ولا تستهجنه العادات الفاضلة والأخلاق الكريمة، هذا حلال لا ريب فيه.
و قبل أن نترك الكلام في هذا الأمر المنهي عنه، نذكر تحقيقا لفظيا ذكره الزمخشري، وهو مقام "لكن" في قوله تعالى :[ و لكن لا تواعدوهن سرا ]، مما قبلها، فقد قرر رحمه الله أن المعنى : علم الله أنكم ستذكرون النساء فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا، ويكون المؤدى اذكروهن ذكرا حسنا معروفا معلنا غير منكر، لا تمجه الأذواق، ولا تنبو عنه الأخلاق.
الأمر الثاني الذي هو في موضع النهي ما اشتمل عليه قوله تعالى :[ و لا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ]العزم : القطع، وهو يتعدى بعلى، وبنفسه، فيقال : عزم الأمر وعزم عليه، وعقدة النكاح : الارتباط به. والكتاب : هو الأمر المكتوب المفروض، وهو هنا العدة. والأجل : هو انتهاء المدة المقررة للعدة والمعنى : لا تعقدوا العزم نهائيا في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها، بأن تقطعوا في أمر الخطبة فتجعلوها تصريحا بدل أن تكون تعريضا، فإن العزم القاطع لا يكون بالتعريض، بل يكون بالتصريح ؛ لأن عبارة التعريض كيفما كانت يدخلها الاحتمال، فلا تنبئ عن القطع أو الجزم، وعلى ذلك يكون هذا الكلام السامي ذكرا لما فهم عند نفي الإثم عن التعريض من منع التصريح، وفوق ذلك فيه دلالة على منع العزم مطلقا ولو بإصرار النية، وإكنان النفس ؛ لأن العاقل لا يسوغ له أن يعزم أمرا ولو في نفسه قبل أن يجيء وقته ؛ لأن المستقبل بيد الله ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
[ و اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم ] في هذا الكلام الكريم الحكيم تحذير وتقريب، وتخويف ورحمة، إذ بين سبحانه أنه يعلم خلجات القلوب، وخطرات النفوس، وما تخفي الصدور وما يستكن فيها، وما يعلن، وإن للنفس هواجس وخواطر، فإذا همت النفس أو جالت فيها أمور تستهجن ولا تستحسن، كأن يجول بخاطره أن يكلم المعتدة من وفاة في أمر منكر لا يسوغ في الدين، ولا في العرف، ولا في الأخلاق، فليعلم أن الله عليه رقيب يعلم تلك الخواطر، فليحذره، لكيلا يبرزها إلى الوجود، فيندفع وراءها، وإنه إذا قمعها وقدع نفسه عنها، وجعلها في محيط قلبه لا تخرج منه، فإن ذلك يكون في عفو الله تعالى، ولذا قال سبحانه :[ و اعلموا أن الله غفور حليم ] يغفر الله فلا يأخذ العبد إلا بما يفعل ولا يأخذه بما يجول بخاطره، ولا بما تحدثه به نفسه، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء. تبارك الله سبحانه، هو المنتقم الجبار العفو القدير، الغفور الرحيم.
١ ذكره بهذا اللفظ وهذا التخريج القرطبي في تفسيره : سورة البقرة ٢٣٥، وراجع الدارقطني في سننه ٣/٢٢٤...
٢ جزء من حديث رواه أحمد : مسند العشرة (١٠٩) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والترمذي بنحوه : الفتن : ما جاء في لزوم الجماعة (٢٠٩١) عن ابن عمر رضي الله عنهما..
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ( ٢٣٦ )
بين سبحانه آثار الفراق بين الزوجين بالطلاق أو الموت، فقد بين العدة، وهي في معناها حق الزواج وحق الزوج وحق الولد، وقد ذكر بعد ذلك حق المرأة الخالص، وهو المهر أو المتعة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء المهر في قوله تعالى :[ و آتوا النساء صدقاتهن نحلة... ٤ ] ( النساء ) ووجوبه كاملا في حال الطلاق بعد الدخول في قوله تعالى :[ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ٢٠ ] ( النساء ).
و في هذه الآية يبين سبحانه المهر الواجب أو ما يقوم مقامه في الصورة التي قد يتوهم الناس أنه لا مهر فيها، لأنه لم يفض أحدهما إلى صاحبه، إذ لم يحصل مساس بينهما، فقال تعالى :
[ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ] الجناح معناه الإثم، ومعنى تمسوهن هنا أي لم تباشروهن ولم تدخلوا بهن، وهو كناية جميلة من كنايات القرآن الكريم التي هذبت الألفاظ العربية، وعلمت الناس الأدب في التعبير، ليتهذب الذوق الخلقي والبياني والاجتماعي.
و المس في أصل معناه اللغوي : اللمس، فهو يطلق على كل ما يكون فيه إدراك بحاسة اللمس، ثم أطلق على سبيل الكناية على كل ما يكون فيه إصابة حسية أو معنوية ولها مظهر حسي، ولذا كنى به القرآن الكريم عما يكون بين المرء وزوجه، كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله تعالى :[ يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن... ٤٩ ] ( الأحزاب )، وقوله تعالى :[ أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر... ٤٧ ]( آل عمران ).
و كني بالمس عما يصيب العقل أو الجسم من مرض أو أذى، فقد قال تعالى :[ الذي يتخبطه الشيطان من المس... ٢٧٥ ] ( البقرة )، وقال تعالى :[ مستهم البأساء والضراء... ٢١٤ ] ( البقرة )، وقال تعالى :[ و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما... ١٢ ] ( يونس )، وقال تعالى :[ و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... ٨٠ ] ( البقرة ).. وهكذا.
و الفريضة معناها المهر المقدر، وأصل الفرض معناه التقدير، فمعنى لم تفرضوا لهن فريضة : لم تقدروا لهن تقديرا.
و معنى الآية الكريمة بعد ذلك التفسير اللفظي، أنه لا إثم على من يطلق قبل الدخول إذا لم يكن ثمة فريضة مقدرة.
و نفى الجناح أو الإثم عن الطلاق قبل المسيس لا عن مطلق طلاق، ولقد فهم بعض العلماء أن نفي الإثم هو عن مجرد الطلاق، لا عن الطلاق المقيد، واستنبط من هذا أن الطلاق مباح في ذاته من غير نظر إلى دواعيه، وذلك النظر لا نحسب أنه الصواب، لسببين :
أحدهما : أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله١، وأن الله ما أحل شيئا أبغضه كالطلاق ٢. فلا يمكن أن يكون الأصل فيه الحل من غير نظر إلى دواعيه وبواعثه، لأنه شرع للحاجة النفسية إليه، وذلك إذا تعذر قيام المودة في الحياة الزوجية، ولذا قال سبحانه بعد محاولة الإصلاح بين الزوجين بكل الطرق وتعذر الإصلاح :[ و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته... ١٣٠ ] ( النساء ).
ثانيهما : إن من المقررات اللغوية أن أداة النفي إذا دخلت على شيء مقيد بوصف أو حال، فإن النفي لا يكون منصبا عليه مقيدا بذلك القيد، ويكون القيد هو موضع النفي، لا أصل الشيء في ذاته، وكذلك هنا، فالنفي منصب على الطلاق المقيد بأنه قبل الدخول وقبل فرض فريضة، أو بالأحرى هو منصب على الطلاق قبل المسيس، سواء أكان ثمة فريضة أم لم تكن، ولكنه في حال الفرض للمهر قدر مخصوص، وفي حال عدم الفرض للمرأة حق آخر معلوم.
و ننتهي من ذلك إلى أن موضوع الآية الكريمة هو حق المرأة في حال الطلاق قبل الدخول، سواء أكان ثمة فرض أم لم يكن فرض، وإذا كان ثمة نفي للإثم فهو عن الطلاق في هذه الحال، لا يقتضي نفي الإثم في غيرها، وإن الفرق بين الحالين واضح، فإن الفرقة قبل الدخول يكون الضرر الواقع فيها على المرأة أقل، ولم يستوف فيها شيء من أحكام الزواج، ولم توثق الصلة فيها بأولاد، وإقامة بيت، يتهدم بالطلاق، أما الطلاق بعد الدخول، فإن جل أو كل أحكام الزواج فيها تكون قد استوفيت، والضرر فيها أشد، وقد يتعدى الضرر إلى ثمرات الزواج، فنفي الإثم في الحال الأقل ضررا، أو التي لا ضرر فيها لا يستلزم نفي الإثم في الحال الأشد ضررا.
و قد يقول قائل : إن الطلاق قبل المسيس قد يسيء إلى سمعة المرأة، و يقول الناس إنه ما طلقها إلا من شيء، وقد يكون اختياره لها مفوتا لزوج كفء ربما لا يمكن تداركه، وذلك حق في بعض الأحوال. ويجاب عنه بأن حسن سمعة الأسرة التي تنتمي إليها الزوجة، وكرم محتدها قد يرد كل إيهام أو اتهام، وإن ما يعروها من ألم بسبب ذلك الفراق المعجل يخففه التمتيع، وهو إعطاء المتعة، وفوق كل هذا إن الاختلاف الذي أدى إلى الافتراق قبل الدخول يدل على أن الاختيار في الزواج لم يكن موفقا، فكان إنهاؤه قبل الدخول من المصلحة الحقيقية للزوج، ويهون بجواره كل ألم في سبيل تلك المصلحة ؛ لأنه يكون الأمر بعد ذلك عيشة كلها مضارة، أو افتراق في غير الوقت المناسب. وإذا كانت المرأة قد تألمت فالرجل قد أصابه غرم مالي.
[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ] هذا بيان لما تعوض به المرأة إذا حصلت فرقة قبل الدخول وقبل أن يقدر لها شيء من المهر، فذكر الله سبحانه أن الواجب هو المتعة، ولذا قال سبحانه :[ و متعوهن ]، والمعنى أعطوهن متعة ينتفعن بها ويكون فيها تسرية عن أنفسهن، وبعض التعويض عما نالهن، وما فاتهن في هذا الزواج، فتطيب نفوسهن. والتمتيع مأخوذ من المتاع، وأصل المتاع الامتداد في الارتفاع، يقال متع النهار إذا ارتفع، ثم انتقل إلى الانتفاع الممتد، ثم إلى الشيء المنتفع به انتفاعا ممتدا يعلو به الشخص في الحياة الدنيا، ثم أطلق على كل ما ينتفع به، ومنه المتعة في الزواج، وهو ما يعطى للمطلقة لتنتفع به مدة عدتها، ويلاحظ أن يكون الانتفاع مما يمتد زمنا، ومما يعلو به الشخص، ولذا عرفها الشافعي بأنها : شيء نفيس يعطيه المطلق للمرأة لتنتفع به أمدا.
و قد جعل الله سبحانه المتعة تابعة لحال الرجل، فقال :[ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف ].
الموسع : القادر المطيق للإنفاق عن سعة، فهو ذو السعة أي القدرة الكبيرة، كما قال تعالى في الإنفاق :[ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله... ٧ ] ( الطلاق ) والمقتر هو من كان قليل المال، مأخوذ من أقتر الرجل بمعنى قل ماله، والقدر : الطاقة، أو المقدار، والمعنى، على الموسع قدر طاقته، وعلى المقل قدر طاقته، وقرئ [ قدره ]، وهما بمعنى واحد. وبعض العلماء يفرق بينهما فيجعل " القدر" بالتحريك المقدار، و"القدر "بالتسكين الطاقة، والمؤدى واحد بلا ريب، إذ المراد والله أعلم : أن ذلك المال الكثير يكون عطاؤه متناسبا مع ما آتاه الله من بسطة في الرزق، وذو المال القليل يكون عطاؤه بقدر طاقته.
و لكن مع هذه الرخصة التي أعطيت للمقتر يجب أن يكون ما يعطيه مقدارا يكون الانتفاع به ممتدا زمنا، ولذا قال سبحانه :[ متاعا بالمعروف ] أي يكون شيء ينتفع به انتفاعا ممتدا في الزمان بالقدر المتعارف بين الناس الذي لا يستنكره عرفهم، ولا الطبقة التي يكون فيها الزوجان بين الناس. والناس أصناف وألوان، وكل بقدر ما يتعارفه.
و لقد أكد سبحانه وتعالى الطلب في قوله :[ و متعوهن ] أكده بصيغة تفيد أن التمتيع لازم لا مساغ من التخلص من لزومه، فقال سبحانه عز من قائل :[ حقا على المحسنين ]، أي أن التمتيع هو حق أي أمر ثابت لازم واجب على المحسنين الذين يتحرون الإحسان إلى معاشريهم ومخالطيهم والمتصلين بهم، فالتعبير بالمحسنين للإشارة إلى أن ذلك الواجب هو من قبيل الإحسان في المودة، والإشعار بالقربى في وقت الانفصال، ومنع الغضاضة والألم، وتطييب القلوب، وذلك لا ينافي الوجوب واللزوم.
و لقد قال بعض العلماء : إن التعبير بالمحسنين يدل على أن المتعة غير واجبة، وذلك لاعتقاده أن الإحسان تبرع غير واجب، وكان ذلك حقا على المحسنين الذين يلزمون أنفسهم بما لا يلتزم به الناس. ولكن الظاهر غير ذلك القول، لأن الإحسان لا ينافي الوجوب الذي دل عليه الأمر في قوله تعالى :[ و متعوهن ] وتأكد ذلك الأمر بقوله :[ حقا على المحسنين ]، لأن الإحسان في ذاته : الإجادة والإتقان وتحري الحق وأداؤه على الوجه الأكمل، وذلك يتلاقى مع معنى الوجوب. وقد ورد الإحسان في القرآن في معنى الواجب فقد قال تعالى عن نفوس الكافرين يوم القيامة :[ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ٥٨ ] ( الزمر ) أي يكون ممن يؤدون الواجبات كلها فيكون من المحسنين، وذلك لا يتصور فيه معنى التبرع، بل وفق قوله تعالى :[ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ]، يؤكد معنى الوجوب، إذ فيه التعبير بعلى التي تفيد اللزوم، وفيه أن المقل والمكثر عليهما أداء بطاقتهما، ولو كانت المتعة تبرعا لأعفي منه المقل، واستحسنت من المكثر.
و مع أن المتعة واجبة إذا لم يكن ثمة مهر مسمى في العقد، ولم يكن دخول، فإن الشارع قد ترك تقديرها إلى النظر المطلق، وتقديره وطاقته، ولم يكن لها حد معلوم، وقد قدرها الحنفية بكسوة كاملة للمرأة وهي لباس الخروج، فإن المرأة تلبس عادة عند خروجها أكمل ثيابها، وتركوا نوع الثياب إلى طاقة الرجل وتقديره، واشترطوا ألا تقل عن خمسة دراهم، وهي نصف الحد الأدنى للمهر عندهم، وإذا اختلف الرجل والمرأة في تقديرها، كان الحكم في ترجيح قول أحدهما على الآخر نصف مهر مثلها، فإن كان أقل مما ادعى الزوج كان القول قوله، وإن كان أكثر مما تدعي الزوجة كان القول لها.
و المتعة عند الشافعي شيء نفيس يقدمه المطلق لمن طلقها قبل الدخول، ويكون في طاقته٣.
و أحمد بن حنبل يتبع ما روي عن ابن عباس من أنه يرى أن المتعة تكون على حسب حال الرجل من يسار وإعسار، ونوعها يختلف باختلاف اليسر والعسر، وقد قال ابن عباس : أرفع المتعة الخادم ( أي عبد أو أمة يعطيها إياها ) وأوسط المتعة الكسوة، وأدناها النفقة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق ( أي الدراهم تعطاها ) ودون ذلك الكسوة. وقد كان الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم والتابعون من بعدهم يبالغون في العطاء على قدر طاقتهم ليقوموا بالتسريح بإحسان، وتطيب نفس مطلقاتهم، حتى إن الحسن بن علي رضي الله عنهما قد متع امرأة طلقها بعشرة آلاف درهم، فقالت المرأة : متاع قليل من حبيب مفارق.
١ رواه أبو داود : الطلاق – في كراهية الطلاق (١٨٦٣)، وابن ماجه : الطلاق – باب حدثنا سويد بن سعيد (٢٠٠٨)..
٢ عن محارب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق ".
[رواه : أبو داود الطلاق – كراهية الطلاق (١٨٦٢)] وهو حديث مرسل، ومحارب بن يسار السدوسي من الطبقة دون الوسطى من التابعين، وكنيته أبو مطرف، أقام بالكوفة وتوفي بها ١١٦هـ..

٣ قال المصنف – رحمه الله تعالى – في الهامش : جرى خلاف في الفقه الحنفي : أينظر في المتعة إلى حال الرجل، أم إلى حال المرأة، أم إلى حاليهما ؟ قال بعضهم : ينظر إلى حال الرجل، وهو صريح الآية [... على الموسع قدره وعلى المقتر قدره... ٢٣٦] (البقرة)، وذلك هو الراجح، و قال بعضهم : ينظر إلى حالها، لأنها بدل نصف مهر المثل، وهو يقدر على حسب حال المرأة. وقال بعضهم: إنه يقدر على حسب حالهما، لقوله تعالى: [ متاعا بالمعروف] والمعروف هو الذي ينظر فيه إلى حالهما..
[ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ] بين سبحانه في الآية السابقة، ما يجب عند الطلاق قبل الدخول إن لم يكن قد سمي مهر وقت العقد، وفي هذه الآية يبين المطلوب إذا سمي مهر، وكان الطلاق قبل الدخول أيضا، وقد قدم حكم الحال الأولى، لأن عدم ذكر المهر مظنة ألا تعطى شيئا إذا كان الطلاق قبل الدخول، فسيقت الآية الكريمة ببيان هذا الوجوب ليزول من الأفهام ما يسبق إليها.
و قد بينا معنى الفرض فيما سبق، ومعنى الآية الكريمة : إن طلق أحدكم المرأة وقد قدر لها مهرا وقت العقد، فالواجب عليه هو نصف المهر الذي تراضيا عليه وقت العقد. وقد صرحت الآية بوجوب النصف، ولم تصرح بوجوب دفعه ؛ لأنه عسى أن يكون قد قدم لها المهر كله أو بعضه، بل إن ظاهر الحال أنه يكون قد قدم المهر كله، أو نصفه، أو أكثر منه، فكان التعبير بالوجوب ليبين حق المطلق في استرداد ما دفعه أكثر من النصف، وليشمل وجوب الأداء ومقداره إن لم يكن قد أدى شيئا أو أدى أقل من النصف.
[ إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ] هذا استثناء من الوجوب الذي قدره الله سبحانه وتعالى بالنصف، وهذا الاستثناء يبين الله سبحانه وتعالى فيه أن وجوب المهر إنما هو لحق العاقدين، وأن العفو عنه بابه متسع لمن يريد أن يصل إلى رحابه الفسيح، والعفو معناه : الإبراء والتنازل عن المطالبة سماحا، فإن كان الزوج أدى المهر كله فقد فتح له الشارع باب العفو بأن يترك لها حقه مبالغة في مرضاتها، وقد أرمض نفسها ١ بالطلاق، وإن كان الزوج لم يقدم لها مهرا، وحدث الطلاق برغبة منها فإنه يحسن العفو منها وترك المطالبة، حتى لا تصيبه الخسارة في عقد لم ينل منه مأربا، وقد يكون مظهر العفو بالعطاء بأن يقدم الرجل كل صداقها إن لم يكن قد أعطاها شيئا منه. وفي الجملة إن العفو مستحسن من كل منهما في موضعه، فيستحسن منها إن كانت راغبة في الطلاق غير راضية بالبقاء، ويحسن منه إن كان الطلاق بغير طلبها.
و قوله [ إلا أن يعفون ] معناه : إلا أن يعفو النساء عن صداقهن، أو عن حقهن، فالنون هنا نون النسوة، ووزن يعفون يفعلن.
و معنى قوله تعالى :[ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ] أي يعفو الزوج الذي بيده عقدة النكاح، فيستطيع فكها بالطلاق إن شاء، وإبقاءها إن شاء. وقيل : إن المراد به الولي الذي عقد الزواج، وذلك لأن الولي على مقتضى مذهب جمهور الفقهاء هو الذي تولى عقد الزواج، فهو الذي بيده عقدته. وإن الذي نختاره هو أن المراد الزوج لا الولي، وذلك لأمور ثلاثة :
أولها : إن العقدة ليس معناها العقد، لأن العقد هو الربط الذي يتم به الاتفاق بين الرجل والمرأة ويكون به النكاح، وهو الزواج، أما العقدة، فهي الرابطة التي تكون بعد العقد أو الأثر الذي ينتجه العقد. ولاشك أن العقدة بهذا المعنى يملكها الزوج، ولا يملكها الولي.
ثانيها : إن مقتضى الآية أن من بيده عقدة النكاح أي الزواج يستطيع أن يعفو عن مقدار من المهر، ومن المقررات الفقهية أن الولي على النفس ليس له أن يسقط حقا ماليا، خصوصا إذا كان في وقت الطلاق.
ثالثها : إن العفو من جانب النساء يثبت بقوله :[ يعفون ] والعفو مستحسن من الرجل، كما هو مستحسن من المرأة، وكل له موضع. فإذا ذكر الله سبحانه عفوهن، فمقتضى السياق أن يذكر عفو الرجل، ولو فسر قوله :[ بيده عقدة النكاح ] بولي الزوجة لكان هذا أن العفو هو المستحسن من النساء دائما، مع أن الله يقول مخاطبا الجميع :[ وأن تعفوا أقرب إلى التقوى ].
و التعبير بقوله تعالى عن الزوج بأنه بيده عقدة النكاح يشير إلى أن الزوج هو الذي يملك فك الزواج بالطلاق، فكان العفو من جانبه أحق وألزم.
[ و أن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم ] في هذه الجملة الكريمة إشارة إلى وجوب التسامح والتعاطف في وقت ذلك الافتراق القاطع، وإلى أنه تجب الرحمة في وقت الانفصال، ولذلك صرح سبحانه بأن العفو : أي ترك بعض الحقوق في ذلك الوقت، أقرب لتقوى الله سبحانه، وأدنى إلى رضاه، لكي يكون الافتراق بمفرده، ولا تكون مشاحة تدفع إلى المشادة، ثم إلى الخصومات التي تورث العداوات، وتستمر الأحقاد بين الأسرتين، وتكون الإحن ومن ورائها المحن.
و لقد ذكر سبحانه أهل الفضل بفضلهم فقال :[ ولا تنسوا الفضل بينكم ] أي لا يذهب بكم الغضب والمكايدة إلى درجة لا تتذكرون فيها ما يكون عندكم من شمم وإباء، وإرادة للتفضل والعطاء.
و الفضل في أصل معناه : الزيادة في كل شيء، وأكثر ما يكون في الزيادة في الأشياء المحمودة، ولذا صار يطلق بمعنى العلو، فيقال : فضل هذا على ذاك كذا. ومنه الفضيلة، لما فيها من خير زائد، ولما فيها من علو نفسي وكمال وسمو.
فالله سبحانه وتعالى، حين ذكر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات، ليكونوا هم الأعلين دائما.
و لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجهون ذلك الاتجاه السامي، فيروى أن بعض الصحابة تزوج امرأة، وطلقها قبل أن يدخل بها، فأعطاها الصداق كاملا، فقيل له في ذلك، فقال : أنا أحق بالعفو منها.
و يروى أن جبير بن مطعم تزوج ابنة سعد بن أبي وقاص، ثم طلقها قبل الدخول وبعث لها المهر كاملا، فقيل له : لم تزوجتها ؟ فقال : عرضها علي فكرهت رده، قيل : فلم بعثت بالصداق ؟ فقال : وأين الفضل ؟.
و لقد ذيل الله سبحانه وتعالى أوامره الحاسمة، وإرشاده الحكيم بقوله عز من قائل :[ إن الله بما تعملون بصير ] للإشارة إلى أنه مطلع على حركات الجوارح، وخلجات النفوس، ونيات القلوب، وما تخفي الصدور، فليعلموا ذلك، فإن العلم به يربي فيهم المهابة منه سبحانه وتعالى، إذ يشعرون برقابته، فيكفكفون ٢ من غضبهم، وينهنهون ٣ من حدتهم وقت الطلاق، حتى لا يذهب بهم فرط الغضب إلى نسيان المعروف، وتجاهل الفضل، فلا يسرحوا بإحسان بعد أن فات الإمساك بمعروف.
و قبل أن ننهي الكلام في معاني هذا النص الكريم لابد من الإشارة إلى أمرين :
أولهما : لماذا كان المهر في الزواج من جانب الزوج ؟
و الثاني : ولماذا وجب النصف أو ما في معناه، وهو المتعة إن حصل الطلاق قبل الدخول ؟
و الجواب عن السؤال الأول : أن المهر شرع في الزواج على أنه ثمرة من ثمرات العقد، وأثر من آثاره، وليس ركنا من أركانه، وليس شرطا من شروطه، فليس هو كالثمن في البيع كما فهم بعض الذين لا يفقهون المعاني الشرعية على وجهها، وشرعيته على أنه هدية واجبة من الرجل لزوجته ؛ لأن المرأة إذ تنتقل من بيت أبيها إلى بيت زوجها، تستقبل حياة جديدة، وهي تحتاج في سبيلها إلى ثياب، وزينة وعطر وغيرها بالقدر الذي يليق بحالها، فكان من اللازم أن يقوم لها الزوج ببعض ما يعينها على ذلك، ولذا أوجب الله لها المهر، وأوجب العرف أن يقدم بعضه على الزفاف إليه.
و قد جرى عرف الناس على أن المرأة هي التي تعد أثاث البيت، وما يحتاج إليه من فراش، فكان من الواجب أن يعينها الزوج على ذلك ببعض المال يقدمه، فكان هو المهر، أو بعبارة أدق معجلة.
و إن تقديم المهر من جانب الرجل هو النظام الفطري ؛ لأن الرجل هو الكادح العامل الكاسب للمال. وقد خالفت أوروبا ذلك النظام الفطري، فجعلت المرأة تقدم مالا، هي، فكانت الفتاة تسعى إليه، فتتعثر فطرتها، وتنحرف عن الفضيلة، وتقع في حمأة الرذيلة قبل أن تصل إلى المال الذي تعده لخطيبها، فكان ذلك جزاء كل جماعة خالفت فطرة الله التي فطر الناس عليها.
هذا هو الجواب عن السؤال الأول، أما الجواب عن السؤال الثاني، وهو يتعلق بالسبب في وجوب النصف بدل الجميع عند الطلاق قبل الدخول، فنقول : إن إعطاء نصف المهر أو المتعة من قبيل التسريح بإحسان كما أشرنا من قبل، وقد قال تعالى :[ وسرحوهن سراحا جميلا ٤٩ ] ( الأحزاب ) وإن التفرقة قبل الدخول تجرح إحساس المرأة إن لم تكن بطلبها، فأوجب سبحانه نصف المهر، ثم حث الرجل على إعطائها النصف الثاني فضلا وسماحا.
و ذلك شرع الله، وهديه الحكيم، و إرشاده السامي، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
١ الرمض : شدة الحر. والإرماض كل ما أوجع. يقال : أرمضني أي أوجعني. وارتمض الرجل من كذا أي اشتد عليه وأقلقه. [ لسان العرب ـ باب الضاد ـ رمض ]..
٢ الكفكفة : كفك الشيء، أي ردك الشيء عن الشيء، وكفكفت دمع العين.[ لسان العرب – الكاف – كفف ]..
٣ النهنهة: الكف. تقول : نهنهت فلانا إذا زجرته فتنهنه أي كففته فكف. [ لسان العرب – باب النون – نهنه ]..
[ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ( ٢٣٨ ) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ( ٢٣٩ ) ].
توسطت الآيات التي تبين أحكام الأسرة، وعلاقات الزوجين عند الافتراق بالطلاق، أو عند التفريق بينهما بالموت – آيتان كريمتان تدعوان إلى الصلاة والمحافظة عليها، والإتيان بها على وجهها الكامل : من قنوت لله، وخضوع له، وخشوع وابتهال وضراعة، ولذلك التوسط مغزاه ومرماه، ذلك بأن الله سبحانه وتعالى دعا إلى العفو والتسامح، وعدم نسيان الفضل عند الافتراق، ومنع المشاحنة والمنازعة حيث تتوقعان، ولقد بين سبحانه بعد ذلك ما يربي في النفس نزوع التسامح، والبعد عن التجافي، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى، والإحساس بالخضوع له والانصراف إليه، ومحبته وطلب رضاه، فإن من يحب الله ورضوانه يحب الناس ولا ينازعهم ؛ لأن الله سبحانه رب الناس وخالق الناس، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء، والمحبة في الله والبغض في الله ركن الإيمان، ولا يكون ذلك كله إلا بالقيام بالصلاة وأدائها على وجهها، ولذا قال تعالى :[ إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر... ٤٥ ] ( العنكبوت ). وإن أداء الصلاة على وجهها والقيام بحقها ليس أمرا صغيرا، بل إنه أمر كبير خطير، له نتائجه العليا في الاتجاه بالنفس الإنسانية نحو السمو والتعالي عن متنازع الأهواء في هذه الحياة، ولذلك قال تعالى في الاستعانة على التغلب على الأهواء في حياتنا الدنيا :[ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ٤٥ ] ( البقرة ).
و قد يقول قائل : أفما كان الأولى أن تذكر آيات الصلاة بعد بيان أحكام الأسرة كلها ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن الحق الذي لا ريب فيه هو فيما سلكه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كتاب الله ليس مؤلفا ينهج مناهج التأليف من حيث التبويب والتقسيم، بل إن كتاب الله تعالى كتاب عظة واعتبار، وبيان شرع، وإرشاد، ولترتيب منهاجه وحده، ولا يضارعه كتاب فيه، فهو يتتبع في ترتيبه تداعي المعاني في النفس، وتواردها على الفكر، ويأتي بالحكم حيث تتطلع النفوس إليه، فيملؤها ببيانه الرائع، وحكمه الخالد.
و لاشك أن العقل البشري يتطلع ويستفهم كيف يمكن تذكر الفضل في وقت تلك الفرقة التي في أغلب أحوالها تكون نتيجة للبغض الشديد، وكيف يكون التسامح والعفو في موطن تحكم البغض، فأجاب الله سبحانه داعية العقل، وتطلع الفكر، بأن الصلاة على وجهها حيث يخاطب العبد ربه، وينصرف إليه خاشعا ضارعا محسا بعظمته وتجليه، ومتجها إليه سبحانه في علو سلطانه، إن ذلك كله هو الذي يعلو بالنفس عن شهواتها، و يصعد بها في سموها، تعالت كلمات الله العلي القدير، وتسامت حكمة العليم الخبير.
[ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ] الصلوات جمع صلاة، والصلاة لها معنى إسلامي، وهي تلك الهيئة المعروفة، ومعنى آخر وهو الدعاء والتسبيح، والمراد هنا المعنى الإسلامي، وهذا أمر صريح بالمحافظة على الصلاة، وحفظ الصلاة معناه : المداومة عليها، والاستمرار على أدائها، وعدم التهاون في ركن من أركانها، فالمحافظة على الصلاة تقتضي لا محالة أمرين :
أولهما : أداؤها باستمرار في أوقاتها من غير تخلف ولا تفريط، وهذا هو الحد الأدنى في المحافظة.
و ثانيهما : هو الإتيان بها كاملة الأركان مستوفية للشروط، تشترك فيها النفس مع حركات الجسم، ويشترك فيها القلب مع حركات الجوارح وما ينطق به اللسان، فإن قال في صلاته :( الله أكبر ) أحس بجلال الألوهية، وعظم الربوبية، وأخلص قلبه للعبودية، وإذا قال :( الحمد لله رب العالمين ) استشعر معاني الشكر والثناء على ذات الله العلية بما هو في طاقة العبد الأرضية، وهكذا في كل ما ينطق به، وفي كل ما يعمل من ركوع وسجود، حتى إنه لا ينتهي من صلاته إلا وقد صار كله لله، وامتلأت نفسه بهيبته، وقلبه بعظمته، وعقله بنوره، وبذلك يتحقق المعنى السامي في الصلاة، وهو نهيها عن الفحشاء والمنكرات، والتسامي بصاحبها عن متنازع الأهواء.
و هنا بعض الإشارات اللفظية التي لابد من التصدي لها بإجمال، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى عبر عن إقامة الصلاة المطلوبة بالمحافظة عليها فلم عدل عن التعبير بإقامة الصلاة إلى التعبير بالمحافظة ؟ ولماذا قال سبحانه وتعالى :[ حافظوا على الصلوات ] ولم يقل : احفظوا الصلوات ؟
و الجواب عن السؤال الأول : أن المحافظة والحفظ تتضمن مع الأداء والإقامة معنى الصيانة والحياطة، فهي فوق ما تدل عليه من طلب الإقامة على وجهها، تدل على أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس عزيز تجب حياطته وصيانته، وأن من نال فضل الصلاة فقد نال أمرا عظيما وخطيرا، وقيما في ذات نفسه.
و أما الجواب عن السؤال الثاني : وهو التعبير بالمحافظة بدل الحفظ فهو : أن التعبير بالمحافظة يدل على المداومة، والاستمرار، ولأن الأصل فيه أن يكون للأفعال التي تكون من جانبين مشتركين، لأنه من مادة المفاعلة التي تدل على المشاركة، وقد تتضمن المنازعة أو المقابلة، والمداومة على الصلاة فيها هذا المعنى الجليل، وقد وضحه الراغب الأصفهاني بقوله في المفردات :( إنهم يحفظون الصلاة بمراعاتها في أوقاتها ومراعاة أركانها والقيام بها في غاية ما يكون من الطوق، وإن الصلاة تحفظهم الحفظ الذي نبه الله سبحانه وتعالى عليه في قوله :[ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ٤٥ ] ( العنكبوت ) فالمشاركة في الحفظ بين الصلاة وبين من يؤديها : يحفظها هو بأدائها على الوجه الأكمل، وتحفظه هي نفسه بإبعاده عن السوء ).
و قد قيل إن المحافظة بين العبد والرب، العبد يحفظ الصلاة ويصونها ويؤديها على وجهها، والرب يحفظه ويصونه عن المعاصي، وهذا في المعنى الأول أو قريب منه.
و يصح أن يكون معنى المحافظة هو المداومة عليها بمغالبة دواعي التفريط مما توسوس به النفس في الطاعات، فصيغة المحافظة ليست للدلالة على المشاركة في الحفظ، بل تدل على المغالبة في سبيله، كالمصابرة، وذلك لأن من يديم الصلاة مقيما لها على وجهها تقاومه نوازع النفس الأمارة بالسوء، وإن ذلك يقتضي مغالبة نفسية، فكان التعبير بالمحافظة دالا على ذلك أو مشيرا إليه.
و إلى هذا المعنى أشار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما رواه عنه السيد رشيد رضا من تفسير.
و لقد قال سبحانه بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عامة :[ والصلاة الوسطى ] فما هي الصلاة الوسطى التي خصها الله سبحانه بالذكر، أهي واحدة من ذلك المجموع الذي أمر به، أم هي المجموع موصوفا بهذا الوصف ؟
في التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين اتجاهان واضحان :
أحدهما : اتجاه الجمهور وهو أن الصلاة الوسطى واحدة من الخمس الصلوات المفروضة وإن اختلفوا في تعيينها، وكثرتهم على أنها صلاة العصر، لوصف النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بأنها الوسطى ١، ولأنها تقع في وسط الصلوات الخمس، فقبلها اثنان وبعدها اثنان، ولأنها وسط بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، فمعنى التوسط فيها واضح، وخصت بالمحافظة عليها، لأنها مظنة التفريط، إذ تجيء بعد القيلولة، فيكون كسل، فخصت بالذكر لهذا المعنى لا لأنها أفضل من غيرها، فجميعها قربات تزكي النفس وتطهر القلب.
والاتجاه الثاني : وليس عليه الجمهور من التابعين أن المراد بالصلاة الوسطى الصلاة كلها، والوسطى ليس معناها المتوسطة، بل الوسطى معناها الفضلى، وذلك لأن الوسطى مؤنث أوسط، والأوسط في أكثر استعمال القرآن الأمثل والأفضل، ولذا قال سبحانه :[ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ٢٨ ] ( القلم ).
و المعنى على ذلك الاتجاه : حافظوا على الصلوات كلها بالمداومة عليها، وحافظوا على أن يكون أداؤكم لها من النوع الأمثل الفاضل بإقامة الأركان خاشعين متبتلين خاضعين منصرفين في أدائها عن كل شئون الدنيا متجهين إلى رب العالمين دون سواه.
و هنا يرد سؤال : لماذا جمع الصلوات في الأول، وأفرد الصلاة في الثاني ؟
و الجواب عن ذلك أن المراد من الصلوات في الأول الفرائض الخمس بأعيانها، والمعنى في الصلاة في الثاني هو الفعل، فكان المؤدى : داوموا على الصلوات وأن تكون صلاتكم كلها من النوع الأمثل الفاضل.
و قد روي هذا الاتجاه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد اختار ذلك الاتجاه الحافظ أبو عمر بن عبد البر إمام الأندلس في الحفظ والآثار، وإنا نميل إلى ذلك، وخصوصا أن الروايات في كونها صلاة معينة من الخمس متضاربة، فقيل العصر، وقيل الظهر، وقيل الصبح، وقيل الجمعة، وقيل الظهر والعصر، وقيل الصبح والعصر، وإزاء ذلك نميل إلى ما اختاره ابن عبد البر، وهو الثقة الثبت في الحفظ ونقد المتن والرجال.
[ و قوموا لله قانتين ] القنوت في معناه المداومة على الفعل، وقد خصه القرآن الكريم بمعنى الدوام على الطاعة والملازمة لها وأدائها على وجهها، ومن ذلك قوله تعالى في وصف نبيه إبراهيم عليه السلام :[ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا... ١٢٠ ] ( النحل ) وقال سبحانه مخاطبا نساء النبي صلى الله عليه وسلم :[ ومن يقنت منكن لله ورسوله... ٣١ ] ( الأحزاب ) وقال في وصف المؤمنين والمؤمنات :[ و القانتين والقانتات... ٣٥ ] ( الأحزاب ).
فالقنوت على هذا المعنى الإسلامي الرائع : ملازمة الطاعة والقيام بالعبادة في خشوع ضارع، وانصراف كامل، وشعور بالعبودية الحقة لله رب العالمين، فمعنى قوله تعالى :[ وقوموا لله قانتين ] : قوموا بعبادتكم على وجهها الكامل ملازمين للخضوع والخشوع، غير مفرطين ولا منصرفين عن رب العالمين، مستشعرين عظمته، قد ملأت قلوبكم هيبته.
و نرى من هذا أن قوله تعالى :[ و قوموا لله قانتين ] يزكي ما اختاره ابن عبد البر ويقويه، وهو أن معنى الصلاة الوسطى، الصلاة الفضلى والمثلى، وهي التي تؤدى على الوجه الأكمل.
و لهذا المعنى السامي في الصلاة، كانت أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله، فإن كانت ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )هي الفارق بين الإسلام والكفر، فالصلاة ثمرتها الأولى، والدعامة من بعد ذلك لكل الطاعات والفرائض، بها إن أديت على وجهها تستعصم النفس عند الشهوات، وبها إن أديت على وجهها يلتزم العبد ما أمر الله، وينتهي عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، وبها يكون التعامل الفاضل بين الناس بعضهم مع بعض، لأنها ذكر دائم لله سبحانه وتعالى، فتمتلئ النفس البشرية بعظمة الله، وتستنير البصيرة، ويتجه المؤمن إلى الخير، ولقد قال بعض العلماء إن ترك الصلاة كفر وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "٢. وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما ذكر الصلاة :" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف "٣.
١ عن علي – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب :" شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا " ثم صلاها بين العشاءين، بين المغرب والعشاء.
[ رواه مسلم : المساجد ومواضع الصلاة – الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (٩٦٦)، والبخاري : الجهاد والسير – الدعاء على المشركين (٢٧١٤) ]..

٢ [رواه مسلم : الإيمان – بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (١١٦) كما رواه الترمذي : الإيمان (٢٥٤٤)، وأبو داود : السنة (٤٠٥٨)، وابن ماجه : إقامة الصلاة (١٠٦٨)، وأحمد : باقي المكثرين (١٤٤٥١)، والدارمي : الصلاة :(١٢٠٥) ]..
٣ رواه بهذا اللفظ الدارمي : الرقاق – في المحافظة على الصلاة (٢٦٠٥)، وبنحوه أخرجه أحمد : مسند المكثرين (٦٢٨٨) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه..
ولأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة، ولا تجب على فريق دون فريق، فلها عموم الوحدانية، ولها لزوم الشهادتين، فأكثر العبادات قد تسقط عن فريق دون فريق إلا الصلاة، فإنه لا رخصة لسقوطها، ولذا وجبت في حال الأمن والخوف، وقال تعالى في حال الخوف :
[ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ] هذا بيان ما يجب من الصلاة حال الخوف، وهي أعم من حال الحرب، وأخص منها، فبينهما ما يسميه المناطقة عموم وخصوص من وجه، فإن حال الخوف قد تكون في حال الحرب، وقد تكون في غيرها كهجوم وحش مفترس، وحال الحرب ليست دائما حال خوف، فقد يكون فيها وقت يأمن على نفسه فيصلي آمنا مؤديا الأركان بالجوارح.
و إيجاب الصلاة في حال الخوف وحال الأمن يدل على أمرين :
أحدهما – أن الصلاة ركن لا يقبل السقوط إلا في حال العجز التام حتى عن الصلاة بالإيماء، وقد نوهنا إلى ذلك من قبل، وبينا أنها اختصت من بين الفرائض العملية بذلك.
ثانيهما – أن الصلاة في لب معناها هي اتجاه القلب، وعمل الحركات مظهر ذلك الاتجاه القلبي، والنزوع الروحي السامي، فإذا حالت الأحوال دون القيام ببعض هذه الحركات من ركوع وسجود كاملين أغنت عنهما الإشارات إليهما، وهو ما يسمى الصلاة بالإيماء، والمعنى متحقق في الحالين، ولكن لا ينتقل المصلي من حال كمال الحركات إلى ما دونها إلا عند تعذر الإتيان بها كاملة في نحو خوف أو مرض.
و قد رخص الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في حال الخوف أن يصلوا رجالا، أي راجلين مشاة على أقدامهم، أو وقوفا في أماكنهم، وأن يصلوا ركبانا أي راكبين.
و ركبان جمع لراكب، وأما رجالا فهي كما يقول الزمخشري : جمع راجل كقيام جمع لقائم، أو جمع رجل يقال رجل رجل أي راجل، وتوجيه قول الزمخشري أنه يقال رجل الإنسان يرجل إذا لم يكن معه ما يركبه ومشى على قدميه فهو رجل ورجل بضم الجيم ورجلان ورجيل ورجل بسكون الجيم، ويجمع في الأحوال كلها على رجال. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه :( اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي بالرجل، ورجل.. ويقال رجل راجل أي قوي على المشي، جمعه رجال ).
و الخلاصة : أن الصلاة كما تؤدى بالحركات كاملة، تؤدى بالإشارة إليها بما يكون في وسع المكلف القيام به، وذلك لأن الصلاة كما قلنا، في لب معناها، اتجاه قلبي إلى الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.
و قد يقول قائل : إن الصلاة إذا كان ذلك لب معناها فلماذا كانت تلك الحركات ؟ ألا يغني فيها الاتجاه القلبي، وحصر الذهن والنفس لله، وفي ذلك عمران القلب بذكر الله وامتلاء النفس بهيبته ؟ قد يقول قائل ذلك، وقد قاله بعض المقلدين الفرنجة، واتبعوا من زعم أن ذلك طريق الإصلاح الخلقي. وقد يكون ذلك القول مجديا لو كان يمكن تحقق معناه من غير تلك الحركات، ومن غير هذه الأقوال التي تشتمل عليها الصلاة. إن هذه الحركات معين لاستذكار القلب، وامتلاء الفكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، والأقوال التي تقال في الصلاة هي لهذا الاستحضار، ف ( الله أكبر ) التي تتكرر عند الانتقال من حال إلى حال هي في معناها لملء النفس بعظمة الله، والآيات التي تتلى هي حمد لله، وثناء على الله سبحانه وتعالى، وشعور بالربوبية وسلطان الله سبحانه مالك يوم الدين، ودعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وتجنب طريق الضالين. والحركات هي مظاهر الطاعة والخضوع، والقيام بحق الربوبية.. وهكذا كل قول وفعل في الصلاة إنما هو لتوجيه القلب نحو الملكوت الأعلى، و ذكر الله العلي القدير، اللطيف الخبير.
و لا يمكن استحضار القلب لذكر الله بغيرها، بل إنها تكون ثمرة ذلك الاستحضار، فإن القلب إذا شعر بعظمة الله نطق اللسان بها وتطامنت الرأس خضوعا، وخر الإنسان ساجدا صاغرا لله رب العالمين.
[ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ] أي إذا زال الخوف، وأقبل الأمن، فأقيموا الصلاة مستوفية لكل الأركان، أي تأتون بحركاتها كاملة، وذلك في معنى قوله تعالى بعد بيان صلاة الخوف :[ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ١٠٣ ] ( النساء ).
فالذكر المراد به هنا الصلاة الكاملة المستوفية الأركان، وعبر عنها بالذكر للإشارة إلى أن المغزى فيها هو ذكر الله تعالى، وإلى أن ذكر الله مطلوب أشد الطلب، وأن الصلاة بغيره لا تسمى صلاة ولو كانت مستوفية الأركان الظاهرة، وبهذا يتبين أن هذه الحركات مهما تكن كاملة لا يمكن أن تغني عن استحضار القلب لمعاني العبودية والخضوع الكامل لرب العالمين، ولذا يقول الصوفية : إن الصلاة بغير هذه المعاني الروحية لا تكون صحيحة مهما تكن كاملة من حيث الأقوال والأفعال.
وقوله تعالى :[ كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ] أشار فيها الزمخشري إلى تفسيرين، على أن النص الكريم يحتملهما :
أحدهما : أن المعنى أدوا الصلاة كاملة كما علمكم على لسان رسوله الكريم، وبأفعاله، بأن تأتوا بالركوع والسجود تامين، فالكاف معناها المشابهة بين ما يفعلون وما يطلب منهم فعله، وبين ما علمهم إياه رب العالمين بتبليغ النبي الأمين إذ قال :" صلوا كما رأيتموني أصلي"١.
و ثانيهما : أن المعنى أدوا الصلاة شاكرين حامدين ذاكرين رب العالمين، ويكون ذكركم مقابلا بما أنعم الله به عليكم من تعليمكم شريعته التي يكون في إتباعها صلاح حالكم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا صلاح أنفسكم وأسركم ومجتمعكم، وفي الآخرة بالزلفى لرب العالمين، ويكون معنى الكاف على هذا هو المشابهة المقربة بين النعم التي أسبغها عليكم، والتكليفات العبادية التي كلفكم إياها، فيكون الشكر بالعبادة مشابها ومماثلا لنعمة التعليم التي علمنا الله إياها بتلك الشريعة المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا معنى قول بعض العلماء : إن الكاف هنا للتعليل، وذلك مستقيم من حيث المؤدى وإن كانت مع ذلك لم تخرج عن معنى التشبيه والمماثلة.
و لعل التفسير الثاني الذي أشار إليه الزمخشري ووضحناه بعض التوضيح هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة التي تسبق آية الصلاة وتلحقها، لأن فيها إشارة إلى أن تعليم الله تعالى لنا ما علم من أحكام الشرع الشريف هو في ذاته نعمة تستحق الشكر لله وذكره سبحانه، فالصلاة وإن كانت باعثة على أحسن التعامل، هي كذلك شكر للمنعم على ما علم وأنعم وهدى.
و في الآية الكريمة بعض إشارات لفظية نذكرها : ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في حال الخوف :[ فإن خفتم ] معبرا سبحانه بإن الدالة على التعليق في موضع الشك أو القلة، وفي حال الأمن قال :[ فإذا أمنتم ] معبرا بإذا الدالة على التحقيق والكثرة، وفي ذلك إشارة إلى أن حال الأمن هي الكثرة، وهي الأمر المحقق الثابت، وأن حال الخوف هي القلة وهي ليست أمرا مؤكدا ثابتا. وفي ذلك بيان لنعم الله على الإنسان أنه وهبه الأمن والدعة والاطمئنان، وما يكون من اضطراب وجزع وقلق فمن فعل الإنسان. فقد وهب الله الإنسان العقل، وجعله في أطوار نفسه يألف ويؤلف، فإذا غلبته شقوته فبدل من الأمن حربا، ومن السلام خصاما، فقد تعدى حدود الله وتجاوز فطرته، والله من ورائهم محيط.
١ جزء من حديث أخرجه البخاري : الأذان – الأذان للمسافر (٥٩٥)، ومسلم : المساجد (١٠٨٠) غير أنه لم يذكر قوله صلى الله عليه وسلم :" صلوا كما رأيتموني أصلي "، ورواه الدارمي بنحو من رواية البخاري : الصلاة – من أحق بالإمامة (١٢٢٥)..
[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم ( ٢٤٠ ) وللمطلقات متاع بالمعروف حق على المتقين ( ٢٤١ ) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتقون ( ٢٤٢ ) ].
توسطت آيات الصلاة بين الآيات التي تبين ما للمعتدات وما عليهن، وذلك ليتوسط التهذيب النفسي التعامل الاجتماعي، وليستبين المؤمن أن التقوى أساس الصلاة التي تربط آحاد الأسرة، وأن التقوى لازمة لتكون روح الاتصال، وميزان الاعتدال عند قيام الحياة الزوجية وعند انقطاعها.
و قد بينت الآيات السابقة ما للمطلقة من حقوق أوجبها العقد نفسه، فنصف المهر أو المتعة عند الطلاق قبل المسيس وقبل تسمية المهر أمران أوجبهما العقد نفسه ؛ لأن العقد الصحيح يوجب مهرا على أي صورة كان المهر.
و هاتان الآيتان اللتان سنتكلم في معناهما تبينان ما يجب ليكون الانتهاء من غير قطيعة، ولتكون المودة موصولة بعد انتهاء عقد النكاح، والوجوب فيهما لا يشتق من ذات العقد، ولكنه يترتب على انتهاء العقد، وتوجبه الأخلاق الكريمة.
و الآية الأولى تبين ذلك النوع من الحقوق الذي يجب للمتوفى عنها زوجها، والثانية تبين ما يجب للمطلقة على أنه أثر للطلاق نفسه، لا على أنه من مقتضى عقد الزواج، كنصف المهر، أو المتعة السابقة.
[ و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ] والمعنى الجملي للآية الكريمة – فيما يظهر ويبدو بادي الرأي – أن الذين يتوفون ويذرون أي يتركون أزواجا، والمراد الزوجات، لأن كلمة الزوج تطلق على الذكر والأنثى، فرض الله وصية لهؤلاء الزوجات متاعا أي انتفاعا مستمرا إلى نهاية الحول، أي حتى يحول الزمن ويجيء الوقت الذي مات زوجها فيه [ غير إخراج ] أي ينتفعن بالإقامة في مسكنهن الذي كن يسكن فيه في حياة أزواجهن من غير إخراج منه، ويصح أن يقال غير مخرجات منه، فيكون المصدر على معنى اسم المفعول، والمؤدى واحد.
و هنا بعض مباحث لفظية نشير إليها :
أولها : كلمة " وصية" فيها قراءتان مشهورتان، إحداهما بالفتح، والثانية بالضم، وعلى قراءة الفتح يكون تقدير القول : كتب الله وصية متاعا إلى الحول غير إخراج. وعلى قراءة الضم يكون تقدير القول : عليهم وصية لأزواجهم حال كون هذه الوصية متاعا للحول غير إخراج، أو لأجل الانتفاع إلى الحول غير إخراج.
ثانيها : إنه عبر بحول بدل سنة، للدلالة على التحول حتى تعود الأيام التي كانت فيها الوفاة، ولو قيل إلى السنة مثلا لاحتمل أن ينتهي الانتفاع بالسكن بانتهاء السنة التي حصلت فيها الوفاة، ولو لم يحل الحول، فكان التعبير السامي بالحول نصا في أن يمر عام كامل من وقت الوفاة.
ثالثها : قوله " غير إخراج " فالمعنى : غير مخرجات، أو يبقين في مسكنهن من غير إخراج من ورثة المتوفى لهن، والتعبير بالمصدر في هذا المقام هو الأصل، وهو المغزى والمرمى، لأن الوصية هي عدم الإخراج، فالوصية ألا يخرجن، ولذلك كان التعبير بالمصدر هو الأصل، وقوله " غير إخراج " صفة لمتاعا، ومتاعا بدل أو عطف بيان لكلمة " وصية " على قراءة النصب، وحال على قراءة الرفع، أو تمييز.
رابعها : إن الله سبحانه وتعالى عبر عن حق الانتفاع بالسكنى سنة بعد الوفاة بأنه وصية، وبأنه متاع، أما التعبير بأنه وصية، فلأنه حق يثبت بعد وفاة الزوج في ماله لا على أنه ميراث، بل على أنه وصية أوجبها الله سبحانه وتعالى بموجب الفرقة بالوفاة، فهو يثبت من غير أن يكون له أثر في قدر ميراثها في تركة زوجها، وأما التعبير عنه بمتاع، فلأنه بمقابل ما للمطلقات من متاع في الآية الكريمة التالية [ و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ٢٤١ ].
[ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ] بقاء المتوفى عنها زوجها سنة في مسكن الزوجية من غير نظر إلى مقدار ميراثها ومن غير تأثير في مقداره أيا كان ذلك المقدار هو حق للزوجة، وليس بواجب عليها، وكان حقا لها من قبيل أنه متصل بحقوق الميت في تركته، فكأن حق الزوجة من المقام في بيت الزوجية من المقام سنة بعد الوفاة هو من قبل حقوق المتوفى في ماله كالديون.
و لما كان ذلك حقا لها، وهو واجب على الورثة أن يوفروه، فليس واجبا عليها، فلها أن تبقى ولها أن تخرج، ولذا قال تعالى :[ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ] أي فإن خرجن مختارات راضيات راغبات غير مخرجات، فلا إثم عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي فيما فعلن من أمور تتعلق بأنفسهن، أي أن البقاء في مسكن الزوجية وعدم البقاء أمر يتعلق بأنفسهن وهن أدرى بمصلحة أنفسهن، في ذلك، فإن وجدت مصلحتها وراحتها واطمئنانها وقرارها في أن تنتفع بحق البقاء سنة كاملة بعد وفاة زوجها فإنها تبقى، ويجب أن تمكن من ذلك، ولا يخرجها أحد، وإن رأت أن مصلحتها في أن تأوي إلى بيت ذويها، أو عرض لها أن تتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن لها ذلك.
و قد قيد نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن في أنفسهن بكلمة ( من معروف )، وهو الأمر الذي تقره الشرائع، و تعرفه العقول ولا يستنكر من أحد، قيد نفي الإثم بذلك، للإشارة إلى أن الجماعة الإسلامية مسئولة عما يقع من آحادها مخالفا للمعروف في الشرع والعقل، فمن يأثم فعلى الجماعة أن تعمل على إصلاحه، ولا ينتفي عنها الإثم حتى تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفسر بعض العلماء المعروف بأنه الزواج بعد انتهاء العدة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، والحق أن المعروف أعم من ذلك.
[ و الله عزيز حكيم ] ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذا للإشارة إلى ثلاثة أمور :
أولها : أن هذه الأمور التي شرعها الله في الأسرة إنما هي بحكمته، وفيها صلاح المجتمع، وإذا كان يسوغ أن تجبر المرأة على الخروج من منزل الزوجية بمجرد وفاة الزوج، فإن ذلك قد يؤدي إلى فساد كبير، وتهزيع للأخلاق، ولقد أعطاها الله سبحانه وتعالى ذلك الحق ردءا لهذا الفساد ومنعا له.
و ثانيها : إن الله سبحانه وتعالى غالب على كل شيء، وله سبحانه وتعالى العزة في السماوات وفي الأرض، وأن الورثة إن استضعفوا شأن المرأة فمنعوها حقها فالله فوقهم قاهر غالب، وهو مجازيهم بعملهم، وهو ناصر الضعيف.
و ثالثها : إشعار النفوس بتذكر الله رب العالمين عندما ينظمون علاقاتهم بعضهم مع بعض، وخصوصا في شئون الأسرة.
تبين مما سبق أن الآية الكريمة لا صلة لها بمدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها، لأن هذه الآية الكريمة بألفاظها ومعانيها لا تلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة كقوله تعالى :[ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء... ٢٢٨ ] ( البقرة ) وكقوله تعالى :[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا... ٢٣٤ ] ( البقرة ) إنما تدل هذه الآية على ما للمتوفى عنها زوجها من حق البقاء في بيت الزوجية سنة بعد موت زوجها، وأن لها أن تبقى فيه، وأن تخرج منه على ما تراه مصلحتها ويكون فيه اطمئنانها وقرارها.
و على ذلك لا تكون ثمة معارضة بأي نوع من أنواع المعارضة بين هذه الآية وقوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها [ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا... ٢٣٤ ] ( البقرة ) لأن هذه في بيان العدة، أما الآية التي نتكلم في معناها ففي بيان حق المرأة، لا بيان الواجب عليها.
و لكن فرض الكثيرون من المفسرين تعارضا بين الآيتين، واعتبروا الآية الأولى ناسخة للآية الثانية، وادعوا أن جمهور السلف على ذلك الرأي، واعتمدوا في ذلك على روايات رويت عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس وغيرهما.
و قد خالف ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، فروى عن مجاهد أن هذه الآية – وهي التي نتكلم في معناها – آية محكمة لا نسخ فيها، فقد قال مجاهد : العدة تثبت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، و إن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى :[ غيرإخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم ].
و لقد روى البخاري مثل ذلك عن مجاهد أيضا، فقد أخرج البخاري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ]. قال :"كانت هذه العدة تعتدها عند أهل زوجها واجبا، فأنزل الله تعالى :[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهن متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ] قال : جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت.
و بهذا التخريج وذلك السند يثبت أن لا تعارض قط بين الآيتين، وشرط النسخ التعارض ولم يوجد فلا نسخ، ولكن الجمهور من الفقهاء يعتمدون في النسخ على قوله صلى الله عليه وسلم :" إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي البعرة عند رأس الحول "١ ففي هذا الحديث تصريح بأن أربعة أشهر وعشر ليال نسخت وجوب البقاء حولا، وهذا كلام حق، وهو لا يخالف الآية التي نتكلم فيها، لأن الجاهلية كانت تجعل العدة سنة فجعلها الإسلام أربعة أشهر وعشرا، وهذه الآية لا توجب عدة الجاهلية، فهي لا تلزم المرأة بالامتناع عن الأزواج سنة كاملة، ولكنها تعطيها حق البقاء سنة كاملة، فهي تبين ما لها من حق، ولا تذكر ما عليها من واجب اكتفاء بما ذكر في آيات العدة التي تعتدها.
و على هذا نقرر أن حكم هذه الآية باق لم ينسخ، وثابت مقرر بنص القرآن الكريم، وقد قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد وجه الحكم بعدم النسخ من قبله فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد جاء فيه ما نصه بعد بيان قول من حكم النسخ :
القول الثاني قول مجاهد : إن الله أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين إحداهما ما تقدم وهو قوله تعالى :[ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا... ٢٣٤ ] ( البقرة ) والأخرى هذه الآية، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين، فنقول إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشرا في تلك الآية المتقدمة، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها والأخذ من ماله وتركته فعدتها هي الحول، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى حتى يكون كل واحد منهما معمولا به.
القول الثالث وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : إن معنى الآية من يتوفى منكم ويذرون أزواجا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي من نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، وعلى هذا التقدير النسخ زائل، واحتج على قوله بوجوه :
أحدهما : أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان.
و الثاني : أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في النزول، و إذا كان متأخرا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخر عنه في التلاوة أيضا، لأن هذا الترتيب أحسن،
١ سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم..
[ و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ( ٢٤١ ) ] بينت الآية السابقة حق المتوفى عنها زوجها من متاع أي انتفاع بالسكن بعد وفاته على ألا تخرج من بيت الزوجية، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حق المطلقات.
و المتاع في أصل معناه ما ينتفع به، وهو المعنى في قوله تعالى :[ وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ] وقد بينا ذلك فيما سبق من قول، وقد ذكرنا أيضا من قبل أن المتاع انتفاع ممتد الوقت، وهو على هذا التوجيه قد يراد منه النفقة أمدا طال أو قصر ؛ لأن النفقة، وهي الإدرار على الحي بما به حياته وبقاؤه، انتفاع ممتد في الزمان، وقد يراد المتعة أي إعطاء شيء من نحو الثياب ينتفع به أمدا ممتدا.
والمتاع في هذه الآية ما المراد به ؟ أهو المتعة التي ذكرناها في قوله تعالى :[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ٢٣٦ ] ( البقرة ) ؟ أم المراد الانتفاع بالنفقة في أثناء العدة ؟
ذكر الفخر الرازي أن معنى كلمة متاع للمفسرين فيها قولان :
أحدهما : إن المراد بالمتاع هو المتعة، وهو ما يعطيه المطلق للمطلقة لها من نصف المهر، أو كسوة أو نحو ذلك من كل عطاء غير ممنون لمطلقته ليكون التسريح بإحسان.
و القول الثاني : المراد به النفقة التي تكون للمطلقة في العدة.
و إن القول الأول قد خاض تحت ظله الفقهاء كل يريد أن يخرج الآية على مقتضى مذهبه، ومنهم من أطلق نصها وجعلها على عمومه، فأبو ثور والشافعي في أحد قوليه قد أخذا بعموم الآية الكريمة، وقررا أن لكل مطلقة متعة واجبة، فإنها قد وثق الوجوب فيها بقوله تعالى :[ حقا على المتقين ] ولا يوجد تعبير يوثق الوجوب كقوله تعالى :[ حقا على المتقين ]، لأن الوجوب فيه قد تأكد بأنه من موجبات التقوى التي يتقى بها العذاب، وبالتعبير بعلى التي تفيد الإلزام، وبكلمة " حقا" وهي مصدر حذف فعله، وهو يدل على تقرير الأمر وتثبيته.
و لقد اتبع هذان الإمامان في ذلك القول الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما.
و قال مالك قريبا من ذلك، وهو أن المتعة تكون واجبة لكل مطلقة إلا المطلقة المسمى لها مهر قبل الدخول بها، فقد جاء في المدونة في إرخاء الستور : جعل الله المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها، فأخرجها من المتعة.
و في قول آخر للشافعي : إن هذه الآية خاصة بغير المدخول بها التي لم يسم لها مهرا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه في المتعة الواجبة، وقد قال الطبري في ذلك إن الآية الأولى، وهي :[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ٢٣٦ ] ( البقرة ) : فهم بعض الناس منها أن المتعة لمن لم يسم لها مهرا ولم يدخل بها، من الإحسان غير الواجب وليست واجبة، فجاءت هذه الآية صريحة في الوجوب.
و على ذلك الرأي تكون هذه الآية عامة في لفظها أريد بها الخصوص في معناها.
هذه هي التخريجات الفقهية على تفسير المتاع بأنه المتعة، وقد رأيت اضطراب أقوال الفقهاء بشأنها واختلافهم في معناها، وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بالآية السابقة :[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ٢٣٦ ] ( البقرة ).
أما القول الثاني وهو تفسير المتاع بالنفقة فالذين قالوه أقل عددا، ولكنه أكثر اتساقا، وأبعد عن كل معاني التأويل، وقد قال فيه الفخر الرازي :
والقول الثاني بالمتاع النفقة، والنفقة قد تسمى متاعا، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى.
و نحن نوافق الرازي على أن ذلك التفسير أولى ؛ لأنه أولا يندفع به التكرار، وتندفع به ثانيا دعوى التخصيص ودعوى النسخ، ويندفع به الاضطراب الكثير في تحرير معنى الآية الكريمة السامية، وأخيرا هو الذي يتسق مع ما كان للمتوفى عنها زوجها من متاع هو السكنى، وهي إحدى شعب النفقة، فوجبت حقا في مال المتوفى، ولم يجب الباقي لعدم وجود من يجب عليه، أما المطلقة فتجب لها النفقة كاملة بشعبها الثلاث السكنى والطعام والكسوة، والله سبحانه هو العليم بمراده، تعالى كلام الله علوا كبيرا.
[ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ] بهذه الجملة الكريمة السامية ختم الله سبحانه وتعالى الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة، وقد ابتدأ بيانها بقوله تعالى :[ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ٢٢١ ] ( البقرة ).
و إن ذلك الختام الكريم فيه تصوير لبيان الله سبحانه وتعالى لأحكام الأسرة وشدة عنايته بأمرها، وتوضيح الأسس الصالحة التي تقوم عليها، والعدالة والمودة والرحمة التي تربط بين آحادها، وكيف فصل سبحانه القول فيها تفصيلا لم يفصله في غيرها من شئون الدين، فلم يبين الصلاة والزكاة والحج كما بين الله سبحانه في كتابه الكريم أحكام الأسرة والروابط التي تربط بين آحادها ؛ لأن الأسرة قوام المجتمع الإسلامي الفاضل، فإذا تزلزلت اضطرب ميزان الاجتماع، و تهدمت أركانه. [ كذلك يبين الله لكم آياته ] أي مثل هذا البيان القوي الواضح العالي الذي يوجه النفوس نحو المودة الرابطة، والرحمة العاطفة، والعدالة المنصفة، يبين الله سبحانه وتعالى آياته المتلوة، وآياته النفسية، وآياته الكونية، أي أن الله سبحانه وتعالى يبين دائما آياته المذكورة مثل البيان الذي يبين به أحكام الأسرة، فهذا التشبيه لتصوير بيان الله دائما لآياته بهذه الصورة التي يقرأها القارئ لكتاب الله في آيات النكاح، والطلاق، وما يعقبه من التسريح بإحسان أو التسريح الجميل كما عبر القرآن الكريم.
[ لعلكم تعقلون ] وفي هذه العبارة السامية إشارة إلى الغاية من بيان الله سبحانه وتعالى لحقائق الشرع وتوجيه النظر إلى النفس وإلى الكون، وتلك الغاية هي أن يعقل الناس أي يفكروا بعقولهم، ويبعدوا عنها أرجاس الجاهلية، ويحرروها من ربقة التقاليد القديمة التي كانوا يعبرون عنها بقولهم :[ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا... ١٧٠ ] ( البقرة ) والتعبير بصيغة الرجاء، وهي [ لعلكم تعقلون ] هو في معنى التعليل أي لتعقلوا، لأن الرجاء من الله سبحانه وتعالى لا يكون على معناه الأصلي، أو يقال إن ذلك البيان من شأنه أن يرجى أن يعقلوا ويتفكروا، فالتعبير بلفظ يدل على الرجاء للإشارة إلى هذا المعنى الحكيم.
هذا وإن أحكام الأسرة كما جاءت في الآيات الكريمة باعثة على التأمل وإحكام النظر، والإيمان بأن هذه الشريعة من عند اللطيف الخبير، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( ٢٤٣ )
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى أحكام الأسرة، والدعامة التي يقوم عليها بنيانها، والنظم التي تربط آحادها، وحقوق كل واحد فيها على سائرها ؛ فبين حق الزوج، وحق الولد، وما ينبغي لتستمر المودة الرابطة حال بقاء الزوجية وعند انتهائها ليكون حبل الوداد موصولا دائما.
و الأسرة هي بناء المجتمع الإنساني، واللبنات التي يشاد منها صرح مجتمع فاضل، فالمجتمع القوي الفاضل لا يقوم إلا على دعائم من أسر قوية فاضلة، ففي الأسرة يتعلم الطفل مبادئ المجتمع المشترك المتحد المؤتلف، وفي الأسرة يسمو نزوعه المدني إلى الاجتماع والائتلاف، و يتجه اتجاها مستقيما نحو أسمى الغايات الاجتماعية، وهو أن يكون امرأ يألف ويؤلف، وإن الأساس الحقيقي للاجتماع أن يكون آحاده ممن يألفون ويؤلفون، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف"١.
و إن القادة والزعماء الذين يعدون أممهم للكفاح يبتدئون بالأسرة، فيحمونها ويقيمون دعائمها على أسس الخير وحب الاجتماع، والاستعداد للفداء في سبيله. والنظم الاجتماعية التي جرب فيها محو الأسرة لتتربى الأمة على الكفاح – كنظام ليكورغ في أسبرطة – أدى إلى وجود شباب قد يكون قويا في جسمه، ولكن لا يمكن أن يكون قويا في خلقه وإيمانه بالفضيلة، والمثل العليا للمجتمع الفاضل الذي يحمي نفسه من ذرائع الانحلال في داخله، ويدرع بعدة القتال لحماية الحوزة ودفع الذل.
من أجل هذا كانت أحكام الأسرة بين أحكام الجهاد في القرآن، فقد سبق أحكام الأسرة كلام من الله تعالى في القتال وأعقبها دعوة وتحريض على الجهاد، وحث عليه بضرب الأمثال من الأمم السابقة، وكيف جاهدت في سبيل الحق، وانتصرت القلة مع إيمانها على الكثرة مع كفرها، وقد ابتدأ سبحانه وتعالى هذا بقوله تعالت كلماته :
[ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ] الاستفهام هنا يؤدي في مغزاه معنى التقرير والتثبت، وذلك لأنه للإنكار والنفي، وقد دخل على منفى فنفى النفي، وبذلك تقرر المعنى وثبت ؛ لأن نفي النفي إثبات، فالمعنى قد رأيت ونظرت وعلمت، والخطاب عام لكل قارئ وسامع إلى يوم القيامة، والرؤية بمعنى العلم، فإن رأى تكون بمعنى علم وبمعنى أبصر، أو تكون دائما بمعنى أبصر، ولكن الإبصار قد يكون بالبصر، وقد يكون بالبصيرة فيكون علما، وقد تتضمن الرؤية معنى النظر وهو نظر بالبصيرة، ولأنها تضمنت معنى النظر قد تعدت بإلى، فقال تعالى :[ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ] وقد ذكر الراغب الأصفهاني في مفرداته : أن رأى إذا تضمنت معنى النظر، ولو كان النظر بالبصيرة، تتعدى بإلى.
و المعنى الإجمالي : لقد علمت أيها القارئ المتتبع لسنن الله في الناس واجتماعهم الناطقة به آياته في نفوسهم وفي الآفاق، علم اليقين والجزم الناشئ عن دليل منير، حال أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، ومن لم يعلم ذلك ينبغي أن يعلم ؛ لأن البينات قائمة، والعلامة المعلمة واضحة فالاستفهام في الآية يقرر العلم، ويوجه الأنظار إلى وجوبه، ويحثها على الأخذ في أسبابه والالتفات إلى أماراته وأعلامه، فهو تقرير وتنبيه، وإثارة للمعجب من حال من فروا من الجهاد فلقوا الموت.
و من هم أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؟
قبل أن نخوض في الجواب عن ذلك نتكلم في أمرين لفظيين قد يهدي أحدهما إلى الحق في شأن أولئك الذين خرجوا من ديارهم.
الأمر الأول – كلمة " ألوف " فإن بعض العلماء فسرها بمعنى كثرة العدد، أي أنهم عدد كثير، ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة، فما كان خوفهم عن قلة، بل كان عن كثرة، أو ما كان الخوف عن سبب يسوغه، بل كان عن جبن يخذل.
و بعض العلماء قال : إن معنى "ألوف " مؤتلفون مجتمعون، فألوف على هذا جمع آلف، كقعود جمع قاعد، وركوب جمع راكب، ونحو ذلك، والمعنى عن ذلك أنهم قبل خروجهم من ديارهم، وتفرقهم في الأرض كانوا مؤتلفين مجتمعين توحدهم كلمة جامعة، ووحدة رابطة، ففرقهم الخوف على الحياة أيا كانت صورها ولو كانت حياة الذل والانكسار، وإنه ليعقبها الشقوة والانهيار.
الأمر الثاني – كلمة " حذر الموت " تنبئ عن الباعث على فرارهم، وهو حرصهم المطلق على الحياة على أي صورة كانت تلك الحياة، كما وصف سبحانه وتعالى اليهود فقال سبحانه :[ ولتجدنهم أحرس الناس على حياة... ٩٦ ] ( البقرة ) أي مهما يكن نوع هذه الحياة، ثم خوفهم المطلق من الموت، أيا كانت أسبابه، ومهما تكن نهاية الفرار منه، وإن ذلك الخوف كان قبل أن تتحقق أسبابه فلم يكن الموت قد نزل ضربة لازب لا مناص منه إلا بالخروج من الديار، بل إن الذي دفعهم هو الحذرمن الموت، وليس الحذر إلا توقيا للأسباب واحتراسا وابتعادا قبل أن تظهر الأسباب قوية ملزمة موجبة، وعلى ذلك يكون الحذر من الموت أدق في بيان جبنهم من الخوف، إذ الخوف يكون وقد ظهرت موجباته، وتعددت الأمارات، أما الحذر فإنه توق مانع قبل وجود الأسباب وإن بدت ولاحت بعض أمور احتمالية لوجود هذه الأسباب.
و لقد كانت نتيجة خروج أولئك الحذرين من الموت أن استقبلهم الموت المقدور، فقال لهم الله موتوا، وأمر الله سبحانه وتعالى هنا أمر تكويني، أي أنه سبحانه وتعالى أماتهم، وإن أمر الله التكويني هو بإيجاد ما ساقه على أنه أمره [ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ٨٢ ] ( يس ).
فإذا كان أولئك قد فروا من الموت فليلقاهم الموت، وكيف يفرون من أمر وهو واقع لا محالة منه طال الأمد أو قصر، وهو واحد مهما تعددت أسبابه، والموت في شرف خير من الحياة في خسة، والموت في عزة خير من الحياة في ذلة !.
بعد هذا نجيب عن السؤال : من هم هؤلاء الذين فروا من الموت فلقيهم من حيث لا يقدرون، ثم أحياهم من ذلك رب العالمين ؟ وهل هذه الحياة كانت في الدنيا ؟
قد وردت في ذلك أخبار وروايات لم تثبت بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين الكتاب للناس، ولا عن أحد من أصحابه الذين تلقوا ذلك البيان.
و من تلك الروايات أنهم قوم من بني إسرائيل خرجوا هاربين من الوباء فنزلوا واديا، فأماتهم الله ثم أحياهم اعتبارا وإجابة لدعاء نبي من أنبيائهم.
و في رواية أخرى أنهم قوم من بني إسرائيل فروا من الجهاد مع نبيهم، فأماتهم الله ليعلمهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم ليجاهدوا.
و رواية ثالثة تقول : إن أولئك القوم كانوا من بني إسرائيل، حرضهم ملك من ملوكهم على الجهاد فخرجوا حذر الموت، فأماتهم الله سبحانه ثم أحياهم.
و في كل رواية من تلك الروايات تفصيلات لا حاجة إلى ذكرها. ولقد نقل القرطبي في أحكام القرآن بعد ذكر هذه الروايات ما نصه : قال ابن عطية : وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا اغترار مغتر، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وهذا قول الطبري، وهو ظاهر وصف الآية ٢.
هذه كلمة نقلها القرطبي، وقد اختار من قبله شيخ مفسري الأثر ابن جرير ذلك، وقد ارتضى ألا يتعرض لأولئك الأقوام من هم ؟ إذ لو كان في ذكرهم فائدة لذكرهم القرآن، أو لذكرتهم السنة النبوية.
و إن المفسرين السابقين قد نهجوا على أساس أن الموت حقيقي حسي، وأن أولئك قد ماتوا حسا وأحياهم الله سبحانه وتعالى حسا، وإن ذلك بلا ريب يكون فيه مع إعلامهم بأن الموت لا مناص منه، بيان لقدرة الله الخارقة للعادات، المتحكمة في السنن الكونية، فلا تخضع لهذه السنن، لأن الله منشئها.
و لقد جاء من بعد أولئك المفسرين السابقين الأستاذ الشيخ محمد عبده، فرأى أن الموت معنوي، والحياة حسية، فرأى رضي الله عنه أن الموت هو موت الأمم، والحياة في حياتها، وموت الأمم بتفرق كلمتها وذهاب وحدتها، وضرب الذلة عليها، وأن حياتها هي اجتماع كلمتها، ونيل عزتها، وتولي أمرها بنفسها، وخروجها من ديارها أن يتحكم فيها عدوها، فإنها تكون غريبة في أرضها مادام لا أمر لها فيها، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولنترك الكلمة له كما رواها تلميذه السيد رشيد رضا رحمه الله تعالى، فقد قال :
" أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم، ولو علم لنا خيرا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك كتابه المبين، فلنأخذ القرآن على ما هو عليه، لا ندخل فيه شيئا من الروايات الإسرائيلية التي ذكروها، و هي صارفة عن العبرة، ولا مزيد كمال فيها. المتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا أي كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا سبب الموت.. ولما خرجوا فارين [ فقال الله لهم موتوا أي أماتهم بإمكان العدو منهم ؛ فالأمر أمر التكوين، لا أمر التشريع، أي قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أوتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم، ولم يصرح سبحانه بأنهم ماتوا، لأن أمر التكوين مشيئة الله سبحانه.. [ ثم أحياهم ] إنما يكون الإحياء بعد الموت، والكلام في القوم لا في أفراد.. فمعنى موت أولئك القوم أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكان من بقي خاضعين للغالبين، ضائعين فيهم مدغمين في غمارهم لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عودة الاستقلال إليهم، ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبا لهم، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية، فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال. فهذا معنى حياة الأمم وموتها " ٣.
و هذا نظر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ونراه نظر إلى مرمى الآية الكريمة، وهو يتجه إلى أن الموت والحياة هو موت الأمم وحياتها، وموت الأمة ليس بموت آحادها، إنما هو بذهاب الجماعة التي تربطها، واندغامها في غيرها، حتى لا يصبح لها كيان قائم بذاته، وحياتها هي عودة هذه الوحدة الجامعة، والعزة المسيطرة والكيان المستقل.
و بعد هذا العرض الذي سقناه بيانا لآراء العلماء أجد في نفسي ميلا لأن أعتبر الحياة التي منحهم الله سبحانه وتعالى ليست تلك الحياة المادية في الدنيا بإعادة الروح إلى العظام واللحم، وإن ذلك كان ف
١ رواه أحمد : باقي مسند الأنصار (٢١٧٧٣) عن سهل بن سعد الأنصاري، كما رواه عن أبي هريرة في مسنده (٨٨٣١) بلفظ :"المؤمن مؤلف "..
٢ أحكام القرآن للقرطبي ج٣ ص٢٣١..
٣ تفسير المنار ج٢ ص٤٥١..
[ و قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ٢٤٤ ] هذه الآية الكريمة استئناف مترتب فيه الأمر الملزم بالقتال على القصة المشار إليها آنفا، فإنه إذا كان الخروج من الديار حذر الموت يؤدي لا محالة إلى الموت، فإنه من الواجب القتال في سبيل الله تعالى ورد الاعتداء، وإذا كان الموت في القتال محتملا أو راجحا، فالموت في الفرار والخروج من الديار حذر الموت لا محالة، ولو خير العاقل بين موت احتمالي وفيه الفخار، وموت مؤكد وفيه العار، لاختار بلا ريب القتال.
و إن القتال في سبيل الله هو الحياة الكاملة، فإن قتل في ذلك فقد رزق الشهادة، وهي رزق يتنافس فيه المؤمنون، ويطلبه المتقون، وسبيل الله هي سبيل الحق، فكل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو قتال في سبيل الله، وكل قتال في سبيل الجماعة هو قتال في سبيل الله مادام القتال عادلا، وقتال المرء دون عرضه هو قتال في سبيل الله، وقتاله دون ماله هو في سبيل الله سبحانه ١، فكل قتال لدفع الظلم وإعلاء منار الحق هو من القتال في سبيل الله سبحانه، ولقد قال الإمام مالك رضي الله عنه :( سبل الله كثيرة ) وكل طريق للوصول إلى الحق أو حمايته أو الدفاع عنه هي من سبل الله سبحانه وتعالى.
و الخطاب في الآية الكريمة :[ وقاتلوا في سبيل الله ] للمسلمين أجمعين في كل الأجيال وفي كل العصور، ولم يقل في هذه الآية كما قال في غيرها :[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا... ١٩٠ ] ( البقرة ) مع أن أصل القتال في الإسلام لدفع الاعتداء فقط، لم يقل سبحانه وتعالى ذلك إلا للإشارة إلى أمرين :
أولهما : وجوب الاستعداد الدائم للقتال فإن حب الغلب في فطرة الإنسان، وتوقع الاعتداء مع ذلك أمر لابد منه كما قال تعالى :[ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... ٦٠ ] ( الأنفال ) ولا شيء يمنع الاعتداء أكثر من الاستعداد لدفع الاعتداء، فلو كان للحمل ناب ما عدت عليه الذئاب، ولو كان للظبي ظفر وناب ما افترسته أوابد الوحوش.
ثانيهما : القتال في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين، وذلك حق على كل مسلم وإن لم يكن الاعتداء واقعا عليه، فالقتال لدفع الظلم وإقامة الحق قتالا عادلا وهو قتال في سبيل الله سبحانه، ولو لم يقع الاعتداء على شخص القاتل ؛ لأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ١١٠ ]( آل عمران ). ولقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وقد كان عهدا بين المتحالفين أن ينصروا المظلوم على الظالم ٢.
و لقد عطف الله سبحانه وتعالى على الأمر بالقتال قوله تعالى :[ واعلموا أن الله سميع عليم ] فهو أمر منه سبحانه بأن يتذكروا دائما أن الله سبحانه وتعالى سميع لكل أقوالهم التي ينطقون بها سواء أكانت تلك الأقوال تدل على رغبة في الجهاد وطلب للاستشهاد، أم كانت هذه الأقوال مخذلة معيقة للمجاهدين الأبرار من مثل قول :[ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا... ١٥٤ ]( آل عمران ) ومثل قول :[ ليس لك من الأمر شيء... ١٢٨ ] ( آل عمران ) وإنه سيجازى كل واحد بقوله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
و كما أمرنا أن نتذكر دائما أنه سميع لنشعر برقابته على أقوالنا، أمرنا بأن نتذكر بأنه عليم بخواطرنا وبالدوافع التي تدفعنا إلى القتال، فهو يعلم الوساوس التي تلقي في النفس ضعفا يظهر على الشفاه، وتعلنه الأفعال، ويعلم البواعث التي تدفع إلى القتال أهي فخار ورغبة في دنيا يصيبها، أم لتكون كلمة الله هي العليا، و لرفع منار الحق، وخفض الباطل. فإن كانت الأولى فقد ذهب ثوابه بما أصاب من دنيا قصدها، وإن كانت الثانية فكل خطوة خطاها لها ثوابها، وكل مقام شهده له أجره، وإن ظفر بالشهادة فقد ظفر بغاية الغايات للمؤمن الصبور التقي الطاهر. والله سبحانه عليم بحال المقاتلين : اندفعوا في قتالهم إلى الاعتداء، أم ساروا على الطريق المستقيم، فلا اعتداء في قتال، فلم يقتلوا غير مقاتل، ولم يقاتلوا من لا يقاتل.
هذا هو الجهاد في الإسلام : دفاعا عن الذمار، و طلبا للحياة الكريمة في الوغى حيث يحمى الوطيس، ويكون الموت قد فغر فاه، وحيث المنايا تعددت طرائقها. وإن المجاهد في الإسلام إنما يخط بسيفه نور الحق في وسط ظلمات الباطل، وإن الجهاد لسبيل لإعلاء كلمة الله، حيث يشتد الظلم، ويستغلظ الظالمون، ويريدون أن يلتهموا الأمم والجماعات، ويبيدوا خضراءها، فعندئذ يكون القتال في الإسلام، ومن يفر منه حذر الموت فإنما يفر من العزة إلى الذلة، ومن الحياة الكريمة إلى الموت، ولذلك قال علي بن أبي طالب :( الجهاد باب من أبواب الجنة ). وعند الله النصر المبين.
١ عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد " قال : هذا حديث حسن صحيح.[ سنن الترمذي : كتاب الديات – من قتل دون ماله فهو شهيد (١٣٤١) ].
٢ راجع في ذلك: فتح الباري (١٢٣٠) – لا حلف في الإسلام..

[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون ( ٢٤٥ ) ]

يبين الله سبحانه وتعالى أن الجهاد سبيل لحياة الأمم، والقعود عن الدفاع سبيل لفنائها، وبذهاب دولتها، وتقطع وحدتها، وفقد لكيانها المجتمع، وأمرها المؤتلف، وأنه لا سبيل لأن تعيد الجماعة قوتها، ودولتها إلا بالجهاد والاستعداد له، ففي الاستعداد للجهاد الحياة، وبالجهاد ترد الحياة. والجهاد في أدق معناه هو تعرض النفس للتلف ليبقى المجموع، فهو إيثار بالنفس، وبذل للمهج والأرواح، وتقدم للبأس من القادرين، بيد أن الجهاد لابد له من عدة وعتاد، وشكة وسلاح، ولابد له من أن تكون الكلمة موحدة، والقوى مجتمعة بالتعاون بين الغني والفقير، فإذا كان الجهاد بذلا للأنفس والمهج في سبيل الحياة أعز فلابد فيه من بذل المال، فالجهاد بذل للنفس والنفيس معا، ولذا أردف الله سبحانه الأمر بالقتال بعد ضرب الأمثال، بالأمر بالبذل والعطاء، فقال عز من قائل :
[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ] القرض : أصل معناه اللغوي : القطع : ومنه المقراض، ثم أطلق على معنى المجاوزة، لأنها قطع للمكان، ومن ذلك قوله تعالى :[ وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال... ١٧ ] ( الكهف ) أي تتجاوزهم وتدعهم إلى أحد المكانين، ومنه انقرض القوم أي انقطعوا من الدنيا وتجاوزتهم. وسمي إسلاف المال وبذله في سبيل الخير قرضا لأنه يقتطع من المال المدخر، وينتقص منه، والمال نظير النفس فكأنه يقتطع من النفس، ولذلك كان الجواد شجاعا عادة، لأن بذل النفيس كبذل النفس كلاهما ينبع من نفس واحدة، فالجود والشجاعة صنوان أو أخوان لا يولدان إلا من أب واحد، ولا يترعرعان إلا في منبت واحد وبيئة واحدة، والبخل والجبن أخوان منبتهما واحد، ومولدهما واحد، فالبخيل جبان في مجرى العادة، وقد دل على ذلك الاستقراء.
و القرض بعد هذا البيان هو إسلاف المال في السبيل الحسن لمعاونة صديق أو سد حاجة معوز أو حماية الدولة أو إغاثة ملهوف على أن يرد مثله من غير وكس ولا شطط، وقد يكون من جنسه مالا بمال، وقد يكون العوض أزكى من المال وأنمى منه، وأنفع وأبقى، وذلك هو الإسلاف في سبيل الخير غير مبتغ جزاء ولا شكورا إلا من خالق الناس مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
و الزمخشري يرى إطلاق القرض على بذل المال من غير رجاء لرد البدل في الدنيا إطلاقا مجازيا، كأنه يرى – رحمه الله – أن القرض في حقيقته اللغوية، إسلاف المال على أن يأخذ بدله، لأن ذلك هو الحقيقة التي آل إليها اللفظ بعد انتقاله من معنى القطع المجرد فيكون استعمال القرض في هذا الموضع من قبيل المجاز في نظر الزمخشري، فقد شبه هنا بذل المال في سبيل الخير ورجاء ما عند الله ورضوانه والثواب المقيم في الآخرة، والتوفيق وبسط الرزق في الدنيا، شبه هذا بمن يبذل المال ليرد عليه مثله، فعبر باللفظ الدال على المشبه به في معنى المشبه.
و عبارات كثيرة من المفسرين يستفاد منها أن كلمة قرض هنا مستعملة في معناها من غير مجاز، لأن معنى القرض ثابت، إذ إنه اقتطاع من مدخر المال، ورجاء البدل متحقق ثابت بشكل أوضح ممن يرجو بدل المال في الدنيا ؛ لأن ما عند الله خير وأبقى، ولأن البركة في الرزق والبسطة فيه قد قدرها الله سبحانه وتعالى لمن يعطي سماحا جوادا من غير من ولا أذى.
و القرض الحسن المذكور في الآية الكريمة، هو القرض الذي يكون منبعثا من نفس طيبة بالعطاء، قاصدة وجه الخير ورضا الله سبحانه وتعالى، ومتحرية موضع الإنفاق وزمانه، فالقرض الحسن في هذا المقام لابد لتحققه من أن يكون الباعث عليه خيرا مقصودا به وجه الله تعالى، فلا ينفق رئاء الناس، ولا ينفق ابتغاء جاه ولا ملقا لذي جاه، كأولئك الذين يتصدقون بالصدقات العظيمة لإرضاء كبير مسيطر، لا يقصد الصدقة لذاتها ولا وجه الله فيها، ولا المعاونة لمستحقيها، وإنما يقصد إرضاء الكبير فقط، وإن ذلك هو الشرك الخفي، ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من تصدق يرائي فقد أشرك "١.
و لابد لتحقق القرض الحسن أن يتحرى الشخص موضع الحاجة فيسد حاجة المعوزين، وينفق على المحتاجين، يؤثر أشدهم حاجة، فالأدنى منه، ما وسع فضل ماله، ثم ينفق في المصالح العامة لإقامة مشروعات اجتماعية أو عمرانية، والإنفاق للجهاد في سبيل الله هو المرتبة السامية العليا.
هذه معاني القرض الحسن في ذاتها ولبها ؛ وما المراد به هنا ؟ أيراد به المعنى العام الشامل، أم يراد به المعنى الخاص الذي يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها ؟
إن الاتجاهات في هذا ثلاثة :
أولها : القرض الحسن هنا المعنى العام له، وهو كل إنفاق في سبيل الخير، سواء أكان الإنفاق لسد حاجات المحتاجين من الآحاد، أم كان للمصالح التي يعم نفعها ويشمل خيرها، أم كان في الجهاد في سبيل الله، ووجهة هؤلاء في هذا العموم أن كل ذلك يضاعف الله في جزائه، وذلك قرينة العموم، والمقام لا يمنعه، لأنه يدخل فيه الجهاد.
و ثانيها : أن القرض الحسن ما ينفق في سبيل المصالح العامة من إنشاء جماعات للبر بكل ضروبه والإنفاق عليها، ومن بذل في سبيل إعداد الأمة إعدادا حربيا، لأن كل ذلك تقوية للوحدة في الأمة، وهو من عدة القلوب، فالتعاون فيه قوة، بل هو عماد القوة.
و ثالثها : أن المراد الإنفاق في الجهاد، بدليل توسط الآية بين الآيات الدالة على القتال المحرضة عليه، فهي تخص البذل في القتال، وهو في ذاته أقواها أثرا، والمقام يؤيد إرادته.
و عندي أن السياق حقا يجعل القرض الحسن في هذا المقام متجها أولا وبالذات نحو البذل لإعداد العدة وأخذ الأهبة، ليتحقق على الوجه الأكمل قوله تعالى :[ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة... ٦٠ ] ( الأنفال ) ولكن ذلك لا يمنع الشمول، فإن الله سبحانه وتعالى يأتي بالعبارات السامية المحكمة الشاملة في معناها في مقام يستدعي ذكرها لوجود حال تدخل في العموم، فلما ذكر القتال ذكر معه وجوب البذل عامة كقاعدة شرعية وأصل من أصول الاجتماع الإسلامي الفاضل، ودخل في هذا العموم البذل في القتال على وجه الخصوص وخصوصيته جاءت من السياق القرآني السامي. ولقد حث المولى الكريم عباده المؤمنين على البذل والعطاء لمعاونة المحتاجين، وعلى الإنفاق في مصالح الاجتماع، والإنفاق في الحروب بشكل خاص، وقد جاء النص الكريم متضمنا بعبارته وإشارته أبلغ ما يدل على التحريض على البذل، والدعوة إليه، وإنا نذكر قدرا مما وصلت إليه مداركنا.
و أول ما يدل على المبالغة في الحث على البذل في الخير التعبير بقوله تعالى :[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ] فقد تضمن ذلك التعبير الحث على البذل من عدة وجوه :
منها : التعبير بالاستفهام، فإنه للتنبيه وبعث الأذهان وحفز العقول على الالتفات، وبمقدار الوعي عند الاستماع تكون الإجابة، وبمقدار الحث على الانتباه يكون الطلب.
و منها : أنه جمع الإشارة والموصول في الاستفهام فقال :[ من ذا الذي ] وفي ذلك بيان لعلو شأن من يبذل، فإنه لا يستفهم[ من ذا الذي ] إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان موضع الاستفهام خطيرا وعظيما وكان المخاطب له شأن جليل إلى درجة أن يشار إليه، ويتحدث عنه، فالإشارة كناية عن أنه يشار إليه في كل أمر جليل، والموصول كناية عن أنه يتحدث عنه عند ذكر كل أمر جليل.
و من وجوه الحث على البذل في الجملة السامية : أن الله سبحانه وتعالى سماه قرضا، لأن فيه إشارة إلى أنه سيرد لصاحبه، وأنه ليس مالا يبذل من غير بدل يعود إليه، بل إن له بدلا أسمى منه، وعوضا أجل وأعظم، واعتبره سبحانه قرضا لله تعالى، وأي سمو تعلو إليه نفس الباذل عندما يحس بأن المقترض منه هو رب العالمين، الذي يملك كل شيء وهو خالق كل شيء ؟ أي كلام يحرض على البذل أبلغ من أن يسمي فعله قرضا لله المنعم بالوجود، والمالك لكل موجود ؟ ثم إن القرض لله تعالى قرض مضمون الوفاء، مؤكد الأداء.
و من وجوه الحث على البذل في التعبير السامي : أن سماه سبحانه قرضا حسنا، فهو حسن في باعثه، وفي عطائه، وفي نتيجته وثمرته.
و قد ذكر سبحانه بدل القرض فقال :[ فيضاعفه له أضعافا كثيرة ].
و هذا هو الأمر الثاني الذي يدل على المبالغة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الجهاد والنفع العام، فإذا كانت الجملة السابقة تدل على علو شأن الباذل الذي يعطي وعظم الباذل في سبيل الخير والعطاء، وشرف ذلك العمل لأنه عطاء لله العلي القدير مالك كل شيء، إذا كانت الجملة السامية التي سبقت تدل على ذلك، فإن هذه الجملة الكريمة تحرض على العطاء من ناحية العوض الذي يعوض عنه، فإنه ليس بقدره، بل هو أضعافه.
و الضعف : مثل الشيء، وضعفاه أي مثلاه، وقد يراد من الضعف المثلان، وقد جاء في القاموس المحيط ما نصه :( و يقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله، لأنه زيادة غير محصورة )و قد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني :( الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر كالنصف والزوج، وهو تركب قدرين متساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعدا، قال بعضهم : ضاعفت أبلغ من ضعفت ).
و من هذا يتبين أن ( يضاعف ) في الآية الكريمة معناها يرد إلى الباذل المعطي المقرض لله بدلا ما أعطى أمثالا كثيرة، فمعنى أضعافا : أمثالا كثيرة. ولم يذكر سبحانه وتعالى العدد، وذلك يدل على الكثرة الكاثرة التي لا حد لها، ولا عدد يحصيها، وحسبك أن تعلم أن الذي يوفي بالقرض هو مالك السماوات والأرض.
و إذا علم الباذل أن ذلك جزاء عطائه وإنفاقه، فلابد بالغ أقصى غايات الجود، باذل كل موجود، وليس بذاهب ما يكون في سبيل الخير، ولا ضائع ما يكون في سبيل النفع العام.
و ما هذا الجزاء ؟ أهو في الدنيا أم في الآخرة ؟ لاشك أن ثمة جزاء في الآخرة وأن جزاءها هو الجزاء الأوفى، والغاية القصوى، والأمل المرجى لكل مؤمن، وإن فيها للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
و إنه مع ذلك الجزاء الأوفى يوجد جزاء دنيوي، ومضاعفة لفعل الخير في هذه الحياة تبدو لكل من يفهم معاني الحياة، وإن هذا الجزاء الدنيوي هو العيش العزيز، والحياة الكريمة له ولقومه، ودفع الهلاك عن أمته، فإن بذل المال دفاعا عن الحوزة هو الحياة، وهو أقصى غاية الوجود بعد بذل النفس، ولذا اعتبر من لم ينفق قد ألقى بنفسه في الهلكة، كما قال تعالى :[ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... ١٩٥ ] ( البقرة ).
و ليس بذل المال للجهاد هو وحده الذي يكون فيه الجزاء الدنيوي ودفع الهلاك عن النفس، بل سد حاجة المعوزين وإعطاء المال للسائل والمحروم فيه عزة الأمة ؛ لأنه لا عزة لأمة لا تدفع المتربة عن آحادها وتذل فقراءها، ولئن تململوا بحياتهم لكان التقاطع والتنابز، ومن وراء ذلك الخراب، وأن يكون بأس الأمة بينها شديدا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
هذا فوق أن البذل في سبيل الله والإنفاق في سبيل الخير والنفع العام والمصالح الإنسانية يلقي في النفس سعادة واطمئنانا لا يشعر بهما إلا الأبرار، وإن الله يبارك في رزق الذين ينفقون، فوق غنى النفس الذي تمتلئ به النفس، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس " ٢.
فالبذل والعط
١ سبق تخريجه من مسند الإمام أحمد رضي الله عنه..
٢ متفق عليه، رواه البخاري: الرقاق – الغنى غنى النفس (٥٩٦٥)، ومسلم: الزكاة (١٧٤١) عن أبي هريرة رضي الله عنهما..
[ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ( ٢٤٦ ) وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ( ٢٤٧ ) ]
كانت الآيات السابقة في الحث على القتال دفاعا عن النفس والحوزة، ورفعا لمنار الحق، وخفضا للباطل، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولبيان أن الاستعداد للجهاد ورد الاعتداء يقتضي البذل والعطاء. وفي هذه الآيات يقص سبحانه وتعالى قصصا صادقا في وقائعه، وصادقا في حكايته للأمم التي تبتلى بالهزيمة كيف يتفرق أمرها وتذهب وحدتها، وكيف تفعل الهزيمة في قلوب الأكثرين منها، وبيان أن الطريق لجمعها قيادة حكيمة رشيدة، ونفر قليل أو فئة قليلة لم تذهب الهزيمة بنخوتها، ولم يضعف اليأس من بأسها وعزمها.
اختار الله سبحانه وتعالى لقصصه الذي جعله عبرة للمعتبرين بني إسرائيل ؛ لأنهم اتصلوا بالعرب، ولأن النبوات المعروفة للعالم في عصر نزول القرآن كانت فيهم، ولأنهم يلتقون مع قريش في إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولأنه تتمثل فيهم الطبائع البشرية في عزتها وانتصارها، وفي هزيمتها وانكسارها، وتتمثل في الطبيعة البشرية في لجاجة القول والمغالبة به في حال الضعف والاستخذاء، ونقدهم كل شيء في تلك الحال، وبعدهم عن العمل إلى الخلاف في المقال، وتتمثل فيهم الطبائع البشرية للجماعات المغلوبة عندما يعمل على إنقاذها من لم تنل الهزيمة من قلوبهم، ومن لم يستول الخور على نفوسهم.
قص الله سبحانه وتعالى ذلك القصص، ولقد قال سبحانه :[ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... ١١١ ] ( يوسف ) فالمقصود من قصص القرآن العبرة والاعتبار لا سرد وقائع وإمتاع الناس بسردها وتفصيلها عبرة لأولي الألباب، ولذلك يقصد المولى الكريم إلى موضع العبرة فيجليه، وإلى مكان الاستبصار فيبينه، وتلك أقوم السبل، التربية بالتاريخ، والتثقيف بأحوال السابقين.
إن الإنسان ابن الإنسان، فمن يريك صورة للماضي مع العبرة، فهو يريك نفسك مع العظة، والماضي دائما نور يضيء للمستقبل، فهو المصباح الذي يحمله من يبتغي الهداية ويرجوها.
و إن في تلك القصة التي ذكرها القرآن الكريم، المنزل من حكيم عليم، عبرة للناس أجمعين، وخصوصا الأمم التي تبتلى بالهزيمة. وقبل أن نخوض في تفسير مفصل، نتكلم بكلام مجمل في القصة.
هزم بنو إسرائيل من بعد موسى هزيمة شديدة سبي فيها نساؤهم وذرا ريهم وأخرجوا من ديارهم، وكان ذلك قبل مبعث داود عليه السلام، كما يدل على ذلك اشتراك داود عليه السلام في المعركة التي أشارت إليها الآية الكريمة، وقد بعث الله سبحانه وتعالى فيهم نبيا وهم في هذه الهزيمة، ولم يذكر سبحانه من هذا النبي الكريم، فلا نحاول معرفة من هو، وإن بعث النبي وهم في هذه الهزيمة، وقد أراد سبحانه وتعالى أن يفيقوا من هذه الضربة، دليل على أن السبيل لإنقاذ الأمم من كبوتها وإنهاضها يكون بالرجوع إلى الدين ؛ لأنه هو الذي يصهر القلوب ويملؤها بقوة الله، فتهون بجوارها قوة الناس، وقد كان الرجوع إلى الدين قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بنبي يرسل، وأما وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أصبح الرجوع إلى الدين بالرجوع إلى كلام الله تعالى الخالد وهو القرآن الكريم ؛ لأنه صوت الوحي الدائم إلى يوم القيامة :[ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ٩ ] ( الحجر ).
و بعد أن تعمر القلوب بالإيمان ويذهب عنها الخور بقوة اليقين، تتلاقى القلوب فيحاول الفضلاء أن يجمعوا الشمل تحت قيادة موحدة، وتحت إمرة قوية، وسلطان يصرف الأمور، ويدبر الشئون في السلم والحرب، وذلك ما اتجهوا إليه :[ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا ] فاختار الله سبحانه وتعالى ملكا لم يكن اختياره بالوراثة والسلالة، بل كان اصطفاؤه للمزايا التي تتفق مع الإمارة والسلطان، وهي قوة العقل وقوة الجسم، فاصطفى الله سبحانه وتعالى طالوت ؛ لأنه زاده بسطة في العلم والجسم، وهما الصفتان اللازمتان للأمير، ولكن بني إسرائيل وقد أرهق نفوسهم الذل، وتعودوا المراء والجدل، وعجبوا كيف يختار طالوت، وهو ليس بذي فضل عليهم في النسب، وليس ذا مال وفير، فبين الله لهم أن الغاية من الإمارة هي بسط السلطان، والخروج من ذل الهزيمة إلى عزة الانتصار، وأن تأتي إليهم شارة عزهم ومجدهم وهي التابوت.
حمل طالوت الملك راية الجند إلى ميدان الجهاد، وكذلك يكون الملك حقا، ولكنه قبل أن يتقدم للقاء عدوهم، أراد أن يختبر قوة إرادتهم وصدق عزيمتهم، وذلك بمعرفة مقدار استيلائهم على أنفسهم، فمن استولى على نفسه فهو معه في الجهاد، ومن لم يستطع جهاد نفسه، فهو عن لقاء العدو أعجز : قال لهم :[ إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده... ٢٤٩ ] ( البقرة ) فإنه مني، ولكن النتيجة ظهرت في هذا الامتحان مبينة أن القليل هم الذين استطاعوا أن يجاهدوا أنفسهم وينتصروا عليها [ فشربوا منه إلا قليلا منهم... ٢٤٩ ] ( البقرة ) وهم الذين اجتاز بهم النهر، وترك الآخرين مخلفين مع نفوسهم التي لم يستطيعوا التغلب عليها.
أصبح جند طالوت قليلي العدد، وليس فيهم إلا مجاهد مجالد مصابر، ولكن اعتراهم شيء من رهبة الموقف، إذ رأوا عدوهم كثير العدد عظيم العدد يعتز بكثرته وعدته وسابق غلبته، فقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، ولكن الصفوة من تلك الصفوة لم تعترها تلك الرهبة [ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ٢٤٩ ] ( البقرة ).
فتقدم الجميع مستعينين بقوة الله [ قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ٢٥٠ ] ( البقرة ).
و بالإيمان القوي، والعزيمة الصادقة، والتفويض المطلق لرب القدرة والعزة، انتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة [ فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت... ٢٥١ ] ( البقرة ).
و آل الأمر من بعد طالوت إلى داود ومعه عزة بني إسرائيل[ وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ٢٥١ ] ( البقرة ).
هذه قبسة من قصص الذكر الحكيم في جهاد بني إسرائيل، وإن العبر فيه لكثيرة، فهي تشير إلى الشدة كيف تصهر النفس فتجعلها تتجه نحو المعالي فتطلبها، و كيف يكون الدين أساس العزة لمن غلبت عليهم الشقوة، وأنه لا سلطان من غير إمرة يعمل تحت سلطانها البر، ويزجر بها الفاجر، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم وكمال التجربة ما يقود به الشعب إلى صالح الأمور، وأن أساس الانتصار السيطرة على النفس فلا يغلب خصمه من لا يغلب نفسه، ولا يقمع عدوه من لا يقمع شهوته، وإنه بعد أخذ الأهبة يفوض المجاهد أمره إلى الله، ويتوكل عليه. بعد هذا نتجه إلى تتبع الآيات الكريمة آية آية، مستنبطين العبر من ثناياها كما تلوح العبر في مجموعها :
[ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل ] قد ذكرنا ما في هذا التعبير من إثارة الاهتمام والتقرير، وتثبيت المعنى في نفس القارئ والسامع، وقد عبر هنا بالرؤية، وهي إما أن تكون بمعنى العلم كما ذكرنا من قبل، وهي تكون للعلم القلبي الذي يستيقن فيه الإنسان كما يستيقن بالعلم الحسي الذي يكون طريقه النظر والإبصار..
و إما أن يراد بالرؤية النظر أو البصر، وفي هذا تصوير للقصة المخبر عنها كأنها المرئية المحسوسة المشاهدة. والملأ هم الكبراء وأشراف القوم، كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج : سموا بذلك ؛ لأنهم ممتلئون مما يحتاج إليه منهم، ويطلق الملأ ويراد به الجماعة، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل ؛ لأن ذلك الجزء له مزيد فضل وشرف على بقية الأجزاء. وقد فسر الراغب في مفرداته الملأ بأنه " الجماعة يجتمعون على رأي فيملئون العيون رواء ومنظرا، والنفوس بهاء وجلالا".
و ما المراد بالملأ هنا ؟ أهم كبراء بني إسرائيل، أم القوم كلهم ؟ أكثر المفسرين على أن المراد بنو إسرائيل وعلى هذا تكون "من" بيانية، فالمعنى أن بني إسرائيل جميعا اجتمعوا وقالوا في عصر من العصور لنبي لهم ابعث لنا ملكا. وإني أرى أن كلمة الملأ هنا المراد بها الكبراء وأهل الرأي منهم، فإن الدهماء دائما في شغل شاغل حتى ينبههم كبراؤهم، وذوو الرأي والشأن فيهم، وخصوصا إذا كان الدهماء قد غلبت عليهم الشقوة والذلة، وكذلك يكونون دائما في حال الانهزام وتغلب الأجنبي على الأمة.
و قوله تعالى :[ من بعد موسى ] بيان لزمان تلك الهزيمة، فذكر أنه من بعد موسى، ولم يبين الزمان بالتعيين، وذكر كونه من بعد موسى للإشارة إلى أن تلك الهزيمة كانت بعد أن أخرجهم موسى من ذل فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وبعد أن ظهر منهم الاستخذاء والضعف، بعد أن خرجوا من ربق الذل، حتى إن موسى عليه السلام لما دعاهم لأن يدخلوا الأرض المقدسة ظهر خورهم وضعفهم فتاهوا في الأرض أربعين سنة استردوا فيها بأسهم وذهب عنهم خور العزيمة، ثم بعد ذلك نزل بهم ما نزل، فقوله تعالى :[ من بعد موسى ] إشارة إلى تلك التجارب الشديدة التي كانت تنزل بهم، فهم ذلوا في مصر، ثم أعزهم الله بموسى فلم يقووا على حياة العزة وتكليفاتها من جهاد ونضال إلا بعد أن تعودوا حياة الشدة والبأس في الصحراء، ثم بعد هذه العزة دخلوا الأرض المقدسة، ثم أخرجوا منها بعد أن استناموا إلى الدعة والراحة. وفي هذه التجربة بيان لأطوار الأمم بأنها إن استنامت إلى الراحة واستمرأت الحياة الوادعة غلب على أمرها، ثم كان من وراء ذلك ذهاب سلطانها، حتى إذا أحست بمرارة الهزيمة، وذاقت وبال الراحة، استيقظت فيها القوى الكامنة، واستفاقت من سبات الغفلة وسكرة النعمة، فعملت على استرداد أمرها، ومقاومة عدوها.
و قوله تعالى :[ إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ] فيه بيان موضع القصة ومكان الالتفات، والاتجاه بالنظر والقلب، فالمعنى : ألم تنظر وتتفكر وتعتبر في أمر بني إسرائيل عندما قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ؟
لقد وجدوا أنهم قد تفككت وحدتهم، وضاعت كلمتهم، وفقدوا كونهم فاتجهوا إلى جمع الكلمة، ولم يجدوا السبيل إلا برياسة تلم الشعث، وتجمع المتفرق، وكان بينهم نبي مبعوث، فعهدوا إليه أن يختار من بينهم ملكا، ليكون اختياره منزها عن الغرض، بعيدا عن الهوى، لا يقصد به إلا الخير، ولا يكون إلا في الخير، لا خطأ فيه ؛ لأنه نبي لا ينطق عن الهوى، لقد قالوا لنبيهم : ابعث لنا ملكا. وأصل البعث الإثارة والإخراج، فمعنى [ ابعث لنا ملكا ] يتضمن أنه يفحص الجماعة بإثارة أحوال رجالها وتعرف خواصهم ومزاياهم وتخير أمثلهم، وإخراجه من بين صفوفهم ليكون ملكا عليهم، فلا يكون مفروضا عليهم، بل يكون متخيرا من بينهم بتخير من لا ي
[ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ] لقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم عند القتال عندما طلبوه، ليبين سبحانه الفارقة بين القول والعمل عند الذين غلبت عليهم الذلة، واستولت عليهم شهواتهم، ثم أخذ سبحانه يذكر بقية القصة والعبرة فيها :[ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ] أي أن الله سبحانه قد أخرج من صفوفكم – وهو العليم الحكيم الخبير بأحوالكم – شخصا قد استوفى كل أسباب الرياسة وجعله ملكا عليكم. وفي التعبير إشارة إلى أنه أمثلهم وأقواهم على تحمل أعباء الحكم ؛ لأن " بعث " تتضمن معنى الإثارة والفحص ثم الإخراج.
و الملك المراد به هنا فيما يظهر مالك أمرهم، والمتولي ملكهم، وليس المراد منه المعنى المتعارف، وهو من يتولى بالسلالة، فإنه سيتبين أنه لم يختر لسلالته، بل اختير لعلمه وحكمته وقوته، ولم يستمر الملك في ذريته، بل آل من بعده لنبي الله داود كما تدل على ذلك أخبار داود التي ذكرها القرآن الكريم، فقد آتاه الله الملك والحكم، وإنه اختير باختيار الله تعالى بما أوحى به لنبيه، ولم يكن باختيارهم حتى لا يتنافسوا فيكون بأسهم بينهم شديدا بدل أن يكون على عدوهم. فليس في الآية دلالة على أن النظام الملكي الذي نعرفه في عصرنا مطلوب لا بالعبارة ولا بالإشارة ؛ لأنها ليست ملكية الوراثة والسلالة، بل رياسة العلم والقدرة والحكمة، فما اختير طالوت لسلالته ونسبه بل اختير لمعان شخصية فيه.
لقد كان مقتضى ما طلبوه من نبيهم من أن يختار ملكا أن ينفذوا من غير تردد الأمر فيما اختاره بهداية الله ووحيه ؛ لأنهم فوضوا الأمر إلى نبيهم ؛ ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختاره، وما كان لهم الخيرة بعد اختيار الله سبحانه وتعالى ؛ ولأن الله قد اختاره لأجلهم ومصلحتهم، ولذا عبر سبحانه وتعالى بقوله :[ بعث لكم طالوت ] فالتعبير ب "لكم " إشارة إلى أنه في مصلحتكم، وأنكم ستنتفعون بقوته، وستكون قوته لكم على أعداكم.
و لكنهم بدل أن يطيعوا ويأخذوا الأهبة أثاروا اللجاجة التي تعودوها، ولذلك قال سبحانه حكاية عنهم :[ قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ].
تمردوا على نبيهم بذلك الاعتراض. لقد أبدوا اعتراضهم بعد أن فوضوا الأمر فناقضوا أنفسهم، وبنوا الاعتراض على أسباب جعلوها مناط الملك، وليست هي السبب للرياسة الصالحة والملك القوي، ظنوا أن سبب الملك أحد الأمرين : إما سعة من المال وثروة طائلة، وإما سلالة ملكية توارثها، فقالوا :[ أنى يكون له الملك ] من أي جهة استمد الملك، أي أنه ليس في عروقه دم ملكي يستحق به الملك، وليس هو ذا نسب رفيع، بل أي واحد منا أحق بالملك منه ؛لأنه ليس من الأشراف، ولئن تجاوزنا شرف النسب وكرم الولادة لنجدن أنه فقير ليس في سعة من المال، فقد سلب منه سببا السيادة، وهما النسب والمال.
و كذلك يكون تفكير الجماعات التي سيطر عليها الأهواء، وغلبت على أمرها، تتجه إلى الماديات فتحكمها، وتفقد تقدير المعنويات، وبذلك تختل مقاييس التقدير، فأول ما تبتلى به الجماعات الضعيفة أن تختل مقاييس العظمة فيها، فإنه إذا اختل مقياس العظمة غمر العظماء، ولم يظهروا إلا بالمصادفات أو القوى الخارقة، والعظماء في الأمم هم القمم العالية التي تهدي إلى مواطن القوة، وتثير العزة من مكامنها.
و إن أردت أن تعرف مقياسا ضابطا لرقي أمة من الأمم فخذه من مقياس العظمة فيها، وقد كان بنو إسرائيل في وقت هذه القصة في أشد الانهيار الخلقي كما يدل على ذلك مقياسهم للعظمة بالسلالة والمال.
و في هذه الجملة الكريمة مباحث لفظية نشير إليها :
أولها : قوله تعالى :[ أنى يكون له الملك ] أنى، قد تستعمل بمعنى كيف، وقد تستعمل بمعنى من أين، وهي هنا يجوز أن تكون بمعنى كيف، ويكون المعنى : كيف يكون له الملك علينا، على أي حال يسوغ ذلك ويمكن ؟ فهو استفهام المقصود منه الاستبعاد المطلق، أي أنه لا يتصور أن يكون مثله ملكا ؟ أي أنه ليس فيه من الصفات، ولا في بيته من المحتد، ما يسوغ معه أن يكون ملكا. فالمقصود من الاستفهام استبعاد أن يكون فيه سبب من الأسباب المسوغة للملك.
ثانيها : قوله تعالى :[ ونحن أحق بالملك منه ] المتكلم بهذا الملأ من بني إسرائيل أي كبراء بني إسرائيل، فكل واحد منهم يقرر أنه أحق بالملك، ومجموعهم يقرر أنه دونهم، وأحقيتهم من ناحية النسب وناحية الجاه في بني إسرائيل، وناحية الأنصار والعصبية.
ثالثها : قوله تعالى :[ ولم يؤت سعة من المال ] أصل السعة أن تكون في المكان وفي الفعل وفي الحال، والسعة في الحال أن يكون على حال من المقدرة أو المال بحيث لا يكون مضيقا عليه أو لا يكون في ضيق، فلما كنى عن قلة المال بالضيق كنى عن كثرته بالسعة.
[ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ] لقد اعترضوا على اختيار طالوت بأنه ليس خيرا منهم سلالة ومحتدا، وأنه ليس ذا مال وفير، فرد نبيهم قولهم :
أولا : بأن الله اصطفاه أي اختاره من الصفوة وأهل الهمة والنبل، وقال :[ اصطفاه عليكم ]، ولم يقل منكم مع أنه منهم، للإشارة إلى فضله عليهم واستعلائه بما منحه الله من خواص وصفات، وإنه كان يكفي اصطفاء الله له ليسكتوا ولا يعترضوا ؛ لأنه ليس فوق إرادة الله إرادة، وليس لهم الخيرة فيما اختاره الله ؛ ولأنهم فوضوا أمر اختيار الملك إلى النبي، وقد اختاره الله ربهم ورب النبي.
ثانيا : ورد نبيهم اعتراضهم ببيان المقياس الصحيح لعظم الرجال واستعدادهم لقيادة الشعوب إلى مواطن العزة والشرف، لقد حسبوا النسب والمال مقياس العظمة، فبين لهم مقياسها، فقال :[ وزاده بسطة في العلم والجسم ] أي أنه أعظم منكم جميعا ؛ لأن الله سبحانه زاده عليكم في الأمرين اللذين هما سبب للقيادة الحكيمة، وهما :
أولا : قوة العقل وسعة العلم وكثرة التجارب، وثانيا : قوة الجسم وعظم المنة ١. و في ذلك فوق التنبيه إلى مقياس العظمة الحقيقية، إشارة إلى الأهلية للمنصب في الدولة، فالأهلية للمنصب ليس الحسب والنسب والمال، ولكن الأهلية للمنصب بالكفاية فيه، فإذا كان الملك أعلى المناصب، وإذا كانت الرياسة الكبرى أعظم الأعمال تبعات، فليس الذي يؤهل للمناصب السعة والمال، بل الكفاية لها والقدرة عليها، ففي الآية الكريمة إشارة إلى مقياس العظمة، وإلى مقياس الاختيار للأعمال والمناصب.
و البسطة في العلم معناها الاتساع في الأفق والتجارب، وقوة العقل والتدبير والإحكام في التفكير، فالبسطة معناها الاتساع، وإذا أضيفت إلى العلم فمعناها الاتساع والإحاطة بكل ما يوجه العقل إلى التفكير المستقيم مع سلامة العقل نفسه.
و بسطة الجسم اتساعه، لا بمعنى كثرة اللحم والشحم، بل بأن يكون سبط العظام مديد القامة بعيد ما بين المنكبين، وقد يراد ببسطة الجسم تلك الحقيقة، وهو بذلك فوق قوة المنة، يلقي بالرعب منظره في قلوب الأعداء، وبالهيبة في قلوب الأولياء، أو يراد ببسطة الجسم مطلق القوة ؛ لأن طويل العظام عريض ما بين المنكبين يكون في غالب الأحوال قوي الجسم، فأطلق ذلك وأريد مطلق القوة.
و يلاحظ أنه قدمت بسطة العلم على بسطة الجسم للإشارة إلى أنها في الرياسة أقوى تأثيرا، وأنها الأصل وغيرها التابع، وأنه ليست الحاجة إلى قوة الجسم بمقدار الحاجة إلى قوة الرأي والتدبير وسعة العلم وكثرة التجارب.
[ والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ] ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية، للدلالة على أمرين :
أولهما : أن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالى، وأنه فعال لما يريد، وأن ما يشاء في هذا الكون يقع، وما لا يشاء لا يقع، وأنه سبحانه يؤتي الملك في الدنيا لمن يشاء، وأنه إذ يعطيه هو المسيطر عليه، ولذلك أضيف الملك إليه إذ قال [ ملكه ] فهو إذ يعطيه لمن يعطيه هو الغالب على أمره يستطيع أن يسلبه في أي وقت شاء، فهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو القاهر فوق عباده.
ثانيهما : أن كل شيء في الوجود تحت سلطان الله تعالى، وهذا معنى أن الله واسع، أي محيط بكل شيء، قد وسع كل شيء برحمته وقدرته، وأنه يدبر الأمور على مقتضى العلم الواسع الشامل، فهو يربط الأسباب والمسببات، وهو يعطي لحكمة يعلمها، ويمنع لحكمة يعلمها، يبتلي الأمم بالقوة والضعف، والعزة والذلة، والهزيمة والانتصار، والبأساء والضراء، ثم النعماء والسراء، كما قال تعالى :[ ونبلوكم بالشر والخير فتنة... ٣٥ ] ( الأنبياء ) وعلى الأمم المغلوبة أن تتخذ الأسباب بجمع الكلمة، وتأليف القلوب، وتحرير النفوس من ربقة الأهواء والشهوات، ولا تستسلم للضعف، ولا تستخذي للقوي، وتناضل وتكافح وتصابر، وتتوكل على الله، وإلى الله مصير الأمور.
١ المنة: المنة، بالضم: القوة، وخص بعضهم به قوة القلب. [ لسان العرب – الميم – منن ]..
وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( ٢٤٨ )
انتهينا في قصة بني إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم إلى أنهم أرادوا أن يتخذوا الأسباب لإعادة ملكهم وإخراج العدو من ديارهم، فوجدوا أنه لابد من رياسة تقود إلى موطن العزة، وميدان الشرف والجهاد، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم قائدا يكون رئيسهم ويكون له ملكهم، وسموه ملكا ؛ لأنهم لم يعرفوا الرئيس المالك للسلطان إلا باسم الملك، وقد اختار الله لهم طالوت، ولم يكن من ذي النسب فيهم، أو على الأقل لم يكن من أعلى الأنساب فيهم وكان في المال قلا، وما علموا أن الملك يكون في غير ذي المال والنسب، فبين الله سبحانه أن مناط الاختيار للسلطان القدرة على تحمل أعباء الملك، وذلك يتحقق بقدرة الجسم، وسعة المعرفة والعلم، وهما أمران قد تحققا في طالوت الذي اختاره الله سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى يبين أن أساس الولاية قدرة الوالي على تحمل الأعباء الجسام بالتزود بالعلم الكثير والتجارب الواسعة، والجسم القوي الذي لا يخذله في ميدان الجهاد، وهم يرون الولاية بالوراثة وبين ذوي الأموال، فالمناط عندهم المال الوفير والنسب، ولا عبرة بشيء وراء ذلك، والله سبحانه وتعالى يبين لهم أن الاعتبار للقدرة، ولا عبرة بما وراء ذلك.
فسكتوا، ثم أراد رب العالمين أن يثبت قلوبهم، ويزيل شكهم، فذكر لهم علامة ملكه، وأمارة السلطان الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على ذلك الحاكم المختار، فأوحى إلى نبيهم المبعوث أن يسوق إليهم البشرى، فقال سبحانه :
[ و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ] لقد خضعوا لقول نبيهم ولحكم الله باختيار طالوت وليا لأمرهم، متوليا قيادتهم، ولكنه خضوع القلق المضطرب الذي لم يصب السكون قلبه، فلم تطمئن قلوبهم، فساق الله إليهم آية تدل على سلطان الله، إذ لابد من أمارة تثبت القلوب، وخصوصا أنهم مقدمون على حرب فيها تشتد الشديدة وتبتلى القلوب، فلابد من نفوس ملتفة حول قائد لا يرين عليها شيء من الريب، ولا يمسها شيء من ظلمة الشك، بل يكون الخضوع الكامل، والاتحاد الشامل، والتآلف بين الجيش والقائد.
فكانت آية ملك طالوت، أي أمارة سلطانه المتقرر الثابت، أن يأتيهم التابوت فيه سكينة من ربهم. والتابوت على وزن فعلوت، كما قال الزمخشري ورجحه، على اعتبار أنه من تاب بمعنى رجع وآب ؛ لأن نفوسهم كانت تئوب إليه وتثوب، وتسكن وتطمئن، ويرون فيه شارة عزمهم، ورمز مجدهم، وصلة حاضرهم بماضيهم. والتابوت الذي ارتبطت به قلوبهم ذلك الارتباط صندوق فيه آثار من آثار آل موسى وآل هارون، وقد فقدوه وقت أن ضربت عليهم الذلة، وأخرجوا من ديارهم، فكانت الذلة مقارنة لذلك الفقد، والعزة مقارنة للبقاء.
و قد وصف التابوت بأن فيه سكينة أي أن فيه اطمئنانا لهم، من حيث إنهم يرون في عودته بشرى بالسلطان والعزة والقوة، وقال سبحانه :[ سكينة من ربكم ] إشارة إلى أن السكينة والاطمئنان فيض من فيوض الله سبحانه وتعالى يرحم به الناس، وإن اقترنت تلك السكينة بأسباب فليست تلك الأسباب العادية هي المؤثرة في وجودها، بل الذي يوجدها هو رب العالمين، ومن حكمته سبحانه أن جعلها مقترنة بتلك الأسباب الدنيوية، وإن كانت غير مؤثرة فيها بالإيجاد، بدليل أنه قد توجد تلك الأسباب ولا توجد معها السكينة، ولا يكون معها الاطمئنان قط، واقتران السكينة والاطمئنان بالأسباب ليطلب الناس الأسباب، ويرجوا الرحمة منه، وكل شيء عند الله بمقدار.
و في التابوت كما ذكرنا بقية من آل موسى وآل هارون، أي آثارهم، و تلك الآثار هي سبب الاعتزاز به والتيمن واعتباره أمارة عزهم، والصلة بين حاضرهم وماضيهم، وفي تقديم السكينة على "بقية" إشارة إلى أن السكينة هي الغاية المطلوبة. الاطمئنان هو الأمر المرغوب، فتلك الآثار ليست في ذاتها الغاية، إنما الغاية هي السكينة، وقد اقترنت بوجودها لتكون علامة ومظهرا، وإن المؤثر بالإيجاد هو رب العالمين كما ذكرنا.
و هنا يثار بحث : كيف كان إتيان التابوت ؟ أجاء بأمر خارق للعادة، أم جاء بأمر عادي، وكان التنبؤ بمجيئه أمارة سلطان طالوت واختيار الله سبحانه له ؟ ثم كيف كانت تحمله الملائكة ؟ أهو الحمل الحقيقي، أم هي القوة الروحية الغيبية التي كانت بأمر الله تعالى من غير أن تعرف أسبابها ومظاهرها، كما ذكر الله سبحانه من أن الله كان يؤيد المسلمين بالملائكة في غزوة بدر، وما كانت إلا القوى الروحية ؟
للإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الباحثين في المسائل الدينية، والمعنيين بالدراسات القرآنية فريقان :
فريق يتجه إلى تفسيره بما يقرب معانيه من الأسباب العادية، ولا يفسره بالخوارق إلا إذا لم يكن مناص، من غير أن يؤول الألفاظ بما يناقض ظاهرها، ولا يتفق مع أسلوب القرآن ومنهاجه البياني.
و فريق لا يحرص على تفسير القرآن بالأسباب العادية، بل يفسره بالخوارق ما دام ظاهره يؤدي إلى ذلك من غير محاولة تقريب ؛ لأنه كتاب يتحدث عن الله، والأسباب إنما يقيد بها العباد، والله خالق كل شيء فهو فوق الأسباب والمسببات، وهو الفعال لما يريد. وكل محاولة لتقريب الألفاظ التي يدل ظاهرها على خرق للعادات إنما هو لتحكيم الأسباب العادية في الإرادة الإلهية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
و لقد كانت العبارة السامية [ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ] هذه العبارة الكريمة موضع نظر أولئك الباحثين على اختلاف مناهجهم، فالذين لا يحكمون العبارات بالأسباب العادية قالوا : إنه قد أتاهم التابوت تحمله الملائكة حقا، وإن كان هذا بطريقة لم يفصلها القرآن، فهي واضحة الدلالة بينة المعنى، ويرشحون قولهم بأن الآية الإلهية التي تدل على اختيار طالوت يجب أن تكون أمرا خارقا للعادة، لتكون الدلالة على اصطفاء الله له قائدا ومدبرا واضحة بينة، فالملائكة حملته حقا، وهم جنود الله الذين لا نراهم وإن كنا نؤمن بهم.
و الفريق الثاني الذي يفسر القرآن بالأسباب العادية ما وسعت العبارات ذلك قالوا : إن التابوت قد جاء إلى بني إسرائيل إما بأنهم عثروا عليه، وقد غيب عنهم أمدا طويلا من غير أن يعلموا له مكانا، والآية هي إخبار نبيهم لهم بذلك قبل وقوعه، وحمل الملائكة له هو بالقوة الروحية التي وفقتهم له بعد طول فقدهم كالقوى الروحية التي أيدت المسلمين في غزوة بدر وغيرها من الغزوات الإسلامية. وإما أن يقال : إن إعادة التابوت في جولات الحرب التي كللت بالانتصار هي العلامة على إمرة طالوت التي كانت باختيار إلهي، وأمر لدني، والمعنى على ذلك : إن آية ملكه وأمارته أنه سيقودكم إلى مواطن الظفر ومواضع الفخار وستعود إليكم في حروبه شارة عزتكم، وأمارة مجدكم التليد، وعزكم الغابر وهي التابوت، وإنه سيعود إليكم مكرما معززا تحمله ملائكة الله، والقوى الروحية. وفي هذا إشارة إلى أن أمارة السلطان العمل المنتج المثمر.
و قد أخطأ بعض المفسرين المحدثين، فذكر أنه يحتمل أن المراد من [ تحمله الملائكة ] أن التابوت كان في شكل صندوق تحمله تماثيل كانوا يسمونها الملائكة من حيث إنها صورة ملائكة في خيالهم. إن ذلك خطأ مبين، وإن ذكر في التوراة الحاضرة ! لأن القرآن الكريم الذي حارب الوثنية وذرائعها لا يتفق مع منطقه أن تسمى التماثيل ملائكة، ولو كان في ذلك مجاراة لتعبيراتهم، ولا يصح أن يفسر القرآن بما لا يتفق مع منطقه ويخالف اتجاهاته ومراميه.
[ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ] ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة السامية، لبيان أن عليهم أن يخضعوا لإمرة طالوت بعد أن تبين لهم اختيار الله له، واصطفاؤه، والمعنى : إن في عناية الله سبحانه وتعالى بكم، من إعادته التابوت شارة عزكم، لآية لكم وعلامة توجب عليكم أن تخضعوا، ولا تتململوا، ولا تتمردوا إن كنتم مؤمنين. أي إن كان شأنكم أن تؤمنوا بالحق، وتذعنوا إذا علمتموه. وهذا التخريج على اعتبار هذه الجملة السامية من كلام بني إسرائيل لهم، فهي تبين وجوب الطاعة عليهم بعد هذه البينات.
و يحتمل أن الخطاب في هذه الجملة السامية للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون المعنى : إن ذلك القصص الحكيم، وتلك العظات البالغة لآية، أي لأمارة تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه، وأنه يتحدث عن ربه ؛ لأنه وهو النبي الأمي الذي لم يقرأ كتابا، ولم يجلس إلى معلم، ولم يلقن أي علم من أي طريق قد ساق إليكم تلك الأخبار الصادقة، فهي آية من آيات نبوته إن كان من شأنكم الإذعان للحق إن بدت آياته وظهرت بيناته.
[ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر ] تولى طالوت إمرة بني إسرائيل، وقيادة جيوشهم، وتقدم بهم للانتصاف ممن أرهقوهم وأذلوهم، فخرج بهم من هدوء الاستخذاء والاستكانة إلى ميدان الجهاد. و"فصل" معناها انفصل، وقد قال في ذلك الزمخشري :( فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله فصل نفسه، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي ك "انفصل"، وقيل فصل عن البلد فصولا، ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا، كوقف وصد، ونحوهما، والمعنى انفصل عن بلده ) ويستفاد من هذا النقل أن فصل تستعمل لازمة ومتعدية عند بعض اللغويين، وعند الأكثرين هي متعدية أجريت مجرى اللازم لكثرة حذف المفعول.
و لما خرج طالوت بجند بني إسرائيل قال لهم : إن الله مبتليكم أي مختبركم "بنهر" وهو بالفتح والسكون لغتان فيه، والنهر : المجرى الواسع الذي يجري فيه الماء، مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها شقا واسعا.
و ما نوع الابتلاء ؟ أهو ابتلاء لمعرفة مقدار طاعة جنده ؛ لأنهم بايعوه وما أرادوا، وقبلوا ملكه وما كادوا يفعلون، فأراد قبل أن يخوض غمار الحرب أن يعرف من أذعن ورضي فيقاتل به ؛ لأنه يكون كنفسه، ومن كان في قلبه ذرة من التمرد أو عدم الإذعان القلبي، فإنه ليس له به حاجة. والنصرة في الجيش باتحاد القلوب والقوة المعنوية، وحسن الطاعة للقيادة، فجند قليل متحدة أهواؤهم ينتصرون بعون الله. على ذلك جمهور المفسرين.
و يصح أن يكون المراد بابتلاء الله لهم أنهم يفصل بينهم وبين أعدائهم نهر، وقد وصلوا إليه مجهدين من العطش والتعب، فخشي أنهم إن مكثوا حوله، وملئوا مزاداتهم وبطونهم واستراحوا واستجموا، أحس بهم أعداؤهم، فاجتازوا النهر إليهم، وأبعدوهم عنه، فأراد طالوت أن يأخذ عدوه بالجولة الأولى المفاجئة، فيجتاز النهر قبل أن يحسوا به، وإن اجتازوه صار النهر في قبضتهم يشربون منه ما شاءوا من غير حاجة إلى التزود، وكانوا هم على الماء، وعدوهم أسفل منه.
هذا احتمال قريب لا ينافيه نسق القرآن الكريم، ويتحقق فيه معنى الابتلاء الشديد ؛ لأن كونهم بجوار الماء بعد جهد وعطش، ولا يأخذون منه إلا غرفات تذهب بالعطش من غير شبع وتزود منه، هذا بلا شك ابتلاء من الله، ويتحقق فيه أيضا معنى الاختبار للطاعة، وهو يتفق مع الخطط الحربية، لأن الفجاءة في الحروب سلاح يقتل ويفرق الجمع، ثم فيه اختبار لعزائمهم وقوة إرادتهم فوق اختبار طاعتهم.
[ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ] أي فمن شرب منه متزودا مستجما حوله مستبردا بمائه مستمتعا به مستنيما إلى الراحة بجواره [ فليس مني ] أي فليس في قيادتي، بل هو خارج على طاعتي، وليس معنا في هذا الجهاد المتعب في أوله، والمثمر في آخره، [ ومن لم يطعمه ] أي لم يذقه [ إلا من اغترف غرفة بيده ] أي أنه لم يذق من ماء النهر إلا بقدر اغترافه بيده ما يبل عطشه، وينقع غلته، ويدفع حاجته العاجلة من الماء أي فمن لم ينل من ماء النهر إلا بهذا القدر [ فإنه مني ] أي معي في جندي، وهو في سلطان قيادتي، وله معي غب النصرة وفخار الانتصار.
و الاغتراف هو الأخذ من الشيء باليد، والغرفة مقدار الماء الذي يغترف باليد.
و هنا بحث لفظي نبه إليه الزمخشري، وهو تقديم جواب الشرط على الاستثناء من الشرط، فقد قال :[ و من لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ] وكان التأليف المعهود للناس أن يقال :( ومن لم يطعمه إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني ) ولكن النص السامي جاء بتقديم الجواب على مستثنى الشرط لحكمة بليغة، وهي المسارعة إلى الحكم بالاتصال، وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم ألا ينالوا من الماء، ثم رخص لهم في الغرفة بيد لنقع الغلة، وذلك ليقللوا ما كان في طاقتهم التقليل ؛ لأنهم إن استرسلوا في أخذ الماء لا يقفوا عند القليل، بل ينالوا منه الكثير.
[ فشربوا منه إلا قليلا منهم ] لم تكن نتيجة ذلك الامتحان الذي اختبرت فيه حكمتهم، وطاعتهم وعزيمتهم تتفق مع رغبتهم في العزة بدل الذلة، فلم ينظروا إلى المآل بعد الحال، لم يصبروا على التعب الوقتي بالعطش ليفاجئوا عدوهم في عقر داره، وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولم يطيعوا قائدهم الحكيم، والطاعة أساس الجندية، ولم يستحصدوا بعزائمهم فلا يستنيموا إلى الراحة قبل وقتها.
و لذا قال تعالى :[ فشربوا منه إلا قليلا منهم ] أي فشربوا منه وكرعوا واستراحوا حوله واستجموا قبل أن يجيء وقت الاستجمام إلا قليلا منهم ربط الله على قلوبهم، وبذلك لم يطيعوا ولم يصبروا، ولم يجمعوا عزمهم متحملين التعب العاجل، في نظير النصر والظفر الآجل.
و لقد قرأ أبي والأعمش "إلا قليل " ومن المعروف أن المستثنى بعد الكلام التام الموجب يكون المستثنى منه منصوبا، فما وجه الرفع هنا ؟ قالوا : إن معنى "فشربوا" أنهم ليسوا منه ؛ لأنه تبين الارتباط اللازم بين الشرب، وكونهم ليسوا منه، فقد قال تعالى :[ فمن شرب منه فليس مني ] فالمعنى إذن "فليسوا منه إلا قليل منهم" فقراءة الرفع إيماء بليغ بمقتضى المنهاج العربي إلى تضمن فشربوا معنى فليس منه المصرح بها سابقا. ولقد قال في ذلك الزمخشري :" قرأ أبي والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا مع ميلهم إلى المعنى، وإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى فشربوا منه : فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم ".
و إن لذلك فائدة بلاغية هي أنه كما قلنا إيماء إلى النتيجة المقررة للشرب، وكأنه تصريح بها، وهي أنهم ليسوا منه وقد انقطعت الصلة بينهم وبينه، فصاروا في ضفة من النهر مستريحين مستنيمين إلى هوى النفس، وطالوت ومن معه قد صاروا في الضفة الأخرى، قد فاجئوا العدو وحالوا بينه وبين الماء، ولذا قال سبحانه من بعد :[ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ] اجتاز طالوت النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب، ولم ينالوا من الماء إلا ما يدفع العطش المميت. ولقد عبر سبحانه عن أولئك الصابرين الطائعين المدركين بقوله تعالى :[ والذين آمنوا معه ] للإشارة إلى أن الإيمان بالله والإذعان له سبحانه هو السبب في طلبهم العزة، وتحملهم المشاق في سبيلها، والصبر على المتاعب لنيلها، والطاعة لمن اصطفاه الله وليا لأمرهم، ومدبرا لشئونهم، وقائدا لهم في ميدان العزة والكرامة.
والضمير في قوله تعالى :[ قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ] يحتمل أن يعود على بعض الذين اجتازوا النهر، ويحتمل أن يعود على الذين استناموا للراحة ولم يجتازوا النهر.
وعلى الأول يكون المعنى : إن الذين اجتازوا النهر، وهم الطائعون الصابرون المعتزمون كانوا فريقين : فريق هاله العدو وكثرته، فاعتراهم الخوف، وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت ( وهو قائد جيش العدو ) وجنوده، وفريق آخر لم تأخذ فؤاده الكثيرة ولم يذهب قلبه شعاعا، وهم الذين قال سبحانه وتعالى عنهم :[ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ].
و كأنه على هذا التخريج يكون بنو إسرائيل مراتب ثلاثة : أولاها وأدناها : أولئك الذين ارتضوا بالعصيان وخالفوا أمر قائدهم، والثانية : أولئك الذين اجتازوا النهر وأطاعوا، ولكن هالتهم الكثرة الكاثرة، وحسبوها الكارثة، والمرتبة العليا هم أولئك الذين آمنوا بلقاء الله تعالى، وفضلوا الباقية على الفانية، وباعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.
و على أن الضمير في " قالوا " يعود على الذين لم يجتازوا النهر، يكون المعنى : إن الذين استناموا للراحة، وآثروا العصيان تقاولوا فيما بينهم وقالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، أي أننا في حاجة إلى الراحة اليوم وإذا نلنا حظنا من الاستجمام والماء فقد يكون اللقاء. وأما الفريق الذين اجتازوا النهر، فقد وجدوا أنفسهم قلة قليلة أمام جموع كثيرة، وقد تخلف من إخوانهم الأكثرون، وقعدوا في الضفة الأخرى مخالفين، ولكنهم مطمئنون إلى نصر الله وتأييده وقد آمنوا بالآخرة فطلبوا الموت لينالوا الحياة، كما قال الصديق خليفة رسول الله :( اطلب الموت توهب لك الحياة ) وقالوا :[ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ].
و معنى لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده : لا قدرة لنا اليوم على ملاقاة جالوت وجنوده، ولو بتحمل أقصى المشقة، إذ الطاقة معناها أقصى ما يبذل من مشقة لحمل الأمر، وإذا انتفى ذلك فمعناه أن الأمر مستحيل بالنسبة لقدرهم، وهذا هو ما يصوره الضعف والاستخذاء، واستمرار الذلة والضعة والهوان. و لأن القائلين لذلك القول فيهم هذه الصفات، نرجح أن الضمير يعود على الذين لم يجتازوا النهر ورضوا بالمقام مع العصيان.
فهذا قول الذين عصوا وذلوا، أما قول الآخرين فقد حكاه الله تعالى بقوله :[ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ] الظن هنا بمعنى العلم القطعي الجازم ؛ لأن شأن المؤمن أن يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا قاطعا جازما لا شك فيه، وإنما عبر عن العلم اليقيني في هذا المقام بلفظ الظن بسببين :
أحدهما : أن اليوم الآخر مغيب غير محسوس.
و ثانيهما : أن الظن يتضمن معنى الرجاء، ورجاء لقاء الله سبحانه وتعالى راضيا عن فعل العبد يدفعه إلى العمل والجهاد في سبيله، وبيع النفس في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.
و وصف أولئك الثابتين الصابرين الذين أرادوا العزة فافتدوها بأنفسهم وأعظموا الفداء بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، بيان للباعث القوي الدافع للرضا بالفداء، والصبر على البلاء، وذلك لأن الإيمان بلقاء الله يجعل المرء يستهين بكل ما ينزل به في الدنيا ؛ لأنه مهما يكن مقداره، تعب ضئيل في مقابل نعيم مقيم يوم القيامة، ولأنه مهما يكن ما يلقاه من عنت في الدنيا لا يعد شيئا مذكورا في نظير لقاء الله تعالى راضيا عنه، متقبلا لأعماله، فذلك الرضوان دونه الدنيا كلها بحذافيرها.
و إذا كان المؤمن بلقاء الله المستشعر لعظمته يستهين بكل ما في الدنيا ومن فيها، فهو مستهين بعدوه مهما تكن كثرته، ولذلك قالوا :[ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ] الفئة : الجماعة المتعاونة المتساندة التي يفئ بعضها إلى بعض، ويظاهر بعضها بعضا، والمعنى كم من مرات كثيرة غلبت جماعة متعاضدة قليلة العدد جماعة كثيرة العدد، لقوة إيمانهم بالله وبحقهم.
و في هذا إشارة إلى أن من أسباب النصر ألا يؤخذ الخصم بقوة خصمه بأكثر من أن يستعد له ويأخذ الأهبة للقائه، أما إن هاله أمره فإنه لا محالة مغلوب ؛ لأن القوة المعنوية ذخيرة فوق العدة والسلاح، ولا تكون القوة المعنوية لقوم يرهبون لقاء عدو الله وعدوهم، بعد أن اتخذوا الأهبة، واختار الله سبحانه وتعالى لهم القيادة الرشيدة، ذات الرأي السديد، والمنهج الحميد.
[ والله مع الصابرين ] ختم الله سبحانه وتعالى الآيات التي تفيد الاستعداد للقتال بتهيئة النفوس، واتخاذ سلاح المفاجأة أول سلاح يرفع ضد الأعداء ببيان سلاح آخر هو أمضى الأسلحة التي تغالب الزمان، وتناضل الحدثان، وهو الصبر، فقال تعالى :[ والله مع الصابرين ] أي أن على الذين يتقدمون للجهاد في سبيل الله أن يدرعوا الص
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( ٢٥٠ )
اجتاز المؤمنون الصابرون النهر، وجمعوا عزائمهم في عزيمة واحدة، وقدروا النصر مع قلتهم وكثرة عدوهم ؛ لأن الإيمان بالحق وحده عدة هي أقوى عدد الجهاد، وبهذه النفوس المؤمنة المتوثبة المفوضة أمورها لرب العالمين، تقدموا للقاء الأعداء، ولم يغرهم بالله الغرور، ولم يفرضوا أن قوة البدن والسلاح والشعور بالحق وحدها كافية للنصر بل لابد من تأييد الله، ولذا قال سبحانه في وصفهم في ميدان القتال :
[ و لما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ٢٥٠ ] أي أنهم خرجوا إلى الأرض الفضاء المتسعة التي تتلاقى فيها القوى المناضلة. "فبرزوا" معناها خرجوا إلى البراز، أي الفضاء المتسع المترامي الأطراف، وكان بروزهم وظهورهم لقوى جبار غالب، ومعه جند مدرب تعود الانتصار في الماضي، وأذاق بني إسرائيل من الذل أكؤسا، ذلك هو جالوت وجنوده.
و ذكره بالاسم ومعه جنوده للإشعار بأن المؤمنين لاقوا جماعة موحدة منظمة، لها فوق كثرة العدو والعدد قوة النظام وتوحيد القيادة وقوة الانتصار في الماضي والغلب عليهم. ولكن التعبير يشعر مع ذلك بأمر آخر قد يكون من أسباب الضعف مع هذه القوة وهو أنهم جند لشخص واحد، يعملون لغايته بمصلحته وسلطانه، بل شهواته ورغباته، فهم لا يعملون لأنفسهم وجماعتهم، بل يعملون لملكهم، وكأنهم مع دربتهم وقوتهم وغلبهم مسخرون لإرادة شخص وهواه، وذلك من أسباب ضعف الإرادات، وعدم الصبر عند الشدائد، وهكذا حكم الواحد المستبد، يحمل في داخله دائما عوامل ضعفه مهما يكن فيه من توحيد وتنظيم للقوى وجمع للقيادة، وذلك يكون إذا كان حكم الفرد صالحا، ولم يكن فاسدا غاشما وطغيانا آثما.
عندما التقى المؤمنون الصابرون من بني إسرائيل بعدوهم، هالهم أمره، وهالهم أمر قائده، ولكنهم كانوا مستولين على قلوبهم، مؤمنين بالنصر أن أخلصوا في أمرهم، وشروا أنفسهم لربهم، ولذلك اتجهوا إليه بعد أن أخذوا الأهبة، فدعوه ضارعين بثلاث عبارات مفوضة تفيد إدراك أسباب النصر :
أما الدعاء الأول فهو :[ قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ] يقال أفرغ الإناء : صب ما فيه من ماء، وأفرغ الدلو على نفسه : صب ما فيه من ماء على نفسه، فمعنى أفرغ علينا : أفض علينا صبرا يعمنا في ظاهر جمعنا، وفي خاصة نفوسنا. فالتعبير ب "أفرغ علينا صبرا " فيه استعارة تمثيلية شبه فيه حالهم والله سبحانه وتعالى يفيض عليهم بالصبر يظهر في جماعتهم مجتمعة وفي الأفراد منفردين بحال الماء يفرغ على الجسم فيعبه كله، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه، فيلقي في القلوب بردا وسلاما، وهدوءا واطمئنانا.
و صدروا الدعاء بالنداء " ربنا " أي خالقنا ومنشئنا ومربينا ومميتنا، وفي ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا، وضرعوا إلى قادر غالب، وإلى منشئ موجد، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر، ويغنيهم به عن نقص العدد.
و ابتدءوا بالدعاء بالصبر، لأن الصبر هو عدة القتال الأولى، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع. والانتصار في القتال بصبر ساعة، والصبر عند اللقاء الأول هو الذي تتبدد به قوى العدو مهما تكاثرت، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنما الصبر عند الصدمة الأولى " ١.
و الدعاء الثاني الذي ضرعوا إلى ربهم فيه قولهم :[ وثبت أقدامنا ]، وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال، فمعنى :[ وثبت أقدامنا ]، أي ثبتنا، ومكنا من عدونا، ولا تمكن عدونا منا، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا، فالتعبير بقوله :[ وثبت أقدامنا ]، تعبير بالجزء وإرادة الكل ؛ لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام، وأن الثبات مظهر الصبر، و ذريعة النصر بل مظهر القوة، وعنده تتحطم قوى العدو، وتتفرق كلمته إذا لم يكن محاربا في سبيل حق، بل كان يقيم الظلم ويؤيد الباطل.
و الدعاء الثالث، وهو قولهم :[ وانصرنا على القوم الكافرين ] وإن إجابة هذا الدعاء هو تحقيق لثمرة الصبر والثبات، وكان الدعاء بتحقيقه للإشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله، وإن أولئك المؤمنين الصابرين الثابتين كانوا يأخذون بالأسباب، ثم يفوضون الأمور إلى الله مسبب الأسباب معتقدين أنه مهما يتحقق السبب ولا تكون المعونة الإلهية، والتوفيق الرباني، والتأييد من القوي الجبار، فلن يكون الانتصار، وأن الجيش القوي مهما يكن عنده من صبر وثبات يجب أن يؤمن بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم القوي الغالب على كل شيء. وقد رأينا في العصور الحديثة قادة عظاما يأخذون بالأسباب ثم ينهزمون، مع أن تحت سلطانهم جنودا مدربين طائعين صابرين ولكنهم لم يقولوا : المستقبل بيد الله، بل قالوا : المستقبل بأيدينا، فكف الله أيديهم عن الناس، وكانوا عبرة المعتبرين.
١ رواه البخاري: (١٢٠٣): الجنائز – زيارة القبور، ومسلم (١٥٣٤): الجنائز – الصبر عند الصدمة الأولى..
[ فهزموهم بإذن الله ] الفاء هنا للسببية، أي أنه بسبب قوة عزائمهم، وحسن صبرهم واتجاههم إلى ربهم ضارعين أن يلهمهم الصبر عند اللقاء، والثبات عند الزحف، والنصر في النهاية لأنه المالك لكل شيء، بسبب كل هذا هزموهم بإذن الله، أي بتوفيقه سبحانه وإرادته وهدايته، وإمداده سبحانه بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها.
و أصل الهزم معناه الكسر، وكثر استعماله في كسر الأعداء، وتشتيت شملهم، وذلك لأن العدو في هجومه يشبه الصخرة المنقضة في تجمعه وصلابته وحدة صمته، فإذا رد على أعقابه تكون حاله كالتكسر بعد الاجتماع والتقطع بعد الاتصال.
[ و قتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ] في هذا التعبير السامي، بيان لسبب من أسباب الانتصار الدنيوي بعد أن وهبهم الانتصار اللدنى، ذلك أن طاغيتهم قد قتل، وهو الذي كان يفرض أهواءه وشهواته عليهم فيجعل منهم جنودا طائعين له يسيرون مع رغبته في السلطان والقهر والغلب بالحق وبالباطل، و كذلك الشأن دائما في أهل الباطل يجتمعون على رجل ويسيرون وراءه، فليست لهم إرادة غير إرادته، ولا روح جماعية تجعل لهم كيانا قائما بذاته، مظهره قائدهم، بل يكون الطاغية هو المسلط عليهم، يملي إرادته على أحدهم، ولا إرادة لأحد وراء إرادته، فإذا قتل ذلك الطاغية أو قضي على سلطانه تفرق الجمع وذهبت الوحدة الرابطة، وعملت السيوف في أقفيتهم.
و كذلك كان أمر أعداء الله، جمعهم جالوت تحت إمرته، وفرض عليهم إرادته بحكم القهر، أو بالاستهواء، أو التبعية الشخصية، فمكن الله أولياءه منه، حتى إذا قتل تفرق الجمع وولى الأدبار، ولا يكون الأمر كذلك إذا كانت الجماعة تحس بالوحدة الجامعة التي تربط آحادها، وقائدها مظهر توحد الإرادة وجمع الكلمة، وليس موجد هذه الوحدة لتسخر لإرادته، فإنه في هذه الحال إذا ذهب القائد، قام مقامه من يماثله أو على الأقل يقاربه ؛ لأن الجماعة لها إرادة موحدة، وليست خاضعة لإرادة مسلطة وهي الموجدة لقائدها، وليس قائدها هو الموجد لإرادته، والإرادة التي أقامته تقيم غيره مقامه إذا خلا مكانه.
كان القاتل لجالوت رأس العدو هو داود، وقد رشحته قوته الجسمية، وإحكامه للقتال وعلمه وحكمته لأن يتولى الملك من بعد طالوت والملك الذي تولاه ليس هو الملك الوراثي الذي يئول فيه السلطان إلى أحد من أسرة الملك السابق بالوراثة القانونية ؛ لأن داود لم يكن من أسرة طالوت، وما رشحته للملك وراثة قانونية، بل رشحه للملك انتخاب طبيعي، وإرادة إلهية آتته الحكم والنبوة، فليس الملك الذي آل لداود هو الملك الوراثي، بل السلطان الحكم ذلك الانتخاب.
و قد ذكر سبحانه العناصر التي ترشح للسلطان وحكم الناس، فكانت قوة الجسم، والحكمة والعلم، ولذا قال سبحانه بعد ذكره قتله لجالوت :[ و آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ] والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم، فالحكمة تقتضي صفتين ذاتيتين في الشخص : عقلا مدركا نافذا بصيرا يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم، فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل، وأحكام الفكر السليم، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية، وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم.
و لقد ذكر سبحانه أنه علم داود مما يشاء أي علمه علما كثيرا واسعا مما شاء أن يعلمه. فقوله تعالى :[ مما يشاء ] يشير إلى سعة العلم، وإنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته.
فعلمه سبحانه سياسة الملك، وأحوال الناس، ومنازع النفوس، وأحوال البلدان وما تنتجه من خيرات، وغير ذلك، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه، والتجارب التي ساقها الله إليه، والذخيرة التي بين يديها من أحوال الحاكمين السابقين، والهداة المرشدين، وما أوتيه من علم التوراة، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين، وفي كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح.
تلك هي عناصر الحكم الصالح، لابد أن يكون الحاكم قويا في جسمه، بحيث لا يخذل جسمه إرادته، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال، ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف، وفي هذه الحال قد يستغنى عن ذلك العنصر إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معا، فالاعتبار الأول لقوة النفس، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها.
و العنصر الثاني هو الحكمة : وهي كما رأيت جعل العمل يسير مع العقل فلا تتحكم الأهواء والشهوات، وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه، فليختبر كل حاكم نفسه، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل، وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق.
و العنصر الثالث الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحالهم، فإن الحكم عمل للمصلحة، وليس سيطرة وتحكما، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته، وغلبت عليه شهوته، ثم غلبت عليه شقوته.
إن فرق ما بين الحكم الصالح وغير الصالح دقيق في معناه، وإن كان الأثر كبيرا في مبناه، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم، فمن تحكم في الرعية ولو باسم مصلحتها، فقد سلك سبيل الفساد ؛ لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة، ولو لبس لبوس المصلحة. والسيطرة تسلط، والتسلط في ذاته فساد يؤدي لا محالة إلى فساد، ويؤدي إلى موت الإرادات في الجماعة، وفي ذلك إضعاف لقوتها.
و أما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها، فهو يؤدي إلى الصلاح لا محالة، وإن تعثر في أخطاء أحيانا ؛ لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم.
[ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ] بين الله سبحانه وتعالى قصة بني إسرائيل وهي قصة يتجلى فيها استخذاء الضعفاء، إن خافوا الموت، وجهلوا أن البقاء على الذل هو حقيقة الفناء، ثم بين كيف تتحفز بعض العزائم لرفع نير الظلم وكف يد الظالم، ثم بين كيف يقوم في المغلوب عليهم نزاع بين دعاة التردد والهزيمة ودعاة الإقدام، وكيف تخضع النفوس لخواطر الرغبة في العزة والإقدام على التغيير، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ثم بين حال الجيوش القوية في وجوب توحد قيادتها تحت سلطان قائد قوي عالم مفكر مجرب، وكيف تضعف العزائم عند الذين ألفوا الذل فيستنيمون إلى الراحة الذليلة، بدل الشدة العزيزة، ثم بين سبحانه كيف تغلب فئة قليلة مسلحة بالإيمان القوي والتصميم على طلب العزة، مستعينة بالصبر، معتمدة على الله جلت قدرته.
بين سبحانه كل ذلك في عبارة جلية، أو إشارة واضحة، ثم بين سبحانه أن سنة الله في خلقه أن يدفع الخير والشر، وأن تكون المدافعة بينهما مستمرة، حتى لا تفسد الأرض، فإنه إن غلب الشر كان الخراب والدمار.
إن الله سبحانه قد قدر أن يبتلي الناس من يوم أن هبط آدم وحواء إلى الأرض، فقد ابتلاهم بإبليس وإخوانه، فكان النزاع بين الخير والشر والحق والباطل، والظلم والعدل، والله دائما يسخر للحق أنصارا يعملون لنصرته، ويتخذون الأسباب والأهبة، ثم يؤيدهم بنصره وتوفيقه، فإن الأرض لا تخلو من قائم للحجة ظاهرا مشهورا، أو مستورا مغمورا، حتى لا تذهب بينات الله كما قال علي رضي الله عنه.
و لذا قال سبحانه :[ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ] أي لولا دفع الله سبحانه بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار لفسدت الأرض ؛ لأنهم إن تركوا من غير أن يدافعوا عم الفساد وعم الدمار. وإن دفع الشر بالخير يكون في داخل الأمم وبين الآحاد، وبين الأمم بعضها مع بعض، فالأمة الواحدة يكون من آحادها الأخيار والأشرار، ويدفع الله بعمل الأخيار وبال عمل الأشرار.
و دفع ذلك يكون بطرق مختلفة :
منها : أن يكون الشر في خفاء، والخير في جلاء، فيكون انزواء الشر دفعا له، وفي ظهور الخير دعوة إليه، وحثا عليه.
و منها : أن يقل عدد الأشرار الظاهرين ويكثر عدد الأخيار البارزين فيدفع الله سبحانه بتلك الكثرة الظاهرة شر تلك القلة الفاجرة.
و منها : أن عمل الأبرار في الأمة يصلح الله به ما أفسده الأشرار مهما يكن عدد هؤلاء، ففي بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله يدفع العذاب – أي الدنيوي – بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الفرائض ما أنظرهم الله طرفة عين. ثم تلا قوله تعالى :[ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ] ١.
و أما دفع الله بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار في الأمم بعضها مع بعض فإن ذلك بجهاد الأمم التي تعمل للحق للأمم التي يناصر أكثرها الباطل، أو تسكت عن ظلم حكامها لغيرهم من الأمم. ولقد روي أن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى :[ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ] :"لولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد ".
و في الجملة أنه لابد للحق من قوة تدفع الباطل، وأن الله قد أمد الأخيار بقوته ليدفعوا الشر ويكفكفوا من حدته.
و في العبارة السامية إشارة إلى أن تلك المغالبة هي في طبيعة البشر بمقتضى خليقتهم وفطرتهم، إذ قال سبحانه :[ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ] فهو سبحانه قد حكم بأن دفعه للناس أجمعين، ثم أردف القول بالبدل بقوله :[ بعضهم ببعض ] وفي ذلك إشارة إلى أن تلك المدافعة بين الناس مستمرة، وأنها ليست في جيل دون جيل، ولا زمان دون زمان، ولا يتعين أن يكون قوم بأعيانهم للشر، وآخرون للخير، فقد يكون بعض الناس فيه خير في بعض نواحيه، فيدفع شر غيره في هذه الناحية، ويكون في الآخر ما يدفع به شرا في بعض نواحي الأول، و قد يكون بعض الأقوام في جانب الحق ينصرونه لغايات في نفوسهم، وإن لم يكونوا فضلاء في عامة أحوالهم، فالشر يدفع بالبر والفاجر، وينصر الحق بالأخيار والأشرار، ولذا لم يقل سبحانه وتعالى : ولولا دفع الله الأشرار بالأخيار، بل قال سبحانه :[ بعضهم ببعض ] ليعم تلك الأحوال، وذلك من فضل الله على عباده، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته :[ ولكن الله ذو فضل على العالمين ].
و قد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور :
أولها : أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته، وإنعامه على خلقه، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه، وذلك لأنه خلق الناس، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون، وعليهم وبال أمرهم، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله، وقد دل على ذلك الاستدراك بقوله تعالى :[ ولكن الله ذو فضل ] ووصف ذلك بأنه فضل من
١ راجع الدر المنثور للسيوطي ج ١ ص ٧٦٤، كما ذكره القرطبي : سورة البقرة (٢٥١)..
[ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ٢٥٢ ] بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله وهي تتلى بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنها تتلى على الرسول الكريم وهي معجزته وآية رسالته، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم ؛ لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، لم يجلس إلى معلم، ولم يأته علم لا بطريق كتاب يقرؤه، لأنه ليس بقارئ، ولا بطريق معلم يعلمه، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين، إذ كان صلى الله عليه وسلم من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب، ولا علماء يتدارسون، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ذا نجعة وأسفار، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين.
فإذا كانت حال النبي كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته، فهو دليل على أنه من عند الله.
و الإشارة في قوله تعالى :[ تلك آيات الله ] إلى الآيات المتلوة من قوله تعالى :[ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل... ٢٤٦ ] ( البقرة ) إلى آخر القصة وكانت الإشارة للبعيد، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات من أولها إلى آخرها ولعلو شأنها، وكمال معانيها والوفاء في مقاصدها. وإضافة الآيات إلى الله لأنها جزء من القرآن وكله من عند الله، فالإضافة لتقرير هذا المعنى وتوكيده، وتنبيه الأذهان دائما إليه ليعطوه حقه من الفهم والتدبير والاسترشاد به، والاعتبار بما اشتمل عليه من مواعظ وقصص وعبر.
و قوله تعالى :[ نتلوها عليك بالحق ] يفيد أمرين :
أولهما : أن القرآن كان يتلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلقاه بالروح الأمين. وإسناد التلاوة إلى الله العلي القدير مع أن الذي كان يلقي القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، للإشارة إلى أن تلاوة جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين.
الأمر الثاني : أن ما في القرآن حق دائما، أي أمر ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان ؛ لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل.
و التلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له. وقد قال الراغب في مفرداته إن مادة "تلا" أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها، وذلك يكون تارة بالجسم، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلو وتلو، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، ومصدره تلاوة..
ثم قال :" والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وهي أخص من القراءة. فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة ".
فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني.
و قد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى :[ وإنك لمن المرسلين ].
و إن ذلك كالنتيجة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة مؤكدات :
أولها :" إن "، فإنها في أصل معناها للتأكيد، وهو يصحبها في دلالتها دائما.
و ثانيها :" اللام " في قوله تعالى [ لمن ].
و ثالثها :" الجملة الاسمية "، وإدخاله صلى الله عليه وسلم في عداد المرسلين.
و إن قوله تعالى :[ وإنك لمن المرسلين ] يدل على أمر آخر، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد، وهو من البشر، بدعا، ولا أمرا غير مألوف أو معروف فلا يماري في أصل الرسالة إلا جهول، أو جحود.
و إن القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ( ٢٥٣ )
في الآيات السابقة ذكر الله سبحانه وتعالى اصطراع الحق مع الباطل، وانتصار الحق في المآل، لأن غلبة الباطل فيها فساد الأرض [ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض... ٢٥١ ] ( البقرة ) وذكر في ختام الآيات السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم من المرسلين الذين بعثوا لينصروا الحق، وليعم نور الله في الآفاق.
وفي هذه الآيات التالية يبين سبحانه أن الرسل، وإن كانوا جميعا مبعوثين من رب العالمين، ليسوا في درجة واحدة، وأن بعثهم ينصر الحق ولا يمحو الباطل، ويرفع منار الهدى، ولا يزيل الضلال، ولكنه يكون ضلالا بعد البينات، ولا يكون ضلالا عن جهالة، فلا يعذر فيه الضال، ولذلك كان القتال بعد الأنبياء بين المهتدين والضالين، وتلك إرادة الله، وقد ابتلى الخير بالشر، والمهتدين بالضالين [ وليمحص الله الذين آمنوا... ١٤١ ] ( آل عمران ).
[ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ] الإشارة هنا إلى جماعة الرسل الحاضرة في ذهن التالي للقرآن الكريم، المستقرة في وعيه بما ختمت به الآيات السابقة، وهو قوله تعالى :[ وإنك لمن المرسلين ٢٥٢ ]. والإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان علو منزلتهم أجمعين، وأنهم المصطفون الأخيار، وأنهم مهما تتفاوت منازلهم في رسالاتهم، هم جميعا ليسوا كسائر الناس، فلهم شرف البعث والرسالة والاصطفاء.
و التفضيل مشتق من الفضل وهو الزيادة، فمعنى [ فضلنا بعضهم على بعض ] هو كقوله تعالى :[ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض... ٥٥ ] ( الإسراء ) أي جعلنا لبعضهم زيادة في بعض النواحي على البعض الآخر. والفضل هنا إضافي وليس بذاتي، أي أن هذا ليس من ذات الرسل، إنما هو بما يختص الله بعضهم من معجزات مغايرة لمعجزات الآخرين. ثم التفضيل إضافي لأنه يكون في ناحية من النواحي، وقد يكون هناك ناحية أخرى فضل بها المفضول غيره، فموسى فضل على عيسى بأنه كلمه الله، وعيسى فضل على موسى بأنه أحيا الموتى ؛ فالتفضيل إذن إضافي في موضوعه، وفي نوعه، وفي نواحيه.
و إن تفسير التفضيل على ذلك النحو فيه توفيق بين الآيات الكريمات المثبتة للتفضيل بين الرسل وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن التخيير بين الأنبياء.
فقد روى الأئمة الثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تخيروا بين الأنبياء " ١ " ولا تفضلوا بين أنبياء الله "٢ وفوق ذلك فإن النهي عن أن يجري على ألسنة الناس تفضيل نبي بذاته على نبي آخر فتكون المشادة والملاحاة. وروي في الصحيحين عن أبي هريرة قال :" استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي وقال : أي خبيث ! وعلى محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ! فاشتكى المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا تفضلوني على الأنبياء " ٣.
و النهي عن التفضيل منعا للمماراة لا ينفي حقيقة التفضيل المقررة، كما أن النهي عن سب الأوثان لا يثبت أنها واجبة الاحترام، إذ النهي لسد الذريعة، فلا يمنع ثبوت الحقيقة.
و إن هذه الآية الكريمة سيقت لبيان فضل بعض النبيين على بعض لكيلا يندفع بعض الناس إلى الجحود، فيقولوا : إننا نتبع النبي موسى أو عيسى دون محمد، وما داموا جميعا أنبياء فأيهم نتبع يكون في اتباعه النجاة، فبين سبحانه أنه فضل بعض الرسل على بعض في الشريعة والزمان، فجعل محمدا شريعته عامة ناسخة لما عداها، ورسالته للناس كافة، وهو خاتم النبيين، وذلك من فضل الله، كما أن من فضله أنه كلم موسى تكليما، ومن فضله أن جعل عيسى يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر الناس بما في بيوتهم، فليس لأحد أن يرفض شريعة محمد ؛ لأنه اختار شريعة عيسى، إذ إن من فضل الله الذي اختص به محمدا صلى الله عليه وسلم أن جعل شريعة ناسخة لغيرها ؛ لأنها آخر الشرائع ؛ ولأن محمدا خاتم النبيين، ورسالته عامة شاملة للناس كافة، وكانت رحمة للعالمين.
[ منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ] في هذه الجملة السامية من الآية الكريمة بيان لبعض وجوه التفضيل التي اختص الله سبحانه وتعالى بها بعض النبيين، وهي في الحقيقة وجوه للتفضيل لا تتصل بأشخاصهم، بل تتصل برسالاتهم، وما تؤيده هذه المعجزات من شرائع، ومن تخاطبهم من أقوام تكون تلك المعجزات مناسبة لهم.
و في هذه الجمل ذكر الله نبيين من أولى العزم من الرسل، وأشار إلى ثالث :
فأما الأول فهو موسى ؛ قد أشير إليه بما يشبه النص بقوله :[ منهم من كلم الله ] فإن ذلك هو موسى عليه السلام، فقد قال سبحانه وتعالى في شأن موسى عليه السلام :[ وكلم الله موسى تكليما ١٦٤ ]( النساء ) وقال سبحانه :[ يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي... ١٤٤ ] ( الأعراف ) وقال تعالى :[ ولما جاء موسى لميقاتنا.. ١٤٣ ]( الأعراف ).
فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد اختص موسى عليه السلام بكلامه، وهو إحدى طرق اتصال رب العالمين بالمبعوث من خلقه، فقد قال تعالى :[ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ٥١ ] ( الشورى ) وكلام الله سبحانه وتعالى مع موسى كان من النوع الثاني، وهو الكلام من وراء حجاب.
و كان خطاب الله سبحانه وتعالى بتكليمه من وراء حجاب مناسبا لأقوام موسى ؛ لأنهم قد غلبت عليهم المادية، وغلب عليهم الجحود وإنكار الألوهية لرب السماوات والأرض، حتى لقد قالوا :[ أرنا الله جهرة... ١٥٣ ] ( النساء )، فكان المناسب لمثل هؤلاء الأقوام أن يكون كلام الله للمبعوث إليهم مباشرة ولا يكون وحيا يوحى، ولا برسول من الملائكة يرسله إليه، فما كان ذلك تشريفا فقط لموسى، بل كان مع ذلك التشريف مقصد يتفق مع حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو العلي الحكيم.
و ليس معنى ذلك الاختصاص أن الله سبحانه وتعالى قد رفع الله به موسى عليه السلام على كل الرسل، بل إن الله سبحانه رفع بعض الأنبياء درجات، وإن لم يكن لهم ذلك الاختصاص ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يختص برحمته واصطفائه من يشاء، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذكر تكليم الله لبعض رسله [ ورفع بعضهم درجات ] فقرن هذه بكلام موسى لتدل على أن التكليم وإن كان شرفا عظيما لا يقتضي أن يكون الملك فوق الأنبياء منزلة، بل إن بعض من لم يكلمه الله رفعه الله درجات.
والدرجات جمع درجة، وهي المنزلة الرفيعة السامية، وفي التعبير بالجمع إشارة إلى علو المنزلة، وكبر التفاوت بينه وبين غيره ممن لم يؤت ما آتاه الله، وما نيط به من تكليف هو عين التشريف.
و إن الله سبحانه قد ذكر أنه رفع مقام بعض النبيين، فقد ذكر عن إدريس عليه السلام أنه رفعه مكانا عليا، فقال سبحانه :[ ورفعناه مكانا عليا٥٧ ] ( مريم ) ولكن الرفع إلى مكان علي غير الرفع درجات ؛ لأن الرفع درجات يدل على التفاوت بينه وبين غيره كما قال تعالى في حقوق الرجال والنساء :[ وللرجال عليهن درجة... ٢٢٨ ] ( البقرة ) أما الرفع إلى مكان علي فلا يدل على هذا التفاوت.
و إن ذلك الارتفاع درجات عن النبيين كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ذو الدرجات الرفيعة، لمعجزته الباقية إلى يوم القيامة، ولشريعته الخالدة، ولعموم رسالته، ولأن أمته الآخذة بشرعه المتبعة له حقا وصدقا خير أمة أخرجت للناس. ولقد قال الزمخشري في ذلك المقام ما نصه :" الظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة.. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء ؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. و في هذا الإبهام ( أي أنه لم يذكر اسم محمد ) من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل من فعل هذا ؟ فيقال أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره ".
و إن القرآن الكريم قد جاء فيه ما يدل على رفعة محمد صلى الله عليه وسلم درجات بشريعته، فقد كانت شريعته رحمة للعالمين كما قال تعالى :[ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا... ٢٨ ] ( سبأ ) ورفعه سبحانه بمعجزته الكبرى وهي القرآن، فقد قال فيه سبحانه :[ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم... ٥٥ ] ( الزمر ) ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة " ٤.
بعد أن أشار سبحانه إلى علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ما اختص به عيسى عليه السلام من فضل فقال :[ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ] وكان ذكر فضل النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل النبيين قبله للمسارعة إلى أنه مهما يكن ما اختص كل واحد منهما من معجزات ترفعه فمقامه ليس أعلى من مقام النبي صلى الله عليه وسلم، بل للنبي فوق ذلك درجات.
ذكر الله سبحانه ما اختص به عيسى من فضل [ وآتينا ] أي أعطينا [ عيسى ابن مريم البينات ] أي المعجزات المبينة لصدق رسالته، من إحياء للموتى، وإبراء للأكمه والأبرص، وتصوير للطين كهيئة الطير، ثم يصير طيرا بإذن الله، وإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وغير ذلك مما يدل على علو روحي، وأنه مؤيد من رب العالمين، وقال سبحانه في فضله أيضا :[ وأيدناه بروح القدس ] والقدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية، وروح القدس الذي أيد الله به عيسى عليه السلام هو جبريل الأمين، وهو في عبارات الإسلام وفي لغة القرآن يطلق عليه، فقد قال تعالى، [ قل نزله روح القدس... ١٠٢ ] ( النحل ) أي أن القرآن الكريم نزل به الروح القدس الأمين، ولذا قال سبحانه في آية أخرى [ نزل به الروح الأمين ١٩٣ على قلبك لتكون من المنذرين ١٩٤ ] ( الشعراء ). وقد قيل إن روح القدس هو الإنجيل، وذلك لا يختلف في الجملة عن سابقه، إذ إن جبريل هو الذي نزل بالإنجيل والتأييد بروح القدس حينئذ يكون مقصورا على نزول الإنجيل، ولكن إطلاق العبارة في التأييد يشمل نزول جبريل بالإنجيل وتأييده بغير ذلك، فتفسير روح القدس بالإنجيل تفسير يؤدي إلى تأييد جزئي، أما تفسيره بجبريل الأمين فهو تفسير يؤدي إلى تأييد أوسع شمولا.
و لماذا خص سيدنا عيسى عليه السلام بأنه مؤيد بالروح القدس وهو جبريل، مع أن أكثر النبيين كانوا مؤيدين بنزول الشرائع من الله عليهم عن طريق جبريل ؟ والجواب عن ذلك أن السيد المسيح عليه السلام لم يكن محاربا لخصومه وأعدائه الذين يتربصون به الدوائر، من رومان ووثنيين ويهود ماديين، ولم يؤذن له في القتال، حتى يتولى حما
١ متفق عليه، رواه البخاري (٦٤٠٥) : الديات – إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، ومسلم (٤٣٧٨) : الفضائل – من فضائل موسى عليه السلام، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
٢ رواه البخاري: أحاديث الأنبياء (٣١٦٢)، ومسلم: الفضائل (٤٣٧٦)..
٣ راجع السابق، وبهذا اللفظ رواه البخاري (٢٢٣٥) : الخصومات – ما يكون في الإشخاص والخصومة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
٤ رواه أحمد في مسنده (١٣٧٤٥). ورواه البخاري (٤١٩)، ومسلم (٨١٠)..
[ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ] بعد أن بين سبحانه أن الاقتتال قائم في الدنيا، وأن الحق لا ينال في راحة واطمئنان ؛ لأن البغي والعدوان في طبيعة كثير من بني الإنسان، وإذا كان الحق في ذاته أنبل ما يطلبه ابن الإنسان فإن الطريق إليه ليس خاليا من مذأبة من ابن الإنسان، وإذا كان ابن آدم قد قتل أخاه ؛ لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فقال من رد عليه قربانه لأخيه : لأقتلنك، وقتله ؛ فالنزاع مستمر ؛ لذلك [ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ٣٩ ] ( الحج ) فكان لابد من أخذ الأهبة، وبذل النفس، ثم بذل النفيس أيضا.
و لذلك أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يستعدوا للقتال بالإنفاق في سبيل الله تعالى :[ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ] أي أنفقوا في سبيل الله. فالإنفاق في سبيل الله هو الإنفاق في سبيل الحق، وسبيل كل خير في هذا الوجود، فكل ما ينفق في سبيل الفضيلة من إعطاء لليتامى والمساكين وابن السبيل، وإقامة دعائم الاقتصاد الفاضل، والعمران الشامل هو مما ينفق في سبيل الله، وأقواها مما ينفق في سبيل حماية الحوزة، والدفاع عند الاعتداء.
و إن إنفاق المال في سبيل الله على المعنى الذي وضحناه هو عنصر القوة في الأمة، وبالقوة تستطيع الأمة أن تدافع عن نفسها، وترد كيد أعدائها في نحورهم.
و كان الإنفاق على ذلك النحو عنصر القوة في الأمة لثلاثة أسباب :
أولها : أن المال عدة التسليح، ولا قتال من غير سلاح يفل شوكة العدو ويدفع كيده، بل يمنعه من أن يكفر في الاعتداء، فإنه لا شيء أنفى للقتال من السلاح، فذو الناب لا يعدو على ذي الناب، وتعدو الذئاب على من لا كلاب له.
و ثانيها : أن الإنفاق في سبيل إقامة العمران رفع لمستوى الأمة الاقتصادي، والاقتصاد سلاح ماض، والحرب اليوم تلبس لبوس الاقتصاد في الحصار الاقتصادي والتضييق التجاري.
و ثالثها : أن الإنفاق على ضعفاء الأمة يجعل منهم سواعد قوية تحمي الذمار، وإن تركهم يجعل منهم شوكة في جنب الدولة يعوقها عن العمل، وقد يكونون قوة مدمرة مخربة، وإن الهرة إذا جوعتها انقلبت ذئبا.
و قد قال سبحانه وتعالى في المال المنفق منه [ مما رزقناكم ] إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أفاض بنعمته على الغني فهيأ له الأسباب، ومكنه من الفرص، ومنع عنه العوائق، فإن أنفق في سبيل الله فأعطى المجاهدين والضعفاء، فمن المال الذي مكنه الله منه أنفق، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" ابغوني في ضعفائكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم " ١.
و الإنفاق المطلوب في هذه الآية واجب، بدليل الوعيد الذي تضمنه الطلب، ولذا قال الكثير من المفسرين إن الإنفاق المطلوب في هذه الآية هو الزكاة، والزكاة ينفق منها في الجهاد وللفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين، ففيها كل المعاني التي تتحقق بها قوة الأمة من حماية للحوزة وسد للخلة، وإقامة للعمران.
و إنا نوافقهم على أن الإنفاق المطلوب في هذه الآية إنفاق واجب، ولكنه أعم من الزكاة، فليس الإنفاق الواجب مقصورا على الزكاة.. بل الإنفاق في الحروب عندما تشتد الشديدة، ولا يكون في بيت المال ما يكفي، يكون واجبا. والإنفاق على الفقراء إذا لم تكف الزكاة يكون واجبا، فالقصر على الزكاة ليس بصحيح.
وقد ذكر الله سبحانه وعيدا شديدا لمن لا ينفق في سبيل الله فقال سبحانه :[ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ] والخلة المودة والمحبة، وأصلها من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه :" الخلة المودة، إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وإما لأنها تخل بين النفس فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية، وإما لفرط الحاجة إليها، يقال منه خاللته مخاللة وخلالا فهو خليل ". والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، فالشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو دونه، ومنه الشفاعة يوم القيامة.
و قد صرح سبحانه وتعالى بأن الإنفاق يجب أن يتداركه المنفقون قبل أن يأتي اليوم الذي لا يجدي فيه بيع ولا مودة ولا شفاعة. ولا شك أن هذا اليوم هو يوم القيامة، ولكن ما المراد من نفي البيع والصداقة والشفاعة فيه ؟.
هناك منهجان في معنى هذا النفي :
أحدهما : أن معنى هذا النفي أنه يوم لا بيع فيه أي لا تجارة حتى يدفع الحرص عليها إلى عدم الإنفاق، ولا صداقة حتى يؤثر الإنفاق عليها أو طلب المادة عن طريقها في عدم الإنفاق، أو شفاعة أي طلب المال بطريق شفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء، والمعنى على هذا : أنفقوا قبل أن يجيء اليوم الذي لا تجدون فيه جدوى للمال بتجارة، أو بصداقة تتبادل فيها المنافع المعنوية والمادية، أو بشفاعة شفعاء يطلب المال عن طريقهم. والمغزى في هذا أنه إذا غرتكم فوائد المال في هذه الأبواب الدنيوية، فأنفقوا لتتقوا بهذا اليوم الذي لا تروج فيه هذه الأسباب، بل يحكم فيه الحكم العدل مالك الملك.
و المنهاج الثاني : أن يكون المراد نفي هذه الأمور في الآخرة، فالمعنى : أنفقوا قبل أن يأتي اليوم الذي لا تستطيعون فيه أن تفتدوا نفوسكم بعدل تقدمونه فيكون كالبيع، ولا تجدون صديقا يدفع عنكم، ولا شفيعا يشفع لكم فيحط من سيئاتكم إلا أن يأذن رب العالمين. والمغزى على هذا يكون الوعيد فيه أشد وأوضح ؛ لأن المعنى نجوا أنفسكم بالإنفاق قبل أن يكون زمان لا منجاة فيه.
[ والكافرون هم الظالمون ] ذيلت هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أن المؤمنين عدول إذا قاتلوا الكافرين ؛ لأنهم هم الذين اعتدوا، وإلى أن الذي يقع بهم من عقاب يوم القيامة يستحقونه، وإلى أنهم هم الذين حركوا ذلك الشر، وأنهم هم الذين أشعلوا نيران الحروب بالشر الذي كان في نفوسهم.
ثم إن الكافرين ليس ظلمهم فقط لغيرهم، بل ظلمهم لأنفسهم ؛ لأنهم طمسوا قلوبهم، وجعلوا أنفسهم في شدة وبلاء، ثم هم ظالمون فيما بينهم، كبراؤهم يظلمون ضعافهم، وضعفاؤهم يظلمون أنفسهم، بالاستضعاف والحياة الهون بينهم، وظلموا أنفسهم بأن حرموها من سعادة الإيمان وبرد اليقين ونور الحق، ورضوان الله ونعمة الله [ قد خسروا الذين كذبوا بلقاء الله... ٤٥ ] ( يونس ).
لكل هذه المعاني كانوا ظالمين، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ظلمهم بالقصر، أي قصر الظلم عليهم ؛ لأنه لا ظالم غيرهم ؛ وبالجملة الاسمية والضمير المنفصل.
هدانا الله إلى سبيل الحق والعدل والنور، إنه سميع مجيب الدعاء.
١ سبق تخريجه..
[ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ( ٢٥٥ ) ].
اقتتل الذين جاءوا بعد النبيين كما بينت الآية السابقة، واختلفوا في تلك الحقيقة المقررة الثابتة التي دعا إليها النبيون منذ أول مبعوث رحمة للعالمين، ولقد ناسب أن يبين سبحانه بعد ذكر الخلاف ثم القتال ما جعله المشركون موضع خلاف، وهو في حقيقة الأمر فوق كل خلاف إن استقامت العقول، وسلمت الفطرة، ولم يدس النفس في الشر نازغ الشيطان، ويضل ابن آدم حتى يطمس في قلبه نور البرهان.
و لذلك قال سبحانه :[ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ] وهذه الآية الكريمة تذكر صفات الله تعالى وسلطانه وكمال وجوده، وفيضه بنعمة الوجود على كل شيء في الوجود. ولقد ذكر العلماء أنها تشتمل على حقيقتين مقررتين تؤكدان معنى الوحدانية، وتربيان المهابة الإلهية في قلب كل مؤمن صافي السريرة قد خلا قلبه من كل رين الشرك، ومن مظاهر العبودية لغير الله سبحانه وتعالى :
الحقيقة الأولى : أنها تشتمل على عشر جمل، كل جملة منها تشتمل على وصف أو وصفين فيه بيان كمال الله العلي الأعلى، وسلطانه الشامل الكامل، وألوهيته الحق المستقرة في ثنايا كل نفس إلا من ختم الله على قلبه.
الحقيقة الثانية : أنها أكثر آي الكتاب الكريم ذكرا لله رب العالمين. ولقد ذكر بعض العلماء أن الله العلي العليم ذكر فيها بالاسم الظاهر أو الضمير أكثر من سبع عشرة مرة، وقد أحصاها عدا.
و لاشتمال تلك الآية الكريمة على ذكر الاسم المقدس، وتنزيهه سبحانه وكمال سلطانه، وامتيازها بتكرار ذكر الله، ذكر كثير من العلماء أنها أعظم آية في كتاب الله، واستندوا في ذلك إلى أخبار صحاح وردت في صحاح السنة، من أقوال النبي الأمين ١. والقرآن كله فوق قدرة العقل البشري، وهو في ذاته أعظم كتاب نزل من رب العالمين ؛ لأنه كتاب الحقيقة من بدء الخليقة، ولا نرى ما يمنع أن تتفاوت آياته في العظم، وإن كان أصل العظم المتسامي عن قدرة البشر محققا مؤكدا فيه كله، وفي كل آية بخصوصها.
[ الله لا إله إلا هو ] تلك هي الجملة السامية الأولى من الجمل العشر التي اشتملت عليها الآية الكريمة، ولفظ الجلالة " الله " قال العلماء : إن أصله : إله، دخلت عليه أداة التعريف " أل" وحذفت الهمزة فصارت : الله. و هي بهذا المعنى تفيد التعريف بأنه وحده هو الإله، فهي تتضمن معنى الألوهية المنفردة، دلت على ذلك " أل " التي تفيد التعريف، فمعنى كلمة الله : الإله المنفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه، وعلى ذلك تكون كلمة الله تفيد معنى استحقاق العبادة، ومعنى الوحدانية، ومعنى الكمال كله ؛ لأنه المنفرد بذلك كله، فإذا أطلق اللفظ انصرف إليه، ولم يفهم منه سواه، تعالى سبحانه عن الشبيه والمثيل، والمقارب والنظير.
و إن ذلك المعنى المفهوم من لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه قد صرح به في هذه الآية الكريمة، فقد قال سبحانه :[ لا إله إلا هو ] فهو تصريح بما فهم ضمنا مما قبله، فاجتمعت في الدلالة على الوحدانية الدلالتان : الدلالة التضمنية، والدلالة اللفظية، أو الدلالة بالإشارة، والدلالة بالعبارة، فكان في ذلك تأكيد فضل تأكيد لمعنى الوحدانية في الألوهية. ومعنى قوله تعالى :[ لا إله إلا هو ] لا معبود بحق إلا هو، وهذا هو المعنى الذي اختاره جمهور المفسرين، وهو واضح، وفيه إشارة إلى وقائع الأمور ؛ ذلك لأن بعض الناس عبدوا غير الله تعالى، فعبد بعضهم الشمس والكواكب، وعبد بعضهم النار، وعبد بعضهم الأوثان، واعتبروا كل هذه آلهة، فكانت عبادتهم باطلة وبغير حق، إنما المعبود حقا، والمستحق للعبادة صدقا هو الله سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم، العلي القدير.
و لقد سلك بعض العلماء مسلكا آخر في تفسير قوله تعالى :[ لا إله إلا هو ] فذكر أن معنى الألوهية هو تسخير الكون كله لقوة القادر الغالب على كل شيء، وتعلق الخلق كله بخالقه، واتصاله به اتصال إنشاء وتكوين، ثم اتصال تدبير وتنظيم، ثم اتصال خضوع وسيطرة كاملة، وتعلق به سبحانه. وعلى هذا يكون المعنى : لا منشئ ولا خالق ولا مسخر ولا مسيطر على الوجود إلا رب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ولا خضوع إلا لقدرته، ولا تتعلق الأشياء إلا بذاته سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فإنه لا مستحق للعبادة سواه، وبذلك يجيء المعنى الأول نتيجة لهذا المعنى وثمرة له، وهما بهذا متلاقيان.
و في الحق أن أصل اشتقاق كلمة " إله " يتضمن معاني الخلق، والعبادة، والمحبة، والضراعة إليه سبحانه. ولننقل عبارة الأصفهاني في أصل اشتقاقها، فإنها في هذا شاملة كاشفة، فقد قال :
" وإله جعلوه اسما لكل معبود لهم، وسموا الشمس إلها، لاتخاذهم إياها معبودا، وأله فلان يأله عبد، وقيل تأله، فالإله على هذا المعنى هو المعبود، وقيل هو من أله أي تحير.. وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته تحير فيها، ولذا قيل : تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله. وقيل أصل إله ولاه، فأبدل من الواو همزة، وتسميته بذلك لكون كل مخلوق والها نحوه، إما بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات، وإما بالتسخير والإرادة معا كبعض الناس. ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء : الله محبوب الأشياء كلها. ودل عليه قوله تعالى :[ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ٤٤ ] ( الإسراء ).
[ الحي القيوم ] هذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو الحي القيوم. والحي هو ذو الحياة الكاملة، والحياة الكاملة مظهرها الشعور والإدراك والعلم، وهي كمال الوجود في المحسوسات والمخلوقات، ولكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى صفة كمال له جلت قدرته، مظهرها العلم والإرادة والقدرة، والخلق والتكوين ! فإنه وإن اشترط الحياة بين الباقي والفاني، فمعناه في الفاني لا يليق بذاته، ومعناه في الباقي سبحانه وتعالى يليق بذاته العلية [ ليس كمثله شيء... ١١ ] ( الشورى ).
و الحياة على هذا صفة كمال قد وصف الله سبحانه وتعالى بها ذاته الكريمة، والعقل يوجب اتصافه سبحانه بها ؛ لأنها من كمال الوجود ؛ والله سبحانه وتعالى هو وحده كامل الوجود، وفوق كل موجود. وقد ذكر الأستاذ الشيخ محمد عبده بيان وجه الكمال في صفة الحياة له سبحانه، فقال في رسالة التوحيد :
" إذ وجب أن يكون له سبحانه صفة الحياة، وهي صفة تستتبع العلم والإرادة ؛ وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالا، للوجود بداهة، فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة، وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار، فهي كمال وجودي، ويمكن أن يتصف بها الواجب، وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له، فواجب الوجود حي، وإن باينت حياته حياة الممكنات، فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة، ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودا.. والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف يكون فاقدا للحياة ويعطيها ؟ ".
و إذا كان الله سبحانه وتعالى حيا ذا إرادة كاملة، وعلم شامل، وقدرة قاهرة، فإن الكون نشأ بإرادته، وقام بسلطانه، وهو فوقه والمسيطر عليه، ولم ينشأ عنه سبحانه كما ينشأ المعلول عن علته، كما قال بعض الفلاسفة قديما، وكما يزعم بعض الماديين حديثا، ممن ينكرون القوة الغيبية المسيطرة القادرة المريدة.
و [ القيوم ] معناه القائم بنفسه الذي لا يقوم بغيره، فلا يحل في شخص ولا في شيء، والقائم على كل شيء بالتدبير والحياطة والكلاءة [ من يكلؤكم بالليل والنهار... ٤٢ ] ( الأنبياء ) والقائم على كل نفس يحصي عليها ما كسبت وما اكتسبت، والقائم الدائم الذي لا يفنى ولا يزول.
و يظهر أن كلمة قيوم بهذا المعنى كانت معروفة عند العرب وصفا لله سبحانه وتعالى، فقد قال أمية بن أبي الصلت :
لم تخلق السماء والنجوم *** و الشمس معها قمر يقوم
قدره مهيمن قيوم *** والحشر والجنة والنعيم
إلا لأمر شأنه عظيم
و أصل اشتقاق قيوم من قام يقوم قياما، ووزن قيوم فيعول، أصلها قيووم، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
[ لا تأخذه سنة ولا نوم ] هذا وصف سلبي يؤكد الوصف الإيجابي السابق، فإن قيامه سبحانه وتعالى على الكون وكلاءته له يقتضي ألا تأخذه سنة ولا نوم، لأن الحركة المستمرة للعالم، والبيان الذي ارتبطت به أجزاؤه يقتضيان ألا تعرض غفلة للقائم عليه :[ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده... ٤١ ] ( فاطر ). ولأن السنة والنوم من أعراض الجسم الحيواني، سواء أكان ناطقا أم كان غير ناطق، والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث، وليس سبحانه وتعالى جسما، وليس له أعراض أي جسم. والسنة هي النعاس، وهو ما يسبق النوم من فتور، وقيل إن السنة أسبق من النعاس، وذلك أنه تحدث ثلاث مراتب عند وجود أسباب النوم : أن يحس الشخص بفتور ويبتدئ يفقد سيطرته على أعضائه، ثم يجيء النعاس، فتتراخى العين، وتبتدئ الأعضاء كلها في التراخي، ثم يحصل النوم، وبه يفقد الشخص وعيه، ولذا قال المفضل :" السنة، من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب " والسنة أصلها وسنة، حذفت الواو ثم كسرت السين ليمكن الابتداء بها، ففعلها وسن. وقد قال عدي بن الرقاع :
وَ سْنَان أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقّتْ *** في عيْنَيْهِ سِنَةٌ ولَيْسَ بِنَائِمِ
و لقد كان مقتضى النسق أن ينفي عنه سبحانه النوم، ثم ينفي السنة ؛ لأن نفي النوم لا يقتضي نفي السنة، وعلى العكس نفي السنة يقتضي نفي النوم.
و لكن عدل عن ذلك، بنفي السنة ثم نفي النوم لمعنى بلاغي، ذلك أن الترتيب الطبيعي لهذه الحقائق في الوجود أن السنة تسبق النوم، وإن ذلك الترتيب الطبيعي يعطي للقارئ صورة حية للتالي لكتاب الله تعالى، إذ يتصور الذين يعرض لهم النوم كيف يبتدئ بالسنة ثم النعاس ثم النوم، وإذا تصور ذلك المنظر الطبيعي تصور معه الضعف الإنساني أمام سلطان النوم بمقدماته، وإذا تصور ذلك تبينت له استحالة ذلك على الله سبحانه وتعالى القوي القادر القاهر لكل شيء، فكان ذلك الترتيب الطبيعي فيه إشارة إلى دليل مانع من أن يوصف المولى العلي القدير بهما.
و في التعبير بقوله سبحانه :[ لا تأخذه سنة ولا نوم ] إشارة أخرى إلى استحالة قيامهما بالذات العلية. فقوله :[ لا تأخذه ] فيها دلالة على القوة القاهرة للنوم، وأنها تأخذ الحي أخذا، وتقهره قهرا، وذلك مستحيل أن يكون للقهار فوق عباده.
و النوم معروف، وهو حقيقة ترى، كما يرى الضوء، وكما تحس الحرارة، ولكن ما سببه ؟ وقد اتفق المتقدمون والمتأخرون على أن سببه التعب الجسمي، وإن كانت عباراتهم مختلفة في تأثير التعب على الجسم حتى يكون منه النوم، فيقول البيضاوي في تفسيره :" النوم حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ".
و قال علماء العصر :( إن النوم وقوف سلطان المخ على الأعضاء بسبب ما تولده الحركة من السموم الغازية المؤثرة في العصب ). وقيل بسبب ما تف
١ عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم. قال :"يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال: قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: " والله ليهنك العلم أبا المنذر " ( رواه مسلم: صلاة المسافرين – فضل سورة الكهف وآية الكرسي )..
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ( ٢٥٦ )
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أمرين :
أحدهما : المغالبة بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن تلك مشيئته الأبدية الأزلية منذ خلق بني آدم على ذلك التكوين الذي يضم فيه كل آدمي بين جنبيه نزوع الخير ونزوع الشر، ومنذ قال لآدم وحواء وإبليس :[... اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ٣٦ ] ( البقرة ).
الأمر الثاني : هو ما يجري حوله الخلاف بين أهل الحق الذين يستمسكون بالهدى والنور، وأهل الباطل الذين يستمسكون بالضلالة، وذلك الأمر هو وحدانية الله سبحانه وتعالى في الألوهية، وفي الخلق والتكوين، وفي المشيئة والإرادة، وفي الذات والصفات :[ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ١١ ] ( الشورى ). وإن هذا أمر تقره بداهة العقول، ولا مجال فيه للريب، فما كان ينبغي القتال حوله، ولكن من ضل وغوى أيجوز إكراهه على الدخول في ذلك النور بحكم تلك المغالبة بين الحق والباطل المقررة في هذا الوجود ؟ أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك السؤال الذي يتردد في قلب كل من يؤمن بالحق، إذ يكون واقفا أمام حق نير واضح مستبين، ولجاجة في باطل مظلم، وقد تكون الهداية أن يقضي على تلك اللجاجة الآثمة.
و قد كان جواب الله العلي القدير، كلاما محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو قول الحق :
[ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ] نفت الجملة الأولى من هاتين الجملتين الساميتين الإكراه في الدين، وبينت الجملة الثانية علة هذا النفي، وكيف تدرك الأديان، ومهمة الداعي إليها، فأما النفي الذي قررته الجملة الأولى فهو يتضمن أمرين :
أحدهما : تقرير حقيقة مقررة ثابتة، وهو أن الإكراه في الدين لا يتأتى ؛ لأن التدين إدراك فكري، وإذعان قلبي، واتجاه بالنفس والجوارح بإرادة مختارة حرة إلى الله سبحانه وتعالى، وتلك معان لا يتصور فيها الإكراه، إذ الإكراه حمل الشخص على ما يكره بقوة ملجئة حاملة، مفسدة للإرادة الحرة، ومزيلة للاختيار الكامل، فلا يكون إيمان ولا تدين، إذ لا يكون إذعان قلبي، ولا اتجاه حر مختار بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين.
الأمر الثاني : الذي تضمنه نفي الإكراه هو النهي عن وقوعه، فلا يسوغ للداعي إلى الحق أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؛ لأن الإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر، ونتيجة له ؛ لأنه كلما حمل الإنسان على أمر بقوة قاهرة غالبة ازداد كرها له ونفورا منه.
فالنفي عن الإكراه إذن تضمن نفي تصوره في شئون الدين، ونفي المطالبة به، أو بالأحرى نهي الداعي إلى الحق عن سلوك سبيله ؛ لأنه ليس سبيل المؤمنين، وليس من الموعظة الحسنة في شيء :[ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ١٢٥ ] ( النحل ).
هذه معاني الجملة الأولى السامية، أما الثانية وهي :[ قد تبين الرشد من الغي ]، فمعناها قد تبين وجه الحق ولاح نوره، وتبين الغي، وهو الضلال والبعد عن محجة الحق، وطمس معالمه. وهذه الجملة السامية تفيد أمرين كسابقتها :
أحدهما : أن طريق التدين هو بيان الرشد، وبيان الصواب، وبيان الضلال في وسط النور، فمن رأى الحق بينا فقد أدرك السبيل، وعليه أن يسير فيها، وليس لأحد أن يحمله حملا ؛ لأنه لا سبب للتدين إلا المعرفة، بإدراك الحق وغايته، ومعرفة الباطل ونهايته. وذلك المعنى في مرتبة التعليل للنهي عن الإكراه ونفيه ؛ لأنه إذا عرف الحق معرفة مثبتة له بالأدلة القاطعة، وعرف الباطل معرفة مبينة وجه الضلال فيه، فقد توافر سبب التدين، ومن كفر بعد ذلك فعن بينة كفر، ولا سبيل لهدايته، وليتحمل مغبة كفره بعد هذه البينات الواضحة الكاشفة.
الأمر الثاني : الذي يدل عليه قوله تعالى :[ قد تبين الرشد من الغي ]، هو بيان أقصى قدر من التكليف للداعي إلى الحق من الرسل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فليس على الداعي إلى الحق إلا تكليف واحد، وهو بيان الرشد من الغي، فهو لم يكلف حمل الناس على الهدى، إنما هو مكلف أن يبين الهدى من الضلال، والهداية بعد ذلك من الله سبحانه وتعالى :[ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء... ٥٦ ]( القصص ).
و إذا كان الرشد قد تبين من الغي وتميز، ولم يعد مختلطا به، بل خلص منه، وخرج نيرا واضحا، كما يخرج النور من الظلمة عند انبثاق فجر الحقيقة، وظهوره ساطعا منيرا هاديا، إذا كان الأمر كذلك فعلى كل طالب للتدين أن يسلك سبيل الحق، ومن بقي مترديا في الباطل، فعليه إثم بقائه، وما عليك من أمره شيء، ولذا قال سبحانه :[ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ] الطاغوت أصله مأخوذ من الطغيان، ويؤدي معنى الطغيان، وإن اختلف علماء اللغة في أصل اشتقاقه، وفي وزنه الصرفي.
و الطاغوت يطلق في القرآن على كل ما يطغى على النفس فيسيطر عليها، أو على العقل فيضله، أو على الأمة فيتحكم فيها ظلما، أو على الجماعة فينشر فيها أهواء مردية، وآراء فاسدة، ولذلك يطلق الطاغوت على الكاهن، والشيطان، وكل رأس للضلال. وقد جاء في تفسير القرطبي : قد يكون واحدا، قال تعالى :[ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به... ٦٠ ] ( النساء ) وقد يكون جمعا، قال الله تعالى :[ أولياؤهم الطاغوت... ٢٥٧ ] ( البقرة ).
و ما المراد بالطاغوت هنا ؟ الظاهر أن الطاغوت هو كل طغيان يطغى على النفس أو العقل أو الجماعة، فيتسلط عليه، ويمنعهم من اتباع الحق من زعماء يقودونها إلى الضلال، أو ملوك يسوقونها إلى الباطل سوقا. ولعل أظهر معاني الطاغوت أن يفسر بالملوك المتحكمين والكبراء المتجبرين الذين يفتنون الناس عن دين الحق، ويكرهونهم على اعتناق الباطل. وقد سوغ لنا استظهار ذلك ما جاء من نفي الإكراه في الدين سابقا لهذه الجملة السامية، وما سيق بعد ذلك من قصة ملك متجبر يريد أن يتحكم في عقائد الناس وأهوائهم، فإن ذلك يومئ لنا أن نفهم من كلمة الطاغوت بأنه الحاكم المتجبر، أو الكبير المسيطر، أو الملك القاهر الباطل، ويكون المعنى : فمن يكفر بالطاغوت، أي يزيل سلطان المتجبرين عن نفسه، ويمنع تحكم المسيطرين على قلبه، ويحرر عقله من أوهام الطغيان، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى، أي اعتمد على جانب قوي، وعماد علي لا يهن من اعتمد عليه، ولا يسقط من ركن إليه، وفي ذلك إشارة إلى أمرين :
أحدهما : أن لا يحجب النفوس عن الإيمان بالله إلا طغيان المتجبرين عليها، وسيطرة أوهام الكبراء، فمن تحرر من ربقة الطاغوت تتكشف له الحقيقة العالية فيؤمن بها، ويدركها، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى.
ثانيهما : إرشاد ضعفاء النفوس ومن أصاب الخور عزائمهم وأماتت الأوهام ثقتهم بأنفسهم أنهم إن رفضوا سلطان الطغاة، وحاجزوا بينهم وبين قلوبهم، فقد أمنوا، ولن يصيبهم ضير إن آمنوا، لأنهم آووا إلى ركن شديد، وإلى معتصم حصين، فلن تضيرهم مخالفة الملوك وغيرهم ؛ لأن سلطانهم وهمي، وسلطان الله حقيقي، وقوتهم فانية، وقوة الله أزلية باقية، فمن آمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
و العروة في أصل معناها اللغوي تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي ناحيته، فالعروة من الدلو والكوز المقبض، ومن الثوب مدخل الزر. وتطلق العروة أيضا على الشجر الملتف الذي تأكل منه الدواب حيث لا كلأ ولا نبات.
و الوثقى مؤنث الأوثق، وهو الشيء المحكم الموثق، وتطلق كلمة الموثق أيضا على الشجر الذي يتجه إليه الناس عندما ينقطع الكلأ. والانفصام الانكسار، وهو مطاوع فصم بمعنى كسر، وإنما تكون المطاوعة حيث يحتاج الفصم إلى معالجة، أي أن الشيء المفصوم يكون قويا، بحيث يعالج الشخص كسره حتى ينكسر بعد طول المحاولة. وعلى ذلك فالعروة الوثقى في الآية إما أن تخرج على أنها الحبل الموثق الشديد الأسر الذي يربط بين شيئين، ويكون المعنى : من آمن بالله وكفر بالطاغوت فقد استمسك، أي أمسك بقوة وشدة طالبا العصمة بحبل موصول موثق قوي لا انفصام له. وقد تخرج العروة على أنها الشجر الذي لا يوجد سواه للمرعى والغذاء، فيكون من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد اتجه وأخذ الجانب المفيد المربي المغذي وترك الجذب الذي لا يجدي. وقد مال الزمخشري إلى التخريج الأول، وهو عندي أوضح وأشهر.
و الاستمساك كما أشرنا هو الإمساك المطلوب المستقر ؛ لأن السين والتاء تدل على الطلب، والطلب هنا يفسر بأنه هجر الطاغوت طلبا للاعتصام بهذا الجانب القوي الذي لا يضل من طلبه، ويصل إليه من اعتمد عليه ولم يطلب سواه. وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير الكريم كله :[ فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ] فيه تمثيل وتصوير للمعاني السامية بالأشياء المحسوسة فقال :( هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنما ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن به ).
هذه هداية الله سبحانه وتعالى، لا يكره أحد عليها، ولكن يدعى الناس إليها بالبينات الواضحة التي يتميز بها الخير من الشر، والحق من الباطل، والنور من الظلام، وبعد ذلك يكون الأمر لله تعالى. ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى :[ والله سميع عليم ] وفي هذا إشارة إلى أمرين جليلين :
أولهما : رقابة الله سبحانه وتعالى في الدنيا رقابة العليم الخبير، فهو يعلم علم من يسمع همسات القلوب، وخلجات الأنفس، وهو وحده المتصف بالعلم المطلق الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في الأنفس. وإذا كان المؤمن يحس برقابة الله تعالى المطلقة فإنه يتجافى عن المعاصي، ويبتعد عنها استحياء من الله. فقوة الإحساس بعلم الله ترهف وجدان المؤمن. وهذا مقام الإحسان كما في الحديث الشريف " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ١.
الأمر الثاني : التنبيه إلى ما يترتب على العلم من الرضوان والثواب المقيم الدائم لمن أطاع الله وطلب رضاه، والعذاب الأليم وغضب الله لمن عصاه سبحانه.
هذه الآية الكريمة واضحة كما قررنا في حقيقتين ثابتتين :
إحداهما : أن التدين لا يكون مع الإكراه ؛ لأن الإكراه ينافي الاختيار الحر، والتدين طلب الحق والأخذ به في حرية واختيار لا تشوبهما شائبة.
الحقيقة الثانية : أن الله سبحانه وتعالى ينهى عن الإكراه في الدين، وحمل الناس عليه بقوة السيف حتى لا يكثر النفاق والمنافقون. وكثرة المنافقين، وإن كثر عدد المسلمين في الظاهر، تفسد جماعتهم في الحقيقة والواقع.
و لكن مع هذا الحق السائغ، والنور المبين، وجدنا الكثيرين يدعون أن هذه الآية منسوخة، وادعوا أن الذي نسخها قوله تعالى في آيات كثيرة من آيات الجهاد ما يدل على القتال، حتى يكون الإسلام مثل قوله تعالى :[ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم... ٧٣ ] ( التوبة ) ومثل قوله تعالى :[ ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون... ١٦ ] ( الفتح ) وقوله تعالى :[ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلون
١ جزء من حديث جبريل الشهير، متفق عليه، من رواية البخاري ( ٤٨)، ومسلم ( ١٠): كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه..
[ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ] لقد ذكرنا في الآية السابقة أن الطريق للإيمان هو الكفر بالطغيان، بالامتناع عن إجابة كل دعاة الشر من كبراء متجبرين، وحكام مسيطرين بأوهام باطلة، وهكذا، وأن من كفر بالطاغوت فقد آوى إلى ركن شديد، إذ لجأ إلى الله العلي القدير، ومن بقي تحت سلطان الطاغوت من ملوك عاتين، ورؤساء ضالين، فقد أوى إلى ما لا يعتمد عليه ؛ لأنه ركن هاو يهوي بصاحبه في نار جهنم.
و الولي فعيل بمعنى فاعل من الولاية. ولقد قال الراغب الأصفهاني : الولاية بالكسر النصرة، والولاية بالفتح تولي الأمر. وقيل الولاية والولاية واحدة، نحو الدلالة والدلالة، والولي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما في معنى الفاعل، والولاية كما تطلق بمعنى السلطان تطلق بمعنى المحبة والولاء، كما في قوله تعالى :[ هنالك الولاية لله الحق... ٤٤ ] ( الكهف ).
و الولي في الآية الكريمة :[ الله ولي الذين آمنوا ] يكون بمعنى ناصرهم، وقد ذكرنا أن الولاية تكون بمعنى النصرة، وبمعنى المسيطر على نفوسهم وحده الموجه الهادي، إذ قد سلمت نفوس المسلمين من نزعات الشيطان.
و الظلمات جمع ظلمة، والمراد بها هنا الضلالة، ففي الكلام مجاز ؛ لأن المفاسد التي
التي ينشرها الطغيان تظلم بها النفس وتكون في حيرة، وتنقطع عن سبيل الهداية ؛ والنور هو الهدى ؛ لأن الهدى يكشف عن ينابيع الحق والخير في النفس، وهو سلوك الطريق الموصل إلى ما يسعد الإنسان في الفانية والباقية فهو كالمصباح للمؤمن به يهتدي، وبه يصل إلى الغاية. والمعنى للجملة السامية : الله سبحانه جل جلاله الذي ليس فوقه شيء وهو القهار فوق كل شيء هو ولي الذين آمنوا أي ناصرهم يأخذ بأيديهم من ضلالات الشرك والأوهام والشهوات، والذلة والاستعباد، إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام ومن الذلة، والاستقامة نحو العزة. فهذه الجملة تتضمن ثلاثة أمور :
أولها : نصرة الله القوي القادر، فلا يصح لمؤمن أن يضعف أمام جبروت الملوك الطغاة أو الجبابرة العتاة، أو الكبراء المضلين.
و ثانيها : أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على النفوس يوجه القلوب المؤمنة إلى الحق فيلوح لها نوره، وتشرق فيها حججه.
و ثالثها : أن الذين يفيض الله عليهم بهذا النور ويؤيدهم بنصره هم الذين ارتضوا الحق بإرادتهم المختارة، ورفضوا طغيان الكبراء والجبابرة، وقاوموا نزعات الشيطان، فإن هؤلاء هم الذين ينصرهم رب العالمين، ويهديهم بنوره.
[ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ] المؤمنون يوجه قلوبهم رب العالمين، وينصرهم بقدرته، ويعتزون بعزته، وهو رب العزة، له الكبرياء في السماوات وفي الأرض، وهو العلي العظيم. أما الذين كفروا فالطاغوت أي الطغيان بكل أنواعه من جبابرة متحكمين، وكبراء مضلين، وأوهام مستحكمة، وضلالات مسيطرة، هو الذي ينصرهم ويسيطر على قلوبهم، والسبب في ذلك أنهم جعلوا الكفر وستر الفطرة هو الذي يتحكم في قلوبهم، فهم اختاروا تلك الأوهام المضلة، وولاية الجبابرة المذلة، واتباع الكبراء المردي، ففتحوا بسبب ذلك قلوبهم للضلالة تدخل فيها جزءا جزءا حتى أظلمت وبعدت عن نور الفطرة، وغلقت عليها أبواب الحق، فلا يدخلها إلا ضلال، وكأن للقلب بابين : بابا للنور، وبابا للضلال، فإن أركست النفس في الشهوات، فإن باب الضلالة يتسع ويضيق باب الحق حتى يغلق فلا يدخل النور إليها.
و في الجملة السامية الكريمة إشارات بيانية يجب التنبيه إليها :
أولها : أن الله سبحانه وتعالى قال :[ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ] ففي التعبير بالذين كفروا إشارة بيانية إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يجعلوا الطغيان متحكما في قلوبهم، إذ كفرهم واستيلاء الشهوات على نفوسهم هو الذي سهل استمراء ولاية الطاغوت عليهم، وتحكمه فيهم، وسيطرته على نفوسهم، وحيث كانت الشهوات مستحكمة فللأوهام سلطان، وللجبابرة سلطان، وللكبراء المضلين مكان.
و الثانية : أنه أفرد الطاغوت، وجمع الأولياء، ففي ذلك إشارة بيانية إلى أن الطاغوت مهما تتعدد ضروبه، وأشكاله ومظاهر سلطانه، فهو نوع واحد، أساسه أن يتحكم الوهم والهوى والذل والضعف في النفس ولكن مع ذلك يتعدد سلطانه، فهو مرة يظهر في مظهر ذي سلطان متجبر تخضع الرقابة لطغيانه لتحكم الذلة أو الشهوة المردية في نفوس الذين يتحكم فيهم، ومرة يظهر سلطان الطاغوت في دعوة إلى الباطل زخرفها تمويه داعية مضل، وأحيانا تكون في أوهام مسيطرة على الجماعة، تجعلها تعبد حجرا أصم لا يسمع ولا يبصر، وعلى ذلك يكون الطاغوت واحدا ؛ لأنه ضلال كيفما كان، ولكن لتعدد مظاهر سلطانه تعددت ولاياته وكلها لا قوة لها أمام قوة الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
و الثالثة من الإشارات البيانية : ما تضمنه قوله تعالى :[ يخرجونهم من النور إلى الظلمات ] أي الضلالات المردية المختلفة الأنواع، فإن في ذلك إشارة إلى أن الفطرة في أصلها نور، ففي الفطرة الإنسانية نور الحق ووجدان الهداية، والإيمان الفطري، حتى يكون الضلال إذ تتحكم الأهواء والأوهام وتستخذي النفوس، فكل مولود يولد على الفطرة ١، وهي نور، حتى يكون الضلال بما في النفس من استعداد له مع وجود ذلك النور.
[ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ] الإشارة إلى الذين كفروا، وفي هذه الإشارة بيان إلى أن أحوالهم التي عرفوا بها من كفرهم، ورضاهم بالطغيان حاكما عليهم متحكما فيهم مسيطرا على قلوبهم، هي السبب في ذلك الحكم الخالد عليهم، وهو أنهم أصحاب النار.
و في التعبير بأصحاب النار إشارة إلى ملازمتهم لها، وبقائهم فيها، واختصاصها بهم ؛ لأن أصحاب جمع صاحب، والصاحب هو الرفيق الملازم الذي اختصصت بصحبته، فهذا التعبير أفاد ملازمتهم للنار واختصاص النار بهم.
و في قوله تعالى :[ هم فيها خالدون ] تأكيد لبقائهم فيها واختصاصها بهم دون غيرها، ذلك لأن التعبير بالجملة الاسمية فيه تأكيد، وتكرار المسند إليه بذكر كلمة " هم "، فيه فضل تأكيد، وتقديم الجار والمجرور وهو " فيها " دليل على اختصاصها بخلودهم فيها فلا منفذ لهم في غيرها ؛ لأنهم سدوا على أنفسهم باب النور في الدنيا، فسدت عليهم أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة.
١ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه :[ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم... ٣٠] ( الروم ) ( رواه البخاري (١٢٧١) : الجنائز، ومسلم ( ٤٨٠٣) : القدر )..
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( ٢٥٨ )
بعد أن بين سبحانه تحكم الطغيان في نفوس الكافرين ذكر سبحانه وتعالى لونا من ألوان الطغيان أو أظهر ألوانه فقال :[ ألم تر ] وفي هذا تصوير لملك من الملوك يدفعه اغتراره بملكه إلى أن ينكر رب العالمين ويسأل إبراهيم عنه، وتصوير لطاغية من طغاة الدنيا يدفعه طغيان الغرور على نفسه ثم طغيانه على شعبه إلى أن يدعي الربوبية.
فلننظر إلى تلك المحاجة : ينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى تلك الحال الشاذة فيقول سبحانه :[ ألم تر ] وقد بينا ما في هذا التركيب من أسرار بلاغية عند تفسير قوله تعالى :[ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل... ٢٤٦ ] ( البقرة ) وخلاصة المعنى : لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جلية بينة كأنها في تعينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر. وإن كانت رأى بمعنى علم فالمعنى : تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها، وإذا تأملتها علمت أيها المكلف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات.
[ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ] حاجه : أي بادله الحجة وفي تسمية كلامه حجة إنما هو من قبيل المماثلة اللفظية أو هو حجة في نظره السقيم الذي أفسد تفكيره وأضله، فقد توهم وتخيل ثم ظن فضل عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق ووقع في أمور لا يقبلها أي عقل سليم.
و ما السبب في كل ذلك الضلال ؟ هو شيء واحد هو أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الملك، ولذلك قال تعالى :[ أن آتاه الله الملك ] أي أن سبب تلك المحاجة التي تدل على مقدار ضلاله وطغيانه هو أن الله سبحانه وتعالى آتاه أي أعطاه الملك والسلطان الدنيوي، وهو زائل فقوله :[ أن آتاه الله الملك ] مجرور بحرف جر محذوف هو الباء أو اللام، أي أن الذي بعثه على ذلك الإسراف في القول الوقوع في هذا الضلال هو نعمة الملك التي أنعم الله بها عليه فجعلته مسرفا في الضلال ذلك الإسراف المردي.
و في الكلام إشارة إلى أن هذا ما كان يسوغ له أن ينكر وأن يحاج في إنكاره ؛ لأنه يحاج في موضوع لا يقبل الجدل والمناقشة ؛ لأنه يناقش في ربه خالقه وخالق كل شيء، فالضمير في " ربه " يعود إلى ذلك الملك الطاغي المتجبر، ويصح أن يعود الضمير إلى إبراهيم وإني أختار الأول ؛ لأن الطاغية هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه.
[ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ] هذا كلام نبي الله إبراهيم وخليله، كلام معترف بالربوبية، عرف ربه بأوضح ما يعرف به وبأروع آثار قدرته في هذا الوجود وبأبعدها أثرا في نفس العاقل المتفكر المتدبر وهو الحياة والموت ؛ لأنهما أشد الأمور أثرا في نفس كل إنسان ذي حس وشعور وعقل. وأفاد القول صيغة الحصر إذ قال سبحانه :[ ربي الذي يحيي ويميت ] وفي ذلك تعريف المبتدأ والخبر وتعريفهما يفيد القصر، فالمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت ولا أحد سواه يفعل ذلك. ومعنى يحيي ينشئ الحياة ويوجدها، و معنى يميت يوجد تلك الحقيقة التي تفقد الجسم معنى الحياة. والتعبير بالمضارع يفيد معنى الاستمرار الذي يرى ويحس كل يوم، فالمعنى أن ربي وخالقي هو الذي يحيي الناس كل يوم كما ترى ويميت منهم كل يوم من ترى.
هذا كلام إبراهيم وهو يحوي حجة قوية واضحة من شأنها أن تثير في النفس نزوع الاتجاه إلى الحق ؛ لأنها تشير مع ذلك إلى حقيقة الحياة وهي أنها إلى فناء، فلا يصح أن يغر الشخص بها الغرور ولا يذهب به الطغيان إلى إنكار ربوبية الخالق.
[ قال أنا أحيي وأميت ] هذا جواب الملك الذي سيطر الهوى عليه فأضله، وسيطر الطاغوت على نفسه فحمل شعبه على الإذغان لطغيانه وضلاله، ومنعهم من أن يصل النور إلى قلوبهم، وحاجز بينهم وبين كل دعوة إلى الحق والنور، وبذلك كان ممن يدعون إلى الظلمات كما ذكر في الآية السابقة [ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ].
أجاب ذلك الملك بنقض الاختصاص الذي ذكره خليل الله لرب العالمين، وهو أنه وحده الذي يحيي ويميت، فقال ذلك الضال : أنا أحيي وأميت أيضا، ومرمى قوله أنه إذا كان ربك يا إبراهيم يحيي ويميت واستحق الربوبية لذلك، فأنا أيضا أحيي وأميت فأستحق هذه الربوبية، ويقصد بالإحياء كما يقول العلماء العفو عمن حكم عليه بالإعدام وبالإماتة وقتل من شاء قتله. هذا ما قاله العلماء. ولو أن لي أن أقول كلاما آخر لقلت إن ذلك الطاغوت يقصد بالإحياء الاستيلاد والاستنبات ونحو ذلك مما يفعله الإنسان ويتخذه سببا عاديا من أسباب ظهور الحي بحياته، وبالإماتة القضاء على الحي بالقتل أو القطع أو الاستئصال ونحو ذلك مما يجوز أن تسند فيه أسباب الحياة إلى الإنسان وأسباب الإماتة إليه، وهذا بلا شك غير ما قصده الخليل عليه السلام ؛ لأن ما قصده هو خلق الحياة وخلق الموت، وذلك ما لا يستطيعه إلا رب العالمين تعالى الله علوا كبيرا. وكان الخليل يستطيع أن يبين له تلك الحقيقة ويحرر موضع القول ولكن ذلك قد يجر إلى مراء فاختار طريقا آخر أجدى وأردع وأقوى وأشد إفحاما، قال له ما حكاه رب العالمين في قوله :
[ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ] لقد ادعى الطاغية أنه شريك الله سبحانه وتعالى، والشركة تقتضي المساواة في القدرة والسلطان والخلق والتكوين. ولا تبدو تلك المساواة إلا إذا كان أحد المتساويين عنده قدرة على مقاومة إرادة الآخر وبسط سلطانه حيث بسط هو سلطانه، والله سبحانه يأتي بالشمس من المشرق، أي الجهة التي تشرق منها فعلى المدعي أن يعاند هذا النظام المسيطر الذي يدعي ربوبيته عليه، بأن يأتي بالشمس من جهة الغروب، ويعكس الفلك الدوار.
و الفاء في قوله تعالى :[ فإن الله يأتي ] هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر وتقدير القول : إذا كنت تدعي الألوهية أو الربوبية فأظهر أمارات قدرتك وسلطانك على الكون بأن تأتي بالشمس من جهة غروبها الآن بدل أن تخرج من جهة شروقها، والمعنى أن ذلك الكون قد خلق على نظام محكم، وأحكم تنسيقه بنظم قدرها منشئه، وأمارة قدرتك أن تغير هذه النظم فافعل إن كنت قديرا، فليست القدرة في أن تدعي إنشاء نظام وجد قبل أن توجد أنت وأشباهك من الطغاة، إنما القدرة تكون في تغييره، فافعل هذا التغيير. وما كان ذلك في قدرته لأنه ضال مضل، ولذا حكى الله سبحانه وتعالى حاله في قوله :[ فبهت الذي كفر ] أي تحير واضطرب ولم يجد جوابا ولم يستطع أن يتكلم قليلا أو كثيرا. وقد عبر عنه بقوله :[ الذي كفر ] للإشارة إلى أن سبب الحيرة هو كفره، إذ لو كان طالب هداية لكانت الحجة القاطعة الملزمة هادية بدل أن تكون محيرة ولكنه صمم على الكفر وأصر عليه، فكانت نفسه حائرة بين حق ظهرت بيناته وباطل قد عض عليه بالنواجذ، وكذلك شأن كل من أضله الله على علم.
[ والله لا يهدي القوم الظالمين ] ختم الله سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية وهي تدل على ثلاثة أمور :
أولها : إن الذين يعاندون الحق ظالمون دائما : يظلمون أنفسهم ؛ لأنهم يسدون منافذ النور فلا يصل إلى قلوبهم، ويظلمون أقوامهم لأنهم يحملونهم على الضلال، ويظلمون الحق لأنهم يحاربونه.
ثانيها : إن ظلمهم يسبق كامل ضلالهم ؛ ذلك لأن الشهوات تتحكم فيهم فتدفعهم إلى طلب ما ليس لهم ثم يستهويهم الشيطان بالطمع بعد المطمع، فيتجاوزون الحدود ويطغون ثم يكون الضلال الكامل الذي تطمس فيه البصيرة فتغلف القلوب عن الحق وتقسو فلا تلين.
ثالثها : إن الظلم إذا استحكم في النفس أصبحت كل البراهين لا تجدي بل تزيده عنادا وإصرارا، ولذلك لم يكتب الله الهداية لمن استمرأ الظلم آحادا أو جماعات. والله ولي المتقين.
و لقد كان احتجاج إبراهيم عليه السلام على الطاغية الذي يدعي الربوبية بأن الله هو الذي يحيي ويميت، فتجاهل الطاغية معنى الحياة والموت، وحرف الكلم عن مواضعه فلوى خليل الله عنقه حتى أراه عجزه وقدرة الله على نحو ما ذكر سبحانه :[ فبهت الذي كفر ].
إن الأمر الذي حير العقول التي لا تربط بين بدء الحياة وانتهائها هو أمر الحياة بعد الموت، وقد ذكر سبحانه ما يزيل أسباب الحيرة أولا بأن الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وأن ذلك من أوصاف الربوبية التي اختصت بها الذات العلية، وأزال الريب ثانيا ببيان ما كان منه سبحانه للذين أرادوا أن يروا بالحس الحياة بعد الموت والإعادة بعد الفناء فذكر سبحانه وتعالى قصتين تكشفان عن القدرة الإلهية في الإعادة وا لإبقاء كما هي قادرة على الإنشاء الأولى : قصة القرية التي خوت على عروشها وتعجب من رآها من إعادتها وسأل متعجبا أنى يحيي هذه الله بعد موتها، والثانية : قصة إبراهيم عليه السلام وقد سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى.
أما القصة الأولى فقد قال سبحانه :
[ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ] هذه الآية مرتبطة بالسياق والعطف بالآية قبلها، والعطف في المعنى واللفظ أو في المعنى فقط، ونسق القول هكذا : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، أو ألم تر كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها والكاف هنا بمعنى مثل فالمعنى : أو لم تر مثل هذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ؟ ولأن القصة الأولى قصة نبي معلوم من أولي العزم من الرسل مع ملك طاغية في زمانه لم يعبر بالكاف، أما هذه فلأن الشخص غير معلوم والمكان غير معلوم والقرية غير معلومة ذكر سبحانه الكاف فقال :[ كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ] لأنه إذا لم يعلم الشخص ولا الزمان ولا المكان كان المقصود العبرة وبيان الحال والشأن، فناسب ذلك التعبير بالكاف التي هي بمعنى مثل، وإن كانت القصة لها حقيقة واقعة كما ذكر سبحانه وهو العليم الحكيم.
و القرية المدينة من القرى بمعنى الجمع ؛ لأنها الجامعة لأشتات الناس وأصنافهم. ومعنى خاوية على عروشها، أي سقطت جدرانها على سقوفها ؛ لأن العرش معناه السقف، والتعبير ب [ خاوية على عروشها ] كناية عن خرابها وذهاب عمرانها وفناء أهلها، وأنه لم تعد لهم من باقية، وقد خرجوا من هذه الدنيا الفانية.
وجد ذلك الذي مر على هذه القرية العظيمة الخراب قد خيم عليها وذهب كل ما فيها ومن فيها من الأحياء وبقيت الرسوم والآثار تعلن عمن عفت عليه الديار فهاله الأمر وتذكر الفناء وما بعد هذه الدنيا، ثم انبعث إيمانه باليوم الآخر، ولكن كان بين حقيقتين ثابتتين : إيمان صادق باليوم الآخر والبعث والنشور، وذلك الفناء المحسوس الذي تحللت فيه أجزاء الإنسان فقال :[ أنى يحيي هذه الله بعد موتها ] أي كيف يحيي هذه القرية التي فنيت وخربت بعد موتها و" أنى " تكون بمعنى " من أين "، وتكون بمعنى " كيف "، وهي هنا بمعنى " كيف ".
و يلاحظ أن التساؤل عن كيفية الإعادة لا عن أصل الإعادة فهو مؤمن بها صادق الإيمان لكنه مأسور بالحس والعيان وكأن سلطان الحس هو الذي دفعه إلى ذلك التساؤل. وفي العبارة ما يدل على ذلك فالتعبير بالإشارة " هذه " فيه إشارة إلى تلك الحال الحسية الثابتة التي استولت على حسه وهي تلك القرية الخربة. وقد قدمها على لفظ الجلالة فقال :[ أنى يحيي هذه الله بعد موتها ] لأن السبب في التساؤل تلك الحال الحسية التي هو عليها.
و موت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك الحياة فليست الحياة هي حياة البناء والجدران ؛ لأنه لا حياة لهما إنما الإحياء يكون لمن كانوا يسكنون البناء والجدران. سأل ذلك المار عن كيفية الإحياء وهو سر القدرة الإلهية لا يعلمه أحد من عباده ولكن يرون آثاره، ولقد أجاب سبحانه ذلك السائل عن الكيفية بالحال العملية.
[ فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثثت يوما أو بعض يوم ] أمات الله سبحانه وتعالى ذلك السائل عن الكيفية واستمر ميتا مئة عام ثم بعثه أي أثاره بالحياة [ قال كم لبثت ] أي مكثت في هذه الحال، والقائل هاتف نفسي أو ملك ناداه أو قاله الله سبحانه وحيا إذا كان ذلك السائل نبيا، والأقرب إلى خاطري هو أن يكون المتكلم عن الله إما ملك من السماء أو وحي أوحاه الله رب العالمين إليه. سأله كم مدة من الزمان مكثتها ؟ فأجاب بإحساسه الذي أحسه وهو أنه ظن أنه كان نائما قد استيقظ من نوم طويل [ لبثت يوما ] أي مكثت في نومي هذا يوما ولكنه رأى الشمس لم تغب فقال :[ أو بعض يوم ] هذا مظهر حسي قد تصور فيه الشخص الذي أماته الله أنه كان نائما ثم استيقظ، وفي ذلك تصوير للإنسان بأن الموت يشبه النوم والبعث يشبه اليقظة بعد النوم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جمع قريش عندما دعاهم دعوة الحق :" والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا " ١.
[ قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ] أجابه الله سبحانه وتعالى بهاتف نفسي وجه نظره على ما حوله، أو بملك أرسله، أو بوحي أوحى به إليه على ما بينا في الجملة السامية السابقة. أثبت سبحانه وتعالى أنه لبث مائة عام ووجه نظره إلى آيتين تثبتان قدرة الله تعالى :
إحداهما : إنه لم يتغير الطعام والشراب بل بقي كما هو على مر السنين وهذا معنى قوله تعالى :[ لم يتسنه ] وكان الضمير للواحد مع أنهما طعام وشراب ؛ لأنهما في معناهما ومقصدهما الحاجة منهما شيء واحد.
الآية الثانية : الحمار وكيف بلي وتحلل وتفتت ولم يبق منه شيء، وهذا يدل على مر السنين وكر الأعوام. ويتجه بعض المفسرين إلى أن الحمار كان قائما كالطعام والشراب وأنه لم يتغير، ويؤيدون اتجاههم بأن السياق يدل على ذلك لأنه معطوف على الطعام والشراب، والفعل محذوف في المعطوف لدلالة المعطوف عليه. ويرى بعضهم أن المراد انظر إلى حمارك وقد صار عظاما بالية، ثم رد إليه سبحانه وتعالى الحياة. وقد اتخذوا من قوله بعد ذلك :[ و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ] قرينة على ذلك.
وعندي أن الأقرب هو التخريج الأول، ولذلك أمر سبحانه وتعالى بالنظر إلى الطعام والشراب وحدهما ثم أمر إلى النظر إلى الحمار وحده، فكان هذا يشعر بالتقابل وهو يومئ إلى تغاير بينهما : فهذا بلي، وهذان بقيا على حالهما، وكان بقاؤهما دليلا على قدرة العلي القدير، وتغييره أمارة على مرور السنين.
و هنا بحث لغوي في قوله تعالى :[ يتسنه ] فإما أن نقول أنه من السنة كقولهم : سانهت وسانيت فمعنى [ لم يتسنه ] لم يتغير بمرور السنين، وذلك من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون وغيرتها، وإما أن نقول إنها من أسن الماء أي تغير. وقيل أصلها " لم يتسنن " وقلبت النون هاء ولكن على معنى تغيير والأولى أولى بالقبول وأقرب في المعنى والاشتقاق.
[ ولنجعلك آية للناس ] والمعنى : فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه وتعالى كما رأيت ولنجعلك آية، أي معجزة معلنة قدرة الله سبحانه وتعالى للناس لكي يؤمن بالبعث والنشور من لا يؤمن، ولكي يدرك عظمة الله في الخلق والتكوين من لم يدركها. وعلى ذلك فالواو في قوله تعالى :[ ولنجعلك ] للعطف على نتائج الكلام السامي الذي سبقها ؛لأن نتيجته أن تطمئن وتدرك ولنجعلك... إلخ.
و وجه كونه آية للناس أن الناس تناقلوه فيما بينهم، وأن أحفاده يذكرون أنه مات وانتهى، فإن وجدوه حيا وأعلمهم بما كان له وما أصابه من موت ثم حياة، ولابد أن من أسرته ومن ذريته من يذكر غيبته وأنه عاد وأنه حيي بعد وفاة وبعث بعد موت، كان ذلك آية البعث وعلامته الحسية ودلالته القاهرة لمن عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
و بعد أن ذكر سبحانه تلك الآية الدالة على كمال قدرته وجه الأذهان إلى ما في أصل الخلق من دلالة على قدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، وأن الإنشاء نفسه دليل القدرة على الإعادة [ كما بدأكم تعودون ٢٩ ] ( الأعراف ) وأنه لو تنبه الإنسان لأصل خلقه لأدرك عظيم القدرة، فقال سبحانه مخاطبا ذلك الذي أحياه بعد موت :
[ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ] أي انظر إلى العظام كيف ننشزها أي نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها، فالإنشاز الإنشاء للعظام وتركيبها. وقرئ ( كيف ننشرها ) أي نحييها ونوجدها فالمعنى : التفت إلى تكوين الله سبحانه وتعالى للإنسان والحيوان كيف ينشئ العظم أولا ويوجده ويركبه بعضه فوق بعض، حتى إذا تكونت العظام خلق سبحانه اللحم وتكون حول العظام كأنه الكسوة تكسوها، فهذا كقوله تعالى :[ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ١٢ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ١٣ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ١٤ ] ( المؤمنون ).
و لقد أنتجت تلك البينات نتيجتها الحسية فحكى الله سبحانه ذلك عنه فقال :[ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ] أي لما تبين له بالأدلة الحسية المادية القاطعة لكل جدل قال :" أعلم " أي استيقين وأومن وأعتقد " أن الله على كل شيء قدير ". ويدخل في ذلك العموم البعث والنشور وإنشاء الحياة وإعادتها، ولكن إذا كان ذلك المار المتحدث عنه من الأنبياء كيف يقال عنه أنه تبين بعد تلك الإعادة الحسية وأنه علم علما مقترنا بها ؟ إذ معنى ذلك أنه لم يكن عالما بذلك قبلها، ونقول في ذلك : إنه إذا لم يكن نبيا فلا مورد للاعتراض ولا داعي للجواب، ولكن إن كان نبيا فللاعتراض مورد وللإجابة موضع فنقول : إن العلم درجات واليقين درجات فالعلم المبني على الأدلة العقلية وعلى الإذعان المطلق للحق ببيان من لا يتطرق الظن إلى قوله هو نوع من العلم القاطع الجازم وهو مهما تكن درجته من القوة والإيمان والإذعان دون العلم المبني على التجربة والحس والعيان، فذلك العلم المبني على التجربة والحس هو العلم الجديد الذي علمه ذلك النبي والذي كان نتيجة لذلك التبين الحسي الذي لم يعتمد على التفكير المجرد بل اعتمد مع ذلك على قوة الحس والتجربة فالتقى للعلم سببان : سبب مشتق من التفكير والإيمان والتصديق، وسبب آخر مشتق من التجربة والعيان.
هذه هي القصة الأولى التي تؤكد بالحس الإيمان بالحياة بعد الموت وبالبعث والنشور.
١ تاريخ ابن عساكر ج ٦ ص ٣٩٦..
أما القصة الثانية التي تؤكد هذا فهي قصة سيدنا إبراهيم خليل الله فقد قال تعالى :
[ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ] هذه مجاوبة بين رب العالمين وخليله إبراهيم. لقد كان إبراهيم قانتا لله حنيفا وكان غواصا طالبا للمعرفة يتأمل في كل شيء ويتقصى بفكره باحثا وراء الحقيقة طالبا لها، قال لربه الذي اتخذه له خليلا :[ رب أرني كيف تحيي الموتى ] نادى ربه ذلك النداء، فيشير بأنه مقر بأنه خالقه ومربيه والقائم على أمره، وطلبه وهو طلب الكيفية، فهو مقر بالأصل مذعن له خاضع كل الخضوع لحكمه مؤمن بالبعث والنشور، وأن الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وأنه القاهر فوق عباده، ولكنه يريد أن يعلم بالحس كما علم بالقول الحق، وبالعيان كما علم بالبرهان.
قال إبراهيم ذلك، فقال له ربه مشيرا إلى أن الغاية هي الإيمان [ أو لم تؤمن ] أي : أتقول ذلك وتطلبه وأنت لم تؤمن ؟ فإن كنت مؤمنا فإن ذلك غاية المطلوب وإن لم تكن فليس وراء ما علمت من حجة، وإن فيه الدليل القاطع والبرهان الساطع، فأجاب إبراهيم ربه :[ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ] " بلى " أي آمنت، فهي نفي لما بعد الهمزة، ونفي عدم الإيمان إثبات للإيمان ؛ لأن نفي النفي إثبات كما يقول العلماء، وإذا كان إبراهيم مؤمنا فلماذا طلب ما طلب ؟ فقد قال مستدركا :[ ليطمئن قلبي ] والاطمئنان السكون والقرار، فهل كان إبراهيم غير مطمئن وفي اضطراب حتى رأى وعاين ؟ إن الاضطراب ينافي الإيمان، والشك ينافي اليقين، وقد قرر أنه مؤمن فلا اضطراب، إنما كانت حيرة إبراهيم في الكيفية لا في أصل القضية ؛ لأن إبراهيم كما قلنا كان غواصا متأملا يتطلع لتعرف كل شيء، فحمل نفسه بسبب ذلك عناء البحث عن الكيفية، فكان في حاجة إلى ما يذهب حيرته في هذه الكيفية، فطلب ما طلب ليطمئن عقله الحائر الذي تجاوز منطقة الإيمان بالأصل إلى محاولة معرفة كيفية الإعادة وهي فوق القدرة العقلية البشرية. ولقد قال بعض العلماء إن الاطمئنان الذي طلبه إبراهيم عليه السلام هو الاستدلال بالعيان بعد الاستدلال بالبرهان، فإن الحس يحمل الإنسان على الإذعان أكثر مما يحمل الدليل العقلي، وهذا رأي حسن في جملته ولكن ما سقناه أولا أقوى في نظرنا وأحكم. هذا طلب إبراهيم عليه السلام، ولقد كان جواب ربه هو ما كان بقوله تعالى :
[ قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ] أي إذا كنت مصرا على طلبك فخذ أربعة من الطير. فالفاء هنا فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر. ومعنى [ فصرهن إليك ] أي فضمهن إليك، والضمير يعود على الطير ؛ لأن كلمة الطير في معناه جمع لما لا يعقل، وجمع ما لا يعقل يصح عود الضمير عليه بصيغة ضمير جماعة الإناث، وقد كانت عودة الضمير بتلك الصيغة دالة على معنى الجماعة وعموم ضم الطير واحدة واحدة، وإنما كانت الطير موضع تجربة ؛ لأنها لا تستأنس بالإنسان وتطير عند مجرد رؤيته، فتحويلهن إليه بيسر لا يكون إلا بتأليف من الله العلي الخبير.
و أن تحويل الطير إليه لتجرى تلك التجربة الربانية، وهي أن يجعل على كل جبل منهن جزءا ثم يدعوهن يأتين إبراهيم سعيا، ولذا قال سبحانه :
[ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا ] أمر الله إبراهيم بأن يجعل أي يضع على كل جبل أي كل جزء مرتفع من الأرض جزءا وأن يدعوهن بعد ذلك يأتينه سعيا.
و جمهور المفسرين يقول في تفسير هذه الجملة السامية : أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم خليله أن يجري هذه التجربة، بأن يذبح تلك الطيور ويقطع أجزاءها ويضع على كل مرتفع من الأرض جزءا من تلك الأشلاء المتقطعة، ثم يدعوها فتكون طيرا بإذن الله ويجيء إليه سعيا، وعلى هذا النحو يكون ذلك العمل الحسي تقريبا لمعنى الإحياء وإن لم يكن بيانا كاملا للكيفية ؛ لأن الكيفية عند الله العليم الخبير علمها، ويكون ذلك إظهارا للإحياء بمظهر حسي وإن لم يكن فيه بيان الكيفية.
هذا نظر جمهور المفسرين، ولقد قال أبو مسلم الأصفهاني إن الآية ليس فيها ما يدل على أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد ذبح الطير وقطع أجزاءها، إنما الذي فيها أنه حولها إليه ووضع جزءا على كل مرتفع من الأرض، وعلى هذا يكون المعنى أن إبراهيم عليه السلام طلب منه رب البرية أن يحول جمعا من الطير إليه ويجعل على كل مرتفع من الأرض طائفة من هذا الطير ثم يدعو هذه الطوائف يأتينه سعيا، وفي هذا توجيه لإبراهيم عليه السلام إلى أن الله سبحانه وتعالى يؤلف كل شيء ولو كان متنافرا، ويجمع كل جزء ولو كان بعيدا، كما دعوت الطير التي لا تجيب إنسانا وتنفر منه فأجابتك بقدرة العلي الحكيم الذي يؤلف بين المتنافرات، فإن كان ثمة استغراب من أن الحياة تقتضي أن يجمع الله سبحانه وتعالى أجزاء متناثرة قد تحللت وتجزأت إلى أجزاء بل جزئيات، فها أنت ذا ترى تلك النفرة التي بين الإنسان والطير تزول، تدعوها فتستجيب، وهي من شأنها النفور، وكذلك يؤلف الله بين الأجزاء المتناثرة، فيجعل منها ذلك الحي الذي كان من قبل، ثم إن في تلك التجربة تصويرا دقيقا، وهو أن إعادة الله تعالى للأشياء لا تكون إلا بقوله تعالى كن فيكون، كما يقول خليل الله إبراهيم للطير وقد تفرقت : أقبلي فتقبل.
هذان هما التفسيران للآية، ونرى أن رأي الجمهور يتجه إلى تحقيق معجزة تجري على يد إبراهيم عليه السلام وهي إحياء الموتى بالحس المعاين وإن لم تعلم الكيفية، كما جرى بالحس المعاين إماتة الرجل مائة عام ثم إحياؤه، ويكون من مقتضى التناسق بين الآيتين أن تكون في هذه الآية معجزة الإحياء بعد تقطيع الأجزاء، فالمقام كله يتجه بنا إلى الإعجاز بإحياء الميت بمرأى العين، وتكون العبرة في القصة هي أنه يريه الحقيقة واضحة جلية، ورؤيتها تغني عن البحث في كيفيتها وإنا نميل إلى هذا الرأي.
أما رأي أبي مسلم فهو مبني على الألفاظ من غير أن يرمي بنظره قليلا إلى الآية التي سبقت ذلك من الإماتة مائة عام ثم الإحياء بعد ذلك، وهو نظر إلى أن الكيفية لا يمكن أن تعلم للإنسان، وإنما أقصى ما يعلمه هو أثر القدرة لا كيفيتها، وأنه صور للإنسان الإعادة بقوله سبحانه وتعالى :[ كن فيكون ١١٧ ] ( البقرة ) وأنها تكون كقول إبراهيم للطير : أقبلن أيها النافرات فيقبلن.
و قد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته :[ واعلم أن الله عزيز حكيم ] وكان ذلك التذييل الكريم للدلالة على ثلاثة أمور :
أولها : إن العزة لله وحده فلا يركن إليه مؤمن إلا عز، ولا يبعد عنه أحد إلا ذل، فمن اعتز بغير الله فهو الذليل، ومن آوى إلى فضل الله فقد آوى إلى ركن شديد. وأن مناسبة هذا للآيات السابقة كلها واضحة ؛ لأن إبراهيم كان يغالب طاغية جبار عاتيا قد استهان بالناس جميعا كما دلت عليه الآية الأولى :[ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ] فالله العلي القدير يدعو خليله أن يتقدم لدعوة ذلك الجبار معتزا بالله فلا عزة إلا من الله، والله غالب على النمرود ومن هو أكبر من النمرود.
و ثانيها : الإشعار بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وعزته هي عزة القادر الغالب، لا عزة الضعيف العاجز.
و ثالثها : إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بحكمته وبعث الرسل يدعون إلى عبادته وحده، وهو الذي قدر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وكل ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية التي لا تصل العقول إلى العلم بها ؛ لأنها لا تعلم من الكون إلا مظاهره وأشكاله وألوانه، ولا تعلم شيئا عن كيفيته وأسراره. إن ذلك كله عند علام الغيوب، وفوق كل ذي علم عليم.
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ( ٢٦١ )
المؤمن الحق يشعر أن الحق يتقاضاه دائما الجهاد لأجله، والسعي في سبيل رفعته ؛ لأنه منذ أن أخرج إبليس وآدم وحواء من جنة الله، والعداوة مستحكمة بين الحق والباطل، وإبليس يغوي الأشرار، والله سبحانه يهدي المؤمنين إلى الحق ويوفقهم لنصرته.
و إن الجهاد في سبيل الحق له ميادين ثلاثة :
أولها : الإقناع بالحجة والبرهان، كما قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :[ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ١٢٥ ] ( النحل ) وإن ذلك الجدال مع أهل الشر الذين مردت نفوسهم على النفاق والمغالبة بالباطل ليس أمرا سهلا يسيرا، بل هو أمر الأمور ؛ لأن التقاء العقل الذي أناره نور الحق بالعقل الذي طمس الله على بصيرته ليس من الأمور التي يستطيعها كل العقلاء.
و الميدان الثاني من ميادين الجهاد : الجهاد المسلح، بمنع اعتداء الباطل، وخضد شوكته وفل حدته، وحمله على الجادة، ومنع أهله أن يفتنوا الناس في دينهم، وإن ذلك أظهر ميادين الجهاد، وهو باب من أبواب الجنة.
و الميدان الثالث من ميادين الجهاد : البر وإعطاء المال، وبذله مع طيبة النفس ببذله وعطائه، وإذا كان المال قد سمي النفيس، فلأنه قطعة من نفس من يبذله، وإن بذل المال هو الذي يقوي وحدة المؤمنين ؛ لأنه من التعاون بين الفقير والغني، والتعاون جماع كل القوى، وفوق ذلك فإن إمداد الجند بالمال، إنما هو إمداد بذخيرة القتال، وعدة النزال، والمال في الحروب من عصبها، كما هو عصب كل إصلاح في الأمة.
و قد ذكر سبحانه وتعالى قصص القتال بين الحق والباطل، وكيف ينتصر الحق مع الإيمان به وقلة العدد والعدد، وينهزم الباطل مع كثرة العدد، وذكر عمل المرسلين، وتبليغهم رسالات ربهم، وذكر من ذلك مجادلة إبراهيم خليله لطاغية من طغاة الدنيا.
و في هذه الآية الكريمة يذكر سبحانه ميدان الجهاد الثالث، وهو ميدان الصدقة غير الممنونة ولا الممنوعة، ولقد روي أن هذه الآيات نزلت في صدقة عبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفان في الجهاد في سبيل الله عند غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، جاء عبد الرحمان بأربعة آلاف درهم فقال : يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " ١. وقال عثمان : يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له. ولقد قال عبد الرحمان بن سمرة : جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ٢. ولقد قال أبو سعيد الخدري : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول :" يا رب ! عثمان، رضيت عن عثمان فارض عنه " ٣.
و في الحق إن هذه الآية تشمل صدقة عثمان بن عفان وعبد الرحمان بن عوف في معناها ؛ لأنه يتحقق في تلك الصدقة السخية كل أوصاف الصدقة التي يتقبلها رب العالمين فرضي الله عن الصحابة أجمعين.
[ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ] الحبة اسم لكل ما يزرعه ابن آدم ويكون منه قوته، وأكثر ما تكون في البر، وسنابل جمع سنبلة، وهي وزن فنعلة من السبل، ويقال أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال، وقيل معناه صار فيه حب مستور كما يستر بإرسال الستر عليه.
وسبيل الله، هي سبيل النفع العام، والجهاد في سبيل الله وإعطاء السائل والمحروم أو بعبارة عامة : الإنفاق في سبيل كل خير، لا يقصد بالإنفاق فيه كل وجوه البر والنفع، ولكن إذا اجتمعت مع أبواب البر الأخرى، كان المقصود بها الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وهو الإنفاق على المحاربين والغزاة وإعداد العدة، كما هو في آية الصدقات في التوبة :[ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل... ٦٠ ] ( التوبة )، ولذلك كان الغالب على هذا اللفظ أن يكون الإنفاق في سبيل الجهاد، وكل ما يعد القوة المدافعة عن الأمة.
و قد شبه سبحانه حال الذين ينفقون في سبيل الله بحال حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وقد ذكر الزمخشري وغيره من المفسرين : أن التشبيه ليس بين الذين ينفقون والحبة، بل بين الصدقة نفسها والحبة، فالكلام فيه مضاف محذوف مقدر في القول، وتقديره : مثل صدقة الذين ينفقون في سبيل الله.. فقد شبه سبحانه الصدقة التي تنفق في سبيل الله بحبة تلقى في الأرض فتخرج عودا مستويا قائما تتعلق به سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وإسناد الإنبات إليها من حيث اتصاله بها، وأن تلك الحبات هي نماء متولد عنها، وفي الحقيقة إن المنبت هو الله سبحانه وتعالى.
و المفسرون جميعا مجمعون على أن النفقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها ؛ لأن صاحبها يكافئه الله تعالى عليها بتلك المكافأة السخية، وهو سبحانه وتعالى المعطي الوهاب، وإن ذلك وجه صحيح بلا شك، ويزكيه قوله تعالى بعد ذلك :[ والله يضاعف لمن يشاء ] فإنه في ظاهره يدل على عطاء الله بالثواب على الحسنة بعشر أمثالها، وعلى الصدقة بسبعمائة مثل، فلا حد لفضله وعطائه سبحانه.
و لكن يصح مع ذلك أن نقول : إن الصدقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها، لا من حيث الثواب الذي يناله المنفق ممن يملك الثواب فقط، بل من حيث النتائج التي تنتج عنها، فإن نتائج الإنفاق في سبيل الله عظيمة تعود على الأمة بسبعمائة مثل لهذه الصدقة أو تزيد، فإن الإنفاق في سبيل الحرب بإعداد العدة يدفع كيد الأعداء فتنجو الأمة، وفي نجاتها خير كثير هو أكثر من سبعمائة ضعف من المال الذي أنفق. ومن يعطي يتيما ويدر عليه من ماله فإنه يربيه، فتكون منه قوة عاملة في الأمة، تأتي من وجوه الخير بأضعاف ما أنفقت في تربيته، ودفع شرا خطيرا، وهو أن يكون ذلك اليتيم إن لم يتعهد بالتربية الصالحة عنصر تخريب في الأمة. ومن ينشئ مستشفى، فإنما يدفع أدواء تعوق القدرة الإنسانية فلا تنتج، فإذا حمى هذه القدرة فقد قدم للجماعة خيرا كثيرا بهذا الإنتاج.
و على ذلك نقول : إن سبعمائة الضعف ليست فقط هي الثواب الذي يناله صاحب الصدقة، إنما هي مع ذلك النتائج الجليلة التي ترتبت على هذه الصدقة. وإنه ليزكي نظرنا هذا، إسناد الإنبات إلى الحبة، وهي التي شبهت بها الصدقة ؛ لأن ذلك يدل على أن تلك الأضعاف نماء لتلك الحبة، وهي أنسب في معنى النتائج النافعة للصدقة في الأمة، لا مجرد النفع فقط بالثواب لصاحبها.
و إن ذلك القول كله مبني على أن التشبيه بين الصدقة في نتائجها وبين الحبة في نمائها الدر الوفير، وأن الكلام على تقدير مضاف في قوله :[ مثل الذين ينفقون ] أي نفقة الذين ينفقون، على هذا التخريج الذي قاله كل المفسرين. ولقد خطر لي أنه لا مانع من أن يكون التشبيه بين المنفقين أنفسهم من حيث كونهم عنصر خير في الأمة له ثمرات منتجة، وبين الحبة من حيث ذلك النماء، وعلى ذلك لا يكون ثمة حاجة على تقدير مضاف محذوف، بل يكون المعنى على ذلك التخريج الذي يفيده ظاهر اللفظ : إن أولئك الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بإنفاقها في الجهاد لإنقاذ الأمة، أو لسد حاجة المعوزين ليكونوا قوة عاملة فيها ولا يكونوا عنصر تخريب، ويعملون لحفظ القوى الإنسانية من أن تبددها الأمراض، إن هؤلاء أنفسهم مثلهم في إنتاجهم وثمرات أعمالهم كمثل حبة نمت، فكان نماؤها أن تولد عنها عدد قد استغلظ وقام على سوقه، فحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وإن ذلك يكون كقوله تعالى في وصف المؤمنين ونتائج أعمالهم، إذ قال تعالى :[ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار... ٢٩ ] ( الفتح ).
و على هذا يكون تشبيه المنفقين أنفسهم بالحبة التي تنمو فتكون مائة، هو تشبيه المؤمنين بالزرع الذي يستغلظ فيقوم على سوقه، وينبت الخير الكثير.
و إن هذا خاطر خطر لي، وإنه يصح أن يستقيم عليه التخريج، وحتى على فرض التقدير، فإن حذف المقدر يومئ إليه ويشير.
[ والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ] ها هو التشبيه المحكم الذي ذكره رب العالمين، وتلك تخريجاته. ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن هذا كله من فضل الله تعالى ومن رحمته، ونعمه التي أنعم بها على عباده، ولذا قال سبحانه :[ والله يضاعف لمن يشاء ] ولهذه الجملة السامية تخريجان :
أحدهما : أن تكون المضاعفة هي ذلك النماء، وهذا الثواب العظيم، يجعل الإنفاق ينتج عنه سبعمائة ضعف، ويجعل الحسنة الواحدة في باب الصدقات يكون ثوابها بسبعمائة مثل، وتكون بركتها في مال المنفق بسبعمائة مثل أيضا، إن هذه المضاعفات يضاعفها الله سبحانه لمن يشاء بتوفيقه لفعل الخير، والإنفاق في سبيل الله، وهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد.
و ثانيهما : أن تكون المضاعفة التي يضاعفها ثوابا أكثر من سبعمائة المثل وفوقها، ونماء أوفر منها، وعطاء أكبر.
فالله سبحانه هو رب كل شيء وخالق الأسباب والمسببات يستطيع أن يعطي سبعمائة وأكثر منها لمن يشاء، إذ يوفقه لفعل الخير بنية خالصة وقلب نقي، فيضاعف له أضعافا كثيرة بعد السبعمائة التي نص عليها سبحانه.
و مهما يكن فإن الاتجاه واحد، وهو بيان سعة عطاء الله تعالى، وسعة نمائه، وهو الرزاق ذو القوة المتين.
و قد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى :[ والله واسع عليم ] أي أنه سبحانه عطاؤه واسع، فالسعة وصف للعطاء، أو وصف لله سبحانه وتعالى باعتبار شمول قدرته، وسعة ما يدخل في سلطان إرادته، فلا حد يحد هذه القدرة، ولا سلطان لغيره سبحانه يمنع شمول هذه الإرادة.
و هو سبحانه عليم بعباده، عليم بالسر والجهر، وبما يجري على الألسنة وما تخفيه الصدور، وعليم بالأعمال، والنيات التي تنبعث عنها هذه الأعمال، وعليم بالأعمال ونتائجها، وهو سبحانه بقدرته القاهرة هو الذي يرتب المسببات على الأسباب، وينشئ بحكمته العلاقة المؤثرة بينهما، فلا يؤثر السبب في المسبب إلا بقدرته وإرادته التي تسير على مقتضى علمه الذي شمل كل شيء.
و قد ذيل سبحانه الآية بهذين الوصفين للذات العلية، لكيلا يقع في نفس قارئ وهم بالاستكثار أو الاستبعاد، فإنه لا بعيد على قدرته سبحانه، ولا كثير أمام إرادته، وإن كل شيء عند الله بمقدار، وهون يدبر كل أمر بعلمه وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وهو بكل شيء عليم.
١ رواه البزار عن أبي هريرة، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مزدويه، وذكره ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد. راجع : فتح الباري ٨/٣٣٢، ومجمع الزوائد ٧/٣٢، وكنز العمال ( ٣٦٣٣)..
٢ رواه الترمذي : مناقب عثمان ( ٣٦٣٤ )..
٣ رواه أبو نعيم وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري بلفظ :" اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه " قالها ثلاثا، وكذا رواه ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها. [ جامع الأحاديث – السيوطي ( ٤٢٢٥ ) ]..
[ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] الإنفاق في سبيل الله، سبيل النفع العام، يثمر ثمراته من الخير العميم، لأن العطاء المادي ينتج نتائجه من معونة في الجهاد، وسد للثغور، ومنع للأذى، ودفع للكرب، ولكن المنفق لا يستحق ثواب الإنفاق إلا إذا كان طيب النفس في عطائه لا يرنقه من ولا أذى ولا رياء، فالصدقة تنتج آثارها في الجماعة حتما، مهما تكن نية صاحبها، ولكن صاحبها لا ينال أجر المنفق إلا إذا خلصت نفسه من هذه العناصر الثلاثة : المن، والأذى، والرياء، فإن النتائج للأعمال، أما الثواب فللنيات، كما قال صلى الله عليه وسلم :" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " ١.
و المن : أن يعد الإنسان إحسانه على من أحسن إليه، متطاولا به عليه، مبينا له أنها فضل ساقه إليه، غير مشكور، وإن ذلك فيه اتجاه إلى طلب المثوبة من العبد، لا من الرب، فله ما اختار. ولقد قال الزمخشري في تفسيره :" صنوان من منح سائله ومن، ومن منع نائله وضن " ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى " ٢.
و الأذى : أن يصدر عنه ما يؤلم من يأخذ ولو بغير من، كأن يقول له : ألا تعمل ! أو يتجهم في وجهه عند العطاء، أو ينتقد بغير الحق الذين قاموا على المال الذي جمع لوجه عام. ويروى أن امرأة قالت لصحابي : دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة، فقال :" لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم ! ".
و لماذا كان المن والأذى مانعين للأجر ؟ لأن الأجر هو جزاء من الله، فمن تصدق يبتغي وجه الله فله ثوابه، ومن منّ أو آذى فقد قصد غير وجه الله فليس له أن يطلب ثوابه. ولقد قال في ذلك ابن جرير الطبري :
( أوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ لمن أنفق عليه في سبيل الله ؛ لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده، فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يد له قبله، ولا صيغة يستحق بها عليه – إن لم يكافئه عليها – المن والأذى إذا كانت نفقة ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته، وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه ).
و قد بين سبحانه جزاء الذين ينفقون على هذا الوجه لا يبتغون إلا رضاه سبحانه، ولا يرجون ثوابا من أحد سواه، فذكر جزاءين عظيمين :
أولهما :[ لهم أجرهم عند ربهم ] أي لهم جزاؤهم مكافأة لهم على أعمالهم. وسماه سبحانه وتعالى أجرا، وهو المعطي الوهاب، توثيقا للعطاء، وقال سبحانه :" لهم "، ولم يقل مثلا :" أعطيهم "، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى للإشارة إلى أنه كان لهم بنياتهم، واستحقوه باحتسابهم، وليعلمهم كيف يكون العطاء من غير أجر، إنه سبحانه وتعالى هو الذي منحهم المال الذي أعطوا منه، وهو الذي وفقهم لأن يعطوا، وهو الذي يملكهم وما ينفقون وما يعملون، ومع ذلك يسمي ما يعطيهم أجرا قدموا مثيله من قبله مع أنه يعطيهم أضعافا كثيرة عنه، ولكنه يعلم الناس كيف يكون البعد عن المن، وكيف العطاء غير ممنون.
الجزاء الثاني الذي ذكره رب العالمين هو الأمن والاطمئنان، ولذا قال سبحانه :[ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] وقد نفى سبحانه وتعالى الخوف، ولم يقل لا يخافون ؛ لأن الخوف أمر نفسي، وقد يكون من غير مخوف، وتكون الخشية والخوف من شأن المؤمن شعورا بتحمل التبعة، ولذا نفى سبحانه الخوف أي الأمر المخوف، أي لا ينزل بهم أمر من شأنه أن يخافوه، ولم ينف الخشية النفسية في ذاتها، إذ الحال النفسية من قوة الإحساس، ولذا يقول الصوفية : غلب الخوف على الرجاء. أما الحزن وهو الهم الذي يصيب القلب فهو منفي في كل صورة ولا يصح أن يكون حالا من حالات الإيمان.
و ما الخوف المنفي والحزن ؟ أهما ما يكونان في الآخرة ؟ جل العلماء على ذلك، ولكن لماذا لا يراد ما هو أعم من أحوال الدنيا والآخرة ؟ وإن ذلك ما نختاره ؛ لأن الإنفاق في سبيل الله يدفع خطر الأعداء من خارج الأمة، ويجمع الوحدة ويقضي على أسباب الفتن الداخلية، فيكون الأمن في الداخل والخارج معا، فالمنفقون في سبيل الله لا خوف عليهم في الدنيا، ولا يحزنون في الدنيا أيضا كما أنهم لا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون.
و قبل أن ننتقل إلى الآية الثالثة من آيات الإنفاق ننبه إلى بحثين لفظيين :
أولهما : أن الله سبحانه وتعالى كرر النفي فقال :[ ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ] لتأكيد النفي، بألا يصدر عنهم أي أنواع من أنواع الأذى، فلا يكون منّ، ولا شبهة منّ، ولا أذى، سواء أكان أذى عن قرب أو بعد، حتى لقد قال بعض الصالحين :( لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ).
و ثانيهما : إنه سبحانه وتعالى عطف بثم في قوله تعالى :[ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ] فلماذا كان العطف بثم دون الفاء ؟ فهل مقتضى هذا أنه يسوغ المن والأذى عند العطاء، ولا يسوغ بعده بفترة من الزمان ؟ والجواب عن ذلك أن التعبير بثم أفاد النفي المطلق على عدم إتباع الإنفاق بالمن والأذى في زمن قريب أو بعيد، لأن المنفق في غالب الأحوال يكون عند إنفاقه في حال حماسية نفسية تدفعه على الإنفاق، فما يفكر في منّ ولا أذى وقته، وإن خطر له ذلك فقد يمنعه من الإعطاء، إنما يكون التفكير في المن أو الأذى بعد ذهاب فورة الخير في النفس، فإذا كان الله سبحانه قد صدر النفي ب " ثم " فليحث المنفق على الاستمرار على نزعة الخير، ولا ينكص على عقبيه، فيفسد نيته بأذى يؤذى به من أجرى الخير على يديه، أو من يمن به على من أعطاه.
١ سبق قريبا تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وقد استفتح به البخاري صحيحه..
٢ رواه النسائي: الزكاة – المنان بما أعطى ( ٢٥١٥ )..
[ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ] في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه منزلة قول المعروف، وكيف يذهب الأذى بخير الصدقة الفردية، وأن الحرمان فيها مع قول الخير خير من الصدقة مع الأذى بالمن أو غيره، وأن ألم الحرمان أقل من أذى القول ؛ لأنه أذى يصيب النفس بالجراح، وجراح النفس ليس لها التئام، أما ألم الحرمان فيذهبه الصبر، ووراء الصبر الفرج القريب، وإن الله مع الصابرين.
و قول المعروف هو الرد الجميل لطالب العطاء، وذلك بتأنيسه، وترجية الخير له، وإن هذا في ذاته صدقة، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " ١. ولقد قال بعض الحكماء :( الق صاحب الحاجة بالبشر، فإن عدمت شكره لم تعدم عذره ).
و إنه ظاهر من هذا أن قول المعروف يكون لصاحب المصلحة الشخصية الذي يطلب من المنفق مباشرة. ولقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أن قول المعروف يكون أيضا عندما يكون الإنفاق في المصلحة العامة، وإنه يكون كفاءها، ومساويا لها، وخيرا من الصدقة التي يتبعها أذى، وذلك بالتحريض على العمل، وعلى الإنتاج، وعلى الإعطاء، ويكون بالدعوة إلى كل ما فيه رفعة الأمة وتقوية عناصرها والتعاون بين آحادها، وإن ذلك بلا ريب فضله لا يقل عن الإنفاق من غير منّ، ويزيد عن الإنفاق مع المن والأذى.
و المغفرة معناها الستر أو العفو، والمراد : إما الستر من المطلوب منه العطاء، وعفوه، وذلك بأن يستر خلة المحتاج ولا يعلن سوء حاله، ويجعلها موضع حديثه، ويعفو عنه إذا أغلط أو جفا، أو أثقل في السؤال، وألحف في المسألة، وإما أن نقول إن المغفرة هي مغفرة الله سبحانه وتعالى للمسئول إذا لم يعط من غير شح ولا بخل.
و المعنى على هذا التخريج : إن قول المعروف مع مغفرة الله سبحانه وتعالى خير من الصدقة يتبعها الأذى. والوجه الأول أظهر وأبين، وهو المتفق مع سياق القول.
و قد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى :[ والله غني حليم ] لإثبات أن الذين يعطون إنما يقصدون وجه الله بعطائهم لينفعوا عباده، فإذا لم يقصدوا وجهه تبارك وتعالى، ويطلبوا رضوانه، فإنه غني عنهم، وهو بغناه الذي يعلو فوق كل تقدير يستطيع أن يجعل الفقير غنيا يعطي، والغني فقيرا يسأل، فالمال مال الله، وهو غاد ورائح، والله سبحانه وتعالى حليم، وعلى الناس أن يتخلقوا بأخلاق الله تعالى، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فلا يصح أن يدفعهم حمقهم لأن يقولوا للفقير ما يؤلم، أو للقائم بالمصلحة العامة التي أنفقوا في سبيلها ما يثبط همته، وينهنه من عزيمته. وفي ذكر هذا الوصف الكريم في هذا المقام إشعار بأن المن والأذى ذنب كبير يستحق العقاب، ولكن لحلم الله تعالى، ولأن رحمته سبقت عذابه أمهل ولم يهمل.
١ رواه الترمذي : البر والصلة ( ١٨٩٣ )، وأحمد ( ١٤١٨٢ )..
[ يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ] هذا نهي صريح واضح عن المن والأذى، وقد تضمن هذا النهي الحاسم أن الصدقات يبطلها المن والأذى، فلا يكون لها أجر من الله، ولا يكون لها شكر ممن أسدى إليه، سواء أكان الإنفاق في سبيل النفع العام، أم كان لبعض آحاد الأمة بسد الخلة، ودفع الحاجة. وقد أكد سبحانه النهي عن المن والأذى بثلاثة توكيدات :
أولها : تصدير الآية الكريمة بنداء للبعيد وفي ذلك فضل مبين، وبأن النداء للذين آمنوا، وفي هذا إشعار بأن الأذى في الصدقات ليس من صفات أهل الإيمان، إنما هو من صفات أهل الصلف والكبرياء والذين يمنون على الله وعلى الناس إن فعلوا الخير، وليست الكبرياء والاستطالة بفضل العطاء من صفات المؤمنين.
و ثانيها : أنه صرح سبحانه بأن المن يبطل الصدقة، ولا يجعل لها ثوابا عند الله، ولا شكرا من الناس، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :" إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر " ١ وتلا قوله تعالى :[ يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ].
و ثالثها : أنه سبحانه وتعالى جعل المنفق مع المن والأذى كالمنفق رئاء الناس، والمنفق للرياء والسمعة مشرك شركا خفيا، ولذا وصف سبحانه وتعالى الذي ينفق ماله رئاء الناس، بأنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فأفعاله كقلبه ليست أفعال المؤمنين، وقلبه ليس قلب مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا كان المنفق الذي يتبع صدقته بالمن والأذى مثله، فإن إبطال الصدقات أقل ما يناله.
و لماذا شدد سبحانه في النهي عن المن والأذى، وكرر ذلك في ثلاث آيات متواليات، وأكثر من التشبيه لتقبيح المن والأذى في الصدقة ؟
الجواب عن ذلك : أن المن والأذى في الإنفاق ينشأ عن استطالة الغني بفضل غناه، والمباهاة بثروته وقدرته، وإنه لا شيء يرمض نفس الفقير إلا إحساسه باستعلاء الغني بسبب الغنى، وصغار الفقير بسبب الفقر، وإن ذلك يدفع بلا شك إلى تفكيك الروابط، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فإن الفقراء لا يتألمون لذات الفقر إنما يتألمون من مرارته باعتزاز الغني عليهم، وإشعارهم بذل الحاجة، وعندئذ تتمرد النفوس، وتتعرض الأمم للخراب، وتذهب الوحدة الجامعة.
إن الغنى والفقر أمران لا يخلو الوجود منهما، ولا يمكن أن تخلو أمة من غني وفقير، ما دامت القوى متفاوتة، والفرص لا تواتي الجميع بقدر واحد، والأقدار لا تسعف الجميع في زمن واحد، وما دامت تلك حقيقة مقررة، فعمل الشرائع هو تخفيف ويلات الفقر، ومنع استطالة الغني، ولقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :( إن الله امتحن بعض عباده بالفقر، وأمرهم بالصبر، وامتحن الأغنياء بالمال، وأمرهم بالعطاء ).
و لقد شبه سبحانه وتعالى المن والأذى بالرياء في الصدقة كما أشرنا فقال :[ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ] وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن الذي ينفق ماله رئاء الناس، أي لأجل الرياء والسمعة، وأن يقول الناس : إنه سخي جواد، أو لتملق ذي جاه، أسوأ حالا عند الله من ذي المن والأذى ؛ لأن المشبه به أقوى دائما من المشبه. ولقد ذكر سبحانه حال المرائي بنفقته على أنه أمر مقرر سوءه، وليس في حاجة إلى بيان ؛ لأنه لا اشتباه في بطلان ما أنفق، إذ إنه ما قصد الخير حتى يبطل قصده، فالفرق بينه وبين الأول أن الأول قصد الخير واحتسبه، ولكنه أفسد عمله بما خالطه به من مَنٍّ وأذى، أما الثاني وهو المرائي فلم يقصد خيرا قط، حتى يبطله سواه، فشبه سبحانه حال قاصد الخير المنان في إبطال عمله، بحال من لم يقصد خيرا قط، بل الرياء والسمعة، وهو من فعل الشرك الخفي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " ٢.
و لهذا الفارق الجوهري بين المنفق المنان، والمنفق رئاء الناس، ذكر الله عمل الأول بأنه صدقة، فقال سبحانه :[ يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ] ولم يصف عمل الثاني بأنه صدقة، ولا في سبيل الله، ولذا قال سبحانه :[ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ] فما الصدقة ابتغاها ولا الخير أراده، بل الشر كل الشر ما عمله.
[ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ] هذا تشبيه جديد، وقبل أن نذكر التشبيه ووجه الشبه نذكر معنى هذه الألفاظ : صفوان، وصلد، ووابل : فالصفوان اسم جنس جمعي لصفوانة، كشجر وشجرة، وهو الحجر الأملس. وقال الأخفش : إن صفوان مفرد كحجر. والصلد معناه الأجرد النقي، وقد قال الكسائي فيه : إنه من صلد يصلد صلدا، وهو ما لا ينبت شيئا، وقد قال النقاش : الأصلد الأجرد الذي لا ينبت شيئا. والوابل هو المطر الشديد، وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة.
و الآن نذكر المشبه به في الآية الكريمة، ويبدو بادي الرأي، أن التشبيه بين الذي ينفق ماله للرياء والحجر الصفوان الأملس الذي يكون على ظاهره قليل من التراب الذي يبدو به خصبا، ووجه الشبه هو ظاهر الخصب الذي يبدو على ظاهر الحجر، ثم انكشافه بمطر وابل، وظهور حقيقته، وهو أنه لا يمكن أن يكون منبتا، فالمعنى أن حال من ينفق للرياء والظهور بمظهر البر المعطي وهو لا يقصد وجه الله تعالى ويبتغي رضاه بل ينفق ليرائي الناس، هي كحال حجر أملس لا ينتج شيئا ولا ينبت نباتا ولكن عليه ظاهر من التراب يوهم الناظر إليه أنه خصب منتج، ثم تتبين حاله بمطر يزيل ما ستره ويكشف حاله، فالمرائي لا إنتاج لعمله مطلقا كالحجر، وإن كان يبدو للناس برا فإن ذلك لا يلبث أن ينكشف، وتظهر حاله بأمر لم يكن في حسبانه، فثوب الرياء يشف دائما عما تحته، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
هذا الكلام يدل على أن التشبيه منعقد بين المرائي والحجر الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله، ولكن كثيرين يجعلون التشبيه بين المنفق المنان والحجر الصلد، ويكون المعنى على ذلك أن حال المنان في نفقته التي يبطلها بالمن والأذى، كحال الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منتجا منبتا للزرع فيصيبه وابل يزيل التراب الذي عليه، فيزول سبب إنتاجه، ومادة الخصب فيه، فالمن والأذى في إبطالهما الصدقات التي من شأنها أن تأتي بالثواب ورضا رب العالمين، كالوابل الذي يزيل الصعيد الطيب الذي يخرج نباته بإذنه ربه، من حيث كان من شأنه أن ينتج الثواب، فأزال ذلك بمنه وأذاه.
و إني أرجح الأول، لأن التشبيه بلفظ المفرد، وهو يناسب الذي ينفق ماله رئاء الناس، لأنه بلفظ المفرد، والمنفق منا وأذى ذكر بلفظ الجمع، فالضمير في قوله تعالى :[ فمثله ] أولى بأن يعود على المرائي لإفرادهما، ولأن الآيات التالية تبين حال المنفق ابتغاء مرضاة الله، وفيها تشبيه صدقتهم بالحبة التي تكون في أرض خصبة، وإن هذه مقابلة ظاهرة بين المنفق رياء، والمنفق ابتغاء مرضاة الله، فكان الأظهر إذن أن يكون التشبيه في هذه الآية بين الإنفاق رياء والحجر الأملس.
[ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ] جمهور المفسرين على أن هذه الجملة السامية للدلالة على أن المنان والمرائي كلاهما لا ثواب له، فالمعنى لا يقدرون، أي لا ينالون شيئا من المال الذي أرادوا بإنفاقه كسب الثواب، ولكن كيف يعبر عن نيل الثواب بالقدرة عليه، وعن الإنفاق بالكسب ؟ وقد يجاب عن ذلك بأنهم إذا أنفقوا فقد صاروا قادرين على الثواب، وعلى كسبه بمقتضى ما وعد الله به عباده المتقين، فإذا منوا وآذوا في نفقته، فقد انتفت عنهم تلك القدرة على ثواب هذا الذي أنفقوا وقد كان من شأنه أن يكون كسبا لهم.
و إني أرى أن يكون المعنى أن المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا منا وأذى، والذين يراءون ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي كسبوه، إنما القدرة من الله العلي القدير، فما كان لهم أن يمنوا ولا أن يؤذوا في سبيل ذلك الإنفاق، ولا أن يراءوا به، فالمال مال الله، وهو الذي بقدرته مكنهم منه، وسلطهم عليه، فعليهم أن يتقوا الله فيه، ويشكروا نعمة المنعم به، ولا يراءوا في إعطائهم، وإلا كانوا بالنعمة كافرين.
و على ذلك تكون هذه الجملة لتقوية المعنى في الإنفاق، والتحريض على الإخلاص لله في النفقة بحيث تكون خالية من المن والأذى والرياء.
[ والله لا يهدي القوم الكافرين ] ختم سبحانه وتعالى الآيات بهذه الجملة الحكيمة للإشارة إلى أن الإنفاق من غير من ولا أذى هو من خواص الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يهدي إليه المؤمنين ولا يهدي إليه الكافرين، وللإشارة إلى أن المن والأذى والرياء إنما هي صفات الكافرين فيجب أن يقلع عنها أهل الإيمان، فهي صفات لا تليق بهم، ولا ينبغي أن يكونوا عليها ؛ لأن فيها كفرا للنعمة التي أنعم الله بها، والصدقة رياء وسمعة فيها شرك خفي فيجب على المؤمن أن يطهر نفسه من هذه الأهواء المردية، وليضبط نفسه إذا أعطى، فلا ينطق لسانه بالمن، ولينق قلبه من الرياء فإنه يأكل الحسنة فيجعلها سيئة.
و في الجملة إشارة إلى أن الله غني عن عطاء المنان المؤذي المرائي، إن أعطوا لنفع عام أو لدفع أذى الكافرين، فإن الله سيتولى الكافرين، وهو لا يهديهم إلى سبيل الانتصار على المؤمنين الصادقين في إيمانهم ؛ لأنهم أولياء الله الذي قال فيهم :[ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ ] ( يونس ).
١ ذكره القرطبي في تفسيره : البقرة ( ٢٦٤ ) عن أبن سيرين رضي الله عنه..
٢ سبق تخريجه.
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير( ٢٦٥ )
في الآيات السابقة بين سبحانه الصدقات التي يشوبها الرياء فيذهب بخيرها، وأن الرياء في الصدقة لا يصدر عن شخص يؤمن بالله واليوم الآخر صادق الإيمان، وأن الرياء في الصدقة يذهب بثمرتها والقربى فيها كما يذهب المطر الغزير يصيب أرضا حجرية عليها قشرة رقيقة من التراب، فيذهب المطر الشديد بها.
و في الآية الأولى من هاتين الآيتين يبين سبحانه وتعالى الثمرة على الصدقة ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولتربية التقوى في النفس وتهذيبها، وإرهاف إحساسها بحق المجتمع على ذوي المال من المؤمنين فقال تعالى :[ و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم ].
يشبه سبحانه وتعالى حال الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ولتثبيت النفس على التقوى وتهذيبها وتقويتها تهذيبا ناشئا عنها منبعثا منها، يشبه سبحانه وتعالى حال هؤلاء المنفقين بجنة، أي حديقة غناء كثيرة الأشجار، بربوة أي أرض مرتفعة أصابها مطر غزير فأتت ثمراتها ضعفين أي مثلين مما ينتج أمثالها.
و لابد لبيان هذا التشبيه السامي أن نبين المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والتوجيه الكريم من هذا التشبيه :
أما المشبه فهو قوله تعالى :[ و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم ] فالمثل هو الحال والشأن، ومعنى ابتغاء مرضاة الله طلب رضاه سبحانه وتعالى الدائم المستمر، فالمرضاة مفعلة من الرضا، فهي مصدر ميمي من الرضا، وهو أقوى في الدلالة من معنى الرضا، إذ المعنى فيها الرضا الثابت الدائم الذي لا يكون معه أي غضب من المولى العزيز الحكيم القوي القهار، فهو ينفق طالبا قويا موثقا رضا الله سبحانه وتعالى رضا دائما مستمرا.
و أما المعنى " تثبيتا " فقد اختلفت عبارات المفسرين حولها، وإن انتهت إلى الاتفاق على مغزاها ومرماها، وإن أصل معنى ثبت قوى حقيقة ودعمها، ومن ذلك قوله تعالى :[ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ٢٧ ] ( إبراهيم ) ويقال ثبت فلان في الأمر أي صحت عزيمته فيه وداوم عليه، ويقال أيضا : ثبت فلانا في الأمر، أي جعلته ثابتا فيه لا يتزعزع عنه ولا يضطرب، وقويت رأيه فيه.
و المعنى على ذلك : أن أولئك المتقين من المنفقين ينفقون طلبا لرضا الله الدائم عليهم وتثبيتا من أنفسهم أي تقوية لليقين والإيمان والاحتساب إلى الله تعالى، وتلك التقوية وهذا التثبيت صادر عن أنفسهم، فهم يربون أنفسهم على الإيمان واليقين، ف " من " في قوله تعالى :[ و تثبيتا من أنفسهم ] هي " من " التي تكون بمعنى الابتداء، أي أن التثبيت مبتدئ من أنفسهم، فهم يزكونها وينقونها ويراقبونها، لكيلا يدخلها أي معنى من معاني الرياء والنفاق، أو الاتجاه إلى المن والأذى، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنهم ينفقون ما ينفقون قاصدين وجه الله تعالى، وأن ذلك القصد يستمر دائما، فلا يجيء وقت يمنون فيه ويؤذون ؛ لأن الثبات يقتضي الاستمرار على حال واحدة، وهي حال ابتغاء رضا الله وحده، لا يرجون من غيره جزاء ولا حمدا ولا ثناء، ولا يبتغون بغير رضا الله بديلا.
و يصح أن يكون معنى [ وتثبيتا من أنفسهم ] أي يقينا وإيمانا صادرا من أنفسهم فالمعنى على هذا أن أولئك المنفقين المخلصين ينفقون طالبين رضا الله تعالى وهم موقنون صادقو الإيمان بربهم محتسبو النية له تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك المراءين الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس أو يتبعون ما ينفقون منا وأذى ليس إيمانهم كاملا، ولا يقينهم مستقرا ثابتا، والمعنيان متلاقيان في الجملة، أو على الأقل متقاربان جدا. هذه مفردات المشبه ومعناه.
أما المشبه به فهو قوله تعالى :[ كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ] والجنة البستان، وسمي البستان جنة، وهي فعلة من جن بمعنى ستر وغطى ؛ لأن الأشجار تغطيها فلا ترى أرضها، وكأن الأرض مغطاة بلفائف الأشجار. والربوة المكان المرتفع قليلا، في خصوبة تربة، وجودة زرع، والربوات من الأراضي أخصب وأكثر إنتاجا من المنخفضات، ولما كان مرتفع الأرض لا تصل إليه مجاري الأنهار عادة ذكر الله سبحانه وتعالى أن تلك الربوة قد أنعم الله عليها بوابل أي مطر غزير أصابها، وبذلك تجتمع لها أسباب الإنتاج الكثير، وهي ثلاثة : خصب تربة، وتخلل الشمس لأجزائها، إذ إنها بارتفاعها صارت الشمس تنفذ إلى الأشجار، وفي ضوء الشمس غذاء للأشجار كغذاء الماء، والثالث الماء النقي الغزير، يصيبها به مالك السماوات والأرض يكون لها نعمة يمد زرعها بالغذاء، ولا يزيل طبقة الخصب فيه كالوابل الذي يصيب الحجر الصوان فيتركه أملس صلدا، بل إنه يمدها بالإنتاج ؛ لأن الخصوبة فيها ليست قشرة ظاهرة من التراب يزيلها الماء الغزير فلا تنبت بل خصوبتها في معدنها، وليست مظهرا بل هي حقيقة وجوهر.
و إذا كانت أسباب الإنتاج الكثير قد توافرت، فإن الثمرة ستكون لا محالة بمقدار توافر هذه الأسباب، ولذا قال تعالى :[ فآتت أكلها ضعفين ] فالفاء للسببية أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، وآتت بمعنى أعطت، والمعطي في الحقيقة هو الله تعالى، ولكن أسند إليها العطاء لتوافر الأسباب التي خلقها المولى القدير فيها، وتضافر كل المهيئات التي هيأها المولى العلي القدير لإنتاجها.
و الأكل : الثمر الذي يؤكل، وفي التعبير عن الثمر بالأكل من غير وصف سواه إشارة إلى طيب ثمرها وحسنه، واستساغة النفس له، وجودة الغذاء منه ؛ لأنه وصف بأخص ما يطلب له الثمر الجيد الطيب المستساغ وهو أن يأكل، ومعنى " ضعفين " أي أنها آتت بضعفي ثمر غيرها من الأرض، والضعف معناه هنا المثل، وقد ذكرنا ذلك من قبل، أي أن توافر هذه الأسباب جعلها تنتج بمقدار مرتين مما ينتج غيرها. ويصح أن يكون المراد من الضعفين الكثرة المطلقة من غير تقيد باثنين كما في قوله تعالى :[ ارجع البصر كرتين... ٤ ] ( الملك ).
و لكن تلك الأرض الطيبة المباركة التي شبهت بها نفس المؤمن الطيبة، ربما لا يصيبها الوابل وهو المطر الغزير فلا ينتج طيبا في هذه الحال، فبين سبحانه وتعالى أنها تنتج أيضا بمطر قليل، ولذا قال تعالى :[ فإن لم يصبها وابل فطل ] والطل أضعف المطر، وزرع الطل أضعف من زرع المطر الغزير وأقل ريعا، ولكن يكون في عيدانه قوة تماسك ونفع.
و لكن هل يكون المعنى في الآية أنها تنتج ضعفين، كما أنتجت في حال الوابل ؟ بين أيدينا منهاجان :
أولهما أن نقول : إنها تنتج مثلها بما توافر فيها من علو يجعل الشمس تخلل أجواءها فتمدها بغذاء يغنيها عن كثرة الماء، وبما فيها من خصب تتوافر فيه عناصر التغذية أكثر من غيرها، فيكون ذلك معوضا لها عن قلة الماء، وتكون النتيجة على هذا التوجيه أن قلة الماء وكثرتها سواء، لتوافر أسباب النماء. هذا هو التوجيه الأول.
أما التوجيه الثاني فهو أن نقول : إن المعنى أنها تنتج على كل حال، فإن كان المطر غزيرا أنتجت كثيرا وإن كان المطر قليلا فالإنتاج وإن قل طيب نافع، وإن كانت الربوة هي المقابلة في التشبيه للنفس المؤمنة الطيبة، فيكون المعنى أن النفس التقية المؤمنة التي تبغي بإنفاقها رضوان الله تعالى، وتثبيت إيمانها وتصديقها بالإنفاق في سبيله، لإنفاقها إنتاج عظيم، ونعيم مقيم، إن قل فهو في نفعه كالثمر الذي ينتج من الربوة الخصبة التي يصيبها الطل، وإن كثر فهو كتلك الربوة تؤتي ثمرتها ضعفين إن أصابها وابل، وعلى ذلك فالقليل والكثير ذو نفع عظيم وخير عميم.
و التوجيه الأول عندي أولى بالقبول ؛ لأنه ليس في الآية ما يدل على قلة الإنتاج، فإن قلة المطر لا تستلزم قلة الثمر، بل قد تكون كثرة الماء معوقة عن الإنتاج لا مكثرة له، وعلى ذلك يكون المعنى : أن تلك الربوة لخصبها وطيب مناخها وتخلل الشمس لأجزائها تنتج خيرا كثيرا، سواء قل الماء أم كثر، متى وجد القدر المنبت.
هذان طرفا التشبيه : المشبه والمشبه به، وبقي علينا أن نبين وجه الشبه في النص السامي الكريم، وذلك بتوجيه التشبيه في جملته وسياقه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى شبه هؤلاء المنفقين عن إيمان صادق، قاصدين بإنفاقهم وجه الله جل جلاله لا يبغون سوى رضاه، مثلهم في إنفاقهم الكثير والقليل كمثل جنة بربوة خصبة منتجة تنتج دائما في حال غزارة المطر، وفي حال قلته، فأكلها دائم، ونفعها مستمر، لا يمنعون خيرهم إن لم يشكرهم الناس، ولا يؤذون في نفعهم أحدا من الناس، ولا يراءون الناس، فصدقتهم في نماء، تنمو دائما في الناس بنفع ينالهم، كصدقة جارية مستمرة لا تنقطع، ثم نفعها للمنفق دائم بما يحسه من أريحية دينية واطمئنان قلب، ولذة العبودية في الاتجاه إلى الله وحده، والاستعلاء بالاستغناء عن شكر الشاكرين ومدح المادحين، ثم يعقب ذلك كله جزاء كريم من رب العالمين، يوم الدين، ولذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة تنمو لصاحبها كما ينمو الفلو ١ يربيه صاحبه، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم " ٢.
[ والله بما تعملون بصير ] ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية ليعلم الناس عظيم مراقبته سبحانه وتعالى لأحوالهم، واطلاعه على خفايا نفوسهم، فيراقبوه سبحانه في أفعالهم وأقوالهم، كما يراقبهم سبحانه، فتمتلئ قلوبهم عند العمل بعظمته، فيعملوا ما يعملون محسين بأنه مطلع على ما تخفي صدورهم، فتتجه القلوب – تحت تأثير هذه الرقابة المسيطرة العليمة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة – إليه سبحانه وحده، ولا تتجه إلى سواه.
و فوق ذلك فإن لذلك التذييل السامي معنى آخر مناسبا مناسبة أخص للسياق الخاص، بحسن القصد في الإنفاق، وهو بيان أن الله سبحانه وتعالى يعلم الذين أخلصت قلوبهم في الصدقة فلم تبتغ رضا أحد غير الله تعالى، فيجازيها على إخلاصها في النية، واحتسابها الخير لوجه الله الكريم، ويعلم من ينفق رياء أو يتبع ما ينفق بالمن والأذى فيحبط عمله.
و إن عبارات التذييل في ذاتها تربي المهابة للذات العلية في النفس التي تريد ما عند الله تعالى، فإنه قد صدر الجملة السامية بلفظ الجلالة الذي يدل في ذاته على العلو والسلطان والألوهية الحق، ثم إن هذا القاهر فوق عباده يعلم علم من يبصر ويعاين ويرى بكل ما يعمله الناس من خير وشر، وما يقصدون في صدقاتهم، فإن أرادوا رضاه فقد آووا إلى ركن حصين، وإن قصدوا سواه فهم على شفا جرف هار، وسينهار بهم في نار جهنم، فلا أموالهم بقيت لهم، ولا الثواب نالوا، بل العقوبة تستقبلهم ومقت الناس يلحقهم، والله من ورائهم محيط.
١ الفلو هو المهر..
٢ رواه بهذا اللفظ أحمد ( ٩٠٦٤) في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، وبنحوه عنه أيضا رواه البخاري : الزكاة ( ١٣٢١ ) ومسلم (١٦٨٢)..
[ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ] هذا مثل ثان يذكره سبحانه وتعالى في بيان أولئك الذين يحبطون أعمالهم من صدقات أو صلوات أو حج وغير ذلك من أعمال البر بالرياء أو المن والأذى، أو التطاول على الناس بما يزعمون لأنفسهم من عمل خير قاموا به.
و هو يختلف عن التشبيه السابق من ناحيتين :
أولاهما : في الشكل، فإن التشبيه الأول كان بصريح اللفظ، وقد ذكر فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي الكاف في قوله تعالى :[ كمثل جنة بربوة ]، أما هذا التشبيه فلم يذكر فيه المشبه ولا أداة التشبيه، وهو من النوع البياني الذي يسميه علماء البلاغة " استعارة تمثيلية " وهي تشبيه حال بحال لم تذكر فيه أداة التشبيه ولا المشبه، بل ذكر المشبه به فقط، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه.
الناحية الثانية : أن التشبيه الأول فيه تشبيه من يبتغي بعمله مرضاة الله، وينقي ضميره وقلبه من كل رياء ونفاق، بالحديقة الغناء المثمرة القائمة على ربوة من الأرض خصبة منتجة، أما هنا فالتشبيه هو تشبيه من ينقض عمل الخير الذي يعمل برياء يحبطه، أو منّ أو أذى، أو مباهاة ومفاخرة ببره بين الناس، بمن كانت له حديقة فيها نخيل وأعناب، وأنهار تجري فيها مع الثمرات وقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، وتكون عونا لهم بعد وفاته فأصابتها رياح شديدة فيها نار فاحترقت.
و لم يذكر في هذه الآية المشبه ولا أداة التشبيه كما نوهنا، بل ذكر المشبه به فقط، فعلينا أن نتكلم في مفردات المشبه به ومعانيها، ثم نتعرف المشبه ووجه الشبه، ومغزى هذا التشبيه السامي الكريم.
و الود في قوله تعالى :[ أيود أحدكم ] معناه محبة الشيء مع تمنيه، ولذلك يستعمل في مقام التمني. والنخيل اسم جمع النخل، والأعناب جمع عنب، وهو ثمرة الكروم، وقد جاء في تفسير المنار في السبب في ذكر النخيل دون ثمرتها وهو التمر، بينما ذكر العنب وهو ثمر الكروم وقالوا في تعليل ذلك :( إن كل شيء في النخيل نافع للناس في إنفاقهم : ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله ١، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك ) ٢. والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها صاعدة إلى السماء على هيئة العمود، وقيل : الإعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق، وسميت إعصارا لأنها تلتف كالثوب، أو لأنها تكون سببا في نزول المطر، فكأنها تعصر السحاب، فتنزل ما يحمل من ماء، ولذا فسرت المعصرات في قوله تعالى :[ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ١٤ ] ( النبأ ) بأنها السحاب ؛ لأنها تعصر بالإعصار ذلك العصر. والنار التي تكون في الإعصار هي البرق الذي يتسبب عن اصطدام السحاب بتحريك ذلك الإعصار، أو أن السحاب مع هذه القوة الشديدة التي يتحرك بها هو أيضا حامل لنار إذا أصابت شيئا أحرقته.
هذه مفردات المشبه به ومعانيها، والاستفهام في قوله تعالى :[ أيود أحدكم أن تكون له حنة ] هو للإنكار، وهو لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي، والمعنى لا يود أحدكم أن يكون له جنة.. إلخ، ومجيء النفي على صيغة الاستفهام على ذلك النحو، لتأكيد النفي، وبيان أن الأمر في ذاته غير معقول، بحيث لو سئل عنه أي عاقل لأجاب بنفيه ؛ لأن النفي مجمع عليه من كل العقلاء.
و خلاصة القول : إنه لا يود أحد أن تكون له جنة فيها نخيل وعنب، وفيها من كل الثمرات غير النخيل والعنب – وكان النص عليهما لأنهما فاكهة العرب – وإنها مع هذه الثمرات الطيبة ذات منظر بهيج، فالأنهار تجري من تحتها فتمدها بالخصب، كما تسر الناظرين، قد احتازها وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء من ذكور وإناث يحتاجون إلى مال من بعده يسد عوزهم، ويقيم أودهم، ومع هذا الأمل المدخر في هذه الحديقة أصابتها ريح شديدة فيها نار فاحترقت بنارها، لا يود أحد ذلك أبدا، وهو شر يتوقاه يدعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبه إياه.
هذا هو المشبه به فما هو المشبه ؟ إنه يفهم من سياق القول من سابقه ولاحقه، وهو العمل الطيب المنتج الذي يكون مدخر الرجل في حياته الآخرة، كما كانت الحديقة مدخرة لذريته في كبره، وهم امتداد حياته وفيهم بقاؤه بعد مماته، وإنه في هذه الحياة الدنيا الفانية الوشيكة الزوال كمن أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى مدخره بعد مماته، فهو محتاج إلى مدخره من الأعمال الصالحة بعد وفاته لتكون ذخره وثروته في الحياة الباقية بعد هذه الفانية، وإنه إذا أبطل ذلك العمل برياء يحبطه، أو من أو أذى أو مباهاة أو فخر، يكون كمن يرضى بأن تحترق جنته في كبره بريح عاتية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي من المدخر لذريته في القابل قليلا.
هذا هو المشبه المستنبط الذي تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة.
و لقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فيمن ترون هذه الآية :[ أيود أحدكم أن تكون له جنة ] نزلت ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، فغضب عمر، وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم ! فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل. قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله، وفي رواية أخرى : فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء ).
و روي أن عمر رضي الله عنه قال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء.
و إننا إذا نظرنا إلى سياق الآيات قصرنا المشبه على من يفسد عمله بالمن والأذى والمباهاة والمفاخرة، ثم إذا نظرنا إلى هاتين الروايتين اعتبرنا المشبه هو حال الرجل يعمل الصالحات، حتى إذا دنا أجله أو كاد، عمل عملا غير صالح، فكانت حاله كحال رجل كل ثروته حديقة غناء فيها من كل الثمرات وكل زوج بهيج، قد توافر خيرها، حتى إذا أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى ما يترك من المال، أصابت ثروته ريح عاتية فذهبت بها، فترك ذريته من غير شيء. وعلى هذا يكون المقصد والمرمى الاستمرار على عمل البر والمداومة عليه في هذه الدنيا.
و عندي أن يجعل المشبه خاصا في دائرة السياق الخاص بالمن والأذى والرياء، ويكون التشبيه على هذا الوجه أن حال من يفعل الخير ويكثر منه ثم يبطله بالمن أو الأذى أو الرياء، كحال رجل يملك حديقة غناء جعلها موضع أمله في حياته، وغذاء أولاده بعد وفاته وهو في سن الكبر، ثم وهو في هذه الشيخوخة الفانية أصاب ثروته ريح أحرقتها، إنه لا يود أحد أن يكون في هذه الحال، فكذلك يجب أن ينفر فاعل الخير من تلك الموبقات التي هي كالريح العاصف الذي يهلك الزرع والنسل، ويذهب بالثروة المثرية في وقت هو أشد ما يكون حاجة إليه في قابل حياته، ولذريته بعد مماته.
و إنه يرشح لهذا المعنى قوله تعالى :[ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ] كما يرشح له كل التشبيهات السابقة.
و إن وجه الشبه على هذا هو أن في الحالين إبطالا لأمر جوهري في الحياة له نفاسة في ذاته، وله نفع في الحاضر والقابل، يذهبه أمر عارض مزيل لا يبقي بعده شيئا مفيدا، فكما أن الحديقة الغناء ذات النفع في الحاضر والقابل للحاضر ومن يخلفهم يذهب بها الإعصار الشديد المحرق، فكذلك النفاق والرياء والمن والأذى والتطاول على الناس بفعل الخير يفسد عمل الخير الذي هو ثروة معنوية لفاعله في حاضره ومستقبله، وفيه رضوان الله وعزته، فهل يود مؤمن أن تكون حاله كحال من يصيب الإعصار ثروته في كبره، فيمد يده إلى الناس شيخا هرما فانيا، ويترك أولاده كلا على الناس من بعده ؟ لا يود مؤمن ذلك. فلا يصح أن يمكن الرياء من نفسه والاستطالة والمباهاة والمن والأذى من لسانه، فيكون ذلك إعصارا شديدا يذهب بعمله.
و في هذا التشبيه فوائد كثيرة :
أولها : الإشارة إلى أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي متاع قليل، وعلى المؤمن أن ينتفع بكل لحظة بعمل الخير يحتسبه عند ربه، كالرجل الذي يكون في شيخوخة فانية فعليه أن يتوقع الموت دائما كما يتوقع صاحب هذه الشيخوخة، وعليه أن يعمل الخير عمل من يخشى الفوت، وقد قرب منه الموت.
ثانيها : أن الرياء والمباهاة والاستطالة بعمل الخير تذهب به بل تحرقه، كما يحرق الإعصار الحديقة الغناء.
ثالثها : أن عمل الخير ينمو ويربو وينتج كالحديقة الغناء التي فيها من كل الثمرات والمياه تجري من تحت أغراسها والشمس تمد ثمارها، فتؤتي أكلها بإذن ربها، فهي في نماء مستمر دائم.
رابعها : أن من مطالب الحياة التي يقرها الدين أن يحرص الرجل على أن يترك لأولاده إذا كانوا ذرية ضعافا، فضلا من المال يستعينون به في شدائد الحياة، ولا يكونون كلا على الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن مالك ٣ في مرض كان يتوقع الموت منه، وقد أراد أن يتصدق بماله كله فنهاه وأقره على التصدق بالثلث :" إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ٤.
هذه بعض إشارات الآية الكريمة وإنها لتشع منها معان سامية متعددة كما يشع الثمر الجيد من الغصن المثمر، تعالت كلمات الله العليم الحكيم.
و من أجل هذه المعاني السامية المنبعثة من ذلك النص الكريم المفهومة من عباراته وإشارته، دعا سبحانه إلى التفكير فيها وتدبرها مع غيرها، فقال عز من قائل :
[ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ] هذا ختام هذه الآية الكريمة، والآيات المقصودة هنا هي الآيات القرآنية، والمراد من التفكر هو التدبير والتأمل وتعرف مرامي العبارات القريبة والبعيدة، والتفكر في عواقب الأعمال ونتائجها، وفي أسبابها وغاياتها. والتشبيه في قوله تعالى :[ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ] فيه تشبيه الكلي العام من بيان الله سبحانه وتعالى في كل آياته، بهذه الصورة الجزئية التي رأيناها في تلك التشبيهات الرائعة وذلك السياق المحكم، وتلك المعاني الجلية التي يتدبرها المتدبر، فتجلى له معان كريمة سامية كلما أعمل فكره وتفكر وقدر، ومثل ذلك كما يجرى في عباراتنا – ولكلام الله المثل الأعلى – أن يقول عندما يعمل عملا جيدا يعمله فيستحسن، فيقول : كذلك أعمل دائما، أي كهذا العمل الذي استحسنتموه كل عمل. ومعنى التشبيه في الآية الكريمة على هذا يكون هكذا : كهذا البيان الجلي الرائع الذي بدا في هذا المثل المحكم بيان الله الكلي لكل آياته في كتابه الحكيم.
و لعل قوله تعالى :[ لعلكم تتفكرون ] هي في الرجاء، وليس الرجاء من الله تعالى ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، فلا يكون منه رجاء وتوقع ؛ لأن ذلك شأن من لا يعلم، إنما يكون منه سبحانه وتعالى تحقق وتأكد، وإنما معنى الرجاء هو المتفق مع ذات البيان ؛ لأن ذلك من شأنه أن يرجى معه تفكر المتفكر وتدبر المتدبر، ولذلك قال بعض العلماء : إن لعل هنا للتعليل، فالمعنى كان ذلك البيان لتتفكروا وتتدبروا.
و المعنى الإجمالي لذلك الختام الكريم لهذا المثل السامي الحكيم : يبين الله سبحانه وتعالى آياته دائما، كذلك البيان الذي اتضح لكم في هذا المثل الرائع المحكم الذي تتسع آفاق الفكر في إدراكه، فبي
١ العثاكيل : جمع العثكال : العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب ( لسان العرب : العين – عثكل )..
٢ تفسير المنار ج ٣ ص ٦٩..
٣ هو سعد بن أبي وقاص بن مالك بن أهيب بن عبد مناف، الزهري القرشي، كنيته أبو إسحاق، ولقبه: فارس الإسلام، صحابي جليل، أقام بالكوفة، وتوفى بالمدينة ٥٥..
٤ رواه البخاري: الوصايا – أن يترك ورثته أغنياء ( ٢٥٣٧ )، ومسلم: الوصية – الوصية بالثلث ( ٣٠٧٦ )..
يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد( ٢٦٧ )
بين سبحانه وتعالى الإنفاق الذي يعد برا، ويؤتي ثمراته في الدنيا والآخرة، وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى لا ابتغاء تسهيل مطلب من مطالب الدنيا، ولا طلبا لجاه، ولا ملقا لذي جاه، ويشترط في ثواب الآخرة مع ذلك ألا يعقب العطاء منّ أو أذى، فلا يشعر المعطي من أعطاه بمنة العطاء، ويستكثر عليه ما أعطاه، ولا يؤذيه بإعلان عطائه أو توجيه كلمات مذلة، فحسبه أن يده هي الدنيا، ويد المعطي العليا، والنبي صلى الله عليه
و سلم قال :" اليد العليا خير من اليد السفلى " ١ فلا يصح أن يجمع عليه بين هذا الضعف مع المن وأذى الكشف والإعلان في مواطن لا يحسن الإعلان فيها. وفي هذه الآيات التي نتكلم في معانيها السامية الآن بيان المال الذي يكون منه العطاء، ففي الآيات السابقة كان بيان مقاصد العطاء وما يتقرب به وما يعقبه، وفي هذه الآيات بيان المال الذي يكون منه العطاء، وأن تخير المال واصطفاءه يدل على مقدار الصفاء في النية، فمن اختار عند العطاء أجود ماله، كان ذلك دليلا على حسن القصد إن لم يصحب العطاء من أو أذى أو رياء، وإن اتجه إلى غير الجيد من ماله يعطيه كان ذلك دليلا على ضعف العزيمة وشح النفس [ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ٩ ] ( الحشر ).
و لذلك بين سبحانه عقب المطالبة بأن يكون ابتغاء مرضاة الله أنه لا يسوغ أن يكون الإنفاق من الرديء دون الجيد، ومن الخبيث دون الطيب، فقال تعالت كلماته :
[ يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ] ابتدأ سبحانه بالنداء بالبعيد للدلالة على عموم النداء للمؤمنين في كل الأجيال من وقت البعث المحمدي إلى يوم القيامة، وكان النداء للمؤمنين لبيان أن من أخلاق أهل الإيمان أن يتصدقوا من الطيب لا من الخبيث، ومما تحبه النفس لا مما تزهد فيه، فليس من مقتضيات الإيمان في شيء أن يجيء الرجل إلى أخبث ماله أو الخبيث فينفق منه لزهادته فيه، ولرغبته عنه، وعدم الاتجاه إلى الانتفاع به، إذ لا يكون فيه معاناة لعمل الخير، ولا مصابرة في إرادته، ولا جهاد نفسي للحمل على الفعل، والأجر على قدر كف النفس عن الهوى، ومشقة الإرادة في التغلب عليه.
و ما المراد بالطيب ؟ للعلماء في ذلك منهجان : قال بعضهم : إن المراد بالطيب الحلال، أي أن الإنفاق الذي يقبله الله سبحانه وتعالى هو الإنفاق من المال الحلال الذي كسب من طريق حلال، فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل إلا طيبا، ولا يريد من العبد إلا خيرا، فمن كان يريد بعمله وجه الله تعالى فلا يكسب إلا حلالا، ولا ينفق إلا من حلال. ولقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " ٢.
و على هذا التخريج يكون الاتجاه في الآية هو الحث على الإنفاق من الحلال دون الحرام، ويكون بالنتيجة اللازمة الحث على طلب الحلال ؛ لأنه إذا كان الكسب الحرام لا يقبل في الصدقات، فأولى أن يكون الأكل منه إثما يلقي في نار جهنم، ومن يأكل منه كمن يأكلون في بطونهم نارا.
فيكون على هذا القول، المرمى يتجه إلى أمرين : الحث على طلب الحلال في الإنفاق، والحث على طلب الحلال في المكاسب، دون المآثم منها.
هذا هو القول الأول في تفسير الآية، وهو كلام في ذاته صحيح تؤيده الأحاديث والمعاني الدينية المقررة الثابتة، ولكنه لا يتفق مع سياق الآية ولا موضعها ولا معنى كلمة الطيب في مقامها، ولذلك رجح أكثر العلماء التفسير الثاني لمعنى الطيب وهو أن المراد به الجيد في نفسه ؛ لأن كلمة طيب على وزن فيعل من طاب، وهو ما تستطيبه النفس وتتجه إليه وتطلبه، وإن ذلك هو الأصل في معنى طيب ؛ ولذا جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه :" أصل الطيب ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس " وإطلاق الطيب بمعنى الحلال عرف إسلامي، لا معنى لغوي ؛ لأن الله سبحانه لا يبيح إلا ما كان طيبا في ذاته تستسيغه النفوس السليمة المستقيمة، ولا يحرم عليهم إلا ما كان خبيثا في ذاته تعافه النفوس السليمة، فالله سبحانه وتعالى يحل الطيبات ويحرم الخبائث، كما ورد بذلك النص القرآني الكريم.
و إن تفسير النص بذلك، وهو أن الطيب المستطاب المحبوب للنفس هو الذي يبدو بادي الرأي من الآية الكريمة، فوق أنه الذي يتفق مع المعنى اللغوي، ولقد فسره ابن عباس بذلك، فقد روي عنه أنه قال ( أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وخبيثه، " فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا " ٣.
و على هذا المعنى المستقيم يكون توجيه الآية الكريمة : أن الله سبحانه وتعالى يحث المنفقين على أن ينفقوا من الطيب النفيس، ابتغاء وجه الله تعالى، ولأن البر كل البر هو في إنفاق الإنسان مما يحب لا مما يبغض، ولقد قال سبحانه وتعالى :[ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون... ٩٢ ] ( آل عمران )، وقال تعالى :[ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ٨ ] ( الإنسان ). ولقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين عن أن يطعموا الفقراء إلا مما يطعمون، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا تطعموهم مما لا تأكلون"٤.
إن الله سبحانه وتعالى يحاسب القلوب، فيثيبها على مقدار ما اعتزمته من خير، وإن أدل شيء على قوة العزيمة في الإنفاق والرغبة فيه وخروجه عن طيب نفس وقوة إيمان، أن يخرجه وله فيه رغبة، بل فيه شوق ومحبة، ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خير الصدقات :" أن تصدق وأنت صحيح شحيح ترجو الغنى وتخشى الفقر " ٥ أي أن تتصدق والمال حبيب إليك غير زاهد فيه، فإنك إن صابرت نفسك، وحملتها على التصدق في هذه الحال نلت أجرين : أجر العطاء في ذاته، وأجر تلك المغالبة النفسية التي انتصرت فيها لله وللحق، فأطعمت وكسوت، وأنت تحب المال موفورا كثيرا، فآثرت محبة الله على محبة المال، ورضا الله على رضا الهوى، ورضا الحق على رضا النفس، فانتصرت في الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس والهوى.
هذا هو المعنى الذي اختاره جمهور العلماء لهذا النص الكريم، وهو المعنى القويم الذي يتفق مع سياق الآية وموضوعها، ويزكيه قوله تعالى :[ من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ] فإن الكسب إذا ذكر مقرونا بما يلقيه سبحانه وتعالى في الأرض ويضعه لنا من نفائس في باطن الأرض، وزرع نضير، وغراس مثمر، إن هذا يدل حينئذ على أن المال كله حلال، وأنه يقصد إلى طيبه أو رديئه فينفق منه، فبين أن ذلك الكسب الحلال لا يتخير في الإنفاق منه إلا جيده، فلا تجعل حصة الفقير إلا أجوده، إن المال الذي كسبته رزقا حلالا : قسم هو حق الفقير والمسكين واليتيم وقد تولى الله عنهم مطالبتك به، وقسم هو لك ولأولادك ومن تعول. فهل يسوغ أن تجعل حق من تولى الله عنهم المطالبة أردأه وأخبثه وأرذله وأسوأه ؟ تلك إذن قسمة ضيزى، وكيف تصنعها وتريد بها وجه الله، والتماس عفوه ورضاه ؟ ! إن ذلك غير معقول في ذاته، ووقوعه غير سائغ ولا مقبول.
و لقد قسم سبحانه موارد المال الحلال إلى قسمين : قسم بعمل من العبد ؛ إذ عمل العبد فيه واضح بين، واجتهاده فيه ظاهر، وإن كان التوفيق من الله، وهو الرزاق ذو القوة المتين، وقسم هو بعمل العبد ولكن فيض الله هو الواضح البين، والأول هو كسب العبد بالعمل والضرب في الأرض صانعا أو تاجرا، أو مسهما بماله في صناعة أو تجارة، والقسم الثاني، بما يخرجه الله سبحانه وتعالى من زرع يحصد فيكون منه القوت للإنسان والحيوان أو غراس أو شجر يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، أو بما يودعه سبحانه وتعالى باطن الأرض من معادن يكون بها عمران الأرض، وقيام المصانع، والأعمال الإنسانية التي تسجل خلافة الإنسان في هذه الأرض ليصلح فيها ولا يفسد.
و لقد نبه سبحانه إلى القسمين بقوله تعالى :[ من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ] ففي هذا النص الكريم ذلك التقسيم الحكيم، وقد قدم سبحانه وتعالى القسم الأول، وهو الكسب الذي يكون بعمل الإنسان، سواء أكان صناعة أم كان تجارة، وسواء أكان عملا آليا أم كان عملا فكريا، وكان ذلك التقديم لأسباب كثيرة، منها بيان فضل الأكل من العمل والكسب، كما قال صلى الله عليه وسلم :" ما أكل ابن آدم طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " ٦، ومنها أن العطاء من مال يجيء بمجهود وتبذل فيه الجهود يكون أعظم ثوابا، ومنها إعلاء قدر العمل الإنساني لأن به إقامة العمران، وإصلاح الأرض، وتقدم هذا الوجود الإنساني في معيشته ووسائل رزقه.
و القسم الثاني فيه خير كثير، ولكنه كله بفضل الله تعالى لا عمل للعبد إلا إلقاء البذر، وغرس الغراس والقيام عليها، والباقي كله لله الواحد القهار.
و هنا يسأل سائل : لماذا أضاف سبحانه ما يخرج من الأرض إليه سبحانه وتعالى مع أن للعبد فيه عملا من حرث وبذر وإصلاح ومراقبة، ثم أضيف الكسب بالتجارة والصناعة والعمل في هذه الدنيا إلى العبد مع أنه برزق من الله، لأنه هو الذي قسم الأرزاق بين العباد، وجميع ما للعبد من مكاسب بتوفيقه ورزقه، كما قال تعالى في آية أخرى :[ ومما رزقناهم ينفقون ٣ ] ( البقرة ) وكما قال تعالى :[ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها... ٦ ] ( هود ) فكل شيء منه وإليه، وكل كسب للعبد سواء أكان من الزرع والضرع أم كان من الصناعة أو التجارة فهو من الله، وبفضله، وبتوفيقه ورزقه وهدايته بل عطائه سبحانه ؟
و إن لذلك السؤال موضعه، وأن الله سبحانه في بعض آي الذكر الحكيم يضيف الكسب إلى العبد لأنه الذي باشر العمل، وفي بعضه يضيف الرزق إلى الرب لأنه المانح، وهو سبحانه يصرف الآيات لمن يفقهونها كما قال سبحانه :[ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ٦٥ ] ( الأنعام ) ولكل مقام ما يناسبه، ولكلامه سبحانه المثل الأعلى فلا يحاكيه كلام الإنسان مهما يعل قدره في البيان.
و لو حاولنا أن نصل إلى سر التعبير، ما بلغناه على وجهه الكامل، وأقصى ما نقول هو أنه سبحانه وتعالى أضاف الكسب إلى العبد في الأولى، وإخراج النبات والغراس إليه، ليتميز القسمان من الإنتاج، فهما قسمان متقابلان بلا شك، إذ الأول العنصر الواضح فيه كسب العبد، والثاني العنصر الواضح فيه عمل الرب، كما أشرنا، فلهذا التمييز بين القسمين كانت الإضافتان المختلفتان، وليحث سبحانه الناس على النوعين من العمل، وبيان أنهما أساس العمران في هذا الوجود، فكلاهما إصلاح في الأرض وسبيل من سبل الإنتاج فيها، وقد كان بعض الاقتصاديين المتق
١ رواه البخاري : الزكاة – لا صدقة إلا عن ظهر غنى ( ١٣٣٨ )، ومسلم بنحوه عن ابن عمر : الزكاة – بيان أن اليد السفلى خير من اليد العليا (١٧١٥)..
٢ رواه أحمد ( ٣٤٩٠) في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٣ رواه مسلم : الزكاة – قبول الصدقة من الكسب الطيب ( ١٦٨٦ )، والترمذي : تفسير سورة البقرة ( ٢٩١٥ )، وأحمد ( ٧٩٩٨ )، والدارمي : الرقاق - الكسب الطيب ( ٢٦٠١ )..
٤ رواه أحمد في مسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها ( ٢٣٧٧٠ )..
٥ رواه البخاري: الزكاة – فضل صدقة الصحيح والشحيح ( ١٣٣٠ )، ومسلم ( ١٧١٣)..
٦ رواه البخاري : البيوع – كسب الرجل وعمله بيده ( ١٩٣٠ ) بلفظ :" ما أكل أحد"..
[ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ] في هذه الجملة يبين سبحانه وتعالى بواعث الشر كامنة في نفس الإنسان، فالشيطان يجري في عروقه مجرى الدم، وهو يوسوس للإنسان بالشر، فإذا تقدم لينفق في سبيل الله، وإعلاء شأن الحق، أو سد حاجة المعوزين من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وسوس إليه بأن ذلك سبيل نفاذ المال، وأنه إذا ذهب ماله، ضاع وهانت حاله، ويوسوس له بذلك، فيحجم بعد إقدام، وإن أقدم فليعط قليلا من المال، أو ليتخير الحشف ١ من ماله. هذه وسوسة الشيطان، وهذا مغزى قوله تعالى :[ الشيطان يعدكم الفقر ] أي يوعدكم إذا أنفقتم بالفقر، ويحذركم من الصدقة بما يوسوس بذلك في أنفسكم ؛ وفي هذا الكلام عبر سبحانه عن التهديد بوعد، وهو المشهور في لغة القرآن، وقد تستعمل أوعد في الشر والخير معا، وإن كل بخيل تحدثه نفسه بخوف الفقر عند الإنفاق، وهذا الحديث هو حديث الشيطان، ولذا قيل : الناس من خوف الفقر في فقر. [ ويأمركم بالفحشاء ] أي يغري نفس المؤمن بالفحشاء، ويستمر في إغرائها حتى تطيعه وتخضع خضوع المأمور للآمر. والفحشاء قال بعض العلماء : إن المراد بها المعاصي التي تردي النفس الإنسانية، من مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، واقترانها بالوعد من الشيطان بالفقر، ليدفع الإنسان تلك الوسوسة عن نفسه، وبذلك يشير المولى الحكيم إلى أن وسوسة الشيطان للإنسان بتخويفه بالفقر هي من قبيل وسوسته بالفحشاء والمعاصي المنكرة القبيحة، وإن الممتنع عن الإنفاق في موطنه كمن يرتكب أفحش الفواحش، وينتهك الحرمات ؛ لأن امتناعه عن العطاء وقت لزومه يؤدي إلى انتهاك الحرمات، وارتكاب المعاصي، إذ ينقلب الفقير هادما مخربا، فترتكب أبلغ المحرمات إيغالا في الشر، وقد يكون في ترك الإنفاق تعريض البلاد للخراب وللدمار، وفي ذلك نشر للفساد، وتعريض البلاد لأن تنتهك فيها الحرمات، وترتكب فيها أشنع الموبقات، وهل بعد الذلة خير يرتجى وشر يدفع ؟
هذا قول بعض العلماء في معنى الفحشاء هنا وتوجيهه، وهو تفسير للكلمة بمعناها الشائع في استعمال القرآن الكريم، وقد فسر الزمخشري هنا الفحشاء بالبخل الشديد، فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة العرب على البخيل الشديد البخل، ومن ذلك قول طرفة بن العبد :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد ٢
فالفاحش هنا المراد به البخيل.
و يكون توجيه الكلام على هذا المعنى، أن الشيطان يوسوس في نفس الغني، يخوفه بالفقر، حتى إذا استمكن من نفسه وسيطر عليها في هذا وجهه إلى طريق البخل الشديد فاتجه وأطاعه كما يطيع المأمور الآمر، ويصير سيقة في يده يسوقه حيث يشاء.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم قرأ :[ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ] الآية ٣.
هذه وسوسة الشيطان، وتلك خاطرة النفس الملكية، وقد ذكر سبحانه أمره في مقابل وسوسة الشيطان فقال :[ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ].
صدر سبحانه القول بلفظ الجلالة للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق، لا يمكن أن يجيء الشك في صدقه ؛ لأنه وعد الله ذي الجلال والإكرام المعبود بحق، الذي لا يستحق العبادة سواه سبحانه وتعالى عن الشريك والمثيل، وإذا كان الشيطان يهدد بالفقر عند العطاء، فالمولى تعالت حكمته يعد المنفقين بأمرين : أولهما المغفرة، وثانيهما الفضل، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة.
فأما المغفرة، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لا لأحد سواه، وليس فيها رياء ولا نفاق، ولم يعقبها منّ ولا أذى، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة، متجهة إلى الله تعالى منصرفة، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه، فإن الله تعالى يغفر له، ويتوب عليه، ولقد قال تعالى :[ إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ] ( هود ) وقال صلى الله عليه وسلم :" الصدقة تطفئ الخطيئة " ٤ ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه، قال الله تعالى :[ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها... ١٠٣ ] ( التوبة ) فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال، وتوجه النفس نحو الخير، كما تنمي المال.
هذه هي المغفرة التي يعد الله سبحانه وتعالى بها، وأما الفضل وهو النماء والزيادة فإن ذلك يتحقق بالصدقات ؛ لأنها تحدث البركة في الرزق فيكون القليل في يد المتصدق كثيرا بتوفيق الله تعالى، وبتوجيه من الله تعالى إلى السبل الناجحة، وإبعاده عما يذهب المال فيه ضياعا، وأن الفضل يتحقق بسيادة المرء على نفسه، ومن ساد على نفسه فقد ساد على غيره، والمنفق يغالب الأهواء فينتصر، فيشرف في نفسه، ويشرف أمام الناس، ثم إن الله سبحانه مخلف الرزق في الدنيا بالتيسير والتسهيل والرزق الوفير، وفي الآخرة بالنعيم المقيم، ولقد قال تعالى :[ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ٣٩ ] ( سبأ ) وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا " ٥ وإن ذلك مشاهد محسوس بين الناس اليوم، فإن الممسك إن لم يتلف ماله تلف جسمه، فإن لم يتلف جسمه تلفت نفسه أو شرفه، وتقطعت صلات المودة بينه وبين الناس حتى أقرب الناس إليه.
[ والله واسع عليم ] ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية تأكيدا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين ؛ فإنه سبحانه وتعالى قد وعدهم بأن يعطيهم من فضله، فبين سبحانه وتعالى أنه واسع المغفرة، واسع الفضل، يعطي من يشاء، فإذا كان هو الذي أعطى الغني من فضله ابتداء، فهو الذي يمده إذا تصدق بفضله أيضا، وهو مع سعة فضله ومغفرته عليم بموضع المغفرة وموضع الفضل، وهو الصادق فيما يعد، يعلم نتيجة العطاء، وأنها لا تنتج فقرا كما يوسوس الشيطان، بل يعلم الغيب، وقد أكنّ في قدره أنها تنتج مغفرة وفضلا، فصدقوا أيها المنفقون من يعلم الغيب، ولا تسيروا وراء وسوسة الشيطان الرجيم.
١ الحشف : التمر اليابس الفاسد، والمقصود هنا رديء المال..
٢ قال المصنف رحمه الله تعالى : اعتام معناها اختار أحسن المال، والعقيلة أكرم المال، والفاحش البخيل، ومعنى البيت أرى الموت يختار الكرام ويختار خيار مال البخيل، فلا جدوى في البخل..
٣ رواه الترمذي : تفسير سورة البقرة ( ٢٩١٤)..
٤ جزء من حديث رواه الترمذي : الإيمان ( ٢٥٤١ ) وأحمد في مسنده عن معاذ ( ٢١١١٦ )..
٥ البخاري: الزكاة – قول الله تعالى: [ فأما من أعطى واتقى ] ( ١٣٥١ )، ومسلم: الزكاة – في المنفق والممسك ( ١٦٧٨ ). عن أبي هريرة رضي الله عنه..
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ( ٢٩٦ )
بعد أن بين سبحانه وتعالى نوازع الشر في نفس الإنسان وإلهام الله له بالخير، وأن الشيطان يعد بالفقر ويحرض على الفحشاء والبخل، وأن الله يعد بالمغفرة والفضل، بعد ذلك بين أن الحكمة في أن يجيب داعي الله، وأن هذه الحكمة إنما هي من الله سبحانه وتعالى، وأن من نالها فقد أعطاه الله خيرا كثيرا.
و أصل الحكمة مأخوذ من حكم بمعنى منع، وهي في الإنسانية صفة نفسية هي أساس المعرفة الصحيحة التي تصيب الحق، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير، وتمنعه من عمل الشر، فهي فيه مانعة ضابطة حاكمة للنفس مسيرة لها نحو الكمال. ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الحكمة :" الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل :[ ولقد آتينا لقمان الحكمة... ١٢ ] ( لقمان ) ونبه على جملتها بما وصفه بها ". والمعاني التي أشار إليها الراغب هي في قوله تعالى :[... أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ١٢ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ١٣ ] ( لقمان ) إلى آخر الآيات التي تدل على معرفته للحق وإدراكه له وإيمانه به، وعمله على منهاج ما علم وإرشاده الناس إلى فعل الخير.
فالحكمة إذن في حقيقتها تتضمن معاني العلم الصائب والإيمان بالحق والإذعان له وطلبه، والعمل على وفق ما علم، وإرشاد الناس إلى المنهاج المستقيم، ولذا قال تعالى :[ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... ١٢٥ ] ( النحل ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " ١.
و قد يقول قائل : ما موضع هذه الآية من آيات الصدقات ؟ فنقول : إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن المنفق عليه أن يستولي على نفسه، وأن يدفع دواعي الشر، ويحمي قلبه منها، وأن يجيب نداء الله تعالى ؛ وفي هذه الآية أن تلك هي الحكمة، فالحكمة في ضبط النفس، ومنعها من أهوائها والسيطرة عليها، وإطاعة الله تعالى.
و من الناس من يحسب الحرص والضن بالمال حكمة، ويدعي أن ذلك من الاقتصاد، وأن الإنفاق إسراف، فأشار سبحانه أن التصدق هو الحكمة، بذكر آية الحكمة في آيات الصدقة.
و إن الحكمة نور يقذفه الله في قلب المؤمن الذي يطلب الحق ويتجه إليه ويقصده، فإنه إن استولى على نفسه وطلب مرضاة الله تعالى آتاه الله نورا به يبصر الحق، فأشرق في قلبه الإيمان به فاندفع إلى العمل الصالح، إذ إن الاتجاه المستقيم، بقلب مخلص سليم، يكون معه نور الحكمة، إذ يقذف الله سبحانه وتعالى به في قلبه، فيكون الفكر المستقيم الذي يصيب الحق، ويكون القلب الذي يؤمن به، ويكون العمل النافع ؛ ولذا يقول بعض العلماء : إن الحكمة هي العلم النافع الذي يكون معه العمل.
هذا معنى قوله تعالى :[ يؤتي الحكمة من يشاء ] فالمعطي للحكمة هو الله، ولكنه العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، فهو لا يعطيها إلا لمن يخلص قلبه، ويسلم وجهه، وإن كان كل شيء بمشيئته سبحانه، إنه على ما يشاء قدير.
و الحكمة على هذا التوجيه هي علو بالإنسان، وسمو به، إذ إنه يخلص نفسه من الأهواء المردية، ومن الشهوات الجسدية الأرضية. ومن المأثور أن الإنسان فيه طبيعتان : طبيعة أرضية منها ينفذ الشيطان، وطبيعة ملكية بها سموه، ومن جانبها تنفذ دعوة الديان، فإن غلبت عليه طبيعته الأرضية غلبت عليه شقوته وكان شرا من الشيطان، وإن غلبت عليه الثانية سمت إنسانيته وكان أفضل من الملك، وتلك هي الحكمة، ولذا قال تعالى :[ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ].
[ وما يذكر إلا أولوا الألباب ] أي وما يتذكر ويعتبر بأوامر الله تعالى، ويستولي على نفسه ويحارب أهواءه حتى يقذف الله في قلبه بنور الحكمة إلا أولوا الألباب، أي أصحاب العقول التي تصيب الحق وتدركه، وتتجه إليه غير متأشبة بلذة من لذات الجسد، أو شهوة من شهوات الدنيا المردية.
فاللب معناه العقل، ولكنه لا يستعمل في القرآن إلا في العقول المستقيمة المدركة التي تخلصت وسلمت من شوائب الهوى، ومعايب اللذات فهي العقول المسيطرة التي تستخدم لطلب الحق وتوصل إليه، لا العقول المسخرة للأهواء واللذائذ تتحكم فيها وتسيرها.
و قد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بذلك الختام الحكيم، للإشارة إلى أن الله سبحانه الذي يعطي حكمته من يشاء لا يعطيها إلا للذين خلصوا قلوبهم من المفاسد والملاذ الأرضية، ولم يجعلوها حاكمة على قلوبهم، متحكمة في تفكيرهم.
و للإشارة إلى أن الذين يجيبون داعي الله، ويردون داعي الشيطان هم ذوو العقول المستقيمة، فلا يتحكم الشيطان إلا في غفوة من غفوات العقل المدرك، وللحث على وجوب تذكر الله دائما، وأن على ذوي العقول أن يتجهوا بعقولهم دائما لله ليتذكروا ويعتبروا، ويستبصروا، فإنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء الهادي إلى سواء السبيل.
١ متفق عليه، رواه البخاري: العلم – الاغتباط في العلم والحكمة ( ٧١ )، ومسلم : صلاة المسافرين :- فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (١٣٥٢) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وعند البخاري عن أبي هريرة أيضا..
[ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ] النفقة هي العطاء العاجل في باب من أبواب البر، فهي عطاء منجز، توجبه حاجة من يعطيه، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها، والضرورات الاجتماعية، أو السياسية أو العسكرية لها. أما النذر فهو التزام طاعة من الطاعات، أو عطاء في بر. ويقول الراغب : النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال نذرت، قال تعالى :[ إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ٢٦ ] ( مريم ) وأصل مادة نذر من الخوف ؛ لأن الإنسان إنما يلتزم على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبا في أصله. والصيغة المشهورة للنذر أن يقول : لله علي نذر أو نذرت لله كذا، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله.
و معنى الجملة السامية : ما أنفقتم من نفقة عاجلة وأديتموها، أو التزمتم بنفقة قابلة وعاهدتهم الله على القيام بها، فإن الله تعالى سبحانه وتعالى يعلمه، فيعلم الباعث عليه أقصد ابتغاء مرضاة الله أم قصد به رئاء الناس، أو كان من الطيب الذي يقبله الله، أم تيمم الخبيث فلم يختر لله سواه، وأتبعه منا وأذى، وجرحا للكرامة وعزة النفس، أم كان بطيب النفس، ومن غير ذل ولا امتهان، ثم يعلم سبحانه أوفّى الناذر بنذره على الوجه الأكمل أم نكث عهده، وأبطل ذمته ؛ يعلم الله سبحانه وتعالى ذلك كله، يعلمه علم القادر القائم على كل شيء، الذي يجازي المحسن إحسانا والمسيء إساءة، فقوله تعالى :[ فإن الله يعلمه ] مع إيجازها أفادت فوائد جمة : أفادت الوعد والوعيد، أفادت التبشير بالثواب والنعيم المقيم ورضوان الله تعالى، وأفادت الإنذار بالعقاب، لمن فسد قلبه، فلم يقصد بعطائه وجه الله تعالى، ولم نقض عهده، وأخل بذمته، ثم أفادت مع ذلك تربية المهابة في قلب المؤمن، فإن المؤمن إذا ذكر أن الله تعالى يعلم عمله، أحس برقابته في خلجات نفسه، وخصوصا أن الجملة السامية :[ فإن الله يعلمه ] صدرت بما يؤكدها. وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية، وانفراده سبحانه وتعالى بها، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية، ويشعر بحق العبودية، فتخلص نيته، ويخلص قلبه من كل الشوائب والأغراض الدنيوية.
[ وما للظالمين من أنصار ] : ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم، فهو ظلم للجماعة ؛ لأنه منع صاحب الحق من حقه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى، وهو أحكم الحاكمين، حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه ؛ لأنه يعرضها للهوان في الدنيا، ولعذاب الله في الآخرة، وهو يظلم نفسه وجماعته، إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغني بالعطاء لإمداد الجند المدافع، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة، يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ما له من دافع ؛ لأن ذلك الفقير إذا جوعته كان أداة هدم للجماعة، فيكون الشُذَّاب ١ الذين يبدلون أمن الجماعة خوفا، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الدينية يهدمون بناء الجماعة، ويقوضون كل قائم.
و نفي الأنصار يشمل النفي في الدنيا والآخرة كما قررنا ؛ أما نفيه في الآخرة فمعلوم ظاهر ثابت، ونفيه في الآخرة يدركه البصير النافذ البصيرة، فإن البخلاء بأموالهم عن مواطن الخير مبغضون إلى الناس، لا يرضى عنهم أحد، ولا يناصرهم أحد بالقول أو العمل، وأحب الناس إلى الناس الباذل المعطي، وأبغضهم إليهم الشحيح المانع.
و الآية الكريمة تشير إلى أن الوفاء بالنذر مطلوب في العطاء، فإنه اقترن بالإنفاق المطلوب الذي حث عليه القرآن الكريم في الآيات السابقة، فكذلك ما اقترن به.
وإنه من الحق علينا قبل أن ننتقل إلى تفسير الآية الآتية نتكلم في النذر :
إن العلماء يقسمون النذر إلى قسمين : نذر مطلق هو التزام بطاعة غير معلق على زمن، ولم يكن المقصود منه الحض على فعل أو المنع من فعل، أو الامتناع عن فعل، أو توثيق فعل، كأن يقول القائل : لله علي نذر أن أعتكف في العشر الأخيرة من رمضان، أو : لله علي نذر أن أتصدق على الفقراء بعشرة جنيهات. فإن النذر في هذه الحال يجب الوفاء به ما دام طاعة باتفاق الفقهاء. ويقسم الفخر الرازي في تفسيره الكبير هذا النذر إلى قسمين : مفسر وغير مفسر، فالمفسر أن يقول مثلا : لله علي حج، وهذا يلزم الوفاء به، وغير المفسر أن يقول : لله علي نذر، من غير أن يسمي النذر ويبينه فيلزمه فيه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم :" من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين " ٢.
و هذا مذهب الشافعي، ويلحق بالنذر غير المفسر في المذهب الشافعي النذر الذي يكون في معناه تحريض على فعل، أو الامتناع من فعل، كأن يقول : نذرت لله ألا أفعل كذا ثم يفعله، فإنه يجب فيه كفارة يمين ؛ لأنه في معنى اليمين.
و لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " ٣.
هذا إذا كان النذر التزاما مجردا من غير تعليق أو تقييد بمكان، فقد اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء به ما دام قربة، لقوله صلى الله عليه وسلم :" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ٤. ولقوله تعالى :[ وليوفوا نذورهم... ٢٩ ] ( الحج ) فهو أمر حتمي لازم.
أما إذا علق النذر على أمر سيقع في المستقبل كأن يقول : إن شفى الله مريضي مما ألم به فلله علي نذر أن أتصدق بمائة جنيه مثلا، فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال الحنفية فيجب الوفاء بشروط ثلاثة : ألا يكون معصية وألا يكون واجبا، وأن يكون قربة بحيث يكون من جنسه واجب ؛ فنذر المعصية باطل كما قدمنا، وكنص الحديث الذي ذكرناه، ونذر الواجب لا جدوى فيه ؛ لأنه واجب من تلقاء نفسه، أما نذر القرب التي من جنسها واجبات كالصدقات والصيام والحج فإن الوفاء به واجب، وهذا هو مذهب المالكية إلا أنه إذا كان النذر بجميع المال وجب الثلث فقط عندهم، إن لم يكن المال معينا بالتعيين. والشافعي في قول اعتبر النذر المعلق على الشرط كاليمين تجب به كفارة، كأن يقول : إن شربت الدخان وجب علي كذا صدقة، فشرب، فإنه تجب كفارة يمين.
ومذهب الإمام أحمد كما حققه العلامة ابن تيمية أن النذر المعلق على شرط إن قصد به التعليق حقيقة ك :" إن جاء رمضان فلله علي نذر أن اعتكف العشرة الأخيرة منه "، فهذا يجب الوفاء به، وإن كان المقصود به الحض على فعل أو الامتناع عن فعل، فإنه لا يجب الوفاء به ولكن تجب كفارة يمين ؛ لأنه حلف تجب فيه كفارة.
و قد اتفق العلماء على عدم وجوب الوفاء في نذر المعصية، لقوله صلى الله عليه وسلم :" من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ٥. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا يجب شيء، ولكن قال أحمد : تجب كفارة يمين، للحديث الذي رواه أبو داود ونقلناه آنفا، ففيه التصريح بأن نذر المعصية تجب فيه الكفارة، ولأن منطق الحنابلة أن النذر الذي يكون فيه الحض على فعل أو منع فعل هو من قبيل اليمين، واليمين في المعاصي حكمها أنه يجب الحنث فيها، وتجب كفارة اليمين، لقوله صلى الله عليه وسلم :" من حلف على سيء فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " ٦.
هذه كلمة إجمالية في حكم النذر واختلاف أقوال الفقهاء فيه، ومن المفيد في هذا الموضع أن نتكلم في أمرين :
أحدهما : في نذر القيام بقربة في مكان معين، كالصدقة عند البيت الحرام، أو عند المسجد الفلاني.
و ثانيهما : هل النذر في ذاته حسن في الدين أو ليس بحسن ؟ فقد كان الكلام في وجوب الوفاء به. أما الكلام في هذا الموضع فهو في أصله أيكون من المستحسن أن يلتزم الإنسان الطاعة أم يفعلها ولا يقيد نفسه بالتزامها أولا ثم يفعلها ؟.
أما بالنسبة للأمر الأول، فقد اتفق الفقهاء على أن الالتزام بقربة في مكان تشد الرحال إليه وله مزيد اختصاص بالفضل في الشرع، كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجب الوفاء به، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه لا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، فالنذر بالصلاة فيها أو الصدقة عندها يجب الوفاء به ؛ لأن الصدقة في ذاتها قربة، والاتجاه إلى الله في هذه الأمكنة بالذات قربة ثانية.
و أما إذا كان المكان الذي نذرت القربة فيه ليس من الأماكن التي تشد الرحال إليها، فقد قال كثيرون من الفقهاء : تجب القربة من غير تقييد بالمكان، فمن نذر أن يتصدق عند مسجد الحسين أو غيره فالوفاء واجب من غير تقيد بالمكان.
و قال بعض الفقهاء : يجب الوفاء بهذا المكان الذي عينه، واستدلوا على ذلك بما روى أبو داود أن ثابت بن الضاحك قال :" نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال صلى الله عليه وسلم :" أكان فيها وثن يعبد ؟ " قال : لا، قال :" فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " فقال : لا، فقال :" أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى، ولا في قطيعة رحم، ولا فيما لا يملك ابن آدم " ٧.
و بهذا يتبين أن الوفاء بالنذر واجب ما دام غير معصية، وفي مكان لا معصية فيه، ولكن هل النذر عند الأضرحة والقبور خال من المعصية ؟ إن ذلك موضع نظر، والاحتياط في النذور أن تكون لله خالصة.
أما الأمر الثاني، وهو التزام الطاعات بالنذور المطلقة أو النذور المعلقة على شرط، أهو أمر مستحب، أم الأولى خلافه وإن كان يجب الوفاء به إن التزمه ؟ لقد اختلف في ذلك الفقهاء، فقال فريق كبير منهم : إن الأولى ألا ينذر العبادة، بل يقوم بها متى قدر عليها من غير نذر، وذلك لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال :" إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج الله به من البخيل " ٨ وإن أكثر النذر في الماضي كما هي في الحاضر تكون لرجاء أمر فتعلق القربة على وجوده، أو للخوف من نتائج أمر فتعلق القرب على عدمه، وإن تعليق القربة على ذلك أمر غير مستحسن، بل هو مكروه، بل صرح بعض الأئمة بأنه حرام، ولقد قال ذلك القول كثيرون من فقهاء المذاهب الأربعة، بل رواه أبو داود عن بعض الصحابة.
و قال آخرون : إن النذر مستحب ؛ لأنه يحمل الشخص على القيام بالقرب، فهو تقوية للعزيمة على الطاعة، ولقد صرح النووي في المجموع بأنه مستحب.
و عندي أن النذر غير المعلق على شرط قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات، وأما المعلق على شرط، فهو الذي ينطبق عليه الحديث، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم صحة اعتقادهم. والله سبحانه هو القادر على كل شيء، وله عاقبة الأمور.
١ الشذّاب : من الشذب، محركة : قطع الشجر، أو قشره، و – الشيء : قطعه. والتشذيب : الطرد، والتفريق والتمزيق في المال ( لسان العرب : الشين – شذب )..
٢ رواه ابن ماجه في الكفارات ( ٢١١٨ ) عن عقبة بن عامر الجهني، وعنه روى الترمذي : النذور والإيمان ( ١٤٤٨ )..
٣ رواه أبو داود : الأيمان والنذر – من نذر نذرا لا يطيقه ( ٢٨٨٧ ) عن ابن عباس بهذا اللفظ، وفي آخره " ومن نذر نذرا أطاقه فليف به "..
٤ رواه البخاري: الأيمان والنذور – النذر في الطاعة ( ٦٢٠٢ ) عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها..
٥ انظر السابق..
٦ روى مسلم في صحيحه : الأيمان – ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها ( ٣١١٣ )..
٧ رواه بنحو من ذلك أبو داود : الأيمان والنذور – ما يلزم به من الوفاء بالنذر ( ٢٨٨١ ) عن ثابت بن الضاحك. وبوانة : قيل هضبة وراء ينبع، وقيل : موضع بين الشام وديار بكر، وقال البغوي : أسفل مكة دون يلملم..
٨ رواه بهذا اللفظ مسلم : النذر – النذر وأنه لا يرد شيئا ( ٣٠٩٥٩ )، والنسائي : الأيمان والنذور : النهي عن النذر ( ٣٧٤١) عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري بنحوه : النذر – إلقاء العبد النذر إلى القدر ( ٦١١٨ )..
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ( ٢٧١ )
في الآيات السابقة حذر الله سبحانه وتعالى المنفقين من أدواء الصدقات التي تفتك بها وتذهب بخيرها، وهي أعداء الإخلاص الثلاثة : المن، والأذى والرياء. والمن والأذى عملان حسيان قد يسهل على المؤمن اجتنابهما، أما الرياء فهو داء نفسي الاحتياط في تجنبه يوجب تفتيش النفس في داخليتها، ومراقبتها في حركتها، والتنقيب عن بواعثها ؛ فإن كانت تتصل بالرياء عن قرب أو بعد طهرها وزكاها، وإن سلمت منه فقد برئت واصعدت إلى سماء التقديس ؛ وإن المؤمن في سبيل هذه المعالجة الروحية عند الإنفاق قد يتردد بين الإعلان ليكون أسوة حسنة للناس، إذ يعلن حق الله في ماله فيعرف كل ذي مال ذلك، ولكنه يخشى أن يجد الرياء منفذا إلى نفسه من هذه الناحية، وإن أخفاها وسترها عن الأعين، فقد يضل في العطاء، فيعطي من لا يستحق العطاء، ولا يكون إعلان تلك الشعيرة المقدسة، شعيرة الصدقة التي تثير نخوة ذي المال، فيقتطع من ماله حق الله فيه.
و لقد بين سبحانه أن في الإخفاء خيرا كثيرا، والجهر محمود إن نقي من كل أعراض الرياء، فقال تعالى :
[ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ] هذه الآية الكريمة تفيد أن الصدقات في كل أحوالها خير محض ما دام المنفق قد خلص من الرياء، وجانب المن والأذى، وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حال النفس، والاحتياط للرياء، وسد مداخله، ولذا قال تعالى مادحا النوعين من الصدقة : صدقة الجهر وصدقة السر :[ إن تبدو الصدقات فنعما ] أي إن تظهروا صدقاتكم وتعلنوها بين الناس فنعم تلك الصدقة، أي أنها أمر محمود ممدوح يوجب الثناء والذكر الحسن، فقوله تعالى [ فنعما هي ] هو نعم المدغمة في ما، وما هي التي يقول عنها علماء اللغة إنها نكرة تامة بمعنى شيء، والمعنى نعم شيئا يستحق المدح والثناء تلك الصدقات. وعبر في قوله عن الإنفاق بالصدقات هنا، للإشارة إلى أن الممدوح من الإنفاق المعلن هو الصدقات التي يقصد فيها الشخص إلى إرضاء الرب، وتصدق فيها نيته، ويخلص قلبه ؛ لأن كلمة ( الصدقة ) مأخوذة من الصدق، والصدق هنا هو صدق النية وتخليصها من كل شوائب الرياء. وإذا كانت الصدقة التي خلصت النية فيها لوجه الله تعالى هي موضع مدح وثناء، ولا ذم فيها قط، فهي خير بلا شك. وذكرت خيريته بعبارات المدح والثناء دون التصريح بالخيرية، للإشارة إلى أنها ممدوحة عند الله كما هي ممدوحة عند الناس، إذ إن المعلن لصدقته سينال ثناء الناس، وسيتحدثون بجوده، فيبين سبحانه أن عمله ممدوح عند الناس أيضا، وبذلك ينال المتصدق المخلص في نيته ومقصده إن أعلن، ثواب الله، وثناء الناس، وثناء الشرع.
هذه صدقة الجهر إن خلصت من الرياء، أما صدقة السر فقد أثنى عليها سبحانه بقوله تعالى :[ إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ] أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم ؛ لأن العبد عن الرياء يكون أوثق، إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء، ولذلك كان السر خيرا للمعطي، إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق، وهو الرياء، فإذا كان في الجهر فائدة الثناء، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء، وذلك خير من كل ثناء. ثم صدقة السر خير في ذاتها كصدقة الجهر، وفوق ذلك فإن صدقة السر خير للفقير ؛ لأنها تستره بستر الله، فلا يجتمع عليه ذل الفقر، وذل الأخذ، وذل الإعلان والكشف.
و التعبير في نفقة السر بقوله تعالى :[ وتؤتوها الفقراء ] فيه إشارة إلى ثلاثة أمور :
أولها : أن الصدقة قسمان : قسم يعطى إلى الحكام، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع، فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال، أو جماعات يختارونها لذلك، وهذه تكون معلنة بلا ريب. والقسم الثاني يعطى الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص، كمن يرى شخصا في مخمصة وجوع، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضا على من يعلم حاله، وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى، بل أكاد أقول إنه يكون لازما ؛ لأن الإعلان أذى، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى :[ يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى... ٢٦٤ ] ( البقرة ).
الأمر الثاني الذي يفيده التعبير بقوله تعالى :[ وتؤتوها الفقراء ] : الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى، فلا يعطي إلا ذا حاجة، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء ؛ لأنه يكون مروءة أوجودا ولا يكون صدقة يبتغي بها ما عند الله، إذ يبتغي بها ما عند الناس، وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء.
الأمر الثالث : أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، ولا بر ولا فاجر ؛ فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته ؛ فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان، ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" في كل كبد رطبة أجر " ١ وفي رواية لغيرهما " في كل كبد حرّى أجر " ٢ فهذا يدل على أن الرحمة بكل الأحياء فيها أجر، فكيف بالرحمة بالإنسان.
بعد بيان أن صدقة السر فيها خير وصدقة الجهر موضع ثناء ومدح، قال سبحانه :[ ويكفر عنكم من سيئاتكم ] أي أنه سبحانه وتعالى يستر السيئات التي يرتكبها الشخص، ويخفيها ولا يظهرها عند الثواب والجزاء، فلا يحاسب عليها أصحابها إذا تصدقوا وأعطوا مبتغين وجه الله تعالى في صدقاتهم. و" من " في قوله تعالى :[ من سيئاتكم ] إما أن تكون " من " البيانية، والمعنى أن الصدقات تكفر السيئات، وإما أن تكون " من " الدالة على البعضية، أي أن الله سبحانه وتعالى يكفر للمتصدقين من الخطايا بمقدار ما يتصدقون من صدقات، وينفقون ابتغاء وجه الله تعالى. وعندي أن " من " بيانية ؛ لأن النفس التي تفيض خيراتها وتتجه إلى الله تعالى في صدقاتها لا تبغي إلا مرضاته، فلا تبغي رياء ولا نفاقا، ولا جاها في الدنيا، نفس برة تقية لم تحط بها خطيئاتها، والنفس التي تكون على هذا النحو لا تسيطر عليها المعاصي، فيكون غفران الله تعالى لما كان منها من سيئات في بعض الأحوال.
و قوله :[ ويكفر عنكم من سيئاتكم ] قال بعض العلماء : إنه بالنسبة لصدقة السر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :" صدقة السر تطفئ غضب الرب " ٣ وقال بعضهم : إن الصدقة بنوعيها تكفر السيئات، وذلك أوضح من الأول ؛ لأن الصدقة إذا سلمت من الرياء وقدمها الشخص طائعا مختارا ولو بإعلان هي حسنة مقبولة، والله سبحانه وتعالى يقول :[ إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ] ( هود ) ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"الصدقة تطفئ المعصية " ٤ ولأن من الصدقات ما لا يمكن إلا أن تكون معلنة كشراء سيدنا عثمان بن عفان لبئر رومة ووقفها على المسلمين، فلا يمكن أن تكون تلك الصدقات المعلنة التي يبتغى فيها وجه الله غير مكفرة للسيئات، وقد أعد عثمان جيش العسرة، فهل يغض ذلك من صدقته. ولذا نرى أن تكفير الصدقات للسيئات لا يختص بصدقات السر وحدها، بل يعم الصدقات كلها.
و لقد أثار العلماء بحثا في أيهما أفضل : صدقة السر أم صدقة الجهر ؟ وقبل أن نخوض في أقوال الفقهاء في ذلك نقرر أن الصحابة أثرت عنهم صدقات الجهر، كما كان معلوما عنهم أنهم يتصدقون ويخفون حتى لا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم.
ومما يروى في صدقاتهم التي كانت معروفة أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنصف ماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟ " قال : خلفت لهم نصف مالي : وفي هذا الوقت جاء أبو بكر بكل ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ " قال : عدة الله وعدة رسوله. فبكى عمر وقال : بأبي أنت وأمي يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى خير قط إلا كنت أنت سابقا ! ٥.
و تبرعات عثمان كثيرة مشهورة معلمة بينة، دونتها كتب التاريخ، والسيرة المحمدية الشريفة.
و إذا كان المأثور عن الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم صدقة العلن والسر، ففي كل خير، والآية صريحة في ذلك. ولكن بعض العلماء فضل صدقة السر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجله قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ٦.
و قال بعض العلماء : إن الصدقة الفرض المقدر الأحب فيها الإعلان، وصدقة الفرض المقدر هي الزكاة وصدقة الفطر. والصدقة غير المقدرة الأحب فيها الستر حتى لا يؤذى الفقير. ولقد أثر عن ابن عباس أنه كان يقول :( جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا ).
إنه بلا شك صدقة الفريضة المقدرة تكون علنا، وهي معلنة بحكم أن الإمام يجمعها بعماله، أو بمن ينوبهم عنه، وأما صدقة التطوع فإنه بلا شك واضح أن سترها أولى للبعد عن الرياء، ولعدم إيذاء الفقير، ولكن قد يكون في إعلانها ما يتحقق بها الأسوة، ويكون كدعوة عامة، فلإنفاق في باب معين من أبواب غير المفروضة، فيكون في الإعلان خير يفوق خير الستر، ولكن بشرط البعد عن الرياء، ولذلك كان السر في غير الفريضة المقدرة التي يجمعها ولي الأمر، والأمر متروك لتقدير المنفق ؛ لأنه يتصل بقلبه أخلا من الرياء أم شابته شوائبه ؟ ولأنه يعرف حال الفقير الذي يعطيه، أو يؤذيه الإعلان أم لا يؤذيه ؟ ولأنه هو الأدرى بفائدة الإعلان وفائدة الستر في أمر صدقته.
هذا هو الحكم العام في الصدقات في ماضيها عندما كان الناس يقومون بمراقبة نفوسهم، وإنه بالنسبة لزماننا وقد ساد النفاق، وسيطر الرياء، وعطلت الفرائض، نرى أن الستر أولى حتى تهذب النفوس، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة أفضل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" سر إلى فقير أو جهد من مقل " ٧.
[ والله بما تعملون خبير ] ختم سبحانه الآية الكريمة بذلك الختام السامي، والمعنى فيه أن الله ذا الجلال والإكرام المعبود بحق، الذي انفرد بالألوهية خبير، أي عليم علما دقيقا صادقا بما تعملون أيها المؤمنون.
فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله، وعل بواعث هذه الأعمال، وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد، عليم سبحانه بكل ذلك ؛ فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها، جهرها وسرها، خافيها وظاهرها. ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله، والشعور بمراقبته تتضمن وعدا ووعيدا ؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليما علما دقيقا بكل ما يعمل العبد من خير وشر، فإنه يكافئ العبد بما ينتج
١ رواه البخاري : المساقاة – فضل سقي الماء ( ٢١٩٠ )، ومسلم : السلام – فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها ( ٤١٦٢ )..
٢ رواه ابن ماجه : الأدب – فضل صدقة الماء ( ٣٦٧٦ ) وأحمد ( ٦٧٧٨ ) عن عبد الله بن عمرو بنحوه.
ذات كبد : كل ما فيه روح. حرى : من شدة الحر، وهو كناية عن شدة العطش..

٣ جامع الأحاديث والمراسيل : الجامع الصغير وزوائده – الصاد مع الدال..
٤ سبق قريبا بلفظ :" الصدقة تطفئ الخطيئة "..
٥ رواه ابن أبي حاتم في التفسير – ما خلفت وراءك لأهلك، وابن مردويه، وابن عساكر عن الشعبي..
٦ روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع، ورواه كاملا في موضعين منهما ولفظه: الأذان – باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد ( ٦٢٠ ). كما رواه الترمذي ومالك وأحمد..
٧ جزء من حديث طويل رواه الإمام أحمد ( ٢١٢٥٧ ) في مسنده..
[ ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ] كان المسلمون الأولون قلة في أرض العرب، وكان المشركون يحيطون بهم، واليهود يجاورونهم، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة، أو على الأقل صلة جوار، فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك، مع شديد حاجته إليه، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة، ولأن فقراء المسلمين أولى، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة، فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها، فإنك تكرم إنسانيته، لا يهوديته، ولا نصرانيته ولا إشراكه.
و لقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت هذه الآية :[ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ]. وقال ابن عباس أيضا :" كانوا ( أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرخص لهم، فنزل قوله تعالى :[ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ].
و بهذين الخبرين يتبين أن هذه الآية الكريمة نزلت لبيان أن الصدقة تسوغ على غير المسلم، بل تجب إذا كان غير المسلم في حاجة شديدة، ويخشى عليه إن لم يقدم له عطاء ينقذه.
وإن هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين، بل يجب، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية، والإخاء الإنساني العام، فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام، فقد قال تعالى :[ يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة... ٢٠٨ ] ( البقرة ) وقال تعالى :[ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله... ٦١ ] ( الأنفال ).
و معنى قوله تعالى :[ ليس عليك هداهم ] أي أن الواجب المفروض عليك هو التبليغ والدعوة إلى ربك بالموعظة الحسنة، فليس عليك أن تهدي عاصيا، ولا تدخل الإيمان في قلب كافر، فلا تمنع صدقة لأجل الكفر، ولا تمنع عطية للحمل على الإيمان [ ولكن الله يهدي من يشاء ] فهو يهدي من يسير في طريق الهداية، ويفتح قلبه لنور الإيمان، فيوفقه المولى العلي القدير العليم بما تخفي الصدور إلى الحق فيدركه بعد أن يأخذ في الأسباب، ويسد عن قلبه مداخل الشيطان إليه.
و عليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن.
و بهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبى سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشتري به قمحا يفرج به ضائقتهم، ويسد حاجة المعوزين منهم، وهم مازالوا مشركين ١.
و يروى أن عمر بن الخطاب وجد شيخا ذميا على باب المسجد يتكفف الناس، فأجرى عليه رزقا مستمرا من بيت المال بعد أن قال له كلمته الرحيمة :" ما أنصفناك ! أخذنا منك الجزية صغيرا، وضيعناك كبيرا ".
و لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعطوا فقراء غير المسلمين من صدقة الفطر فقال عليه السلام :" أغنوهم عن سؤال هذا اليوم " ٢.
و إنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين. وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية، فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم، وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة فقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قال رجل : لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون : تصدق على زانية، فقال : اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على غني، قال : اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على سارق فقال : اللهم لك الحمد على زانية وغني وسارق فأتى، فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته " ٣.
[ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ] بين سبحانه أن الصدقة تجوز لكل من يكون في حاجة إليها، سواء أكان مؤمنا أم كان كافرا، وسواء كان برا تقيا، أم كان فاجرا عصيا، فالعطاء لإنقاذ الإنسانية أيا كان صاحبها. بعد أن بين ذلك بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها، وخيريتها ثابتة من ثلاث نواح :
الناحية الأولى : أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها، والتأليف الروحي بينها وبين الناس، وهذا ما ذكره سبحانه بقوله :[ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ] أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها، ويقوي صلاتها الاجتماعية، ويرهف الوجدان، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها، وقوضت بناءها، فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدم، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبا، وافترست كل ما في طريقها، وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس، ودفاع عن الوجود، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى :[ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ] لأنه حماية لها.
فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرا، ولذا قال :[ من خير ] ف " من" الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفي كل خير يعود على النفس.
و الناحية الثانية : ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى :[ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ] فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر، ذلك لأنه لا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية، فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة.
و قوله تعالى :[ ابتغاء وجه الله ] لا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه ؛ لأن كلمة [ وجه الله ] تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه، وتلك منزلة روحية سامية حسبها جزاء للصدقة، ولو كان المعطى كافرا عاصيا. ولقد قال بعض الصوفية في معنى [ ابتغاء وجه الله ] أي طلب المتصدق وجه الباقي، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة، وهي ناحية الله تعالى، ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين : وجها يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسي، وهو الوجه الفاني، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي، وهو رضا الله تعالى.
هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه.
أما الناحية الثالثة : فهي التي بينها قوله تعالى :[ وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ] في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها، والمعنى : أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفي الآخرة، أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع.
و قد أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة، وكأنه وفاء لها مولد منها ؛ ولذا سماه بها، فقال :[ وما تنفقوا من خير يوف إليكم ] أي يعود إليكم ذات الخير، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو. ثم ختم سبحانه الآية بقوله :[ وأنتم لا تظلمون ] أي لا تنقصون أي جزاء لعمل قدمتموه لا تبغون به إلا وجه الله تعالى، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء، وإلى الله المصير.
١ رواه أبو داود : الأدب – الحذر من الناس ( ٤٢١٩ )، وأحمد ( ٢١٤٥٤ )..
٢ أخرجه الدارقطني عن أبي معشر، كما رواه ابن عدي في الكامل وأعله بأبي معشر، وراجع أيضا جمع الجوامع ( ٣٦٦٧ )..
٣ رواه البخاري: الزكاة – إذا تصدق على غني وهو لا يعلم ( ١٣٣٢ )، ومسلم واللفظ له: الزكاة – ثبوت أجر المتصدق ( ١٦٩٨ )..
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ( ٢٧٣ )
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منٍّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه، مع أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم بين أنه لا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببا للمنع حيث يجب العطاء، ليحمل المشرك على الإيمان، والعاصي على الطاعة. بعد هذا بين سبحانه موضع الصدقات والصفات التي توجب العطاء في مستحقها، وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها، فقال تعالى :
[ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ] أي أن الصدقة تكون للفقراء الذين اتصفوا بهذه الصفات، وكانوا على تلك الأحوال، وهي خمس، فالجار والمجرور ( للفقراء ) خبر لمبتدأ محذوف يفهم من مطاوي الكلام الكريم السابق كله وثناياه ؛ لأن الكلام السابق كله في الإنفاق في سبيل الله، والصدقات المأجورة المشكورة، وما يعكر إخلاصها، ويعوق جزاءها، فكان المحذوف المطوي في القول مع قيام المشير إليها هو " الصدقة "، فهو محذوف في حكم المذكور، ولكن لماذا آثر النص القرآني الحذف مع أن الأصل الذكر ليتم النسق الكلامي ؟ الجواب عن ذلك هو، أولا الإيجاز المعجز الذي يكون فيه قصر اللفظ مع غزارة المعنى، وثانيا هو تعليم العباد من حيث إنه طوى لفظ الصدقة، ولم يصرح فيه بالإسناد، ووضعه بجوار الفقراء، للإشارة إلى أن الأدب يوجب على المعطي ألا يصرح أن يعطيه بأن هذا صدقة، حتى لا يحس بمذلة الأخذ، فحذف القرآن لفظ الصدقة عند الإسناد إلى الفقراء مع وجوده في السابق من القول، ليخفيه المعطي عند العطاء، مع احتساب النية بإخفائه المقصد.
و قد ذكر الله سبحانه وتعالى للفقراء الذين يستحقون الصدقة أوصافا أو أحوالا خمسة :
الوصف الأول منها : ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله :[ أحصروا في سبيل الله ] أي منعوا من الكسب الحلال الطيب الذي يطلبه صاحبه مجاهدا في طلبه. فالإحصار هنا المنع، وأصله من الحصر بمعنى التضييق كما قال تعالى :[ واحصروهم... ٥ ] ( التوبة ) أي ضيقوا عليهم. والإحصار هو التشديد في التضييق بالمنع من الحركة والسير والعمل المنتج المثمر. والمنع إما أن يكون لعجز مطلق بمرض أو شيخوخة أو صغر أو غير ذلك، وإما أن يكون المنع بسبب ضيق مسالك الكسب، فإن كان قادرا ولا يجد عملا مع طلبه، أو هو مشغول عن طلب الرزق لنفسه بما هو أجدى على الجماعة وأنفع كالفدائيين الذين يتقدمون الصفوف ليفتدوا جماعتهم، ويعلوا كلمة الحق، ويخفضوا كلمة الباطل، فكل هذا إحصار ومنع من اكتساب الرزق.
و عبر في الآية الكريمة ب [ أحصروا ] بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدي النافع، ولم يكن تخاذلا وكسلا، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال، إنما كان بمنع من غيرهم، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل، وإنما كان المنع عجزا، أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدي وينفع كالجهاد في سبيل الله، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين.
و كلمة [ في سبيل الله ] ما موضعها في الوصف المذكور ؟ قال بعض العلماء : إن كلمة في سبيل الله في هذا المقام فيها إشارة إلى سبب الإحصار والمنع، وهو أنهم حبسوا أنفسهم للعمل في سبيل الله، وانقطعوا عن المكاسب وطلب الرزق ؛ لأنهم ربطوا أنفسهم في سبيل الله بالجهاد في سبيل إعلاء الحق، أو بالقيام بعمل عام، وقالوا إن هذه الآية نزلت في أهل الصفة، وهم طائفة من المهاجرين الفقراء انقطعوا عن أموالهم، وأقاموا بالمدينة لا مرتزق لهم فيها، ينتظرون غزوة يسيرون فيها، أو سرية يذهبون معها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة ذوي اليسار باستضافتهم، فتستضيف كل أسرة واحدا أو أكثر على حسب قدرتها، ومن بقي منهم من غير استضافة بسط النبي صلى الله عليه وسلم مائدته لهم في المسجد وأكلوا معه، وقد أقام لهم في المسجد صفة، أي ظلة يأوون إليها يتقون الحر والبرد.
و على هذا التخريج يكون الإحصار المذكور في الآية ما يكون سببه الانصراف عن العمل بالاشتغال بعمل عام، فإن هذا يوجب على الجماعة التي يعملون فيها أن تجري على العامل ما يكفيه وأهله بالمعروف، فإن لم تفعل الدولة ذلك، وهي التي تمثل الجماعة، تولى الآحاد والجماعات من الناس تهيئة أسباب الرزق لهم بما يكفيهم.
و لكن الأوصاف اللاحقة لهذا الوصف تومئ إلى أن الآية الكريمة يدخل في عمومها كل فقير يتعفف عن السؤال، ولا يستطيع كسب عيشه لأي سبب من الأسباب المانعة أو المعوقة من العمل للرزق، بل إن قوله تعالى :[ لا يسألون الناس إلحافا ]، يجعل موضوع الآية الكريمة الفقراء العاجزين عن الكسب غير المتفرغين لخدمة عامة ؛ لأن هؤلاء لا يتعرضون للسؤال ثم يمتنعون عنه، إنما الذي يتعرض له، ويعف عنه هو العاجز لغير ذلك السبب.
حينئذ يكون قوله تعالى :[ في سبيل الله ] أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم، سواء أكان ذلك الواجب رزقا يطلبونه، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه، فهم في سبيل هذا الطلب في سبيل الله، أم كان ذلك الواجب خدمة عامة حبسوا أنفسهم لها، أو القيام بأمر من الفروض الكفائية التي تخصصوا في بعضها كطلب العلم، فإن هؤلاء على المجتمع فرادى وجماعات وعلى الدولة أن تسهل لهم الحياة، وتمكنهم من الاستمرار على طلب ما يطلبون.
والخلاصة أن الإحصار على هذا يشمل العجز المادي عن الكسب إما لمرض أو شيخوخة أو نحوهما، أو لطلب العمل مع عدم القدرة عليه، كما يشمل الذين حبسوا لتكليف عام، والقيام بفرض من فروض الكفاية.
و أما الوصف الثاني من أوصاف أولئك الفقراء الذين هم أولى الناس بالإنفاق عليهم [ لا يستطيعون ضربا في الأرض ]. والضرب في الأرض إما أن نقول إنه بمعنى الذهاب في الأرض والسفر فيها طلبا للرزق، إذ إن المسافر يضرب في الأرض برجله كما قال تعالى :[ وإذا ضربتم في الأرض... ١٠١ ] ( النساء ) والمعنى على هذا أن هؤلاء لا يستطيعون السفر للاتجار وكسب الرزق.
إما أن يقال هذا، وإما أن يقال الضرب في الأرض بمعنى حرثها وزرعها، فإن الحارث الزارع يضرب الأرض بفأسه ويشقها بمحراثه. والأولى في نظري أن تكون كلمة الضرب في الأرض شاملة، وأن يكون النفي شاملا، أي أن هؤلاء الفقراء لا يستطيعون العمل في الأرض بالزراعة، أو الذهاب فيها للاحتطاب والكسب، أو السفر للاتجار، والتنقل بين الأمصار سعيا في الرزق، لا يستطيع أولئك الفقراء شيئا من هذا بسبب العجز المادي، أو لأنهم حبسوا لنفع عام، أو واجب كفائي على العموم، وقد تخصصوا هم لأدائه، ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى " ١.
و أما الوصف الثالث من أوصاف أولئك الفقراء الذين هم جديرون بالعطاء أنهم [ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ]، ومعناه أنهم متجملون لا يعرف حالهم من فقر مدقع إلا أهل الخبرة بالنفوس وذوو البصيرة النفاذة، والفراسة الصادقة، فهم لا يعرفون بفقرهم وحاجتهم وعوزهم، بل يحسبهم الجاهل، أي يظنهم أغنياء ويقوم ذلك بحسبانه وتقديره من غير أمارات ظاهرة وبينات قائمة، فالظن في قوله تعالى :[ يحسبهم ] ظن في حسبان صاحبه فقط، و" الجاهل " إما أن يكون المراد به من لا يعرف حالهم، أو المراد به هنا من لا ينفذ إلى حقائق الأمور، بل يأخذها بمظاهرها التي تبدو بادي النظر، وليس عنده إحساس مرهف يعاونه على إدراك حال هؤلاء الفقراء مما يحيط بهم لا من مجرد الظاهر، وهذا هو الحق. و" التعفف " : تكلف العفة إما بالمبالغة فيها، والشدة في النزاهة، أو بمحاولة الصبر عليها وتحمل المشقة في سبيلها، أي أن الدواعي لتركها أقوى من البواعث على الاستمساك بها، ولكنه يستعين بالصبر، فيرجح العفة بعد تكلف المشقة واحتمالها. والآية الكريمة تقبل المعنيين، فإن الفقير العاجز عن الكسب عند تحمله ما يتحمل الحر الكريم في سبيل عفته، والمحافظة عليها مبالغ في العفة ؛ أولا : لأن المبالغة في العفة ليست بالقدر منها، إنما يكون بقدر ما يبذل في سبيل المحافظة عليها، فالغني يبالغ في العفة إن امتنع عن أخذ أموال الناس، أو طلب المعونة منهم أو أكل مالهم بالباطل، أو سرقتهم أو اغتصابهم، ولكن العاجز عن الكسب يعد مبالغا في العفة إن امتنع عن طلب المعونة، وهو في أمس الحاجة إليها.. وهذا الفقير يبالغ في العفة، ثانيا : بتحمل المشقات والتصبر عليها وفي سبيلها.
و أما الوصف الرابع فهو [ تعرفهم بسيماهم ] وهو أمر متصل بهم وبمن يراهم من ذوي الحس المرهف، والبصيرة النافذة، ولذا كان الخطاب بمعرفة سيماهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو البصير النافذ البصيرة، ولمن كان مقتديا به من كل مؤمن قوي الوجدان، ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ٢.
و السيما : العلامة، فما هي علامة الفقراء المتجملين الذين ستروا حاجتهم، والتي يعرفون بها ؟ قال بعض العلماء : التواضع والخشوع، وقال بعضهم : الرثاثة ومظاهر الفقر، وقال بعضهم : الجوع وآثاره. والحق أن الله سبحانه وتعالى لم يبين لنا هذه العلامة التي يعرفون بها، ولكنه ذكر أنها تعرف لذي البصيرة، أي أن الشخص المدرك الفاهم يستطيع معرفتها بزكانة ٣ نفسه، من لمحات الوجه، ومن تعرف مصادر الشخص وموارده، وما يحاول به ستر حاله، فإنه مهما يحاول الفقير التجمل والصبر فإنه لا بد أن تبدو حاجته لذي البصيرة الكريم الذي لا يعلن عورات الناس، فالعلامة إذن هي الظاهرة التي تبدو للفاحص الذي يطمأن إليه.
و قد ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا أمرين : أحدهما ينسب للجاهل وهو الظن بأنهم من الأغنياء، إذ قال سبحانه :[ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ]، هذا الظن الجاهل بالنفوس يحسبهم لفرط تجملهم بالصبر أغنياء، والأمر الثاني أن لهم سيما ومظهرا لا يعرفه الجاهل، ويعرفه غيره بالنظر الفاحص العاطف، الكاشف الساتر.
و أما الوصف الخامس من أوصافهم أنهم [ لا يسألون الناس إلحافا ] أي أنهم لا يسألون الناس، ولا يلحفون في السؤال أو الطلب ؛ ولقد قال الزمخشري في معنى " إلحافا " : " الإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم، وألا يفارقه إلا بشيء يعطاه من قولهم :( لحفني من فضل لحافه ) أي أعطاني من فضل ما عنده "، وقال الراغب الأصفهاني :" أصله من اللحاف، وهو ما يتغطى به " وعلى هذا يكون معنى الإلحاف : هو الملازمة في الطلب وملاصقة من يطلب العطاء كملاصقة اللحاف لمن يستتر به، أو الإلحاف يأخذ به الفضل الذي يعطاه.
و قد اختلف العلماء في النفي بهذه الجملة السامية : أهو النفي للإلحاف وليس نفيا للسؤال ؛ أي أنهم يسألون ولكن لا يلحفون في السؤال، أم هو نفي للسؤال مطلقا سواء أكان إلحافا أم من غير إلحاف ؟
قال بعض العلماء : إن النص الكريم يفيد بظاهره نفي الإلحاف لا نفي أصل السؤال ؛ لأن النفي منصب عليه، إذ النفي إذا كان لأمر مق
١ رواه الترمذي : الزكاة – من لا تحل له الصدقة ( ٥٨٩ )، وأبو داود : الزكاة – من يعطي من الصدقة وحد الغنى ( ١٣٩٢ )، وابن ماجه : الزكاة – من سأل عن ظهر غنى ( ١٨٢٩ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ الترمذي : تفسير القرآن – ومن سورة الحجر ( ٣٠٥٢)..
٣ الزكانة والزكن بالتحريك : التفرس والظن. يقال زكنته صالحا أي ظننته. ( لسان العرب – زكن )..
[ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ] هذا ختام آيات الإنفاق في سبيل الله، وقد ختم سبحانه هذه الآيات كما بدأها، بدأها بالجزاء الأوفى لمن يتصدق وينفق في سبيل الله، وختمها بالعاقبة الحسنى لمن يتحرى في الصدقات مواضعها، أيا كان زمنها، وأيا كان حالها، فتستوي نفقة الليل ونفقة النهار، وصدقة السر وصدقة العلن، ما دامت الصدقات قد قصد بها مرضاة الله تعالى، وسلمت من آفاتها وهي : المن والأذى والرياء.
و قوله تعالى :[ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار ] فيه بيان عموم الأزمان، فليس للصدقات وقت معلوم تقبل فيه، وآخر ترد وترفض، بل هي خير كلها، المقصود منها النفع العام، وهو متحقق فيها ليلا ونهارا، وغدوة وعشيا، وفي الضحى وفي الأصيل، فالعبرة بالفعل ونيته ونتيجته لا بزمانه ولا بوقته. وقوله تعالى :[ سرا وعلانية ] فيه بيان عموم الأحوال، ما دامت الصدقة قد خلت مما يرنق صفو الإخلاص فيها، ولا يجعلها خالصة لوجه الله الكريم. ولقد قالوا إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية فيه إيماء إلى أن الأولى الإخفاء والستر، وإن ذلك واضح ؛ لأن في الإخفاء والستر احتياطا للنفس وصونا لها عن كل ما يؤدي إلى الرياء، فإن الإعلان قد يؤدي إلى الحمد والثناء، وقد يستمرئ المعطي ذلك، ويستطيبه، ثم يطلبه ويقصده، وعند ذلك يدخل الرياء، إذ يجد الثغرة في هذا الموضع فينفذ إلى النفس منها.
و هناك نوع من التعميم آخر في الآية غير عموم الزمان والحال، وهو عموم الإنفاق، فقد قال تعالى :[ الذين ينفقون أموالهم ] ولم يقل مثلا يطعمون، فالإنفاق باب واسع يشمل الإطعام والكسوة، كما يشمل سداد الدين ودفع المغارم، وإعداد العدة في سبيل الله تعالى، وإمداد المحاربين، وشراء ما يخصص للنفع العام، كشراء عثمان بئر رومة، فكل هذا من الإنفاق، وعمم مع الإنفاق الأموال التي تنفق، فكله خير وكله له جزاؤه.
[ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] هذا جزاء الذين ينفقون بإخلاص غير مقيدين بزمان ولا حال ولا مكان، ولا قدر من الإنفاق، ولا نوع منه. والجملة موقعها من الإعراب أنها خبر والمبتدأ : الذين ينفقون، ودخلت الفاء في الخبر ؛ لأن الموصول في معنى الشرط، فتدخل الفاء في خبره جوازا، كما تدخل جواب الشرط.
و الجزاء الذي ذكره سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع :
أولها : الثواب يوم القيامة، وفي الدنيا، وذلك بالبركة، وبفضل التعاون الذي توجده الصدقة والإنفاق في سبيل الله ؛ ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة. وقد سمى سبحانه وتعالى ذلك أجرا، وسماه في مواضع أخرى جزاء، مع أنه المعطي والمانع، والرازق والباسط، وذلك تفضل منه وكرم، ولنتعلم من الله عدم المن في العطاء.
و الثاني من الجزاء : الأمن من الخوف ؛ إذ قال سبحانه :[ ولا خوف عليهم ] والصدقة تؤمن من الخوف في الدنيا وفي الآخرة، فهي أمن من عذاب الله يوم القيامة، إذ إنها تكفر السيئات، كما قال تعالى :[ إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ] ( هود ) وكما قال صلى الله عليه وسلم :" الصدقة تطفئ الخطيئة " ١، أما الأمن من الخوف في الدنيا، فلأن الإنفاق في مواضع الإنفاق وقاية للمجتمع من غوائل الفقر، وعوامل التخريب، فلا يحصن مال الغني إلا الإنفاق في كل ما يعود على الفقير والمجتمع بالنفع، وإن الأمن من الخوف بالإنفاق واضح كل الوضوح في الإنفاق لإمداد القوات المجاهدة في الدفاع عن الأمة، كما هو واضح في سد حاجات الفقير، وتهيئة فرص الحياة الرفيعة والعمل له.
والثالث من أنواع الجزاء : نفي الحزن، والبعد عن أسبابه. والحزن هم نفسي، ولذا عبر عنه بالفعل الذي يصور النفس والشخص فقال سبحانه :[ ولا هم يحزنون ] وهم النفس يدفع بالاعتماد على الله، وطلب رضاه، واطمئنان الضمير، وبرد اليقين، وذلك كله يتحقق في الدنيا بالصدقة، وزوال الحزن في الآخرة بها أعظم وأكبر.
هذا والآية عامة تشمل كل من يسارع إلى الإنفاق في وقت الحاجة إليه في سر أو في إعلان، في ليل أو في نهار، غير قاصد بما أنفق إلا الخير يبتغيه، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، لا يرائي ولا يمنّ ولا يؤذي، ولقد ذكر العلماء أن الآية مع عمومها وجدت روايات في سبب نزولها.
و هذه الروايات كلها لا تمنع عمومها، وإنها تبين فضل المنفق المخلص الذي يعم إنفاقه، ويجيء في وقت الحاجة إليه، و" الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " ٢.
١ سبق قريبا..
٢ جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء – فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ( ٤٨٦٧ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( ٢٧٥ )
كانت الآيات الكريمات من قوله تعالى :[ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة... ٢٦١ ] ( البقرة ) إلى هذه الآية الكريمة [ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ] كلها في الصدقات، بينت مقاصدها، وبينت آفاتها، وبينت وعاءها، وما يكون الإنفاق منه، ثم بينت مواضع الصدقات، وما ينبغي الإنفاق فيه، وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه قبح الربا، وإن المناسبة بين الإنفاق في سبيل الله والربا، هي المناسبة بين الضدين، فإنه إذا تذكر الشخص أحد الضدين سبق إلى ذهنه ضده، وإن التضاد ثابت بين الإنفاق في سبيل الجماعة والربا من عدة نواح : من ناحية النفس التي ينبعث منها الربا، والنفس التي تنبعث منها الصدقة، فنفس الربوي نفس محب لذاته يريد أن يحتاز كل شيء، ونفس المنفق في سبيل الله نفس محب للناس ألوف، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ومن ناحية الحقيقة، فالربا أكل لأموال الناس بالباطل، والإنفاق بذل لمال النفس في سبيل الغير ورفعة شأن الجماعة، وأكل أموال الناس نقيض لإعطاء الناس من حر ماله. ومن ناحية النتيجة فالربا يقطع التعاون بين الناس، أو يكون التعاون قائما على الإثم والعدوان، بينما الإنفاق في سبيل الله يقيم التعاون بين الجماعة والآحاد على أساس من الفضيلة، والبر والتقوى، ثم الربا يوجد قلق المرابي، والصدقة توجد اطمئنانا وقرارا.
فالربا والإنفاق في سبيل الله نقيضان لا يجتمعان، ولذا جعلهما سبحانه وتعالى متقابلين تقابل الأضداد، في قوله تعالى :[ وما آتيتم من ربا فليربو في أموال الناس فلا يربوعند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ٣٩ ] ( الروم ).
و قد ابتدأ سبحانه في بيان حقيقة الربا وحكمه ببيان أثره في نفس المرابي، ليعلم كل إنسان أن أثره شر في نفس صاحبه، وأن أول من يناله الضرر هو المرابي نفسه، فهو بمقدار ما يكثر من مال يكثر من الهموم، ولذا قال سبحانه :
[ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ] فهذه الجملة السامية تصوير لحال المرابي، واضطراب نفسه، وقلقه في حياته ؛ فالله سبحانه وتعالى يمثل المرابي في قلقه المستمر وانزعاجه الدائم بحال الشخص الذي أصيب بجنون واضطراب، فهو يتخبط في أموره وفي أحواله، وهو في قلق مستمر. ومعنى التخبط الضرب في غير استواء، ولذا قيل في المثل : خبط عشواء. والمعنى على هذا أن الذين يأكلون الربا، ويتخذونه سبيلا من سبل الكسب هم في حال لا يقرون فيها ولا يطمئنون، فلا يقومون ولا يتحركون إلا وهم المال قد استولى على نفوسهم، والخوف عليه من الضياع مع الحرص الشديد قد أوجد قلقا نفسيا دائما في عامة أحوالهم، فهم كالمتخبط بسبب ما مسه الشيطان.
و إن تشبيه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان فيه إشارة إلى أن الشيطان قد يمس نفس الإنسان فيصيبه. وقد أنكر ذلك الزمخشري في تفسيره، وخرج الآية الكريمة على غير المعنى الذي يفيد هذا فقال في الكشاف في هذا التعبير الكريم : وتخبط الشيطان من زعمات العرب، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم وأن الجني من يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات.
و إن هذا الكلام يفيد بفحواه أن العرب يزعمون صلة بين الجنون والجن، وأنه من مس شياطين الجن، وأن القرآن ورد التعبير فيه على مثل ما كانوا يعبرون، وإن لم يكن ذلك حقيقة مقررة في الإسلام عند الزمخشري.
و لكن وردت أحاديث تفيد أن الشيطان يمس الإنسان، ويكون لمسه أثر في فكره وعقله، فهل نترك ظواهر هذه الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي :" اللهم أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا " ١.
و في الحق إن البحوث الروحية التي يجريها العلماء الآن في أوروبا أثبتت أن الشياطين من الجن تخبط نفس الإنسان أو تمسها فيكون الجنون، وأن تلك العبارات التي كانت تجري على ألسنة العرب حقائق ثابتة الآن، فلا يسوغ لنا أن نؤول القرآن الكريم بغير ظاهره، لإنكار لا دليل عليه.
و إن ظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا التمثيل هو لبيان حالهم في الدنيا، فهو تصوير لاضطرابهم وقلقهم وتخبطهم في حياتهم، وإن بدوا منظمين فهو تنظيم مادي، ومعه القلق النفسي، والانزعاج المستمر.
هذا هو ظاهر الآية، وبه قال بعض المفسرين، ولكن قال الزمخشري ومع الكثيرون : إن ذلك التخبط من أكلة الربا هو يوم القيامة، فقال في الكشاف :" المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين ؛ تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف، وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا، ينهضون ويسقطون كالمصروعين ؛ لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض ". ونرى من هذا أن الكشاف يقصر تلك الحال التي صورها التمثيل على الآخرة. وإني أرى أنه يصور حالهم في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا في قلق مستمر، وفي الآخرة تثقلهم سيئاتهم فيتخبطون، وكأنهم المصروعون.
و لا عجب في أن تكون تلك حالهم في الدنيا، فالربويون أكثر الناس تعرضا للأزمات القلبية، كما يعرضون الجماعات للأزمات الاقتصادية، ولقد قرر الأطباء أن نسبة ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والشلل والذبحة الصدرية عند الربويين أضعافها عند غيرهم، وما علمت ربويا مات إلا سبقه الشلل أو أخواته قبل أن يجيء إليه الموت ليستقبل نار جهنم، وذلك لأنهم [ لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ] والله أصدق القائلين.
و الربا معناه واضح يفهمه العامة، وهو الزيادة في الدين في نظير الأجل، ولكن الذين يحاولون تطويع الشريعة لتكون أمة ذليلة للاقتصاد الربوي عقدوا معنى الربا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولذلك وجب أن نتكلم بإيجاز في معنى هذه الكلمة.
أصل الربا من " ربا " يربو بمعنى " زاد "، أو " نما "، ثم أطلقت كلمة ربا على ذلك النوع من التداين، وهو أن يزيد المدين في الدين في نظير الزيادة في الأجل، وقد صار إطلاق كلمة الربا على هذا المعنى حقيقة لغوية، أو هو عرف لغوي، وهذا هو الربا المذكور في قوله :[ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة... ١٣٠ ] ( آل عمران )، وقوله تعالى :[ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله... ٣٩ ] ( الروم ) وقوله صلى الله عليه وسلم :" ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب " ٢ وهذا الربا يسمى ربا النسيئة ؛ ولقد ورد في الأثر ( إنما الربا النسيئة ) ٣ ولم يشك أحد من الفقهاء في أن هذا محرم، فتحريمه ثابت بالنص القرآني، والحديث النبوي، والإجماع الفقهي، ولقد سئل الإمام أحمد عن الربا المحرم قطعا : فقال رضي الله عنه : أن تزيد في الدين في نظير الزيادة في الأجل.
و هناك نوع سمي الربا في الشرع الإسلامي، لا في الحقيقة اللغوية، وهو ربا العقود، الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم :" الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي فيه سواء " ٤.
و هذا النوع من الربا لم يكن معروفا في الجاهلية، بل هو حقيقة إسلامية وردت في مقام النهي، ولذا يقسم الجصاص الربا قسمين : ربا غير اصطلاحي، وهو ربا الجاهلية عرفته اللغة، ولا مجال للريب فيه، وربا اصطلاحي، وهو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه.
و مع وضوح معنى الربا الجاهلي ذلك الوضوح، وهو الذي جاء بتحريمه القرآن الكريم، وجدنا ناسا يحاولون أن يشككوا الناس في حقيقته، ليحلوا بذلك التشكيك ربا المصارف، وقد سلكوا للتشكيك مسلكين :
أولهما : أن قوله تعالى :[ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة... ١٣٠ ] ( آل عمران ) فهموا منه أو بالأحرى حاولوا أن يفهموا الناس أن الربا المحرم هو ما يكون بمضاعفة الدين، وما دون ذلك حلال، وأهملوا قوله تعالى :[ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ٢٧٩ ] ( البقرة ) مع أن قوله تعالى :[ أضعافا مضاعفة ] حال من ( الربا ) وهو الزيادة، أي لا تأكلوا تلك الزيادة التي تتضاعف عاما بعد عام، فالمضاعفة في الزيادة لا في أصل الدين، وفوق ذلك فالوصف جار مجرى الواقع من تكرار الزيادة حتى تصل إلى قدر الدين أو تزيد. ثم إنه من المقرر فقها أن النهي إذا ورد عاما ثم جاء نهي في بعض أفراد هذا العام لا يكون ثمة تعارض حتى يخصص العام، بل أقصاه أن بعض أفراد العام ورد فيه النهي مرتين، فله فضل تأكيد، وكذلك الأمر، كما في قوله تعالى :[ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى... ٢٣٨ ] ( البقرة ).
المسلك الثاني من مسالك التشكيك أنهم قالوا : إن الربا المحرم هو ما قصد فيه المقترض أن يستدين للاستهلاك لا للاستغلال، فمن يقترض لشراء حاجات لازمة لنفسه أو أهله لا يصح أن يؤخذ منه زيادة نظير الأجل، ومن اقترض ليوسع تجارته، أو ليصل زراعته، فهو مستغل بما اقترض، فالزيادة لا تكون الربا، بل هي مشاركة في الربح.
ذلك قولهم بأفواههم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. وإنه ينقض ذلك الزعم أمران :
أحدهما : عموم النص القرآني، فهو عام في كل قرض قد جر زيادة فوق رأس المال، بدليل [ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم... ٢٧٩ ] ( البقرة ).
و ثانيهما : أن الذين كانوا يقرضون تجارا، وكانت ربا الجاهلية في مكة التي اشتهرت بالتجارة، وكان تجارها ينقلون بضائع الروم، وكانت اليمن والشام فيهما الجلب والعرض، كما قال تعالى :[ لإيلاف قريش ١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ٢ ] ( قريش ) فشيوع الربا في ذلك الجو التجاري يدل على أنه كان ثمة ربا استغلال، وأن ربا الاستهلاك والاستغلال كلاهما حرام.
و لا يصح أن يسمى ربا الاستغلال مشاركة في الربح ؛ لأن أصول المشاركة أن يكون ثمة شركة في المغنم والمغرم معا، لا أن تكون الشركة في المغنم دون المغرم.
هذه حقيقة الربا، وهي واضحة إلا عند الذين يتقبلون تشكيك المشككين وقد كان أهل الجاهلية يسوغون الربا مع إحساسهم الفطري بأنه ليس أمرا حسنا، وكانوا يسوغونه بعقد المشابهة بينه وبين البيع، ولذا قال الله تعالى فيهم وفي الرد عليهم :
[ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ] لقد عقد أولئك المشركون مقايسة بين البيع والربا، فقالوا : إن البيع يماثل الربا، فكما أن كسب البيع حلال، فكسب الربا حلال أيضا، ولا فرق بينهما في نظرهم الكليل، كالذين قالوا مقالتهم في ظل الإسلام، لا في حكم الجاهلية. ولكن ما الوصف الجامع في نظرهم بين البيع والربا ؟ لعلهم نظروا إلى أن البيع قد يكون في
١ رواه النسائي : الاستعاذة – الاستعاذة من التردي والهدم ( ٥٤٣٦) عن أبي اليسر، وأبو اليسر هو كعب بن عمرو بن عباد الأنصاري توفي ٥٥ هـ. وعنه أيضا رواه أبو داود : الصلاة – الاستعاذة ( ١٣٢٨ )، وأحمد : مسند المكيين ( ١٤٩٧٥ )..
٢ جزء من حديث طويل رواه مسلم : الحج – حجة النبي صلى الله عليه وسلم ( ٢١٣٧ )، وأبو داود في المناسك – صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ( ١٦٢٨ )، وابن ماجه : المناسك ( ٣٠٦٥ )، وأحمد : أول مسند البصريين ( ١٩٧٧٤ )..
٣ رواه البخاري : البيوع – بيع الدينار بالدينار نساء ( ٢٠٣٣ )، ومسلم واللفظ له : المساقاة – بيع الطعام مثلا بمثل ( ٢٩٩١ )..
٤ رواه مسلم : المساقاة – الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا ( ٢٩٧١ )، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. كما رواه أحمد والنسائي بمثل هذا..
[ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ] المحق : النقص والذهاب، ومنه محاق القمر : أي انتقاصه في الرؤية شيئا فشيئا حتى لا يرى، فكأنه زال وذهب، والله سبحانه وتعالى يمحق الربا في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة عقاب أليم، وعذاب مقيم، وفي الدنيا ينقص ماله، كما قال صلى الله عليه وسلم :" إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل " ١ أو تمحى من المال البركة، بحيث لا يمكن الانتفاع به، إما لهم دائم وقلق مستمر، وإما لمرض يصيبه فيكون المال الكثير مع عدم القدرة على الانتفاع به، كمن عنده طعام شهي ولا يستطيع أن يتناوله ؛ لأنه يكون وبالا عليه، وإما لمقت الناس له، فيفقد تعاونهم، وفي ذلك شر عليه، والربوي لا يمكن أن يخلو في الدنيا من واحد من هذه الأمور، فكان الربا ممحوقا دائما.
هذه نتيجة الربا، أما الصدقات فإن الله يربيها وينميها، إما بالكسب الوفير، وإما بفضل التعاون وبالهدوء والاطمئنان، ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة، كما قال عليه الصلاة والسلام :" إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يجيء يوم القيامة، وإن اللقمة لعلى قدر أحد " ٢.
و الصدقة ليس المراد منها مجرد العطاء، بل تشمل كل نفع عام أو خاص لا يقصد به المؤمن المنفعة الشخصية التي تنبع من الهوى، وعلى ذلك يكون القرض الحسن الذي يقصد به التعاون على الاستغلال من الصدقة أيضا، وهو من خير الصدقات أيضا، وهو من خير الصدقات التي يربيها الله في الدنيا والآخرة.
[ والله لا يحب كل كفار أثيم ] هذا تهديد لمن استحلوا الربا، أو ارتكبوه، وقد ذكروا في ذلك الكلام العام للإشارة إلى أن المرابين يسترون الحق، ويعوقون عن الخير، إذ معنى "كفار" من كفر بمعنى ستر وأخفى وجحد، فهي صيغة مبالغة لكافر، ومعنى أثيم معوق مبطئ عن الخير ٣، فالذين يرابون ويأكلون أموال الناس بالباطل يدخلون في عموم قوله تعالى :[ كل كفار أثيم ] وقد جمع سبحانه وتعالى بين الوصفين للإشارة إلى أن إيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه، وهم كفار إن استحلوه ؛ وهم في الحالين آثمون معاقبون، ولكل حال مقدارها من الإثم، فليس إثم من جحد بآيات الله كإثم من نقص إيمانه بترك العمل بها، فذلك كافر، وهذا فاسق، وفرق ما بين الأمرين عظيم. ويصح أن نقول : إن الكافر هو الكفار بنعمة الله والمتمادي في كفرانها، بأن يتخذ ما أنعم الله به عليه من نعم كالمال، في الإيذاء لا في النفع، فيأكل أموال الناس بالباطل بسبب ما أعطاه الله من مال، وإن ذلك توجيه حسن، وهو في هذا المقام مناسب.
و نفى حب الله تعالى بحرمان الآثمين من رضاه ؛ إذ إن محبة الله تعالى شأن من شئونه، ومن مظهره الرضا، ومن حرم من رضا الله فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإلى الله عاقبة الأمور.
١ رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين – مسند عبد الله بن مسعود ( ٣٨٢٢ ). ورواه ابن ماجه : التجارات – التغليظ في الربا ( ٢٢٧٠ ) عن عبد الله بن مسعود مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم..
٢ رواه بنحو من هذا البخاري: الزكاة – الصدقة من كسب طيب ( ١٣٢١ )، ومسلم : الزكاة – قبول الزكاة ( ١٦٨٤ ) عن أبي هريرة وقد سبق..
٣ وأثيم عل وزن فعيل لآثم ؛ مبالغة في الإثم..
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٢٧٧ )
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الجرم العظيم الذي يقع فيه آكل الربا، والأثر الذي ينال نفوسهم وعقولهم من مغبة إثمهم، والعذاب الأليم الذي يرتقبهم يوم القيامة، ثم بين سبحانه بعد ذلك جزاء الصالحين الذين لا يأكلون الربا، والذين يستبدلون بأكل أموال الناس بالباطل الزكاة يؤدونها، والفرائض يقيمونها، وحق الله والناس في أنفسهم وأموالهم يأتون به على الوجه الأكمل، وبعد بيان تلك المرتبة العليا لأهل الإيمان، ذكر الطريق لتوبة أكلة الربا، والمسلك الذي يسلكونه ليرتفعوا إلى مرتبة الطاهرين، وعاقبة السوء إن استمروا في غيهم يعمهون.
ابتدأ سبحانه ببيان الأطهار في مالهم وأنفسهم فقال سبحانه :
[ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ] ذكر سبحانه ذلك الصنف الفاضل الذي جعله الله تعالى من صفوة عباده، فوصفه بأربع صفات، هي : الإيمان.. والعمل الصالح.. وإقامة الصلاة.. وإيتاء الزكاة.
أما الوصف الأول فهو الإيمان، فهو نور القلب به يشرق وبه يهتدي، وإذا قوي الإيمان تطهرت النفس من كل أدران الهوى ومقاصد السوء. وذكر القرآن الإيمان في أول أوصاف الأبرار لثلاثة أمور :
أولها : إن الإيمان بالله ورسوله إذا استغرق النفس، واستولى على القلب وجد الإخلاص للناس وطلب الحق، فاتجه الإنسان بكل جوارحه إليه ؛ والإخلاص هو النور الذي يهتدي به الإنسان ويحميه من كل حيرة.
و ثانيها : إن الإيمان الذي هو الوصف الثابت للمؤمنين هو والربا نقيضان لا يجتمعان، فما من شخص يأكل الربا أو يبيحه إلا كان منشأ ذلك نقصا في إيمانه، واضطرابا في يقينه، إذ يكون إيمانه بالمال أكثر من إيمانه بالله.
و ثالثها : إن الإيمان يتضمن معنى الإذعان للحق، ومن ادعى الإيمان ولم يذعن للحق، فقد جافى حقيقته.
من أجل هذه المعاني صدرت أوصاف الذين لا يأكلون الربا بوصف الإيمان.
و الوصف الثاني من أوصاف الذين لا يأكلون الربا : هو العمل الصالح، والعمل الصالح هو كل عمل فيه خير للمجتمع الذي يعيش فيه المؤمن، يبتدئ فيه بالأسرة : الأقرب فالأقرب، ثم بالجيران : الأدنى فالأدنى، ثم بالعشيرة كلها، ثم بقومه، ثم بأمته.
و إن اقتران الإيمان دائما بالعمل الصالح يدل على أن الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي للخير، فليس الإيمان في الإسلام مجرد نزاهة روحية، وتعبد في الصوامع، إنما الإيمان مظهره عمل إيجابي فيه نفع للناس، فالإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي، لا مجرد التقديس السلبي.
و إذا كان العمل الصالح هو النفع العام والنفع الخاص، فإنه يفترق عن الصلاة والزكاة، من حيث إن هذه هي الفرائض الوقتية المنظمة للعلاقات بين العبد وربه، وبين العبد والناس ؛ أما العمل الصالح فهو الحال الدائمة للمؤمن التي لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا حال، فكما أن الإيمان حال دائمة، فالعمل الصالح أي النفع الدائم المستمر للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون حالا دائمة مستمرة للمؤمن.
و ذكر هذا الوصف في مقابل أكل الربا فيه إشارة إلى التقابل بين الشر والخير، والإثم والبر، فإن الإثم إيذاء للناس ومن ذلك الربا، وأخلاق المؤمن العمل النافع الدائم للناس، وهو الخير وهو البر.
و الوصف الثالث : إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مقومة غير معوجة بحيث يستذكر فيها المصلي ربه، ولا يسهو فيها عن ذكره سبحانه، وما ذكرت الصلاة في مقام المدح للمصلين إلا ذكرت بالإقامة، لأن إقامتها هي التي تهذب النفس، وتبعدها عن الفواحش والمنكرات، كما قال تعالى :[ إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر... ٤٥ ] ( العنكبوت ).
و إن ذكر الصلاة بجوار العمل الصالح فيه إشارة إلى أن الإسلام يلتقي فيه وصفان جليلان : التهذيب الروحي، والنزاهة النفسية التي تكون بالصلاة والمداومة على إقامتها، والعمل النافع المستمر وجلب الخير للناس، ففيه نزاهة الروح والنفع العام.
و الوصف الرابع من أوصاف المؤمنين إيتاء الزكاة، والزكاة هي الفريضة الاجتماعية التي فرضها الله سبحانه وتعالى، وبها يأخذ ولي الأمر من مال الغني ما يسد به حاجة الفقير، فهي قدر معلوم قدره الشارع الحكيم، بحيث يأخذه من مال الغني قسرا أو اختيارا، وذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الجملة أولئك الذين يؤتون الزكاة طواعية واختيارا، فهم يعطونها محتسبين النية معتقدين أن الزكاة مغنم لهم ومطهرة لأموالهم، وليست مغرما لهم، ولا منقصة لأموالهم. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المسلمين بخير ما حسبوا الزكاة مغنما، ولم يحسبوها مغرما، ولقد قال تعالى :[ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها... ١٠٣ ] ( التوبة ).
و ذكرت الزكاة في هذا المقام ؛ لأنها مقابلة للربا كما بينا في الآية السابقة، ولقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى :[ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ٣٩ ] ( الورم ).
[ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] هذا جزاء الذين يؤمنون، ويعملون العمل الصالح في سبيل النفع، ويطهرون نفوسهم بالصلاة، ويطهرون أموالهم بالزكاة، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهم أنواعا ثلاثة من الجزاء.
أولها : الأجر، وهو عوض ما قاموا به من خير، واعتبر إنعامه عليهم بأضعاف ما صنعوا أجرا وعوضا وهو المنعم المتفضل، حثا على فعل الخير، وتعليم الناس الشكر، ومقابلة الخير بالخير.
و الثاني من أنواع الجزاء : الأمن وعدم الخوف، فلا مزعج يزعج فاعل الخير، إذ إنه بالعمل للنفع العام، وتطهير النفس، وإعطاء الفقير حقه المعلوم قد وقى نفسه ووقى مجتمعه من ذرائع الفتن ونوازع الشر ؛ هذا في الدنيا ؛ أما في الآخرة، فالأمن من عذاب الله تعالى.
و الجزاء الثالث : أنهم لا يحزنون، وذلك لأنهم باستقامة قلوبهم، وامتلائها بالإيمان وتهذيب أرواحهم وأدائهم ما عليهم من واجب في حق أنفسهم ومجتمعهم، قد حصنوا أنفسهم من أسباب الهم والغم، فلا يأسون على ما يفوتهم، ولا يجزعون لما يصيبهم ؛ لأن نفوسهم روحانية تعلو عن متنازع الأهواء التي تملأ النفس بأسباب الهم والغم.
و إن ذكر هذه الأحوال في مقام مقابل لحال الربويين الذين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، له مغزاه ومعناه، إذ فيه بيان للنعيم في مقابل الجحيم، وللراحة والاطمئنان، في مقابل الجزع والاضطراب، وكل امرئ بما كسب رهين.
[ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ] في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى طريق التوبة من الربا، والخروج من مآثمه، ويحث على هذه التوبة بإثبات أنها من مقتضيات الإيمان، وأول طرق التوبة لمن خوطبوا بالقرآن أول نزوله، أن يتركوا ما بقي من الربا، فما كسبوه قبل الخطاب بالتحريم فإنه في مرتبة العفو، أما ما يجيء من بعد ذلك ولو كان بعقد سابق فإنه حرام، ولذا خاطبهم سبحانه وتعالى بقوله :[ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ] وفي ذلك نهي عن أخذ ما استحق بالعقود السابقة، وقد تأكد النهي بثلاثة مؤكدات :
أولها : تصدير النداء [ يأيها الذين آمنوا ] فإن ذلك التصدير لبيان أن ترك الربا من شأن الإيمان ومقتضياته، فليس من خلق أهل الإيمان بالله ورسوله وكتبه وما اشتمل عليه من أخلاق سامية ومبادئ اجتماعية عالية، أن يأكلوا الربا وأن يتعاملوا به ؛ لأنه ضد تهذيب النفس وسمو الروح، إذ هو شره مادي وكسب بغير الطريق الطبيعي، ولأنه يقوض بنيان الاجتماع، ويجعل كل واحد من آحاده ينظر إلى الآخر نظر القنيصة التي يقتنصها والفريسة التي يفترسها، فتنقطع الأوصال، وينتثر العقد الجامع.
ثانيها : قوله تعالى :[ اتقوا الله ] فهذا النص يفيد أن من مقتضيات التقوى اجتناب الربا ؛ لأن التقوى معناها أن يجعل المؤمن بينه وبين الآثام وقاية، وأن يجعل بينه وبين غضب الله تعالى وقاية، وأن يجعل بينه وبين إيذاء الناس وقاية، والربا ضد هذا كله ؛ لأنه يعرض المرء للمآثم، فإنه بمجرد أن يعجز المدين عن الوفاء – وذلك كثير – تتوالى المطالبة المصحوبة بالأذى والترصد المستمر حتى تصبح عيشة المدين ضنكا، وقد يبخع نفسه تخلصا من تلك المآثم المتوالية المستمرة.
ثالثها : أنه سبحانه جعل ترك الربا شرطا للاستمرار على الإيمان، فقال في ختام الآية الكريمة :[ إن كنتم مؤمنين ] أي إن كنتم مستمرين على حكم الإيمان، مذعنين لأحكام الديان.
و هنا بحثان أحدهما لغوي، والآخر موضوعي :
أما البحث اللغوي فهو في معنى كلمة " ذروا " فإن معناها اتركوا. وقد قال النحويون : إن ماضي " ذروا " ومصدرها قد أماتهما العرب كالشأن في دع يدع، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني :" يقال في ذلك فلان يذر الشيء أ ي يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه " وهذا الكلام يدل على أن الماضي قد مات، وعلى أن " يذر " لا تستعمل في مطلق الترك، بل تطلق على الترك الذي يصحبه عدم اعتداد بالمتروك، فكأن معنى [ وذروا ما بقي من الربا ] اتركوه غير معتدين به، بل اتركوه مهملين له ؛ لأنه أذى في ذاته.
والزمخشري يقر ذلك في أساس البلاغة ولكنه يقرر أن المصدر هو الذي مات، وليس الماضي، ولذا قال في أساس البلاغة :( ذره واحذره، والعرب أماتت المصدر منه فيقولون : ذر تركا، وإذا قيل لهم ذروه قالوا وذرناه ).
و هذا معنى جديد أتى به الإمام الزمخشري في معنى ذره ؛ لأنه يدل على ترك الشيء مع الحذر منه، فكأن معنى [ وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ] : اتركوه غير معتدين به حذرين من أن تنالوا منه شيئا فإنه إثم كله.
هذا هو البحث اللغوي الذي يظهر لنا بعض ما في النص الكريم من دقة وإحكام وإشارات بينة محكمة.
أما البحث الموضوعي، فهو [ ما بقي ] الذي أوجب الله تركه في قوله :[ وذروا ما بقي من الربا ] ما المراد منه : أهو الجزء الباقي من الربا الواجب التنفيذ بمقتضى العقد ؟ وهل الجزء الذي تسلموه من قبل مباح أو في موضع العفو ؟ قال العلماء ذلك، أي أن الآية خاصة بالذين كانوا يتعاملون بالربا، ولهم عقود ربوية قد قبضوا بعضها، فإن لهم ما سلف، أما الباقي فليس لهم أن يقبضوه، وإن كانوا بعقود ربوية عقدت قبل التحريم. ويزكي هذا المعنى قوله تعالى من قبل :[ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله... ٢٧٥ ] ( البقرة ).
و لقد روي في سبب نزول هذه الآية أنه كان بين قوم من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم عقود ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام وحرم الربا ودخلت ثقيف في الإسلام طالبوا بني مخروم بالربا الذي تعاقدوا عليه من قبل، فقال أولئك، لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية ١.
و ترى من هذا أن ما أخذ قبل التحريم فأمره إلى الله تعالى، وما كان بعد التحريم لا يحل، ولو كان العقد قبله، ولذلك كانت الأحكام الإسلامية واجبة التطبيق على العقود التي تعقد قبل الإسلام إذا كانت مستمرة التنفيذ بعده وأحكامها تشتمل على أمر منهي عنه في الإسلام.
هذا حكم الله، ومن امتنع عن تنفيذه فإنه يحاد الله ورسوله ؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك :
[ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ].
١ راجع : أسباب النزول – الواحدي – سورة البقرة من الآية ( ٢٧٨ ) إلى الآية ( ٢٧٩ ). وراجع تفسير الرطبي، والدر المنثور للسيوطي ج ١ ص ٣٦٦..
[ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ] : أي فإن لم تفعلوا وأخذتم ما بقي من الربا فأنتم معاندون لله ولرسوله، وأنتم في حرب معهما، ومن حارب الله فإن الله غالبه، وهو مهزوم لا محالة، وإن الله سيعاقبه على عظيم ما ارتكب.
و هنا عدة كلمات فيها إشارات بيانية تبين عظيم ما يتعرض له من يعاند الله ورسوله، ويخالف أحكامه التي يقررها الله تعالى لتنظيم المجتمع الإسلامي، وتبين أيضا عظيم عمل من يحترم أحكام الله تعالى :
أول هذه الكلمات : إن الله تعالى يقول :[ فإن لم تفعلوا ] أي لم تتركوا ما بقي من الربا، فعبر عن الترك هنا بالفعل، فلم يقل : فإن لم تتركوا، بل قال :[ فإن لم تفعلوا ] وذلك لأن الذين يتركون ما بقي من عقود عقدوها، يقاومون رغباتهم ويقاومون أهواءهم وشهواتهم، فهذه المقاومة، وذلك الكف فعل نفسي جليل يحرضهم سبحانه وتعالى عليه، ويدعوهم إليه، فإن فعلوه كان لهم الثواب المقيم والرضا الكريم، وإن لم يفعلوا فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله.
و الكلمة الثانية : أن الله سبحانه وتعالى يقول للذين لا يتركون ما حرم الله من ربا [ فأذنوا بحرب ] أي فاعلموا بأنكم في حرب ؛ وذلك لأن أذن هنا بمعنى علم، وفي قراءة " فآذنوا " بحرب. ويقول الزمخشري في هذه القراءة إن معناها " فأعلموا بها غيركم " وعلى ذلك يكون آذنوا بالحرب معناها الإعلام بها، وأما أذنوا بحرب فمعناها العلم بها، ولكن الراغب الأصفهاني يقول :" إن الإذن بالحرب والإيذان بها بمعنى واحد ".
و لماذا عبر عن معاندتهم لله وحربهم لشريعته بقوله :[ فأذنوا بحرب ] ولم يقل فأنتم في حرب ؟ للإشارة إلى أن الجهالة توهمهم أنهم ليسوا بخارجين عن إرادة الله تعالى إن طالبوا بأحكام العقود التي عقدوها من قبل، فالله سبحانه وتعالى أعلمهم بأنهم في أخطر مخالفة وأشد معاندة.
و الكلمة الثالثة : إنه تعالى قال في الحرب :[ فأذنوا بحرب من الله ورسوله ] ولم يقل في حرب الله ورسوله، وقد بين السر في ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله :" كان هذا أبلغ ؛ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله " أي أن في هذا التعبير الكريم تهويلا لشأن هذه الحرب من ناحيتين : ناحية التنكير، فهي حرب هائلة لم يدركوا كنهها، والناحية الثانية ناحية التصريح بإضافتها إلى الله ورسوله، فهي حرب معهما، والنتيجة في هذا مؤكدة محتومة.
و هذه الحرب أهي مجازية، أم حقيقية ؟ يبدو بادي الرأي أنها مجازية من حيث إن كل معاندة لله ولرسوله عن عمد وبسبق وإصرار، فيها معاندة لأحكامه سبحانه، ومصادمة لأوامره ونواهيه، وكل مصادمة لأوامر الله تعالى ونواهيه نوع من الحرب والمحادة له سبحانه.
و لكن بعض المفسرين يقول : إن ذلك كان إيذانا فعلا بالحرب، كما حارب أبو بكر أهل الردة عندما منعوا الزكاة، وزكوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغه صنيع ثقيف من مطالبتهم بربا كان ثمرة لعقود عقودها من قبل، قد آذنهم بحرب، وكتب إلى عتاب بن أسيد والي مكة من قبله يقول له :" إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب " ١ أي أنه صلى الله عليه وسلم اعتبرهم مرتدين يقاتلون باستمرارهم على أكل الربا، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام عندما صالح ثقيفا بعد حرب كان مما نص عليه في هذا الصلح أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا موضوع.
و ما أجدر بعض الذين يتكلمون في هذا اليوم مستحلين الفوائد على أنها ليست من الربا أن يعتبروا ببني ثقيف وبني مخروم ! ! فإن أولئك كانوا يأخذون من الثقفيين ليتجروا، وليربوا، فوضع الله الربا الجاهلي كله، واعتبر المطالبة بما بقي حربا لله ورسوله.. ألا فليمتنع هؤلاء عن قولهم حتى لا يخاطبوا بقول الله :[ فأذنوا بحرب من الله ورسوله ].
[ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ] أي أن من يقع في الربا وأراد أن يتوب إلى الله ويرجع إليه، فليعلم أنه ليس له أن يأخذ بعد تحريم الربا إلا رأس المال. وإن الاقتصار على رأس المال لا يكون فيه ظلم للدائن ؛ لأنه وصل إليه مثل ما أعطى وليس له وراء ذلك حق، ولا ظلم فيه على المدين ؛ لأن أداء الحق لا ظلم فيه، وإن امتنع عن إعطاء رأس المال كان ظالما، ما دام يمتنع عن قدرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مطل الغني ظلم " ٢.
و في النص الكريم إشارة إلى أمرين :
أحدهما : أن من يعطى الربا ليس له إلا رأس المال، وأن الزيادة أكل لمال الناس بالباطل أيا كانت هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة، فلا عبرة بالمقدار مهما يكن ضئيلا، ولا عبرة بالدين أيا كان نوعه. والتعبير عن أصل الدين برأس المال نص في أن الربا يكون إذا كان الدين قد اتخذ أصلا للاتجار والكسب، أي أن الدين الذي يأخذ للاستغلال الربا فيه حرام، وبالأولى الدين الذي يؤخذ للاستهلاك واختيار ذلك اللفظ بالذات يومئ إلى أن الربا كان يتخذ سبيلا للاستغلال. والتعبير ب " رأس " أيضا يحسم الخلاف ؛ لأنه لو عبر بالدين فربما يدعي الربوي أن الدين هو الأصل والزيادة معا.
ثانيهما : الذي يدل عليه النص الكريم : أن طريق التوبة دائما أن ينقي التائب ماله من كل مال خبيث، فكل زيادة عليه ترد إلى أصحابها، وإلا يتصدق بها.
١ رواه الطبري في جامع البيان : ج ٣/٧١، والسيوطي في الدر المنثور ج ١/٣٦٦..
٢ متفق عليه، رواه البخاري : الاستقراض – مطل الغني ظلم ( ٢٢٢٥)، ومسلم : المساقاة – تحريم مطل الغني ( ٢٩٢٤ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
[ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ] أي إن كان المدين غير قادر على الأداء لعسرة ملازمة له كملازمة الصاحب لصاحبه فانتظار إلى وقت يتيسر فيه، فلا يزيد عليه ليرهقه، فيعجز عن الوفاء، بل ينتظر حتى يجيء الوقت الذي يستطيع الأداء فيه.
و هنا بعض عبارات فيها إشارات بيانية جديرة بالتنبيه :
أولها : التعبير بذو عسرة في قوله [ و إن كان ذو عسرة ] أي كان صاحب عسرة وضيق شديد يلازمه كملازمة الصاحب ؛ لأن كلمة ذو تدل على المصاحبة ؛ وفرض أن بعض المدينين ذو عسرة يدل على أن مدينين آخرين يستطيعون الوفاء، ومنهم الذين يقترضون للاستغلال.
ثانيها : قوله تعالى :[ فنظرة إلى ميسرة ] معناها : فالحكم أو الأمر انتظار إلى ميسرة، وهناك قراءة أخرى، وهي ( فناظره إلى ميسرة ) أي فمنتظره إلى ميسرة.
ثالثها : قوله [ إلى ميسرة ] فالميسرة بفتح السين وضمها كمقبرة ومقبرة : هي حال اليسر، فليست الميسرة هي مجرد اليسار بل هي اليسار المستقر الثابت الذي يتمكن فيه المدين من وفاء دينه كله مقدما القوي على الضعيف، أي أن الدائن ينتظر المدين حتى يقف من عثرة العسرة ويستقيم أمره، لا أن يترقب أي مال حتى يأخذه كما يأخذ الصائد قنيصته.
[ وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ] أي أنه إذا ثبت العجز وتقرر، وأصبح احتمال اليسار غير قريب، فتصدقوا بالدين على صاحبه وأبرئوه منه ؛ فإن ذلك يكون خيرا لكم في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فلأنكم إذا فقدتم الأمل في الاستيفاء فكل جهد في سبيله ضائع، وكل تعقب في سبيله يورث الإحن من غير جدوى، ويثير الأحقاد المستمرة من غير فائدة فيكون من الخير العفو والإبراء، والإبقاء على الأخوة، والعلاقات الاجتماعية ؛ وأما في الآخرة فالنعيم المقيم.
و هذا الجزء في النص الكريم فيه إشعار للدائنين بأنه إذا ذهب دينهم بالتّوى ١ وعجز المدين عن الوفاء فلا تذهب أنفسهم حسرات، وليعلموا أن التصدق أجدى إن كانوا يعلمون. وذكر سبحانه هذه الجملة السامية :[ إن كنتم تعلمون ] لأن غمرة الألم لفقد الدين قد تنسيهم ما ينبغي في مثل هذه الحال فنبههم إلى ما ينبغي ليكونوا في حال وعي نفسي دائم، ولا ينسيهم المال الحال والمآل.
١ التوى: الهلاك والخسارة – الوسيط..
[ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] ترقبوا وخافوا يوما يردكم الله سبحانه وتعالى إليه فلا تملكون من أموركم شيئا فيه ؛ فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لا تملكون شيئا، وإذا ملكتم المنح والمنع ففي اليوم الآخر لا تملكون شيئا. وفي هذا اليوم [ توفى كل نفس ما كسبت ] أي جزاء ما كسبت إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل [ وهم لا يظلمون ] أي لا ينقصون شيئا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا.
و تمت آيات الربا بهذه الآية ترغيبا وترهيبا، ترغيبا في القرض الحسن، وترهيبا من أكل الربا.
و من الحق علينا أن نختم الكلام في هذه الآيات بكلمات ننقلها عن الأستاذ الإمام محمد عبده، لقد قال رحمه الله :
" يقول كثير من الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية، وأخذوا الشهادات من المدارس، ومن هو أكبر من هؤلاء : إن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب، ومن كان غنيا منهم لا يعطي بالربا، فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو... وهذه أوهام لم تقل عن اختبار ؛ فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، ولو حكموه في هذه المسألة ما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين، فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ".
هذه كلمة الأستاذ الذي تجنى عليه المنحرفون، وقالوا عليه ما لم يقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[ يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه حق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ( ٢٨٢ ) ]
وجه المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أن الآيات كلها موضوعها المال، فالآيات الأولى كانت في بيان الحقوق المتعلقة بالمال، وهي الإنفاق في سبيل الله، وإعطاء السائل والمحروم، وآيات الربا كانت في الحدود المحرمة التي لا يصح لصاحب المال أن يرتع فيها، وهي أكل أموال الناس بالباطل ؛ وهذه الآية في بيان حق صاحب المال إن خرج من يده، وهو الاستيثاق من الوفاء، وذلك بكتابة الدين والإشهاد عليه، ويشمل الإشهاد على المعاملات المالية ذات الأثر الباقي بين المتعاملين.
و ثمة مناسبة خاصة بين هذه الآية وآيات الربا، فإن الربا استغلال آثم غير حلال ويؤدي إلى الأكل لأموال الناس بالباطل ؛ إذ إنه كسب لا يتعرض للخسارة، فهو غنم لا غرم فيه، بل لا تعرض فيه للغرم، وفي آية الديون إشارة إلى طريق كسب الحلال، فإن من الديون ما يكون سلما وهو أن يبيع شخص لآخر شيئا غير حاضر، ولكنه معرف بجنسه ونوعه ووصفه، ويكون التسليم مؤجلا إلى أجل معلوم على أن يقبض البائع الثمن معجلا فيكون البائع مدينا بذلك المبيع المعرف بالأوصاف، فقد ثبت دينا في الذمة، وإن هذا السلم باب حلال من أبواب الاستغلال، فدافع النقود ينتفع لأنه سينتفع من فرق السعر بين العقد وبين التسليم، وفي غالب الأحوال يكون علو السعر متوقعا، وينتفع البائع من أخذ الثمن يستغله في أي باب من أبواب الاستغلال، فالدافع ينتفع مع التعرض للخسارة. وهذا هو الفرق بين الربا والسلم في المعنى.
و ثمة وجه خاص للمناسبة بين هذه الآية وآخر آية الربا، فإن آخر آية الربا [ و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ] وقد بين سبحانه وتعالى طريق الإستيثاق من وفاء الدين وعدم جحوده، وهو كتابته والإشهاد عليه، وإن الدين المؤجل يحتاج دائما إلى الإستيثاق من الوفاء.
[ يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ] التداين معناه : التعامل بالدين، أي أن يستدين بعضهم من بعض على نية الجزاء. والدين يطلق على المال الثابت في الذمة الذي يكون معرفا بالجنس والوصف والنوع، فهو يشمل اقتراض النقود، واقتراض المثليات بشكل عام، كما يشمل الدين الذي يكون مبيعا في باب السلم بل روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في سلم أهل المدينة.
و لقد يرد سؤال : لماذا صرح بقوله [ بدين ] مع أن [ تداينتم ] لا يتحقق معناها إلا في الديون ؟
و لقد أجيب عن ذلك بجوابين :
أحدهما : بأن معنى تداينتم هو تعاملتم، والتعامل يكون بالدين وغيره، فلما ذكرت كلمة [ بدين ] كانت صريحة في أن التعامل كان بالدين. وعندي أن استعمال تداين بمعنى تعامل هو توسع، وإن التفسير الخاص لها هو أن التداين معناه التعامل بالدين، لا مطلق تعامل.
و الجواب الثاني : هو ما أجاب به الزمخشري في الكشاف بقوله :( ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله :( فاكتبوه ) إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال ). ومقتضى هذا الكلام أنه صرح بالدين لأنه موضوع القول لا مجرد التعامل به، وإن هذا التخريج أوجه من قول غيره إن ذكره لمجرد التأكيد، مثل قوله تعالى :[ ولا طائر يطير بجناحيه... ٣٨ ] ( الأنعام ).
و عبر سبحانه وتعالى بتداينتم بدل استدنتم، أو أدنتم، لأن تداينتم تعم الفريقين : الدائن والمدين، فكلاهما متداين : ذلك بالعطاء، وهذا بالأخذ، أما استدنتم فإنها تطلق على المدين فقط، والثانية تطلق على الدائن، والمطالبة بالكتابة موجهة إلى الدائن والمدين معا، فالكتابة ليست حقا للدائن، بل هي واجب عليه، وإن كان الذي يتولاها هو المدين.
و وصف الأجل المسمى، للإشارة إلى وجوب إعلام الأجل، فيذكر الشهر الفلاني، أو إلى وقت الحصاد، ونحو ذلك مما يكون معرفا تعريفا يمنع من الجهالة.
و الدين يشمل دين القرض، ويشمل أثمان المبيعات إذا كانت مؤجلة، ويشمل المبيع في السلم إذا كان الثمن معجلا والمبيع مؤجلا ومعرفا بالوصف والنوع والجنس، فكل هذه ديون مؤجلة إلى آجال مسماة، على خلاف في القرض، فإن الحنفية والشافعية قالوا : إنه لا يصح أن يسمى له أجل، وذلك لأن القرض تبرع، والأجل شرط، والشروط لا تلزم في عقود التبرعات، ولأن القرض عارية، ولا ينقلب مضمونا إلا باستهلاكه على رأي البعض، ولذلك يقول فقهاء هذين المذهبين :
عارية الدراهم والدنانير قرض. ويقول القانونيون في مثل هذا إنه عارية الاستهلاك، أي عارية لا ينتفع بالعين فيها إلا باستهلاكها والتصرف فيها.
و قال المالكية وأكثر الحنابلة : إنه يصح الأجل في القرض وتجب تسميته وتعريفه، لنص هذه الآية، إذ هو دين داخل في عموم الدين في الآية الكريمة، ولأن القرض لا فائدة فيه للمدين إلا إذا كان مؤجلا، فكانت المصلحة في أن يعين الأجل ويتفق عليه بينهما دفعا للمشاحة، ومنعا للنزاع، وإن ذلك الرأي هو الأظهر وهو الذي يشمله عموم النص، وهو الأقرب إلى عرف الناس، والمصلحة فيه.
و الأمر بالكتابة هنا أهو للطلب الملزم الذي لا محيص للمكلف عنه، أم للإرشاد أو الندب ؟ قال جمهور العلماء : إنه للندب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ألزم الدائنين بكتابة ديونهم، ولا المدينين بأن يكتبوها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " ١ ولأن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك :[ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته... ٢٨٣ ] ( البقرة ) وإن ذلك بلا ريب تسويغ لعدم الكتابة، والاعتماد على مجرد الأمانة، فإنه مع الكتابة لا ائتمان، أو لا اعتماد على الأمانة.
و قال الظاهرية : إن الأمر هنا للوجوب، ومن لم يفعل كان آثما، ذلك لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يخرج عن الوجوب إلى غيره إلا بدليل من النصوص، ولم يوجد الدليل، ولأن طلب الكتابة تأكد بطرق عدة، منها النص على الكتابة في الصغير والكبير من الديون بقوله تعالى :[ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ] ومنها النص على أنه الأقسط والأقوم للشهادة، والأدنى للمنع من الارتياب، ومنها التعميم واستثناء صورة واحدة، وهي حال التجارة الدائرة بين التجار، وقصر نفي الإثم عليها دون غيرها، فإنه إذا كان نفي الإثم مقصورا على هذه فمعنى ذلك أن الإثم ثابت في غيرها، وإن الائتمان لا يتنافى مع الكتابة، بل إنه مع الكتابة الائتمان قائم، على أن قوله تعالى :[ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته... ٢٨٣ ] ( البقرة ) سيق في حال السفر عند تعذر الكتابة.
هذا وإن تصدير الآية الكريمة بالنداء [ يأيها الذين آمنوا ] يشير إلى أمرين :
أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم، وتشعروا بمراقبة ربكم، لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعا، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب.
الأمر الثاني : أن الإسلام ليست أوامره مقصورة على العبادات، بل جاء لتنظيم المعاملات، بل إن العبادات فيه طريق لإصلاح التعامل الإنساني، وكذلك كل الأديان السماوية، فإنه من الجهل الادعاء بأن الأديان جاءت لتنظيم العلاقة بين العبد والرب فقط، ولا تتدخل في العلاقة بين الإنسان والإنسان.
[ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ] في النص السابق أمر بالكتابة وحث عليها، وفي هذا النص يبين الكاتب ؛ فبين أن الذي يكتب شخص يجيد الكتابة، وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على علم بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من المشروط سائغا في الشرع وما يكون غير سائغ، وقيد كتبته بأن تكون بالعدل بألا يزيد ولا ينقص في الدين الذي يكتبه، ولا يقيد أحد العاقدين بشروط شديدة، ويحل الآخر من كل القيود والشروط، بل يكون مراعيا العدل في كتابة أصل الدين، ومراعيا العدل في الالتزامات بين الفريقين، ثم إن العدل يتقاضى مع هذين أيضا أن يكون الكاتب خبيرا بمعاملات الناس، وما يقع بينهم، وما يمكن تنفيذه من الشروط وما لا يمكن.
و هكذا فالكاتب الذي يتولى ميزان العدل بين العاقدين يمنعهما من الشطط، ويمنعهما من التجانف لإثم. وقد ذكر في النص السامي بوصف " كاتب " للدلالة على مهارته في الكتابة، وكونها له كالملكة.
[ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب ] هذا نهي لمن كان قادرا على الكتابة من أن يمتنع عن الكتابة، فلا يصح لمن يحسن الكتابة من حيث جودة الخط واستبانته، ومن حيث العلم بفقه العقود، والقدرة على تحقيق العدالة بين العاقدين في وثيقة العقد، لا يصح له أن يمتنع عن الكتابة إذا دعي إليها، وإنه ليأثم إن تعين للكتابة ولم يوجد موثوق به فيها سواه، وامتنع عن الكتابة، ولقد قال الفقهاء : إن الكتابة فرض كفاية بمعنى أنه إذا امتنع كتاب أهل القرية عن الكتابة أثموا، بل إنه يجب على أهل كل قرية أن يخصصوا ناسا لكتابة الوثائق فيها.
و إنه على هذا يجب أن تعمل الدولة على تهيئة ناس لتوثيق العقود وكتابتها.
و إن الكتابة لطلابها من التعاون على البر والتقوى، فهي صناعة، وهي علم، وواجب على الصانع أن يعين من لا يحسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن من الصدقة أن تعين صانعا، أو تصنع لأخرق " ٢ والامتناع عن الكتابة ككتمان العلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ٣.
و قوله تعالى :( كما علمه الله فليكتب ) فيه بحثان لغويان :
أولهما : في التشبيه بالكاف في قوله :[ كما علمه الله ] ما المعنى الذي يفيده ؟ ذكر الزمخشري أن معناه إما أن يكون تشبيها بين علم الكتابة والواجب على الكاتب، أي أنه كما أن الله علمه الكتابة ويسرها له، وجعله أهل خبرة، عليه واجب المعاونة بالكتابة لغيره، فالتشبيه تشبيه بين نعمة الكتابة، والواجب المتعلق بها، فما من نعمة إلا وتتولد عنها واجبات مساوية لها، فنعمة الكتابة يقابلها ويشابهها ويماثلها واجب معاونة غيره بها، وهو بقدرها، ويأثم عند الترك بمقدار علمه.
هذا أحد وجهي التشبيه، أما الوجه الآخر، فهو أن التماثل بين ما كتب على القرطاس وما آتاه الله الكاتب من فقه وعلم بالعقود والالتزامات، والمعنى على ذلك، لتكن كتابة وثيقة الدين على مقتضى العلم والفقه الذي فقه الله به الكاتب، أي تكون الكتابة على مقتضى أحكام الشرع، فلا تكون فيها شروط ليست في كتاب الله، أو لا يسوغها الشرع، أو لا يمكن تنف
١ رواه البخاري: الصوم – قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نكتب " (١٧٨٠ )، ومسلم: الصيام – وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (١٨٠٦ )..
٢ رواه مسلم : الإيمان – كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال ( ١١٩ )، و البخاري : العتق – أي الرقاب أفضل ( ٢٣٣٤ ) غير أن روايته بلفظ :" ضايعا " بدلا من :" صانعا "..
٣ رواه بهذا اللفظ أحمد ( ١٠٠٨٢ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
.

وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ( ٢٨٣ )
في الآية السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الكتابة، عند من يقول : إن الأمر للوجوب، أو وصى سبحانه وتعالى بالكتابة وأرشد إليها، وفي هذه الآية يبين سبحانه حال الترخص من الكتابة، وهي الحال التي لا تكون الكتابة فيها ممكنة، إذ يكون المتداينان على سفر، ولا يوجد كاتب، فإنه في هذه الحال يترخص في عدم الكتابة، ويعوض عن الكتابة والشهادة في الاستيثاق بالرهن، وإن لم يكن رهن فإنه يكون الاعتماد على الأمانة المطلقة حيث تعذر الاستيثاق بالأمور المادية، وهي : الكتابة والشهادة عليها، ثم الرهان المقبوضة، فيقوم مقام هذه الأمور الأمانة والذمة.
[ و إن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا فرهان مقبوضة ] الرهان : جمع رهن بمعنى مرهون، فرهن ليس معناه المصدر، بل معناه العين المرهونة، وقرئ ( فرهن مقبوضة ). وقد خرج بعضهم هذه القراءة على أن ( رهن ) جمع رهان بمعنى رهن. وخرجه بعضهم على أنه جمع رهن كسقف وسقف، وفرش فُرش، وحلق حُلُق، وهكذا. وقرئ بدل [ ولم تجدوا كاتبا ] :( ولم تجدوا كتابا ).
و المعنى فيما يظهر : إذا كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب، أو قرطاسا يكتب فيه، أو لم تتيسر أسباب الكتابة لأي سبب من الأسباب، فإنه يقوم مقام الكتابة رهن يستوثق به في أداء الدين، وإنه لا يقوم مقام الكتابة فقط بل يقوم أيضا مقام الشهادة.
و هنا إشارتان بيانيتان ويجب التنبيه عليهما :
أولهما : أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن المسافر في حال بيان الرخصة التي ترخص له بسبب السفر بقوله تعالى :[ على سفر ] وقد عبر سبحانه بذلك في حال رخصة الإفطار، ورخصة ترك الكتابة، ورخصة التيمم عند عدم وجود الماء، وذلك لأن معنى [ على سفر ] يتضمن معنى الركوب، أي راكبين فوق سفر ؛ وذلك يشير إلى اضطراب الحال والقلق والانزعاج، فليست الحال حال استقرار، إذ من كان مركبه سفرا وانتقالا مستمرا، فهو غير مستقر ولا مطمئن. وتلك الإشارة تتناسب مع الترخيص في الإفطار، والترخيص في ترك الكتابة، والترخيص في التيمم.
ثانيهما : أن في الآية قراءتين متواترتين كما بينا، إحداهما :[ ولم تجدوا كاتبا ] والأخرى ( ولم تجدوا كتابا ) وإذا كانت القراءتان متواترتين فكلاهما قرآن مقروء مفهوم بمعناها، ومجموع القراءتين يؤدي معنى تتضافران في أدائه، وهو أنه في حال السفر يقوم الرهن مقام الكتابة والشهادة إذا لم يوجد كاتب، أو وجد الكاتب ولم يوجد الكتاب، أو أي أداة من أدوات الكتابة.
و الفقهاء في ظل هذا النص الكريم يتكلمون في مسائل فقهية، ويقتبسون معانيها من إشاراته وعباراته، وإنا نوجز المسائل التي يتكلمون فيها في ثلاث :
أولها : إن الذين يقولون : إن الأمر في الكتابة والاستشهاد على الدين للوجوب يقول بعضهم : إن الترخيص في الرهن بدل الكتابة والشهادة إنما يكون في حال السفر، وكل حال يتحقق فيها المعنى المسوغ للترخيص في السفر، وهو عدم وجود الكاتب الذي يكتب، أو الأداة التي يكتب بها، أو القرطاس الذي يكتب عليه، ولو كان في حضر لا في سفر ؛ لأن المعنى، وهو تعذر أو تعسر وجود الكاتب أو ما يكتب به، يتحقق في هذه الحال كما يتحقق في السفر، ولكن ذكر السفر ؛ لأنه مظنة لذلك التعذر، وهو فيه كثير عند العرب لغلبة الأمية عندهم، أما في الحضر فذلك نادر، وإن وجد فإنه يطبق عليه حكم السفر. وبعض هؤلاء الذين قالوا إن الكتابة واجبة والشهادة عليها مثلها قالوا : إن الترخص مقيد بالسفر، ولا ترخص بغير الكتابة في الحضر. وكأنهم بهذا يرون أن من الضروري أن يكون في كل قرية أو حي كاتب وأدوات كتابة، وأن على أهل هذه القرية أن يهيئوا الأسباب لذلك ؛ لأنه فرض كفاية إن تركه الجميع أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن كلهم.
الثانية : أن الرهن يقوم مقام الشهادة والكتابة في الاستيثاق من أداء الدين، ولذلك فإن المعقول أن يكون قريبا من الدين في قيمته. وقد استنبط مالك رضي الله عنه من هذا أنه إذا اختلف الدائن والمدين في مقدار دين موثق برهن ولم يكن للدائن بينة تثبت مقداره فإنه لا توجه اليمين إلى المدين، بل يحكم الرهن ؛ فما يشهد له الرهن يكون القول قوله ؛ فإن كان مثل ما يقول المدين أو أقل فالقول قول المدين، وإن كان مثل ما يقول الدائن أو أكثر فالقول قول الدائن، وقال أبو حنيفة والشافعي : إن اليمين في كل الأحوال على المدين ما لم تكن بينة للمدعي. وحجة مالك أن الرهن قائم مقام الشهادة والكتابة فهو شهادة وكتابة معا، فما يشهد به يكون الحكم على مقتضاه.
الثالثة : قوله تعالى [ فرهان مقبوضة ] فقد أخذ بنص الآية الكريمة أبو حنيفة وأصحابه، وقرروا أن الرهن لا يتم إلا بالقبض فإن لم يكن قبض لا يتم، فإذا افترق العاقدان من غير قبض فالرهن غير صحيح. وقال مالك رضي الله عنه : إن الرهن يتم من غير القبض، ولكن القبض حكم من أحكامه، فمن حق المرتهن وهو الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة، فالقبض حكم للعقد، وليس ركنا من أركانه، ولا شرطا لتمامه. وقال الشافعي : إن الرهن يتم من غير حاجة إلى القبض، وإنما الرهن الاستيثاق من الوفاء بالدين، ووصف " مقبوضة " جرى مجرى العرف، وليس وصفا له مفهوم يعطى تخلفه غير حكمه، بل يكون الرهن مقبوضا أو يكون غير مقبوض، وأثره في حال عدم القبض أن يتعلق حق الدائن بالعين بحيث يمنع صاحب العين من التصرف فيها حتى يستوفى الدين، وأنه إذا حل الأجل من غير أن يوفى المدين فإنه تباع العين في سبيل أداء الدين. وكأنه في المذهب الشافعي كما هو في القانون المدني المصري الرهن ينقسم إلى قسمين : رهن حيازة، وهو الذي يتم فيه القبض، ويكون أكثر ما يكون في المنقول، ورهن تأميني، وهو الذي يستمر تحت يد المدين، ولكن يؤمن به الدين ويوثق، وهو أكثر ما يكون في العقار.
[ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ] هذا تدرج حكيم، الكتابة في الديون والإشهاد عليها مطلوبان، فإن تعذرت الكتابة والشهادة فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض، ولكن إذا كان طالب الدين ليس عنده رهن يوثق به الدين، وهما في سفر ولا كاتب ولا شاهد أيمتنع القرض ويكون الحرج على المدين، وقد يكون في ضرورة للاستدانة وهو مليء في دياره يستطيع الأداء عند عودته ؟ إنه لم يبق إذن إلا الاعتماد على أمانته، وهذا هو الذي يتبين في ذلك النص الكريم، والمعنى : إذا أمن الدائن المدين، واعتمد على ذمته ومقدار أمانته، فليؤد الدين في ميعاده ؛ لأنه أمانة في عنقه، ولأن الدائن اعتمد على حسن أدائه وعلى مقدار ما عنده من أمانة، فلا يضيع رجاء الخير فيه ؛ ولأن الله سبحانه عليم بما في الصدور، فليتق الله ربه. وإذا كان النص الكريم قد جاء في مساق الدين وتوثيقه، فإن اللفظ عام يعم وجوب أداء الأمانات كلها سواء أكانت ديونا في الذمة، أم كانت ودائع مقبوضة، أم كانت أمانات مرسلة حمل المؤتمن أداءها.
و في النص الكريم عدة إشارات بيانية، تتضافر في مجموعها، وتؤكد وجوب أداء الأمانة.
أولها : في قوله تعالى :[ فإن أمن بعضكم بعضا ] فإن التعبير ب " أمن " بدل أعطى أو أودع، إشارة إلى الجانب الذي اعتمد عليه وهو خلق الأمانة في صاحبه، فهو لا يرى فيه إلا جانبا مأمونا لا يتوقع منه شرا من جحود أو خيانة.
ثانيها : ذكر الظاهر بدل الضمير في قوله تعالى :[ فليؤد الذي اؤتمن ] فإن التعبير بالموصول هنا يشير إلى علة وجوب الأداء، أو إلى توثيق الأداء ؛ لأنه ائتمنه، فحق عليه أن يؤدي الأمانة.
ثالثها : في إضافة الأمانة في قوله تعالى :[ أمانته ] فإن الأمانة هي في الواقع للدائن أو المعطي من حيث إنه مالك للدين وللوديعة ونحوها، ولكن أضيفت إلى المدين من حيث إنها عبء عليه يجب أن يؤدى، وبأدائه يزيل ما عليه من عبء فإن الأمانة عبء ثقيل لمن عرف حقها.
رابعها : قوله تعالى :[ وليتق الله ربه ] فإذا كان صاحب الحق لم يوثق حقه بكتاب أو شهادة أو رهن، فإن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدلها وثيقة. وقوله تعالى :[ وليتق الله ربه ] فيه طلب للتقوى مؤكد بالأمر، وبالتعبير بلفظ الجلالة الذي يربي ذكر المهابة في النفس، إذ يحس القارئ بعظمة الخالق وجبروته وألوهيته، ومؤكد أيضا بالتعبير بربه ؛ إذ فيه إشارة إلى أنه خالقه وبارئه ومربيه، والمهيمن الدائم عليه.
[ ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ] بين سبحانه في النص السابق وجوب أداء الأمانة عامة ؛ ولأن الكلام في الديون وطرق توثيقها كانت دالة على وجوب أداء الأمانة في الديون خاصة. وفي هذا النص الكريم يبين نوعا من الأمانات يجب أداؤه، وأداؤه أشد وجوبا، وأغلظ تكليفا، وهو أمانة الشهادة، فإن العلم بصاحب الحق أمانة في عنق العالم به يجب عليه أداؤها عند طلب ذلك منه أمام القضاء ؛ وإن هذه الأمانة كانت أغلظ الأمانات لأنها تناط بها الحقوق، وانتظام المعاملات، وقيام المجتمع على أساس من الثقة وتبادل المنافع، ولهذا قال تعالى :[ ولا تكتموا الشهادة ] وكتمان الشهادة ألا يقول ما عاين، بأن يمتنع عن الذهاب إلى مجلس القضاء مطلقا، أو يذهب ويقول لا أعلم، فإن ذلك فوق أنه كتمان كذب، أو يقول بعض ما يعلم. والأداء أن يقول كل ما يعلم حيث طلب إليه أن يقول، ولا يترك شيئا مما يعلمه متصلا بموضوع الشهادة.
و قد وصف الله سبحانه من يكتم الشهادة بالإثم، وأسند الإثم إلى القلب، فقال سبحانه :[ ومن يكتمها فإن آثم قلبه ] وقد أسند الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، وهذا من قبيل المجاز، وهو تعبير عن الكل باسم الجزء ؛ لأن لذلك الجزء مزيد اختصاص في موضع الحكم ؛ لأن الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح ؛ ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ولو كان الإثم من عمل الجوارح، فهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسم كله، وإذا فسدت فسد الجسم كله. ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى : " كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه ؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ؛ ألا تراك إذا أردت التوكيد تقول : هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي ؟ ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ؛ فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان، وليعلم أن القلب أصل متعلقه، ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه ؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تشع منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب ؛ فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب ".
و هنا يسأل سائل : إن ما يهم به القلب لا يحاسب عليه الشخص، ألا ترى أن من هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء، فكيف يكون إثم في عدم أداء الشهادة، وهي ليست إلا عملا قلبيا لا أثر له في الجوارح ؟ والجواب عن ذلك : أن أعمال القلب ليست معفاة من الإثم دا
[ لله ما في السماوات وما في الأرض ] في هذه الجملة السامية بيان لشمول ملك الله سبحانه وتعالى، وفي ذكر هذا الشمول بعد الآيات التي بينت أحكام الأموال ببيان مصارف البر، ومواضع التحريم، وطرق التعامل، وما يوجد الثقة، إشارة إلى معان عامة وخاصة :
أما العامة فهي بيان أن ما في يد الإنسان عارية مستردة، وأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فلا يغتر ذو مال بماله، ولا تذهب به النهمة إلى طلبه من غير حلال، فإن يده زائلة عنه لا محالة، وعليه أن يجمل في الطلب، وأن ينتهز فرصة وجود المال بين يديه ليكثر من البر وفعل الخير، فهو الباقي والدائم، وأنه سبحانه وتعالى المسيطر على كل شيء المعطي الوهاب، فهو الذي أعطى ذا المال وبسط له الرزق، وهو الذي قدر رزق الفقير، فليس لغني أن يعتز بغناه، ولا ذي فقر أن يذل لفقره، فالعزة لله وحده، والخضوع له وحده ؛ وإنه سبحانه إذا كان المالك لكل ما في السماوات والأرض، فله وحده العقاب والثواب، وليس لأحد من عباده إلا ما ينعم به عليه من نعم.
و أما الإشارة إلى المعنى الخاص، فهو أنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية السابقة أنه عليم بكل ما يعملون، وإن من أسباب هذا العلم الدقيق أنه مالك لكل ما في السماوات والأرض، لأنه خالق ما في السماوات والأرض [ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ١٤ ] ( الملك ) وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بكل ما يعمله الناس، ومالكا لكل ما في السماوات وما في الأرض فإنه سبحانه وتعالى يحاسب على كل ما يفعله الإنسان سواء أكان من حركات النفس أم كان من حركات الجوارح، ولذا قال سبحانه :
[ إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ] في هذا النص الكريم يبين سبحانه أنه يعلم السر والعلن، ما ظهر وما بطن، وأنه يعلم حركات النفس وما تصر عليه وما تعزمه من فعل، سواء أعلنته أم لم تعلنه، وإن هذا النص كما يفيد علم الله بما ظهر وما بطن من أعمال النفوس، يفيد بصريحه أنه يحاسب الإنسان على النيات وما تكسبه القلوب، سواء أأخفاه الشخص أم أظهره، فما تكسبه القلوب موضع مؤاخذة بهذا النص، وقد قال تعالى :[ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم... ٢٢٥ ] ( البقرة ) ولكن قد اعترض على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به " ١.
و لقد ادعى بعضهم لهذا الحديث أن الآية منسوخة ؛ لأن حديث النفس لا يمكن التخلص منه، وأنها نسخت بقوله تعالى :[ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... ٢٨٦ ] ( البقرة ) ولكن ذلك القول غير مقبول ؛ لأنه لا تعارض بين الآيتين، حتى تنسخ إحداهما الأخرى، كما أنه لا تعارض بين الآية والحديث الشريف ؛ لأن حديث النفس ليس هو ما تكسبه النفس، ويعزمه القلب، وينويه الشخص ويصر عليه، وإنما هو تلك الخواطر النفسية التي تعرض للإنسان فتوجهه نحو الهوى والشهوة، فإن سار وراءها حتى اعتزمها وأرادها وأصر عليها، ولكن عاقه عائق عن تنفيذها، لا يكون حديث النفس، بل يكون كسب النفس، ولكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، فالمرتبة الأولى وهي تلك الخواطر ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها موضع ثواب ؛ لأنه جهاد النفس، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما ورد في الأثر " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ٢ ويقصد به جهاد النفس، إنما موضع المؤاخذة الإصرار بعد الخواطر.
و على ذلك، نقول : إن موضع التجاوز هو حديث النفس، وموضع الحساب هو الإصرار والنيات، والاتجاه القلبي إلى الأذى والانتقام وقد بينا ذلك من قبل.
[ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ] وإن هذه نتيجة الحساب، فيستر الله سبحانه وتعالى ذنوب من يشاء ويعفو عنه، وإنه ليعفو عن كثير كما ذكر سبحانه، ويعذب من يشاء جزاء ما اقترف من آثام، وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى لا قيد يقيدها، ولا شيء يحدها، ولكنه سبحانه يغفر لمن سار في طريق الهداية، ولم تركس نفسه في المعاصي، ولم تحط به خطاياه حتى تستغرق نفسه، وتستولي على حسه، ويغلب عليه حب الخير ؛ وهذا معنى قوله تعالى :[ إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ] ( هود ). أما من استولت عليه الشهوات، وأحاطت به الخطايا، وغلب عليه الشر والأذى، ولم يكن منه الخير إلا لماما، فإن الله محاسبه بما كان ؛ لأنه لا حسنات تذهب بالسيئات، والله سبحانه وتعالى هو المالك للإنسان وما يصنع الإنسان، فلا قيد يقيد إرادته تبارك وتعالى.
[ والله على كل شيء قدير ] هذا ختام الآية الكريمة، وهو في بيان شمول قدرة الله تعالى وعموم إرادته سبحانه، فهو القادر على الثواب والعقاب، وهو القاهر فوق عباده، ولا سلطان فوق سلطانه، وهو الذي يلهم التوفيق لمن كتب له التوفيق، وهو الذي يترك من يقع في غواية الشيطان، وهو الذي يسهل التوبة لمن يتوب، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، فالإنسان وما يملك، وخواطره، وهواجسه، وأحاسيسه، ونياته، واعتزاماته ؛ كل ذلك تحت سلطان القادر، وقوة القاهر.
اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين الخاضعين، الراضين بقضائك وقدرك، إنك أنت العزيز الحكيم.
١ رواه مسلم: الإيمان – تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب ( ١٨١ )، بهذا اللفظ، والبخاري: الأيمان والنذور – إذا حدث ناسيا في الأيمان ( ٦١٧١ )..
٢ كشف الخفاء ج ١ ص ٥١١ ( طبع مكتبة التراث الإسلامي تحقيق أحمد القراش )..
[ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( ٢٨٥ ) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ( ٢٨٦ ) ].
بهاتين الآيتين الكريمتين ختمت هذه السورة، وهي أطول سورة في القرآن، وفيها لب الإسلام، ومغزاه ومرماه، فيها بيان أخلاق الناس، واختلاف تلقيهم للحق الذي يدعون إليه، فمن مؤمن يذعن للحق بقلبه وجوارحه، ومن منافق يظهر الإذعان ويبطن الكفر، ومن معاند مشرك بالله يعرض عن الحق، وقد لاحت بيناته، وأضاءت الوجود آياته. ثم بينت أصل الخليقة، وبها تبيين الطبائع الإنسانية والطبائع الإبليسية، والإخلاص الملائكي ثم ضرب سبحانه الأمثال وقص سبحانه قصص النبيين : موسى وإبراهيم وإسماعيل، وبني إسرائيل، وفيهم يتمثل الإيمان أحيانا، والطبائع الإنسانية يتسلط عليها الشيطان في أكثر الأحيان، ويتمثل الطبع الإنساني في قوته وضعفه. ثم ذكر سبحانه أحكاما للجماعة في القتال، وفي السلام، في الأسرة وفي المجتمع، وفي التعاون بين الآحاد بالإنفاق في سبيل الخير وإعلاء كلمة الحق والفضيلة، ثم في الأسباب المفرقة للجماعات كالربا، ثم في المعاملات الفاضلة التي تحفظ فيها الثقة المتبادلة بين آحاد الجماعات الإسلامية.
بين سبحانه وتعالى ذلك، ثم ختم السورة ببيان أمرين :
أحدهما : أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي امتداد للرسالات السابقة كلها، وأن لب الدين واحد في كل الرسالات الإلهية.
و ثانيهما : بيان أن كل التكليفات الدينية يسر لا عسر فيها، وأنها تهذيب روحي وتعاون اجتماعي. وقد بينت الآية الأولى من الآيتين الكريمتين الأمر الأول وبينت الثانية الأمر الثاني ولنبتدئ بالكلام فيما اشتملت عليه الآية الأولى :
[ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ] وفي هذا الجزء من الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الأصل الأول من أصول الإيمان، وهو الإيمان بما جاء به وما نزل عليه، فهو صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه من ربه صلى الله عليه وسلم، الذي أنشأه ونماه وكمله، وخصه بالخصال التي تؤهله للرسالة، وتعده للنبوة :[ الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ] ( الأنعام ).
و الإيمان بما أنزل الله يشمل الإيمان بالتوحيد المطلق للذات العلية وبكل ما اشتمل عليه القرآن من غيبيات، والإيمان بكل ما اشتمل عليه القرآن من تكليفات على أنها من عند الله اللطيف الخبير، سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بالمعاملات، فيؤمن النبي ومعه كل المؤمنين الصادقي الإيمان بأن الله حرم الربا، كما حرم الشرك، وكما حرم الاعتداء على النفس والمال، وحرم الزنا، كما حرم الخمر والخنزير وأكل الميتة، وأمر بالزكاة كما أمر بالصلاة، وأمر بإقامة الحدود كما أمر بالحج، فالإيمان بما أنزل الله إيمان بكل ما اشتمل عليه الوحي المحمدي. ومن قال إن منه ما يناسب عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يناسب عصرنا فهو لم يؤمن بما أنزل إليه من ربه، ولم يكن من المؤمنين الذين اقترن إيمانهم بإيمانه صلى الله عليه وسلم.
و نشير هنا إلى معنى سام تفضل به الله على المؤمنين، وهو أنه قرن إيمان المؤمنين بإيمان النبي صلى الله عليه وسلم وجمعهما في نسبة واحدة، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يصدقون في إيمانهم بما أنزل الله يقاربون في منزلتهم منزلة النبيين. وفي تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع، وإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من يؤمن بما أوحي إليه، وأنه أقوى الناس إيمانا بوجوب طاعة الله، وأنه أول من أطاع الله، فكانت نبوته صلى الله عليه وسلم تصديقا منه وطاعة.
[ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ] بهذا النص الكريم يبين سبحانه معنى الإيمان الجامع من حيث الاعتقاد، وذلك الإيمان يتضمن الإيمان بالله تعالى أولا، ثم بملائكته، وهم وسائط التبليغ لمن يختارهم لرسالته من خلقه، ثم بكتبه، وهي سجل شرائعه التي تنزل من السماء، ورسله، وهم المصطفون الأخيار من البشر الذين اختيروا لتبليغ ما اشتملت عليه الكتب. فهذا تدرج قويم، فابتدأ بالإيمان بالله المنعم بكل شيء في هذا الوجود، ثم ثنى بالملائكة الأطهار وهم غيب لا يرى ولا نعرف شيئا عنهم إلا بالإخبار منه سبحانه، وهو الذي أمرنا بالإيمان بهم، فالإيمان بهم نوع من الإيمان بالله سبحانه. وكذلك الكتب والرسل.
و قد يقال : لماذا ذكر الإيمان بهؤلاء بجوار الإيمان بالله تعالى ؟ والجواب عن ذلك أن بعض المنحرفين من أهل الأديان السابقين كانوا يذكرون بغير الخير وبالعداوة بعض الملائكة كجبريل الأمين، فبين سبحانه أن الملائكة جميعا من غير استثناء يجب الإيمان بهم، والإذعان لكل ما ينزلون به من رسالات ربهم، وكذلك الكتب السابقة، والنبيون السابقون، فمن بني إسرائيل من قتلوا بعض النبيين، وكفروا ببعضهم وحرضوا على قتله، فبين سبحانه وجوب الإيمان بكل الرسل من غير استثناء ؛ لأنهم المبلغون للناس رسالات الله، وفوق ذلك فإن هذا الذكر المفصل يفيد اشتراك المؤمنين جميعا في عناصر الإيمان، وأن الإسلام امتداد لسائر الأديان المنزلة، وهو الخطوة الأخيرة في شرائع السماء إلى الأرض، وأن من يؤمن بالإسلام يؤمن بكل الأديان والشرائع التي أنزلت على الرسل غير محرفة ولا مبدلة، فهو دين الوحدة الإنسانية، كما هو دين التوحيد الإلهي. والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوحدانيته تعالى في الذات، فليس لله سبحانه وتعالى مشابه له من الحوادث [ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ١١ ] ( الشورى ) وبوحدانية الله في الخلق والتكوين، فهو سبحانه الخالق لكل شيء، وليس لأحد مهما يكن شركة لله سبحانه في الخلق والتكوين، ووحدانية العبودية، فلا يعبد مع الله أحدا ؛ لأنه المنعم بهذا الوجود، وليس أحد يستحق معه العبادة ؛ إذ لا يماثله أحد، تعالى الله عما يقوله المشركون علوا كبيرا.
و هنا ملاحظة لفظية يجب أن نشير إليها، وهي لفظ " كل " وعدم إضافته، إذ قال سبحانه :[ كل آمن بالله ] و" كل " سواء أضيفت باللفظ أم لم تضف، على نية الإضافة، فالمعنى : كل فريق من هذين الفريقين، والرسول والمؤمنون وذكر كل على هذا فيه إشارة إلى مرتبة النبيين، وأنها أعلى من مرتبة المؤمنين ولو كانوا صادقين، وإن جمعهما المولى القدير في نسبة واحدة، تعالت كلمات الله سبحانه.
[ لا نفرق بين أحد من رسله ] هذا التفات في القول، وهو منهاج بلاغي، فبعد أن كان الكلام بصيغة الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، صار بصيغة المتحدثين عن أنفسهم هم، وهي أن حالهم في هذا الإيمان أنهم لا يفرقون بين رسول ورسول، فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، وهناك قراءة أخرى، وهي :( لا يفرق بين أحد من رسله ) والضمير في الفعل " يفرق " يعود في هذه القراءة على " كل " ولفظ " كل " مفرد، فيعود الضمير عليه مفردا وإن كان معناه جمعا، وقد يعود الضمير جمعا ملاحظا في ذلك المعنى لا اللفظ. ومعنى هذه الجملة السامية هو تصريح بما تضمنه ما قبلها ؛ لأن ما قبلها تضمن أنهم يؤمنون بكل الرسل، ومقتضى ذلك أنهم لا يفرقون في الإيمان بهم وكونهم مبعوثين من عند الله بين رسول ورسول، وعدم التفرقة لا صلة لها بالتفضيل بالدرجات ؛ لأن ذلك من فضل الله إذ يقول :[ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... ٢٥٣ ] ( البقرة )، ولأن موضوع التفرقة وعدم التفرقة هو في الإيمان.
[ وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ] في هذه الجمل السامية يبين سبحانه وتعالى خواص الإيمان التي لا تفارقه إلا إذا اعتراه نقص، وبمقدار نقصها يتخلف المؤمن عن مراتب الكمال، ودرجات الفوز.
و أول خاصة من خواص الإيمان، ومظهر من مظاهره، الاستماع لما يدعو إليه استماع متعرف طالب لحقيقته متقص لغاياته، متجرد من الأهواء والشهوات، حتى إذا عرف الحق في الشرع سائغا أطاعه غير متململ، وصبر على تكليفه غير متضجر، فمن طلب الدين مؤولا نصوصه على غير وجهها خضوعا لأهواء زمانه، أو خضوعا لهواه، فهو غير مستمع ولا طائع، نعوذ بالله العزيز الحكيم.
و الخاصة الثانية – أن يحس المؤمن بالتقصير مهما يكن مؤديا لواجب الطاعة، فإن ذلك الإحساس يرهف الوجدان، ويجعله على مخافة من الزلل، فيتجنب الشطط، ويلتزم الاعتدال، ولذلك قال في هذه الخاصة رب النفوس ومقلب القلوب :[ غفرانك ربنا ] أي أنهم لفرط إحساسهم وخشية التقصير، لأن هذا الدين متين، يضرعون إلى الله دائما طالبين المغفرة، ويقولون :[ غفرانك ربنا ] أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من مقتضى رحمتك ونعمك التي تفيض علينا دائما، وأنت ربنا الذي خلقنا وربانا ونمانا، والعليم بأحوالنا.
و إن هذا هو مقام الخوف الذي يجب أن يغلبه المؤمن، ولذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يقول :" إني أخشاكم لله " ١ ومقام الخوف من قوة الإيمان، والغرور من ضعف الإيمان، فلا يليق بمؤمن أن يغتر بعبادته، فإن هذا ينقصها أو دليل على نقصها، ويقول الصوفية : إن معصية أورثت ذلا واستخذاء خير من طاعة أورثت عزا وافتخارا.
و الخاصة الثالثة – التفويض إلى الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ولذا قال تعالى عنهم :[ وإليك المصير ] وإن هذا مقام التفويض والإيمان بالقدر خيره وشره، وهو مع ذلك يتضمن الإيمان باليوم الآخر، فالمؤمن الحق يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويذعن للحق ويعمل به غير مغتر بعمله، بل يرجو عفو ربه وغفرانه، ثم يفوض أموره إلى ربه، عالما بأن المآل إليه ومصيره عنده سبحانه وتعالى.
١ روى البخاري : الإيمان – أنا أعلمكم ( ١٩ )..
[ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ] قال الزمخشري في تفسيره :" الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى :[ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر... ١٨٥ ] ( البقرة ) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة "، وهذا الكلام يستفاد منه أن الوسع غير الطاقة، فالطاقة هي غاية المجهود وأقصاه، وما يفعله الإنسان قادرا عليه ولكن في تعب وجهد، والوسع ما يكون في الإمكان، ولكن تكون بعد الأداء سعة من قدرة على أداء غيره، ولكن لا يؤدي الزيادة إلا بجهد. ولا يفهم من هذا أن تكليف الوسع لا تكون فيه مشقة قط، بل إن كل تكليف هو أمر بما فيه كلفة، وهي المشقة، وعلى ذلك تكون التكليفات الشرعية لها ثلاث خواص ملازمة : وهي أن فيها مشقة محتملة، وأنها تكون في الوسع والقدرة، من غير حرج ولا ضيق، وأنها تكون من غير مجهود شديد يكون أقصى الطاقة. تلك هي خواص تكليف الله تعالى لكل نفس كما تدل عليه الجملة السامية.
[ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ] هذه الجملة السامية تبين أن كل تكليف قد اقترن بجزائه، وأن كل امرئ سيجزى على الخير خيرا، وعلى الشر شرا. وما تضمنه ذلك النص الكريم هو نتيجة لما تضمنه النص السابق ؛ لأن النص السابق أفاد أن ثمة تكليفا، ولا ينتج التكليف نتائجه إلا إذا كان ثمة جزاء، والنص السابق أيضا أفاد أن الله لا يكلف إلا بما يكون في القدرة من غير إرهاق، بل بإرادة حرة ويسر لا عسر فيه. وذلك أساس للقيام بالتكليف بإرادة حرة، ومقدرة غير مرهقة، وذلك يوجب الجزاء العادل.
و قد اتفق العلماء على أن قوله تعالى :[ لها ما كسبت ] المراد بها الحسنات التي يثيب الله عليها، وقوله تعالى :[ وعليها ما اكتسبت ] المراد بها السيئات التي يعاقب الله تعالى عليها. وقد أخذوا هذا من النص باللام في الجملة الأولى، والنص بعلى في الجملة الثانية، فإن التعبير باللام التي تفيد الملكية المفيدة في مقابل على التي تفيد التحميل، وضع الشيء على الشخص، يجعل الأولى مفيدة للجزاء ثوابا، والثانية مفيدة للجزاء عقابا، وإذا لم يكن ذلك التقابل، فإنه يعبر باللام في موضع الثواب والعقاب ؛ فيقول سبحانه :[ ولهم عذاب أليم... ١٠ ] ( البقرة ) و[ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار... ٢٥ ] ( البقرة ) إذ لا قرينة تدل على الملكية المفيدة، فتكون اللام لمطلق الاختصاص.
و هنا سؤال لفظي : لماذا عبر سبحانه عن هذا الخير بقوله :[ لها ما كسبت ] وعن الشر ب [ اكتسبت ] مع أن الكسب يكون للخير وللشر كما في قوله تعالى :[ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها... ٢٧ ] ( يونس ) ؟ وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بقوله :" في الاكتساب اعتمال ؛ فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه " وهذا التعليل قد يشير إلى أن الشر الكبير الذي تعتمله النفس وتجد فيه، وتلح وتستمر عليه، هو موضع المؤاخذة، والضئيل قد يكون موضع العفو، أي ما تفعله النفس من خير فكله موضع ثواب، قل أو جل، وذلك معنى صحيح.
و لكن هناك تعليلا آخر نراه، وهو أن التعبير باكتسب يفيد معنى الاعتمال، وهو ما يفعله الإنسان غير منساق إليه، والطبيعة الإنسانية تنحو نحو الخير، والشر ضد الفطرة وضد الوجدان والضمير، ومن يفعله يغالب فطرته ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يذوق شجرة الشر فينساق، وإن الإنسان ليرى ذلك في كل من يرتكب الجرائم، فهو يبتدئ بالجريمة مغالبا نفسه ثم تطاوعه ثم ينساق، فالقاتل كذلك، والسارق، والزاني، أول جريمة يرتكبها بتعمل، ثم يألف الارتكاب فيكون سهلا، لذلك عبر عن الشر بالاكتساب ؛ لأنه ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وضد الضمير، وعبر عن الخير هنا بالكسب لأنه الفطرة.
و بعد بيان سنة الله في التكليف وجزائه ذكر سبحانه حال المؤمن المخلص في ضراعته، وضراعته بالالتجاء إلى ربه ودعائه، وقد ذكر سبحانه ستة أدعية تفيد هذه الضراعة وتشير إلى رحمة الله تعالى وخواص شرعه الشريف.
[ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ] هذا هو الدعاء الأول، وقد ابتدئ بنداء الله سبحانه ب " ربنا " لكمال الضراعة والشعور بالربوبية، وكمال إنعام الله تعالى، وضعف المخلوق أمام الخالق، ووفاء المنعم عليه أمام المنعم، وللإشعار بأن ما تضمنه الدعاء من النعم التي أنعم بها، وكمال الربوبية التي ربّ الناس بها.
و المؤاخذة معناها المجازاة، وأصلها من الأخذ. وفي التعبير عن المجازاة بالمؤاخذة إشارة إلى أن ما يستحقون من عقاب هو في نظير ما أخذوا من نعم لم يعرفوا حقها، فهم أخذوها وجحدوها، فأخذهم الله تعالى بحقها.
و قد سأل سائل : لماذا ذكر الله سبحانه عن أحوالهم هذا الدعاء مع أنه مرفوع عن أمة محمد بقوله صلى الله عليه وسلم :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ؟١ وقد أجاب عن ذلك الزمخشري فقال :" إنهم كانوا متقين الله حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما فيهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه ". هذه إجابة قيمة، وأزيد عليها أن المتقين أرهفت ضمائرهم وقويت نفوسهم، واشتدت خشيتهم من الله، حتى لقد أحسوا من فرط حساسيتهم أنهم محاسبون على ما لا حساب عليه، وإن المؤمن التقي يستكثر هفواته، ويستقل حسناته، وإن النسيان والخطأ قد توهموا فيهما أن يكون سببهما الإهمال وعدم العناية، وهما كذلك أحيانا، فكان فرط إحساسهم مرجحا لجانب المؤاخذة على جانب العفو، وجانب الخوف على جانب الرجاء، فكان الدعاء.
[ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ] الإصر : هو العبء الكبير، مأخوذ من أصر بمعنى حبس، فكأنه لثقله يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة، وحمل عليه بمعنى وضع عليه وألقى عليه. وهذا هو الدعاء الثاني، ومعناه أن أولئك المتقين حالهم حال ضراعة لربهم بألا يلقي عليهم آصارا شدادا من التكليفات تثقل عليهم حتى يعجزوا عن أدائها أو لا يؤدوها إلا في حال من الشدة، كما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم. ولكن ما هذه الآصار وتلك الأعباء ؟ أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلي الذين من قبلهم في قوله تعالى :[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ٢١٤ ] ( البقرة ) وإني أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه. ويزكي ذلك قوله تعالى في ختام السورة [ فانصرنا على القوم الكافرين ] ولكن هل معنى ذلك أنهم لا يريدون أن يختبروا كما اختبر أقوياء الإيمان ممن سبقوهم ؟ وأقول في الإجابة عن ذلك : إن طالب الحق المؤمن به يستكثر فعل الخير من غيره، ويستقل حال نفسه وفعله، وكأنهم يعترفون بفضل من سبقوهم، ويحسبون أنهم دونهم، فيطلبون عون الله تعالى، وذلك دليل قوة الإيمان وأنهم ليسوا أقل منهم، بل يزيدون بذلك الاعتراف الكريم.
[ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ] الطاقة : قال فيها الراغب الأصفهاني ما نصه :" الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، فقوله تعالى :[ لا تحملنا ما لا طاقة لنا به ] أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به " فالطاقة على هذا تكون فيما يمكن فعله بأقصى القدرة. وهذا هو الدعاء الثالث وقد كررت فيه كلمة " ربنا " لكمال الضراعة ولبيان أن حالهم دائما يتجدد فيها الشعور بالربوبية وحق الخالق المنعم عليهم. وهذا هو الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق. لقد ضرعوا إلى الله ألا يختبرهم ذلك الاختبار الشديد الذي ألقي على عاتق من سبقوهم أو يخشون ألا يقوموا بحقه كما قام من قبلهم، ثم يضرعون الآن ألا يكلفوا إلا ما يطيقون، أي أنهم على أتم استعداد لأن يبذلوا أقصى قدرتهم وغاية قوتهم فإن الطاقة أقصى القدرة كما بينا ونقلنا. فمعنى الجملة السامية : لا تحملنا ما فوق الطاقة ونحن على استعداد بعونكم لما هو كل الطاقة. وهذه حال من الإيمان سامية. وعبر هنا بالفعل المضعف " تحملنا " وفي الأول من غير تضعيف ؛ لأن الإصر نفسه والتعبير بعلى فيهما بيان شدة الاختبار، فلا حاجة إلى مبالغة في صيغة الحمل ؛ أما هنا فالاختبار بما هو في الطاقة وإن كانت المشقة شديدة، فكان ثمة متسع في المبالغة في الصيغة.
[ واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ] هذه هي الأدعية الثلاثة الأخيرة وكلها في باب واحد، وهو باب الإحساس بالمصير في القيام بالواجب، فهي مرتبة من الإيمان سامية ؛ لأن المؤمن يفرض التقصير في نفسه ليسعى إلى الكمال، وليرجو رحمة الكبير المتعال، لا يفرض في نفسه الكمال حتى لا يدلى بغرور، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا. وحال الرسول مع المتقين حال الشاعرين بالتقصير مهما يكن مقدار ما قاموا به ؛ وإذا ضرعوا بهذا الدعاء ؛ طالبوا بالعفو بألا يحاسبهم على ما عساه يكون منهم من هفوات، أو ما تتحدث به نفوسهم من إصرار على شر ولا نية له، وما يكون موضع الحساب يضرعون إلى ربهم أن يكون موضع غفرانه، فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم، ثم يضرعون إلى الله بعد ذلك أن يمن عليهم برحمته في الدنيا والآخرة، وإنهم لفرط إحساسهم بالتقصير لا يعتبرون الثواب جزاء، بل يعتبرونه رحمة ومنة وفضلا من رب العالمين.
[ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ] هذه هي الوثيقة الربانية، يستمسكون بها، وهي إحساسهم بأن الله مولاهم، أي معينهم وكالئهم وناصرهم وممدهم بفضله، وقد طلبوا منه النصرة الدائمة على القوم الكافرين. وإن هذا الدعاء الأخير يقوي المعنى الذي قررناه في تفسير قوله تعالى :[ ولا تحمل علينا إصرا ].
وإنا نضرع إلى المولى جلت قدرته أن يعفو عنا، ويغفر لنا، ويرحمنا، إنه الغفور الرحيم، والعفو القدير.
١ فتح الباري : الأيمان والنذور – ( ٦١٧١ ) وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس – كتاب الطلاق – طلاق المكره والناسي ( ٢٠٣٥ )
.

Icon