تفسير سورة البقرة

الطبري
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ
القول في تأويل السورة التي يذكر فيها البقرة

تفسير سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

ربِّ أعنْ
(القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة)
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: ﴿الم﴾.
قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره (١) "ألم" فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكرُ من قال ذلك:
٢٢٥- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ألم"، قال: اسم من أسماء القرآن.
٢٢٦- حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"ألم"، اسم من أسماء القرآن.
٢٢٧- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال:"ألم"، اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٧ - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال:"ألم"، فواتح يفتح الله بها القرآن.
(١) تراجمة القرآن: مفسروه، كما مر آنفًا: ١٧٠، تعليق: ٤ وما قبلها ٧٠، تعليق: ١٠
205
٢٢٩- حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، قال:"ألم"، فواتح.
٢٣٠- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"ألم"، و"حم"، و"ألمص"، و"ص"، فواتحُ افتتح الله بها (١).
٢٣١- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثلَ حديث هارون بن إدريس.
وقال آخرون: هو اسم للسورة.
* ذكرُ من قال ذلك:
٢٣٢- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن قول الله:"ألم ذلك الكتاب" و"ألم تَنزيل"، و"ألمر تلك"، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السُّوَر.
وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٣- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السُّدِّي عن"حم" و"طسم" و"ألم"، فقال: قال ابن عباس: هو اسْم الله الأعظم.
٢٣٤- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السُّدِّي، عن مُرّة الهمداني، قال: قال عبدُ الله فذكر نحوه.
٢٣٥- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عُبيد الله بن موسى، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله.
وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر ٢٣٠ - إسحاق بن الحجاج: هو الطاحوني المقرئ، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ١/١/ ٢١٧، وقال: "سمعت أبا زرعة يقول: كتب عبد الرحمن الدشتكي تفسير عبد الرزاق عن إسحاق بن الحجاج".
206
٢٣٦ - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو قَسَم أقسمَ الله به، وهو من أسماء الله.
٢٣٧- حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، قال: حدثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ألم"، قسم (١).
(١) الأثر ٢٣٧ - يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح: هو الدورقي الحافظ البغدادي.
207
وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ، كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٨- حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس:"ألم" قال: أنا الله أعلم (١).
٢٣٩- حُدِّثتُ عن أبي عُبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: قوله:"ألم"، قال: أنا الله أعلم.
٢٤٠- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ألم" قال: أما"ألم" فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.
٢٤١- حدثنا محمد بن معْمَر، قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم" و"حم" و"ن"، قال: اسم مُقطَّع (٢).
وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٢- حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدِّب، عن خُصَيْف، عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها"ق" و"ص" و"حم" و"طسم" و"ألر" وغير ذلك، هجاء موضوع.
وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٣- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي، عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره:"ألم"، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا، دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم:"وعجيب ينطقون في أسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون؟ ". قال: الألف: مفتاح اسمه:"الله"، واللام: مفتاح اسمه:"لطيف"، والميم: مفتاح اسمه:"مجيد". والألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم: مجده. الألف سنةٌ، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة.
٢٤٤- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بنحوه (٣).
وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه، إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس (٤).
(١) الخبر ٢٣٨ - رواه الطبري عن شيخين عن وكيع: عن أبي كريب، وعن سفيان بن وكيع، كلاهما عن وكيع عن شريك، وهو ابن عبد الله النخعي القاضي. وجاء الإسناد الثاني منهما في مطبوعة بولاق محرفا: "سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن أبي شريك". وصحح من المخطوطة.
(٢) الخبر ٢٤١- محمد بن معمر بن ربعي، شيخ الطبري: هو المعروف بالبحراني، وهو ثقة، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهو متأخر الوفاة، مات في العام الذي مات فيه البخاري سنة ٢٥٦، كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ ٢: ١٢٩، وأما شيخه"عباس بن زياد الباهلي" فلم أجد له ترجمة قط.
(٣) الأخبار ٢٢٥ - ٢٤٤: ذكرها ابن كثير ١: ٦٥ - ٦٦، بعضها بالإسناد، وبعضها دون إسناد، وسردها السيوطي ١: ٢٢ - ٢٣ مع غيرها من الروايات. ونقل الشوكاني بعضها ١: ٢١.
(٤) يشير إلى الروايتين السابقتين: ٢٤٣، ٢٤٤.
208
وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ، وسرُّ القرآن فواتحه.
* * *
وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر"أب ت ث"، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع (ذَلِكَ الْكِتَابُ)، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذلك الكتابُ الذي أنزلته إليك مجموعًا لا ريب فيه.
فإن قال قائل: فإن"أب ت ث"، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان"الحمدُ" اسما لفاتحة الكتاب.
قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في"ط ظ"، وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ"أب ت ث" ليس لها باسْم، وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها (١). قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور، فذُكِرت في أوائلها مختلفةً، وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي"أب ت ث"، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد -بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد -بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في"ط ظ" وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم، وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في"أب ت ث" - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد:
لَمَّا رَأيْتُ أمرَهَا في حُطِّي... وفَنَكَتْ في كَذِب ولَطِّ... أَخذْتُ منها بقُرُونٍ
(١) في المطبوعة: "يؤثر في الذكر". وآثر: يؤثره الناس ويقدمونه.
209
شُمْطٍ... فلم يَزَلْ صَوْبِي بها ومَعْطِي... حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي (١)
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في"أبي جاد"، فأقام قوله:"لما رأيت أمرها في حُطِّي" مقامَ خبرِه عنها أنها في"أبي جاد"، إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في"أبي جاد".
وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه.
وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه.
فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟
قيل (٢) : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما، وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:
بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها (٣)
ويقول:
لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا (٤)
و"بل" ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.
(١) أولها في اللسان (فنك). فنك في الكذب: مضى فيه ولج ومحك. ولط الحق: جحده ومنعه وخاصم فأحمى الخصومة. والقرون، جمع قرن: وهو الضفيرة. وشمط، جمع أشمط: وهو الذي اشتعل رأسه شيبا. صاب يصوب صوبًا: انحدر من علو إلى سفل. وفي المطبوعة: "ضربى". والمعط: المد والجذب، وعنى بذلك إصعاده بها وهو يجذب ضفائرها، وذلك في انحداره بها وصعوده.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟ فإن معنى هذا... "، وهو كلام مضطرب، والصواب ما أثبتناه.
(٣) اللسان (أهل) غير منسوب، وكأنه لأبي النجم فيما أذكر.
(٤) هو للعجاج، ديوانه: ٧، ويأتي بعد قليل في: ٢١٢ أيضًا و: ٢٢٣.
210
قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ.
فأما الذين قالوا:"ألم"، اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان:
أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن"ألم" اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويل قوله (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ)، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه.
والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها، فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم"ألمص" و"ن"-، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن (١)، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا، وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس.
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر"ألم""ألر" في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات.
قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها (٢). فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "أي السورة التي قرأها.. ".
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "بين المسمى بها".
211
سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو"ألم": قرأتُ"ألم البقرة"، وفي آل عمران: قرأت"ألم آل عمران"، و"ألم ذلك الكتاب"، و"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم". كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما"عمرو"، غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ، إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.
وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما، كما جعلت"بل" في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة، قالوا:
بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا
و"بل" ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه، ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.
وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل، وبعضُها من صفاته، ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:
قُلْنَا لها: قِفِي لنا، قالت: قافْ... لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينا الإيجاف (١)
(١) الرجز للوليد بن عقبة. الأغاني ٥: ١٣١، شرح شواهد الشافية: ٢٧١، ومشكل القرآن: ٢٣٨. الإيجاف: حيث الدابة على سرعة السير، وهو الوجيف.
212
يعني بقوله:"قالت قاف"، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من"وقفت"، على مرادها من تمام الكلمة التي هي"وقفت". فصرفوا قوله:"ألم" وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف"أنا"، واللام لام"الله"، والميم ميم"أعلم"، وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة،"أنا" الله أعلم". قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من"حارثٍ" الثاءَ، فيقولون: يا حارِ، ومن"مالك" الكافَ، فيقولون: يا مالِ، وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم:
مَا لِلظليم عَالَ؟ كَيْفَ لا يَا يَنْقَذُّ عنه جِلْدُه إذا يَا (١)
كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من"يفعل"، وكما قال آخر منهم:
بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا
يريد: فشرًّا.
ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا (٢).
يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما، وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.
(١) شرح شواهد الشافية: ٢٦٧. عال: دعاء عليه، من قولهم"عال عوله" أي ثكلته أمه، فاختصر. و"يا" في البيت الأول كأنه أراد أن يقول"ينقد عنه... " فوقف، ثم عاد يقول: "ينقد"، و"يا" في الآخر: أي إذا يعدو هذا العدو.
(٢) سيبويه ٢: ٦٢، الكامل ١: ٢٤٠، والموشح: ١٢٠، وشرح شواهد الشافية: ٢٦٢، ونسبه في ٢٦٤ للقيم بن أوس.
213
٢٤٥- وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُليَّة، عن أيوب، وابن عون، عن محمد، قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بَيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه (١).
قال أبو جعفر: يعني بـ "تا" تضطجع، فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام (٢) على النحو الذي وصفت:
أقُول إِذْ خَرَّتْ على الكَلكالِ يَا ناقَتِي ما جُلْتِ من مَجَالِ (٣)
يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر:
إنّ شَكْلِي وَإن شَكْلَك شَتَّى فَالزْمي الخُصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي (٤).
فزاد ضادًا، وليست في الكلمة.
قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف"ألم" ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها.
وأما الذين قالوا: كل حرف من"ألم" ونظائرها، دالُّ على معان شتى -
(١) الأثر ٢٤٥- محمد: هو ابن سيرين. وعبدة: لم أوقن من هو ولم أرجح. بل أكاد أوقن أن هذا تحريف، صوابه"عبيدة" بفتح العين وكسر الباء الموحدة وآخرها هاء. وهو عبيدة بن عمرو -أو ابن قيس- السلماني، من كبار التابعين، من طبقة الصحابة، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه. وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه. وهو مترجم في التهذيب، وفي ابن سعد ٦: ٦٢ - ٦٤، وعند ابن أبي حاتم ٣/١/ ٩١. وأما يزيد: فهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، مات سنة ٦٤. وقوله: "قال أيوب... "، أي أشار.
(٢) في المطبوعة: "في الكلام".
(٣) اللسان (كلل)، ومشكل القرآن: ٢٣٥. والكلكل: الصدر من البعير وغيره.
(٤) اللسان (بيض) (خفض)، ومشكل القرآن: ٢٣٤. يقوله لامرأته. والخص: البيت من قصب. وقوله"اخفضى" من الخفض: وهو الدعة ولين العيش. يقول لها: نحن مختلفان، فالزمى بيتك وعيشي في دعة وخفض، يزدك لين العيش بياضًا ونعمة. أما أنا فالرحلة دأبى، تشقيني وتلوحني.
214
نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل"أنا الله أعلم"، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من"ألم" من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني، ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به، وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من"ألم" مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً، منها تمامُ اسم الربّ الذي هو"الله"، وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة، إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف، وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد، وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام -في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء، وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم، وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء، كما افتتح ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ)، [سورة الأنعام: ١] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا) [سورة الإسراء: ١]، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه، ومفاتحَ بعضها تمجيدَها، ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم، وأحيانًا بالعدل والإنصاف، وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار، ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ)، ويكون"ذلك الكتاب" خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى"ألم". وكذلك"ذلك" في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض، وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.
وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني، فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل:"ألم". وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله"ألم" لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحدُ وَجهيه، وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي"ألم" - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل:"ألم" لا يجوز أن يليَه من الكلام"ذلك الكتاب"، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي"ألم""ذلك الكتاب".
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما:-
٢٤٦- حدثنا به محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مرَّ
215
أبو ياسر بن أخْطب برسول الله ﷺ وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله (١)، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك"ألم ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ (٢) قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! (٣) فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة (٤) ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألمص). قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألر). قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، (ألمر)، قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد، حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (٥).
قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض -فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد، كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني
(١) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "تعلمون"، ونص محمد بن إسحاق، سيرة ابن هشام ٢: ١٩٤. "تعلموا" بتشديد اللام، أي اعلموا. وهي كثيرة الورود في سيرة ابن هشام وغيره.
(٢) الذي في سيرة ابن هشام: "أجاءك بها جبريل من عند الله".
(٣) في المطبوعة، وفي سائر الكتب التي خرجت الخبر عن الطبري: "ما أجل".
(٤) في المطبوعة"قال، فقال لهم: أتدخلون... " و"أجل أمته" والتصحيح من المخطوطة وابن هشام. والأكل (بضم فسكون) : الرزق. يقال: هو عظيم الأكل في الدنيا، أي واسع الرزق، وهو الحظ من الدنيا، كأنه يؤكل. ويراد به: مدة العمر التي يعيشها الناس في الدنيا يأكلون مما رزقهم الله. فيقال للميت: انقطع أكله، بمعنى: انقضى عمره.
(٥) الحديث ٢٤٦- هذا حديث ضعيف الإسناد، رواه محمد بن إسحاق بهذا الإسناد الضعيف، وبأسانيد أخر ضعاف:
فرواه في السيرة، التي هذبها عبد الملك بن هشام النحوي البصري، ورواها عن زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق، وعرفت واشتهرت بأنها"سيرة ابن هشام". وابن هشام هذا: ثقة، وثقه ابن يونس وغيره، مات سنة ٢١٨. وشيخه زياد البكائي: ثقة، من شيوخ أحمد. و"البكائي"، بفتح الباء وتشديد الكاف: نسبة إلى"البكاء"، وهو: ربيعة بن عامر بن صعصعة.
فقال ابن هشام ٢: ١٩٤ - ١٩٥ (٢: ٣٥ - ٣٧ من الروض الأنف شرح السيرة) : قال ابن إسحاق: وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود، الذين كانوا يسألونه ويتعنتونه، ليلبسوا الحق بالباطل، فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله بن رئاب: أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم... ".
فهذا إسناد ضعيف، جهله ابن إسحاق، فجاء به معلقًا بصيغة التمريض. وفيه أن الرواية عن ابن عباس وجابر، معًا.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير، في ترجمة"جابر بن عبد الله بن رئاب" ١/٢/ ٢٠٧ - ٢٠٨ بثلاثة أسانيد، بعادته الدقيقة المتقنة، في الإيجاز والإشارة إلى الأسانيد وعللها:
وأولها: "حدثني عمرو بن زرارة، قال: حدثنا زياد: قال ابن إسحاق: حدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله: أن أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي ﷺ وهو يتلو (ألم. ذلك الكتاب) ".
فهذه هي إشارة البخاري إلى الإسناد الأول من الثلاثة الأسانيد.
و"زياد" في هذا الإسناد: هو البكائي. فهذا إسناد صحيح إلى ابن إسحاق. ولكن فيه الضعف بجهالة أحد رواته"مولى لزيد بن ثابت". وهو كإسناد السيرة: عن ابن عباس وجابر معًا. ولعل عمرو ابن زرارة -شيخ البخاري- روى السيرة عن البكائي، كما رواها عنه ابن هشام.
وثانيها: "وقال سلمة: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس: (ألم. ذلك الكتاب) - بطوله".
وهذه إشارة البخاري إلى الإسناد الثاني. يريد أنه رواه سلمة -وهو ابن الفضل الذي في إسناد الطبري هنا- عن ابن إسحاق. ولم يذكر لفظ الحديث، اكتفاء بهذه الإشارة إليه.
وابن إسحاق -في هذا الإسناد- يرويه عن"محمد بن أبي محمد"، وهو الأنصاري المدني، مولى زيد بن ثابت. زعم الذهبي في الميزان أنه"لا يعرف"! وهو معروف، ترجمه البخاري في الكبير ١/١/٢٢٥ فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات. وكفى بذلك معرفة وتوثيقًا. ولعله هو"مولى زيد بن ثابت" الذي أبهم في الإسناد الأول. ولكن اضطرب هذا الإسناد على ابن إسحاق، أو على سلمة بن الفضل - فكانت الرواية فيه: عن عكرمة، أو سعيد، يعني ابن جبير، على الشك. ثم كانت عن ابن عباس، دون ذكر"جابر بن عبد الله بن رئاب".
ثالثها: "وعن ابن إسحاق: كان مما نزل فيه القرآن من الأحبار، فيما حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب: مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي ﷺ وهو يتلو (ألم)، بطوله - في الحساب".
وهذه الرواية الثالثة، بالإسناد الذي عند الطبري هنا. تابعة للرواية الثانية، عن سلمة بن الفضل، عطفها عليها بقوله"وعن ابن إسحاق"، ليست تعليقًا جديدًا.
وأشار البخاري -بصنيعه هذا- إلى اضطراب الرواية على سلمة بن الفضل، بين هذا وذاك. ولذلك ذهب إلى جرح"سلمة" بهذا الاضطراب، فقال عقب ذلك: "قال علي [يريد به شيخه علي بن المديني، إمام الجرح والتعديل] : ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة".
وقال في ترجمة سلمة ٢/٢/٨٥: "سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري، سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن محمد الجعفي. عنده مناكير. يقال: مولاهم. مات بعد التسعين. وهنه علي"، يعني شيخه ابن المديني. ويعني أن سلمة مات بعد سنة ١٩٠. وقال في التاريخ الصغير ص ٢١٧: "مات سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري بعد تسعين ومائة. قال علي [يعني ابن المديني] : رمينا بحديثه قبل أن نخرج من الري. وضعفه إسحاق بن إبراهيم". وقال في ترجمته أيضًا، في كتاب الضعفاء (ص ١٦) :"سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن عمر بن أبان ومحمد بن حميد. ولكن عنده مناكير. وفيه نظر".
وأنا أذهب إلى توثيق سلمة بن الفضل، فقد وثقه ابن معين، فيما رواه ابن أبي حاتم في كتابه، وله عنده ترجمة جيدة وافية ٢/١/١٦٨ - ١٦٩. وروى أيضًا عن جرير، قال: "ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق - من سلمة بن الفضل". وقد رجحت توثيقه أيضًا في شرح المسند: ٨٨٦.
وعندي أن هذا الاضطراب إنما هو من ابن إسحاق، أو لعله رواه بهذه الأسانيد كما سمعه. وكلها ضعيف مضطرب. وأشدها ضعفًا الرواية التي هنا، والتي أشار إليها البخاري: من رواية الكلبي عن أبي صالح.
ولله در الحافظ ابن كثير، فقد وضع الحق موضعه، حين قال في التفسير ١: ٦٩ - ٧٠: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفن والملاحم - فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطارد! وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته". ثم نقل هذا الحديث من هذا الموضع من الطبري -ثم قال: "فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك- إن كان صحيحًا: أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها. وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرار، فأطم وأعظم!! ".
ومحمد بن السائب الكلبي: ضعيف جدا، رمى بالكذب، بل روى ابن أبي حاتم في الجرح ٣/١/٢٧٠ - ٢٧١ في ترجمته، عن أبي عاصم النبيل، قال: "زعم لي سفيان الثوري قال: قال لنا الكلبي: ما حدثت عنى عن أبي صالح عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". وقال أبو حاتم: "الناس مجتمعون على ترك حديثه، لا يشتغل به، هو ذاهب الحديث".
والطبري نفسه قد ضعفه جدا، فيما مضى: ٦٦ إذ أشار إلى رواية عن ابن عباس: "روى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله"، ثم ذكر أن الذي روى ذلك"الكلبي عن أبي صالح". ووصف الحديث: ٧٢ الذي رواه من طريقه، بأنه"خبر في إسناده نظر".
فكان عجبًا منه بعد هذا، أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة، ويرضى هذا التأويل المستنكر، بحساب الجمل! إذ يختار فيما سيأتي (هذه الصفحة سطر: ٨ وما بعدها)، أن هذه الأحرف تحوي سائر المعاني التي حكاها إلا قولا واحدًا غير هذا المعنى المنكر. بل هو يصرح بعد ذلك ص: ٢٢٢ سطر: ٨ أن من المعاني التي ارتضاها: أنهن"من حروف حساب الجمل"!!
وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور ١: ٢٢، و ٢: ٤ - ٥، ووصفه في الموضع الأول بالضعف. وكذلك نقله الشوكاني ١: ٢٠، وضعفه.
وقوله في آخره: "ويزعمون أن هؤلاء الآيات.. " - هو من تتمة الرواية. وهو من كلام ابن إسحاق حكاية عمن روى عنهم.
217
بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل (١). فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع"ذلك الكتاب" - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله"لا ريب فيه" ومرة بقوله"هدى للمتقين". وذلك تركٌ منه لقوله: إن"ألم" رافعةٌ"ذلك الكتاب"، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل"ألم ذلك الكتاب"، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة، وللحين من الزمان: أمَّة، وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة، وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه:"ألم" و"ألر"، و"ألمص" وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى، شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك.
(١) الخالفين جمع خالف. خلف قوم بعد قوم يخلفون خلفًا فهم خالفون: جاءوا بعدهم وتبعوهم على آثارهم. تقول: أنا خاِلفه وخاِلفته: أي جئت بعده.
221
وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها، وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها، فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك (١)، دون سائر المعاني غيره، لأبان ذلك لهم رسول الله ﷺ إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله ﷺ ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه ﷺ إبانةَ ذلك -أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك -على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "مما لا يحتمله ذلك"، وهو محيل لمعناه.
222
التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك، ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل، أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ"بل" في قول المنشد شعرًا:
بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنى له، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى (١)
أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ "بل" - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ "ألم" و"ألر" و"ألمص"، بمعنى ابتدائها ذلك بـ "بل". وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن، فقال تعالى ذكره: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين (٢)، في قول قائل هذه المقالة، ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة، وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به
(١) انظر ما مضى: ٢١٠.
(٢) في المطبوعة: "ما لا يعقله ولا يفقهه".
223
عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه: أن"بل" في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها، وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بني ثعلبة:
وَلأشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وثَمَانِيًا وثَلاثَ عَشْرَةَ واثْنَتَينِ وأَرْبَعَا (١)
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجُلَّسَانِ، وطَيِّبٌ أرْدَانُهُ بِالوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الإصْبَعَا (٢)
ثم قال:
بَلْ عَدِّ هذا، فِي قَريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ "بل" إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف (٣)، من غير أن يدلّ على معنى، فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرتُ قوله، فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها -لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
* * *
(١) ديوان الأعشى، زيادات: ٢٤٨، باختلاف في الرواية. وانظر مراجعه هناك.
(٢) الجلسان: قبة أو بيت ينثر فيه الورد والريحان للشرب. وقوله: "وطيب أردانه" يعني قينة تغنيهم وتعزف لهم، طيبة الريح، تضمخت وتزينت. والأردان جمع ردن (بضم فسكون) : وهو مقدم كم القميص. والون: صنج يضرب بالأصابع. وقوله"يكر" أي يرد إصبعه مرة بعد مرة في ضربه بالصنج، وأراد به سرعة حركة أصابعها بالصنج. وفي المطبوعة"يكد" بالدال، وهو خطأ.
(٣) انظر ما مضى: ١٨ تعليق: ٢، وعنى بالتطول: الزيادة.
224
القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾.
قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى (ذلك الكتاب) : هذا الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٧- حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ذلك الكتاب" قال: هو هذا الكتاب.
٢٤٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب.
٢٤٩- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير، عن السُّدِّي، في قوله"ذلك الكتاب" قال: هذا الكتاب (١).
٢٥٠- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس:"ذلك الكتاب": هذا الكتاب (٢).
فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون"ذلك" بمعنى"هذا"؟ و"هذا" لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن، و"ذلك" إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟
(١) الأثر ٢٤٩- الحكم بن ظهير -بضم الظاء المعجمة- الفزاري، أبو محمد بن أبي ليلى الكوفي: ضعيف جدًا، رمى بوضع الحديث. قال البخاري في الكبير ١/٢/ ٣٤٢ - ٣٤٣: "تركوه منكر الحديث". وقال ابن أبي حاتم في الجرح ١/٢/ ١١٨ - ١١٩ عن أبي زرعة: "واهي الحديث". وقال ابن حبان في كتاب المجروحين، رقم ٢٣٩: "كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يروى عن الثقات الأشياء الموضوعات".
(٢) هذه الآثار جميعًا ٢٤٧ - ٢٥٠ ذكرها ابن كثير في تفسيره ١: ٧٠، والدر المنثور ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢١.
225
قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار (١)، فهو -وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع:"إن ذلك والله لكما قلت"، و"هذا والله كما قلت"، و"هو والله كما ذكرت"، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك"ذلك" في قوله (ذلك الكتاب) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ"ذلك الكتاب""ألم"، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع"ذلك" في مكان"هذا"، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله"ألم" من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ "ألم"، فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه، فأخبر به بـ "ذلك" لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون (٢) : أنه بمعنى"هذا"، لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ "هذا"، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم، وكما قال جل ذكره: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ) [سورة ص: ٤٨، ٤٩] فهذا ما في"ذلك" إذا عنى بها"هذا".
وقد يحتمل قوله جل ذكره (ذلك الكتاب) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون (٣) بأن معنى"ذلك""هذا الكتاب"،
(١) في المطبوعة"وقرب تقضيه". يريد: أن ذكر ما انقضى، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه.
(٢) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى ٧٠ تعليق ١/٩٣: ٤/ ومواضع أخر.
(٣) ترجمه: أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف. انظر ما مضى ٧٠ تعليق ١/٩٣: ٤/ ومواضع أخر.
226
إذْ كانت تلك السُّور التي نزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في"ذلك".
وقد وَجَّه معنى"ذلك" بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:
فَإن تَكُ خَيْلي قد أُصِيبَ صَمِيمُها... فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا (١) أقولُ له، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ:... تأمَّل خُفاَفًا، إنني أنا ذلِكَا (٢)
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا"، نظيرُه (٣). أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر"ذلك" بمعنى الخبر عن الغائب (٤)، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: (ذلك الكتاب)، يعني به التوراة والإنجيل، وإذا وُجّه
(١) الأغاني ٢: ٣٢٩/ ١٣: ١٣٤، ١٣٥/١٦: ١٣٤، والخزانة ٢: ٤٧٠، وغيرهما، ويأتي في الطبري ١: ٣١٤، ٤٣٧. يقول الشعر في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو أخى الخنساء. ومالك، هو مالك بن حِمَار الشمخي الفزاري. والخيل هنا: هم فرسان الغارة، وكان معاوية وخفاف غزوَا بني مرة وفزارة. والصميم: الخالص المحض من كل شيء. وأراد معاوية ومقتله يومئذ. ويقال: "فعلت هذا الأمر عمد عين، وعمدًا على عين"، إذا تعمدته مواجهة بجد ويقين. وتيمم: قصد وأمَّ.
(٢) "أقول له"، يعني لمالك بن حِمَار. وأطر الشيء يأطره أطرًا: هو أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه. وأراد أن حر الطعنة جعله يتثنى من ألمها، ثم ينحني ليهوى صريعًا إذ أصاب الرمح مقتله. وأرى أن الإشارة في هذا البيت إلى معنى غائب، كأنه قال: "أنا ذلك الذي سمعت به وببأسه". وهذا المعنى يخرج البيت عن أن يكون شاهدًا على ما أراد الطبري.
(٣) في المطبوعة: "كأنه أراد: تأملني أنا ذلك، فرأى أن"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا" نظير ما أظهر خفاف من اسمه... "، وهو تغيير لا خبر فيه.
(٤) في المطبوعة: "فلذلك أظهر ذلك.. ".
227
تأويل"ذلك" إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن"ذلك" يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾.
وتأويل قوله:"لا ريب فيه""لا شك فيه". كما:-
٢٥١- حدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج، عن مجاهد: لا ريب فيه، قال: لا شك فيه.
٢٥٢- حدثني سَلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء،"لا ريب فيه": قال: لا شك فيه (١).
٢٥٣- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير، عن السُّدِّيّ، قال:"لا ريب فيه"، لا شك فيه.
٢٥٤- حدثني موسى بن هارون الهَمْداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ريب فيه"، لا شك فيه.
٢٥٥- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير،
(١) الأثر ٢٥٢ - سلام، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة إلا في تاريخ بغداد ٩: ١٩٨ قال: "سلام بن سالم أبو مالك الخزاعي الضرير: حدث عن يزيد بن هارون، وعمر بن سعيد التنوخي، وموسى بن إبراهيم المروزي، والفضل بن جبير الوراق. روى عنه الحسين بن إسماعيل المحاملي". ليس غير. وأما شيخ سلام في هذا الإسناد"خلف بن ياسين الكوفي": فلم أجد إلا ترجمة في الميزان ١: ٢١١ ولسان الميزان ٢: ٤٠٥ لراو اسمه"خلف بن ياسين بن معاذ الزيات"، وهو رجل سخيف كذاب، لا يشتغل به. لا أدري أهو هذا أم غيره؟
228
عن ابن عباس:"لا ريبَ فيه"، قال: لا شكّ فيه.
٢٥٦- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه.
٢٥٧- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة:"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه.
٢٥٨- حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله"لا ريب فيه"، يقول: لا شك فيه (١).
وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ:
فقالوا:
تَرَكْنَا الحَيَّ قد حَصِرُوا به، فلا رَيْبَ أنْ قد كان ثَمَّ لَحِيمُ (٢)
ويروى:"حَصَرُوا" و"حَصِرُوا" والفتحُ أكثر، والكسر جائز. يعني بقوله"حصروا به": أطافوا به. ويعني بقوله"لا ريب". لا شك فيه. وبقوله"أن قد كان ثَمَّ لَحِيم"، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل.
والهاء التي في"فيه" عائدة على الكتاب، كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿هُدًى﴾
٢٥٩- حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا
(١) هذه الآثار جميعًا ٢٥١ - ٢٥٨ ساقها ابن كثير ١: ٧١، وبعضها في الدر المنثور ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢٢. وقال ابن كثير بعد سياقتها: "قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا".
(٢) ديوان الهذليين ١: ٢٣٢، واللسان (حصر).
229
سفيان، عن بَيَان، عن الشعبي،"هُدًى" قال: هُدًى من الضلالة (١).
٢٦٠- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدّي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"هدى للمتقين"، يقول: نور للمتقين (٢).
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق -إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه، وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ، والكافر به محجوجٌ (٣).
وقوله"هدى" يحتمل أوجهًا من المعاني:
أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة (٤). فيكون التأويل حينئذ: ألم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و"ذلك" مرفوع بـ "ألم"، و"ألم" به، والكتابُ نعت لـ "ذلك".
وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في
(١) الأثر ٥٩ - بيان، بفتح الباء الموحدة والياء التحتية المخففة: هو ابن بشر الأحمسي، ثقة من الثقات، كما قال أحمد. وسفيان، الراوي عنه: هو الثوري. وهذا الأثر نقله السيوطي ١: ٢٤، ونسبه لوكيع والطبري.
(٢) الخبر ٢٦٠ - نقله ابن كثير ١: ٧١، ونقله السيوطي ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢٢ مع الخبر الآتي ٢٦٣، جعلاه خبرًا واحدًا، وذكراه عن ابن مسعود فقط.
(٣) حجه يحجه فهو محجوج: غلبه بالحجة فهو مغلوب.
(٤) يريد بقوله"لمعنى القطع"، أن يقطع عن نعت الكتاب، ويصير حالا.
230
"فيه"، فيكونُ معنى ذلك حينئذ: ألم الذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء التي في"فيه"، ومن"الكتاب"، على أن"ألم" كلام تام، كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون"ذلك الكتاب" خبرًا مستأنفًا، فيرفع حينئذ"الكتاب" بـ "ذلك"، و"ذلك" بـ "الكتاب"، ويكون"هُدًى" قطعًا من"الكتاب"، وعلى أن يرفع"ذلك" بالهاء العائدة عليه التي في"فيه"، و"الكتاب" نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في" فيه". وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون"ذلك الكتاب" إلا خبرًا مستأنفًا، و"ألم" كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ"هُدًى" بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: (ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ) [سورة لقمان: ١-٣] في قراءة من قرأ"رحمةٌ". بالرفع، على المدح للآيات.
والرفع في"هدى" حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ" ذلك"، و"الكتاب" نعتٌ"لذلك". والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، ويكون"ذلك الكتاب" مرفوعًا بالعائد في"فيه". فيكون كما قال تعالى ذكره: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) [سورة الأنعام: ٩٢].
وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ"ألم" مرافعُ"ذلك الكتاب" بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك (١). ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه، وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه، فزعم أن الرفع في"هُدًى" من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون"الكتابُ" نعتًا لِـ "ذلك" و"الهدى" في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ "ذلك".
(١) يعني بصاحب هذا القول، الفراء في كتابه معاني القرآن ١: ١٠.
231
كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه (١). قال: وإن جعلتَ"لا ريب فيه" خبرَه، رفعتَ أيضًا"هدى"، بجعله تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ "ذلك"، وتنصبَ"هدى" على القطع، لأن"هدى" نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها (٢) لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت"هدى" على القطع من الهاء التي في"فيه" كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا (٣).
قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في"ألم" وأنها مرفوعة بـ "ذلك الكتاب"، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في"هدى" بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ، وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر"لذلك"، أو على وجه الإتباع لموضع"لا ريب فيه"، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن"ألم" إذا رافعت"ذلك الكتاب"، فلا شك أن"هدى" غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا"لذلك"، بمعنى المرافع له، أو تابعًا لموضع"لا ريب فيه"، لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه -بمخالفته إيّاه- عنه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٢) ﴾
٢٦١- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قوله:"للمتقين" قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.
(١) في المطبوعة والمخطوطة"ذلك لا شك فيه"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء ١: ١١.
(٢) في المطبوعة"فتنصبها"، والتصحيح من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١١ - ١٢.
232
٢٦٢- حدثنا محمد بن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"للمتقين"، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى، ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.
٢٦٣- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هدًى للمتقين"، قال: هم المؤمنون.
٢٦٤- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: سألني الأعمش عن"المتقين"، قال: فأجبتُه، فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش، فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.
٢٦٥- حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة:"هدى للمتقين"، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
٢٦٦- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"للمتقين" قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي (١).
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه (هدى للمتقين)، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا
(١) الآثار ٢٦١ - ٢٦٦ ساقها جميعًا ابن كثير في تفسيره ١: ٧١ - ٧٢، وبعضها في الدر المنثور ١: ٢٤، والشوكاني ١: ٢٢.
233
معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض (١). فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم -لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون -عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون -وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل"للمتقين".
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾
٢٦٧- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يؤمنون"، قال: يصدِّقون.
٢٦٨- حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي، قال: حدثنا أبو صالح،
(١) في المطبوعة: "وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم"، ولا فائدة من زيادة"إنما". ثم جاء في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض"؛ وهو كلام مختلط، وصوابه ما أثبته، وهو معنى الكلام كما ترى بعد.
234
قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يؤمنون": يصدِّقون (١).
٢٦٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يؤمنون": يخشَوْنَ.
٢٧٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ (٢).
٢٧١- حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان: التَّصْديق (٣).
ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به، ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف: ١٧]، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه، وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
* * *
(١) الأثر ٢٦٧- سيأتي باقيه بهذا الإسناد: ٢٧٢. ونقلهما ابن كثير ١: ٧٣ مفرقين. ونقل ٢٦٨ مع أولهما. ونقل السيوطي ١: ٢٥ الثلاثة مجتمعة.
(٢) الأثران ٢٦٩ - ٢٧٠: ذكرهما ابن كثير ١: ٧٣
(٣) الخبر ٢٧١- عبد الله: هو ابن مسعود. وقد نقل ابن كثير هذا الخبر وحده ١: ٧٣، ثم نقل الخبر الآتي ٢٧٣ وحده. وفصل إسناد كل واحد منهما. أما السيوطي ١: ٢٥ فقد جمع اللفظين دون بيان، وأدخل معهما لفظ الخبر ٢٧٧! وهو تصرف غير سديد، لاختلاف الإسنادين أولا، ولأن ٢٧٣، ٢٧٧ ليسا عن ابن مسعود وحده، كما ترى.
235
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: ﴿بِالْغَيْبِ﴾
٢٧٢- حدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"بالغيب"، قال: بما جاء منه، يعني: من الله جل ثناؤه.
٢٧٣- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"بالغيب": أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك -يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.
٢٧٤- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرٍّ، قال: الغيبُ القرآن (١).
٢٧٥- حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله"الذين يُؤمنون بالغيب"، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة، وكلُّ هذا غيبٌ (٢).
٢٧٦- حُدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،
(١) الأثر ٢٧٤- سفيان: هو الثوري، عاصم: هو ابن أبي النجود -بفتح النون- القارئ. زر، بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، بضم الحاء. وهو تابعي كبير إمام. وهذا الأثر عند ابن كثير ١: ٧٣ - ٧٤.
(٢) الأثر ٢٧٥- ذكره ابن كثير والسيوطي أيضًا.
236
عن أبيه، عن الربيع بن أنس،"الذين يؤمنون بالغيب": آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ (١).
وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا.
وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.
فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله -بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله (٢).
(١) الأثر ٢٧٦- ذكره ابن كثير ١: ٧٣ هكذا: "قال أبو جعفر الرازي عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية... ". وذكره السيوطي ١: ٢٥ هكذا: "وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية.. ". فأخشى أن يكون ذكر"عن أبي العالية" سقط من الإسناد من نسخ الطبري، لثبوته عند هذين الناقلين عنه.
(٢) في المخطوطة: "والآخر منهما على من قبله رسول الله"، والظاهر أن صوابها: "على من قبل رسول الله"، كما أثبتناها. وأما المطبوعة ففيها: "على من قبله من رسل الله تعالى ذكره".
237
قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث، والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها، مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٧- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، فهم المؤمنون من العرب، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (١).
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه ﷺ على ذلك منهم في تنزيله، أنه من عند الله جل وعز، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
(١) الخبر ٢٧٧- سبق أوله بهذا الإسناد: ٢٧٣. ولم يذكره ابن كثير بهذا اللفظ المطول. وقد مضى في شرح ٢٧١ أن السيوطي جمع الألفاظ الثلاثة: ٢٧١، ٢٧٣، ٢٧٧ في سياقة واحدة!
238
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنزلت على محمد ﷺ بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم (١). وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد ﷺ ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ) غير موجود في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم، فيكونوا به -إن وفقهم له ربهم-[مؤمنين] (٢).
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٨- حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين،
(١) في المطبوعة والمخطوطة"وأهل الكتابين سواهم"، والصواب أن يقال"وسواهم". فقد ذكر الطبري ثلاثة أقوال: أما الأول: فهو أن المعنى به العرب خاصة، والثاني: أن المعنى به أهل الكتاب خاصة، فيكون الثالث: أن يعني به الصنفين جميعا وسواهم من الناس.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين واجبة لتمام المعنى. وليست في المطبوعة ولا المخطوطة.
239
وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين (١).
٢٧٩- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، بمثله (٢).
٢٨٠- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله (٣).
٢٨١- حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة -يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب، القولُ الأول، وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب، وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن (٤)، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزِل على محمد والذي أنزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف، وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار -
(١) الأثر ٢٧٨- أبو عاصم: هو النبيل، الحافظ الكبير. عيسى بن ميمون المكي: هو المعروف بابن داية، قال ابن عيينة: "كان قارئًا للقرآن. قرأ على ابن كثير". وثقه أبو حاتم وغيره.
(٢) الأثر ٢٧٩- هذا إسناد ضعيف، بضعف سفيان بن وكيع، ولإبهام الرجل الذي روى عنه سفيان الثوري. ولكن الأثر موصول بالإسنادين اللذين قبله وبعده.
(٣) الأثر ٢٨٠- موسى بن مسعود: هو أبو حذيفة النهدي، وهو ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، ووثقه ابن سعد والعجلي. وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/ ٢٩٥. شبل: هو ابن عباد المكي القارئ، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما.
وهذا الأثر، بأسانيده الثلاثة، ذكره ابن كثير ١: ٨٠ دون تفصيلها، قال: "والظاهر قول مجاهد - فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، أنه قال... ".
(٤) الأولة: الأولى، وليست خطأ.
240
جنْسَيْن (١) فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه (٢) والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب، وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَيُقِيمُونَ﴾
وإقامتها: أداؤها -بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم، إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها، وكما قال الشاعر:
أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الـ ـضِّرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا (٣)
٢٨٢- وكما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة"، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.
٢٨٣- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس،"ويقيمون الصلاة" قال: إقامة
(١) سياقه: "جنَّس... جنسين"، وما بينهما فصل، وجنس الشيء: جعله أجناسًا، كصنفه أصنافًا.
(٢) في المطبوعة: "إيمانه"، وهي صحيحة المعنى أيضًا. والإياب: الرجوع إلى الله بالتوبة والطاعة. ومنه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾
(٣) في المطبوعة"فحاسوا"، وفي المخطوطة"مجآمرا". وخام في الحرب عن قرنه بخيم خيمًا: جبن ونكص وانكسر. ولم أعرف قائل البيت.
241
الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿الصَّلاةَ﴾
٢٨٤- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يقيمون الصلاة": يعني الصلاة المفروضة (٢).
وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى:
لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا (٣)
يعني بذلك: دعا لها، وكقول الأعشى أيضًا (٤).
وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا وصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ
(١) الخبران ٢٨٢، ٢٨٣- في تفسير ابن كثير ١: ٧٧، والدر المنثور ١: ٢٧، والشوكاني ١: ٢٥.
(٢) الأثر ٢٨٤- إسناده ضعيف جدًّا. يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزبرقان: قال الذهبي: "محدث مشهور... وثقه الدارقطني وغيره... والدارقطني من أخبر الناس به". مات سنة ٢٧٥ عن ٩٥ سنة. يزيد: هو ابن هارون، أحد الحفاظ الأعلام المشاهير، من شيوخ الأئمة أحمد وابن معين وابن راهويه وابن المديني. جويبر - بالتصغير: هو ابن سعيد الأزدي البلخي، ضعيف جدًّا، ضعفه يحيى القطان، فيما روى عنه البخاري في الكبير ١/٢/ ٢٥٦، والصغير: ١٧٦، وقال النسائي في الضعفاء: ٨"متروك الحديث"، وفي التهذيب ٢: ١٢٤"قال أبو قدامة السرخسي: قال يحيى القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث. ثم ذكر الضحاك وجويبرًا ومحمد بن السائب. وقال: هؤلاء لا يحتمل حديثهم، ويكتب التفسير عنهم".
(٣) ديوانه: ٢٠٠، يذكر الخمر في دنها. وزمزم العلج من الفرس: إذا تكلف الكلام عند الأكل وهو مطبق فمه بصوت خفي لا يكاد يفهم. وفعلهم ذلك هو الزمزمة. "ذبحت" أي بزلت وأزيل ختمها. وعندئذ يدعو مخافة أن تكون فاسدة، فيخسر.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "وكقول الآخر أيضًا"، والصواب أنه الأعشى، وسبق قلم الناسخ.
242
(١)
وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت"صلاة"، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) ﴾
اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:-
٢٨٥- حدثنا به ابن حُميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
٢٨٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس،"ومما رزقناهم ينفقون"، قال: زكاةَ أموالهم (٢).
٢٨٧- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك،"ومما رزقناهم يُنفقون"، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم، حتى نَزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة، مما يذكر فيهنّ الصدقات، هنّ المُثْبَتات الناسخات (٣).
وقال بعضهم بما:-
٢٨٨- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب
(١) ديوان الأعشى: ٢٩. وقوله"وقابلها الريح" أي جعلها قبالة مهب الريح، وذلك عند بزلها وإزالة ختمها. ويروى: "فأقبلها الريح" وهو مثله. وارتسم الرجل: كبر ودعا وتعوذ، مخافة أن يجدها قد فسدت، فتبور تجارته.
(٢) الخبر ٢٨٦- في المخطوطة"ابن المثنى"، وهو خطأ. والخبر ذكره ابن كثير ١: ٧٧.
(٣) الأثر ٢٨٧- ذكره ابن كثير ١: ٧٧، والسيوطي ١: ٢٧، والشوكاني ١: ٢٥. وقوله"المثبتات": بفتح الباء، أي التي أثبت حكمها ولم ينسخ، ويجوز كسرها، بمعنى أنها أثبتت الفريضة بعد نسخها ما سبقها في النزول. وبدلها عند السيوطي والشوكاني"الناسخات المبينات". وليس بشيء
243
النبي صلى الله عليه وسلم،"ومما رَزقناهم ينفقون": هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنزِل الزكاة (١).
وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت، وأي أجناس الناس هم (٢). غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ:
٢٨٩- فحدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"والذين يؤمنون بما أنزِل إليك وما أنزل من قبلك": أي يصدِّقونك
(١) الخبر ٢٨٨- نقله ابن كثير أيضًا. ونقله السيوطي مختصرًا، وجعله من كلام ابن مسعود وحده. وقلده الشوكاني دون بحث.
(٢) انظر ٢٣٧ - ٢٤١.
244
بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم (١).
٢٩٠- حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،"والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون": هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (٢).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت: ٦٤]. وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل:"أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة"، وإنما صارت آخرة للأولى، لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها، فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق، كما سميت الدنيا"دنيا" لِدُنُوِّها من الخلق.
(١) الخبر ٢٨٩- ذكره ابن كثير ١: ٧٩ مع باقيه الآتي: ٢٩١. وذكره السيوطي ١: ٢٧، والشوكاني ١: ٢٥ بزيادة أخرى على الروايتين، منسوبًا لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
(٢) الخبر ٢٩٠- وهذا ذكره ابن كثير أيضًا، لكن بالإشارة إليه دون سياقة لفظه. وقلده الشوكاني.
وعلى الأصل المخطوط بعد هذا ما نصه
سمع أحمد ومحمد والحسن، بنو عبد الله بن أحمد الفرغاني جميعه.
سمع محمد بن محمد الطرسوسي والحسن بنو محمد بن عبدان، والحسن بن إبراهيم الحناس جميعه. والحمد لله كثيرًا.
245
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه محمد ﷺ وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:-
٢٩١- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك (١).
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون، ولما جاء به من التنزيل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد ﷺ وبما جاء به، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة، دون من كذب بمحمد ﷺ وبما جاء به، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل
(١) الخبر ٢٩١- هو تتمة الخبر السابق ٢٨٩ وقد أشرنا إليه هناك.
246
وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد ﷺ وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله:"أولئك على هدى من ربهم": فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد ﷺ وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
٢٩٢- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما "الذين يؤمنون بالغيب"، فهم المؤمنون من العرب،"والذين يؤمنون بما أنزل إليك"، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال:"أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" (١).
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون
(١) الخبر ٢٩٢- نقله ابن كثير ١: ٨١، والشوكاني ١: ٢٦. ونقله السيوطي ١: ٢٥ مطولا، جمع معه الأخبار الماضية: ٢٧٣، ٢٧٧، ٢٨١، جعلها سياقا واحدا، عن ابن مسعود وحده، ونسبه للطبري.
247
بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد ﷺ وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في محل خفض، ومحل رفع.
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في"يؤمنون بالغيب" من ذكر"الذين"، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ، أو يكون"أولئك على هدى من ربهم"، مرافعها.
وأما الخفض فعلى العطف على"المتقين"، وإذا كانت معطوفة على"الذين" اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و"الذين" الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد"ألم"، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون"الذين" الثانية معطوفة في الإعراب على"المتقين" بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله"ألم"، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون"الذين" الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف (١)، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه، والخفض من وجهين.
وأولى التأويلات عندي بقوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس، وأن تكون"أولئك" إشارة إلى الفريقين، أعني:
(١) في المطبوعة: "الاستئناف" في هذا الموضع والذي يليه. وهما بمعنى.
248
المتقين، والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون"أولئك" مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله"على هدى من ربهم"؛ وأن تكون"الذين" الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه.
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
وأما معنى قوله (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:-
٢٩٣- حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق،
249
عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،"أولئك على هدى من ربهم": أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴾
وتأويل قوله:"وأولئك هم المفلحون" أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:-
٢٩٤- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا.
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:
اعْقِلِي، إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي، وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ (٢)
يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز:
عَدِمتُ أُمًّا ولَدتْ رِياحَا... جَاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحًا فِرْكَاحَا (٣) تَحْسِبُ أَنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجَاحَا!... أَشْهَدُ لا يَزِيدُهَا فَلاحَا
يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ، ومنه قول لبيد:
نَحُلُّ بِلادًا، كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا وَنَرْجُو الْفَلاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ (٤)
يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد:
أَفْلِحَ بِمَا شِئْتَ، فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ـعْفِ، وَقَدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ (٥)
يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان:
وَكُلُّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ وَإِنْ أَثْرَى، وَإِنْ لاقَى فَلاحًا (٦)
أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.
* * *
(١) الخبر ٢٩٣- ذكره ابن كثير ١: ٨١ مع تتمته الآتية: ٢٩٤.
(٢) ديوانه ٢: ١٢، والخطاب في البيت لصاحبته.
(٣) البيت الثاني في اللسان (فركح). والفركحة: تباعد ما بين الأليتين. والفركاح والمفركح منه، يعني به الذم وأنه لا يطيق حمل ما يحمَّل في حرب أو مأثرة تبقى.
(٤) ديوانه القصيدة رقم: ١٤، يرثى من هلك من قومه.
(٥) ديوانه: ٧، وفي المطبوعة والديوان"فقد يبلغ"، وهما روايتان مشهورتان.
(٦) من قصيدة ليست في زيادات ديوانه منها إلا أبيات ثلاثة، ليس هذا أحدها. وشعوب: اسم للمنية والموت، غير مصروف، لأنها تشعب الناس، أي تصدعهم وتفرقهم. وشعبته شعوب: أي حطمته من ألافه فذهبت به وهلك.
250
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) ﴾
اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية، وفيمن نزلَتْ. فكان ابن عباس يقول، كما:-
٢٩٥- حدثنا به محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن الذين كفروا"، أي بما أنزِل إليك من ربِّك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك (١).
وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد ﷺ وتكذيبِهم به، مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.
٢٩٦- وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم (٢).
(١) الخبر ٢٩٥- ذكره ابن كثير ١: ٨٢ مع باقيه الآتي: ٢٩٩. وساقه السيوطي ١: ٢٩ بأطول من ذلك، زاد فيه ما يأتي: ٣٠٧، ٣١١، ونسبه أيضًا لابن إسحاق وابن أبي حاتم، وكذلك نسبه الشوكاني ١: ٢٨ دون الزيادة الأخيرة.
(٢) الخبر ٢٩٦- ذكره ابن كثير ١: ٨٦ بنحوه، من رواية ابن إسحاق. ونقله السيوطي ١: ٢٩ بلفظ الطبري، عنه وعن ابن إسحاق. ونقله الشوكاني موجزًا ١: ٢٩. ومن الواضح أن قوله"كرهنا تطويل الكتاب.. " من كلام الطبري نفسه. وانظر ما يأتي: ٣١٢.
251
وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
٢٩٧- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، قال: كان رسول الله ﷺ يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول (١).
وقال آخرون بما:-
٢٩٨- حُدِّثت به عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [سورة إبراهيم: ٢٨، ٢٩]، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر (٢).
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
(١) الخبر ٢٩٧- هو في ابن كثير ١: ٨٢، والسيوطي ١: ٢٨ - ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨، ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي.
(٢) الأثر ٢٩٨- هكذا هو في الطبري، من قول الربيع بن أنس. وذكره ابن كثير ١: ٨٢ - ٨٣ مختصرًا من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية، ولم يذكر من خرجه. ونقله السيوطي ١: ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨، بأطول مما هنا بذكر الأثر: ٣٠٩ معه، من قول أبي العالية أيضًا، ونسباه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. فالظاهر أن الطبري قصر بإسناده أو قصر به شيخه المبهم.
252
فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي ﷺ إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي ﷺ وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة (١) - لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي ﷺ إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك، فهي أنّ قول الله جل ثناؤه (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم (٢)، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم -وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه ﷺ على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه ﷺ على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم (٣) - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد
(١) سياق عبارته"فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم... لم يجز... "
(٢) الأسباب جمع سبب: وأراد بها الطرق والوسائل.
(٣) عظم اليهود: معظمهم وأكثرهم.
253
صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ، وأنّ ما جاء به فمن عند الله (١). وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ، ولا يحسُب، فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب (٢) فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة (٣) - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم، ومَصُون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ، وإنّ صدقَه لبَيِّن.
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة: ٤٠ وما بعدها]، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ، إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه، فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
(١) في المطبوعة: "من عند الله".
(٢) يعني بالحساب هنا: حساب سير الكواكب وبروجها، وبها يعرف المنجم أخبار ما يدّعى من علم الغيب.
(٣) في المطبوعة: "وانبعث على أحبار"، كأنه معطوف على كلام سابق. وليس صحيحًا، بل هو استئناف كلام جديد.
254
وأما معنى الكفر في قوله"إن الذين كفروا" فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد ﷺ وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره، وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء، ولذلك سمَّوا الليل"كافرًا"، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه، كما قال الشاعر:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا، بَعْدَ مَا أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ (١)
وقال لبيدُ بن ربيعة:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا (٢)
يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد ﷺ وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) [سورة البقرة: ١٥٩]، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
* * *
(١) الشعر لثعلبة بن صعير المازني، شرح المفضليات: ٢٥٧. والضمير في قوله"فتذكرا" للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل. ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد: وضع بعضه فوق بعض ونضده. وعنى بيض النعام، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس.
(٢) معلقته المشهورة، ويأتي في تفسير آية سورة المائدة: ١٢ (٦: ٩٨ بولاق). ويروى "ظلامها". وصدره: " يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا"
يعني البقرة الوحشية، قد ولجت كناسها في أصل شجرة، والرمل يتساقط على ظهرها.
255
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) ﴾
وتأويل"سواءٌ": معتدل. مأخوذ من التَّساوي، كقولك:"مُتَساوٍ هذان الأمران عندي"، و"هما عِندي سَواءٌ"، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) [سورة الأنفال: ٥٨]، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله"سَواءٌ عليهم": معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون (١)، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات:
تُغِذُّ بيَ الشّهبَاءُ نَحْوَ ابن جَعْفٍر سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا (٢)
يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ، لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر (٣)
وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِه سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
وأما قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع"أيّ" كما تقول:"لا نُبالي أقمتَ أم
(١) في المطبوعة"كانوا لا يؤمنون".
(٢) ديوانه: ١٦٣، والكامل للمبرد ١: ٣٩٨، ٣٩٩. يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. أغذ السير وأغذ فيه: أسرع. ورواية ديوانه، والكامل"تقدت". وتقدى به بعيره: أسرع على سنن الطريق. والشهباء: فرسه، للونها الأشهب، وهو أن يشق سوادها أو كمتتها شعرات بيض حتى تكاد تغلب السواد أو الكمتة.
(٣) الشعر لمضرس بن ربعي الفقعسي. حماسة ابن الشجري: ٢٠٤.
256
قعدت"، وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع"أي". وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله:"سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ:"أفعلتَ أم لم تفعل".
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع"سواء"، وليس باستفهام، لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال:"أزيد عندك أم عمرو؟ " مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله:"سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم" بمعنى التسوية، أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:-
٢٩٩- حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ (١).
* * *
(١) الخبر ٢٩٩- سبق تخريجه مع الخبر ٢٩٥.
257
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ، إذا طبَعْتَه.
فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ، وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف (١) ؟
قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور (٢). فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات، ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:
٣٠٠- فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا (٣) - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال
(١) الغلف جمع غلاف: وهو الصوان الذي يشتمل على ما أوعيت فيه.
(٢) في المخطوطة: "من المعارف بالعلوم".
(٣) قال بإصبعه: أشار بإصبعه.
258
مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ (١).
٣٠١- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: القلبُ مثلُ الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان (٢).
٣٠٢- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ، والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع (٣).
٣٠٣- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع، والطَّبع أيسر من الأقْفَال، والأقفال أشدُّ ذلك كله (٤).
(١) الأثر ٣٠٠- عيسى بن عثمان بن عيسى بن عبد الرحمن، التميمي النهشلي: قال النسائي: "صالح". وهو من شيوخ الترمذي وابن مندة وغيرهما، مات سنة ٢٥١، وروى عنه البخاري أيضًا في التاريخ الصغير: ٢٢٤ في ترجمة عمه. وعمه"يحيى بن عيسى". وثقه أحمد والعجلي وغيرهما، وترجمه البخاري في الصغير، قال: "حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى، قال: مات يحيى بن عيسى أبو زكريا التميمي سنة ٢٠١ أو نحوها. كوفي الأصل، وإنما قيل: الرملي، لأنه حدث بالرملة ومات فيها"، وترجمه في الكبير أيضًا ٤/٢: ٢٩٦"يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي، سمع الأعمش، وهو التميمي أبو زكريا الكوفي، سكن الرملة... ". ولم يذكر فيه جرحًا.
وهذا الأثر، سيأتي بهذا الإسناد في تفسير آية سورة المطففين: ١٤ (٣٠: ٦٣ بولاق). وذكره ابن كثير ١: ٨٢، والسيوطي ٦: ٣٢٦.
(٢) الأثر ٣٠١- سيأتي أيضًا (٣٠: ٦٣ بولاق). وأشار إليه ابن كثير ١: ٨٣ دون أن يذكر لفظه. وكذلك السيوطي ٦: ٣٢٥.
(٣) الأثر ٣٠٢- هذا من رواية ابن جريج عن مجاهد، والظاهر أنه منقطع، لأن ابن جريج يروي عن مجاهد بالواسطة، كما سيأتي في الأثر بعده. وهذا الأثر ذكره ابن كثير ١: ٨٣، ولكنه محرف فيه من الناسخ أو الطابع.
(٤) الأثر ٣٠٣- عبد الله بن كثير: هو الداري المكي، أحد القراء السبعة المشهورين، وهو ثقة. وقد قرأ القرآن على مجاهد. وقد خلط ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٢/٢: ١٤٤ بينه وبين"عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي". ويظهر من كلام الحافظ في التهذيب ٥: ٣٦٨ أن هذا الوهم كان من البخاري نفسه، فلعل ابن أبي حاتم تبعه في وهمه دون تحقيق.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير ١: ٨٣، وكذلك السيوطي ٦: ٣٢٦، وزاد نسبته إلى البيهقي.
259
وقال بعضهم: إنما معنى قوله"ختم الله على قُلوبهم" إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق، كما يقال:"إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام"، إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا.
قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
٣٠٤- حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك"الرَّانُ" الذي قال الله جل ثناؤه: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١) [سورة المطففين: ١٤].
(١) الحديث ٣٠٤- سيأتي في الطبري بهذا الإسناد ٣٠: ٦٢ بولاق. ورواه هناك بإسناد آخر قبله، وبإسنادين آخرين بعده: كلها من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع.
محمد بن بشار: هو الحافظ البصري، عرف بلقب"بندار" بضم الباء وسكون النون. روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من الأئمة. ووقع في المطبوعة هنا"محمد بن يسار"، وهو خطأ. ابن عجلان، بفتح العين وسكون الجيم: هو محمد بن عجلان المدني، أحد العلماء العاملين الثقات. القعقاع بن حكيم الكناني المدني: تابعي ثقة. أبو صالح: هو السمان، واسمه"ذكوان". تابعي ثقة، قال أحمد: "ثقة ثقة، من أجل الناس وأوثقهم".
والحديث رواه أحمد في المسند ٧٩٣٩ (٢: ٢٩٧ حلبي) عن صفوان بن عيسى، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم ٢: ٥١٧ من طريق بكار بن قتيبة القاضي عن صفوان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه الترمذي ٤: ٢١٠، وابن ماجه ٢: ٢٩١، من طريق محمد بن عجلان. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره ابن كثير ١: ٨٤ من رواية الطبري هذه، ثم قال: هذا الحديث من هذا الوجه، قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد ابن مسلم - ثلاثتهم عن محمد بن عجلان، به. وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ثم ذكره مرة أخرى ٩: ١٤٣ من رواية هؤلاء ومن رواية أحمد في المسند. وذكره السيوطي ٦: ٣٢٥، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي متن الحديث هنا، في المطبوعة"كان نكتة... صقل قلبه... حتى يغلف قلبه". وهو في رواية الطبري الآتية، كما في المخطوطة، إلا قوله"حتى تغلق قلبه"، فهي هناك"حتى تعلو قلبه".
260
فأخبر ﷺ أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع (١)، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ)، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم، أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم -وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به -وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه، وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه، فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم، وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه (٢).
(١) في المطبوعة: "أغلفتها" في الموضعين، والتصحيح من المخطوطة وابن كثير.
(٢) في المطبوعة: "وذلك دخول فيما أنكروه".
261
وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم، ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾
قال أبو جعفر: وقوله (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن"غِشاوةٌ" مرفوعة بقوله"وعلى أبصارهم"، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ، وأن قوله"ختم الله على قلوبهم"، قد تناهى عند قوله"وعلى سمْعهم".
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:
أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها، وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.
والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)، ثم قال: (وَجَعَلَ
262
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: ٢٣]، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت، وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية.
وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ، رُوي الخبر عن ابن عباس:
٣٠٥- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، والغشاوة على أبصارهم (١).
(١) الخبر ٣٠٥- هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري، وقد مضى أول مرة ١١٨، ولم أكن قد اهتديت إلى شرحه. وهو إسناد مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة، إن صح هذا التعبير! وهو معروف عند العلماء بـ "تفسير العوفي"، لأن التابعي -في أعلاه- الذي يرويه عن ابن عباس، هو"عطية العوفي"، كما سنذكر. قال السيوطي في الإتقان ٢: ٢٢٤: "وطريق العوفي عن ابن عباس، أخرج منها ابن جرير، وابن أبي حاتم، كثيرًا. والعوفي ضعيف، ليس بواه، وربما حسن له الترمذي". وسنشرحه هنا مفصلا، إن شاء الله:
محمد بن سعد، الذي يروى عنه الطبري: هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي، من"بني عوف بن سعد" فخذ من"بني عمرو بن عياذ بن يشكر بن بكر بن وائل". وهو لين في الحديث، كما قال الخطيب. وقال الدارقطني: "لا بأس به". مات في آخر ربيع الآخر سنة ٢٧٦. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ٥: ٣٢٢ - ٣٢٣. والحافظ في لسان الميزان ٥: ١٧٤. وهو غير"محمد بن سعد بن منيع" كاتب الواقدي، وصاحب كتاب الطبقات الكبير، فهذا أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، قديم الوفاة، مات في جمادي الآخرة سنة ٢٣٠.
أبوه"سعد بن محمد بن الحسن العوفي": ضعيف جدًّا، سئل عنه الإمام أحمد، فقال: "ذاك جهمي"، ثم لم يره موضعًا للرواية ولو لم يكن، فقال: "لو لم يكن هذا أيضًا لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك". وترجمته عند الخطيب ٩: ١٣٦ - ١٢٧، ولسان الميزان ٣: ١٨ - ١٩.
عن عمه: أي عم سعد، وهو"الحسين بن الحسن بن عطية العوفي". كان على قضاء بغداد، قال ابن معين: "كان ضعيفًا في القضاء. ضعيفًا في الحديث". وقال ابن سعد في الطبقات: "وقد سمع سماعًا كثيرًا، وكان ضعيفًا في الحديث". وضعفه أيضًا أبو حاتم والنسائي. وقال ابن حبان في المجروحين: "منكر الحديث.. ولا يجوز الاحتجاج بخبره". وكان طويل اللحية جدا، روى الخطيب من أخبارها طرائف، مات سنة ٢٠١. مترجم في الطبقات ٧/٢/ ٧٤، والجرح والتعديل ١/٢/ ٤٨، وكتاب المجروحين لابن حبان، رقم ٢٢٨ ص ١٦٧، وتاريخ بغداد ٨: ٢٩ - ٣٢، ولسان الميزان ٢: ٢٧٨.
عن أبيه: وهو"الحسن بن عطية بن سعد العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، قال البخاري في الكبير: "ليس بذاك"، وقال أبو حاتم: " ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "يروى عن أبيه، روى عنه ابنه محمد بن الحسن، منكر الحديث، فلا أدري: البلية في أحاديثه منه، أو من أبيه، أو منهما معًا؟ لأن أباه ليس بشيء في الحديث، وأكثر روايته عن أبيه، فمن هنا اشتبه أمره، ووجب تركه". مترجم في التاريخ الكبير ١/٢/ ٢٩٩، وابن أبي حاتم ١/٢/ ٢٦، والمجروحين لابن حبان، رقم ٢١٠ ص ١٥٨، والتهذيب.
عن جده: وهو"عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، وهو ضعيف أيضًا، ولكنه مختلف فيه، فقال ابن سعد: "كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة. ومن الناس من لا يحتج به"، وقال أحمد: "هو ضعيف الحديث. بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير. وكان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية". قال: صالح". وقد رجحنا ضعفه في شرح حديث المسند: ٣٠١٠، وشرح حديث الترمذي: ٥٥١، وإنما حسن الترمذي ذاك الحديث لمتابعات، ليس من أجل عطية. وقد ضعفه النسائي أيضًا في الضعفاء: ٢٤. وضعفه ابن حبان جدًّا، في كتاب المجروحين، قال: ".. فلا يحل كتبة حديثه إلا على وجه التعجب"، الورقة: ١٧٨. وانظر أيضًا: ابن سعد ٦: ٢١٢ - ٢١٣ والكبير البخاري ٤/١/ ٨ - ٩. والصغير ١٢٦. وابن أبي حاتم ٣/١/ ٣٨٢ - ٣٨٣. والتهذيب.
والخبر نقله ابن كثير ١: ٨٥، والسيوطي في الدر المنثور ١: ٢٩، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. وكذلك صنع الشوكاني ١: ٢٨.
263
فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار"جعل" (١)، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط"جعل"، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا، وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على"غشاوة"، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا، كما قال تعالى ذكره: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ)، ثم قال: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ)، [سورة الواقعة: ١٧-٢٢]، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاء بارِدًا حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا (٢)
(١) في المطبوعة: "إن نصبها.. ".
(٢) لا يعرف قائله، وأنشده الفراء في معاني القرآن ١: ١٤ وقال: "أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه"، وفي الخزانة ١: ٤٩٩: "رأيت في حاشية صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده". وسيأتي في تفسير آية سورة المائدة: ١٠٩ (٧: ٨١ بولاق). وقوله"شتت" من شتا بالمكان: أقام فيه زمن الشتاء، وهو زمن الجدب، وهمالة: تهمل دمعها أي تسكبه وتصبه من شدة البرد.
264
ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به، ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:
ورأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا (١)
وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله"وعلى سَمْعهم"، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه، ويتأوّل فيه من كتاب الله (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) [سورة الشورى: ٢٤].
٣٠٦- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع، والغشاوة على البَصَر، قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) (٢)، وقال: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: ٢٣].
والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُكَ إذْ عَيْني عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا (٣)
ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
(١) مضى تخريج هذا البيت في ص ١٤٠.
(٢) الأثر ٣٠٦- ساقه ابن كثير في تفسيره ١: ٨٥، والشوكاني ١: ٢٨.
(٣) الشاعر هو الحارث بن خالد المخزومي، ويأتي البيت في تفسير آية سورة الأعراف: ١٨ (٨: ١٠٣ بولاق)، وروايته هناك: "صحبتك إذ عيني.. أذيمها"، شاهدًا على"الذام"، وهو أبلغ في العيب من الذم، ثم قال أبو جعفر: "وأكثر الرواة على إنشاده: ألومها"، وخبر البيت: أن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة حج البيت، فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرًا لا يصل إليه، فانصرف عنه وقال البيت الشاهد وبعده:
وما بِيَ إن أقصَيتنِي من ضَرَاعةٍ وَلاَ افْتَقَرَتْ نَفْسِي إلى مَنْ يَضِيمُها
(انظر الأغاني ٣: ٣١٧)، وبلغ عبد الملك شعره، فأرسل إليه من رده إليه.
265
هَلا سَأَلْتِ بَنِي ذُبيَان مَا حَسَبي إذَا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشمَط البَرَمَا (١)
يعني بذلك: تجلّله وَخالطه.
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا ﷺ عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه، وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيّه محمد ﷺ - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد ﷺ نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته، فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.
وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:
٣٠٧- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك (٢).
٣٠٨- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول
(١) ديوانه: ٥٢. والأشمط: الذي شاب رأسه من الكبر، والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير ٤١٠، ١٢٣٨: "وإنما خص الأشمط، لأنه قد كبر وضعف، فهو يأتي مواضع اللحم".
(٢) الخبر ٣٠٧- ذكره السيوطي ١: ٢٩ متصلا بما مضى: ٢٩٥، ٢٩٩ وبما يأتي: ٣١١. ساقها سياقًا واحدًا.
266
الله صلى الله عليه وسلم:"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول:"وجَعل على أبصارهم غشاوة" يقول: على أعينهم فلا يُبصرون (١).
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
٣٠٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلى (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هم (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [سورة إبراهيم: ٢٨]، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب، والحَكَم بن أبي العاص (٢).
٣١٠- وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ.
وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) ﴾
وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:
(١) الخبر ٣٠٨- ساقه ابن كثير ١: ٨٥. وذكره السيوطي ١: ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨ عن ابن مسعود فقط.
(٢) الأثر ٣٠٩- هو تتمة الأثر الماضي: ٢٩٨، كما ساقه السيوطي ١: ٢٩، والشوكاني ١: ٢٨. وقد أشرنا إليه هناك.
267
٣١١- حدثنا ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله:"ومن الناس"، فإن في"الناس" وجهين:
أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه، وإنما واحدهم"إنسانٌ"، وواحدتهم"إنسانة" (٢).
والوجه الآخر: أن يكون أصله"أُناس" أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان، فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون، كما قيل في (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) [سورة الكهف: ٣٨]، على ما قد بينا في"اسم الله" الذي هو الله (٣). وقد زعم بعضهم أن"الناس" لغة غير"أناس"، وأنه سمع العرب تصغرهُ"نُوَيْس" من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس، فرُدَّ إلى أصله.
وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهلِ النِّفاق، وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.
(١) الخبر ٣١١- هو تتمة الأخبار: ٢٩٥، ٢٩٩، ٣٠٧، ساقها السيوطي ١: ٢٩ مساقًا واحدًا، كما أشرنا من قبل. ولكنه حذف من آخره ما بعد قوله"فهذا في الأحبار من يهود". لعله ظنه من كلام الطبري. والسياق واضح أنه من تتمة الخبر.
(٢) في المطبوعة: "واحده إنسان، وواحدته إنسانة".
(٣) انظر ما مضى ص ١٢٥ - ١٢٦.
268
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم:
٣١٢- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم.
وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم (١).
٣١٣- حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، حتى بلغ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) قال: هذه في المنافقين (٢).
٣١٤- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين.
٣١٥- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
٣١٦ حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
(١) الخبر ٣١٢- مضى نحو معناه: ٢٩٦، وأشرنا إلى هذا هناك.
وأسماء المنافقين، من الأوس والخزرج، الذين كره الطبري إطالة الكتاب بذكرهم - حفظها علينا ابن هشام، في اختصاره سيرة ابن إسحاق، بتفصيل واف: ٣٥٥ - ٣٦١ (طبعة أوربة)، ٢: ١٦٦ - ١٧٤ (طبعة الحلبي)، ٢: ٢٦ - ٢٩ (الروض الأنف).
(٢) الأثر ٣١٣- الحسن بن يحيى، شيخ الطبري؛ وقع في الأصول هنا"الحسين"، وهو خطأ. وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب، رقم: ٢٥٧.
269
٣١٧- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) هم المنافقون.
٣١٨- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: (ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) إلى (فزادهم الله مَرَضًا ولهم عذاب أليم)، قال: هؤلاء أهلُ النفاق.
٣١٩- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه (١).
وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد ﷺ أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله ﷺ الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا (٢)، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا، كما قال جل ثناؤه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [سورة البقرة: ١٠٩]، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي ﷺ وأصحابه
(١) الروايات ٣١٤ - ٣١٩: ساق بعضها ابن كثير ١: ٨٦ بين نص وإشارة. وساق بعضها أيضًا السيوطي ١: ٢٩. والشوكاني ١: ٢٩.
(٢) في: المخطوطة"العداوة والشنار"، وهو خطأ. والشنآن والشناءة: البغض يكشف عنه الغيظ الشديد. شنئ الشيء يشنؤه: أبغضه بغضًا شديدًا.
270
وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله ﷺ ونَصَروه (١) - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم (٢) قد سُمُّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله ﷺ وأصحابه، وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله ﷺ وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم -حِذارًا على أنفسهم-: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث، وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد ﷺ وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ). فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله-: وصدّقنا بالله (٣).
وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا (٤).
وقوله: (وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة"اليومَ الآخر"، لأنه آخر يوم، لا يومَ بعده سواه.
فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء، ولا زوال؟
(١) الغوائل جمع غائلة: وهي: النائبة التي تغول وتهلك. وأراهط جمع رهط، والرهط: عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة، لا يكون فيهم امرأة. وعنى بهم العدد القليل من بطون الأنصار.
(٢) في المطبوعة: "عتوا في جاهليتهم" وكلتاهما صواب. عسا الشيء يعسو: اشتد وصلب وغلظ من تقادم العهد عليه، وعسا الرجل: كبر. والعاسي: هو الجافي، ومثله العاتي. وعتا يعتو، في معناه. وانظر ما مضى ص: ٣٦، تعليق.
(٣) في المطبوعة"وصدقنا بالله"، وزيادة الواو خطأ.
(٤) انظر ما مضى ص: ٢٣٤ - ٢٣٥.
271
قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه"اليوم الآخر"، ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده (١).
وأما تأويل قوله:"وما هم بمؤمنين"، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان، وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلامٌ منه نبيَّه ﷺ أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم، وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم:"آمنا بالله وباليوم الآخر"، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك.
وقوله"وما هم بمؤمنين"، يعني بمصدِّقين" فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون.
* * *
القول في تأويل جل ثناؤه: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾
قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه
(١) وذلك قول ربنا سبحانه في سورة الحج: ٥٥: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾.
272
بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟
قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها، وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها، ومجَرِّعها به كأس عَذابها، ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به (١). فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه:"وما يخدَعُون إلا أنفسهم ومَا يشعُرُون"، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.
٣٢٠- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى
(١) في المطبوعة: "ومذيقها من غضب الله"، وفي المخطوطة: "ومربدها... "، وفي تفسير ابن كثير ١: ٨٧"ومز برها... "، والصواب ما أثبتناه، وأزاره: حمله على الزيارة. وفي حديث طلحة: "... حتى أزرته شعوب"، وشعوب هي المنية، أي أوردته المنية فزارها. وجعلها زيارة، وهي هلاك. سخرية بهم واستهزاء، لقبح غرورهم بربهم، وفرحهم بما مد لهم من العمر والمال والمتاع.
273
آخر الآية، قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا (١).
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون، وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مُصِرُّون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن"المُفاعلة" لا تكون إلا من فاعلَيْن، كقولك: ضاربتُ أخاك، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك، فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟
قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب (٢) : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني"يُخَادِع" بصورة"يُفَاعل"، وهو بمعنى"يَفْعَل"، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب، نظيرَ قولهم: قاتَلك الله، بمعنى قَتَلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من"التفاعل" الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى"يفاعل ومُفاعل" في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم
(١) الأثر ٣٢٠- في الدر المنثور ١: ٣٠، والشوكاني ١: ٣٠ بتمامه، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية برقم: ٣٢١.
(٢) يعني أبا عبيدة في كتابه"مجاز القرآن": ٣١.
274
وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه، كالذي أخبر في قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: ١٧٨]، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [سورة الحديد: ١٣]، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ "يُفاعِل ومُفاعل". وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل:"يُخادِعون الله" عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا، فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم:"وما يخدعون" يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها (١). وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾
إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن
(١) يعني بقوله"بالتخلية بها"، أي بالانفراد بها وإخفاء ما يبطنون من الكفر. كأن أراد أن يجعل اشتقاق"يخدعون" من المخدع، وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير، وأراد الستر الشديد لما يبطنون. وأخلى بفلان يخلى به إخلاء: انفرد به في مكان خال. واستعمل"التخلية" بمعنى أنه حمل على الخلوة، كأنه حمل نفسه على الخلوة بها والانفراد، ليخفى ما فيها. وهذا الذي ذكره شرح لبقية الآية الذي سيأتي بعد.
275
كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين (١). كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا، أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين، ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه، فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه، وتنفي عنه قتلَه صاحبَه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول:"خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه"، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم، لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم، ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة، والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه، والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه = غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ، بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها (٢)، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه، ولا عارف باطِّلاعه على ضميره، وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه (٣) ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه،
(١) في المطبوعة: "جاءت لهم على المؤمنين"، وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "التي هو بها موقع"، وعنى: العقوبة التي هو موقعها به...
(٣) في المطبوعة: "وأن إمهال مستدرجه، وتركه إياه معاقبته على جرمه"، وهو خطأ مفسد للمعنى.
276
بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ (١) = فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه، إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون (وما يخادعون) لأن لفظ"المخادع" غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة، ولفظ"خادع" موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه، فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ).
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: (وَمَا يَخْدَعُونَ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: (وما يخادعون)، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) ﴾
يعني بقوله جل ثناؤه"وما يَشعرون"، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به -إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
(١) سياق هذه العبارة: "ليبلغ المخاتل المخادع... أقصى غاية"، وسياق الذي يليها من صدر الجملة: "فأما والمخادع عارف... فإنما هو خادع نفسه... "، وما بينهما فصل طويل.
277
عَقَّوْا بِسَهمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَدٌ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا: حَبَّذَا الوَضَحُ (١)
يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ، ولها في الآجل مَضرة. كالذي-:
٣٢١- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)، قال: هم المنافقون حتى بلغ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) [سورة المجادلة: ١٨]، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم (٢).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره
(١) الشعر للمتنخل الهذلي، ديوان الهذليين ٢: ٣١، وأمالي القالي ١: ٢٤٨، وسمط اللآلئ ٥٦٣. عقى بالسهم: رمى به في السماء لا يريد به شيئًا، وأصله في الثأر والدية، وذلك أنهم كانوا يجتمعون إلى أولياء المقتول بدية مكملة، ويسألونهم قبول الدية. فإن كانوا أقوياء أبوا ذلك، وإلا أخذوا سهمًا ورموا به في السماء، فإن عاد مضرجًا بدم، فقد زعموا أن ربهم نهاهم عن أخذ الدية. وإن رجع كما صعد، فقد زعموا أن ربهم أمرهم بالعفو وأخذ الدية. وكل ذلك أبطل الإسلام. وفاء واستفاء: رجع. والوضح: اللبن. يهجوهم بالذلة والدناءة، فأهدروا دم قتيلهم، ورموا بالسهم الذي يزعمونه يأمرهم وينهاهم، ورجعوا عن طلب الترة إلى قبول الدية، وآثروا إبل الدية وألبانها على دم قاتل صاحبهم، وقالوا في أنفسهم: اللبن أحب إلينا من القود وأنفع.
(٢) الأثر ٣٢١- هو تمام الأثر الذي سلف: ٣٢٠.
278
عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد = ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد -استغنى بالخبَر عن القلب بذلك = والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم (١) كما قال عُمر بن لَجَأ:
وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ، لا تَلُمْهَا، رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا (٢)
يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي:
هَلا سَأَلتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ؟ إنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي (٣)
يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم:"يا خَيْلَ الله اركبي"، يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه، فلا هم به موقنون إيقان إيمان، ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (٤) كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر،
(١) في المطبوعة: "والكناية عن تصريح الخبر... "، وقوله: "والكفاية عن تصريح الخبر... " معطوف على قوله"الخبر عن مرض ما في قلوبهم... "
(٢) يأتي البيت في تفسير آية البقرة: ١١٠ (١: ٣٩١ بولاق).
(٣) في معلقته المشهورة.
(٤) تضمين آية سورة النساء: ١٤٣.
279
أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٢- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"في قلوبهم مرضٌ"، أي شكٌّ.
٣٢٣- وحدِّثت عن المِنْجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: المرض: النفاق.
٣٢٤- حُدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"في قلوبهم مرضٌ" يقول: في قلوبهم شكّ.
٣٢٥- حُدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"في قلوبهم مَرَضٌ"، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون.
٣٢٦- حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله"في قلوبهم مَرَض" قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.
٣٢٧- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"في قلوبهم مَرَضٌ" قال: هؤلاء أهلُ النفاق، والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره.
٣٢٨- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) حتى بلغ (فِي
280
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾
قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.
فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - (٢) إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
(١) الأخبار: ٣٢٢ - ٣٢٨، نقلها ابن كثير ١: ٨٨، والسيوطي ١: ٣٠، والشوكاني ١: ٣٠ - مع تتمتها الآتية في تفسير بقية الآية، بالأرقام: ٣٢٩، ٣٣٦، ٣٣٠، ٣٣٢، ٣٣١، ٣٣٣ - على هذا التوالي. ولكن ٣٣٦ لم يذكر فيه"عن ابن عباس".
و"المنجاب" في ٣٢٣، ٣٣٦: هو ابن الحارث بن عبد الرحمن التميمي، من شيوخ مسلم، روى عنه في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم وآخره باء موحدة.
(٢) سياق العبارة: "فزادهم الله بما أحدث من حدوده... من الشك والحيرة... إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم... ".
281
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [سورة التوبة: ١٢٤، ١٢٥]. فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل:
٣٢٩- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: شكًّا.
٣٣٠- حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فزادَهُم الله مَرَضًا"، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.
٣٣١- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة:"فزادهم الله مرضًا"، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.
٣٣٢- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:"في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) قال: شرًّا إلى شرِّهم، وضلالةً إلى ضلالتهم.
٣٣٣- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فزادهم الله مَرَضًا"، قال: زادهم الله شكًّا (١).
* * *
(١) الأخبار: ٣٢٩ - ٣٣٣: هي تمام الآثار السالفة: ٣٢٢ - ٣٢٨.
282
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ"مؤلم" إلى"أليم" (١)، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع، والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ (٢)
بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاتٍ يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجُ أَلِيمُ (٣)
ويروى"يَصُكُّ"، وإنما الأليم صفةٌ للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم، والألم: الوَجَعُ. كما-:
٣٣٤- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الأليم، المُوجع.
٣٣٥- حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هُشيم، قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك قال: الأليمُ، الموجع (٤).
(١) في المطبوعة: "فصرف مؤلم.. ".
(٢) الأصمعيات: ٤٣، ويأتي في تفسير آية سورة يونس: ١ (١١: ٥٨ بولاق). وريحانة: هي بنت معديكرب، أخت عمرو بن معديكرب، وهي أم دريد بن الصمة، وكان أبوه الصمة، سباها وتزوجها. (الأغاني ١٠: ٤).
(٣) ديوانه: ٥٩٢. وقوله"ونرفع من صدور.. " أي نستحثها في السير، والإبل إذا أسرعت رفعت من صدورها. وشمردلات جمع شمردلة: وهي الناقة الحسنة الجميلة الخلق الفتية السريعة. وقوله"يصد وجوهها" أي يستقبل وجوهها ويضربها وهج أليم، فتصد وجوهها أي تلويها كالمعرضة عن لذعته. ورواية ديوانه: "يصك"، وصكة صكة: ضربة ضربة شديدة. والوهج: حرارة الشمس، أو حرارة النار من بعيد.
(٤) الأثر ٣٣٥- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم - بضم الهاء: هو ابن بشير، بفتح الباء وكسر الشين المعجمة، بن القاسم، أبو معاوية الواسطي، إمام حافظ كبير، روى عنه الأئمة: أحمد وابن المديني وغيرهما، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري". ومعنى هذا الأثر مضمن في الذي بعده: ٣٣٦.
283
٣٣٦- وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك في قوله"أليم"، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) ﴾
اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك (٢) فقرأه بعضهم: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء، وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون:"يُكَذِّبُونَ" بضم الياء وتشديد الذال، وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة (٣).
وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه ﷺ وبما جاء به، وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب، فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)
(١) الأثر ٣٣٦- ذكره السيوطي ١: ٣٠. وأشار إليه الشوكاني ١: ٣٠.
(٢) في المطبوعة: "اختلفت القراء"، والقَرَأَة: جمع قارئ، وانظر ما مضى، ٥١ تعليق، وص ٦٤ تعليق: ٤، وص ١٠٩ تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة: "قراءة معظم أهل الكوفة"، و"قراءة معظم أهل المدينة... "، وعظم الناس: معظمهم وأكثرهم. وانظر التعليق السالف، ثم ص ١٠٩ تعليق: ١.
284
بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة، (وَمَا يَخْدَعُونَ) بصنيعهم ذلك (إِلا أَنْفُسَهُمْ) دون رسول الله ﷺ والمؤمنين؛ (وَمَا يَشْعُرُونَ) بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، (فِي قُلُوبِهِمْ) شك النفاق وريبَتُه (١) والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنزيله بذلك نزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم، ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا (٢)، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب، وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة المنافقون: ١، ٢]. والآية
(١) في المطبوعة: "في قلوبهم شك، أي نفاق وريبة". والذي في المخطوطة أصح.
(٢) في المطبوعة: "فهذا مع دلالة الآية الأخرى.. "، ولم يأت في الجملة خبر قوله"فهذا"، والذي في المخطوطة هو الصواب.
285
الأخرى في المجادلة: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [سورة المجادلة: ١٦]. فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة:"ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون" لكانت القراءةُ في السورة الأخرى:"والله يشهدُ إن المنافقين" لمكذِّبون، ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله:"والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون" بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة:"بما كانوا يَكْذِبون" بمعنى الكذِب، وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.
وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن"ما" من قول الله تبارك اسمه"بما كانوا يكذبون"، اسم للمصدر، كما أنّ"أنْ" و"الفعل" اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني، وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل"كان" ليخبر أنه كان فيما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه، وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت"كان" في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها، فكأنه قال:"حَسَنًا كان زيد" و"حَسَن كان زَيْدٌ" يُبْطِلُ"كان"، ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل"كان"، ووقعت"كان" بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ "فعل" و"يفعل" اللتين لا يظهرُ عمل
286
"كان" فيهما. ألا ترى أنك تقول:"يقوم كان زيد"، ولا يظهر عمل"كان" في"يقوم"، وكذلك"قام كان زيد". فلذلك أبطل عملها مع"فاعل" تمثيلا بـ "فعل" و"يفعل"، وأعملت مع"فاعل" أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت"كان" الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها، فخطأ عنده أن تكون"كان" مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه، وتأوّل قول الله عز وجل"بما كانوا يكذبون" أنه بمعنى: الذي يكذبونه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ﴾
اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية:
فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعدُ.
٣٣٧- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عَثَّامُ بن علي، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث، عن عَبَّاد بن عبد الله، عن سَلْمان، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ، الَّذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (١).
(١) الخبر ٣٣٧- عثام -بفتح العين المهملة وتشديد الثاء المثلثة- بن علي العامري: ثقة، وثقه أبو زرعة وابن سعد وغيرهما. ترجمه ابن سعد ٦: ٢٧٣، والبخاري في الكبير ٤/١/ ٩٣، وابن أبي حاتم ٣/٢/٤٤. المنهال بن عمرو الأسدي: ثقة، رجحنا توثيقه في المسند: ٧١٤، وقد جزم البخاري في الكبير ٤/٢/ ١٢ أن شعبة روى عنه، ورواية شعبة عنه ثابتة في المسند: ٣١٣٣. عباد بن عبد الله: هو الأسدي الكوفي، قال البخاري: "فيه نظر"، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن المديني، وذكر ابن أبي حاتم ٣/١/٨٢ أنه"سمع عليًّا". وقد بينت في شرح المسند: ٨٨٣ أن حديثه حسن. وسلمان: هو سلمان الخير الفارسي الصحابي، رضي الله عنه. وهذا الخبر نقله ابن كثير ١: ٩١، والسيوطي ١: ٣٠، ونسبه أيضًا لوكيع وابن أبي حاتم، وذكره الشوكاني ١: ٣١ ونسبه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، ولم أجد نسبته لابن إسحاق عند غيره.
287
٣٣٨- حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الأعمش، عن زيد بن وَهب وغيره، عن سَلْمان، أنه قال في هذه الآية: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ (١).
وقال آخرون بما-:
٣٣٩- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد، قال: حدثنا أسْباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، هم المنافقون. أما"لا تفسدوا في الأرض"، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية.
٣٤٠- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الرَّبيع: (وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض) يقول: لا تعْصُوا في الأرض (قالوا إنما نحن مصلحون)، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه، لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض، لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة (٢).
(١) الخبر ٣٣٨- أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي: ثقة، وثقه النسائي والبزار وغيرهما، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهو من الشيوخ القلائل الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء، فإنه مات سنة ٢٦٠ أو ٢٦١، والبخاري مات سنة ٢٥٦. عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: "واهى الحديث".
وإسناده عندي حسن، وقد مضى قبله بإسناد آخر حسن. فكل منهما يقوي الآخر، وقد نقله ابن كثير ١: ٩١ عن الطبري بهذا الإسناد.
(٢) الأثر ٣٤٠- قوله: "قالوا إنما نحن مصلحون"، من المخطوطة، وليس في المطبوعة، وفي المطبوعة والمخطوطة: "فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله... "، و"على أنفسهم" كأنها زيادة من الناسخ، وليست فيما نقله ابن كثير عن الطبري.
288
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية:"ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ (١)، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ.
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا، لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله ﷺ - على عهد رسول الله ﷺ - من المنافقين، وأنّ هذه الآيات فيهم نَزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.
والإفساد في الأرض، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه، وتضييعُ ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [سورة البقرة: ٣٠]، يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم، وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه، وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته (٢)، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم
(١) في المطبوعة: "عمن جاء منهم بعدهم"، وهو محيل للمعنى، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "بحقيقه"، والصواب من المخطوطة وابن كثير.
289
يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه، ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره، والأليمَ من عذابه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم، فقال تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ). وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين: إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه.
* * *
القول في تأويل قوله ثناؤه: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) ﴾
وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس، الذي-:
٣٤١- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، أي قالوا: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وخالفه في ذلك غيره.
٣٤٢- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجّاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ)، قال: إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون (١).
(١) الخبران ٣٤١، ٣٤٢- ساقهما ابن كثير ١: ٩١، والسيوطي ١: ٣٠ والشوكاني ١: ٣٠
290
قال أبو جعفر: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ، أو في أديانهم، وفيما ركبوا من معصية الله، وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين، وهم عند الله مُسيئون، ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين، وألزمهم التصديق برسول الله ﷺ وبما جاء به من عند الله، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم، وشكُّهم في نبوَّة رسول الله ﷺ وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى: في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود، فقال جل ثناؤه فيهم: (ألا إنهم هم المفسدون) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض، (ولكن لا يشعرون)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) ﴾
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به، ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه، قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدُّون حُدُودَه، الراكبون معصيتَه، التاركُون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين،
وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين.
* * *
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون: (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) : صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما صدق به الناس. ويعني بِ "الناس": المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما-:
٣٤٣- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ)، يقول: وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد، قولوا: إنَّه نبيٌّ ورسول، وإنّ ما أنزل عليه حقّ، وصدِّقوا بالآخرة، وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت (١).
وإنما أدخِلت الألف واللام في"الناس"، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد ﷺ وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
(١) الخبر ٣٤٣- نقله السيوطي ١: ٣٠، والشوكاني ١: ٣١، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية، برقمي: ٣٤٧، ٣٤٨.
292
فَاخْشَوْهُمْ) [سورة آل عمران: ١٧٣]، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سَفِيه، كما العلماء جمع عليم (١)، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه: الجاهل، الضعيفُ الرأي، القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء، فقال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [سورة النساء: ٥]، فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان، لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال.
وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم: أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، والإقرار بالبعث فقيل لهم: آمنوا كما آمن [الناس] (٢) - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به، من أهل الإيمان واليقين، والتصديقِ بالله، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد ﷺ وفي كتابه، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمَن أهل الجهل، ونصدِّق بمحمد ﷺ كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام؟ كالذي-:
٣٤٤- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن
(١) في المطبوعة: "كالعلماء... ".
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال لهم آمنوا كما آمن أصحاب محمد... "، وهو كلام مضطرب والصواب ما أثبتناه. وقوله: "أصحاب محمد" مفعول قوله: "وإنما عنى المنافقون بقيلهم.. ".
293
عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
٣٤٥- حدثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
٣٤٦- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:"قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء"، قال: هذا قول المنافقين، يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
٣٤٧- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) يقولون: أنقول كما تقولُ السفهاء؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم، لخِلافهم لدينهم (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم،
(١) الأخبار ٣٤٤ - ٣٤٧: أشار إليها ابن كثير ١: ٩٢ والسيوطي ١: ٣٠ والشوكاني ١: ٣١ والأخير منها من تتمة الخبر: ٣٤٣.
294
الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريْب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته، وفيما جاء به من عند الله، وأمر البعث، لإساءَتهم إلى أنفسهم بما أتَوْا من ذلك وهم يحسبون أنَّهم إليها يُحْسِنون. وذلك هو عَيْنُ السَّفه، لأن السفيه إنما يُفسد من حيث يرى أنه يُصلحُ، ويُضيع من حيث يَرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق: يَعصي رَبَّه من حيث يرى أنه يطيعُه، ويكفرُ به من حيث يرى أنه يُؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يُحسن إليها، كما وصفهم به ربنا جلّ ذكره، فقال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)، وقال: (ألا إنهم هم السفهاء) - دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه، وبرسوله وثوابه وعقابه - (ولكن لا يعلمون). وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية.
٣٤٨- حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ)، يقول: الجهال، (ولكن لا يعلمون)، يقول: ولكن لا يعقلون (١).
وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في"السُّفهاء"، فشبيه بوجه دخولهما في"الناس" في قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك، والعلةُ في دخولهما في"السفهاء" نظيرتها في دخولهما في"الناس" هنالك، سواء.
والدلالةُ التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبةَ من الله لا يستحقّها إلا المعاند ربَّه، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظيرُ دلالة الآيات الأخَر التي قد تقدم ذكرنا تأويلَها في قوله"ولكن لا يشعرون"، ونظائر ذلك (٢).
* * *
(١) الخبر ٣٤٨- هو تتمة الخبرين: ٣٤٣، ٣٤٧.
(٢) في المطبوعة: "مع علمه بصحة ما عاند فيه"، وفيها أيضًا: "... ونظير ذلك".
295
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسولَه والمؤمنين، فقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ). ثم أكْذَبهم تعالى ذكره بقوله: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، وأنهم بقيلهم ذلك يخُادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون -للمؤمنين المصدِّقين بالله وكتابه ورسوله- بألسنتهم: آمنا وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله، خِداعًا عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم، ودرءًا لهم عنها، وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم وأهل العُتُوّ والشر والخُبث منهم ومن سائر أهل الشرك (١) الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكُفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطينَ كل شيء مَرَدَتُه - قالوا لهم:"إنا معكم"، أي إنا معكم على دينكم، وظُهراؤكم على من خالفكُم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،"إنما نحن مستهزِئون" بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه، كالذي-:
٣٤٩- حدثنا محمد بن العلاء (٢) قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بِشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي ﷺ أو بعضهم، قالوا: إنا على دينكم. وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم، قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون.
(١) في المخطوطة: "وأنهم إذا خلوا إلى أهل مودتهم"، والذي في المطبوعة أصح في سياق تفسيره.
(٢) "محمد بن العلاء"، هو"أبو كريب"، الذي أكثر الرواية عنه فيما مضى وفيما يستقبل.
296
٣٥٠- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (قالوا إنا معكم)، أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إنما نحن مستهزئون).
٣٥١- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، أما شياطينهم، فهم رءوسهم في الكُفر.
٣٥٢- حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي (١) قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) أي رؤسائهم في الشرّ (قالوا إنما نحنُ مستهزئون).
٣٥٣- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، قال: المشركون.
٣٥٤- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفّار.
٣٥٥- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، عن شِبْل بن عبّاد، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، قال: أصحابِهم من المنافقين والمشركين.
٣٥٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي
(١) بشر بن معاذ العقدي: ثقة معروف، روى عنه الترمذي: والنسائي وابن ماجه وغيرهم. و"العقدي": بالعين المهملة والقاف المفتوحين، نسبة إلى"العقد": بطن من بجيلة.
397
جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، قال: إخوانهم من المشركين، (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون).
٣٥٧- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين.
٣٥٨- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين (١).
فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ؟ فكيف قيل: (خلوا إلى شياطينهم)، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم:"خلوتُ بفلان" أكثر وأفشَى من:"خلوتُ إلى فلان"؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان!
قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال"خلوتُ إلى فلان" إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل -إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل:"خلوت به" احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة، والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل"وإذا خلوا بشياطينهم"، لما في قول القائل:"إذا خلوا بشياطينهم" من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله:"وإذا خلوا إلى شياطينهم". فهذا أحد الأقوال.
والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى (٢) قوله (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، "وإذا
(١) هذه الآثار السالفة: ٣٤٩ - ٣٥٨: ذكر أكثرها ابن كثير في تفسيره ١: ٩٣، والسيوطي ١: ٣١، والشوكاني ١: ٣٣.
(٢) في المطبوعة: "والقول الآخر: أن توجيه معنى قوله".
198
خلوا مع شياطينهم"، إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا (١)، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) [سورة الصف: ١٤]، يريد: مع الله. وكما توضع"على" في موضع"من"، و" في" و"عن" و"الباء"، كما قال الشاعر:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا (٢)
بمعنى عَنِّي.
وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ "إلى"، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم، لا قوله"خَلَوْا". وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع"إلى" غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولى بالصواب، لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره (٣) فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ "إلى" في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.
* * *
(١) حروف الصفات: هي حرف الجر، وسميت حروف الجر، لأنها تجر ما بعدها، وسميت حروف الصفات، لأنها تحدث في الاسم صفة حادثة، كقولك: "جلست في الدار"، دلت على أن الدار وعاء للجلوس. وقيل: سميت بذلك، لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات. ويسميها الكوفيون أيضًا: حروف الإضافة، لأنها تضيف الاسم إلى الفعل، أي توصله إليه وتربطه به. (همع الهوامع ٢: ١٩) وتسمى أيضًا حروف المعاني، كما سيأتي بعد قليل. والمعاقبة: أن يستعمل أحدهما مكان الآخر بمثل معناه.
(٢) الشعر للعقيف العقيلي، يمدح حكيم بن المسيب القشيري. نوادر أبي زيد: ١٧٦، خزانة الأدب ٤: ٢٤٧، وغيرهما كثير.
(٣) حروف المعاني، هي حروف الصفات، وحروف الجر، كما مضى آنفًا، تعليق: ١
199
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) ﴾
أجمع أهل التأويل جميعًا -لا خلاف بينهم- على أن معنى قوله: (إنما نحن مستهزئون) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد ﷺ وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بقيلنا لهم إذا لقيناهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر (١) كما-:
٣٥٩- حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
٣٦٠- حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إنما نحن مستهزئون)، أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم.
٣٦١- حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة: (إنما نحن مستهزئون)، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم.
٣٦٢- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (إنما نحن مستهزئون)، أي نستهزئ بأصحاب محمد ﷺ (٢).
* * *
(١) في المطبوعة: "في قيلنا لهم إذا لقيناهم".
(٢) هذه الآثار تتمة الآثار السالفة في تفسير أول الآية
300
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى) [سورة الحديد: ١٣، ١٤]. الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: ١٧٨]. فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.
وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال:"إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه"، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم (١)، كما قال عَبِيد بن الأبرص:
سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَامِ، إذْ ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ (٢)
(١) الضمير لله سبحانه وتعالى، وهو معطوف على قوله"توبيخه إياهم.. ".
(٢) ديوانه: ١٦، وأمالي المرتضى ١: ٤١، وحجر، أبو امرئ القيس، وكانت قتلته بنو أسد رهط عبيد بن الأبرص. وأم قطام، هي أم حجر ملك كندة. والنواهل جمع ناهل وناهلة: والناهل: العطشان، توصف به الرماح، كأنها تعطش إلى الدم، فإذا شرعت في الدم رويت.
301
فزعموا أن السُّمر -وهي القَنَا- لا لعب منها، ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.
وقال آخرون قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (١) [سورة النساء: ١٤٢] على الجواب، كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به:"أنا الذي خدعتُك"، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة آل عمران: ٥٤]، و"الله يستهزئ بهم"، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، وقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [سورة النساء: ١٤٢]، وقوله: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: ٧٩]، (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: ٦٧]، وما أشبه ذلك، إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [سورة الشورى: ٤٠]، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم"، وهي آية سورة البقرة: ٩، ولم يرد الطبري إلا آية سورة النساء، كما يدل عليه سياق كلامه، وكما ستأتي الآية بعد أسطر.
302
للعاصي على المعصية، فهما -وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة: ١٩٤]، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاءٌ لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ، وما أشبه ذلك.
وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد ﷺ وما جاء به، وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه"يستهزئ بهم"، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي ﷺ والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه (١) ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا (٢). وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام (٣)، وإن كانوا لغير ذلك
(١) في المطبوعة: "ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا".
(٢) في المخطوطة: "مورطه مساءة باطنًا".
(٣) في المطبوعة: "المدخل لهم في عداد.. "، وقوله: "المدخلهم" نعت لقوله: "من الإقرار".
303
مستبطنين - (١) أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون (٢)، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - (٣) معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل = (٤) كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له -كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء، وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين -إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا (٥). إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس:
٣٦٣- حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، قال: يسخر بهم للنقمة منهم (٦).
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ"، إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم، ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم، وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.
قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء، أفلست
(١) في المطبوعة: "من أحكام المسلمين... "، وهي زيادة خطأ، وقوله"أحكام" منصوب بقوله"قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام"... "أحكام"، وما بينهما فصل.
(٢) في المطبوعة: "أنهم مصدقون".
(٣) سياق العبارة: "والله جل جلاله.. معد لهم.. ".
(٤) قوله: "كان معلومًا أنه جواب قوله "فإذا كان ذلك كذلك... "، في أول هذه الفقرة.
(٥) أكثر الطبري الفصل بين الكلام في هذه الفقرة، وسياق العبارة هو كما يلي: "... كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم... كان بهم.. مستهزئًا، وبهم ساخرًا... "، وما بين الكلام في هذين الموضعين فصل للبيان.
(٦) الخبر ٣٦٣- ساقه ابن كثير في تفسيره ١: ٩٤، والسيوطي ١: ٣١، والشوكاني ١: ٣٣.
304
تقول:"الله يستهزئ بهم"، و"سَخِر الله منهم" و"مكر الله بهم"، وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال:"لا"، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال:"بلى"، قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت:"الله يستهزئ بهم" و"سخر الله منهم" -"يلعب الله بهم" و"يعبث" - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟
فإن قال:"نعم"! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال: لا أقول:"يلعب الله بهم" ولا"يعبث"، وقد أقول"يستهزئ بهم" و"يسخر منهم".
قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ويمدهم)، فقال بعضهم بما-:
٣٦٤- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -
306
وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يَمُدُّهُمْ"، يملي لهم.
وقال آخرون بما-:
٣٦٥- حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد:"يمدّهم"، قال: يزيدُهم (١).
وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم، ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون:"قد مَددت له وأمددتُ له" في غير هذا المعنى، وهو قول الله تعالى ذكره: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) [سورة الطور: ٢٢]، وهذا من:"مددناهم" (٢). قال: ويقال: قد"مَدَّ البحر فهو مادٌّ" و"أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ". وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو"مدَدْت"، وما كان من الخير فهو"أمْدَدت". ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو"مَدَدت له"، وإذا أردت أنك أعطيته قلت:"أمْددت".
وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو"مَدَدت" بغير ألف، كما تقول:"مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر غيره"، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف، كقولك:"أمدَّ الجرحُ"، لأن المدّة من غير الجرح، وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: "وَيَمُدُّهُمْ": أن يكون بمعنى يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم، كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله
(١) الخبران ٣٦٤، ٣٦٥- ساقهما ابن كثير ١: ٣١، والسيوطي ١: ٣١، والشوكاني ١: ٣٣.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "وهذا من أمددناهم"، ولعل الصواب ما أثبتناه. وعنى أن قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم) من"مددت له" التي هي مثل"أمددت له"، بعد طرح حرف الجر، كما مثل في قول العرب"الغلام يلعب الكعاب" أي"يلعب بالكعاب".
307
(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الأنعام: ١١٠]، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم.
ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى"يَمُدُّ لهم"، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها (١) أن يستجيزوا قول القائل:"مدَّ النهرَ نهرٌ آخر"، بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: و"الطُّغيان""الفُعْلان"، من قولك:"طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا". إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [سورة العلق: ٦، ٧]، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت:
وَدَعَا اللهَ دَعْوَةً لاتَ هَنَّا بَعْدَ طُغْيَانِه، فَظَلَّ مُشِيرَا (٢)
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ)،
(١) في المخطوطة: "لأنه لا تتدافع العرب"، وهما سواء في المعنى.
(٢) ديوانه: ٣٤ مع اختلاف في الرواية. والضمير في قوله"ودعا الله" إلى فرعون حين أدركه الغرق. والهاء في قوله"طغيانه" إلى فرعون، أو إلى الماء لما طغا وأطبق عليه. وقوله"لات هنا"، كلمة تدور في كلامهم يريدون بها: "ليس هذا حين ذلك"، والتاء في قولهم"لات" صلة وصلت بها"لا"، أصلها"لا هنا" أي ليس هنا ما أردت، أي مضى حين ذلك. و"هنا" مفتوحة الهاء مشددة النون، مثل"هنا" مضمومة الهاء مخففة النون. وقوله: "مشيرًا"، أي مشيرًا بيده في دعاء ربه أن ينجيه من الغرق.
308
أنه يُملي لهم، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما-:
٣٦٦- حُدِّثت عن المِنْجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، قال: في كفرهم يترددون.
٣٦٧- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"في طُغيانهم"، في كفرهم.
٣٦٨- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، أي في ضلالتهم يعمهون.
٣٦٩- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"في طغيانهم"، في ضلالتهم.
٣٧٠- وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله"في طغيانهم"، قال: طغيانهم، كفرهم وضلالتهم (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَعْمَهُونَ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسُه: الضَّلال. يقال منه: عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا، إذا ضل (٢). ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه:
وَمَخْفَقِ مِن لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ... مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ...
(١) الأخبار ٣٦٦ - ٣٧٠: ساقها ابن كثير ١: ٩٥، والسيوطي ١: ٣١، والشوكاني ١: ٣٣.
(٢) في ابن كثير ١: ٩٥"عمها وعموها"، والذي في الطبري صحيح: "عمها وعموها وعموهة وعمهانًا".
309
أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ (١)
و"العُمَّه" جمع عامِهٍ، وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه، وعلاهم رِجْسُه، يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا.
وبنحو ما قلنا في"العَمَه" جاء تأويل المتأولين.
٣٧١- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يَعْمَهُون"، يتمادَوْن في كفرهم.
٣٧٢- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يَعْمَهُونَ"، قال: يتمادَوْن.
٣٧٣- حدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"يَعْمَهُونَ"، قال: يتردَّدون.
٣٧٤- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس:"يَعْمَهُونَ": المتلدِّد (٢).
(١) ديوانه: ١٦٦. والمخفق: الأرض الواسعة المستوية التي يخفق فيها السراب، أي يضطرب. ولهله: أرض واسعة يضطرب فيها السراب، والجمع لهاله. والمهمه: الفلاة المقفرة ليس بها ماء ولا أنيس. وجاب المفازة واجتابها: قطعها سيرًا. وقوله"في مهمه": أي يقطعنه ويدخلن في مهمه آخر موغلين في الصحراء.
(٢) تلدد للرجل فهو متلدد: إذا لبث في مكانه حائرًا متبلدًا يتلفت يمينًا وشمالا.
310
٣٧٥- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، قال: يترددون.
٣٧٦- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٧٧- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
٣٧٨- حدثني المثنى، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله.
٣٧٩- حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"يَعْمَهُونَ"، قال: يترددون (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى﴾
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟
(١) الأخبار: ٣٧٢ - ٣٧٩: ساقها السيوطي ١: ٣١، والشوكاني ١: ٣٣، وخرجا أثر مجاهد في تفسير الآية: "أي يلعبون ويترددون في الضلالة".
311
قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فيه، ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله:
٣٨٠- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، أي الكفرَ بالإيمان.
٣٨١- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، يقول: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
٣٨٢- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، استحبوا الضلالة على الهدى.
٣٨٣- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، آمنوا ثم كفروا.
٣٨٤- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذَيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد مثله (١).
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك:"أخذوا الضلالة وتركوا الهدى" - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به، فقالوا: كذلك المنافق والكافر، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ، فكان ذلك منهما شراءً
(١) الأخبار: ٣٨٠ - ٣٨٤: ساقها ابن كثير في تفسيره ١: ٩٥، ٩٦، والسيوطي ١: ٣١، ٣٢، والشوكاني ١: ٣٣، ٣٤.
312
للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.
وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله"اشْتَرَوْا":"استحبُّوا"، فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى، فقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [سورة فصلت: ١٧]، صرفوا قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل"الباء" مكان"على"، و"على" مكان"الباء"، كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [سورة آل عمران: ٧٥]، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه"اشْتَرَوا" إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.
ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة (١)
فَقَدْ أُخْرِجُ الكَاعِبَ الْمُسْتَرَا ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعَ الْقِمَارَ (٢)
يعني بالمستراة: المختارة.
وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار:
يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ (٣).
يعني بالشَّراة: المختارة.
(١) في المطبوعة"الاشتراء" بالشين المعجمة، وهو خطأ، صوابه بالسين المهملة.
(٢) ديوانه: ٣٥، وطبقات فحول الشعراء: ٣٦، واللسان (سرا). وفي المطبوعة: "المشتراة" في الموضعين، والصواب ما أثبتناه. والكاعب: التي كعب ثديها، أي نهد، يعني أنها غريرة منعمة محجوبة. وخدر الجارية: سترها الذي يمد لها لتلزمه بعد البلوغ، وأشاع المال بين القوم: فرقه فيهم. وأراد بالقمار: لعب الميسر، وعنى نصيب الفائز في الميسر من لحم الجزور، يفرقه في الناس من كرمه.
(٣) ديوانه: ٦٢. والضمير في قوله"يذب" لفحل الإبل. ويذب: يدفع ويطرد. والقصايا، جمع قصية: وهي من الإبل رذالتها، ضعفت فتخلفت. وجماهير، جمع جمهور: وهو رملة مشرفة على ما حولها، تراكم رملها وتعقد. والمدجنات، من قولهم"سحابة داجنة ومدجنة"، وهي: المطبقة الكثيفة المطر. والهواضب: التي دام مطرها وعظم قطرها. شبه الإبل في جلالة خلقها وضخامتها بجماهير الرمل المتلبدة في رأي العين من بعيد
313
وقال آخر في مثل ذلك:
إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأَمْوَالِ وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ (١)
قال أبو جعفر: وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، فدل بذلك على أن معنى قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ
(١) البيت الثاني في اللسان (حزر). وروقة الناس: خيارهم وأبهاهم منظرًا. ويقال: هذا الشيء حزرة نفسي وقلبي: أي خير ما عندي، وما يتعلق به القلب لنفاسته.
314
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض.
وأما الذين قالوا: إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا، فإنه لا مؤونة عليهم، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك، فقد تركوا الإيمان، واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع، ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان، ولا دخلوا في ملّة الإسلام، أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم، إلى أن أتى على صفتهم، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم: بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد ﷺ وبما جاء به، خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله (١) :(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله:"أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى" هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر، فلذلك قيل لهم "اشتروا" - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له، إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره، وقد يكون بمعنى الاختيار، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [سورة البقرة: ١٠٨] ؟ وذلك هو معنى الشراء، لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق، فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين -بشرائهم الضلالةَ بالهدى- خسروا ولم يربحوا، لأن الرابح من التجّار: المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه
(١) في المطبوعة: "لقول الله... ".
315
بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به (١)، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن، واستبدلا في العاجل: بالرَّشاد الحيرة، وبالهُدى الضلالةَ، وبالحفظ الخوفَ، وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب، فخابا وخَسِرا، ذلك هو الخسران المبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
٣٨٥- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، (فَمَا رَبِحَتْ
(١) في المطبوعة: "يبتاعها".
316
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفُرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السُّنة إلى البدعة (١).
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت (٢) ؟
قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم (٣). فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك، وخسِر بيعُك، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم، وإنْ كان ذلك معناه، كما قال الشاعر:
وشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ كَهُلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهُ (٤)
يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج:
حَارِثُ! قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي (٥)
فوَصف بالنوم الليل، ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى:
وَأَعْوَرَ من نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ فَأَعْمَى، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ (٦)
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار، ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) ﴾
يعني بقوله جل ثناؤه (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى، واستبدالهم الكفرَ بالإيمان، واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.
* * *
(١) الأثر ٣٨٥- في ابن كثير ١: ٩٦، والسيوطي ١: ٣٢، والشوكاني ١: ٣٤.
(٢) وضع في تجارته يوضع وضيعة: غبن فيها وخسر، ومثله: وكس.
(٣) في المخطوطة: "المستعلم بينهم"، ولعلها سبق قلم.
(٤) هو للحطيئة، من أبيات ليست في ديوانه، بل في طبقات فحول الشعراء: ٩٥، وسيبويه ١: ١٠٩ وأمالي الشريف المرتضى ١: ٣٨، مع اختلاف في بعض الرواية، ورواية الطبقات أجودهن. "أيقظ الحي"، يعني أيقظ الحي حاضر الموت، فقامت البواكي ترن وتندب، وكأن رواية من روى"أسلم الحي"، تعني أسلمهم للبكاء.
(٥) ديوانه: ١٤٢، يمدح الحارث بن سليم، من آل عمرو بن سعد بن زيد مناة.
(٦) ديوانه: ٢٠٦، والنقائض: ٣٥، والمؤتلف والمختلف: ٣٩، ١٦١، ومعجم الشعراء ٢٥٣، من شعر في هجاء الأعور النبهاني، وكان هجا جريرًا، فأكله جرير. قال أبو عبيدة: "أي هو أعور النهار عن الخيرات، بصير الليل بالسوءات، يسرق ويزني".
317
القول في تأويل قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)، وقد علمتَ أن"الهاء والميم" من قوله"مثلهم" كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و"الذي" دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء، أو كأنّ أجسامَ هؤلاء، نخلةٌ؟
قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ، وفي نظائره (١) كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [سورة الأحزاب: ١٩]، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [سورة لقمان: ٢٨] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل، فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.
فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد، فإنما جاز، لأن المرادَ من
(١) "وفي نظائره"، أي هو في نظائره جائز حسن أيضًا. ومثلها ما يأتي بعد أسطر في قوله"ولا في نظائره"، حذف فيهما جميعًا.
318
الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة، وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد ﷺ وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا، كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم، كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:
وَكَيْفَ تُوَاصِل من أَصْبَحَتْ خِلالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ (١)
يريد: كخلالة أبي مَرْحب، فأسقط "خلالة"، إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد، لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد،
(١) الشعر للنابغة الجعدي. اللسان (رحب) و (خلل). والخلة والخلالة: الصداقة المختصة التي ليس في علاقتها خلل. وأبو مرحب: كنية الظل، يريد أنها تزول كما يزول الظل، لا تبقى به مودة.
319
ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب، ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب، وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.
وأما قوله: (اسْتَوْقَدَ نَارًا)، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَا:
يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (١)
يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله ﷺ وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم (٢) مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله، يعني: ما حول المستوقِدِ.
وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا" بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة الزمر: ٣٣]، وكما قال الشاعر:
فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ (٣)
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل
(١) الشعر لكعب بن سعد الغنوي. الأصمعيات: ١٤، وأمالي القالي ٢: ١٥١، وهي من حسان قصائد الرثاء.
(٢) سياق عبارته: "مثل استضاءة هؤلاء... فيما الله فاعل بهم، مثل استضاءة.. ".
(٣) الشعر للأشهب بن رميلة. الخزانة ٢: ٥٠٧ - ٥٠٨، والبيان ٤: ٥٥، وسيبويه ١: ٩٦، والمؤتلف والمختلف للآمدي: ٣٣، وذكر البغدادي أن أبا تمام أنشد البيت في أبيات لحريث بن محفض، في كتابه"مختار أشعار القبائل". وروايته: "وإن الألى". ولا شاهد فيه. وهم يقولون إن النون حذفت من"الذين"، فصارت"الذي" لطول الكلام وللتخفيف، وهي بمعنى الجمع لا المفرد. وفلج: واد بين البصرة وحمى ضرية، كانت فيه هذه الوقعة التي ذكرها.
320
ذلك فرقَ ما بين"الذي" في الآيتين وفي البيت. لأن"الذي" في قوله:"والذي جاء بالصدق"، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، وكذلك "الذي" في البيت، وهو قوله "دماؤهم". وليست هذه الدلالة في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا". فذلك فَرْق ما بين"الذي" في قوله:"كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا"، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى"الذي" في قوله:"كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا" بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:
أحدها- ما:
٣٨٦- حدثنا به محمد بن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي يُبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:
٣٨٧- حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) يقول: في عذاب.
321
والثالث: ما-
٣٨٨- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي ﷺ المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي، فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-
٣٨٩- حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد (١) قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى"فهم لا يرجعون"، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.
وقال آخرون: بما-
٣٩٠- حدثني به بِشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)، وإن المنافقَ تكلم
(١) في المطبوعة"محمد بن سعيد"، "سعيد بن محمد". وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومن مراجع التراجم. وانظر شرح هذا السند مفصلا: ٣٠٥.
322
بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين (١)، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.
٣٩١- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله" هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.
٣٩٢- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو تُميلة، عن عبيد بن سليمان (٢)، عن الضحاك بن مزاحم، قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله"، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما:-
٣٩٣- حدثني به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله"، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
(١) في المطبوعة: "وعاد بها المسلمين"، والصواب من المخطوطة وابن كثير في تفسيره، والدر المنثور، كما سيأتي في التخريج.
(٢) أبو تميلة، بضم التاء المثناة وفتح الميم: هو يحيى بن واضح الأنصاري المروزي الحافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وأبو حاتم وغيرهم، ووهم أبو حاتم، إذ نسب إلى البخاري أنه ذكره في الضعفاء. وما كان ذلك، والبخاري ترجمه في الكبير ٤/٢/ ٣٠٩، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره في كتاب الضعفاء الصغير. وقال الذهبي في الميزان ٣: ٣٠٥ حين ذكر كلام أبي حاتم: "فلم أر ذلك، ولا كان ذلك. فإن البخاري قد احتج به". ووقع في مطبوعة الطبري هنا"أبو نميلة" بالنون، وهو خطأ مطبعي. و"عبيد بن سليمان": هو الباهلي الكوفي أبو الحارث، ذكره ابن حبان في الثقات، وذكر ابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠٨ أنه سأل عنه أباه، فقال: "لا بأس به".
323
٣٩٤- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، عن شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله"، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
٣٩٥- حدثني القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
٣٩٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا"، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها، فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له، فإذا شك وقع في الظلمة.
٣٩٧- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون (١).
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله:"ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هُمْ بمؤمنين" - لا المعلنين بالكفر المجاهرين
(١) الأخبار ٣٨٦ - ٣٩٧: هذه الآثار السالفة جميعًا، وما سيأتي إلى قوله تعالى (فهم لا يرجعون) بالأرقام ٣٩٨ - ٤٠٤ ساقها ابن كثير ١: ٩٧ - ٩٩، والدر المنثور ١: ٣٢ - ٣٣، وفتح القدير ١: ٣٥.
324
بالشرْك (١). ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: (كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ، وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن (٢). هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان (٣) : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر طاهر، فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.
وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله ﷺ من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى حُكم لهم بذلك
(١) في المطبوعة: "أي، لا المعلنين"، وفي المخطوطة: "المعالنين بالكفر"، وسياق عبارته"إنما ضرب الله هذا المثل للمنافقين.. لا المعلنين بالكفر".
(٢) السياق: "ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا.. لم يكن هنالك من القوم.. "
(٣) في المطبوعة: "فإن كان القوم... "، وهو خطأ.
325
في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ، حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة، خَمدت النارُ وانطفأت، (١) فذهب نورُه، وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ، حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [سورة المجادلة: ١٨]، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا (٢) : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله... حتى خمدت النار"، وهي عبارة مختلة، صوابها ما أثبتناه.
(٢) في المطبوعة: "كان به نجاتهم من القتل"، وهما سواء في المعنى.
326
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة الحديد: ١٣-١٥].
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله": خَمدتْ وانطفأتْ، وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عَصَيْتُ إليهَا الْقَلْبَ، إِنِّي لأمرِهَا سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابها! (١)
يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ، فحذف ذكر"أم غيٌّ"، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أو حِينَ، نصَّبتْ لَهُ مِن خَذَا آذَانِهَا وَهْو جَانح (٢)
(١) ديوان الهذليين ١: ٧١، وسيأتي في تفسير آية آل عمران: ١١٣ (٤: ٣٤ بولاق) ورواية الطبري للبيت في الموضعين لا يستقيم بها معنى، ورواية ديوانه: عَصَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ
ويروى"دعاني إليها.. "، وهما روايتان صحيحتان. وتمام معنى البيت في الذي يليه: فَقُلْتُ لِقَلْبِي:
يَا لَكَ الْخَيْرُ! إِنَّمَا يُدَلِّيكَ لِلْمَوْتِ الْجَدِيدِ حِبَابُهَا
فهو يؤامر قلبه، ولكنه أطاعه.
(٢) ديوانه: ١٠٨ وسيأتي في تفسير آية يونس: ٧٧ (١١: ١٠١ بولاق)، وآية سورة النبأ: ١٠ (٣٠: ٣ بولاق). يصف عانة حمر، وقفت ترقب مغيب الشمس، حتى إذا غربت انطلقت مسرعة إلى مورد الماء الذي تنوى إليه. وقوله: "لبسن الليل" يعني الحمر، حين غشيهن الليل وهن مترقبات مغيب الشمس. ونصبت: رفعت وأقامت آذانها. وخذيت الأذن خذًّا: استرخت من أصلها مقبلة على الخدين، وذلك يصيب الحمر في الصيف من حر الشمس والظمأ. ونصبت خذا آذانها، استعدادًا للعدو إلى الماء. وجنح الليل فهو جانح: أقبل، وهو من جنح الطائر: إذا كسر من جناحيه ثم أقبل كالواقع اللاجئ إلى موضع. وهو وصف جيد لإقبال الظلام من جانب الأفق. وأراد الطبري أن ذا الرمة أراد أن يقول: أو حين أقبل الليل، نصبت له من خذا آذانها، وهو جانح. ولا ضرورة توجب ما قال به من الحذف في هذا البيت.
327
يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله"، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله:"ذهب الله بنورهم
328
وتركهم في ظلمات لا يبصرون" دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.
وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه، نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.
و"الهاء والميم" في قوله"ذهب الله بنورهم"، عائدة على"الهاء والميم" في قوله "مَثَلهم".
* * *
القول في تأويل قول الله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه:"ذهبَ الله بنورهم وتَركهم في ظلمات لا يبصرون"، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون، وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه:"صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون" من المؤخّر الذي معناه التقديم، وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون، أو كمثل صَيِّب من السماء.
وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله:"صُمٌّ بكمٌ عُميٌ"، يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين:
فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم، فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة، كما قال الشاعر:
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ... سَمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ (١) النَّازِلِينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ... وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ (٢)
فيروي:"النازلون" و"النازلين"، وكذلك"الطيِّبون" و"الطيِّبين"، على ما وصفتُ من المدح.
(١) الشعر للخرنق بنت بدر بن هفان، أخت طرفة لأمه، أمهما وردة، ديوانها: ١٠، ترثى زوجها بشر بن عمرو بن مرثد. وسيأتي في تفسير آية سورة غافر: ٣ (٢٤: ٢٧ بولاق)، وفي سيبويه ١: ١٠٤، ٢٤٦، ٢٤٩، وخزانة الأدب ٢: ٣٠١. وقولها"لا يبعدن قومى": أي لا يهلكن قومي، تدعو لهم. وفعله: بعد يبعد بعدًا (من باب فرح) : هلك. والعداة جمع عاد، وهو العدو. والجزر جمع جزور: وهي الناقة التي تنحر. وآفة الجزر: علة هلاكها، لا يبقون على أموالهم من الكرم.
(٢) المعترك: موضع القتال حيث يعتركون، يطحن بعضهم بعضًا. وإذا ضاق المعترك نزل الفرسان، وتطاعنوا واقتربوا حتى يعتنق بعضهم بعضًا إذا حمس القتال. والأزر جمع إزار: وهو ما ستر النصف الأسفل، والرداء: ما ستر الأعلى. ومعاقد الأزر: حيث يعقد لئلا تسقط. وكنت بذلك عن عفتهم وطهارتهم، لا يقربون فاحشة فيحلون معاقد الأزر.
329
والوجهُ الآخر: على نية التكرير من"أولئك"، فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في"مهتدين" من ذكر"أولئك" (١)، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة، والصم نكرة.
والآخر: أن يكون قطعا من"الذين"، لأن"الذين" معرفة و"الصم" نكرة (٢).
وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم، والآخرُ: القطع من"الهاء والميم" اللتين في"تركهم"، أو من ذكرهم في"لا يبصرون".
وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب (٣). لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين، بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم، بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ، وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:
٣٩٨- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،
(١) قطعا: أي حالا، وانظر ما سلف: ٢٣٠ تعليق: ٤.
(٢) قطعا: أي حالا، وانظر ما سلف: ٢٣٠ تعليق: ٤.
(٣) في المطبوعة: "والقراءة التي هي قراءة الرفع.. "، وهو خطأ محض.
330
عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"صمٌّ بكم عُميٌ"، عن الخير.
٣٩٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عُمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.
٤٠٠- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"بكم"، هم الخُرس.
٤٠١- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قوله"صم بكْم عُمْي": صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بُكم عن الحق فلا ينطقون به (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر: وقوله"فهم لا يرجعون"، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى، وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق، وَبكمَهم عن القيل بهما، وعَماهم عن إبصارهما - (٢) أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا، أو يقولوا حقًّا، أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب
(١) هذه الأخبار ٣٩٨ - ٤٠١: تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية، بالأرقام: ٣٨٦، ٣٨٧، ٣٨٨، ٣٩٠.
(٢) سياقه: "إخبار من الله عز وجل.. أنهم لا يرجعون.. ".
331
والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.
وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٢- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة:"فهم لا يَرجعون"، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.
٤٠٣- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فهم لا يَرْجعون": فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-
٤٠٤- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فهم لا يَرْجعون"، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير، فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه (١).
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون -عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت (٢) وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت (٣) وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع
(١) هذه الأخبار ٤٠٢ - ٤٠٤: تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية. بالأرقام: ٤٠١، ٤٠٠، ٣٩٨.
(٢) في المطبوعة: "إلى وقت دون وقت"، وهو خطأ.
(٣) في المطبوعة: "ينبئ عن أن.. ".
332
عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة (١)، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾
قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنزَل، كما قال الشاعر:
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلأَكٍ تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (٢)
وكما قال علقمة بن عَبَدَة:
كَأَنَّهمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ (٣)
(١) في المخطوطة"دعوى ناظر"، وصوابها"دعوى باطل" بالإضافة.
(٢) ينسب هذا البيت لعلقمة بن عبدة، وليس له، ولا هو في ديوانه. وسيأتي في تفسير آية سورة البقرة ٣٠ (١: ١٥٥ بولاق)، وبغير هذه الرواية، وهو من أبيات سيبويه ١: ٣٧٩ وشرح شواهد الشافية: ٢٨٧، واللسان (ألك) وغيرها، غير منسوب. ويقال إنه لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح النعمان. وحكى السيرافي أنه لأبي وجزة السعدي، يمدح عبد الله بن الزبير. وجاء في المخطوطة"ولكن ملأكًا". وقبل البيت:
تعاليتَ أن تُعْزَى إلى الإنْس خَلَّةً، وَلِلإِنْسِ من يعزُوك، فهو كذوبُ
(٣) ديوانه: البيت الأول: ٣٤، والثاني قبله: ١٩، وشرح المفضليات: ٧٨٤، ٧٦٩، يمدح بها الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني، وكان أسر أخاه شأسًا، فرحل إليه يطلب فكه. ويذكر في هذا البيت يوم عين أباغ، وفيه غزا الحارث الغساني، المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فالتقوا بعين أباغ، فهزم جيش المنذر، وقتل المنذر يومئذ. وقوله"كأنهم" يعني جيش المنذر. وصاب المطر: انحدر وانصب. وكان وصف الجيش المنهزم في البيت الذي قبله، بين ساقط قد صرع، وبين قتيل قد هلك. فشبههم بطير أصابها المطر الغزير وأخذتها الصواعق، ففزعت، ولم تستطع أن تنهض فتطير، فهي تدب تطلب النجاة. والضمير في قوله: "لطيرهن" للصواعق، أي لطير الصواعق، وأراد الطير التي أفزعتها الصواعق، ولبدها المطر.
333
فَلا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبين مُغَمَّرٍ، سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حين تَصُوبُ (١)
يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل"صَيْوِب"، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً، كما قيل: سيِّد، من ساد يسود، وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٥- حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي، قال: حدثنا محمد بن عُبيد، قال: حدثنا هارون بن عَنترة، عن أبيه (٢)، عن ابن عباس في قوله"أو كصيِّب من السماء"، قال: القطر.
٤٠٦- حدثني عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ.
٤٠٧- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ.
٤٠٨- حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
(١) هذا البيت في صدر القصيدة. يخاطب صاحبته، وفي المطبوعة"معمر" وهو خطأ. والمغمر والغمر: الجاهل الذي لم يجرب الأمور، كأن الجهل غمره وطغا عليه. والشطر الثاني دعاء لها بالخصب والنعمة. والروايا جمع راوية: وهي الدابة التي تحمل مزاد الماء. والمزن: السحاب الأبيض، شبهه بالروايا حاملات الماء. ورواية ديوانه والمفضليات"سقتك".
(٢) الإسناد ٤٠٥- محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي - شيخ الطبري: ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. له ترجمة في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/ ١٩٠. محمد بن عبيد: هو الطنافسي الأحدب، وهو ثقة معروف، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وغيرهم. هارون بن عنترة بن عبد الرحمن: ثقة، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما. وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/ ٢٢١، فلم يذكر فيه جرحًا، وابن سعد ٦: ٢٤٣. أبوه: هو عنترة بن عبد الرحمن، وكنيته"أبو وكيع"، وهو تابعي، قال البخاري في الكبير ٤/١/٨٤"رأى: عليًّا، روى عنه ابنه هارون، وأبو سنان"، وترجمه ابن سعد في الطبقات ٦: ١٦٣، وابن أبي حاتم ٣/٢/٣٥، وذكر أنه روى عن عثمان، وعلي، وابن عباس، وأن أبا زرعة سأل عنه فقال: "كوفي ثقة".
334
السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ.
٤٠٩- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي سعدٌ، قال: حدثني عمِّي الحسين، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، مثله.
٤١٠- وحدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"أو كصيِّب"، يقول: المطر.
٤١١- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعمر، عن قتادة، مثله.
٤١٢- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، وعمرو بن علي، قالا حدّثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ (١).
٤١٣- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ.
٤١٤- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ.
٤١٥- حُدِّثت عن المِنجَاب، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر.
٤١٦- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد:"أو كصيِّب من السماء" قال: أو كغَيْثٍ من السماء.
٤١٧- حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري، قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.
(١) في المطبوعة: "الصيب: المطر". والربيع: المطر في أول الربيع.
335
٤١٨- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء، في قوله:"أو كصيِّب من السماء"، قال: المطر (١).
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر، مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء (٢)، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.
فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل:"أو كصيِّب"، و"أو" تأتي بمعنى الشك في الكلام، ولم يقل"وكصيب" بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر بِـ "أو"؟ وقد علمت أنّ "أو" إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه، كقول القائل:"لقيني أخوك أو أبوك" وإنما لقيه أحدُهما، ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما، مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.
قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و"أو" - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا (٣)
(١) الأخبار ٤٠٥ - ٤١٨: ساقها مختصرة ابن كثير ١: ٩٩، والدر المنثور ١: ٣٣.
(٢) الودق: المطر يخرج من خلل السحاب مسترخيًا.
(٣) من قصيدة له، أمالي القالي ١: ٨٨، ١٣١، وأمالي الشريف المرتضى ٣: ١٤٦، وأمالي الشجري ٢: ٣١٧، والأضداد لابن الأنباري: ٢٤٣، وغيرها كثير.
336
ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال، ولكن لمّا كانت"أو" في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه"الواو" لو كانت مكانها، وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير:
نَالَ الْخِلافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا، كَمَا أَتَى رَبَّه مُوسَى عَلَى قَدَرِ (١)
وكما قال الآخر:
فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا... بَكَيْتُ عَلَى بُجَيْرٍ أَوْ عِفَاقِ (٢) عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيا جَمِيعًا... لِشَأْنِهما، بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ (٣)
فقد دلّ بقوله"على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا" أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه "أو كصيِّب من السماء". لمّا كان معلومًا أن"أو" دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه"الواو" لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب"أو" أو ب"الواو". وكذلك وجه حذف"المثل" من قوله"أو كصيب". لما كان قوله:
(١) ديوانه: ٢٧٥، وسيأتي في تفسيره آية البقرة: ٧٤ (١: ٢٨٧ بولاق)، وآية طه: ٤٠ (١٦: ١٢٨ بولاق)، وأمالي الشجري ١: ٣١٧، يقولها في أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. وروايته"إذ كانت"، وفي المطبوعة: "جاء الخلافة"، وهي رواية سقيمة.
(٢) البيتان لمتمم بن نويرة اليربوعي. اللسان (عفق)، أمالي الشجري، ٢: ٣١٨، أمالي المرتضى ٣: ١٤٧، الأضداد لابن الأنباري: ٢٤٣. وفي المطبوعة والمخطوطة"على جبير"، وهو خطأ محض، وفي المطبوعة: "عناق"، وهو خطأ أيضًا. وهذا الشعر يقوله متمم بن نويرة في رثاء بجير بن عبد الله بن الحارث اليربوعي، وهو بجير بن أبي مليل، وأخوه عفاق بن أبي مليل. قتل أولهما يوم قشاوة، قتله لقيم بن أوس (النقائض: ٢٠)، وقتل عفاق يوم العظالى، قتله الدعاء، وقيل قتله الفريس بن مسلمة (النقائض: ٥٨٣).
(٣) يروى"بحزن واحتراق" و"بشجو واشتياق". وقوله: "مضيا لشأنهما" أي، هلكا ولقيا ما يلقى كل حي.
337
"كمثل الذي استوقد نارًا" دالا على أن معناه: كمثل صيب، حَذفَ"المثَل"، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله:"كمثل الذي استوقد نارًا" على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾
قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ، واحدها ظُلمة.
أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٩- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.
٤٢٠- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عَديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
٤٢١- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض، عن ليث، عن مجاهد، مثله (١).
٤٢٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح (٢).
(١) الإسناد ٤٢١- يحيى بن طلحة اليربوعي: روى عنه الترمذي وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات. وضعفه النسائي، فقال في الضعفاء: ٣٢: "ليس بشيء".
(٢) الإسناد ٤٢٢- إسماعيل بن سالم الأسدي: ثقة، روى عنه الثوري وأبو عوانة، قال ابن سعد ٧/٢/٦٧: "كان ثقة ثبتًا". وأبو صالح: هو السمان.
338
٤٢٣- حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى، عن أبي الخطاب البصري، عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل، يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها، فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم (١).
٤٢٤- حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته.
٤٢٥- حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير (٢).
٤٢٦- وحدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جُريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الرعد اسم مَلَك، وصوتهُ هذا تسبيحه، فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.
٤٢٧- حدثنا الحسن، قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة، عن
(١) الإسناد ٤٢٣- نصر بن عبد الرحمن بن بكار التاجي، شيخ الطبري: ثقة، روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، مترجم في التهذيب، وقال"ويقال: الأزدي"، فكذلك نسب هنا، وكذلك روى عنه الطبري في التاريخ ٢: ١٢٨، ونسبه"الأزدي"، ووقع في المطبوعة"الأودي" بالواو بدل الزاي، وهو تصحيف. محمد بن يعلى: هو السلمي الكوفي، ولقبه"زنبور"، وهو ضعيف، وقال البخاري"يتكلمون فيه". أبو الخطاب البصري: لم أعرف من هو؟ ولكن ذكر الدولابي في الكنى ١: ١٦٧"أبو الخطاب عبد الله"، ثم قال: "وروى محمد بن عبد الله بن عمار عن المعافى بن عمران عن عبد الله أبي الخطاب عن شهر بن حوشب" فذكر حديثًا. ولم يبين أكثر من ذلك، ولم أجد ترجمته.
(٢) الإسناد ٤٢٥- عبد الملك بن حسين: هو أبو مالك النخعي الواسطي، اشتهر بكنيته وبها ترجم في التهذيب ١٢: ٢١٩، وترجمه ابن أبي حاتم باسمه ٢/٢/٣٤٧. وهو ضعيف ليس بشيء.
339
موسى البزار، عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس، قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.
٤٢٨- حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة، عن الحكَم، عن مجاهد، قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.
٤٢٩- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا عتَّاب بن زياد، عن عكرمة، قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.
٤٣٠- وحدثنا بشر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.
٤٣١- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن عكرمة، قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه، فذلك الصوت تسبيحه.
٤٣٢ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، قال: الرعد مَلك.
٤٣٣- وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك.
٤٣٤- حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك (١).
(١) الخبر ٤٣٤- هذا إسناد منقطع: موسى بن سالم أبو جهضم: ثقة، ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة. "أبو الجلد": بفتح الجيم وسكون اللام وآخره دال مهملة، ووقع في الأصول هنا، وفي الروايات التالية"أبو الخلد" بالخاء بدل الجيم، وهو تصحيف. وأبو الجلد: هو جيلان -بكسر الجيم- بن أبي فروة، ويقال: ابن فروة الأسدي البصري، كما ذكر البخاري في ترجمته في الكبير ١/٢/٢٥٠. وقال ابن أبي حاتم ١/١/٥٤٧: "صاحب كتب التوراة ونحوها". ثم روى عن أحمد بن حنبل أنه وثقه. وترجمه ابن سعد ٧/١/١٦١، وقال: "أبو الجلد الجوني، حي من الأزد، واسمه: جيلان بن فروة، وكان ثقة". وذكره ابن حبان في الثقات: ١٥٧، والدولابي في الكنى ١: ١٣٩، والزبيدي في شرح القاموس (جلد) و (جيل). وذكره الحافظ في لسان الميزان في الأسماء ٢: ١٤٤، ووعد بترجمته في الكنى"أبو الجلد"، ثم لم يفعل، وروى عنه الطبري أثرًا في التاريخ ٢: ٢٠٣. وسيأتي في الخبر: ٤٤٥ أنه"رجل من أهل هجر".
340
٤٣٥- حدثنا المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي، عن عكرمة، قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل (١).
٤٣٦- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكَم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد، قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه (٢).
وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٧- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجَلد، إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه:"كتبتَ تَسألني عن الرّعد، فالرعد الريح (٣).
٤٣٨- حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات، عن أبيه (٤) قال: كتب ابن عباس
(١) عمر بن الوليد الشني أبو سلمة العبدي: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وقال أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأسًا". وهو مترجم في التعجيل: ٣٠٤، وابن أبي حاتم ٣/١/ ١٣٩. "الشني": بفتح الشين المعجمة، كما في المشتبه: ٢٧٩. ووقع في المطبوعة بالمهملة، وهو تصحيف.
(٢) الإسناد ٤٣٦- سعد بن عبد الله بن عبد الحكم: لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم ٢/١/ ٩٢، وقال: "سمعت منه بمكة وبمصر، وهو صدوق".
(٣) الإسناد ٤٣٧- هو إسناد مشكل. ما وجدت ترجمة"بشر بن إسماعيل"، وما عرفت من هو. ثم لم أعرف من"أبو كثير" الراوي عن أبي الجلد. وسيأتي هذا الإسناد مرة أخرى: ٤٤٣.
(٤) الإسناد ٤٣٨- عمران بن ميسرة المنقري: ثقة، من شيوخ البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي: ثقة مأمون حجة. الحسن بن الفرات: ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. أبوه: فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة، إنما هو يروى عن التابعين.
341
إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد ريح (١).
قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد، فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب، فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد (٢). لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا، فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه"الرعد"، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم -إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله"فيه ظلماتٌ ورَعدٌ" متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.
وأما البَرْق، فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:-
٤٣٩- حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي، قال: حدثنا أبو عاصم، -ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، -ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري، عن سَلمة بن كُهيل، عن سعيد بن أشْوَعَ، عن ربيعة
(١) الأخبار ٤١٩ - ٤٣٨ جميعًا: لم يذكرها ابن كثير ولا السيوطي في الدر المنثور، وذكر البغوي في تفسيره ١: ٩٩ - ١٠٠، بعضها، والقرطبي ١: ١٨٧ وما بعدها.
(٢) في المطبوعة: "على أنه لو كان فيه يمر، لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هناك رعب" وهو من تبديل النساخ.
342
بن الأبيض، عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة (١).
٤٤٠- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين، عن أبي مالك، عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب.
٤٤١- وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك، والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.
وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٢- حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، بذلك.
وقال آخرون: هو ماء.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٣- حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل، عن أبي كثِير، قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه:"كتبت إليّ تسألني عن البرق، فالبرق الماء".
٤٤٤- حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عمران بن مَيسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق، فقال: البرق ماء.
٤٤٥- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد -رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق، فكتب إليه:"كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ".
وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك (٢).
٤٤٦- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: البرق، مَصْع مَلك (٣).
٤٤٧- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن محمد بن مُسلم الطائفي، قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان، ووجه ثَور، ووجه نَسر، ووجه أسد، فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق (٤).
٤٤٨- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن وهب بن سليمان، عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش، لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق
(١) الإسناد ٤٣٩- سلمة بن كهيل الحضرمي: ثقة معروف، سعيد بن أشوع: هو سعيد ابن عمرو بن أشوع الكوفي القاضي، نسب إلى جده. وهو ثقة، أخرج له الشيخان في الصحيحين، ربيعة بن الأبيض -الذي روى عن علي- لم أجد له ترجمة إلا في كتاب الثقات لابن حبان: ١٨٤. قال: "ربيعة بن الأبيض، يروى عن علي بن أبي طالب، روى عنه ابن أشوع".
المخاريق جمع مخراق: وهو منديل أو نحوه يلوى فيضرب به، ويلف فيفزع به، وهو من لعب الصبيان، ومنه سمى السيف مخراقًا.
(٢) المصع: الضرب بالسيف أو السوط أو غيرهما. والمصاع: المجالدة بالسيف. يعني أن الملك يضرب السحاب بمخراقه.
(٣) الإسناد ٤٤٦- عثمان بن الأسود بن موسى المكي: ثقة ثبت كثير الحديث، يروى عن مجاهد، ويروى عنه سفيان الثوري.
(٤) الإسناد ٤٤٧- محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي: وثقه ابن معين، وقال ابن مهدي: "كتبه صحاح"، وضعفه أحمد بن حنبل، وأخرج له مسلم في صحيحه حديثًا واحدًا متابعة.
343
(١). وقال أميةُ بن أبي الصلت:
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ وَالنَّسْرُ لِلأُخْرَى، وَلَيْثٌ مُرْصِدُ (٢)
٤٤٩- حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جُريج، عن مجاهد، عن ابن عباس: البرق ملك.
٤٥٠- وقد حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء (٣).
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه (٤). وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف، ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب، كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به (٥).
(١) الأثر ٤٤٨- وهب بن سليمان الجندي -بفتح الجيم والنون- اليماني، قال البخاري في الكبير ٤/٢/ ١٦٩ - ١٧٠: "عن شعيب الجبائي، قوله، روى عنه ابن جريج". ولم أجد له ترجمة عند غيره. شعيب الجبائي: بفتح الجيم والباء الموحدة مخففة، نسبة إلى"جبأ"، بوزن"جبل"، وهو جبل في اليمن قرب الجند، كما قال ياقوت وغيره. وشعيب هذا ترجمه البخاري في الكبير ٢/٢/ ٢١٩. وترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/ ٣٥٣، قال: "شعيب الجبائي: يماني، يروى عن الكتب [يريد الكتب المنسوبة لأهل الكتاب من الأساطير]، روى عنه سلمة بن وهرام"، ثم جزم ابن أبي حاتم بأنه"شعيب بن الأسود"، ثم روى بإسناده عن زمعة، عن شعيب بن الأسود، قال: أجد في كتاب الله". وله ترجمة في لسان الميزان ٣: ١٥٠ وقال: "أخباري متروك". ثم ذكر شيئًا مما لا يقبله العقل من كلامه، وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان قد قرأ الكتب".
(٢) ديوانه: ٢٥، وسيأتي في تفسير آية الرعد: ٣٥ (١٣: ١٠٩ بولاق). ورواية ديوانه: "تحت يمنى رجله، والنسر لليسرى". قال الطبري في الموضع الآخر: "كأنه قال: تحت رجله، أو تحت رجله اليمنى". والضمير في قوله: "رجله"، يعنى به إسرافيل، وذكره في شعره قبل. وفي ديوانه، وفي الموضع الآخر من الطبري: "زحل"، كأنه يعني البروج، ولكن استدلال الطبري هنا واضح، دال على أن روايته"رجل".
(٣) الأخبار ٤٣٩ - ٤٥٠: لم تذكر في ابن كثير، ولا في الدر المنثور. وانظر البغوي ١: ٩٩ - ١٠٠، والقرطبي ١: ١٨٨.
(٤) في المطبوعة: "إزجاء الملك السحاب، مصعه إياه بها".
(٥) المجالدة: المضاربة بالسيوف وغيرها في المصارعة والقتال، من الجلد.
345
إِذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقَرَانَهُنَّ وَكَانَ الْمِصَاعُ بِمَا فِي الْجُوَنْ (١)
يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال:"مَصْعُ ملك"، إذْ كان السحاب لا يماصع الملك، وإنما الرعد هو المماصع له، فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصِْعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى"الصاعقة" - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.
وأما تأويل الآية، فإن أهل التأويل مُختلفون فيه:
فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما-
٤٥١- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت": أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم -أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين (٢).
والآخر: ما-
٤٥٢- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق" إلى"إنّ الله عَلى كل شيء قدير"، أما الصيب فالمطر (٣). كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله ﷺ إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ، فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه (٤)، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان (٥)، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي ﷺ جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان (٦)، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه، وقالوا: إن دين محمد ﷺ دينُ صدق. فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا (٧). فكانوا إذا هلكت أموالهم، ووُلد لهم الجواري، وأصابهم البلاء (٨)، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما (٩).
والثالث: ما-
٤٥٣- حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء"، كمطر،"فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ" إلى آخر الآية، هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل، مُراءَاةً للناس، فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ، وأما البرقُ فالإيمان، وهم أهل الكتاب.
(١) ديوانه: ١٥، وزعم الطبري كما ترى أنه أراد جواري يلعبن بحليهن ويجالدن بها. وقد أخطأ المعنى. وإنما أراد الأعشى ما هو أبلغ. وذلك أن الأقران جمع قرن: وهو الذي يقارنك في القوة والشجاعة، وأراد به الرجال، وينازلن: أراد ما يكون منهن من المداعبة والممارسة إرادة الغلبة على عقول الرجال وعزائمهم. والجون، جمع جونة: وهي سلة صغيرة مستديرة مغشاة بالأدم يكون فيها الطيب. ويقال أيضًا: "جؤنة وجؤن" بالهمز. وذكر الأعشى المعركة القديمة الدائرة بين الرجال والنساء، يتخذن الزينة والطيب سلاحًا، فيتصدين للرجال ابتغاء الظفر والغلبة، والفتنة التي تصرع الألباب والعزائم، فيقع الرجال أسرى في أيديهن.
(٢) الخبر ٤٥١- ذكره السيوطي في الدر المنثور بتمامه ١: ٣٢ - ٣٣، ونسبه أيضًا لابن إسحاق، وابن أبي حاتم. وفيه وفي المخطوطة"من الخلاف والتخويف منكم" ونقل ابن كثير بعضه ١: ١٠٠.
(٣) في المطبوعة: "وأما الصيب والمطر"، وهو خطأ.
(٤) في الأصول: "مشوا"، وصححناه من الدر المنثور والشوكاني.
(٥) في الأصول: "قاما مكانهما" بغير واو، وفي إحدى النسخ المخطوطة: "فقاما مكانهما"، واتفقت سائر الأصول وما نقل في الدر المنثور والشوكاني على حذف الفاء، والجملة لا تستقيم، فجعلناها"وقاما"، وهو صواب العبارة.
(٦) في الدر المنثور: "وولدهم، وأصابوا.. "، وفي الشوكاني: "وأولادهم وأصابوا.. "
(٧) في المخطوطة: "إذا أضاء لهما مشيا، وإذا أظلم عليهما قاما". وفي الدر المنثور: "يمشيان إذا أضاء بهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا"، وفي الشوكاني: "يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا"، وأجودهن ما في المخطوطة، وما في المطبوعة.
(٨) في الدر المنثور والشوكاني: "إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء".
(٩) الحديث ٤٥٢- نقل في الدر المنثور ١: ٣٢، والشوكاني ١: ٣٦ - ٣٧، وسيأتي في ص ٣٥٤ قول الطبري عن هذا الحديث وعن إسناده: "ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. " وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد محمد شاكر في هذا الإسناد فيما مضى في الخبر رقم: ١٦٨.
ويقول أحمد محمد شاكر عفا الله عنه: وحق لأبي جعفر رحمه الله أن يرتاب في إسناده. فإن هذا الإسناد فيه تساهل كثير، من جهة جمع مفرق التفاسير عن الصحابة في سياق واحد، تجمعه هذه الأسانيد، كما بينا آنفًا. فإذا كان الأمر في تفسير معنى آية، كان سهلا ميسورًا قبوله، إذ يكون رأيًا أو آراء لبعض الصحابة في معنى الآية، وما في ذلك بأس. أما إذا ارتفع الخبر إلى درجة الحديث، بالإخبار عن واقعة معينة أو وقائع، كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسباب لنزول بعض الآيات، أو نحو ذلك، مما يلحق بالحديث المرفوع لفظًا أو حكمًا -كان قبول هذا الإسناد- إسناد تفسير السدي- محل نظر وارتياب. إذ هو رواية غير معروف مصدرها معرفة محددة: أي هؤلاء الذي قال هذا؟ وأيهم الذي عبر عنه باللفظ الذي جاء به؟ نعم، إن ظاهره أنه عن الصحابة: إما ابن عباس، وإما ابن مسعود، وإما"ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" - فقد يقول قائل: إن مرجع الرواية فيه إلى الصحابة، وسواء أعرف الصحابي الراوي أم أبهم اسمه، فإن ذلك لا يخرجه عن رواية الصحابة، وجهالة الصحابي لا تضر؟ ولكن سياق هذه الروايات المطولة المفصلة، في التفسير وفي الحوادث المتعلقة بأسباب النزول، مثل الرواية التي هنا في هذا الموضع، مع إعراض أئمة الحديث، الذين خرجوا الروايات الصحيحة، والروايات المقبولة مما هو دون الصحيح - عن إخراج هذه الرواية ونحوها، وإعراض مؤرخي السيرة عن روايتها أيضًا، كل أولئك يوجب الريبة في اتصال مثل هذه الرواية، وفي الجزم بنسبتها إلى الصحابة. إذ لعلها مما أدرج في الرواية أثناء الحديث بها. والاحتياط في نسبة الحديث المرفوع وما في حكمه واجب.
346
وإذا أظلم عليهم، فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه (١).
والرابع: ما-
٤٥٤- حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو كصيِّب من السماء"، وهو المطر، ضرب مَثله في القرآن يقول:"فيه ظلمات"، يقول: ابتلاء،"ورعد" يقول فيه تخويف،"وبرق"،"يكاد البرق يخطف أبصارهم" (٢)، يقول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين،"كلما أضاء لهم مَشوا فيه". يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا، وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر (٣) يقول:"وإذا أظلم عَليهم قاموا"، كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [سورة الحج: ١١] (٤).
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:
٤٥٥- فحدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل.
٤٥٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثلَه.
(١) الخبر ٤٥٣- في الدر المنثور ١: ٣٢، والشوكاني ١: ٣٧، مع اختلاف يسير في اللفظ.
(٢) في الدر المنثور والشوكاني: "رعد وبرق - تخويف".
(٣) في المطبوعة: "قالوا رجعوا إلى الكفر"، وهو خطأ محض.
(٤) الخبر ٤٥٤- في الدر المنثور ١: ٣٢، والشوكاني ١: ٣٦، وبعضه في تفسير ابن كثير ١: ١٠٠.
349
٤٥٧- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
٤٥٨- وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، في قول الله:"فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ" إلى قوله"وإذا أظلم عليهم قاموا"، فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش، قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها، ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها (١).
٤٥٩- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة:"فيه ظلمات ورعد وبرق"، يقول: أجبنُ قوم (٢) لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت، والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال:"يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه"، يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ."وإذا أظلم عليهم قاموا" يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين (٣).
٤٦٠- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فيه ظلمات ورعد وبرق"، قال: مَثَلُهم
(١) الأثر ٤٥٨- في الدر المنثور ١: ٣٣، وهو جزء من أثر قتادة بتمامه، ونصه هناك: "فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة عيش، قالوا: إنا معكم ومنكم. وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء، فقحقح عند الشدة، فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها". وقوله في الدر المنثور"قحقح"، أظنه خطأ، وإنما هو حقحق كما في أصول الطبري. والحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر. يريد أنه يسرع إسراعًا في حيرته حتى يهلكه التعب، وذلك أن المنافق لا يصبر على البلوى صبر المؤمن الراضي بما شاء الله وقدر. وقوله"فانقطع به" بالبناء للمجهول يقال للدابة وللرجل"قطع به وانقطع به" بالبناء للمجهول، إذا عجز فلم ينهض، وأتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه، وانقطع رجاؤه. وفي المخطوطة"فتقطع به" وليست بشيء. وفي المطبوعة: "وإذا أصابته شدة".
(٢) في المطبوعة: "أخبر عن قوم"، وهو كلام بلا معنى.
(٣) الأثر ٤٥٩- لم أجده بلفظه، وأثر قتادة في الدر المنثور ١: ٣٣ شبيه به في المعنى دون اللفظ.
350
كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة، فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة، فكذلك قوله:"كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا"، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس،"ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم".
قال أبو جعفر:
٤٦١- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهلي، عن الضحاك بن مُزَاحم،"فيه ظلمات"، قال: أما الظلمات فالضلالة، والبرق الإيمان (١).
٤٦٢- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله:"فيه ظلمات ورَعد وبرق"، فقرأ حتى بلغ:"إنّ الله على كل شيء قدير"، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.
٤٦٣- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له -والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق (٢).
٤٦٤- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء في قوله:"أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق"، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر (٣).
(١) الأثر ٤٦١- في الأصول"أبو نميلة" بالنون، وهو خطأ، والصواب"أبو تميلة" بالتاء مصغرًا، وهو يحيى بن واضح، كما مضى في: ٣٩٢.
(٢) في المخطوطة: "كما إذ كانوا بالبر في المطر.. "، وهو شبيه بالصواب. والبراز: الفضاء من الأرض البعيد الواسع، ليس به شجر ولا غيره مما يستتر به.
(٣) الآثار ٤٦٠ - ٤٦٤: لم أجدها في مكان.
351
وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته، وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه (١) ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته (٢) ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه (٣).
فتأويل الآية إذًا -إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله ﷺ وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله ﷺ وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر، مكذِّبون، ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون، على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [فيه] الهداية (٤)، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا ﷺ بما أرسله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمد ﷺ من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد ﷺ وَجِلون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء
(١) في المخطوطة: "بضلالته... بنور إيمانه".
(٢) في المطبوعة: "وتحير فؤاده". والنخب: الجبن وضعف القلب. ورجل نخب ونخيب ومنخوب الفؤاد: جبان لا خير فيه، كأنه منتزع الفؤاد، فلا فؤاد له.
(٣) في المطبوعة: "باستقامته.. بحيرته في ضلالته.. "
(٤) في المخطوطة: "سرعا" غير واضحة ولا منقوطة. ولعل الصواب"شرعا" من قولهم شرعت الإبل الماء: أي دخلته وخاضت فيه لتشرب منه. والمنافق يخوض في الإيمان بلسانه وفي الكفر بقلبه. وزدت ما بين القوسين ليستقيم المعنى. وفي المطبوعة بعد: "الهداية في الكفر الذي كانوا عليه"، بغير ألف الاستفهام، وهو خطأ لا يستقيم.
352
وليلة مظلمة (١) يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه (٢)، كثير خَطرانه (٣)، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.
فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله ﷺ في آي كتابه، إما في العاجل وإما في الآجل، أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ (٤). فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد ﷺ بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونزول النَّقِمَات (٥). وذلك تأويل قوله جل ثناؤه"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت"، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله ﷺ أدخلوا أصابعهم
(١) في المطبوعة: "وليل مظلمة"، وهو خطأ بين.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يحذوها" بالذال المعجمة، وهو خطأ. وإنما هو من حداء السائق بإبله: وهو غناؤه لها وزجره إياها، وهو يسوقها. جعل صوت الرعد حداء للسحاب. واستطار البرق: سطع وشق السحاب وانتشر في جوانب الغمام.
(٣) في المخطوطة: "خطواته" غير منقوطة، وهو تحريف. من قولهم خطر بسيفه أو سوطه يخطر خطرانًا: إذا رفعه مرة ووضعه أخرى، شبه شقائق البرق بالسوط يلمع مرة ويخفى أخرى.
(٤) قوله"مثل" خبر مبتدأ محذوف، فسياق الجملة كما ترى: أما الرعد والصواعق، فمثل لما هم عليه من الوجل..
(٥) النقمات: جمع نقمة مثل كلمات وكلمة، وهي العقوبات.
353
في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله ﷺ أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول (١). وإن يكن غيرَ صحيح، فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم (٢)، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله ﷺ من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله ﷺ والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله"حَذَرَ الموت"، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم (٣) كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها.
وإنما نصَب قوله"حَذَرَ الموت" على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك:"زُرْتك تَكرمةً لك"، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جلّ ثناؤه، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [سورة الأنبياء: ٩٠] على التفسير للفعل (٤).
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله:"حَذَرَ الموت"، حذرًا من الموت.
(١) انظر الحديث رقم: ٤٥٢ والتعليق عليه.
(٢) في المطبوعة: "قصصهم"، ولا بأس بها. وبعد ذلك في المخطوطة: "أنهم عارفون يخادعون الله.. "، ولا معنى لإقحام قوله: "عارفون".
(٣) في المطبوعة: "العقاب المهلك.. " بدلوا لفظ الطبري، ليوافق ما اعتادوه من الكلام.
(٤) قوله"على التفسير للفعل"، أي أنه مفعول لأجله.
354
٤٦٥- حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه.
وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به (١)، حَذَرًا من الموت، وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.
وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت"، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت، ويتأولان في ذلك قوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [سورة المنافقون: ٤].
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه (٢). وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله ﷺ مصدِّقين، فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين، إلا بالتخذيل عنه (٣). ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ
(١) في المطبوعة"مراد به"، وهما سواء.
(٢) هذه الجملة في المخطوطة هكذا: "كقزمان الذي لم يقم مقامه من المؤمنين كثير أحد ودونه" وهي عبارة مبهمة. وقد أثبت ما في المطبوعة، وجعلت"ودونه"، "أو دونه" ليستقيم المعنى. ويدل على ذلك أن عدة الذين قتلوا يوم أحد من المشركين اثنان وعشرون رجلا، قتل قزمان وحده منهم عشرة، وقتل علي بن أبي طالب أربعة، وقتل حمزة بن عبد المطلب ثلاثة، وقتل عاصم ابن ثابت بن الأقلح رجلين، وقتل سعد بن أبي وقاص رجلا واحدًا. وأما رسول الله ﷺ فقتل رجلا صبرًا، وقتل آخر بيده صلى الله عليه وسلم. وقزمان حليف بني ظفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لمن أهل النار. فلما أبلى يوم أحد، قيل له: أبشر! قال: بماذا أبشر؟ فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي! ولولا ذلك ما قاتلت. ولما اشتدت به جراحته وآذته، أخذ سهمًا من كنانته فقتل به نفسه.
(٣) التخذيل: حمل الرجل على خذلان صاحبه، وتثبيطه عن نصرته.
355
المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم (١)، وحُلوله بِساحتهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة، للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها، فقال:"والله مُحيطٌ بالكافرين"، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:-
٤٦٦- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"والله مُحيط بالكافرين"، قال: جامعهم في جهنم (٢).
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:-
٤٦٧- حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"والله مُحيط بالكافرين"، يقول: الله منزلٌ ذلك بهم من النِّقمة (٣).
٤٦٨- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، في قوله:"والله محيط بالكافرين"، قال: جامِعُهم.
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم، فقال:"يكاد البرق"، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.
(١) في المطبوعة: "بعقوبتهم"، وفي بعض المخطوطات: "بعقولهم"، وكلتاهما خطأ محض. والعقوة: ساحة الدار، وما كان حولها وقريبًا منها.
(٢) الأثر ٤٦٦- من تمام أثر في الدر المنثور ١: ٣٣.
(٣) الخبر ٤٦٧- من تمام خبر في الدر المنثور ١: ٣٢ - ٣٣.
356
"يَخطفُ أبصَارهم"، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه.
٤٦٩- كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"يكاد البرقُ يخطف أبصارهم"، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل (١).
قال أبو جعفر: والخطف السلب، ومنه الخبر الذي روي عن النبي ﷺ أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة (٢). ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ متينةٍ تَمُدُّ بها أَيدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ (٣)
(١) الخبر ٤٦٩- لم أجده. والتمع البصر أو غيره: اختلسه واختطفه وذهب به. ومنه الحديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يرفع بصره إلى السماء يلتمع بصره"، أي يختلس.
(٢) الذي ذكره ابن الأثير في النهاية أن الخطفة: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية، لأن كل ما أبين من حي فهو ميت، وذلك أن النهي عن الخطفة كان لما قدم رسول الله ﷺ المدينة، رأى الناس يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم ويأكلونها. قال: والخطفة المرة الواحدة من الخطف، فسمى بها العضو المختطف، وأما النهبة والنهبى، فاسم لما ينهب، وجاء بيانها في حديث سنن أبي داود ٣: ٨٨"فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها، فقام عبد الرحمن بن سمرة خطيبًا، فقال: سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن النهبى". وفي الباب نفسه من سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلى إذ جاء رسول الله ﷺ يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة".
(٣) ديوانه: ٤١، وقبله البيت المشهور:
فَإِنَّكَ كَالليلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
خطاطيف: جمع خطاف. وحجن: جمع أحجن، وهو المعوج الذي في رأسه عقافة. وقال"تمد بها" ولم يقل: تمدها، لأنه لم يرد مد الحبال ذوات الخطاطيف، وإنما أراد اليد التي تمتد بها وفيها الخطاطيف، لأن اليد هي الذي تتبع الشيء حيث ذهب (انظر ما سيأتي من إدخال الباء على مثل هذا الفعل ص ٣٦٠ س: ٦ - ٩) وقوله"إليك" متعلق بقوله"نوازع". ونوازع جمع نازع ونازعة، من قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها: جذبها وأخرجها. أي أن هذه الأيدي تجذب ما تشاء إليك، وترده عليك. والبيت متصل بالذي قبله، وبيان لقوله"فإنك كالليل الذي هو مدركى"، أراد تهويل الليل وما يرى فيه، تتبعه حيث ذهب خطاطيف حجن لا مهرب له منها.
357
فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله ﷺ وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره، مثلا.
ثم قال تعالى ذكره:"كلما أضاء لهم"، يعني أن البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء، وإصابةِ الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء في الأموال، والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك، ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم، وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) [سورة الحج: ١١].
ويعني بقوله"مشوا فيه"، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.
"وإذا أظلم"، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.
ويعني بقوله"عليهم"، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم (١)، أو إدبارٍ من
(١) في المطبوعة"وإنالة عدوهم"، وهو خطأ. والإدالة: الغلبة، وهي من الدولة في الحرب، وهو أن يهزم الجيش مرة، ويهزمه الجيش الآخر تارة أخرى. يقال: اللهم أدلنا من عدونا! أي اللهم اجعل لنا الدولة عليه وانصرنا.
358
دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم (١)، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره (٢) إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق، فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
(١) في المطبوعة: "قاموا على نفاقهم". وهذه أجود.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قام السائرون في الصيب"، وهو خطأ، صوابه من مخطوطة أخرى.
359
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}
قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم (١) - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين، أعني قوله:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق"، وقوله:"يكادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم كلما أضاء لهم مَشَوْا فيه"، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدًا من الله لهم، كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: "والله مُحيط بالكافرين"، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لإحلال سَخَطه بهم، وإنزال نِقْمته عليهم، ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته، ومخوِّفَهم به عقوبته، ليتقوا بأسَه، ويُسارعوا إليه بالتوبة.
٤٧٠- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس:"ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم"، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته (٢).
٤٧١- وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ثم قال -يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس:"ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم" (٣).
قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله:"لذهب بسمعهم وأبصارهم"، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره، وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: (آتِنَا غَدَاءَنَا) [سورة الكهف: ٦٢]، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا (٤).
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:" لذهب بسمعهم" فوحَّد، وقال:"وأبصارهم" فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة (٥)، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟ (٦)
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق، وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة (٧). ويحتج في ذلك بقول الله: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [سورة إبراهيم: ٤٣]، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم، وبقوله: (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [سورة القمر: ٤٥]،
(١) في المخطوطة: "دون سائر أجسامهم".
(٢) الخبر ٤٧٠- من تمام الخبر الذي ساقه في الدر المنثور ١: ٣٢ - ٣٣، وقد مضى صدره آنفًا: ٤٥١، ٤٦٧.
(٣) الأثر ٤٧١- هو من الأثر السالف رقم: ٤٦٠.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٩. وانظر ما مضى ص ٣٥٧ تعليق: ٣
(٥) في المخطوطة: "أن الخبر بالسمع"، وهذه أجود، وأجودهن"الخبر عن السمع" كما سيأتي في الذي يلي.
(٦) في المطبوعة: "كما الخبر في الأبصار"، والذي في المخطوطة أجود.
(٧) في المخطوطة: "لمعنى جماعة"، وهي صواب جيد.
360
يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع، فكان في دلالته على المراد منه، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه (١). ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار -من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ (٢)
فوحّد البطن، والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى"قدير" قادر، كما معنى"عليم" عالم، على ما وصفتُ فيما
(١) في المطبوعة: "فكان فيه دلالة على المراد منه، وأدى معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مغنيًا عن جماعة"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: ".. على المراد منه واوا معنى الواحد.. "، وقد صححت قراءتها كما ترى. وقوله" مغنيًا عن جماعه" أي عن جمعه، والطبري يكثر استعمال"جماع" مكان جمع، كما مضى وكما سيأتي.
(٢) البيت من أبيات سيبويه التي لا يعلم قائلها، سيبويه ١: ١٠٨، والخزانة ٣: ٣٧٩ - ٣٨١، وانظر أمالي ابن الشجري ١: ٣١١، ٢: ٣٥، ٣٨، ٣٤٣، وروايته: "في نصف بطنكم". وفي المخطوطة: "تعيشوا"، مكان"تعفوا"، وهي رواية ذكرها صاحب الخزانة. وروايتهم جميعًا "فإن زمانكم.. ".
361
تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم (١).
* * *
القول في تأويل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون (٢)، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم (٣)، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر، مع استبطانه خلافَ ذلك، ومرض قلبه، وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ (٤).
وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه، غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى"اعبُدوا ربكم": وحِّدوا ربكم. وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة،
(١) انظر تفسير قوله تعالى: "الرحيم"، فيما مضى: ص ١٢٦.
(٢) في المخطوطة: "أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، وهما سواء في المعنى.
(٣) في المطبوعة: ".. وعلى سمعهم وأبصارهم"، والصواب حذف"وأبصارهم"، لأنها غير داخلة في معنى الطبع، كما مضى في تفسير الآية.
(٤) في المخطوطة: "على ضرر ولا نفع"، وهما سواء.
362
والتذلل له بالاستكانة (١). والذي أراد ابن عباس -إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله:"اعبدوا ربكم" وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه (٢).
٤٧٢- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله:"يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم"، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم (٣).
٤٧٣- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم" يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم (٤).
قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.
* * *
(١) مضى في تفسير قوله تعالى"إياك نعبد" ص: ١٦٠.
(٢) في المخطوطة"وحدوه له أفردوا.. "، وليس لها معنى.
(٣) الخبر ٤٧٢- في الدر المنثور ١: ٣٣، وابن كثير ١: ١٠٥، والشوكاني ١: ٣٨. وفي الدر والشوكاني: "من الكفار والمؤمنين"، ووافق ابن كثير أصول الطبري.
(٤) الخبر ٤٧٣- في الدر المنثور ١: ٣٣، ولم ينسب إخراجه لابن جرير. وفي المخطوطة: "خلقكم والذين.. ".
363
القول في تأويل قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم، وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكُم له العبادة (١) لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم، وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله:"لعلكم تتقون": تُطيعون.
٤٧٤- حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله:"لعلكم تتقون"، قال: لعلكم تطيعون (٢).
قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه:"لعلكم تتقون"؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه، حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟
قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ، وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة (٣)، كما قال الشاعر:
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ، لَعَلَّنَا... نَكُفُّ! وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ (٤) فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ... كَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الْفَلا مُتَأَلِّقِ (٥)
(١) في المطبوعة: "له بالعبادة" وهو خطأ.
(٢) الأثر ٤٧٤- في الدر المنثور ١: ٣٤.
(٣) يريد الطبري أن العرب تستعمل"لعل" مجردة من الشك، بمعنى لام كي، كما قال ابن الشجري في أماليه ١: ٥١.
(٤) لم أعرف قائلهما، ورواهما ابن الشجري نقلا عن الطبري، فيما أرجح، في أماليه ١: ٥١.
(٥) رواية ابن الشجري"في الملا". والفلا جمع فلاة: وهي الأرض المستوية ليس فيها شيء والصحراء الواسعة. والملا: الصحراء والمتسع من الأرض - فهما سواء في المعنى.
364
يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن"لعل" في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا﴾
وقوله:"الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا" مردود على"الذي" الأولى في قوله"اعبدُوا ربكم الذي خَلقَكم"، وهما جميعًا من نَعت"ربكم"، فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم، والخالقَ الذين من قبلكم، الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً (١) وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره -بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم (٢) ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته -تعطُّفًا منه بذلك عليهم، ورأفةً منه بهم، ورحمةً لهم، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
٤٧٥- كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة (٣)، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"الذي جعل لكم الأرض فراشًا" فهي فراشٌ يُمشى عليها، وهي المهاد والقرار (٤).
٤٧٦- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة:"الذي جَعل لكم الأرض فراشًا"، قال: مهادًا لكم.
(١) في المطبوعة: "مهادًا وموطئًا"، وفي المخطوطة"مهادًا توتطا"، وكأن الصواب ما أثبتناه. والموطأ: المهيأ الملين الممهد. وسيأتي أن الفراش هو المهاد.
(٢) في المطبوعة"زيادة نعمه عندهم، وآلائه لديهم"، والصواب ما في المخطوطة. وقوله"عباده" مفعول: "يذكر ربنا.. ".
(٣) قوله"وعن مرة"، ساقطة من المطبوعة، وهذا هو الصواب.
(٤) الخبر ٤٧٥- في الدر المنثور ١: ٣٤، والشوكاني ١: ٣٨.
365
٤٧٧- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"الذي جعل لكم الأرض فراشًا"، أي مهادًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾
قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ (١)، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه، كما قال الفرزدق:
سَمَوْنَا لِنَجْرَانَ الْيَمَانِي وَأَهْلِهِ وَنَجْرَانُ أَرْضٌ لَمْ تُدَيَّثْ مَقَاوِلُهْ (٢)
وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:
سَمَتْ لِي نَظْرَةٌ، فَرَأيتُ مِنْهَا تُحَيْتَ الْخِدْرِ وَاضِعَةَ الْقِرَامِ (٣)
يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت، فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.
(١) في المطبوعة"سماؤه"، وكلتاهما صواب، سماء البيت، وسماوته: سقفه.
(٢) ديوانه: ٧٣٥، والنقائض: ٦٠٠. ونجران: أرض في مخاليف اليمن من ناحية مكة. وذكر نجران، على لفظه وأصل معناه، والنجران في كلام العرب: الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب. وديث البعير: ذلله بعض الذل حتى تذهب صعوبته. والمقاول: جمع مقول. والمقول والقيل: الملك من ملوك حمير. يقول: هي أرض عز عزيز، لم يلق ملوكها ضيما يذلهم ويحني هاماتهم.
(٣) ديوانه: ٨٦، وروايته: "صفحت بنظرة". وقوله"صفحت"، أي تصفحت الوجوه بنظرة، أو رميت بنظرة متصفحًا. والقرام: ستر رقيق فيه رقم ونقوش. والخدر: خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب، وهو الهودج. ووضع الشيء: ألقاه. وتحيت: تصغير"تحت"، وصغر"تحت"، لأنه أراد أن ستر الخدر بعد وضع القرام لا يبدى منها إلا قليلا، وهذا البيت متعلق بما قبله وما بعده. وقبله:
366
٤٧٨- كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"والسّماء بناء"، فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض. (١)
٤٧٩- حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قول الله:"والسماءَ بناءً"، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.
* * *
القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنزل من السماء مطرًا، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات (٢) - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه، وذكَّرهم به آلاءَه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة.
(١) الخبر ٤٧٨- في الدر المنثور ١: ٣٤، جمعه مع الخبر: ٤٧٥ خبرًا واحدًا.
(٢) في المخطوطة: "زرعهم وغروسهم"، وهما سواء.
367
ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل، ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾
قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ، والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل، كما قال حسان بن ثابت:
فَلَوْ كَانَتْ غَدَاةَ الْبَيْنِ مَنَّتْ وَقَدْ رَفَعُوا الْخُدُورَ عَلَى الْخِيَامِ
صَفَحْتُ بنظرةٍ.... ....................
تَرَائِبَ يستضئُ الحليُ فيها كَجمْرِ النارِ بُذِّرَ فِي الظَّلامِ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ؟ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ (١)
يعني بقوله:"ولستَ له بند"، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند (٢).
٤٨٠- كما حدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، أي عُدَلاء (٣).
٤٨١- حدثني المثنى، قال: حدثني أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبل، عن ابن أبي نَحيح، عن مجاهد:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، أي عُدَلاء (٤).
٤٨٢- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله (٥).
(١) ديوانه: ٨، روايته"بكفء"، وكذلك في رواية الطبري الآتية (١٨: ٦٩ - ٧٠ بولاق) وقصيدة حسان هذه، يهاجى بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، قبل إسلامه، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٢) في المطبوعة: "كان نظيرًا لشيء وشبيهًا".
(٣) الأثر ٤٨١- في الدر المنثور ١: ٣٥، والعدلاء: جمع عديل، وهو النظير والمثيل، كالعدل.
(٤) الأثر- ٤٨١- في الدر المنثور ١: ٣٥، والعدلاء: جمع عديل، وهو النظير والمثيل، كالعدل.
(٥) الخبر ٤٨٢- في الدر المنثور ١: ٣٤ - ٣٥، والشوكاني ١: ٣٩.
368
٤٨٣- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (١) في قول الله:"فلا تَجعلوا لله أندادًا"، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
٤٨٤- حُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بِشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، قال: أشباهًا (٢).
٤٨٥- حدثني محمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة:"فلا تجعلوا لله أندادًا"، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ، لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك (٣).
فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه، أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونعمي التي أنعمتها عليكم (٤) - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة،
(١) في المطبوعة: "ابن يزيد"، وهو خطأ.
(٢) الخبر ٤٨٤- في الدر المنثور ١: ٣٤، والشوكاني ١: ٣٩.
(٣) الأثر ٤٨٥- جاء مثله في خبر عن ابن عباس في ابن كثير ١: ١٠٥، والشوكاني ١: ٣٩. وفي المطبوعة: "أي تقولوا: لولا كلبنا.. "، وليست بشيء. وفي المخطوطة"ونحو هذا" مكان"ونحو ذلك". والخبر الذي في ابن كثير، ساقه مطولا بالإسناد من تفسير ابن أبي حاتم، من طريق الضحاك بن مخلد، وهو أبو عاصم النبيل الذي في هذا الإسناد، عن شبيب، وهو ابن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، ولعل الطبري قصر بهذا الإسناد، لأنه يروي مثل هذه الروايات، بهذا الإسناد إلى عكرمة، عن ابن عباس، كما مضى برقم: ١٥٧. وعن ذلك إعراض ابن كثير عن نقل رواية الطبري، واختياره رواية ابن أبي حاتم. وسياق رواية ابن أبي حاتم -عن ابن عباس- فيها فوائد جمة. ولفظها: "قال: الأنداد، هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها"فلان". هذا كله به شرك". ثم قال ابن كثير: "وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت! قال: أجعلتني لله ندًّا؟! ". والحديث الذي يشير إليه ابن كثير، رواه أحمد في المسند بأسانيد صحاح، عن ابن عباس: ١٨٣٩، ١٩٦٤، ٢٥٦١، ٣٢٤٧. وكذلك رواه البخاري في الأدب المفرد ص: ١١٦ ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح ١١: ٤٧٠ للنسائي وابن ماجه.
(٤) في المطبوعة: "ونعمتي" بالإفراد.
369
وأخلصُوا ليَ العبادة، ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) ﴾
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:
فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل (٢).
ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:
٤٨٦- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نَزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله:"فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون"، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه (٣).
٤٨٧- حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وأنتمْ تعلمون" أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض، ثم تجعلون له أندادًا (٤).
(١) في المطبوعة: ".. كل نعمة عليكم مني". وهذه أجود.
(٢) في المطبوعة: "أهل الكتابين التوراة والإنجيل".
(٣) الخبر ٤٨٦- مضى صدره في رقم: ٤٧٢، وتمامه في ابن كثير ١: ١٠٥، والدر المنثور ١: ٣٤، والشوكاني ١: ٣٩.
(٤) الأثر ٤٨٧- في الدر المنثور ١: ٣٥.
370
ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:
٤٨٨- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:"فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون"، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.
٤٨٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا قَبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله (١).
٤٩٠- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"وأنتم تعلمون"، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل (٢).
قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته، غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها، فقال جل ثناؤه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة الزخرف: ٨٧]، وقال: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [سورة يونس: ٣١].
(١) الإسناد ٤٨٩- قبيصة، بفتح القاف: هو ابن عقبة بن محمد السوائي الكوفي، وهو ثقة معروف، من شيوخ البخاري، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، تكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري، بأنه يخطئ في بعض روايته، بأنه سمع من الثوري صغيرًا، ولكن لم يجرحه البخاري في الكبير ٤/١/١٧٧، وقال ابن سعد في الطبقات ٦: ٢٨١: "كان ثقة صدوقًا، كثير الحديث عن سفيان الثوري". وسأل ابن أبي حاتم (الجرح ٣/٢/١٢٦) أباه عن قبيصة وأبي حذيفة، فقال: "قبيصة أجل عندي، وهو صدوق. لم أر أحدًا من المحدثين يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره، سوى قبيصة بن عقبة، وعلي بن الجعد، وأبي نعيم - في الثوري".
(٢) الأثر ٤٩٠- ذكره ابن كثير ١: ١٠٥، والدر المنثور ١: ٣٥، بنحوه.
371
فالذي هو أولى بتأويل قوله:"وأنتم تعلمون" - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله، وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم، نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل
372
ثناؤه عني بقوله:"وأنتم تعلمون" أحدَ الحزبين، بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم، لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله:"يا أيها الناس اعبدُوا ربكم" - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله (١)، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه، كائنًا من كان من الناس، عربيًّا كان أو أعجميًّا، كاتبًا أو أميًّا، وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾
قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد ﷺ على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه:"إنّ الذين كفروا سَواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم"، وإياهم يخاطب بهذه الآيات، وضُرباءَهم يَعني بها (٢)، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ -وهو الريب- مما نزّلنا على عبدنا محمد ﷺ من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي، وأنّي الذي أنزلته إليه، فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد ﷺ على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته (٣)، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك -وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة (٤) - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه، لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا ﷺ لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه، أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فأتوا بسورَة من مثله".
٤٩١- فحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فأتوا بسورة من مثله"، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.
٤٩٢- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا
(١) في المخطوطة: "من أنه معنى بذلك.. "، وهما سواء.
(٢) في المطبوعة: "وأخبر بأهم نعوتها"، وهي في المخطوطة"+وحرناهم تعنى بها" غير منقوطة ولا بينة، فاختار المصححون لها قراءة لا تحمل معنى! والضرباء: جمع ضريب؛ فلان ضريب فلان: نظيره أو مثله.
(٣) في المطبوعة: "وبرهانه على نبوته".
(٤) في المطبوعة: "والدارية"، ولا معنى لها هنا، وستأتي بعد أسطر على الصواب. والذرابة: الحدة في كل شيء، وحدة اللسان وفصاحته ولدده. ذرب الرجل يذرب ذربًا وذرابة: فصح وصار حديد اللسان، فهو ذرب اللسان (بفتح الذال وكسر الراء).
373
مَعمر، عن قتادة في قوله:"فأتوا بسورة من مثله"، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن (١).
٤٩٣- حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد:"فأتوا بسورة من مثله"، مثلِ القرآن.
٤٩٤- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
٤٩٥- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"فأتوا بسورة مِنْ مثله"، قال:"مثله" مثلِ القرآن (٢).
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما (٣) : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد ﷺ من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله:"فأتُوا بسورة من مثله"، من مثل محمد من البشر، لأن محمدًا بشر مثلكم (٤).
قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [سورة يونس: ٣٨]، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه، فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله (٥) "، فأتوا بسورة من مثله"،
(١) الأثر ٤٩٢- في الدر المنثور ١: ٣٥، والشوكاني ١: ٤٠.
(٢) الآثار ٤٩٣ - ٤٩٥ في الدر المنثور ١: ٣٥، والشوكاني ١: ٤٠، وابن كثير ١: ١٠٨.
(٣) في المطبوعة: "اللذين ذكرنا عنهما".
(٤) يعني فأتوا بسورة من عند بشر مثل محمد.
(٥) في المطبوعة: "إنك ذكرت"، بغير فاء.
374
من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟
قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه، وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنزله الله بلسان عربيّ، فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين، فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه ﷺ بما احتج به لهُ عليهم من القرآن (١)، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان، إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم، وكلامًا نزل بلسانهم، فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية، إذْ كنتم عربًا، وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم، وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نزل به القرآن، فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به، وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به، فليس لك علينا بهذا حجة (٢). لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله (٣) - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله، لأن مثله من الألسن ألسنكم (٤)، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه، إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم -
(١) في المطبوعة: "بما احتج له عليهم"، أسقط"به".
(٢) في المطبوعة: "حجة بهذا" على التأخير.
(٣) في المطبوعة: "لسنا بأهله".
(٤) في المطبوعة: "ألسنتكم".
375
أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد ﷺ (١)، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا -وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ (٢)، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) ﴾
فقال ابن عباس بما:
٤٩٦- حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس:"وادعوا شُهداءكم من دون الله"، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، إن كنتم صادقين.
٤٩٧- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"وادعوا شُهداءكم"، ناس يَشهدون.
٤٩٨- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
٤٩٩- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قال: قوم يشهدون لكم.
(١) يقول: "وأنتم... أقدر على اختلاقه.. "، مبتدأ وخبر، وما بينهما فصل. وفي المطبوعة مكان"ورصفه"، "ووضعه". والرصف: ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه وإحكامه حتى يستوي. ومنه: كلام رصيف: أي محكم لا اختلاف فيه.
(٢) في المطبوعة"وهو وحده"، وهذه أجود.
376
٥٠٠- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"وادعوا شهداءكم"، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج:"شهداءكم" عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن (١).
وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله"فادعوا"، يعني: استنصروا واستغيثوا (٢)، كما قال الشاعر:
فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ... دَعَوْا: يَا لَكَعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ (٣)
يعني بقوله:"دعوْا يالكعب"، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم (٤).
وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد، كما الشركاء جمع شريك (٥)، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان -يعني به مُجالسَه، ونديمه - يعني به مُنادِمَه، وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.
فإذا كانت"الشهداء" محتملةً أن تكون جمعَ"الشهيد" الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد ﷺ اختلاق وافتراء، لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من
(١) الآثار ٤٩٦ - ٥٠٠: في ابن كثير ١: ١٠٨ بعضها، والدر المنثور ١: ٣٥، والشوكاني ١: ٤٠، وفي المخطوطة في بعض المواضع: "أناس" مكان"ناس"، وهما سواء.
(٢) في المطبوعة: "واستعينوا"، وهما متقاربتان، والأولى أجود، وهي كذلك في معاني القرآن للفراء ١: ١٩.
(٣) البيت للراعي النميري، اللسان (عزا). واعتزى: انتسب، ودعا في الحرب بمثل قوله: يا لفلان، أو يا للمهاجرين، أو يا للأنصار، والاسم العزاء والعزوة، وهي دعوى المستغيث.
(٤) في المطبوعة: "واستعانوا"، كما سلف في أختها قبل.
(٥) في المطبوعة: "كالشركاء".
377
مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله ﷺ أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة، ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (١). فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (٢)، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (٣) ؟
ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [سورة الإسراء: ٨٨]، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى:"وإنْ كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين". يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة
(١) قوله"من المؤمنين" متعلق بقوله آنفًا "أن لهم شهداء.. "، يعني شهداء من المؤمنين. ثم فصل، لأن قوله"على حقيقة ما كانوا يأتون به.. " متعلق أيضًا، بشهداء.
(٢) في المطبوعة: "لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم". وتترع إلى الشيء: تسرع إليه، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي. وما في المخطوطة"تتارعوا" صحيح في اشتقاق العربية، وإن لم تذكره المعاجم، وهو مثل تسرع وتسارع، سواء.
(٣) في المطبوعة"فمن أي الفرق.. "، وكلام الطبري استفهام واستنكار. لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق، فكان محالا أن يكون معنى"الشهداء" هنا: الذين يشهدون لهم، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله ﷺ من عند الله تعالى. وصار حتما أن يكون معنى"الشهداء": الذين يظاهرونهم ويعاونونهم، كما جاء في الآية التالية.
378
من مثله، وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ، ويَصحَّ عندكم أنه تنزيلي وَوحيي إلى عبدي.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن لم تفعلوا"، إن لم تأتوا بسورة من مثله، فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم (١)، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه، وعلمتم أنه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به.
وقوله:"ولن تفعلوا"، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.
٥٠١- كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا"، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه (٢).
٥٠٢- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا"، فقد بَين لكم الحق (٣).
* * *
(١) في المطبوعة: "وقد تظاهرتم"، وما في المخطوطة أجود، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك.
(٢) الأثر ٥٠١- ذكره السيوطي ١: ٣٥ بنحوه، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير. وكتب فيه خطأ مطبعيًّا"ابن جريج".
(٣) الأثران ٥٠١، ٥٠٢- في الدر المنثور ١: ٣٥، والشوكاني ١: ٤٠. ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها، وما استدل به من الأثر الأخير، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف، لأنه معلوم قد دل عليه السياق؛ وجواب الشرط"فقد بين لكم الحق، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي"، ثم قال مستأنفًا: "فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي".
ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه"الكشاف" ما نصه: "فإن قلت: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت: إنهم إذا لم يأتوا بها، وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح عندهم صدقه، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار. فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد. فوضع"فاتقوا النار" موضعه، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث إنه من نتائجه. لأن من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: "إن أردتم الكرامة عندي، فاحذروا سخطي". يريد: فأطيعوني واتبعوا أمري، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته: الإيجاز، الذي هو حلية القرآن، وتهويل شأن العناد، بإنابة اتقاء النار منابه، وإبرازه في صورته، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها".
فقد تبين بهذا مراد الطبري، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط، ولا هو من جوابه، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام: قصر اتقائهم النار، على عجزهم عن الإتيان بمثله. وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة. وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري.
379
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله"فاتقوا النار"، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي، بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.
ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها، وأن الحجارة وَقُودها، فقال:"التي وَقودها الناس والحجارة"، يعني بقوله:"وَقُودُها" حَطبها، والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنزلة الحطب.
فإذا ضَمت الواو من"الوقود" كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا، يراد بذلك أنها التهبتْ.
فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟
380
قيل: إنها حجارةُ الكبريت، وهي أشد الحجارة -فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.
٥٠٣- كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد، عن عبد الرحمن بن سَابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله:"وقُودها الناس والحجارة"، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.
٥٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا ابن عُيينة، عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود في قوله:"وقودها الناسُ والحجارة"، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء (١).
(١) الخبر ٥٠٣، ٥٠٤- مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين: هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال، وهو ثقة معروف، أحد الأعلام. عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد، نسبة إلى عمل الزرود: ثقة كثير الحديث، من صغار التابعين. عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي: تابعي ثقة. عمرو بن ميمون الأودي: من كبار التابعين المخضرمين، كان مسلمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يره.
وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي: ٥٠٧. وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون، وفي الثاني: ٥٠٤"عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون" مباشرة، بحذف"عبد الرحمن بن سابط". ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال، لوجود المعاصرة، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة ٧٤، وعمرو بن ميمون مات سنة ٧٤ أو ٧٥. ولكن هذين الإسنادين: ٥٠٣، ٥٠٤ دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦١، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود. فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير ١: ١١٠١ - ١١١ من رواية الطبري، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه. وذكره السيوطي ١: ٣٦ وزاد نسبته إلى: عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والفريابي، وهناد بن السري في كتاب الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب.
381
٥٠٥- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة"، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار (١).
٥٠٦- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج في قوله:"وقودها الناس والحجارة"، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم (٢).
٥٠٧- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن مسعر، عن عبد الملك بن مَيسرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء (٣).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) ﴾
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن"الكافر" في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء (٤)، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نَعماءَه قِبَله.
فمعنى قوله إذًا:"أعدت للكافرين"، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جَعل لهم الأرض فراشًا، والسماء
(١) الخبر ٥٠٥- ذكره ابن كثير ١: ١١١ دون أن ينسبه، والسيوطي ١: ٣٦، ونسبه لابن جرير وحده.
(٢) الأثر ٥٠٦- في ابن كثير ١: ١١١ دون نسبة.
(٣) الخبر ٥٠٧- سبق تفصيل إخراجه مع ٥٠٣، ٥٠٤.
(٤) انظر ما مضى: ٢٥٥.
382
بناءً، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة (١)، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق (٢).
٥٠٨- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس:"أعدت للكافرين"، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (٣).
* * *
(١) قوله"المشركين" من صفة قوله آنفًا: "للجاحدين".
(٢) في المخطوطة: "بالأشياء"، وهو خطأ.
(٣) الخبر ٥٠٨- في ابن كثير ١: ١١١، والدر المنثور ١: ٣٦، والشوكاني ١: ٤١.
383
القول في تأويل قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله تعالى:"وبشِّر"، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ، إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.
وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا ﷺ بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد ﷺ وبما جاء به من عند ربه، وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي، وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً، دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك (١)، ودون من أظهر تصديقك (٢)، وأقرّ
(١) في المطبوعة: "ما جئت به من الهدى".
(٢) في المخطوطة: "دون من أظهر.. " بحذف الواو، وهو قريب في المعنى.
383
أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة، والجنة: البستان.
وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره (١) ": تجري من تحتها الأنهار". لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض، فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.
٥٠٩- كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي عُبيدة، عن مسروق، قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها، وثمرها أمثالُ القِلال، كلما نُزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى، وماؤها يَجري في غير أخدود (٢).
٥١٠- حدثنا مجاهد [بن موسى]، (٣) قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا مِسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن أبي عُبيدة، بنحوه.
٥١١- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة -فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.
(١) في المطبوعة: "فلذلك قال.. "، وما في المخطوطة أجود.
(٢) الأثر ٥٠٩- في الدر المنثور ١: ٣٨. وقال ابن كثير في تفسيره ١: ١١٣: "وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود"، ولم يبين، وانظر ما سيأتي رقم: ٥١٧.
(٣) الإسناد ٥١٠- الزيادة بين القوسين من المخطوطة، وهو مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي، أبو علي الختلي (بضم ففتح)، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٤١٣، والصغير: ٢٤٥، والخطيب في تاريخ بغداد ١٣: ٢٦٥ - ٢٦٦ وابن الأثير في اللباب ١: ٣٤٥. مات مجاهد هذا في رمضان سنة ٢٤٤. وشيخه يزيد: هو يزيد بن هارون.
384
فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد، فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.
وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده، كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته (١).
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"كلما رُزقوا منها": من الجنات، والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.
ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله:"هذا الذي رُزقنا من قَبل".
فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٢- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
(١) في المخطوطة: "والتفريق لعقوبته"، ولا معنى لها.
385
أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا:"هذا الذي رُزقنا من قبل"، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا (١) إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.
٥١٣- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة:"قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل"، أي في الدنيا.
٥١٤- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"قالوا هذا الذي رزقنا من قبل"، يقولون: ما أشبهه به.
٥١٥- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
٥١٦- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل"، في الدنيا، قال:"وأتوا به مُتشابهًا"، يعرفونه (٢).
قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.
٥١٧- كما حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرُها مثل القلال، كلما نُزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى (٣).
(١) في الدر المنثور: "فينظروا"، وفي الشوكاني: "فنظروا"، وكذلك في المخطوطة.
(٢) الآثار ٥١٢ - ٥١٦: في تفسير ابن كثير ١: ١١٣ - ١١٤، والدر المنثور ١: ٣٨، والشوكاني ١: ٤٢.
(٣) انظر الآثار السالفة رقم: ٥٠٩ - ٥١١. وفي المخطوطة: "أمثال القلال" كما مر آنفًا.
386
قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه:"وأتوا به متشابهًا"، لاشتباه جميعه في كل معانيه.
وقال بعضهم: بل قالوا:"هذا الذي رزقنا من قبل"، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٨- حدثنا القاسم بن الحسين، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف (١).
وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:"كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا"، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه (٢) - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار
(١) الأثر ٥١٨- في ابن كثير ١: ١١٤، والدر المنثور ١: ٣٨.
(٢) في المطبوعة: "في وسطه".
387
الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه (١)، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها، فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله:"كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا"، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.
فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا (٢).
فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟
قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه، لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه. بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله:"قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل"، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل، ومن جنسه
(١) في المطبوعة مكان قوله: "ذو غية"، "ذو غرة"، وفي المخطوطة: "ذو عته". والعته: نقص العقل، أو الجنون، وأجودهن ما أثبته عن كتاب حادي الأرواح لابن قيم الجوزية ١: ٢٦٨، حيث نقل نص الطبري.
(٢) هذا التفصيل الذي ذكره الطبري من جيد النظر في معاني الكلام.
388
في السِّمَات والألوان (١) - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا (٢).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾
قال أبو جعفر: والهاء في قوله:"وأتُوا به مُتشابهًا" عائدة على الرزق، فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.
وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل"المتشابه" في ذلك:
فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٩- حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شُميل، قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله:"متشابهًا" قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.
٥٢٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة، فأتى على هذه الآية:"وأتُوا به مُتشابهًا" قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.
٥٢١- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا مَعمر، قال: قال الحسن:"وأتوا به متشابهًا" قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل (٣).
٥٢٢- حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وأتوا به
(١) في المطبوعة: "في التسميات والألوان"، وهو خطأ.
(٢) يعني بذلك الذي تقدم، معنى قوله: "وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه"، وقد مضى ذكر ذلك في ص ٣٨٨.
هذا، وقد وقع في المطبوعة خطأ بين، فقد وضع في هذا المكان ما نقلناه إلى حق موضعه في ص ٣٩٤ من أول قوله: "وقد زعم بعض أهل العربية.. " إلى قوله: "بخروجه عن قول جميع أهل العلم، دلالة على خطئه".
(٣) في المطبوعة: "ليس فيه مرذول".
389
متشابهًا"، أي خيارًا لا رَذلَ فيه، وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها، وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء.
٥٢٣- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ، وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول (١).
* * *
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢٤- حدثني موسى، قال حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وأتوا به متشابهًا" في اللَّوْن والمرْأى، وليس يُشبه الطعمَ.
٥٢٥- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأتوا به متشابهًا" مِثلَ الخيار.
٥٢٦- حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه، مثلَ الخيار من القثّاء.
٥٢٧- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"وأتوا به متشابهًا"، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.
٥٢٨- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"متشابهًا"، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.
(١) الآثار: ٥١٩ - ٥٢٣ بعضها في الدر المنثور ١: ٣٨، وبعضها في الشوكاني ١: ٤٢.
390
٥٢٩- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"وأتوا به متشابهًا"، مثل الخيار (١).
* * *
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٠- حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قوله:"متشابهًا" قال: اللونُ والطعمُ.
٥٣١- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزّاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ويحيى بن سعيد:"متشابهًا" قالا في اللون والطعم.
* * *
وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٢- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"وأتوا به متشابهًا" قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.
٥٣٣- حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"وأتوا به متشابهًا"، قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيبُ.
* * *
وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٤- حدثني أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعيّ -ح- وحدثنا محمد
(١) الآثار: ٥٢٤ - ٥٢٩ بعضها في ابن كثير ١: ١١٤ - ١١٥، والدر المنثور ١: ٣٨، والشوكاني ١: ٤٢.
391
بن بشار، قال، حدثنا مؤمَّل، قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي -: لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
٥٣٥- حدثنا عباس بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.
٥٣٦- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله:"وأتوا به متشابهًا"، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا، التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان، قالوا في الجنة:"هذا الذي رزقنا من قبل" في الدنيا،"وأتوا به متشابهًا" يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم (١).
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر، والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله:"كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل" وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.
وقد دللنا
(١) الآثار: ٥٣٠ - ٥٣٦ بعضها في الدر المنثور ١: ٣٨، والشوكاني ١: ٤٢.
392
على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله:"قالوا هذا الذي رزقنا من قبل"، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض (١). وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله:"وأتوا به متشابهًا"، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم:"هذا الذي رُزقنا من قبل" بقوله:"وأتوا به متشابهًا".
ويُسأل من أنكر ذلك (٢)، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه، فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟
فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله، لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.
وإن قال: ذلك جائز، بل هو كذلك.
قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه (٣)، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:
٥٣٧- حدثني به ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة، وعلّمه صَنعةَ كل شيء، فثمارُكم هذه من ثمار الجنة، غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ (٤).
(١) انظر ما مضى ص ٣٨٧ وما بعدها.
(٢) في المطبوعة: "وسأل من أنكر.. "، وهو خطأ بين.
(٣) في المطبوعة: "نظائر ألوان".
(٤) الحديث ٥٣٧- هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس. والأشعري: هو أبو موسى، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة. عوف: هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة. قسامة - بفتح القاف وتخفيف السين المهملة: هو ابن زهير المازني التميمي البصري، وهو ثقة تابعي قديم، بل ذكره بعضهم في الصحابة فأخطأ. وله ترجمة في الإصابة ٥: ٢٧٦ وابن سعد ٧/١/١١٠، وقال: "كان ثقة إن شاء الله، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق"، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٤٧، وروى توثيقه عن ابن معين.
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ ١: ٨٠، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عوف، بهذا الإسناد. وذكره ابن القيم في حادي الأرواح ١: ٢٧٣ (ص ١٢٥ من الطبعة الثانية، طبعة محمود ربيع سنة ١٣٥٧) من رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن عقبة بن مكرم العمى الحافظ، عن ربعى بن إبراهيم بن علية عن عوف، بهذا الإسناد، مرفوعًا صراحة: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٨: ١٩٧ - ١٩٨"عن أبي موسى رفعه"، وقال: "رواه البزار، والطبراني، ورجاله ثقات". وذكره ابن القيم في حادي الأرواح قبل ذلك (ص ٣٠ - ٣١)، من رواية"هوذة بن خليفة عن عوف" بهذا الإسناد، موقوفًا لفظًا. ورواية هوذة بن خليفة: رواها الحاكم في المستدرك ٢: ٥٤٣، ولكن إسنادها عندي أنه مغلوط، والظاهر أنه غلط من الناسخين. لأن الذي فيه: "هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم" إلخ. ثم قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! ولا يمكن -فيما أعرف وأعتقد- أن يصحح الحاكم هذا الإسناد، ثم يوافقه الذهبي، إن كان على هذا الوجه، لأن أبا بكر بن أبي موسى الأشعري تابعي ثقة، فلو كان الإسناد هكذا كان الحديث مرسلا لا حجة فيه، سواء أرفعه أم قاله من قبل نفسه، فالظاهر أن الناسخين القدماء للمستدرك أخطئوا في زيادة"أبي بكر بن"، وأن صوابه: "عن أبي موسى الأشعري"، كما تبين من نقل ابن القيم رواية هوذة، وكما تبين من الروايات الأخر التي سقناها. والحمد لله على التوفيق.
393
(١) وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله:"وأتوا به متشابهًا"، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه.
قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.
* * *
(١) هذه الفقرة كلها من أول قوله: "وقد زعم بعض أهل العربية.. " كانت في المطبوعة في الموضع الذي أشرنا إليه آنفًا ص ٣٨٩.
394
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾
قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في"لهم" عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف اللتان في"فيها" عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.
والأزواج جمع زَوْج، وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.
وأما قوله:"مطهَّرة" فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ، مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.
٥٣٨- كما حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.
٥٣٩- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"أزْواج مطهرة". يقول: مطهرة من القذَر والأذى.
٥٤٠- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى القطان (١)، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولهم فيها أزواجٌ مطهرة" قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.
٥٤١- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.
(١) في المخطوطة: "يحيى العطار"، وهو خطأ.
395
٥٤٢- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره:"ولهم فيها أزواج مطهرة" قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.
٥٤٣- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابنُ المبارك، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
٥٤٤- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.
٥٤٥- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
٥٤٦- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة:"ولهم فيها أزواج مطهرة"، إي والله من الإثم والأذى.
٥٤٧- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولهم فيها أزواجٌ مطهرة"، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر، ومن كل مأثم.
٥٤٨- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.
٥٤٩- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد، قال: المطهرة من الحيض والحبَل.
٥٥٠- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد:"ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة" قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة، ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ، فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة
396
وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (١).
٥٥١- حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن الحسن في قوله:"ولهم فيها أزواج مطهرة"، قال يقول: مطهَّرة من الحيض.
٥٥٢- حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن في قوله:"ولهم فيها أزواجٌ مطهرة"، قال: من الحيض.
٥٥٣- حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جُريج، عن عطاء قوله:"ولهم فيها أزواج مطهرة"، قال: من الولد والحيض والغائط والبول، وذكر أشياءَ من هذا النحو (٢).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله"وهم"، عائدة على الذين آمنوا وعملوا
(١) في المخطوطة: "كما دميت" بتشديد الميم، وهما سواء، ويعني بذلك دم الحيض. وهذا الأثر نقله ابن كثير ١: ١١٥ عن هذا الموضع، وفيه"أدميت"، كما في المطبوعة هنا. وقال ابن كثير بعد سياقه: "وهذا غريب".
(٢) الآثار ٥٣٨ - ٥٥٣: بعضها في ابن كثير ١: ١١٥، والدر المنثور ١: ٣٩، والشوكاني ١: ٤٢ وكرهنا الإطالة بتفصيل مراجعها واحدًا واحدًا. ونقل ابن كثير ١: ١١٥ - ١١٦ حديثًا مرفوعًا بهذا المعنى: يعني مطهرة"من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق"، من تفسير ابن مردويه بإسناده - من طريق محمد بن عبيد الكندي عن عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد، مرفوعًا. وقال: "هذا حديث غريب". ثم نقل عن الحاكم أنه رواه في المستدرك، من هذا الوجه، وأنه صححه على شرط الشيخين. ثم قال: "وهذا الذي ادعاه فيه نظر، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا - قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به. قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة، كما تقدم". وهو كما قال ابن كثير. انظر الميزان ٢: ١٢٦.
397
الصالحات. والهاء والألف في"فيها" على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم (١).
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ
(١) في الدر المنثور ١: ٤١، والشوكاني ١: ٤٢، أن ابن جرير أخرج عن ابن عباس في قوله"وهم فيها خالدون" -"أي خالدون أبدًا، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له".
وهذا الخبر سيأتي عند تفسير الآية: ٨٢ من هذه السورة (١: ٣٠٧ بولاق). فنقله السيوطي إلى هذا الموضع، وتبعه الشوكاني.
398
مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما:
٥٥٤- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا" وقوله:"أو كصيِّب من السماء"، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله:"إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً" إلى قوله:"أولئك همُ الخاسرُون".
وقال آخرون بما:
٥٥٥- حدثني به أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، في قوله تعالى:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها". قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعتْ، فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: ٤٤] (١).
٥٥٦- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (٢)، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: ٤٤].
وقال آخرون بما:
٥٥٧- حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة، قوله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر (٣). إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله:
(١) الأثر ٥٥٥-"قراد" بضم القاف وفتح الراء مخففة: لقب له، واسمه"عبد الرحمن بن غزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي، الخزاعي"، وهو ثقة، وقال أحمد: "كان عاقلا من الرجال". وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٢/٢/٢٧٤.
(٢) في المطبوعة: "خلى آجالهم"، وفي المخطوطة"خلا"، والصواب ما أثبته. وخلا العمر يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(٣) في المخطوطة: "شيئًا قل منه أو كثر" بحذف"ما"، وفي ابن كثير"مما قل أو كثر" وكلها متقاربة.
399
"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها".
٥٥٨- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" (١).
وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما" - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا (٢).
(١) الآثار: ٥٥٤ - ٥٥٨ أكثرها في ابن كثير ١: ١١٧، وبعضها في الدر المنثور ١: ٤١، والشوكاني ١: ٤٥.
(٢) في المطبوعة: "أن يضرب مثلا ما"، وليست بشيء.
400
فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها"، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.
٥٥٩- كما حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"مثلا ما بعوضة"، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
٥٦٠- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله.
٥٦١- حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله (١).
قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
٥٦٢- كما حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.
٥٦٣- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، بنحوه (٢).
(١) الآثار: ٥٥٩ - ٥٦١، وهي واحد كلها، في الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٥، وسيأتي برقم: ٥٦٦.
(٢) الأثر: ٥٦٢ في الدر المنثور ١: ٤١.
401
- (١) خصها الله بالذكر في القِلة، فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه، فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره (٢) ": فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا". وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما (٣)، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء (٤)، على ما وصف من ذلك قبل قوله:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا" - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك، وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه، وأنه ضلال وفسوق، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله:"إن الله لا يستحيي"، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى"إن الله لا يستحيي": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) [سورة الأحزاب: ٣٧]، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء (٥).
(١) قوله: "خصها.. " جواب قوله آنفًا: ".. لما كانت أضعف الخلق".
(٢) في المطبوعة: "الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله".
(٣) قوله: "فيهما" متعلق بقوله"مثل"، أي: اللتين مثل فيهما -ما عليه المنافقون مقيمون- بموقد النار..
(٤) في المطبوعة: "وبالصيب من السماء".
(٥) لم أعرف قائل هذا القول من المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب، ولكني رأيت أبا حيان يقول في تفسيره ١: ١٢١، يزعم أن هذا المعنى هو الذي رجحه الطبري، ومن البين أنه أخطأ فيما توهمه، فإن لفظ الطبري دال على أنه لم يحقق معناه، ولم يرضه، ولم ينصره. هذا على أني أظن أن مجاز اللفظ يجيز مثل هذا الذي قاله المنسوب إلى المعرفة بلغة العرب، وإن كنت أكره أن أحمل هذه الآية على هذا المعنى.
402
وأما معنى قوله:"أن يضرب مثلا"، فهو أن يبيِّن ويصف، كما قال جل ثناؤه: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [سورة الروم: ٢٨]، بمعنى وصف لكم، وكما قال الكُمَيْت:
وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ لأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا (١)
بمعنى: وصف أخماس.
والمثَل: الشبه، يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله، كما يقال: شبَهُه وشِبْهه، ومنه قول كعب بن زهير:
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلا وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلا الأَبَاطِيلُ (٢)
يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا:"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا": إن
(١) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا، على أنه مثل اجتلبه. وأصله: أن شيخًا كان في إبله، ومعه أولاده رحالا يرعونها، قد طالت غربتهم عن أهلهم. فقال لهم ذات يوم: "ارعوا إبلكم ربعا" (بكسر فسكون: وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا، وترد في اليوم الرابع)، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم. فقالوا: لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون: أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم. فقالوا: لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس). ففطن الشيخ لما يريدون، فقال: ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس، ما همتكم رعيها، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول:
وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرَاهُ، لأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا
فصار قولهم: "ضرب أخماس لأسداس" مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره.
وحقيقة قوله"ضرب: بمعنى وصف"، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد، يسوقها إليه لتسلكه. فقولهم: ضرب له مثلا، أي ساقه إليه، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق. وهذا بين.
(٢) ديوانه: ٨، وفي المخطوطة: "وما مواعيده"، وعرقوب -فيما يزعمون-: هو عرقوب ابن نصر، رجل من العمالقة، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام. وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة، كما هو معروف في قصته.
403
الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به (١).
وأما "ما" التي مع "مثل"، فإنها بمعنى "الذي"، لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت (٢)، فما وجه نصب البعوضة، وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت (٣) : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟
قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن"ما" لما كانت في محل نصْب بقوله"يضرب"، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها (٤) فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (٥)
فعُرِّبت"غيرُ" بإعراب"من". والعرب تفعل ذلك خاصة في"من" و"ما" (٦)، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.
(١) هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال إن الاستحياء بمعنى الخشية، لا ما أخذ به الطبري، وتفسير الطبري صريح بين في آخر تفسير الآية.
(٢) في المطبوعة: "كما قلت".
(٣) في المطبوعة: "على ما تأولت"، وليست بجيدة.
(٤) في المطبوعة"أعربت بتعريبها". وقوله"عربت": أي أجريت مجراها في الإعراب، وهذا هو معنى"التعريب" في اصطلاح قدماء النحاة، وستمر بك كثيرًا فاحفظها، وهي أوجز مما اصطلح عليه المحدثون منهم.
(٥) ليس في ديوانه، ويأتي في الطبري ٤: ٩٩ غير منسوب، وفي الخزانة: ٢: ٥٤٥ - ٥٤٦ أنه لكعب بن مالك، ونسب إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في شعره. ونسب لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ونسب أيضًا لعبد الله بن رواحة. وذكره السيوطي في شرح شواهد المغني: ١١٦، ٢٥٢، وأثبت بيتا قبله:
نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ بِنَصْرِ وَلِيِّهِ فالله، عَزَّ، بِنَصْرِهِ سَمَّانَا
قال: يعني أن الله عز وجل سماهم"الأنصار"، لأنهم نصروا النبي ﷺ ومن والاه. والباء في"بنصر وليه"، بمعنى"مع".
(٦) في المطبوعة: "فالعرب تفعل... ".
404
وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر"بين" و"إلى"، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في"ما" الثانية، دلالة عليهما، كما قالت العرب:"مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة" و"له عشرون ما ناقة فجملا"، و"هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا"، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها (١). وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول:"ما بين كذا إلى كذا"، ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (٢). فكذلك ذلك في قوله:"ما بعوضة فما فوقها" (٣).
وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ "ما" التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (٤) وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون"بعوضةً" منصوبةً بـ "يضرب"، وأن تكون"ما" الثانية التي في"فما فوقها" معطوفة على البعوضة لا على"ما".
وأما تأويل قوله"فما فوقها": فما هو أعظم منها (٥) -عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى
(١) في المخطوطة: "يعنون بذلك من قرنها.. ".
(٢) في المخطوطة: "ليدل النصب في الأسماء على المحذوف... "، وهما سواء
(٣) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢١ - ٢٢، وذكر الوجهين السالفين جميعًا، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين.
(٤) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر: ١٨، ٢٢٤ وما يأتي ص: ٤٠٦، ١٥٤ من بولاق)، وهو الزيادة في الكلام. وهذا الذي قال عنه: "زعم بعض أهل العربية"، هو الفراء نفسه، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن ١: ٢١، وقال: "أولها: أن توقع الضرب على البعوضة، وتجعل ما صلة، كقوله: "عما قليل ليصبحن نادمين"، يريد: عن قليل. المعنى -والله أعلم-: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا".
والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو"تطولا"، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو"صلة"، وهي الزيادة في الكلام.
(٥) في المخطوطة: "فهو ما قد عظم منها"، وهو خطأ بلا معنى.
405
-على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله"فما فوقها"، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ، فيقول السامع:"نعم، وفوقَ ذاك"، يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (١)، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في"ما"، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول (٢).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فأما الذين آمنوا"، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله:"فيعلمون أنه الحق من ربهم". يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.
٥٦٤- كما حدثني به المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فأما الذين آمنوا
(١) في المطبوعة: "فوق الذي وصف". وهذا التأويل الذي ذكره الطبري، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن ١: ٢٠ - ٢١ وأبان عنه، وقال: "ولو جعلت في مثله من الكلام"فما فوقها"، تريد أصغر منها، لجاز ذلك. ولست أستحبه"، يعني: أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله.
(٢) قد شرحنا معنى"صلة" و"تطول" فيما مضى ص: ٤٠٥.
406
فيعلمون أنه الحق من ربهم"، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده (١).
٥٦٥- وكما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله"فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم"، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله (٢).
"وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا".
قال أبو جعفر: وقوله"وأما الذين كفرُوا"، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين، وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية، فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-
٥٦٦- حدثنا به محمد عن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم" الآية، قال: يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (٣).
وتأويل قوله:"ماذا أراد الله بهذا مثلا"، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا."فذا"، الذي مع"ما"، في معنى"الذي"، وأراد صلته، وهذا إشارةٌ إلى المثل (٤).
* * *
(١) الأثر: ٥٦٤- هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، كما مر كثيرًا، وكذلك جاء في الدر المنثور ١: ٤٣.
(٢) الأثر ٥٦٥- في ابن كثير ١: ١١٨.
(٣) الأثر ٥٦٦- قد مضى برقم: ٥٥٩.
(٤) في المطبوعة: "فذا مع ما في معنى.. "
407
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز:"يضلّ به كثيرًا"، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في"به" من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ، ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-
٥٦٧- كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"يضلّ به كثيرًا" يعني المنافقين،"ويهدي به كثيرًا"، يعني المؤمنين (١).
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و"يهدي به"، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين، كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله:"وما يضل به إلا الفاسقين". وفيما في سورة المدثر - من قول الله:"وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء" - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله:"يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا".
* * *
(١) الخبر: ٥٦٧- في ابن كثير ١: ١١٩، والدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٥، وهو فيها تام متصل، وتمامه الأثر الذي يليه: ٥٦٨. ولكن ابن كثير أخطأ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود، وهو خطأ محض. فقول الطبري بعد"فيزيد هؤلاء ضلالا.. " هو من تمام قوله قبل هذا"أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر".
408
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (٢٦) ﴾
وتأويل ذلك ما:-
٥٦٨- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وما يُضلّ به إلا الفاسقين"، هم المنافقون (١).
٥٦٩- وحدثنا بشر بن مُعاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وما يُضِلّ به إلا الفاسقين"، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (٢).
٥٧٠- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"وما يضل به إلا الفاسقين"، هم أهل النفاق (٣).
قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة، لخروجها عن جُحرها (٤)، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: (إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف: ٥٠]، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
٥٧١- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق،
(١) الخبر ٥٦٨- تمام الأثر السالف، وقد ذكرنا موضعه.
(٢) الأثر: ٥٦٩- في ابن كثير ١: ١١٩، وفي الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٥، وفيهما مكان"على فسقهم"، "بفسقهم".
(٣) الأثر: ٥٧٠- في ابن كثير ١: ١١٩.
(٤) انظر الطبري ١٥: ١٧٠ (بولاق). وقوله: "يحكى عن العرب سماعًا: فسقت الرطبة من قشرها، إذا خرجت. وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها"، وسائر ما قال هناك.
409
عن داود بن الحُصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس في قوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة البقرة: ٥٩]، أي بما بعُدوا عن أمري (١). فمعنى قوله:"وما يُضلّ به إلا الفاسقين"، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم، فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:-
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله:"إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم"، وبقوله:"ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر". فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي
(١) الخبر: ٥٧١- لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف. ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره. وفي المخطوطة: "من أمري".
410
نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها، واتباع محمد ﷺ إذا بُعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ (١)، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب، مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره، هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم، الذي وصفه في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [سورة الأعراف: ١٧٢-١٧٣]. ونقضُهم ذلك، تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(١) في المطبوعة: "عن الناس"، و"الناس" منصوب، مفعول ثان، للمصدر"كتمانهم". والفعل"كتم" يتعدى إلى مفعول ومفعولين، تقول: كتمت فلانًا سرى، وكتمت عن فلان سرى، وهما سواء.
411
وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل، ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه:"إنّ الذين كفروا سواء عليهم"، وقوله:"ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر"، فيهم أنزِلت، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نزلتْ، فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين (١) ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم، أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله، وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد ﷺ وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك، كما قال الله جل ذكره: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) [سورة آل عمران: ١٨٧]، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه، وتركُهم العمل به.
وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة (٢) - فيهم نزلتْ، إلى تمام قصصهم.
(١) سياق العبارة: "ومعنى جميع المنافقين، بما وافق منها صفة المنافقين" وعبارة الطبري أعرب.
(٢) في المطبوعة: "من ابتداء الآيات"، وكأنه تغيير من المصححين.
412
وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله (١). (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [سورة البقرة: ٤٠]. وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر (٢) - ما يدل على أن قوله:"الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه" مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد ﷺ وما جاء به، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس، وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم (٣). ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ). [سورة الأعراف: ١٦٩].
(١) في المطبوعة"عن خلق آدم وأبنائه في قوله"، وهو خطأ محض. وقوله"وبيانه"، مجرور معطوف على قوله: "وفي الآية التي بعد الخبر.. " أي، "وفي بيانه في قوله:.. ".
(٢) قوله: "وخطابه" مجرور معطوف على قوله: "وفي الآية.. " و"وبيانه.. " كما أسلفنا في التعليق قبله. وفي المطبوعة: "في ذلك خاصة". ولست بشيء.
(٣) هكذا في الأصول، ولعل الأجود أن يقول: وترك كتمان ذلك عنهم.
413
وأما قوله:"من بعد ميثاقه"، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه (١)، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك (٢). غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا، والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.
٥٧٢- كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه"، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله (٣).
٥٧٣- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون"، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، (٤) أظهرُوا هذه الخلال الست
(١) في المطبوعة: "منه" مكان"فيه".
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"بما عهد إليه"، وهو خطأ بين.
(٣) الأثر: ٥٧٢- في الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٥. وقوله"من ثمرة قلبه"، أي خالص قلبه، مأخوذ من ثمرة الشجرة، لأنها خلاصتها وأطيب ما فيها. وفي حديث المبايعة: "فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه"، أي خالص عهده وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، في المسند: ٦٥٠١، ٦٥٠٣، ٦٧٩٣. ويقال: خصني فلان بثمرة قلبه: أي خالص مودته.
(٤) الظهرة (بثلاث فتحات) : الكثرة، وأراد بها ظهور الأمر والغلبة. ولو أسكنت الهاء، كان صوابًا، من قولهم: ظهرت على فلان: إذا علوته وغلبته.
114
جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وَعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل، وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾
قال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [سورة محمد: ٢٢]. وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها، والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.
"وأن" التي مع"يوصل" في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في"به": فكان معنى الكلام (٢) : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في"به"، هي كناية عن ذكر"أن يوصل". وبما قلنا في تأويل قوله:"ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:
(١) الأثر: ٥٧٣- في ابن كثير ١: ١٢٠ - ١٢١ عن أبي العالية، ثم قال: "وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا". هذا، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور، والشوكاني خبرًا خرجوه عن ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال: "الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، قال: إياكم ونقض هذا الميثاق. وكان يسميهم: الفاسقين" الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٥. أما ابن كثير فقد رواه في تفسيره ١: ١١٩ نقلا عن ابن أبي حاتم؛ بإسناده، ولم ينسبه إلى الطبري. وأخشى أن يكون وهمًا من السيوطي والشوكاني.
(٢) في المطبوعة: "وكان معنى الكلام" بالواو.
415
٥٧٤- حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل"، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة (١).
وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله ﷺ والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية، وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض (٢).
قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه، فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك، غير أنها -وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وجحدهم نبوته، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.
* * *
(١) الأثر: ٥٧٤- في الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٦ مختصرًا، ونصه هناك: "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، قال: الرحم والقرابة".
(٢) في المخطوطة: "واستشهد على ذلك عموم ظاهر الآية، ولا دلالة.. ".
416
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر (١)، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها -بمعصيتهم الله- من رحمته، كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه (٢). فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا، كما قال جرير بن عطية:
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ (٣)
يعني بقوله:"في الخسار"، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى"أولئك هم الخاسرون": أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما:
٥٧٥- حُدِّثت به عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل"خاسر"، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.
* * *
(١) في المطبوعة: "جمع الخاسر"، وليست بشيء.
(٢) وضع في البيع يوضع (مبني للمجهول) وضيعة: إذا خسر خسارة من رأس المال.
(٣) ديوانه: ٥٩٨، والنقائض: ٤، واللسان (قنن)، وروايته: "أبناء قوم". وسليط: بطن من بني يربوع قوم جرير، واسم سليط: كعب بن الحارث بن يربوع. وكان غسان ابن ذهيل السليطي هجا بني الخطفي، فهجاه جرير بهذا الرجز. وأقنة جمع قن (بكسر القاف)، والقن: العبد الذي ملك هو وأبواه. والأنثى، قن أيضًا بغير هاء.
417
القول في تأويل قول الله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بما:
٥٧٦- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم"، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.
٥٧٧- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر: ١١]، قال: هي كالتي في البقرة:"كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم".
٥٧٨- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا عَبْثَر، قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا، ثم أمَتَّنَا، ثم أَحْيَيْتَنَا.
٥٧٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم، عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم (١).
(١) الأثر: ٥٧٩-"حصين". بضم الحاء المهملة: هو ابن عبد الرحمن السلمي. و"أبو مالك": هو الغفاري الكوفي، واسمه"غزوان". سبقت ترجمته في: ١٦٨.
418
٥٨٠- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد في قوله:"كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم"، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم، ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ، ثم يحييكم. وقوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، مثلها.
٥٨١- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: هو قوله:"أمتَّنا اثنين وأحييتنا اثنين".
٥٨٢- حُدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية، في قول الله:"كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"، يقول: حين لم يكونوا شيئًا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.
٥٨٣- حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله:"أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون".
وقال آخرون بما:
٥٨٤- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السُّدّيّ، عن أبي صالح:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون"، قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم.
وقال آخرون بما:
٥٨٥- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد،
419
عن قتادة، قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (١)، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان (٢).
وقال بعضهم بما:
٥٨٦- حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى:"ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين". قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، حتى بلغ: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [سورة الأعراف: ١٧٢-١٧٣]. قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (٣) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا) [سورة النساء: ١]، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (٤)، وقرأ: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [سورة الزمر: ٦]، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا)،
(١) في المخطوطة: "في أصلبة"، والصواب"صلبة" (بكسر الصاد وفتح اللام) أو"أصلب" (بسكون الصاد وضم اللام). وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب.
(٢) الآثار: ٥٧٥ - ٥٨٥: بعضها في ابن كثير ١: ١٢٢ مجملة، وبعضها في الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٦، وكرهنا الإطالة بتفصيلها.
(٣) القصيري، بالتصغير: هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع، وهي أقصرهن.
(٤) في المطبوعة: "وبث فيهما بعد ذلك.. "، وهو خطأ.
420
وقرأ قول الله: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [سورة الأحزاب: ٧]. قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (١) [سورة المائدة: ٧].
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.
* * *
فأما وجه تأويل من تأول قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، أي لم تكونوا شيئًا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ، وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ، وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:
فَأَحْيَيْتَ لِي ذكْري، وَمَا كُنْتُ خَامِلا وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (٢)
يريد بقوله:"فأحييتَ لي ذكري"، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله:"وكنتم أمواتًا" لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم، وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم، وتعفِّي آثاركم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها،
(١) الأثر: ٥٨٦- في ابن كثير ١: ١٢٢، والشوكاني ١: ٤٧، مختصرًا جدًا.
(٢) الأغاني ١٨: ١٤٠، والمؤتلف والمختلف للآمدي: ١٩٣، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته، كما قال أبو الفرج، ويقال اسمه: يعمر بن حزن بن زائدة، من بني سعد بن زيد مناة، وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد قليل، وكان عاقًّا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه. والبيت من أبيات، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك.
421
وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (١).
* * *
وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله"وكنتم أمواتًا"، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (٢). وقوله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا"، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
* * *
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.
* * *
وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك، وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (٣)، والمصير في البرزخ إلى اليوم
(١) في المطبوعة: "لتعارفوا"، وهي قريبة في المعنى.
(٢) الاستعتاب: الاستقالة من الذنب، والرجوع إلى ما يجلب الرضا، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه. واستعتبه: طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى. والاسترجاع: طلب الرجوع. واسترجعه: رده الله إلى الطاعة.
(٣) في المخطوطة: "للعودة إلى التراب"، وهي قريب.
422
البعث، وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه -عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا:"ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين"، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات، وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف -فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية، وقوله:"ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.
* * *
وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه (١)، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ
(١) في المخطوطة: "فيرد في جسمه"، وهي قريب.
423
ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه، والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (١)، والمقطوع ذلك منه حيٌّ، كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً، نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
* * *
وأولى ما ذكرنا -من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم" الآية، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله:"وكنتم أمواتًا" أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال:"ثم إليه تُرجعون"، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال جل ذكره: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [سورة المعارج: ٤٣] وقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [سورة يس: ٥١]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين:"آمنَّا بالله وباليوم الآخر"، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن
(١) في المطبوعة: "وأبينت"، وهذه أجود.
424
بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه -بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم] (١) وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.
ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله:"إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرْهم لا يؤمنون" - (٢) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية، محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم، ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم، ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه، وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (٣).
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه، وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه، وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل، وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة، منبهًا لهم على حكمه
(١) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
(٢) قوله"نعمه" مفعول قوله"ثم عدد ربنا.. "، وما بينهما فصل.
(٣) في المطبوعة"يحذرهم بذلك... ويخوفهم... أحل بأوائلهم، ويعرفهم"، وانظر ما سيأتي في ص: ١٥٤ بولاق. وفي المخطوطة والمطبوعة: "من الخلاص.. " بغير واو، هو لا يستقيم، فلذلك زدناها. وقوله: "حلول مثلاته" جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال.
425
في المنيبين إليه بالتوبة، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة، إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان -بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد ﷺ (١)، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك، أنه لله رسولٌ مبعوث، وأن ما جاءهم به فمن عنده، إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم، ومصون ما في كتبهم، وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.
* * *
وكان معلومًا من محمد ﷺ أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا، ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا، فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به، وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: ٢٩]. فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.
فلذلك قال جل ذكره:"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا".
(١) سياق هذه العبارة: "وخاصًّا أهل الكتاب.. بالاحتجاج عليهم.. لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم". وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها، فصل متتابع، كعادة الطبري في كتابته.
426
وقوله:"هو" مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله:"كيف تكفرون بالله". ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و"ما" بمعنى"الذي".
فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً، ثم يميتكم، ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
و"كيف" بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام، كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله، كما قال: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [سورة التكوير: ٢٦]. وحل قوله:"وكنتم أمواتًا فأحياكم" محلّ الحال. وفيه ضميرُ"قد" (١)، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن"فعل" إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية"قد"، كما قال ثناؤه: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [سورة النساء: ٩٠]، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك، تريد: قد كثرت ماشيتك.
وبنحو الذي قلنا في قوله:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا"، كان قتادة يقول:
٥٨٧- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا"، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (٢).
* * *
(١) في المطبوعة"وفيه إضمار قد"، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٣ - ٢٥.
(٢) الأثر: ٥٨٧- في الدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٨، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري، وهي: ".. ما في الأرض جميعًا، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل".
هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد، هذا هو: "في قوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا، قال: سخّر لكم ما في الأرض جميعًا". وإسناد هذا الأثر، هو الذي يأتي برقم: ٥٩١، لأنه من تمامه، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني. ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص، ومثل هذه الزيادة
427
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله:"ثم استوى إلى السَّماء".
فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:
أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى سَوَامِدَ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ (١)
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله:"واستوين من الضجوع"، استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد:
(١) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم: ٧٩٥، ٨٥٧)، وروايته"ثواني" مكان"سوامد". وشرورى: جبل بين بني أسد وبني عامر، في طريق مكة إلى الكوفة. والضجوع -بفتح الضاد المعجمة-: موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم. وقوله: "سوامد" جمع سامد. سمدت الإبل في سيرها: جدت وسارت سيرًا دائمًا، ولم تعرف الإعياء. وسوامد: دوائب لا يلحقهن كلال. والنون في"قطعن" للإبل.
428
تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله:"ثم استوى إلى السماء" يعني به: استوت] (١). كما قال الشاعر:
أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ (٢)
وقال بعضهم:"ثم استوى إلى السماء"، عمدَ لها (٣). وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.
وقال بعضهم: الاستواء هو العلو، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.
٥٨٨- حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"ثم استوى إلى السماء". يقول: ارتفع إلى السماء (٤).
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (٥).
قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته، فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:
طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه (٦)
(١) هذه الجملة بين القوسين، ليست في المخطوطة، وكأنها مقحمة.
(٢) لم أجد هذا البيت. وفي المطبوعة: "قبل الرأس مصعب"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة: "في ثراته"، ولا معنى لها، ولعلها"في تراثه". وأنا في شك من كل ذلك. بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير.
(٣) في المطبوعة: "عمد إليها".
(٤) الأثر: ٥٨٨- في الدر المنثور ١: ٤٣، والأثر التالي: ٥٨٩، من تمامه.
(٥) في المطبوعة: "العالى إليها".
(٦) ديوانه: ١١٠، واللسان (سوى) قال: "وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف". والرسم: آثار الديار اللاصقة بالأرض. ومهدد اسم امرأة. والأبد: الدهر الطويل، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم. وعفا: درس وذهب أثره. والبلد: الأثر يقول: انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر.
429
يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (١)، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه:"ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن"، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله:"ثم استوى إلى السماء"، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله"استوى" أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل (٢) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده؟
قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات، كما قال جل ثناؤه:
(١) في المخطوطة: "الاستيلاء والاحتواء".
(٢) في المطبوعة: "وإن قال... ".
430
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) [سورة فصلت: ١١]. والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.
وقال بعضهم: إنما قال:"استوى إلى السّماء"، ولا سماء، كقول الرجل لآخر:"اعمل هذا الثوب"، وإنما معه غزلٌ.
وأما قوله"فسواهن" فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهنّ على إرادته، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (١).
٥٨٩- كما: حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"فسوَّاهن سبع سموات" يقول: سوّى خلقهن،" وهو بكل شيء عليم (٢).
وقال جل ذكره:"فسواهن"، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (٣)، وقد قال قبلُ:"ثم استوى إلى السماء" فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ، وذُكِّرت أخرى (٤) فقيل: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [سورة المزمل: ١٨]،
(١) في المطبوعة: "بعد إرتاقهن" وليست بشيء، وفي المخطوطة: "بعد أن تتاقهن"، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه. وارتتق الشيء: التأم والتحم حتى ليس به صدع. وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء: ٣٠ من قول الله سبحانه: ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ والفتق: الشق.
(٢) الأثر: ٥٨٩- في الدر المنثور ١: ٤٣، وهو من تمام الأثر السالف: ٥٨٨.
(٣) المكني: هو الضمير، فيما اصطلح عليه النحويون، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره. وفي المطبوعة: "الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة.
(٤) في المطبوعة: "أنث السماء... وذكر" بطرح التاء.
431
كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها، فيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل، وما أشبه ذلك.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة، غير أنها تدلّ على السموات، فقيل:"فسواهن"، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (١). قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة، فيقال:"السماء منفطر به"، كما يذكر المؤنث (٢)، وكما قال الشاعر:
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا (٣)
وكما قال أعشى بني ثعلبة:
فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا (٤)
(١) "بعض أهل العربية" هو الفراء، وإن لم يكن اللفظ لفظه، في كتابه معاني القرآن ١: ٢٥، ولكنه ذهب هذا المذهب، في كتابه أيضًا ص: ١٢٦ - ١٣١.
(٢) هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث"، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة: "كما تذكر الأرض، كما قال الشاعر:... " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال: ".. فإن السماء في معنى جمع فقال: (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات. وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: (رب السموات والأرض) ثم قال: (وما بينهما)، ولم يقل: بينهن. فهذا دليل على ما قلت لك". معاني القرآن. ١: ٢٥، وانظر أيضًا ص: ١٢٦ - ١٣١.
(٣) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي، في سيبويه ١: ٢٤٠، ومعاني القرآن ١: ١٢٧ والخزانة ١: ٢١ - ٢٦، وشرح شواهد المغني: ٣١٩، والكامل ١: ٤٠٦، ٢: ٦٨، وقبله، يصف جيشًا:(٤) أعشى بني ثعلبة، وأعشى بني قيس، والأعشى، كلها واحد، ديوانه ١: ١٢٠، وفي سيبويه ١: ٢٣٩، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٢٨، والخزانة ٤: ٥٧٨، ورواية الديوان:
وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُو كِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَا
كَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِ تَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَا
تَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ، كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَا
فلا مزنة......... ...................
فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَا
ورواية سيبويه كما في الطبري، إلا أنه روى"أودى بها". وألوى به: ذهب به وأهلكه. وأودى به: أهلكه، أيضًا. وأما"أزرى بها": أي حقرها وأنزل بها الهوان، من الزرارية وهي التحقير. وكلها جيد.
432
وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض، فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت، ثم تكون تلك الواحدة جماعًا، كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ، وبُرْمة أعشار، للمتكسرة، وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق (١).
فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات، ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها، فكيف زعمت أنها جِماع؟
قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات، فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-
٥٩٠- حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ، ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا، ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (٢). وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال، وقدر فيها الأقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها، وأوحى في كل سماء أمرها، فأكمل
(١) أخلاق، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي. وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي. وبرمة أجبار، ضد قولهم برمة أكسار، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا، كما لم يقولوا برمة كسر، مفردًا. وأصله من جبر العظم، وهو لأمه بعد كسره.
(٢) في المخطوطة: "ولم يحبكن".
433
خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته، ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما، فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا، قالتا: أتينا طائعين (١).
فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (٢) وما فيها - وهن سبع من دخان، فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (٣)، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (٤)، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها:"ثم استوى إلى السماء" بمعنى الجميع (٥)، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه:"فسوَّاهن"، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله"فسواهن"، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها، أم بمعنى غير ذلك (٦) ؟
قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (٧).
(١) الأثر: ٥٩٠- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات ٩ - ١٢ من سورة فصلت. ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (٢٤: ٦٠ - ٦٥ طبعة بولاق). وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت. وهو من كلام ابن إسحاق، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه. وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا، لا استدلالا، إذ وجده أوضح بيانا، وأحسن شرحًا.
(٢) في المطبوعة: "بعد خلقه الأرض".
(٣) في المطبوعة: "عن خبر السموات".
(٤) في المطبوعة: "بتسويتها"، وسياق كلامه: "أوضح بيانًا... من غيره"، وما بينهما فصل.
(٥) في المطبوعة"بمعنى الجمع"، وفي التي تليها، وقد مضى مثل ذلك آنفًا.
(٦) في المطبوعة: "أم بمعنى"، وهذه أجود.
(٧) في المطبوعة: "ونزيد ذلك توكيدًا".
434
٥٩١- فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن:"ن والقلم"، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاةُ على ظهر ملَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فالجبال تخر على الأرض، فذلك قوله: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (١) [سورة النحل: ١٥]. وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا) يقول: أنبت شجرها (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) يقول: أقواتها لأهلها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر (٢) (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [سورة فصلت: ٩-١١]، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها
(١) في الأصول: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح، والآية كما ذكرتها في سورة النحل، ومثلها في سورة لقمان: ١٠
(٢) في المخطوطة: "يقول: من سأل، فهكذا الأمر".
435
سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض -"وأوحى في كل سماء أمْرها" قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [سورة الأعراف: ٥٤]. ويقول: (كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (١) [سورة الأنبياء: ٣٠].
٥٩٢- وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء". قال: خلق الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان، فذلك حين يقول:"ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات". قال: بعضُهن فوق بعض، وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض (٢).
(١) الخبر: ٥٩١- في ابن كثير ١: ١٢٣، والدر المنثور ١: ٤٢ - ٤٣، والشوكاني ١: ٤٨. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر: ١٦٨)، وقد مضى أيضًا قول الطبري، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم: ٤٦٥ ص: ٣٥٣: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا.. ". وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده. فلئن سألت: فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك: أنه لم يسقه ليحتج بما فيه، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فحبكهن سبعًا، وأوحى في كل سماء أمرها. وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه. وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه. وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال.
(٢) الأثر: ٥٩٢- في ابن كثير ١: ١٢٤، والدر المنثور ١: ٤٢، والشوكاني ١: ٤٨.
436
٥٩٣- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فسواهنّ سبعَ سموات" قال: بعضُهن فوق بعض، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.
٥٩٤- حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -"ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات"، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) [سورة النازعات: ٣٠].
٥٩٥- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين، وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم، ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسوَّاهنَّ وحبَكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (١).
* * *
(١) الآثار: ٥٩٣ - ٥٩٥، لم نجدها في شيء من تلك المراجع.
437
القول في تأويل قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) ﴾
يعني بقوله جل جلاله:"وهو" نفسَه، وبقوله:"بكل شيء عليم" أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا، وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (١) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (٢)، إني بكل شيء عليم.
وقوله:"عليم" بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.
٥٩٦- حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه (٣).
* * *
(١) في المخطوطة: "وأهل الكتاب" عطفًا.
(٢) في المطبوعة: "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم.. ".
(٣) الخبر: ٥٩٦- ليس في مراجعنا.
438
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾
قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة (١) : أن تأويل قوله:"وإذ قال ربك"، وقال ربك؛ وأن"إذ" من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر:
فَإِذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرهِ وَالدَّهْرُ يُعْقِب صَالِحًا بِفَسَادِ (٢)
(١) هو أبو عبيدة (انظر تفسير ابن كثير ١: ١٢٥)، وكما مضى آنفًا في مواضع من كلام الطبري. ويؤيد ذلك أن البغدادي نقل في شرح بيت عبد مناف بن ربعى، (الخزانة ٣: ١٧١)، عن ابن السيد: "وقال أبو عبيدة: إذا، زائدة، فلذلك لم يؤت لها بجواب". هذا والشاهدان الآتيان في زيادة"إذا" لا في زيادة"إذ"، وهو من جرأة أبي عبيدة وخطئه، وأيا ما كان قائله، فهو جريء مخطئ.
(٢) المفضليات، القصيدة رقم: ٤٤، وليس البيت في رواية ابن الأنباري شارح المفضليات. وقوله"لامهاه"، يقال: ليس لعيشنا مهه (بفتحتين) ومهاه: أي ليس له حسن أو نضارة. وقد زعموا أن الواو في قوله"فإذا وذلك.. " زائدة مقحمة، كأنه قال: فإذا ذلك... ، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: "حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" ج ٢٤ ص ٢٤: "واختلف أهل العربية في موضع جواب"إذا" التي في قوله: (حتى إذا جاءوها)، فقال بعض نحويي البصرة، يقال إن قوله: (وقال لهم خزنتها) في معنى: قال لهم. كأنه يلغى الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة، كما قال الشاعر:فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن". وقال أبو سعيد السكري في شرح أشعار الهذليين ٢: ١٠٠، في شرح بيت أبي كبير الهذلي:
فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ إِلا تَوَهُّمَ حَالِمٍ بِخَيَالِ
فَإِذَا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلا حِينَهُ وَإِذَا مَضَى شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يُفْعَلِ
قال أبو سعيد: "الواو زائدة. قال: قلت لأبي عمرو: يقول الرجل: ربنا ولك الحمد. فقال: يقول الرجل: قد أخذت هذا بكذا وكذا. فيقول: وهو لك".
وقال ابن الشجري في أماليه ١: ٣٥٨: "قيل في الآية إن الواو مقحمة، وليس ذلك بشيء، لأن زيادة الواو لم تثبت في شيء من الكلام الفصيح". والذي ذهب إليه ابن الشجري هو الصواب، ولكل شاهد مما استشهدوا به وجه في البيان، ليس هذا موضع تفصيله. وكفى برد الطبري في هذا الموضع ما زعمه أبو عبيدة من زيادة"إذ" كما سيأتي: "وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام" إلى آخر ما قال. وهو من سديد الفهم. وشرحه للبيت بعد، يدل على أنه لا يرى زيادة الواو، وذلك قوله في شرحه: "فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا".
439
ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ:
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ شَلا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا (١)
وقال: معناه، حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن"إذ" حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل (٢).
(١) ديوان الهذليين ٢: ٤٢، ويأتي في تفسير الطبري ١٤: ٨، ١٨: ١٣، ٢٤: ٢٥ (طبعة بولاق) والخزانة ٣: ١٧٠ - ١٧٤، وأمالى ابن الشجري ١: ٣٥٨، ٢: ٢٨٩، وكثير غيرها. وسلك الرجل الطريق، وسلكه غيره فيه، وأسلكه الطريق: أدخله فيه أو اضطره إليه. وقتائدة: جبل بين المنصرف والروحاء، أي في الطريق بين مكة والمدينة. وشل السائق الإبل: طردها أمامه طردًا. ومر فلان يشل العدو بالسيف: يطردهم طردًا يفرون أمامه. والجمالة: أصحاب الجمال. وشرد البعير فهو شارد وشرود: نفر وذهب في الأرض، وجمع شارد شرد (بفتحتين) مثل خادم وخدم. وجمع شرود شرد (بضمتين). ويذكر عبد مناف قومًا أغاروا على عدو لهم، فأزعجوهم عن منازلهم، واضطروهم إلى"قتائدة" يطردونهم بالسيوف والرماح والنبال، كما تطرد الإبل الشوارد. وجواب"إذا" تقديره: شلوهم شلا، فعل محذوف دل عليه المصدر، كما سيأتي في كلام الطبري بعد.
(٢) في المخطوطة: "هو بمعنى التطول في الكلام". وهو خطأ. والتطول، في اصطلاح الطبري وغيره: الزيادة في الكلام بمعنى الإلغاء، كما مضى آنفًا في ص ١٤٠ من بولاق، وأراد الطبري أن ينفي ما لج فيه بعض النحاة من ادعاء اللغو والزيادة في الكلام، فهو يقول: إذا كان للحرف أو الكلمة معنى مفهوم في الكلام، ثم ادعيت أنه زيادة ملغاة، فجائز لغيرك أن يدعي أن جملة كاملة مفهومة المعنى، أو كلامًا كاملا مفهوم المعنى - إنما هي زيادة ملغاة أيضًا. وبذلك يبطل كل معنى لكل كلام، إذ يجوز لمدع أن يبطل منه ما يشاء بما يهوى من الجرأة والادعاء. وهذا تأييد لمذهبنا الذي ارتضيناه في التعليق السالف.
440
وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله (١) - في بيت الأسود بن يعفر: أن"إذا" بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه
وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله"ذلك" إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه -"لامهاه لذكره" يعني لا طعمَ له ولا فضلَ، لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ:
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ... شَلا.................
لو أسقط منه"إذا" بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله."أسلكوهم شلا" على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة"إذا" عليه، فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا (٢) - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب:
فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا فَسَوْفَ تُصَادِفُه أَيْنَما (٣)
وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب:"أتيتك من قبلُ ومن بعدُ". تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في"إذا" كما يقول القائل:
(١) في المطبوعة"وليس لمدعي الذي.. " وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل... "، وفي المخطوطة: "كما قال. قد ذكرنا فيما مضى.. "، وكلاهما خطأ، الأول من تغيير المصححين، والثاني تصحيف في"قال"، فهي"دل"، والنقطة السوداء، بياض كان في الأصل المنقول عنه، أو"ما" ضاعت ألفها وبقيت"م" مطموسة، فظنها ظان علامة فصل.
هذا وقد أشار الطبري إلى ما مضى في كتابه هذا ص: ١١٤، ص: ٣٢٧ فانظره.
(٣) من قصيدة محكمة في مختارات ابن الشجري ١: ١٦، والخزانة ٤: ٤٣٨، وشرح شواهد المغني: ٦٥، وبعده:
441
"إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا". يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.
ومن ذلك قول الآخر:
وإنْ تتخطّاكَ أسْبابُها فإن قُصَاراكَ أنْ تهرمَا
فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ (١)
نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه:"وإذ قالَ ربك للملائكة"، لو أبْطِلت"إذ" وحُذِفت من الكلام، لاستحال عن معناه الذي هو به (٢)، وفيه"إذ".
فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ "إذ"، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه (٣) ؟
قيل له: قد ذكرنا فيما مضى (٤) : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم -بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته (٥)، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وسخّر لهم ما في السموات من شمسها
(١) لم أعرف صاحبه. وفي المطبوعة: "في يوم أثل نائلا أو أنكدا"
وهو خطأ عريق. وفي المطبوعة: "أسل نائلا"، وهي أقرب إلى الصواب. الضر: سوء الحال من فقر أو شدة أو بلاء أو حزن. والنائل: ما تناله وتصيبه من معروف إنسان. ونكده ما سأله: قلل له العطاء، أو لم يعطه البتة، يقول القائل:
وأعْطِ ما أعطيتَهُ طَيِّبًا لا خيرَ في المنكودِ والنَّاكِدِ
(٢) قوله: "الذي هو به"، أي: الذي هو به كلام قائم مفهوم.
(٣) في المطبوعة: "فإن قال قائل"، بحذف: "لنا".
(٤) انظر ما سلف في ص: ٤٢٤ وما بعدها.
(٥) في المطبوعة: "من أسلافهم في معصية الله"، وفي المخطوطة: "سلافهم" مضبوطة بالقلم بضم السين وتشديد اللام، وفي المواضع السالفة: "أسلاف". والأسلاف والسلاف جمع سلف وسالف: وهم آباؤنا الذين مضوا وتقدمونا إلى لقائه سبحانه.
442
وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون"، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله:"وإذ قال رَبُّك للملائكة" على المعنى المقتضَى بقوله:"كيف تكفرون بالله"، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (١).
فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم، أكثرُ من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر:
أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ... وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا (٢) وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ... بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا (٣)
فقال:"ولا متداركٍ"، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه (٤)، ولا حرف
(١) هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته، من أجود النظر في تأويل كتاب الله، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة، لا لرد حرف على حرف سبق.
(٢) هو للمرار بن سعيد الفقعسي، معاني القرآن للفراء ١: ١٧١، مجالس ثعلب: ١٥٩، اللسان (بيد) (طفل) (نشغ)، ومعجم البلدان (ثعيلبات). وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة، من النجاء: وهو سرعة السير. والذمول: الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا.
(٣) يروى"ولا متلافيًا" بالنصب. وتدارك القوم (متعديًا)، بمعنى أدركهم، أو حاول اللحاق بهم. وتلافاه: تداركه أيضًا. والشمس طفل: يعني هنا: عند شروقها -لا عند غروبها- أخذت من الطفل الصغير. ونواشغ الوادي جمع ناشغة: وهي مجرى الماء إلى الوادي. الحمول: هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل. وسميت الإبل وما عليها حمولا، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة. يقول: لن تدركهم، فقد بكروا بالرحيل.
(٤) في المطبوعة: "يعطف عليه". وفي المخطوطة"يعطف به"، وقوله"به" ملصقة إلصاقًا في الفاء من "يعطف".
443
مُعرَب إعرابَه، فيردّ "متدارك" عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ "لن" يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف (١)، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف، وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا (٢). لأن قوله:
أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات
بمعنى:"أجدّك لستَ بِرَاءٍ"، فردّ "متداركًا" على موضع"ترى"، كأنْ "لست" و"الباء" موجودتان في الكلام. فكذلك قوله:"وإذ قالَ رَبُّك"، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه، وكانَ قوله: "وإذ قال ربك للملائكة" مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ "إذْ" على موضع" وكنتم أمواتًا فأحياكم". لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية"إذ"، عطف بـ "إذ" على موضعها في الأولى (٣)، كما وصفنا من قول الشاعر في"ولا متدارك".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾
قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ (٤)، غيرَ أن أحدَهم (٥)، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من
(١) في المطبوعة: "في الكلام، وعلى المحذوف"، لعله من تغيير المصححين. وأراد الطبري أن الفعل المجحود، يدل على المعنى المطلوب من المحذوف. وهذا بين.
(٢) في المخطوطة: "إذ لو كان ما هو محذوف منه ظاهر"، وهو خطأ.
(٣) في المطبوعة: "عطف"وإذ" على موضعها في الأولى"، وليس بشيء.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "جمع ملك"، وظاهر كلام الطبري يدل على صواب ما أثبتناه.
(٥) في المطبوعة: "غير أن واحدهم"، وهما سواء.
444
الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة.
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال، وبهمزها في أخرى، كقولهم:"رأيت فلانا" فجرى كلامهم بهمز"رأيت" ثم قالوا:"نرى وترى ويرى"، فجرى كلامهم في"يفعل" ونظائرها بترك الهمز، حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في"ملك وملائكة"، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر:
فلَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (١)
وقد يقال في واحدهم، مألك، فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب، وشأمَل وشمأل، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم
"مألك" أن يجمع إذا جمع على ذلك"مآلك"، ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا، ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة، ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك:
وَفِيهِمَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ مَلائِك ذُلِّلوا وهُمُ صِعَابُ (٢)
وأصل الملأك: الرسالة، كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ:
(١) سلف الكلام على هذا البيت في ص: ٣٣٣، ورواية المخطوطة في هذا الموضع: "ولستَ لجنّيّ ولكنّ مَلأكًا"
(٢) ديوانه: ١٩. "ذللوا" من الذل (بكسر الذال) وذلله: راضه حتى يذل ويلين ويطيع.
445
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَلأَكًا... إِنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي (١)
وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة (٢) ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا (٣)، كما قال لبيد بن ربيعة (٤) :
وَغُلامٍ أَرْسَلَتْه أُمُّه... بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ (٥)
فهذا من"ألكت"، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
أَلِكْنِي يَا عُيَيْنَ إِلَيْكَ قَوْلا... سَأَهْدِيه، إِلَيْكَ إِلَيْكَ عَنِّي (٦)
(١) الأغاني ٢: ١٤، والعقد الفريد ٥: ٢٦١، وفي المطبوعة"وانتظار"، وهي إحدى قصائد عدي، التي كان يكتبها إلى النعمان، لما حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. وبعده البيت المشهور، وهو من تمامه: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شرِقٌ... كُنْت كالغَصَّانِ بالماء اعتصارِي
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يلئك"، وهذا الثلاثي: "لأك يلأك" لم أجده منصوصًا عليه في كتب اللغة، بل الذي نصوا عليه هو الرباعي: "ألكني إلى فلان: أبلغه عني. أصله ألئكني، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها"، ولكنهم نصوا على أنه مقلوب، فإذا صح ذلك، صح أيضًا أن تكون"لأك" مقلوب"ألك" الثلاثي، وهو مما نصوا عليه.
(٣) كلام الطبري يشعر بأنه أراد وزن"مفعل" بفتح العين، فهي مألك، بفتح اللام، والأشهر الأفصح: والمألك والمألكة (بفتح الميم وضم اللام فيهما).
(٤) في المطبوعة: "لبيد بن أبي ربيعة"، وهو خطأ.
(٥) ديوانه القصيدة رقم: ٣٧، البيت: ١٦، وقوله"وغلام" مجرور بواو"رب". أرسلت الغلام أمه تلتمس من معروف لبيد، فأعطاها ما سألت.
(٦) في المطبوعة: "ستهديه الرواة إليك.. "، وأثبتنا نص المخطوطة، والديوان: ٨٥ وغيرهما. ويضبطونه"سأهديك" بضم الهمزة، من الهدية، أي سأهديه إليك، ولست أرتضيه، والشعر يختل بذلك معناه. وإنما هو عندي بفتح الهمزة، من"هديته الطريق" إذا عرفته الطريق وبينته له. ومنه أخذوا قولهم: هاداني فلان الشعر وهاديته: أي هاجاني وهاجيته. وقوله: "إليك إليك" أي خذها، كما قال القطامي: إذا التَّيَّازُ ذُو الْعَضَلاتِ قُلْنَا:... إِلَيْكَ إِلَيْكَ! ضَاقَ بِهَا ذِرَاعَا
وقوله: "عني" أي مني، كما في قولهم: "عنك جاء هذا" أي منك، أو من قبلك. وكذلك هو في قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)، أي من عباده، وقوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا)، أي نتقبل منهم. وليس قول النابغة من قولهم"إليك عني"، أي كف وأمسك - في شيء. والشعر الذي يليه دال على ذلك، والبيت الذي يلي هذا فيه الكلمة المنصوبة بقوله"إليك إليك": قَوَافِيَ كَالسِّلامِ إِذَا اسْتَمَرَّتْ... فَلَيْسَ يرُدّ مَذْهَبَهَا التَّظَنِّي
أي خذها قوافي كالسلام، وهي الحجارة.
وقوله: "عيين" يعني عيينة بن حصن الفزاري، وكان أعان بني عبس على بني أسد حلفاء بني ذبيان" رهط النابغة.
446
وقال عبدُ بني الحَسْحَاس:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهُ يَا فَتًى بِآيَةِ ما جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا (١)
يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة، لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ﴾
اختلف أهل التأويل في قوله:"إني جاعل"، فقال بعضهم: إني فاعل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٧- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن، وأبي بكر -يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة، قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (٢) قال لهم: إني فاعل (٣).
(١) سلف القول في هذا البيت: ١٠٦ آنفًا.
(٢) في المطبوعة: "قال الله للملائكة إني.. ". وهو موافق لما نقله ابن كثير.
(٣) الأثر: ٥٩٧- نقله ابن كثير ١: ١٢٧ عن الطبري. ووقع في إسناده هناك سقط، والظاهر أنه خطأ مطبعي. وذكره السيوطي ١: ٤٤ مختصرًا. وسيأتي مرة أخرى: ٦١١ مطولا، بهذا الإسناد نصًّا. وهو هنا بإسنادين بل ثلاثة: رواه الحجاج -وهو ابن المنهال- عن جرير ابن حازم، وعن المبارك -وهو ابن فضالة- ثم رواه عن أبي بكر الهذلي، ثلاثتهم عن الحسن البصري، والإسنادان الأولان جيدان، والثالث ضعيف، بضعف أبي بكر الهذلي، ضعفه ابن المديني جدًّا، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وترجمه البخاري في الكبير ٢/٢/١٩٩ باسم"سلمى أبو بكر الهذلي البصري"، وقال: "ليس بالحافظ عندهم. قال عمرو بن علي: عدلت عن أبي بكر الهذلي عمدًا". وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/ ٣١٣ - ٣١٤، وأبان عن ضعفه. و"سلمى": بضم السين وسكون اللام مع إمالة الألف المقصورة.
447
وقال آخرون: إني خالق.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٨- حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، قال: كل شيء في القرآن"جَعَل"، فهو خلق (١).
قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة": أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا (٢). وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.
وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي"مكة".
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٩- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط: أن النبي ﷺ قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت، فهي أوّل من طاف به، وهي"الأرضُ" التي قال الله:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام (٣).
* * *
(١) الأثر: ٥٩٨- نقله السيوطي ١: ٤٤ عن الطبري، ولكنه جعله من كلام الضحاك. وأبو روق يكثر رواية التفسير عن الضحاك. فلعل ذكر"الضحاك" سقط من الناسخين في بعض نسخ الطبري. وأيًّا ما كان فهذا الإسناد ضعيف. سبق بيان ضعفه: ١٣٧. ويزيده ضعفًا هنا جهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري عن المنجاب، في قوله"حدثت"، بتجهيل من حدثه.
(٢) في المخطوطة: "خلقًا"، بالقاف.
(٣) الحديث: ٥٩٩- نقل ابن كثير في التفسير ١: ١٢٧ معناه من تفسير ابن أبي حاتم: "حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن ابن سابط"، فذكره مرفوعا بنحوه مختصرًا. وقال ابن كثير: "وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم - فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك". أما إرساله: فإن"عبد الرحمن بن سابط": تابعي، وهو ثقة، ولكنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم يدرك كبار الصحابة، كعمر وسعد ومعاذ وغيرهم. ويقال إنه"عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط". واختلف في ذلك جدًّا، فلذلك ترجمه الحافظ لأبيه في الموضعين: "سابط"، أو"عبد الله بن سابط"، وفي الإصابة ٣: ٥١ - ٥٢، ٤: ٧٣. ونقله السيوطي ١: ٤٦، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن عساكر، مطولا كرواية الطبري، ونقله الشوكاني ١: ٥٠ مختصرًا، كرواية ابن أبي حاتم، ونقل تعليل ابن كثير إياه.
وفي المطبوعة"أتى هو ومن معه". وفي المخطوطة"فيعبدوا الله بها".
448
القول في تأويل قوله: ﴿خَلِيفَةً﴾
والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [سورة يونس: ١٤] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى (١).
وكان ابن إسحاق يقول بما:
٦٠٠- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني جاعل في الأرض خليفة"، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم (٢).
وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وخليفًا"، والصواب ما أثبتناه. في حديث عمر: "لولا الخليفى لأذنت" (بكسر الخاء وتشديد اللام المكسورة، بعدها ياء، ثم فاء مفتوحة) قالوا: وهو وأمثاله من الأبنية كالرمي والدليلي، مصدر يدل على معنى الكثرة. يريد عمر: كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها.
(٢) الأثر: ٦٠٠- في ابن كثير ١: ١٢٧ وفي المطبوعة هنا، وفي: ٦١٥"خلقا ليس منكم" بالقاف، وهو خطأ، والصواب في ابن كثير ١: ١٢٧. وقوله"خلفًا": أي بدلا ممن مضى، وهو سكان الأرض قبل أبينا آدم عليه السلام، كما يأتي في الخبر التام: ٦١٥. وقوله: "ليس منكم"، كلام مستأنف، أي ليس منكم أيتها الملائكة. أما المخطوطة ففيها: "ليس خلفًا منكم" وهو خطأ محض.
449
ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.
فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا (١) وفيها منه خلَفًا؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك.
٦٠١- فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال:"إني جاعل في الأرض خليفة" (٢).
فعلى هذا القول:"إني جاعل في الأرض خليفة"، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.
٦٠٢- وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم
(١) في المطبوعة: "بدلا منه" بالتقديم.
(٢) الخبر: ٦٠١- في ابن كثير ١: ١٢٧. وقد روى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦١ خبرًا يشبهه في بعض المعنى ويخالفه في اللفظ قال: "أخبرنا عبد الله بن موسى الصيدلاني، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس:... " وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأما إسناد الطبري هنا فضعيف، كما بينا فيما سبق: ١٣٧.
450
الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض (١).
وقال آخرون في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري.
ونظيرٌ له ما:-
٦٠٣- حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم.
٦٠٤- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق (٢).
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظيرَ ما:-
٦٠٥- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي
(١) الأثر: ٦٠٢- رواه الطبري في التاريخ ١: ٤٣، بهذا الإسناد. سيأتي أيضًا بهذا الإسناد بأطول منه: ٦١٢. ونقله ابن كثير ١: ١٢٨، والسيوطي ١: ٤٥ بالرواية المطولة، ولكنهما جعلاه من كلام أبي العالية. فهو من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية. وزاد السيوطي في نسبته أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة.
(٢) الأثران: ٦٠٣، ٦٠٤ - في ابن كثير ١: ١٢٨.
451
صلى الله عليه وسلم: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا (١). فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.
وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله -لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟ =: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.
وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم (٢) بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.
والذي دعا المتأوِّلين قولَه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" -في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"-:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه
(١) الأثر: ٦٠٥ - في ابن كثير ١: ١٢٧.
(٢) في المطبوعة: "فإضافتهم"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني بهما ابن مسعود وابن عباس كما مضى آنفًا.
452
جاعله في الأرض لا عنْ غيره (١). لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك -وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم، وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا.
وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه، بل قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها"؟ وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا"أتجعل فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء". كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل (٢).
* * *
(١) في المطبوعة"لا غيره" بإسقاط"عن".
(٢) في الأصل المخطوط بعد هذا الموضع ما نصه: -
[بلغتُ من أوّله بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب ابن عبد الله الخصيبيّ، عن أبي محمد الفَرْغانيّ، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي علي بن أحمد بن عيسى، ونصر بن الحسن الطبري. وسمع أبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، من موضع سماعه.
وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعمئة]
* * *
"تذكرة" تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى"الخليفة"، و"الخلافة"، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى"الخليفة". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم: ٦٠٥، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس، وما روي عن الحسن في بيان معنى"الخليفة"، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: ٤٦٥ عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: ٣٥٣"فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا.. "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله.
فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا. ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم.
وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرًا.
453
القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل (١) : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته، فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ (٢)
(١) في المطبوعة: "إن قال قائل".
(٢) في المطبوعة: "فما وجه".
454
قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما:
٦٠٦- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم"الحِنّ"، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة (١) قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن (٢) - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال:"قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد"! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة". فقالت الملائكة مجيبين له:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء"، كما
(١) في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان ٧: ١٧٧، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء)، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في ١: ٢٩١-٢٩٢، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك:
إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ
أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ
ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان ٦: ١٩٣، أيضًا، واللسان (جنن)، وغيرهما.
(٢) في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان ٧: ١٧٧، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء)، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في ١: ٢٩١-٢٩٢، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك:
إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ
أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ
ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان ٦: ١٩٣، أيضًا، واللسان (جنن)، وغيرهما.
455
أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل -أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن: ١٤]. يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت (١). قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره، ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا! -للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهضَ فلم يقدرْ، فهو قول الله: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) [سورة الإسراء: ١١] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال:"الحمد لله ربّ العالمين" بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين -يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله (٢)، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة -يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض (٣). قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة - إني أعلم غيبَ السموات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون - يقول: ما تُظهرون - وما كنتم تكتمون - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (٤).
قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه:"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرص خليفة"، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع، وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأنّ كرامته
(١) المصمت: الذي لا جوف له، وكل ذي جوف إذ قرع صوت، أما المصمت فهو صامت لا صوت له. فمن الصمت أخذوه.
(٢) في المطبوعة: "وآيسه الله... ".
(٣) في المطبوعة: "أنكم تعلمون أني أجعل في الأرض خليفة"، وقوله"لم أجعل.. " سقط"لم" من المخطوطة أيضًا. والصواب من الدر المنثور، والشوكاني، حيث يأتي تخريجه. وسيأتي على الصواب أيضًا في رقم: ٦٧١ ص: ٤٩٠، وهو مختصر من هذا الأثر.
(٤) الخبر: ٦٠٦ - خرجه السيوطي في الدر المنثور مفرقًا ١: ٤٤-٤٥، ٤٩، ٥٠. والشوكاني ١: ٥٢ بعضه مفرقًا. وروى الطبري قطعة منه، بهذا الإسناد، في تاريخه ١: ٤٢-٤٣.
456
لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم (١) :"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون، وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه، وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا (٢).
وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية، وهو ما:-
٦٠٧- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ، استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ (٣) - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون، وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة (٤) - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه،
(١) في المطبوعة: "ويصرح"، وسياق الكلام: "تنبئ عن أن قول الله... خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع،.. ومصرح بأن قيلهم"، عطفًا على خبر "أن".
(٢) هذا التعقيب على خبر ابن عباس، دليل على ما ذهبنا إليه في بيان طريقة الطبري في الاستدلال بالأخبار والآثار انظر ص: ٤٥٣-٤٥٤. فهو لم يروه لاعتماد صحته، بل رواه لبيان أن قول الله سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، إنما هو خطاب فيه لفظ العموم"الملائكة"، ويراد به الخصوص لبعض الملائكة، كما هو معروف في لسان العرب. وأن قول هؤلاء الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها... "، لم يكن عن علم عرفوه من علم الغيب، بل كان ظنًّا ظنوه. وسيأتي بعد ما يوضح مذهب الطبري في الاستدلال، كما سأشير إليه في موضعه.
(٣) في المخطوطة: "الحن" بالحاء، وتفسيرها التالي يدل على أنها بالجيم. وانظر ما كتبناه آنفًا في ص: ٤٥٥ التعليق: ١.
(٤) غيره، الذي أبهمه الطبري هنا، بينه في التاريخ ١: ٤٣، قال: "وحدثنى به أحمد بن أبي خيثمة، عن عمرو بن حماد".
458
اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا،"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون". يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل، فعاذَت منه، فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا -واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير (١). وذلك حين يقول: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [سورة الحجر: ٢٨]. قال: منتن - ثم قال للملائكة: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [سورة ص: ٧١-٧٢]. فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن: ١٤] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف (٢). لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس، فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ، فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [سورة الأنبياء: ٣٧]. فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين -أي استكبرَ (٣) - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك -يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل -. قال: وعلَّم آدم الأسماء كلها، ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنتَ العليم الحكيم. قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. قال قولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فهذا الذي أبدَوْا،"وأعلم ما كنتم تكتمون"، يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر (٤).
قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إني جاعلٌ في الأرض خليفة. فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.
وأما موافقته إياه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين": أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك، تبرِّيًا من علم الغيب -:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم".
وهذا إذا تدبّره ذو الفهم، علم أن أوّله يفسد آخرَه، وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء، فقالت الملائكة لربها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها، فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خُلفٌ من التأويل، ودعوَى على
(١) في المطبوعة"حين أنتن"، وصحته"حتى أنتن"، كما في تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير - فيما تبين في تخريجه.
(٢) الصمد هنا: هو الذي لا جوف له، والمصمد والمصمت واحد. وانظر ما سلف ص: ٤٥٦ تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة: "أبى واستكبر"، وهو تحريف.
(٤) الخبر: ٦٠٧- روى الطبري قطعة منه في تاريخه ١٠: ٤١-٤٢، بهذا الإسناد. وقطعة أخرى أيضًا ١: ٤٣. وثالثة ١: ٤٥-٤٦. ورابعة ١: ٤٧. وخامسة ١: ٤٧-٤٨. وسادسة ١: ٥٠. وبعضه عن السيوطي ١: ٤٥-٤٧، والشوكاني ١: ٥٠. وقد مضى تعليل هذا الإسناد، في: ١٦٨، ورأى الطبري نفسه فيه: ٤٥٢، وأنه فيه مرتاب. وقد ساقه ابن كثير بطوله ١: ١٣٧-١٣٨، ثم قال: "فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة. فلعل بعضها مدرج، ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه، بهذا الإسناد بعينه، أشياء، ويقول: على شرط البخاري! ".
459
الله ما لا يجور أن يكون له صفة (١). وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم:"إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء"، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منزلتَهم، وكرامتِهم عليه، فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، على ظنٍّ منها -على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم -إذ علّم آدم الأسماء كلها -: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية (٢).
ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم، ما:-
٦٠٨- حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي (٣) قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، قال: يعنون الناس (٤).
وقال آخرون في ذلك بما:-
٦٠٩- حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً"، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ، فقالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض -"ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم -وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٥) [سورة فصلت: ١١].
وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من
(١) نقد الطبري دال أيضًا على ما ذهبنا إليه من الاستدلال بالآثار كاستدلال المستدل بالشعر. وأنت تراه ينقض هذا الخبر نقضًا، ويبين الخطأ في سياقه، وتناقضه في معناه. وهذا بين إن شاء الله.
(٢) وهذا أيضًا دليل واضح على أن استدلال الطبري بالأخبار والآثار، ليس معناه أنه ارتضاها، بل معناه أنه أتى بها ليستدل على سياق تفسير الآية مرة، وعلى بيان فساد الأخبار أنفسها مرة أخرى. وقد أخطأ كثير ممن نقل عن الطبري في فهم مراده، وتحامل عليه آخرون لم يعرفوا مذهبه في هذا التفسير.
(٣) في المطبوعة. "ابن أحمد بن إسحاق الأهوازي"، وزيادة"ابن" خطأ.
(٤) الأثر: ٦٠٨- لم أجده.
(٥) الأثر: ٦٠٩- في ابن كثير ١: ١٢٩، وبعضه في الدر المنثور مفرقًا ١: ٤٥، ٤٦، ٥٠.
462
قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله.
وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل، وهو ما:-
٦١٠- حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"أتجعل فيها من يُفسد فيها" قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها" (١).
وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، منهم الحسن البصري:
٦١١- حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرص خليفة" - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم، فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء -"ونحن نسبّح بحمدك ونُقدس لكَ. قال إني أعلم ما لا تعلمون". فلما أخذ في خلق آدم، هَمست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضّله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه، لأنا كنا قَبله، وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ "علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة -وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا
(١) الأثر: ٦١٠- لم أجده.
464
ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم أنبئهم بأسمَائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم إني أعلمُ غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدُون وما كنتم تكتمون" - لقولهم:"ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا". قال: علمه اسم كل شيء، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة، فقال:"ألم أقل لكم إني أعلم غَيبَ السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض:"نحن خير منه وأعلم" (١).
٦١٢- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفةً" الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماءُ، وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية (٢).
٦١٣-[حدثنا محمد بن جرير، قال] : حدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله-:"ثم عَرَضهم
(١) الأثر: ٦١١- سبق بعضه بهذا الإسناد نصًّا. وشرحنا جودة بعضه وضعف بعضه. ونقل السيوطي ١: ٤٩، بعضه عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وذكر ابن كثير ١: ١٢٨ قسما منه، من تفسير ابن أبي حاتم: عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن - وهو البصري. وهذا إسناد صحيح إلى الحسن البصري: فإن"الحسن بن محمد بن الصباح": هو الزعفراني الثقة المأمون، تلميذ الشافعي وراوية كتبه بالعراق. وسعيد بن سليمان: هو سعدويه الضبي الواسطي، وهو ثقة مأمون من شيوخ البخاري ومن أقران الإمام أحمد. ومبارك بن فضالة: ثقة، من أخص الناس بالحسن البصري، جالسه ١٣ أو ١٤ سنة.
(٢) الأثر: ٦١٢- مضى صدره برقم: ٦٠٢، وأشرنا إلى هذا هناك.
465
على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين". إلى قوله:"إنك أنتَ العليم الحكيم". قال: وذلك حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعلم آدم الأسماء كلها، فقال للملائكة:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، إلى قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وكان الذي كتموا بينهم قولهم:"لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم"، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم (١).
وقال ابن زيد بما:-
٦١٤- حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [سورة الإنسان: ١]. قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين (٢). ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! -لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا
(١) الأثر: ٦١٣- هو رواية أخرى للأثر السالف. ولم أجده في المراجع السالفة.
(٢) كلمة عمر رضي الله عنه: "ليت ذلك الحين"، يعني ليت الإنسان بقي شيئًا غير مذكور، طينًا لازبًا. يقولها من مخافة عذابه ربه يوم القيامة. وفي الدر المنثور ٦: ٢٩٧: "أخرج ابن المبارك، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب: أنه سمع رجلا يقرأ: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا)، فقال عمر: ليتها تمت". فهذا في معنى كلمة عمر هنا.
466
وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال:"إني أعلمُ ما لا تعلمون"."يا آدم أنبئهم بأسمائهم". فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له، قال:"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". قال:"فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" (١).
وقال ابن إسحاق بما:-
٦١٥- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه -وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض، ثم قال:"إني جاعل في الأرض خليفة"- ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم (٢). ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"
(١) الأثر: ٦١٤- سيأتي بعض معناه بهذا الإسناد: (ص ١٧٦ بولاق). وأما هذا النص، فقد ذكر السيوطي بعضه ١: ٤٥ ونسبه لابن جرير فقط. ولم يذكر فيه كلمة عمر بن الخطاب. وقد أشرنا إلى ورود معناها من وجه آخر، في الهامشة قبل هذه. وكلمة عمر هنا سيقت مساق الحديث المرفوع، إذ قال: "يا رسول الله، ليت ذلك الحين". فتكون حديثًا مرفوعًا مرسلا، بل منقطعًا، لأن ابن زيد -وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- لم يدرك إلا بعض التابعين. هذا إلى أنه ضعيف جدًّا، كما سبق في: ١٨٥.
(٢) في المطبوعة: "عامر وساكن يسكنها ويعمرها خلقًا ليس منكم"، وانظر ما مضى، رقم: ٦٠٠، وانظر تخريجه بعد.
467
لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال:"إني أعلم ما لا تعلمون" - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الأرض، مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص: ٦٩-٧٢]. فذكر لنبيه ﷺ الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي -تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله، وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس، فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض، من طين لازب من حَمَإٍ مسنون، بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) إِلَى (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص: ٧٥-٨٥].
قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال:"يا آدم
468
أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة (١).
وقال ابن جُريج بما:-
٦١٦- حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت -على التعجب منها-: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: أن ذلك كائن منهم -وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه (٢).
وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها" على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله، لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ.
وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا:"يا رب خبرنا"، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ.
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس
(١) الأثر: ٦١٥- مضى صدره برقم: ٦٠٠.
(٢) الأثر: ٦١٦- لم أجده في مكان.
469
لك"، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على
470
وجه التعجب، فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.
وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت -في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها"، على ما وصفت من الاستخبار.
فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟
قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض -قبل آدم- من الجنّ، فقالت لربها:"أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون"؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه.
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو (١). وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد.
فأولى التأويلات -إذ كان الأمر كذلك- بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم.
فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟
قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر:
فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ (٢)
فحذف قوله"دعوني للتي يقال لها عند صَيدها": خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله:"قالوا
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "يمتنع منه... ويستحيل منه"، وليست بشيء. وفي المخطوطة مكان"التشاغب": "الساعر" غير مبينة.
(٢) البيت للشنفري الأزدي في قصة. شرح الحماسة ٢: ٢٤-٢٦، والأغاني ٢١: ٨٩ وغيرهما. ويروى: "لا تقبروني إن قبري"، "ولكن أبشري". وقوله"خامري": أي استتري، وأصله من الخمرة (بكسر فسكون) وهو الاستخفاء. يريدون بذلك دنو الضبع مستخفية ملازمة لمكانها حتى تخالط القتيل فتصيب منه. وأم عامر: كنية الضبع. وذلك مما يقوله لها الصائد حين يريد صيدها، يغرها بذلك حتى يتمكن منها، فيقول لها: "أبشري أم عامر بشياه هزلى، وجراد عظلى، +وكسر رجال قتلى"، فتميل الضبع إليه فيصيدها.
471
أتجعل فيها من يفسد فيها"، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:"إنّي جاعل في الأرض خليفة"، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله:"قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك" فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [سورة النصر: ٣]، وكما قال: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [سورة الشورى: ٥]، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة.
٦١٧- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي ﷺ يُصلي، فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبيُّ ﷺ يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي ﷺ يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى
472
مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي ﷺ قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي، فقلت له: النبيّ ﷺ يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم، إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي الملك والملكوت"، وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي العزة والجبروت"، وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان الحي الذي لا يموت" (١).
٦١٨- قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرازي، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، قال: أخبرنا الجُرَيْرِي، عن أبي عبد الله الجَسْري، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر: أن رسول الله ﷺ عَادَه -أو أن أبا ذَرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ، أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته:"سبحان رَبي وبحمده، سبحان ربي وبحمده" (٢).
(١) الحديث: ٦١٧ هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي. وإسناده إليه إسناد جيد. يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي أبو الحسن: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٣٩١، فلم يذكر فيه جرحًا. وفي التهذيب: "قال محمد بن حميد الرازي [وهو شيخ الطبري هنا] : دخلت بغداد، فاستقبلني أحمد وابن معين، فسألاني عن أحاديث يعقوب القمي". جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ١/٢/٢٠٠، وابن أبي حاتم في الجرح ١/١/٤٩٠-٤٩١، فلم يذكرا فيه مطعنًا. وفي التهذيب أن ابن حبان نقل في الثقات توثيقه عن أحمد بن حنبل. وهذا الحديث بطوله، رواه أبو نعيم في الحلية ٤: ٢٧٧-٢٧٨، من طريق محمد بن حميد -شيخ الطبري- بهذا الإسناد. وذكر السيوطي في الدر المنثور ١: ٤٦ آخره، من أول سؤال عمر عن صلاة الملائكة، ولم ينسبه لغير الطبري وأبي نعيم.
(٢) الحديث: ٦١٨ - في الدر المنثور ولم ينسبه لابن جرير، وقال: "أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر... " ٥: ١٦١، ١٧٦. وهو في المسند ٥: ١٤٨ ومسلم ٢: ٣١٩، ٨: ٨٦.
473
- في أشكال لما ذكرنا من الأخبار (١)، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها.
وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة:
أَقُولُ -لمَّا جَاءَنِي فَخْرُه-:... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ (٢)
يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم:"نسبح بحمدك": نصلي لك.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٩- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك"، قال: يقولون: نصلّي لك.
وقال آخرون:"نُسبّح بحمدك" (٣) التسبيح المعلوم.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٠- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك"، قال: التسبيحَ التسبيحَ (٤).
* * *
(١) في المطبوعة: "في كل أشكال لما ذكرنا... "، و"كل" مقحمة هنا بلا شك.
(٢) ديوانه: ١٠٦، من قصيدته المشهورة، التي قالها في هجاء علقمة بن علاثة، في خبر منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل (الأغاني ١٥: ٥٠-٥٦). وذكر ابن الشجري في أماليه ١: ٣٤٨ عن أبي الخطاب الأخفش، قال: "وإنما ترك التنوين في"سبحان" وترك صرفه، لأنه صار عندهم معرفة". وقال في ٢: ٢٥٠: "لم يصرفه، لأن فيه الألف والنون زائدين، وأنه علم للتسبيح، فإن نكرته صرفته". وانظر ص: ٤٩٥ وتعليق رقم: ٣.
(٣) في الأصول: "نسبح لك"، والصواب ما أثبتناه، وهو نص الآية.
(٤) الأثران: ٦١٩، ٦٢٠- في ابن كثير ١: ١٢٩، والدر المنثور ١: ٤٦، والشوكاني ١: ٥٠.
474
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾
قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم:"سُبُّوح قُدُّوس"، يعني بقولهم:"سُبوح"، تنزيهٌ لله، وبقولهم:"قُدوسٌ"، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض:"أرض مُقدسة"، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا:"ونحن نسبِّح بحمدك"، ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك، ونصلي لك."ونقدس لك"، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:-
٦٢١- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديسُ: الصلاة (١).
وقال بعضهم:"نقدس لك": نعظمك ونمجدك.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب، قال: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله:"ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك"، قال: نعظمك ونمجِّدك (٢).
٦٢٣- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"ونقدس لك"، قال نعظّمك ونكبِّرك (٣).
(١) الأثر: ٦٢١- في ابن كثير ١: ١٢٩، والدر المنثور ١: ٤٦، والشوكاني ١: ٥٠.
(٢) الأثر: ٦٢٢- في الدر المنثور ١: ٤٦.
(٣) الأثر: ٦٢٣- في ابن كثير ١: ١٢٩، والدر المنثور ١: ٤٦.
475
٦٢٤- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق:"ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه (١).
٦٢٥- وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديس: التطهير (٢).
وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ:"ونقدِّس لك" و"نقدِّسك"، كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه، ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن، قال الله جل ثناؤه: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [سورة طه: ٣٣-٣٤]، وقال في موضع آخر: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [سورة الجمعة: ١]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله:"أعلم ما لا تعلمون"، مما اطلع عليه من إبليس، وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٦- حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إني أعلم
(١) الأثر: ٦٢٤- في ابن كثير ١: ١٢٩.
(٢) الأثر: ٦٢٥- في ابن كثير ١: ١٢٩، وفي الدر المنثور ١: ٤٦: "وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: التقديس: التطهير"، ولم ينسبه للضحاك، ولا لابن جرير.
476
ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره (١).
٦٢٧- وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يعني من شأن إبليس.
٦٢٨- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد -وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
٦٢٩- وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد، بمثله (٢).
٦٣٠- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عَن مجاهد مثله (٣).
٦٣١- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (٤).
(١) الخبر: ٦٢٦- لم يذكر في المصادر السالفة. و"بشر بن عمارة": مضت ترجمته في: ١٣٧، وتكرر مرارًا، ولكن مصححو طبعة بولاق قالوا في هذا الموضع: "كذا في النسخ بالتاء، وتكرر بها فيها كلها. وهو في الخلاصة بدون تاء"!! وهو"عمارة" بالتاء في جميع الكتب والدواوين. والذي في الخلاصة خطأ مطبعي فقط!!
(٢) الأثر: ٦٢٩-"علي بن بذيمة"، بفتح الباء الموحدة وكسر الذال المعجمة، وهو ثقة.
(٣) الأثر: ٦٣٠-"ابن يمان"، بفتح الياء وتخفيف الميم: هو يحيى بن يمان العجلي الكوفي، وهو صدوق من شيوخ أحمد بن حنبل. و"سفيان" في هذا والذي قبله - هو الثوري.
(٤) الأثر: ٦٣١-"القاسم بن أبي بزة"، بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي: ثقة مكي، قال ابن حبان: "لم يسمع التفسير من مجاهد -أحد غير القاسم، وكل من يروي عن مجاهد التفسير- فإنما أخذه من كتاب القاسم". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٣/٢/١٢٢: "هو القاسم بن نافع بن أبي بزة، واسم أبي بزة: يسار". و"محمد بن عبد الرحمن" الراوي عنه هنا: هو ابن أبي ليلى.
477
٦٣٢- وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري، قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم.
٦٣٣- وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية.
٦٣٤- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله.
٦٣٥- وحدثني المثنى، قال: حدثنا سُويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (١).
وقال مرَّة آدم.
٦٣٦- وحدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها (٢).
(١) الأثر: ٦٣٥- ذكره السيوطي ١: ٤٦. والشوكاني ١: ٥٠. ولكن سقط اسم"مجاهد"، من الدر المنثور، خطأ مطبعيًّا.
(٢) الأثر: ٦٣٦ - أما"مجاهد بن جبر"، فهو التابعي الكبير، الثقة الفقيه المفسر. ولكن ابنه"عبد الوهاب بن مجاهد": ضعيف جدًّا، قال أحمد بن حنبل: "لم يسمع من أبيه، ليس بشيء، ضعيف الحديث". وضعفه أيضًا ابن معين وأبو حاتم. ومر عبد الوهاب بسفيان الثوري، في مسجد الحرام، فقال سفيان: "هذا كذاب". وأما هذا الأثر، بزيادة: "وعلم من آدم الطاعة -... "- فلم نجده في موضع آخر.
478
٦٣٧- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (١).
٦٣٨- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني أعلم ما لا تعلمون". أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله.
* ذكر من قال ذلك:
٦٣٩- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة (٢).
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك
(١) الأثر: ٦٣٧- هو في معنى الآثار السالفة: ٦٣٣-٦٣٥.
(٢) الأثر: ٦٣٩- في ابن كثير ١: ١٣٠، والدر المنثور ١: ٤٦، والشوكاني ١: ٥٠. وفي ابن كثير: "في تلك الخليقة" وفي الدر المنثور"من تلك الخليقة" وفي الشوكاني: "سيكون من الخليقة": وجميعها بالقاف، وهو خطأ، والصواب ما في نص الطبري.
479
ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ -ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ﴾
٦٤٠- حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها، فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض (١).
٦٤١- وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء (٢).
(١) الخبر: ٦٤٠- هذا إسناد صحيح. ورواه الطبري في التاريخ أيضًا ١: ٤٦، بهذا الإسناد، بزيادة في آخره. ولكن فيه: "بعث رب العزة إبليس" بدل"ملك الموت". وهذا هو الصواب الموافق لسائر الروايات، فلعل ما هنا تحريف قديم من الناسخين. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات ١/١/٦، عن حسين بن حسن الأشقر، عن يعقوب بن عبد الله القمي، بهذا الإسناد. وكذلك نقله السيوطي ١: ٤٧، مطولا، عن ابن سعد، والطبري، وابن أبي حاتم، وابن عساكر.
(٢) الخبر: ٦٤١- رواه الطبري في التاريخ ١: ٤٦، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي ١: ٤٧، منسوبًا للطبري وحده، ولم أجده عند غيره. وإسناده ضعيف جدًّا. عمرو بن ثابت: هو ابن أبي المقدام الحداد، ضعيف جدًّا، قال ابن معين: "ليس بثقة ولا مأمون". وأما أبوه"ثابت بن هرمز أبو المقدام"، فإنه ثقة. ويزيد هذا الإسناد ضعفًا وإشكالا - قوله فيه: "عن جده"! فإن ترجمة ثابت في المراجع كلها ليس فيها أنه يروي عن أبيه"هرمز". ثم لا نجد لهرمز هذا ذكرا ولا ترجمة، فما أدرى مم هذا؟
480
٦٤٢- وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مِسعر، عن أبي حَصين، عن سعيد بن جُبير، قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم.
٦٤٣- وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض (١).
٦٤٤- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم، لأنه أخذ من أديم الأرض (٢).
وقد روى عن رسول الله ﷺ خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما-:
٦٤٥- حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عوف -وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد -قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف -وحدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي، عن قَسامَة بن زُهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض، فجاء
(١) الأثران: ٦٤٢، ٦٤٣- رواهما الطبري في التاريخ أيضًا ١: ٤٦، بهذين الإسنادين. وذكره بنحوه السيوطي ١: ٤٩، والشوكاني ١: ٥٢. و"أبو حصين"، فيهما بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، وهو: عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، ثقة ثبت صاحب سنة.
(٢) الخبر: ٦٤٤- مضى ضمن خبر مطول، بهذا الإسناد: ٦٠٧.
481
بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب (١).
فعلى التأويل الذي تأول"آدم" من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض، يجب أن يكون أصْل"آدم" فعلا سُمي به أبو البشر، كما سمي"أحمد" بالفعل من الإحماد، و"أسعد" من الإسعاد، فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ، يعني به بلغ أدمتها -وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين، كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما-:
٦٤٦- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة، وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. (٢).
(١) الحديث: ٦٤٥- هو حديث صحيح. ورواه أحمد في المسند ٤: ٤٠٠، ٤٠٦ (حلبى)، وابن سعد في الطبقات ١/١/٥-٦، وأبو داود: ٤٦٩٣، والترمذي ٤: ٦٧-٦٨، والحاكم ٢: ٢٦١-٢٦٢، كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن قسامة بن زهير، به. قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وذكره السيوطي ١: ٤٦، ونسبه لهؤلاء، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وغيرهم. ورواه أيضًا الطبري في التاريخ ١: ٤٦، بهذه الأسانيد التي هنا، بزيادة في آخره.
(٢) الخبر: ٦٤٦- في ابن كثير ١: ١٣٢، والدر المنثور ١: ٤٩، والشوكاني ١: ٥٢ وقد مضى برقم: ٦٠٦، مطولا.
482
٦٤٧- وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء.
٦٤٨- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خُصيف، عن مجاهد:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء (١).
٦٤٩- وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الجَرمي، عن محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن خُصيف، عن مجاهد، قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء (٢).
٦٥٠- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شَريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: علمه اسمَ كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة (٣).
٦٥١- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شَريك، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس، قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة (٤).
٦٥٢- وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك،
(١) الأثران: ٦٤٧، ٦٤٨- في الدر المنثور ١: ٤٩، وكأنهما اختصار لما بعدهما.
(٢) الأثر: ٦٤٩- لم أجده بنصه ولعله مطول الذي قبله، وانظر ما سيأتي رقم: ٦٦٦. و"مسلم الجرمي": ثبت في الأصول بالحاء. وقد مضى في: ١٥٤ ترجيحنا أنه بالجيم.
(٣) الأثر: ٦٥٠- في الدر المنثور ١: ٤٩.
(٤) الخبر: ٦٥١- سعيد بن معبد: تابعي، يروي عن ابن عباس، لم أجد له ترجمة إلا في التاريخ الكبير للبخاري ٢/١/٤٦٨، والجرح لابن أبي حاتم ٢/١/٦٣. وكلاهما ذكر أنه يروي عن ابن عباس، ويروي عنه: القاسم بن أبي بزة. فجاءنا الطبري بفائدة زائدة، في هذا الإسناد، وفي الإسناد: ٦٥٣: أنه يروي عنه أيضًا عاصم بن كليب. وهذا الخبر ذكره بنحوه: ابن كثير ١: ١٣٢، والسيوطي ١: ٤٩. ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم. وهذا الخبر والثلاثة بعده، متقاربة المعنى، هي روايات لخبر واحد.
483
عن عاصم بن كليب، عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة.
٦٥٣- حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعب، عن قيس، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس في قول الله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة.
٦٥٤- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم بن كليب، قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة، والفسوة من الفسية (١).
٦٥٥- وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" حتى بلغ:"إنك أنتَ العليمُ الحكيم" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم"، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه (٢).
٦٥٦- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (٣).
٦٥٧- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم -ومبارك، عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة،
(١) الخبر: ٦٥٤- عاصم بن كليب الجرمي: ثقة يحتج به. ولكنه إنما يروي عن التابعين، فروايته عن ابن عباس هنا منقطعة. وقد دلتنا الأسانيد الثلاثة الماضية على أنه إنما روى هذا المعنى عن سعيد بن معبد، وعن الحسن بن سعد، عن ابن عباس.
(٢) الأثر: ٦٥٥- في الدر المنثور ١: ٤٩، بغير هذا اللفظ. وانظر رقم: ٦٩٧.
(٣) الأثر: ٦٥٦- في ابن كثير ١: ١٣٣ مختصرًا، وفي الدر المنثور ١: ٤٩ مطولا وفي ابن كثير: "ثم عرض تلك الأسماء".
484
قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه. (١)
٦٥٨ - وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء. (٢)
وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
٦٥٩ - حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وعلم آدمَ الأسماء كلها"، قال: أسماء الملائكة. (٣)
وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.
* ذكر من قال ذلك:
٦٦٠ - حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها"، قال: أسماء ذريته أجمعين. (٤)
وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:"ثمّ عرَضهم على الملائكة"، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت:"عرضهن" أو"عرضها"، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف
(١) الأثر: ٦٥٧- في ابن كثير ١: ١٣٣ بغير هذا اللفظ مختصرًا، وفي الدر المنثور ١: ٤٩، وسيأتي كما جاء فيهما برقم: ٦٦٧.
(٢) الأثر: ٦٥٨- لم أجده.
(٣) الأثر: ٦٥٩- في ابن كثير ١: ١٣٢، والدر المنثور ١: ٤٩، والشوكاني ١: ٥٢.
(٤) الأثر: ٦٦٠- في ابن كثير ١: ١٣٢، والدر المنثور ١: ٤٩، والشوكاني ١: ٥٢.
485
من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك (١) بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) [سورة النور: ٤٥]، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله:"والله خَلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بَطنه" الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود:"ثم عَرضهن"، وأنها في حرف أبَيّ:"ثم عَرضَها". (٢)
ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله:"ثم عَرَضهم"، بالدلالة على بني آدم والملائكة،
(١) في المطبوعة: "إذ كان... " وهو خطأ.
(٢) انظر تفسير ابن كثير ١: ١٣٢ في التعقيب على كلام الطبري.
486
أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا.
ويعني جل ثناؤه بقوله:"ثم عَرضَهم"، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة.
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله:"ثم عَرضَهم على الملائكة" نحو اختلافهم في قوله:"وعلم آدمَ الأسماء كلها". وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.
٦٦١ - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"ثم عَرضهم على الملائكة"، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق. (١)
٦٦٢ - وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ثم عرضهم"، ثم عرض الخلقَ على الملائكة (٢).
٦٦٣ - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة (٣).
٦٦٤ - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ثم عرضهم"، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة (٤).
(١) الخبر: ٦٦١- هو من تمام الآثار السالفة قريبًا.
(٢) الخبر: ٦٦٢- مختصر من الخبر الطويل الماضي قريبًا، وفي ابن كثير ١: ١٣٢.
(٣) الأثر: ٦٦٣- في الدر المنثور ١: ٤٩.
(٤) الأثر: ٦٦٤- مختصر أثر سلف بإسناده هذا، وفي ابن كثير ١: ١٣٣.
487
٦٦٥ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"ثم عرضهم"، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة (١)
٦٦٦ - وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد:"ثم عرضهم على الملائكة"، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب (٢).
٦٦٧ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة (٣).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"أنبئوني": أخبروني، كما:-
٦٦٨ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"أنبئوني"، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء (٤).
ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
(١) الأثر: ٦٦٥- في ابن كثير: ١: ١٣٣، والدر المنثور ١: ٤٩، والشوكاني ١: ٥٢.
(٢) الأثر: ٦٦٦- في ابن كثير ١: ١٣٤، وانظر ما مضى قريبًا بإسناده.
(٣) الأثر: ٦٦٧- انظر ما مضى رقم: ٦٥٧ وابن كثير ١: ١٣٣، والدر المنثور ١: ٤٩.
(٤) الخبر: ٦٦٨- مختصر من الخبر رقم: ٦٠٦.
488
وَأَنْبَأَهُ الْمُنَبِّئُ أَنَّ حَيًّا حُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أَوْ جُذَامِ (١)
يعني بقوله:"أنبأه": أخبره وأعلمه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره: ﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ﴾
قال أبو جعفر:
٦٦٩ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله:"بأسماء هؤلاء"، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ.
٦٧٠- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم. (٢)
* * *
(١) ديوانه: ٨٧ من قصيدة له، في عمرو بن هند، وكان غزا الشام بعد قتل المنذر أبيه. وقال أبو عبيدة: هذه القصيدة لعمرو بن الحارث الغساني في غزوة العراق. ورواية الديوان: "أن حيًّا حلولا" بالنصب، صفة "حيًّا" وهي الرواية الجيدة. وخبر"أن" محذوف، كأنه يقول: قد تألبوا يترصدون لك. وحذفه للتهويل في شأن اجتماعهم وترصدهم. والبيت الذي يليه دال على ذلك، وهو قوله:
وَأَنَّ الْقَوْمَ نَصْرُهُمُ جَمِيعٌ فِئَامٌ مُجْلِبُونَ إِلَى فِئَامِ
ورواية الرفع، لا بأس بها، وإن كنت لا أستجيدها. وقوله: "حرام" كأنه يعني بني حرام ابن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد هذيم. أو كأنه يعني بني حرام بن جذام بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد بن زيد. ودار جذام جبال حسمى، وأرضها بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة، وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نهيل (معجم البلدان: حسمى). فمن أجل أن بنى عذرة هذه ديارهم قريبة من جذام، شككت فيمن عني النابغة ببني حرام في هذا البيت.
(٢) الأثران: ٦٦٩، ٦٧٠- لم أجدهما في مكان.
489
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
٦٧١ - فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إن كنتم صادقين"، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. (١)
٦٧٢ - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"إن كنتم صادقين" أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. (٢)
٦٧٣ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (٣).
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك
(١) الخبر: ٦٧١- مختصر من الخبر السالف رقم ٦٠٦، وانظر التعليق، هناك على هذه الفقرة. وانظر الشوكاني ١: ٥٢.
(٢) الخبر: ٦٧٢- مختصر من الخبر السالف رقم ٦٠٧، وابن كثير ١: ١٣٣، والدر المنثور ١: ٥٠، والشوكاني ١: ٥٢.
(٣) الأثر: ٦٧٣- مختصر من الأثر السالف رقم ٦١١، وابن كثير ١: ١٣٣.
490
ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم = بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم = أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [سورة هود: ٤٥]-: لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (١). فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم:"أنبئوني
(١) في المطبوعة: "وأنت أحكم الحاكمين فلا تسألن"، وهو خطأ فاحش، فإن الآية التي تلي قوله: "وأنت أحكم الحاكمين": "قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم... "، ولم يرد الطبري أن يسوق الآيتين، بل ساق قول الله سبحانه لنبيه حين قال ما قال. والصواب ما في المخطوطة كما أثبتناه.
491
بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم (١) -: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [سورة هود: ٤٧]. وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.
وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال:"أنبئوني إن كنتم صادقين" - كما يقول الرجل للرجل:"أنبئني بهذا إن كنت تعلم". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ.
وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء -: أنبئوني بأسماء هؤلاء، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول.
وزعم أن قوله:"إن كنتم صادقين" نظير قول الرجل للرجل:"أنبئني بهذا إن كنت تعلم". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.
ولا شك أن معنى قوله:"إن كنتم صادقين" إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في
(١) في المطبوعة هنا أيضًا: "فلا تسألن".
492
العلم. وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال: صدَق الرجل بمعنى علم. فإذْ كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة - على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية-:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وهو يعلم أنهم غيرُ صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنه زعم أن الملائكة لم تدَّع شيئًا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صَادقين، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير.
وقد حُكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله:"إن كنتم صادقين" بمعنى: إذْ كنتم صادقين.
ولو كانت"إن" بمعنى"إذ" في هذا الموضع، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأن"إذ" إذا تقدّمها فعل مُستقبل صارت علة للفعل وسببًا له. وذلك كقول القائل:"أقوم إذ قمت". فمعناه أقوم من أجل أنّك قمت. والأمرُ بمعنى الاستقبال، فمعنى الكلام - لو كانت"إن" بمعنى"إذ" -: أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وُضعت "إن" مكان ذلك قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صَادقين، مفتوحةَ الألف. وفي إجماع جميع قُرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من"إنْ"، دليل واضح على خطأ تأويل من تأول"إن" بمعنى"إذ" في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره.
493
وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبرَ، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد، عمّا أودع الله جل ثناؤه آيَ هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن.
وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه ﷺ على من كان بين ظَهْرَانَيْه من يَهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلعَ عليها من خلقه إلا خاصًّا، ولم يكن مُدرَكًا علمه إلا بالإنباء والإخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كل مخبر خبرًا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكنْ، ولم يأته به خبر، ولم يُوضَع له على صحّته برهان، - فمتقوّلٌ ما يستوجبُ به من ربه العقوبة. ألا ترى أنّ الله جل ذكره ردّ على ملائكته قِيلَهم:"أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويَسفكُ الدماءَ ونَحنُ نُسبح بحمدك ونقدسُ لك" قال:"إني أعلمُ ما لا تعلمونَ"، وعرفهم أن قِيلَ ذلك لم يكن جائزًا لهم، بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتمْ صادقين". فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجز، والتبرِّي إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم، بقولهم:"سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتنا". فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كلّ من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة (١). وذكَّر بها الذين
(١) الحزاة جمع حاز: وهو كالكاهن، يحرز الأشياء ويقدرها بظنه. ويقال للذي ينظر في النجوم ويتكهن حاز وحزاء، وفي حديث هرقل أنه"كان حزاء"، وفي الحديث: "كان لفرعون حاز"، أي كاهن. والكهنة جمع كاهن: وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعى معرفة الأسرار. وفي المطبوعة"والقافة" مكان"والعافة"، وهو خطأ بين، فالقيافة ليست مما أراد الطبري في شيء، وهي حق، لا باطل كباطل التحزي والكهانة والتنجيم. والعافة جمع عائف: وهو الذي يعيف الطير فيزجرها ويتفاءل أو يتشاءم بأسمائها وأصواتها وممرها. واسم حرفته: العيافة، وفي الحديث: "العيافة والطرق من الجبت". وهو ضرب من الكهانة. والمنجم والمتنجم: الذي ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها، ثم يربط بين ذلك وبين أحوال الدنيا والناس، فيقول بالظن في غيب أمورهم.
494
وَصَفنا أمرَهم من أهل الكتاب - سوالفَ نعمه على آبائهم، وأياديَه عند أسلافهم، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته، مُستعطفَهم بذلك إلى الرشاد، ومُستعتِبَهم به إلى النجاة. وحذَّرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلولَ العقاب بهم، نظيرَ ما أحلّ بعدوِّه إبليس، إذ تمادَى في الغيّ والخَسَار (١)
قال: وأما تأويل قوله:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فهو كما:-
٦٧٤ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"قالوا سبحانك" تنزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيبَ غيرُه، تُبنا إليك"لا علم لنا إلا ما عَلَّمتنا"، تبرِّيًا منهم من علم الغيب،"إلا ما علَّمتنا" كما علمت آدم (٢).
وسُبحان مصدر لا تصرُّف له (٣). ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننزهك تنزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم:"لا علمٌ لنا إلا ما علَّمتنا"، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم:"إنك أنتَ العليم"،
(١) في المطبوعة: "في البغي والخسار"، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) الخبر: ٦٧٤- مختصر من الخبر رقم: ٦٠٦. وفي المطبوعة هنا"تبرؤًا منهم".
(٣) انظر ما مضى: ص ٤٧٤ التعليق رقم: ٣.
495
يعنون بذلك العالم من غير تعليم، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:-
٦٧٥ - حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"العليم" الذي قد كمل في علمه، و"الحكيم" الذي قد كمل في حُكمه (١).
وقد قيل، إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عَرّف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض، ووصَفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره، دونَ غيرهم الذين يُفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم، من الجهل بمواقع تدبيره ومحلّ قَضَائه، قَبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عَرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم إياه ربهم، وأنّه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق، ويمنعه منهم من شاء، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم.
فأما تأويل قوله:"قال يا آدم أنبئهم"، يقول: أخبر الملائكةَ، والهاء والميم في قوله:"أنبئهم" عائدتان على الملائكة. وقوله:"بأسمائهم" يعني بأسماء الذين عَرَضهم على الملائكة، والهاء والميم اللتان في"أسمائهم" كناية عن ذكر
(١) الخبر: ٦٧٥ في الدر المنثور ١: ٤٩، والشوكاني ١: ٥٢.
496
"هؤلاء" التي في قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء"."فلما أنبأهم" يقول: فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يَعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خَطأ قيلهم: "أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفك الدماءَ ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"، وأنهم قَد هَفوْا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع، على ما نطقوا به، - قال لهم ربهم:"ألم أقلْ لكُم إنّي أعلمُ غَيبَ السموات والأرض". والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه؛ توبيخًا من الله جل ثناؤه لهم بذلك، على ما سلف من قيلهم، وَفرَط منهم من خطأ مَسألتهم. كما:-
٦٧٦ - حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم"، يقول: أخبرهم بأسمائهم -"فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم" أيها الملائكة خَاصة"إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض" ولا يعلمه غيري (١).
٦٧٧ - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه، فكذلك أخفيتُ عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يُطيعني، قال: وَسبقَ من الله: (لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة هود: ١١٩، وسورة السجدة: ١٣]، قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوْا ما أعطى الله آدمَ من العلم أقروا لآدم بالفضل (٢).
* * *
(١) الخبر: ٦٧٦- مختصر من الخبر السالف رقم: ٦٠٦.
(٢) الأثر: ٦٧٧- في ابن كثير ١: ١٣٥. في المخطوطة: "علم بما أردت... هذا عبدي".
497
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فرُوي عن ابن عباس في ذلك ما:-
٦٧٨ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وأعلم ما تبدون" يقول: ما تظهرون،"وما كنتم تكتمون" يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (١).
٦٧٩ - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: قولهم:"أتجعل فيها من يُفسد فيها"، فهذا الذي أبدوْا،"وما كنتم تكتمون"، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر (٢).
٦٨٠ - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه (٣).
(١) الخبر: ٦٧٨- في ابن كثير ١: ١٣٥، والدر المنثور ١: ٥٠، والشوكاني ١: ٥٢.
(٢) الخبر: ٦٧٩- في ابن كثير ١: ١٣٥، والدر المنثور ١: ٥٠ والشوكاني ١: ٥٢، وهو مختصر الخبر السالف رقم: ٦٠٦.
(٣) الأثر: ٦٨٠- لم أجده في مكان. وقد مضى في: ٦٤١ ترجمة"عمرو بن ثابت" وأبيه. وبينا ما في ذلك من شبهة الخطأ في قوله"عن جده". وهذا الإسناد هنا صواب، لأن"ثابت ابن هرمز" معروف بالرواية عن سعيد بن جبير.
498
٦٨١ - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر ألا يسجد لآدم (١).
٦٨٢ - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الأنماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن - ونحن جُلوس عنده في منزله-: يا أبا سَعيد، أرأيتَ قول الله للملائكة:"وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن: إن الله لمّا خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا، فكأنهم دَخلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلى بعض، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خَلقا إلا كنا أكرمَ عليه منه (٢).
٦٨٣ - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عَبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله"وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاءُ أن يخلُق، فلن يخلُق خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه (٣).
٦٨٤ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي
(١) الأثر: ٦٨١- لم أجده في مكان.
(٢) الأثر: ٦٨٢- في الدر المنثور ١: ٥٠. و"الحجاج الأنماطي": هو الحجاج ابن المنهال، وهو ثقة من شيوخ البخاري والدارمي وغيرهما. و"مهدي بن ميمون": ثقة معروف، روى عن الحسن البصري، وابن سيرين وغيرهما. وهو في هذا الإسناد يصرح بأنه سمع جواب الحسن البصري، حين سأله الحسن بن دينار. وقد نبهت على هذا، خشية أن يظن أنه من رواية مهدي عن الحسن بن دينار. والحسن بن دينار: كذاب لا يوثق به. وله ترجمة حافلة بالمنكرات والموضوعات - في كتاب المجروحين لابن حبان، رقم: ٢٠٨، والميزان، ولسان الميزان، والتهذيب، وترجم له البخاري في الكبير ١/٢/٢٩٠ - ٢٩١، والصغير: ١٨٥، وابن أبي حاتم ١/٢/١١ - ١٢، وابن سعد ٧/٢/٣٧.
(٣) الأثر: ٦٨٣- في الدر المنثور ١: ٥٠، بلفظ آخر، منسوبًا للطبري"عن قتادة والحسن".
499
جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، فكان الذي أبدَوْا حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم (١).
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله:"وأعلم ما تُبدون"، وأعلم - مع علمي غيبَ السموات والأرض - ما تُظهرون بألسنتكم،"وما كنتم تكتمون"، وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء، سواءٌ عندي سرائركم وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"؛ والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبُّر عن طاعته. لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غيرُ خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا، والآخرُ ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة، ومن قال إن معنى ذلك كتمانُ الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه. فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت، ثم كان أحدهُما غيرَ موجودةٍ على صحته الدّلالةُ من الوجه الذي يجب التسليم له - صح الوجهُ الآخر.
فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك، غيرُ موجودةٍ الدلالةُ على صحته من الكتاب، ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبرُ الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه، إذْ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر، وإظهارُه لسائر الملائكة من معصيته وكبره، ما كان له كاتمًا قبل ذلك.
فإن ظن ظانٌّ أنّ الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه، لمّا كان
(١) الأثر: ٦٨٤- في ابن كثير ١: ١٣٥.
500
خارجًا مخرج الخبر عن الجميع، كان غيرَ جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله: من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبْرَ والمعصية - صحيحًا، فقد ظن غير الصواب. وذلك أنّ من شأن العرب، إذا أخبرتْ خبرًا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم:"قُتل الجيش وهُزموا"، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض. فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة الحجرات: ٤]، ذُكر أن الذي نادَى رسولَ الله ﷺ - فنزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الخبر عنه مُخرج الخبر عن الجماعة. فكذلك قوله:"وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، أخرج الخبر مُخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: أمّا قوله:"وإذ قلنا" فمعطوف على قوله:"وإذ قال ربّك للملائكة"، كأنه قال جل ذكره لليهود - الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله ﷺ من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعَمه، ومذكِّرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل-: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم.
501
فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرمت أباكم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدلّ باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمِر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: (إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: ١١-١٢]، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمرَه من الملائكة بالسجود لآدمَ. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدمَ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.
ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:-
٦٨٥ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم"الحِن"، خلقوا من نار السَّموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نورٍ غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (١).
٦٨٦ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصيةَ من الملائكة اسمه"عزازيل"، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة
(١) الخبر: ٦٨٥- مضى بتمامه في الخبر السالف رقم: ٦٠٦، وفي ابن كثير ١: ١٣٦، وفيهما معًا "إذا ألهبت". وأعاده ابن كثير ٥: ٢٩٦. وفيه كما هنا"التهبت". وفيه"الجن" بالجيم، وانظر ما مضى ص: ٤٥٥ تعليق: ١.
502
اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنا (١).
٦٨٧ - وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه"عزازيل"، وكان من سكان الأرض وعُمَّارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون"الجنَّ" من بين الملائكة (٢).
٦٨٨ - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم"الجنّ"، وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنًا (٣).
٦٨٩ - وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطانُ سماء الدنيا، وكان له سلطانُ الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) [سورة الكهف: ٥٠] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدَنيّ وكوفيّ وبصريّ. (٤).
قال ابن جُريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قَبيلِه، فكان اسم قبيلته الجن.
(١) الخبر: ٦٨٦ في ابن كثير ١: ١٣٩ و ٥: ٢٩٦، والدر المنثور ١: ١٥٠، والشوكاني ١: ٥٣. وخلاد: هو ابن عبد الرحمن الصنعاني، وهو ثقة، ويروى عن طاوس ومجاهد مباشرة، ولكنه روى عنهما، هنا وفي الخبر التالي، بواسطة عطاء.
(٢) الخبر: ٦٨٧- في ابن كثير ١: ١٣٩ عقب الذي قبله.
(٣) الخبر: ٦٨٨- مختصر من الأثر السالف رقم: ٦٠٧.
(٤) الخبر: ٦٨٩- في ابن كثير ١: ١٣٩ و ٥: ٢٩٦، والدر المنثور ١: ١٧٨.
503
٦٩٠ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن صالح مولى التَّوْأمة، وشريك بن أبي نَمِر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلةً من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض (١).
٦٩١ - وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عُبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مُزَاحم يقولُ في قوله: (فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) [سورة الكهف: ٥٠]، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جُريج الأول سواء (٢).
٦٩٢ - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا (٣).
٦٩٣ - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) [سورة الكهف: ٥٠]، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم"الجن"،
(١) الخبر: ٦٩٠- في ابن كثير ٥: ٢٩٦- ٢٩٧، وفيه زيادة هناك. وسيأتي بإسناد آخر مطولا: ٧٠٠.
(٢) الخبر: ٦٩١- الحسن بن الفرج: لم أعرف من هو؟ وأبو معاذ الفضل بن خالد: هو النحوي المروزي، وهو ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/٦١، وياقوت في الأدباء ٦: ١٤٠، والسيوطي في البغية: ٣٧٣. وقال ياقوت: "روى عنه الأزهري في كتاب التهذيب، فأكثر". وليس يريد بذلك رواية السماع، بل يريد أنه روى آراءه أو نقله في اللغة. أما رواية السماع فلا. لأن الفضل هذا مات سنة ٢١١، والأزهري ولد سنة ٢٨٢. فهذا كلام موهم؛ ولم يكن يجدر بالسيوطي - وهو محدث - أن يتبعه دون تأمل!
(٣) الأثر: ٦٩٢- في ابن كثير ١: ١٣٩. شيبان: هو ابن فروخ، وهو ثقة. سلام بن مسكين الأزدي: ثقة، أخرج له الشيخان.
504
وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه (١).
٦٩٤ - وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"إلا إبليسَ كان من الجن" قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن (٢).
٦٩٥ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجنّ إلا كل من اجتَنَّ فلم يُرَ. وأما قوله:"إلا إبليس من كان من الجن" أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنُّوا فلم يُرَوْا. وقد قال الله جل ثناؤه: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [سورة الصافات: ١٥٨]، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بناتُ الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمانَ بن داود وما أعطاه الله:
وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ خَالِدًا أَوْ مُعَمَّرا لَكَانَ سُلَيْمَانُ الْبَرِيءُ مِنَ الدَّهْرِ (٣)
(١) الأثر: ٦٩٣- لم نجده في مكان آخر.
(٢) الأثر: ٦٩٤- لم نجده أيضًا. وقال الحافظ ابن كثير ٥: ٢٩٧- بعد أن نقل كثيرًا من الآثار في مثل هذه المعاني: "وقد روى في هذا آثار كثيرة عن السلف. وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه، لمخالفته للحق الذي بأيدينا. وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المثقدمة، لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفاظ المتقنين، الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين- كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد. الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه، من حسنه، من ضعيفه، من منكره وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه. وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، +وغير ذلك من أصناف الرجال. كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر، صلى الله عليه وسلم-: أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس منه. فرضى الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم. وقد فعل".
(٣) ملحق ديوان الأعشى: ٢٤٣، والأضداد لابن الأنباري: ٢٩٣. ولم يعن بالدهر هاهنا الأمد الممدود، بل عني مصائب الدهر ونكباته، كما قال عدى بن زيد، وجعل مصائب الدهر هي الدهر نفسه:
505
بَرَاهُ إِلَهِي وَاصْطَفَاهُ عِبَادَهُ... وَمَلَّكَهُ مَا بَيْنَ ثُرْيَا إِلَى مِصْرَ (١) وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلائِكِ تِسْعَةً... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْرِ
قال: فأبت العربُ في لغتها إلا أنّ "الجن" كل ما اجتنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجن إلا أنهم اجتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمّي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ (٢).
وقال آخرون بما:-
٦٩٦ - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس (٣).
٦٩٧ - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إلا إبليس كانَ من الجن" ألجأه إلى نسبه (٤) فقال الله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) [سورة الكهف: ٥٠]، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم (٥).
٦٩٨ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا
(١) ثريا: هكذا ضبط في ملحق ديوان الأعشى، ولم أعرف الموضع ولم أجده. ولم أهتد إلى تحريفه إن كان محرفًا. وفي الأضداد: "توفى".
(٢) الأثر: ٦٩٥- رواه مختصرًا صاحب الأضداد: ٢٩٣، ولم أجده في مكان آخر.
(٣) الأثر: ٦٩٦- في ابن كثير ١: ١٣٩ و ٥: ٢٩٦. وقال: "وهذا إسناد صحيح عن الحسن".
(٤) في المطبوعة: "إلجاء إلى نسبه"، وألجأه إلى نسبه: رده إليه. وانظر رقم: ٦٥٥.
(٥) الأثر: ٦٩٧- لم أجده في مكان.
506
أبو سعيد اليحمَديّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سَوار بن الجعد اليحمَديّ، عن شَهر بن حَوْشب، قوله:"من الجنّ"، قال: كان إبليس من الجن الذين طرَدتهم الملائكة، فأسرَه بعض الملائكة فذهب به إلى السماء (١).
٦٩٩ - وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نُمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسُبِي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجود لآدم سجدوا. فأبى إبليس. فلذلك قال الله:"إلا إبليس كان من الجن" (٢).
٧٠٠ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن منَ الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصَى، فمسخه الله شيطانًا رجيما. (٣)
٧٠١ - قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس (٤).
وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خَلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجنّ - فقالوا: فغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسلٌ وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.
(١) الأثر: ٦٩٨- في ابن كثير ١: ١٣٩.
(٢) الأثر: ٦٩٩- في ابن كير ١: ١٣٩.
(٣) الخبر: ٧٠٠- هو في ابن كثير ١: ١٣٩. وقد مضى نحوه مختصرًا، بإسناد آخر: ٦٩٠.
(٤) الأثر: ٧٠١- لم أجده في مكان.
507
٧٠٢ - حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم: فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تُحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر، فقال: إني خالقٌ بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم (١).
قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى. فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته (٢)، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم. إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية. وأما خبرُ الله عن أنه"من الجن"، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.
(١) الأثر: ٧٠٢- في ابن كثير ١: ١٣٩، والدر المنثور ١: ٥٠ وقال ابن كثير في إسناده: "وهذا غريب، ولا يكاد يصح إسناده، فإن فيه رجلا مبهمًا، ومثله لا يحتج به، والله أعلم".
(٢) في المطبوعة: "وليس فيما نزل الله جل ثناؤه... "، وهو خطأ صرف. وقوله بعد: "وإخباره عما خلق منه إبليس" معطوف على قوله: "وفي ترك... ".
508
القول في معنى ﴿إِبْلِيسَ﴾
قال أبو جعفر: وإبليس"إفعِيل"، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. كما:-
٧٠٣ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته (١).
٧٠٤ - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: كان اسم إبليس"الحارث"، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا (٢).
قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: (فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [سورة الأنعام: ٤٤]، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنًا، كما قال العجَّاج:
يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا؟... قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا (٣)
(١) الخبر: ٧٠٣- مختصر من الخبر السالف رقم: ٦٠٦، وهو في الدر المنثور ١: ٥٠، والشوكاني ١: ٥٣.
(٢) الأثر: ٧٠٤- في الدر المنثور ١: ٥٠، مقتصرًا على أوله إلى قوله: "الحارث". وجاء النص في المطبوعة هكذا: "وإنما سمى إبليس حين أبلس فغير كما قال الله جل ثناؤه... " أسقطوا ما أثبتناه من المخطوطة، لأنهم لم يحسنوا قراءة الكلمة الأخيرة، فبدلوها ووصلوا الكلام بعد الحذف، وهو تصرف معيب. وقوله: "متحيرًا" كتبت في المخطوطة ممجمجة هكذا"مجرا" غير معجمة. والإبلاس: الحيرة، فكذلك قرأتها.
(٣) ديوانه ١: ٣١، والكامل ١: ٣٥٢، واللسان: (بلس)، (كرس). المكرس: الذي صار فيه الكرس، وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار. وأبلس الرجل: سكت غما وانكسر وتحير ولم ينطق.
509
وقال رؤبة:
أَيُّهَا الشَّامِتُ المُعَيِّر بِالدَّ هْرِ أَأَنْتَ المبرَّأُ المَوْفُورُ
وَحَضَرَتْ يَوْمَ الْخَمِيسِ الأَخْمَاسْ وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاسْ (١)
يعني به اكتئابًا وكسوفًا.
فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت،"إفعيل" من الإبلاس، فهلا صُرف وأجري؟ قيل: تُرك إجراؤه استثقالا إذ كان اسمًا لا نظيرَ له من أسماء العرب، فشبَّهته العرب - إذْ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تُجرَى. وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يُجروه. وهو من"أسحقه الله إسحاقًا"، إذْ كان وَقَع مبتدَأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مَجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف. وكذلك"أيوب"، إنما هو"فيعول" من"آب يؤبُ".
وتأويل قوله:"أبَى"، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له."واستكبر"، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهودُ الذين كانوا بين ظهرانيْ مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله ﷺ وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عالمين. ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم الله بخبره عن إبليس
(١) ديوانه: ٦٧، واللسان (بلس)، ورواية ديوانه"وعرفت يوم الخميس". وبين البيتين بيت آخر هو: "وَقَدْ نَزَتْ بَيْنَ التَّرَاقِي الأَنْفَاسْ"
510
الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله ﷺ ونبوّته، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا.
ثم وَصَف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضرَبه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمرَه الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه:"وكان" - يعني إبليس -"منَ الكافرين"- من الجاحدين نعمَ الله عليه وأياديَه عنده، بخلافه عليه فيما أمرَه به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعمَ ربِّها التي آتاها وآباءها قبلُ: من إطعام الله أسلافَهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خصَّ الذين أدركوا محمدًا ﷺ بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجةَ الله عليهم، فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى"الكافرين"، فجعله من عِدَادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضَهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة التوبة: ٦٧] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكُفر بالله ومخالفتِه أمرَه، وإن كان مخالفًا جنسُه أجناسَهم ونسبُه نسبهم. ومعنى قوله:"وكان من الكافرين" أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ.
وقد رُوي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول: في تأويل قوله:"وكان منَ الكافرين"، في هذا الموضع، وكان من العاصين.
٧٠٥ - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"وكان من الكافرين"، يعني العاصين (١).
(١) الأثر ٧٠٥- في ابن كثير ١: ١٤٠.
511
٧٠٦ - وحُدّثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه.
وكان سجود الملائكة لآدم تكرمةً لآدم وطاعة لله، لا عبادةً لآدم، كما:-
٧٠٧ - حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم"، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدمُ قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض. ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول:"وقلنا يا آدمُ اسكنْ أنت وزوجك الجنة وكُلا منها رَغدًا حيثُ شئتما ولا تَقربا هذه الشجرةَ فتكونا منَ الظالمين فأزلهما الشيطانُ عنها فأخرَجهما مما كانا فيه". فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِن وأظهرَ التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلَّت عليه اللعنة. كما:-
٧٠٨ - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن
(١) الأثر: ٧٠٧- في ابن كثير ١: ١٤٠، وفي الدر المنثور ١: ٥٠ مطولا.
512
ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلَّم الله آدم الأسماء كلها (١).
٧٠٩ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبَى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدمَ وقد علّمه الأسماء كلها، فقال:"يا آدم أنبئهم بأسمائهم" إلى قوله"إنك أنت العليم الحكيم" (٢).
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خُلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنًا. فقال ابن عباس بما:-
٧١٠ - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرِج إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له:"يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما" (٣).
(١) الخبر: ٧٠٨- لم أجده في مكان.
(٢) الأثر: ٧٠٩- لم أجده في مكان بنصه هذا، لكنه من صدر الأثر الآتي بعد رقم: ٧١١.
(٣) الأثر: ٧١٠- في تاريخ الطبري ١: ٥٢، مع اختلاف في بعض اللفظ. وابن كثير ١: ١٤٢ والشوكاني ١: ٥٦، وقوله: "وحشًا" أي ليس معه غيره، خلوًا. ومكان وحش: خال.
513
فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خُلقت بعد أن سَكن آدمُ الجنةَ، فجعلت له سكنًا.
وقال آخرون: بل خُلقت قبل أن يسكن آدم الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
٧١١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال:"يا آدم أنبئهم بأسمائهم" إلى قوله:"إنك أنت العليم الحكيم". قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا "يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين" (١)
قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزَوْجتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْد شَنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة (٢).
* * *
(١) الأثر: ٧١١- في تاريخ الطبري ١: ٥٢ وابن كثير ١: ١٤١-١٤٢. وقوله"قال له قبيلا" أي عيانًا. وفي حديث أبي ذر (ابن كثير ١: ١٤١) "قال: قلت يا رسول الله؛ أرأيت آدم؛ أنبيًّا كان؟ قال: نعم نبيًّا رسولا يكلمه الله قبيلا - أي عيانًا". وجاء هذا الحرف في المطبوعة: "قال له فتلا يا آدم اسكن... " وهو خطأ. وفي تاريخ الطبري"قال له قيلا يا آدم... " وهو أيضًا خطأ.
(٢) انظر اختلافهم في ذلك في مادته (زوج) من لسان العرب.
514
القول في تأويل قوله: ﴿وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾
قال أبو جعفر: أما الرَّغَد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال: أرْغد فلان: إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء، كما قال امرؤ القيس بن حُجْر:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمَا يَأْمَنُ الأَحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ (١)
٧١٢ - وكما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،"وكلا منها رَغدا"، قال: الرغد، الهنيء. (٢)
٧١٣ - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله:"رغدًا"، قال: لا حسابَ عليهم.
٧١٤ - وحدثنا المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد مثله.
٧١٥ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد:"وكلا منها رغدًا"، أي لا حسابَ عليهم. (٣)
٧١٦ - وحُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة،
(١) لم أجد البيت فيما جمعوا من شعر امرئ القيس.
(٢) الخبر: ٧١٢ - في الدر المنثور ١: ٥٢، والشوكاني ١: ٥٦.
(٣) الآثار: ٧١٣ - ٧١٥ في الدر المنثور ١: ٥٢، والشوكاني ١: ٥٦.
515
عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وكلا منها رغدًا حيث شئتما"، قال: الرغد: سَعة المعيشة. (١)
فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقًا واسعًا هنيئًا من العيش حيث شئتما.
٧١٧ - كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما"، ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدمَ، كما ابتُلي الخلقُ قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رَغدا حيث شاء، غيرَ شجرة واحدة نُهي عنها، وقُدِّم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾
قال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) [سورة الرحمن: ٦]، يعني بالنجم ما نَجمَ من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقلّ على ساق.
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السُّنبلة.
* ذكر من قال ذلك:
٧١٨ - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني،
(١) الخبر: ٧١٦ - في الدر المنثور ١: ٥٢ والشوكاني ١: ٥٦.
(٢) الأثر: ٧١٧ - في الدر المنثور ١: ٥٣ من غير طريق الطبري. وقوله: "قدم إليه فيها" أي أمر فيها بأمر أن لا يقربها. ويقال: تقدمت إليه بكذا وقدمت إليه بكذا: أي أمرته بكذا.
516
عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة. (١)
٧١٩ - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عُتيبة - جميعًا عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله:"ولا تقرَبا هذه الشجرة"، قال: هي السنبلة.
٧٢٠ - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، مثله. (٢)
٧٢١ - وحدثنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية في قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة"، قال: السنبلة. (٣)
٧٢٢ - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، هي السنبلة. (٤)
٧٢٣ - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدمُ، والشجرة التي تاب عندها: فكتب إليه أبو الجلد:"سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني
(١) الخبر: ٧١٨ - في ابن كثير ١: ١٤٢، والدر المنثور ١: ٥٣، والشوكاني ١: ٥٦ وهو إسناد ضعيف. محمد بن إسماعيل الأحمسي سبق توثيقه: ٤٠٥ عبد الحميد بن عبد الرحمن، أبو يحيى الحماني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له الشيخان. النضر: هو ابن عبد الرحمن، أبو عمر الخزاز -بمعجمات - وهو ضعيف جدًّا، قال البخاري في الكبير ٤/٢/٩١: "منكر الحديث". وروى ابن أبي حاتم ٤/١/٤٧٥ عن أحمد بن حنبل، قال: "ليس بشيء، ضعيف الحديث"، وروي عن ابن معين أنه قال: "لا يحل لأحد أن يروي عنه".
(٢) الأثران: ٧١٩، ٧٢٠ - في ابن كثير ١: ١٤٢، والدر المنثور ١: ٥٣.
(٣) الأثر: ٧٢١ - عطية: هو العوفي. وقد أشار ابن كثير ١: ١٤٢ إلى هذه الرواية عنه.
(٤) الأثر: ٧٢٢ - لم أجده في مكان.
517
عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة. (١)
٧٢٤ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نُهي عنها آدمَ: البُرُّ (٢).
٧٢٥ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزَوجته، السُّنبلة. (٣)
٧٢٦ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ. (٤)
٧٢٧ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حُدِّث أنها الشجرةُ التي تحتكُّ بها الملائكة للخُلد.
٧٢٨ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يَمانَ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بنِ دثار، قال: هي السنبلة.
٧٢٩ - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم،
(١) الخبر: ١٢٣ - في ابن كثير ١: ١٤٢، وفي الأصول: "أبو الخلد"، وانظر ما سلف في التعليق على الأثر رقم: ٤٣٤. وهذا الإسناد ضعيف، لجهالة الرجل من بني تميم.
(٢) الخبر: ٧٢٤ - ابن كثير ١: ١٤٢، والدر المنثور ١: ٥٢، والشوكاني ١: ٥٦. والذي في ابن كثير: "عن رجل من أهل العلم، عن حجاج، عن مجاهد... ".
(٣) الأثر: ٧٢٥ - في ابن كثير ١: ١٤٢.
(٤) الأثر: ٧٢٦ - في ابن كثير ١: ١٤٢-١٤٣، والدر المنثور ١: ٥٢-٥٣. ولكن ليس فيهما قوله"وأهل التوراة... ".
518
عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقًا لولده في الدنيا (١)
قال أبو جعفر: وقال آخرون: هي الكرمة.
* ذكر من قال ذلك:
٧٣٠ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة.
٧٣١ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"ولا تقرَبا هذه الشجرة"، قال: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة.
٧٣٢ - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: الشجرة هي الكَرْم.
٧٣٣ - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: هو العِنَب في قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة".
٧٣٤ - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بَيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة:"ولا تقرَبا هذه الشجرة"، قال: الكرمُ.
٧٣٥ - وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة:"ولا تقربا هذه الشجرة"، قال: الكرم.
٧٣٦ - وحدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر.
٧٣٧ - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا
(١) الآثار: ٧٢٧ - ٧٢٩: لم أجدها بلفظها في مكان.
519
عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مُسلم، عن سعيد بن جبير، قوله"ولا تقربا هذه الشجرة"، قال: الكرم.
٧٣٨ - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السُّدّيّ، قال: العنب.
٧٣٩ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عِنَب (١).
وقال آخرون: هي التِّينة.
* ذكر من قال ذلك:
٧٤٠ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن بعض أصحاب النبي ﷺ قال: تينة. (٢)
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله:"ولا تقربا هذه الشجرة"، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها، بنصٍّ عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا.
فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل
(١) الآثار: ٧٣٠ -٧٣٩: مذكورة بلا تعيين في ابن كثير ١: ١٤٢، والدر المنثور ١: ٥٣ والشوكاني ١: ٥٦.
(٢) الخبر: ٧٤٠ - في ابن كثير ١: ١٤٣، والدر المنثور ١: ٥٣، والشوكاني ١: ٥٦.
520
شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك؟ (١) وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه (٢)، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين".
فقال بعض نحويّي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربَا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء. وجوابُ الجزاء يعمل فيه أوّله، كقولك: إن تَقُم أقُم، فتجزم الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله"فتكونا"، لما وقعت الفاء في موضع شرط الأوّل نُصب بها، وصُيرت
(١) في المخطوطة خلاف ما في المطبوعة، وهذا نصه"ولا علم عندنا بأي ذلك. وقد قيل كانت شجرة البر... "، كأن الناسخ أسقط سطرا فاختل الكلام. وكان في المطبوعة: "فأنى يأتي ذلك من أتى" بزيادة قوله"من أتى" والظاهر أن التحريف قديم، فإن ابن كثير نقل نص الطبري هذا في تفسيره ١: ١٤٣ فحذف قوله: "فأنى يأتي ذلك"، وقد استظهرت أن الصواب حذف"من أتى"، ليكون الاستفهام منصبًّا على كيفية إتيان العلم بهذه الشجرة، وليس في القرآن عليها دليل ولا في السنة الصحيحة. وأما الجملة كما جاءت في المطبوعة، فهي فاسدة مفسدة لما أراد الطبري.
(٢) في المطبوعة: "وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم... "، وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير (١: ١٤٣).
521
بمنزلة "كي" في نصبها الأفعال المستقبلة، للزومها الاستقبال. إذ كان أصل الجزاء الاستقبال.
وقال بعض نحويّي أهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أنّ "أن" غير جائز إظهارها مع"لا"، ولكنها مضمرة لا بد منها، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي"أن" - على الاسم. كما غير جائز في قولهم:"عسى أن يفعل"، عسى الفعل. ولا في قولك:"ما كان ليفعل": ما كان لأن يَفعل.
وهذا القولُ الثاني يُفسده إجماعُ جميعهم على تخطئة قول القائل:"سرني تقوم يا هذا"، وهو يريد سرني قيامُك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل:"لا تقم" إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم -على صحة قول القائل:"لا تقم"، وفساد قول القائل:"سرني تقوم" بمعنى سرني قيامك - الدليل الواضح على فسادِ دعوى المدعي أنّ مع"لا" التي في قوله:"ولا تقربا هذه الشجرة"، ضمير"أن" - وصحةِ القول الآخر.
وفي قوله"فتكونا من الظالمين"، وجهان من التأويل:
أحدهما أن يكون"فتكونا" في نية العطف على قوله"ولا تقربا"، فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين. فيكون"فتكونا" حينئذ في معنى الجزم مجزومًا بما جُزم به"ولا تقربا"، كما يقول القائل: لا تُكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس:
فُقُلْتُ لَهُ:
صَوِّبْ وَلا تَجْهَدَنَّهُ فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ (١)
فجزم"فيذرِك" بما جزم به"لا تجهدنه"، كأنه كرّر النهي.
(١) ديوانه، من رواية الأعلم الشنتمري، القصيدة رقم: ٣٠، البيت: ٢٦. وفي معاني القرآن للفراء ١: ٢٦، ونسبه سيبويه في الكتاب ١: ٤٥٢، لعمرو بن عمار الطائي، وسيذكره الطبري في (١٥: ١٦٤ بولاق) غير منسوب، ورواية سيبويه"فيدنك من أخرى القطاة" وقوله: "فقلت له" يعني غلامه، وذكره قبل أبيات. وقوله: "صوب"، أي خذ الفرس بالقصد في السير وأرفق به ولا تجهده بالعدو الشديد فيصرعك. أذراه عن فرسه: ألقاه وصرعه. والقطاة: مقعد الردف من الفرس. وأخرى القطاة: آخر المقعد. ورواية الشنتمري: "من أعلى القطاة". وهما سواء.
522
والثاني أن يكون"فتكونا من الظالمين"، بمعنى جواب النهي. فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قَرَبتماها كنتما من الظالمين. كما تقول: لا تَشتمْ عمرًا فيشتُمك، مجازاةً. فيكون"فتكونا" حينئذ في موضع نَصب، إذْ كان حرفًا عطف على غير شكله، لمّا كان في"ولا تقربا" حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في"فتكونا"، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة.
وأما تأويل قوله:"فتكونا من الظالمين"، فإنه يعني به فتكونا من المتعدِّين إلى غير ما أذِن لهم وأبيح لهم فيه، وإنما عَنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة، كنتما على منهاج من تعدَّى حُدودي، وَعصى أمري، واستحلَّ محارمي، لأن الظالمين بعضُهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين.
وأصل"الظلم" في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
إِلا أُوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ (١)
فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها. (٢) ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث:
(١) سلف تخريجه وشرحه في هذا الجزء: ١٨٣.
(٢) في المطبوعة: "لوضع الحفرة منها في غير موضعها"، وفي المخطوطة أيضًا: "لموضع الحفر فيها في غير موضعها".
523
ظَلَمَ الْبِطَاحَ بِهَا انْهِلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ الْمُقْلَعِ (١)
وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه.
وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى. وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القَرَأة (٢) في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم،"فأزلَّهما" بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال:"فأخرجهما" يعني إبليس"مما كانا فيه"، لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.
وقرأه آخرون:"فأزَالهما"، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله:"فأزلهما"، ما:-
(١) جاء أيضًا في تفسيره (٢: ٥٠ بولاق) منسوبًا لعمرو بن قميئة. وصحة نسبته إلى الحادرة الذبياني، وهو في ديوان الحادرة، قصيدة: ٤، البيت رقم: ٧، وشرح المفضليات: ٥٤. والبطاح جمع بطحاء وأبطح: وهو بطن الوادي. وأنهل المطر انهلالا: اشتد صوبه ووقعه. والحريصة والحارصة: السحابة التي تحرص مطرتها وجه الأرض، أي تقشره من شدة وقعها. والنطاف جمع نطفة: وهي الماء القليل يبقى في الدلو وغيره. وقوله: "بعيد المقلع": أي بعد أن أقلعت هذه السحابة. ورواية المفضليات: "ظلم البطاح له" وقوله: "له": أي من أجله.
(٢) في المطبوعة: "اختلف القراء" والقَرَأَة جمع قارئ، وانظر ما مضى: ٥١، تعليق، وص: ٦٤، ١٠٩ وغيرهما.
524
٧٤١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى:"فأزلهما الشيطان" قال: أغواهما. (١)
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ:"فأزلَّهما"، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه. بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله"فأزالهما"، فلا وجه - إذْ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال:"فأزالهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه" فيكون كقوله:"فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه. ولكن المفهوم أن يقال: (٢) فاستزلهما إبليسُ عن طاعة الله - كما قال جل ثناؤه:"فأزلهما الشيطان"، وقرأت به القراء - فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة.
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليسُ آدمَ وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟
قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها (٣)
فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:-
٧٤٢ - حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرِب (٤) قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما
(١) الخبر: ٧٤١ - في الدر المنثور ١: ٥٣، والشوكاني ١: ٥٦.
(٢) في المطبوعة: "لكن المعنى المفهوم"، زاد ما لا جدوى فيه.
(٣) في المطبوعة: "سنذكر" بغير واو.
(٤) في المطبوعة: "عمرو" بدل"عمر"، وفي المخطوطة وابن كثير: "مهران"، بدل"مهرب". وكلاهما خطأ، صوابه ما أثبتنا: "عمر بن عبد الرحمن بن مهرب"، فهذا الشيخ ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٣/١/١٢١، وقال: "سمع وهب بن منبه، روى عنه إبراهيم بن خالد الصنعاني، وعبد الرزاق". ثم روى عن يحيى بن معين، قال: "عمر بن عبد الرحمن بن مهرب: ثقة". ولم أجد له ترجمة أخرى. و"مهرب": لم أجد نصًّا بضبطها في هذا النسب، إلا قول صاحب القاموس أنهم سموا من مادة (هرب) بوزن"محسن" - يعني بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه. ووقع اسم هذا الشيخ محرفًا إلى شيخين، في تاريخ الطبري ١: ٥٤ - في هذا الإسناد، هكذا: "معمر عن عبد الرحمن بن مهران"!
525
أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه"وذريته" - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء (١) فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب (٢) ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر: (٣) قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء (٤).
وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:
٧٤٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم:"اسكن أنتَ وزوجُك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين"، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق (٥) - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه (٦)، فخرج إليه فقال: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) [سورة طه: ١٢٠] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين (٧)، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة (٨).
(١) في المطبوعة: "فجاء به"، والذي أثبتناه من المخطوطة وتاريخ الطبري.
(٢) في المطبوعة: "أنا هنا يا رب"، وأثبتناه ما في المخطوطة وتاريخ الطبري.
(٣) في المطبوعة: "قال عمرو"، وأثبتنا الصواب من المخطوطة، ومما ذكرنا آنفًا.
(٤) الأثر: ٧٤٢ - في تاريخ الطبري ١: ٥٤، بهذا الإسناد، وأوله في ابن كثير ١: ١٤٣.
(٥) في المطبوعة وتاريخ الطبري ١: ٥٣: "فأدخلته في فمها، فمرت الحية... "، وما أثبتناه من المخطوطة.
(٦) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "فكلمة من فمها". وفي المطبوعة: "فلم يبال بكلامه".
(٧) في المخطوطة: "وتكونا من الخالدين".
(٨) الخبر: ٧٤٣. بنصه في تاريخ الطبري ١: ٥٣، وببعض الاختلاف في الدر المنثور ١: ٥٣، والشوكاني ١: ٥٦.
526
٧٤٤ - حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة. (١)
٧٤٥ - وحُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة (٢)، وقيل لهما:"لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنُهيتما عن شيء؟ قالت: نعم! عن هذه الشجرة فقال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [سورة الأعراف: ٢٠] قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال:"فأزالهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه" (٣)، قال: فأخرج آدم من الجنة (٤).
٧٤٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه (٥)، فأتاه من قِبَل الخلد. (٦).
(١) الأثر: ٧٤٤ - في تاريخ الطبري ١: ٥٥.
(٢) في تاريخ الطبري ١: ٥٥، زيادة سياقها: "... كلها - يعني آدم - إلا الشجرة".
(٣) في تاريخ الطبري ١: ٥٥"فأزلهما الشيطان".
(٤) الأثر: ٧٤٥ - في تاريخ الطبري ١: ٥٥
(٥) في التاريخ: "لو أنا خلدنا". وفي المطبوعة: "فاغتنمها منه الشيطان"، لم يحسنوا قراءة المخطوطة فبدلوا الحرف، وأثبتنا ما في المخطوطة والتاريخ. يقال: سمع مني كلمة فاغتمزها، أي استضعفها ووجد فيها مغمزًا يعاب يؤتي من قبله.
(٦) الأثر: ٧٤٦ - في تاريخ الطبري ١: ٥٥.
528
٧٤٧ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت: أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هَل أدلك على شجرة الخلد ومُلك لا يبلى؟ وقال:"ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين". أي تكونا مَلَكين، أو تخلدَا، إن لم تكونا ملكين (١) - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه:"فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ" (٢).
٧٤٨ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا! إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدَت لهما سَوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفرّ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنَّى أُتِيت؟ قال: من قِبَل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها عليَّ أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة (٣)، وأن أجعلها سفيهةً فقد كنت خلقتها حَليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتَضع يُسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حوّاء. لكان نساء الدنيا لا يَحضن، ولَكُنَّ حليماتٍ، وكن يحملن يُسرًا ويضعن يسُرًا. (٤)
(١) في المخطوطة: "أي تكونا ملكين، أو تخلدان إن لم... " وفي التاريخ ١: ٥٥: "أي تكونان ملكين أو تخلدان - أي إن لم... ".
(٢) الأثر: ٧٤٧ - في تاريخ الطبري ١: ٥٥.
(٣) في المخطوطة: "كما دمت هذه الشجرة".
(٤) الأثر: ٧٤٨ - في تاريخ الطبري ١: ٥٥.
529
٧٤٩ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثْني - ما أكل آدم من الشجرة وهو يَعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل (١).
٧٥٠ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أيُّها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته (٢)، فكلّ الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلّم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتِني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها؛ وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وَجَدتُموها، أخفروا ذمَّةَ عدوّ الله فيها (٣).
٧٥١ - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرُسون: إنما كلم آدمَ الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس.
٧٥٢ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال:"ما نهاكما رَبُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن
(١) الأثر: ٧٤٩ - في تاريخ الطبري ١: ٥٥ - ٥٦، وهو هناك تام.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة والدر المنثور: "أنها تحمله حتى يدخل... "، وأثبت ما في تاريخ الطبري ١: ٥٤، فهو أجود وأصح.
(٣) الخبر: ٧٥٠ - في تاريخ الطبري ١: ٥٣ -٥٤، والدر المنثور ١: ٥٣. وأخفر الذمة والعهد: نقضهما، ولم يف بهما.
530
الناصحين". قال: فقطعت (١) حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [سورة الأعراف: ٢٢]. لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتِها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن (٢) في كلّ هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ (٣).
* * *
قال أبو جعفر: وقد رُويت هذه الأخبار - عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم - في صفة استزلال إبليس عدوِّ الله آدمَ وزوجتَه حتى أخرجهما من الجنة.
وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله مُوافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبديَ لهما ما وُري عنهما من سَوآتهما، وأنه قال لهما:"ما نهاكما رَبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين"، وأنه"قاسمَهما إني لكما لمن الناصحين" مُدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه - عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إني لكما لمن الناصحين - الدليلُ الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير مَعقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله"فوسوس إليه الشيطان"، لو كان ذلك كان منه إلى آدم - على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم
(١) في المطبوعة: "فعضت حواء الشجرة"، وأثبتنا ما في المخطوطة وتاريخ الطبري ١: ٥٤.
(٢) في المطبوعة: "فتدمين"، وأثبتنا ما في المخطوطة والتاريخ.
(٣) الأثر: ٧٥٢ - في تاريخ الطبري ١: ٥٤.
531
عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحيل - لما قال جلّ ثناؤه:"وقاسمَهما إني لكما لمن الناصحين". كما غير جائز أن يقول اليوم قائلٌ ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصحٌ فيما زيَّن لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدمَ وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليومَ وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه:"وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين"، ولكن ذلك كان - إن شاء الله - على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله.
فأما سَبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مُدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه (١)، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه (٢) ؛ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك - إن شاء الله - كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما:-
٧٥٣ - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خَلص إلى آدم وزوجته بسُلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نَوْمته وفي يَقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوَه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجلّ:"فأزلهما الشيطان عنها، فأخرَجهما مما كانا فيه" (٣)، وقال: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ
(١) في المطبوعة: "إذا كان ذلك قولا لا يدفعه قول... ".
(٢) في المطبوعة: "والقول في ذلك... ".
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وقد قال الله فوسوس لهما الشيطان، فأخرجهما مما كان فيه"، وهذه ليست آية، والصواب أنه أراد آية سورة البقرة هذه.
532
الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأعراف: ٢٧] وقد قال الله لنبيه عليه السلام: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رُويت عن النبي ﷺ أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم (١). ثم قال ابن إسحاق (٢) : وإنما أمرُ ابن آدم فيما بينه وبين عدوِّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم. فقال الله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [سورة الأعراف: ١٣]. ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصَّ الله علينا من خبرهما، فقال: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) [سورة طه: ١٢٠]، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه - فالله أعلمُ أيّ ذلك كان - فتابا إلى ربهما.
* * *
قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق - لو كان قد أيقن في نفسه - أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراضُ به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكّه؟ والله نسأل التوفيق.
* * *
(١) حديث"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" - حديث صحيح جدًّا - رواه أحمد والشيخان وأبو داود، من حديث أنس، ورواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه، من حديث صفية، وهي بنت حيي، أم المؤمنين، كما في الجامع الصغير: ٢٠٣٦.
(٢) في المطبوعة إسقاط: "ثم".
533
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾
قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله"فأخرجهما"، فإنه يعني: فأخرج الشيطانُ آدمَ وزوجته،"مما كانا"، يعني مما كان فيه آدمُ وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان - وإن كان الله هو المخرجَ لهما - لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه (١) كما يقول القائل لرجل وَصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه:"ما حوَّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت"، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه، جازَ له إضافة تحويله إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾
قال أبو جعفر: يقال هَبط فلان أرضَ كذا وواديَ كذا، إذا حلّ ذلك (٢) كما قال الشاعر:
مَا زِلْتُ أَرْمُقُهُمْ، حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ أَيْدِي الرِّكَابِ بِهِمْ مِنْ رَاكِسٍ فَلَقَا (٣)
(١) في المطبوعة: "وأضيف ذلك... ".
(٢) لعل صواب العبارة: "إذا حل ذلك الموضع"، فسقطت كلمة من الناسخين.
(٣) البيت لزهير بن أبي سلمى، ديوانه: ٣٧، أرمقهم: يعني أحبابه الراحلين، وينظر إليهم حزينًا كئيبًا، والركاب: الإبل التي يرحل عليها. وراكس: واد في ديار بني سعد بن ثعلبة، من بني أسد. وفلق وفالق: المطمئن من الأرض بين ربوتين أو جبلين أو هضبتين، وقالوا: فالق وفلق، كما قالوا: يابس ويبس (بفتحتين).
534
وقد أبان هذا القولُ من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أنّ المخرِجَ آدمَ من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودلّ بذلك أيضًا على أنّ هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجَمْع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبُّب إبليس ذلك لهما (١)، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"اهبطوا"، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به.
٧٥٤ - فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عَوَانة، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح:"اهبطوا بَعضُكم لبعض عَدوٌّ"، قال: آدم وحواءُ وإبليس والحية (٢).
٧٥٥ - حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هارون، قالا حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌّ"، قال: فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية (٣).
٧٥٦ - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله:"اهبِطوا بعضكم لبعض عدو"، قال: آدم وإبليس والحية (٤).
(١) لعل الأجود: "وتسبيب إبليس ذلك لهما"، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٢) الأثر: ٧٥٤ - في الدر المنثور ١: ٥٥.
(٣) الأثر: ٧٥٥ - في تاريخ الطبري ١: ٥٦، والظاهر أن إسناده هنا سقط منه شيء، وتمامه في التاريخ: "... عن السدي - في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهبطوا... ". وهو الإسناد الذي يكثر الطبري من الرواية به.
(٤) الأثر: ٧٥٦ - في تاريخ الطبري ١: ٥٦.
535
٧٥٧ - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"اهبطوا بعضكم لبعض عدو"، آدم وإبليس والحية، ذريةٌ بعضُهم أعداءٌ لبعضٍ.
٧٥٨ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد:"بعضكم لبعض عدوٌّ"، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.
٧٥٩ - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"بعضكم لبعض عدوٌّ" قال: يعني إبليس وآدم. (١)
٧٦٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: بعضهم لبعض عدوّ: آدم وحواء وإبليس والحية (٢).
٧٦١ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: آدم وحواء وإبليس والحية. (٣)
٧٦٢ - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: لهما ولذريتهما. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدمَ وزوجته وإبليس والحية؟
(١) الآثار: ٧٥٧ - ٧٥٩ لم أجدها بإسنادها في مكان.
(٢) الخبر: ٧٦٠ - كالذي يليه من طريق آخر.
(٣) الخبر: ٧٦١ - في تاريخ الطبري ١: ٥٦.
(٤) الأثر: ٧٦٢ - لم أجده في مكان.
536
قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسدهُ إياه، واستكبارُه عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [سورة ص: ٧٦]. وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوةُ المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربّه في تكبره عليه ومُخالفته أمرَه. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمانٌ بالله. وأما عداوة إبليسَ آدمَ فكفرٌ بالله.
وأما عدَاوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: مَا سالمناهُنّ مُنذ حَاربْناهن، فمن تركهنّ خشيةَ ثأرهنَّ فليس منَّا.
٧٦٣ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حَجاج بن رِشْدين، قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح، عن ابن عَجلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: ما سَالمناهُنَّ مُنذ حارَبناهنّ، فمن ترك شيئًا منهنّ خيفةً، فليس منا (١)
(١) الحديث: ٧٦٣ - إسناده جيد. والحديث مروي بأسانيد أخر صحاح، كما سنذكر، إن شاء الله. حجاج: هو ابن رشدين بن سعد المصري، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ١/٢/١٦٠، وذكر أنه يروي عن"حيوة بن شريح"، ويروي عنه"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم". وذكر أنه سأل عنه أبا زرعة، قال: "لا علم لي به، لم أكتب عن أحد عنه". وترجمه الحافظ في لسان الميزان، ونقل أنه ضعفه ابن عدي، وأنه مات سنة ٢١١، وأن ابن يونس لم يذكر فيه جرحًا، "وقال الخليلي: هو أمثل من أبيه، وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به"، وأن ابن حبان ذكره في الثقات. وهذا كاف في توثيقه، خصوصًا وأن ابن يونس أعرف بتاريخ المصريين.
وأبوه اسمه"رشدين"، بكسر الراء والدال بينهما شين معجمة ساكنة، وبعد الدال ياء ونون. ووقع في المطبوعة"رشد"؛ وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٩٥٨٦، عن يحيى - وهو القطان، ١٠٧٥٢، عن صفوان - وهو ابن عيسى الزهري، كلاهما عن ابن عجلان، به (٢: ٤٣٢، ٥٢٠ من طبعة الحلبي). ورواه أيضًا قبل ذلك مختصرًا: ٧٣٦٠ (٢: ٢٤٧) عن سفيان بن عيينة. ورواه أبو داود: ٥٢٤٨ (٤: ٥٣٤ عون المعبود)، من طريق سفيان، تاما. وهذه أسانيد صحاح.
وورد معناه من حديث ابن عباس، في المسند أيضًا: ٢٠٣٧، ٣٢٥٤. وقريب من معناه من حديث ابن مسعود، في المسند أيضًا: ٣٩٨٤.
537
قال أبو جعفر: وأحسبُ أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزلّه عن طاعة ربه في أكله ما نُهي عن أكله من الشجرة.
٧٦٤ - وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثني آدم - جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن قَتل الحيَّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُلقتْ هي والإنسانُ كل واحد منهما عدوّ لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدَغته أوجعته، فاقتلها حَيث وجدتها (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم بما:-
٧٦٥ - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"ولكم في الأرض مُستقَرٌّ" قال: هو قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا) [سورة البقرة: ٢٢].
٧٦٦ - وحُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولكم في الأرض مستقرٌّ"، قال: هو قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) (٢) [سورة غافر: ٦٤].
(١) الحديث: ٧٦٤ - في الدر المنثور ١: ٥٥، ونسبه للطبري فقط. وهو في مجمع الزوائد ٤: ٤٥ بلفظ آخر، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جابر غير مسمى، والظاهر أنه الجعفي، وثقه الثوري وشعبة، وضعفه الأئمة أحمد وغيره.
(٢) الأثران: ٧٦٥ - ٧٦٦: لم أجدهما في مكان.
538
وقال آخرون: معنى ذلك ولكم في الأرض قَرَار في القبور.
* ذكر من قال ذلك:
٧٦٧ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ:"ولكم في الأرض مستقر"، يعني القبور (١).
٧٦٨ - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال:"ولكم في الأرض مستقرٌّ"، قال: القبور (٢).
٧٦٩ - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"ولكم في الأرض مستقر"، قال: مقامهم فيها (٣).
* * *
قال أبو جعفر: والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذْ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودًا حالا فذلك المكان من الأرض مستقره.
إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنزلا بأماكنهم ومستقرِّهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله:"ومتاع" يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بَلاغ إلى الموت.
* ذكر من قال ذلك:
٧٧٠ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
(١) الأثر: ٧٦٧ - لم أجده في مكان.
(٢) الخبر: ٧٦٨ - في الدر المنثور ١: ٥٥، وهو من تمام الخبر: ٧٦١.
(٣) الأثر: ٧٦٩ - لم أجده في مكان.
539
أسباط، عن السُّدّيّ في قوله:"ومتاعٌ إلى حين"، قال يقول: بلاغ إلى الموت (١).
٧٧١ - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس:"ومتاعٌ إلى حين"، قال: الحياة (٢).
* * *
وقال آخرون: يعني بقوله:"ومتاعٌ إلى حين"، إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
٧٧٢ - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"ومتاع إلى حين"، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.
* * *
وقال آخرون:"إلى حين"، قال: إلى أجل.
* ذكر من قال ذلك:
٧٧٣ - حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ومتاع إلى حين"، قال: إلى أجل (٣).
* * *
والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك (٤). فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا (٥)، ولجسمه منزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات
(١) الأثر: ٧٧٠ - لم أجده في مكان.
(٢) الأثر: ٧٧١ - في الدر المنثور ١: ٥٥، وهو من تمام الأثرين: ٧٦١، ٧٦٨.
(٣) الأثران: ٧٧٢، ٧٧٣: لم أجدهما في مكان.
(٤) في المخطوطة: "في معاش استمتع... ".
(٥) الكفات: الموضع الذي يضم فيه الشيء ويقبض.
450
بالآية - (١) إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قَصد بقوله:"ومتاعٌ إلى حين" بعضًا دون بعض، وخاصًّا دون عامٍّ في عقل ولا خبر - أن يكون ذلك في معنى العامِّ، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وَصفنا، فالواجب إذًا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض مَنازلُ ومساكنُ تستقرُّون فيها استقراركم - كان - في السموات، وفي الجنان في منازلكم منها (٢)، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرْماسكم وأجدَاثكم تُدفنون فيها (٣)، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: أما تأويل قوله:"فتلقى آدم"، فقيل: إنه أخذ وقَبِل (٤). وأصله التفعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبلَه عند قدومه من غيبته أو سفره، فكأنَّ ذلك كذلك في قوله:"فتلقى" (٥)، كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به. فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه. كما:-
٧٧٤ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن
(١) في المطبوعة: "إن لم يكن الله... "، وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "في الجنات".
(٣) الأرماس جمع رمس، والأجداث جمع جدث (بفتحتين) : وهما بمعنى القبر.
(٤) في المطبوعة: "أخذ. وقيل: أصله"، وهو خطأ.
(٥) في المطبوعة: "... يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر فكذلك ذلك في قوله"، تصرف نساخ.
541
زيد في قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات" الآية. قال: لقَّاهمَا هذه الآية: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١) [سورة الأعراف: ٢٣].
* * *
وقد قرأ بعضهم:"فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ"، فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك، وإن كان من وجهة العربية جائزًا - إذْ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يُوجه الفعل إلى أيهما شاء، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع"آدم" على أنه المتلقي الكلمات، لإجماع الحجة من القَرَأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف (٢)، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات. وغيرُ جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ.
* * *
واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها. آدمُ من ربه. فقال بعضهم بما:-
٧٧٥ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتابَ عليه"، قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جَنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب، ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.
(١) الأثر: ٧٧٤ - ابن كثير ١: ١٤٧، والدر المنثور ١: ٥٩، والشوكاني ١: ٥٨، وسيأتي برقم: ٧٩٢.
(٢) في المطبوعة: "لإجماع الحجة من القراء". والقَرَأَة: جمع قارئ، كما سلف مرارًا، انظر ما مضى ص ٥٢٤.
542
قال: فهو قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات" (١).
٧٧٦ - وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعْب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
٧٧٧ - وحدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه"، قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة (٢).
٧٧٨ - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، ذكر لنا أنه قال: يا رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذًا راجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا"ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تَغفر لَنا وتَرحمنا لنكونن من الخاسرين". (٣)
٧٧٩ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذًا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تغفرْ لَنا وتَرحمنا لنكونن من الخاسرين" (٤).
٧٨٠ - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات"، قال: رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال وسبقت رحمتك
(١) الخبر: ٧٧٥ - في ابن كثير ١: ١٤٧، والدر المنثور ١: ٥٨، والشوكاني ١: ٥٧.
(٢) الخبر: ٧٧٧ - لم أجده بلفظه في مكان.
(٣) الأثر ٧٧٨ - في ابن كثير ١: ١٤٧.
(٤) الأثر: ٧٧٩ - في ابن كثير ١: ١٤٧.
543
غضبك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ هل كنتَ كتبتَ هذا عليّ؟ قيل له: نعم. قال: رب، إن تبت وأصلحت، هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (١) [سورة طه: ١٢٢].
* * *
وقال آخرون بما:-
٧٨١ - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: حدثني من سمع عُبيد بن عُمير يقول: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال: فهو قول الله:"فتلقَّى آدم من ربه كلمات" (٢).
٧٨٢ - وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: أخبرني من سمع عُبيد بن عُمير، بمثله.
٧٨٣ - وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه.
٧٨٤ -وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، بنحوه.
٧٨٥ - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله.
وقال آخرون بما:-
٧٨٦ - حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن
(١) الأثر: ٧٨٠ - لم أجده بنصه في مكان.
(٢) الأثر: ٧٨١ - في ابن كثير ١: ٤٧. والدر المنثور ١: ٥٩.
544
بن شَريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، أنه قال: قوله:"فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه"، قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. (١)
٧٨٧- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، وقيس- جميعًا عن خُصَيف، عن مجاهد في قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال قوله:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تَغفر لنا وترحمنا"، حتى فرغ منها. (٢)
٧٨٨- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله:"فتلقى آدم من ربه كلمات" الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. (٣)
٧٨٩- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد:"فتلقى آدم من ربه كلمات" هو قوله:"ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لَنا وترحمنا" الآية. (٤)
٧٩٠- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
(١) الأثر: ٧٨٦- لم أجده في مكان. وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: ثقة، مترجم في التهذيب، وقال مصعب الزبيري: "وكان رجلا صالحًا". وقال أبو زرعة: "معاوية، وعبد الرحمن، وخالد - بنو يزيد بن معاوية: كانوا صالحي القوم". وأما الراوي عنه"حميد بن نبهان" فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لا أعرفه.
(٢) الأثر: ٧٨٧- في ابن كثير ١: ١٤٧، والدر المنثور ١: ٥٩، والشوكاني ١: ٥٨.
(٣) الأثر: ٧٨٨- في ابن كثير ١: ١٤٧.
(٤) الأثر: ٧٨٩- انظر الأثر السالف رقم: ٧٨٧.
545
ابن جُريج، عن مجاهد:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال: أي رب، أتتوب عليّ إن تبت؟ قال نعم. فتاب آدم، فتاب عليه ربه. (١)
٧٩١- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فتلقى آدم من ربه كلمات"، قال: هو قوله:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين (٢) ".
٧٩٢- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: هو قوله:"ربنا ظَلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (٣) ".
* * *
وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقَّى آدمَ كلماتٍ، فتلقَّاهُنّ آدمُ من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقِيله إياهنّ وعملِه بهنّ إلى الله من خطيئته، معترفًا بذنبه، متنصِّلا إلى ربه من خطيئته، نادمًا على ما سلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه.
والذي يدل عليه كتابُ الله، أن الكلمات التي تلقاهنّ آدمُ من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصِّلا بقيلها إلى ربه، معترفًا بذنبه، وهو قوله:"ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". وليس ما قاله من خالف قولنا هذا -من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قولٌ لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربّه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم -من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائبًا إليه من خطيئته- تعريف منه جل ذكره جميعَ المخاطبين
(١) الأثر: ٧٩٠- لم أجده في مكان.
(٢) الأثر: ٧٩١- في ابن كثير ١: ١٤٧، والدر المنثور ١: ٥٩.
(٣) الأثر: ٧٩٢- في ابن كثير ١: ١٤٧، والدر المنثور ١: ٥٩، ومضى رقم: ٧٧٤.
546
بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب (١)، وتنبيهٌ للمخاطبين بقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [سورة البقرة: ٢٨]، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأنّ خلاصهم مما هم عليه مُقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم به السالفَ إليهم من النعم التي خَصَّ بها أباهم آدم وغيرَه من آبائهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: وقوله:"فتاب عليه"، يعني: على آدم. والهاء التي في"عليه" عائدة على"آدم". وقوله:"فتاب عليه"، يعني رَزَقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلى الله، والأوبةُ إلى طاعته مما يَكرَهُ من معصيته.
* * *
(١) في المخطوطة: "التوبة من الذنوب"، بالحذف.
547
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنه هو التواب الرحيم"، أن الله جل ثناؤه هو التوّاب على من تاب إليه - من عباده المذنبين - من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك،
547
ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه (١)، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.
* * *
وأما قوله:"الرحيم"، فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة. ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله:"قلنا اهبطوا منها جميعًا" فيما مضى، (٢) فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع.
٧٩٣- وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله:"اهبطوا منها جميعًا"، قال: آدم وحواء والحية وإبليس. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"فإما يأتينكم"، فإنْ يَأتكم. و"ما" التي مع"إن" توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع"إن" أدخلت النون المشددة في"يأتينَّكم"، تفرقةً بدخولها بين"ما" التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين"ما" التي تأتي بمعنى"الذي"، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ"ما" التي مع"إن" التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست"ما" التي بمعنى"الذي".
وقد قال بعض نحويي أهل البصرة (٤) : إنّ "إمَّا"، "إن" زيدت معها"ما"،
(١) في المطبوعة: "ويؤوب من غضبه عليه"، بالحذف.
(٢) انظر ص: ٥٣٤.
(٣) الأثر: ٧٩٣- لم أجده بهذا الإسناد، وانظر، ما مضى الأرقام: ٧٥٤ وما بعده.
(٤) في المطبوعة: "نحويي البصريين".
548
وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته "ما"، لأن "ما" نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم:"بعينٍ مَّا أرَينَّك"، حين أدخلت فيها"ما" حسنت النون فيما ها هنا.
وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة (١) : أن"ما" التي مع"بعينٍ ما أرَينَّك" بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام.
وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام:"بعَين أراك"، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:-
٧٩٤- حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"فإما يأتينكم مني هدًى" قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. (٢).
فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله:"اهبطوا"، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: (فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [سورة فصلت: ١١]، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة
(١) في المطبوعة: "وقد أنكر جماعة... دعوى قائلي... ".
(٢) الأثر: ٧٩٤- في ابن كثير ١: ١٤٨، والدر المنثور ١: ٦٣، والشوكاني ١: ٥٨.
549
ابن مسعود: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم) [سورة البقرة: ١٢٨]، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا:"وأرنا مناسكنا". وكما يقول القائل لآخر:"كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم"، ونحو ذلك من الكلام.
وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، (١) والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا -وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله:"فإما يأتينّكم منّي هُدًى"، خطابًا له ولزوجته،"فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل" (٢) إلا على ما وصفتُ من التأويل.
وقول أبي العالية في ذلك -وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي (٣)، وهو آدمُ وزوجته وإبليس -كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله:"إنه هو التّواب الرحيم".
وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه:"اهبطوا منها جميعًا"، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. (٤). وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط
(١) في المطبوعة: "هو النبي صلى الله عليه وسلم".
(٢) في المطبوعة: "... مني هدى أنبياء ورسل... ".
(٣) في المطبوعة: "فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته... ".
(٤) في المطبوعة: "الرواية عنهم" بالحذف
550
حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله (١) (: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة البقرة: ٦]، وفي قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [سورة البقرة: ٨]، وأنّ حكمه فيهم -إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد ﷺ - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها.
وقوله:"فمن تَبعَ هُدَايَ"، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي (٢). كما:-
٧٩٥- حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"فمن تَبع هُدَاي"، يعني بياني. (٣).
* * *
وقوله:"فلا خوفٌ عليهم"، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:-
٧٩٦- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد:"لا خوفٌ عليهم"، يقول: لا خوف عليكم أمامكم (٤).
وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال:"ولا هم يحزنون".
(١) في المطبوعة: "وتعريف منه بذلك للذين".
(٢) في المطبوعة: "... بياني الذي أبينه على ألسن رسلي".
(٣) الأثر: ٧٩٥- لم أجده في مكان.
(٤) الأثر: ٧٩٦- لم أجده في مكان.
551
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩) ﴾
يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء (١).
"أولئك أصحاب النار"، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:-
٧٩٧- حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة (٢).
* * *
(١) انظر ما مضى ص: ٢٥٥.
(٢) الحديث: ٧٩٧- رواه الطبري هنا بثلاثة أسانيد، تنتهي إلى سعيد بن يزيد. وذكره ابن كثير ١: ١٥٨، ولكنه سها فذكر أنه رواه من طريقين، وهي ثلاثة كما ترى:
و"عقبة بن سنان بن عقبة بن سنان البصري" - شيخ الطبري في الإسناد الأول: ثقة، سمع منه أبو حاتم، وقال: "صدوق". ولم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل ٣/١/٣١١. و"غسان بن مضر الأزدي البصري": ثقة من شيوخ أحمد القدماء، وقال أحمد: "شيخ ثقة ثقة". وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/١٠٧، وابن أبي حاتم ٣/٢/٥١. و"أبو بكر بن عون" - شيخ الطبري في الإسناد الثالث: لم أستطع أن أعرف من هو؟ ولا أثر لذلك في الإسناد، فإن الطبري رواه عنه وعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن ابن علية. و"سعيد بن يزيد بن مسلمة أبو مسلمة الأزدي البصري": تابعي ثقة، روى له الجماعة. وترجمه البخاري ٢/١/٤٧٦، وابن أبي حاتم ٢/١/٧٣. وكنيته"أبو مسلمة" بالميم في أولها. ووقع في تفسير ابن كثير"أبو سلمة" بحذفها، وهو خطأ مطبعي.
وهذا الحديث رواه مسلم ١: ٦٧-٦٨، وابن ماجه: ٤٣٠٩- كلاهما من طريق بشر بن المفضل، عن سعيد بن يزيد أبي مسلمة، به. ولكنه عندهما أطول مما هنا. ولم يروه من أصحاب الكتب الستة غيرهما، كما يدل على ذلك تخريجه في جامع الأصول لابن الأثير: ٨٠٨٥. وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند: ١١٠٩٣ (٣: ١١ حلبي) عن ابن علية. ورواه أيضًا أحمد: ١١٧٦٩ (٣: ٧٨-٧٩)، ومسلم ١: ٦٨- كلاهما من طريق شعبة، عن سعيد بن يزيد.
وهو في الحقيقة جزء من حديث طويل، ورواه أحمد في المسند، مطولا ومختصرًا، من أوجه، عن أبي نضرة، منها: ١١٠٢٩، ١١١٦٨، ١١٢١٨- ١١٢٢٠ (٣: ٥، ٢٠، ٢٥-٢٦ حلبي).
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"يا بني إسرائيل" ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (١) وكان يعقوب يدعى"إسرائيل"، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و"إيل" هو الله، و"إسرا" هو العبد، كما قيل:"جبريل" بمعنى عبد الله. وكما:-
٧٩٨- حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله. (٢)
٧٩٩- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال:"إيل"، الله بالعبرانية. (٣)
(١) في المطبوعة: "يا ولد يعقوب... " بزيادة النداء".
(٢) الخبر: ٧٩٨- في ابن كثير ١:: ١٤٩، والدر المنثور ١: ٦٣. وهذا إسناد صحيح. إسماعيل بن رجاء بن ربيعة: ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. عمير مولى ابن عباس: هو عمير بن عبد الله الهلالي، مولى أم الفضل، وقد ينسب إلى ولاء زوجها"العباس"، كما ورد في إسناد حديث آخر في المسند: ٧٧، وقد ينسب إلى ولاء بعض أولادها، كما في هذا الإسناد. وهو تابعي ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم ٣/١/٣٨٠، وأخرج له الشيخان وغيرهما.
(٣) الأثر: ٧٩٩- في الدر المنثور ١: ٦٣. و"المنهال": هو ابن عمرو الأسدي. و"عبد الله بن الحارث": هو الأنصاري البصري أبو الوليد، وهو تابعي ثقة.
553
وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله:"يا بني إسرائيل" أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [سورة الأعراف: ٣١] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه -وإن كان قد تقدّم ما أنزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد ﷺ درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك (١) - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم
(١) قوله: "وقلة مزاولة محمد ﷺ دراسة الكتب... "، هو كما نقول اليوم في عبارتنا المحدثة: "وعدم مزاولة محمد... ". قال الجاحظ في البيان والتبيين ١: ٢٨٥: "واستجار عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، بمحمد بن مروان بنصيبين، وتزوج بها امرأة فقال محمد: كيف ترى نصيبين؟ قال: "كثيرة العقارب، قليلة الأقارب". يريد بقوله: "قليلة"، كقول القائل: "فلان قليل الحياء"، وليس يريد أن هناك حياء وإن قل. يضعون: "قليلا، في موضع"ليس". انتهى.
قلت: ومنه قول دريد بن الصمة في أخيه:
قَلِيلُ التَّشَكِّي للمصيبات، حافظٌ مِنَ الْيَوْمِ أعقابَ الأحاديث في غَدِ
وسيأتي قول الطبري في تفسير قوله تعالى من (سورة البقرة: ٨٨) "فقليلا ما يؤمنون": (١: ٣٢٤، بولاق) :"وإنما قيل: فقليلا ما يؤمنون، وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: "قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روى عنها سماعًا منها: "مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل"، يعني ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة، والمعنى فيه نفي جميعه"، انتهى.
وفي الحديث: "إنه كان يقل اللغو" أي لا يلغو أصلا، قال ابن الأثير: وهذا اللفظ يستعمل في نفي أصل الشيء (اللسان: قلل).
ولولا زمان فسد فيه اللسان، وقل الإيمان، واشتدت بالمتهجمين الجرأة على تفسير الكلمات، وتصيد الشبهات - ولولا أن يقول قائل فيفتري على الطبري أنه قال إن رسول الله ﷺ كان يدارس كتب أهل الكتاب، لكنت في غنى عن مثل هذه الإطالة.
554
لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله:"يا بني إسرائيل" خطابهم كما:-
٨٠٠- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله:"يا بني إسرائيل"، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:-
٨٠١- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم"، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه (٢).
٨٠٢- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن
(١) الأثر ٨٠٠- في الدر المنثور ١: ٦٣، والشوكاني ١: ٦١ بتمامه. وسيأتي تمامه في الأثر التالي.
(٢) الأثر: ٨٠١- من تمام الأثر السالف، المراجع السالفة، وابن كثير ١: ١٤٩.
555
الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"اذكروا نعمتي"، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب (١).
٨٠٣- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون (٢).
٨٠٤- وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"نعمتي التي أنعمت عليكم" قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٣) [سورة الحجرات: ١٧]
وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [سوة المائدة: ٢٠].
* * *
(١) الأثر: ٨٠٢- في ابن كير ١: ١٤٩.
(٢) الأثر: ٨٠٣- في ابن كثير ١: ١٤٩ وفيه: "وفيما سوى ذلك: أن فجر"، بالزيادة.
(٣) الأثر: ٨٠٤- لم أجده في مكان.
556
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى -عن معنى العهد- من كتابنا هذا (١)، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه (٢). وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد ﷺ أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله.
"أوف بعهدكم": وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [سورة المائدة: ١٢]، وكما قال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا
(١) انظر ما مضى: ٤١٠-٤١٥.
(٢) في المطبوعة: "قد تقدم بياننا معنى العهد فيما مضى من كتابنا... "، غيروه ليستقيم الكلام على ما ألفوه.
557
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) [سورة الأعراف: ١٥٦-١٥٧].
٨٠٥- وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأوفوا بعهدي" الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، (٢) "أوف بعهدكم"، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم (٣).
٨٠٦- وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم"، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه،"أوف بعهدكم"، يعني الجنة (٤).
٨٠٧- وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"أوفوا بعهدي أوف بعهدكم": أما"أوفوا بعهدي"، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما"أوف بعهدكم" فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة (٥).
٨٠٨- وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"وأفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
(١) في الأصول: "... اثنى عشر نقيبًا، الآية". و"النبي الأمي، الآية". وآثرنا إتمام الآيتين، كما جرينا عليه فيما سلف، وفيما سيأتي.
(٢) في المطبوعة: "... للنبي ﷺ إذا جاءكم... "، وفي المراجع الأخرى.
(٣) الأثر: ٨٠٥- من تمام الأثر السالف رقم: ٨٠٠، ورقم ٨٠١، ومراجعه ما سلف.
(٤) الأثر: ٨٠٦- في ابن كثير ١: ١٥٠.
(٥) الأثر: ٨٠٧- في ابن كثير ١: ١٥٠ تضمينًا.
558
نَقِيبًا) إلى آخر الآية [سورة المائدة: ١٢]. فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده (١).
٨٠٩- وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله"وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي ﷺ وفي غيره،"أوف بعهدكم"، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة (٢).
٨١٠- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم"، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) حتى بلغ (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [سورة التوبة: ١١١]، قال: هذا عهده الذي عهده لهم (٣).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وإياي فارهبون"، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنزلتُ من الكتُب على أنبيائي -أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:-
٨١١- حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق،
(١) الأثر: ٨٠٨- لم أجده بنصه في مكان.
(٢) الأثر: ٨٠٩- في ابن كثير ١: ١٥٠، الدر المنثور ١: ٦٣، والشوكاني ١: ٦١.
(٣) الأثر: ٨١٠- لم أجده في مكان.
559
عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإيايَ فارهبون"، أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره. (١)
٨١٢- وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:"وإياي فارهَبُون"، يقول: فاخشَوْن.
٨١٣- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وإياي فارهبون"، يقول: وإياي فاخشون. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"آمنوا"، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. (٣) ويعني بقوله:"بما أنزلت، ما أنزل على محمد ﷺ من القرآن. ويعني بقوله:"مصدِّقًا لما معكم"، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد ﷺ وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما
(١) الأثر: ٨١٢- من تمام الآثار السالفة الأرقام: ٨٠٠، ٨٠١، ٨٠٥. وابن كثير ١: ١٥٠ من تمام ما سلف في ص ١٤٩. المراجع المذكورة.
(٢) الأثر: ٨١٣- في ابن كثير ١: ١٥٠.
(٣) انظر ما مضى: ٢٣٤، ٢٣٥.
560
أنزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة.
وقوله:"مصدقًا"، قطع من الهاء المتروكة في"أنزلته" من ذكر"ما" (١). ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:-
٨١٤- حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم"، يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. (٢).
٨١٥- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٨١٦- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"وآمنوا بما أنزلت مصدِّقًا لما معكم"، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا ﷺ مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. (٣).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل:"ولا تكونوا أول كافر به"،
(١) قوله"قطع"، أي حال. وانظر ما سلف ص ٢٣٠: تعليق: ٤، وص ٣٣٠ تعليق: ١.
(٢) الأثر: ٨١٤- في ابن كثير ١: ١٥٠ تضمينًا، والدر المنثور ١: ٢٦٤، والشوكاني ١: ٦١.
(٣) الأثر: ٨١٥- في ابن كثير ١: ١٥٠، والدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦١.
561
والخطاب فيه لجميع (١)، وقوله:"كافر" واحد؟ وهل نجيز -إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل:"ولا تكونوا أول رجُل قام"؟
قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له"أفعل"، وهو خبر لجميع (٢) إذا كان اسمًا مشتقًّا من"فعل ويفعل"، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو"مَنْ"، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه"مَنْ" من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به."فمن" بمعنى جميع (٣)، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من"فعل ويفعل" مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه"مَنْ" من معنى الجمع والتأنيث، كقولك:"الجيش مُنهزم"،"والجند مقبلٌ" (٤)، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال:"الجيش رجل، والجند غلام"، حتى تقول:"الجند غلمان والجيش رجال". لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من"فعل ويفعل"، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:
وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ وَإِذَا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ (٥)
فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية"مَنْ"، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من"فعل ويفعل" مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء
(١) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع... لجمع... جمع".
(٢) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع... لجمع... جمع".
(٣) في المطبوعة في المواضع الثلاثة: "لجمع... لجمع... جمع".
(٤) في المطبوعة. "الجيش ينهزم، والجند يقبل"، وهو خطأ صرف.
(٥) نوادر أبي زيد: ١٥٢، لرجل جاهلي، ومعاني القرآن للفراء ١: ٣٣، وهي ثلاثة أبيات نوادر، وقبله:
ومُوَيْلكٌ زمَعُ الكِلابِ يَسُبُّنِي فَسَماعِ أسْتَاهَ الكلابِ سَمَاعِ
هَلْ غير عَدْوِكُمُ عَلَى جَارَاتكُمْ لبُطُونِكُمْ مَلَثَ الظَّلامِ دَوَاعِي
وقوله: "طعموا" أي شبعوا، فهم عندئذ ألأم من شبع. وفي الحديث: "طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة"، يعني شبع. الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة.
562
المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا (١).
وأما تأويل ذلك (٢) فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنزلتُ على رسولي محمد ﷺ من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به (٣) وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.
وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله (٤). والهاء التي في"به" من ذكر"ما" التي مع قوله:"وآمنوا بما أنزلت". كما:-
٨١٧- حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله:"ولا تكونوا أوّل كافر به"، بالقرآن. (٥)
قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:-
٨١٨- حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تكونوا أول كافر به"، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. (٦).
وقال بعضهم:"ولا تكونوا أول كافر به"، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد ﷺ تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه
(١) انظر مثل ما قال الطبري في معاني القرآن للفراء ١: ٣٢-٣٣.
(٢) في المطبوعة: "فأما... " بالفاء.
(٣) في المطبوعة: "أول من كذب به"، والذي أثبتناه هو صواب بيان الطبري.
(٤) في المخطوطة: "وكفرهم به وجحودهم... " وهو خطأ.
(٥) الأثر: ٨١٧- في الدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦١.
(٦) الأثر: ٨١٨- في ابن كثير ١: ١٥٠، والدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦١.
563
أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: "وآمِنُوا بما أنزلتُ مصدقًا لما معكم". ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد ﷺ هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنزيلٌ مُنْزَل، والمنْزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية (١)، ولم يجر لمحمد ﷺ في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله:"ولا تكونوا أول كافر به" - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام (٢).
وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في"به" على"ما" التي في قوله:"لما معكم". لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام (٣)، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن (٤). وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. (٥).
٨١٩- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد
(١) في المطبوعة زيادة بين هاتين الجملتين، وهي مقحمة مفسدة للكلام نابية في السياق. ونصها"... في أول الآية من أهل الكتاب، فذلك هو الظاهر المفهوم. ولم يجر لمحمد... ".
(٢) بيان الطبري جيد محكم، وإن ظن بعض من نقل كلامه أن كلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان. لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد ﷺ فقد كفر بالقرآن (ابن كثير ١: ١٥٠). ونعم، كلا القولين صحيح المعنى في ذاته، ولكن الطبري يحدد دلالة الألفاظ والضمائر في الآية، ويعين ما يحتمله ظاهر التلاوة والتنزيل، ويخلص معنى من معنى، وإن كان كلاهما صحيحًا في العقل، صحيحًا في الحكم، صحيحًا في الدين. وما أكثر ما يتساهل الناس إذا تقاربت المعاني، ولا يخلص معنى من معنى إلا بصير بالعربية كأبي جعفر رضي الله عنه.
(٣) في المطبوعة: "محتمل ظاهر الكلام".
(٤) في المخطوطة: "... أن الأمر بالإيمان به في أول الآية... أن يكون النهي عن الكفر به في آخرها... "، والذي في المطبوعة أجود وأبين.
(٥) وهذا أيضًا من جيد البصر؛ بمنطق العربية، وإن ظنه بعضهم قريبًا من قريب.
564
بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به"، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
٨٢٠- فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا"، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا (٢).
وقال آخرون بما:-
٨٢١ - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع (٣).
(١) الخبر: ٨١٩- من تمام الأخبار السالفة الأرقام ٨٠٥، ٨١١، في الدر المنثور ١: ٦٣.
(٢) الأثر: ٨٢٠- من تمام الأثر السالف رقم: ٨١٨ ومراجعه هناك. وفي ابن كثير ١: ١٥١. والمجان: عطية الشيء بلا منة ولا ثمن. قال أبو العباس: سمعت ابن الأعرابي يقول: المجان عند العرب الباطل، وقالوا: "ماء مجان". قال الأزهري: العرب تقول: تمر"مجان"، وماء"مجان"، يريدون أنه كثير كاف. قال: واستطعمني أعرابي تمرًا فأطعمته كتلة واعتذرت إليه من قلته، فقال: هذا والله"مجان". أي كثير كاف. وقولهم: أخذه مجانًا: أي بلا بدل، وهو فعال لأنه ينصرف (اللسان: مجن).
(٣) الأثر: ٨٢١- في ابن كير ١: ١٥١. وفي المطبوعة وابن كثير: "فذلك الطمع هو الثمن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو أجود.
565
فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد ﷺ للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه.
وإنما قلنا بمعنى ذلك:"لا تبيعوا" (١)، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية (٢)، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾
قال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"ولا تلبسُوا"، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط.
(١) في المطبوعة: "وإنما قلنا معنى ذلك... ".
(٢) في المطبوعة: "وإنما معناه على ما تأوله... ".
566
يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه (١). كما:-
٨٢٢ - حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) [سورة الأنعام: ٩] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون (٢).
ومنه قول العجاج:
لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي (٣)
يعني بقوله:"لبسن"، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها (٤). ومن اللُّبس قول الأخطل:
لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا (٥)
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ). [سورة الأنعام: ٩]
* * *
فإن قال لنا قائل (٦) وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟
قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد ﷺ ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون (٧) : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه
(١) في المطبوعة: "لبست عليهم الأمر... خلطته عليهم".
(٢) الخبر: ٨٢٢- لم أجده في مكان، ولم يذكره الطبري في مكانه من تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (٧: ٩٨ بولاق).
(٣) ديوانه: ٦٥. غني عن الشيء واستغنى: اطرحه ورمى به من عينه ولم يلتفت إليه.
(٤) في المطبوعة: "وذلك في الكسوة... "، بالزيادة.
(٥) ديوانه: ١٤٢، وفيه"وقد لبست". وأعصر جمع عصر: وهو الدهر والزمان. وعني هنا اختلاف الأيام حلوها ومرها، فجمع. ولبس له أعصره: عاش وقاسى خيره وشره. وتجلل الشيب رأسه: علاه.
(٦) في المطبوعة: "إن قال... ".
(٧) في المطبوعة: "وكان أعظمهم... "، وهو تحريف قد مضى مثله مرارًا. وعظم الشيء: معظمه وأكثره.
567
مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد ﷺ وبما جاء به جهارًا (١)، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه (٢). وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:-
٨٢٣ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله:"ولا تلبِسُوا الحق بالباطل"، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب (٣).
٨٢٤ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل"، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد ﷺ (٤).
٨٢٥ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام (٥).
٨٢٦ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله:"ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل"، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم (٦).
* * *
(١) في المطبوعة: "وإقراره لمحمد... ".
(٢) في المطبوعة: "بالباطل الذي يستبطنه".
(٣) الخبر: ٨٢٣- في ابن كثير ١: ١٥٢، والدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦٢.
(٤) الأثر: ٨٢٤- في ابن كثير ١: ١٥٢.
(٥) الأثر: ٨٢٥- لم أجده عن مجاهد، ومثله عن قتادة في ابن كثير ١: ١٥٢، والدر المنثور ١: ٦٤.
(٦) الأثر: ٨٢٦- في الدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦٢.
568
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: وفي قوله:"وتكتموا الحق"، وجهان من التأويل:
أحدُهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله:"وتكتموا" عند ذلك مجزومًا بما جُزِم به"تلبسوا"، عطفًا عليه.
والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله:"وتكتموا الحق" خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله:"وتكتموا" حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله:"ولا تلبسوا الحق بالباطل"، إذ كان قوله:"ولا تلبسوا" نهيًا، وقوله"وتكتموا الحق" خبرًا معطوفًا عليه، غيرَ جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله:"تلبسوا" من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صَرْفًا (١). ونظيرُ ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إَِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (٢)
(١) ذكر هذا الفراء في كتابه معاني القرآن ١: ٣٣-٣٤، ثم قال: "فإن قلت: وما الصرف؟ قلت: أن تأتي بالواو معطوفًا على كلام في أوله حادثه لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصرف، كقول الشاعر:... " وأنشد البيت وقال: "ألا ترى أنه لا يجوز إعادة"لا" في"تأتي مثله"، فلذلك سمى صرفًا، إذ كان معطوفًا، ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله".
(٢) هذا من الأبيات التي رويت في عدة قصائد. كما قال صاحب الخزانة ٣: ٦١٧. نسبه سيبويه ١: ٤٢٤ للأخطل، وهو في قصيدة للمتوكل الليثي، ونسب لسابق البربري، وللطرماح، ولأبي الأسود الدؤلي قصيدة ساقها صاحب الخزانة (٣: ٦١٨)، وليست في ديوانه الذي نشره الأستاذ محمد حسن آل ياسين في (نفائس المخطوطات) طبع مطبعة المعارف ببغداد سنة ١٣٧٣هـ (١٩٥٤م)، وهذا الديوان من نسخة بخط أبي الفتح عثمان بن جنى. ولم يلحقها الأستاذ الناشر بأشتات شعر أبي الأسود التي جمعها.
569
فنصب"تأتي" على التأويل الذي قلنا في قوله:"وتكتموا" (١)، لأنه لم يرد: لا تنه عن خُلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصبَ الخبر إذ عطفه على غير شكله.
فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي:-
٨٢٧ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله:"وتكتموا الحق"، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
٨٢٨ - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وتكتموا الحق"، أي ولا تكتموا الحق. (٢).
وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد.
٨٢٩ - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: كتموا بعث محمد ﷺ (٣).
٨٣٠ - وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٨٣١ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
(١) في المطبوعة: "وتكتموا، الآية، لأنه... "، وهو خطأ في قراءة ما في المخطوطة وهو: "وتكتموا إلا أنه لم يرد".
(٢) الخبران: ٨٢٧، ٨٢٨- لم أجدهما بنصهما في مكان، وثانيهما في ضمن خبر ابن عباس الذي سلف تخريجه رقم: ٨١٩، وفي ابن كثير ١: ١٥٢، والدر المنثور ١: ٦٣.
(٣) الأثر: ٨٢٩- لم أجده في مكان.
570
وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:-
٨٣٢ - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وتكتموا الحق"، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. (١)
٨٣٣ - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"وتكتموا الحق"، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك. (٢)
٨٣٤ - وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل (٣).
٨٣٥ - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٨٣٦ - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون"، قال: الحقُّ هو محمد ﷺ (٤).
٨٣٧ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن
(١) الخبر: ٨٣٢- في ابن كثير ١: ١٥٢، والدر المنثور ١: ٦٣، والشوكاني ١: ٦١.
(٢) الخبر: ٨٣٣- في الدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦٢، إلا قوله: "فنهاهم عن ذلك" وفي المطبوعة"... رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(٣) الأثر: ٨٣٤- في ابن كثير ١: ١٥٢ تضمينًا.
(٤) الأثر: ٨٣٦- في ابن كثير ١: ١٥٢ تضمينًا، وفي الدر المنثور ١: ٦٤، والشوكاني ١: ٦٢.
571
الربيع، عن أبي العالية:"وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، قال: كتَموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم (١).
٨٣٨ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل (٢).
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد ﷺ وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوثٌ إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: ذُكِر أن أحبارَ اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا.
٨٣٩ - كما حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفر، عن
(١) الأثر: ٨٣٧- لم أجده في مكان.
(٢) الأثر: ٨٣٨- لم أجده بنصه في مكان. وفي المطبوعة: "تكتمون محمدًا... ".
572
أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة"، قال: فريضتان واجبتان، فأدُّوهما إلى الله (١).
وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته (٢).
أما إيتاءُ الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزَّكاة، نماءُ المال وتثميرُه وزيادتُه. ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ. وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا، كما قال الشاعر:
كَانُوا خَسًا أو زَكًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ لَمْ يُخْلَقُوا، وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلجُ (٣)
وقال آخر:
فَلا خَسًا عَدِيدُهُ وَلا زَكا كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا (٤)
قال أبو جعفر: السفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء (٥).
(١) الأثر: ٨٣٩- لم أجده في مكان.
(٢) انظر ما مضى ص: ٢٤١-٢٤٢.
(٣) اللسان (خسا)، وفيه: "الفراء: العرب تقول للزوج زكا، وللفرد خسا... قال، وأنشدتني الدبيرية... " وأنشد البيت. وتعتلج: تصطرع ويمارس بعضها بعضا.
(٤) لرجل من بني سعد، ثم أحد بني الحارث في عمرو بن كعب بن سعد. وهذا الرجز في خبر للأغلب العجلي، (طبقات فحول الشعراء: ٥٧٢ / ومعجم الشعراء: ٤٩٠ / والأغاني ١٨: ١٦٤) ورواية الطبقات والأغاني: "كما شرار الرعى". والرعى (بكسر فسكون) : الكلأ نفسه، والمرعى أيضًا. والسفا: شوط البهمي والسنبل وكل شيء له شوك. يقول: أنت في قومك كالسفا في البهمي، هو شرها وأخبثها. والبيت الأول زيادة ليست في المراجع المذكورة.
(٥) البهمي: من أحرار البقول، (وهي ما رق منها ورطب وأكل غير مطبوخ)، تنبت كما ينبت الحب، ثم يبلغ بها النبت إلى أن تصير مثل الحب، ترتفع قدر الشبر، ونباتها ألطف من نبات البر، وطعمها طعم الشعير، ويخرج لها إذا يبست شوك مثل شوك السنبل، (وهو السفا)، وإذا وقع في أنوف الإبل أنفت منه، حتى ينزعه الناس من أفواهها وأنوفها. وفي المطبوعة: "في السلى" بتشديد الياء، وفي المخطوطة"في السلى" بضم السين وتشديد اللام. والصواب ما أثبته، والسلاء جمع سلاءة، وهي شوكة النخلة، وأراد بها سفا البهمي أي شوكها.
573
يعني بقوله:"ولا زكا"، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم (١).
وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مالٌ يخرجُ من مال، لتثمير الله - بإخراجها مما أخرجت منه - ما بقي عند ربِّ المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان (٢)، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً) [سورة الكهف: ٧٤]، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى (٣). وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها.
وإيتاؤها: إعطاؤُها أهلها.
وأما تأويل الرُّكوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلانٌ لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:
بِيعَتْ بِكَسْرٍ لَئِيمٍ وَاسْتَغَاثَ بِهَا مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَ مَا رَكَعَا (٤)
(١) قوله: "بحدوثه فيهم"، أي بوجوده في هؤلاء القوم. والعديد (في الرجز)، من قولهم فلان عديد بني فلان: أي يعد فيهم وليس منهم: يريد أنه إذا دخل في قوم لم يعد فيهم شيئًا، فإذا كانوا شفعًا، لم يصيرهم دخوله وترًا، وإذا كانوا وترًا لم يصيرهم شفعًا، فهو كلا شيء في العدد. يهجوه ويستسقطه.
(٢) السهمان جمع سهم، كالسهام: وهو النصيب والحظ.
(٣) في المطبوعة: "بذلك المعنى" وليست بشيء.
(٤) هذا البيت من أبيات لعصام بن عبيد الزماني (من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل) رواها أبو تمام في الوحشيات رقم ١٣٠ (مخطوطة عندي)، ورواها الجاحظ في الحيوان ٤: ٢٨١، وجاء فيه: "قال الزيادي" وهو تحريف وتصحيف كما ترى. وهذه الأبيات من مناقضة كانت بين الزماني ويحيى بن أبي حفصة. وذلك أن يحيى تزوج بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقري فهاجاه عصام الزماني وقال:فأجابه يحيى بأبيات منها:
أَرَى حَجْرًا تغيَّر واقشعرَّا وبُدِّل بعد حُلْو العيش مُرًّا
ألا مَنْ مُبلغٌ عنِّى عِصَامًا بأَنِّي سَوْفَ أَنْقُضُ مَا أَمرَّا
هكذا روى المرزباني في معجم الشعراء: ٢٧٠، وروى أبو الفرج في أغانيه ١٠: ٧٥ أن يحيى خطب إلى مقاتل بن طلبة المنقري ابنته وأختيه، فأنعم له بذلك. فبعث يحيى إلى بنيه سليمان وعمر وجميل، فأتوه فزوجهن بنيه الثلاثة، ودخلوا بهن ثم حملوهن إلى حجر، (وهو مكان).
وأبيات عصام الزماني، ونقيضتها التي ناقضه بها يحيى، من جيد الشعر، فاقرأها في الوحشيات، والحيوان، والشعر والشعراء: ٧٤٠، ورواية الحيوان والوحشيات "بِيعَتْ بوَكْسٍ قَليلٍ واسْتَقَلَّ بِهَا"
الوكس: اتضاع الثمن في البيع. وفي المخطوطة والمطبوعة"بكسر لئيم"، وهو تحريف لا معنى له، وأظن الصواب ما أثبت اجتهادًا. والكسر: أخس القليل. وقوله: "بيعت" الضمير لابنة مقاتل بن طلبة المنقري التي تزوجها يحيى أو أحد بنيه. يقول: باعها أبوها بثمن بخس دنئ خسيس، فزوجها مستغيثًا ببيعها مما نزل به من الجهد والفاقة، فزوجها هذا الغنى اللئيم الدنيء، ليستعين بمهرها.
574
يعني: بعد مَا خضَع من شِدَّة الجهْد والحاجة.
قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة (١).
* * *
(١) في المطبوعة: "وإبلاغا إليهم... " بالزيادة.
575

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى"برا". فروي عن ابن عباس ما:-
٨٤٠- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم: (١) أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
٨٤١- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (أتأمرون الناس بالبر) يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم.
* * *
(١) في المطبوعة، وفي المراجع: "والعهد من التوراة". والعهد والعهدة واحد.
7
وقال آخرون بما:-
٨٤٢- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه.
٨٤٣- وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله.
٨٤٤- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الحجاج، قال: قال ابن جريج: (أتأمرون الناس بالبر) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
* * *
وقال آخرون بما:-
٨٤٥- حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال الله لهم: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (١)
٨٤٦- وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الجَرْمي، قال: حدثنا مخلد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، في قول الله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا. (٢)
* * *
(١) الأثر: ٨٤٥ - في ابن كثير ١: ١٥٤، وفيه"إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه... " وفي المخطوطة: "يسألهم ليس فيه".
(٢) الخبر: ٨٤٦ - نقله ابن كثير ١: ١٥٤ عن هذا الموضع. وذكره السيوطي ١: ٦٤، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي في الأسماء والصفات، وقلده الشوكاني ١: ٦٥. وقد رواه البيهقي ص: ٢١٠، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، به نحوه. و"مسلم الجرمي": وقع في ابن كثير في هذا الموضع"أسلم"، وهو خطأ مطيعي. ووقع فيه وفي نسخ الطبري"الحرمي"، بالحاء. وقد رجحنا في ترجمته - فيما مضى: ١٥٤ أنه بالجيم. وذكرنا مصادر ترجمته هناك، ونزيد هنا أنه ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٤ / ١ /١٨٨، ووصفه بأنه"من الغزاة". وشيخه"مخلد بن الحسين" - بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة ساكنة: ثقة معروف، قال ابن سعد: "كان ثقة فاضلا" وقال أبو داود: "كان أعقل أهل زمانه". وأبو قلابة: هو عبد الله ابن زيد الجرمي، أحد الأعلام من ثقات التابعين، وأرى أن روايته عن أبي الدرداء مرسلة، فإن أبا الدرداء مات سنة ٣٢، وأبو قلابة متأخر الوفاة، مات سنة ١٠٤، وقيل: ١٠٧.
8
قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى; لأنهم وإن اختلفوا في صفة"البر" الذي كان القوم يأمرون به غيرهم، الذين وصفهم الله بما وصفهم به، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.
فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحا إليهم ما أتوا به. (١)
* * *
ومعنى"نسيانهم أنفسهم" في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: ٦٧] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (تتلون) : تدرسون وتقرءون. كما:-
٨٤٧- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: (وأنتم تتلون الكتاب)،
(١) في المطبوعة: "ومقبحا إليهم".
9
يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بالكتاب: التوراة. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (أفلا تعقلون) (٢) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته، واتباع محمد والإيمان به وبما جاء به، (٣) مثل الذي على من تأمرونه باتباعه. كما:
٨٤٨- حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (أفلا تعقلون) يقول: أفلا تفهمون؟ فنهاهم عن هذا الخلق القبيح. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلى غيرنا! كما ذكرنا قبل. (٥)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (واستعينوا بالصبر) : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم -من طاعتي واتباع أمري، وترك ما تهوونه
(١) الخبر: ٨٤٧ - في الدر المنثور ١: ٦٤، وتتمته في الخبر الآتي إلا قوله: "ويعني بالكتاب التوراة" وأخشى أن تكون من كلام الطبري.
(٢) في المخطوطة: "يعني بذلك أفلا تفقهون"...
(٣) في المطبوعة: "في اتباع محمد... ".
(٤) الخبر: ٨٤٨ - من تتمة الأثر السالف. وفي المطبوعة: "فنهاهم".
(٥) انظر ما مضى رقم: ٨٤٠ - ٨٤١.
10
من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري، واتباع رسولي محمد ﷺ - بالصبر عليه والصلاة.
* * *
وقد قيل: إن معنى"الصبر" في هذا الموضع: الصوم، و"الصوم" بعض معاني"الصبر". وتأويل من تأول ذلك عندنا (١) أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابَّها، وكفها عن هواها; ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر، لكفه نفسه عن الجزع; وقيل لشهر رمضان"شهر الصبر"، لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارا، (٢) وصبره إياهم عن ذلك: (٣) حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما تصبر الرجل المسيء للقتل فتحبسه عليه حتى تقتله. (٤) ولذلك قيل: قتل فلان فلانا صبرا، يعني به: حبسه عليه حتى قتله، فالمقتول"مصبور"، والقاتل"صابر".
* * *
وأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فيما مضى. (٥)
* * *
فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الأمر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة، فما معنى الأمر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله، وترك معاصيه، والتعري عن الرياسة، وترك الدنيا؟ قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله، الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر
(١) في المطبوعة: "... بعض معاني الصبر عندنا بل تأويل ذلك عندنا... " وفي المخطوطة: "... بعض معاني الصبر عند تأويل من تأول ذلك عندنا... " وكأن الصواب ما أثبته.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "لصبره صائمة... "، ولكن الكلام لا يستقيم لاختلال الضمائر في الجملة التالية.
(٣) الضمير في قوله"وصبره" إلى شهر رمضان.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "كما يصبر... فيحبسه... حتى يقتله" كله بالياء، والصواب ما أثبته.
(٥) انظر ما مضى: ١: ٢٤٢ - ٢٤٣.
11
نعيمها، المسلية النفوس عن زينتها وغرورها، المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لأهلها. ففي الاعتبار بها المعونة لأهل طاعة الله على الجد فيها، كما روي عن نبينا ﷺ أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
٨٤٩- حدثني بذلك إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني، عن ابن جرير، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة". (١)
٨٥٠- وحدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا خلف بن الوليد الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة:"كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى". (٢).
٨٥١-
(١) الحديث: ٨٤٩ -"الحسين بن رتاق الهمداني": هكذا ثبت في المطبوعة. ولم أجد راويا بهذا الاسم ولا ما يشبهه، فيما لدى من المراجع، وفي المخطوطة"الحسين بن زياد الهمداني" - ولم أجد في الرواة من يسمى"الحسين بن زياد" إلا اثنين، لم ينسب واحد منهما همدانيا، ولا يصلح واحد منهما في هذا الإسناد: أحدهما: "حسين بن زياد"، دون وصف آخر، ترجمه البخاري في الكبير ١ / ٢ / ٣٨٧ برقم: ٢٨٨١، وذكر أنه يروي عن عكرمة، ويروي عنه جرير بن حازم، وجرير مات سنة ١٧٥ فهذا قديم جدا، لا يدركه إسماعيل بن موسى الفزاري المتوفي سنة ٢٤٥. والثاني"حسين ابن زياد أبو علي المروزي" ترجمه البخاري عقب ذاك، وذكر أنه مات سنة ٢٢٠. فهذا متأخر عن أن يدرك الرواية عن ابن جريج المتوفى سنة ١٥٠. وعكرمة بن عمار: هو العجلي اليمامي. وفي المخطوطة"عكرمة عن عمار". وهو خطأ. والحديث سيأتي عقب هذا بإسناد آخر صحيح.
(٢) الحديث: ٨٥٠ - هو الذي قبله بمعناه:"خلف بن الوليد": هو أبو الوليد العتكي الجوهري، و"العتكي": نسبة إلى"العتيك"، بطن من الأزد. وهو من شيوخ أحمد الثقات. يحيى ابن زكريا: هو ابن أبي زائدة. محمد بن عبد الله الدؤلي: هو"محمد بن عبيد أبو قدامة" الذي في الإسناد السابق. ووقع في الأصول هنا"محمد بن عبيد بن أبي قدامة". وهو خطأ. بل"أبو قدامة" كنية"محمد بن عبيد". وقد حققنا ترجمته في شرح حديث آخر في المسند: ٦٥٤٨، ورجحنا أن ابن أبي زائدة أخطأ في اسمه، فسماه"محمد بن عبد الله". والحديث رواه أحمد في المسند ٥: ٣٨٨ (حلبي) عن إسماعيل بن عمر، وخلف بن الوليد، كلاهما عن يحيى بن زكريا. ورواه أبو داود: ١٣١٩، عن محمد بن عيسى، عن يحيى بن زكريا - بهذا الإسناد. وأشار إليه البخاري في الكبير ١ /١ ١٧٢، في ترجمة"محمد بن عبيد أبي قدامة الحنفي"، قال:"وقال النضر عن عكرمة، عن محمد بن عبيد أبي قدامة، سمع عبد العزيز أخا حذيفة، عن حذيفة: كان النبي ﷺ إذا حزبه أمر صلى. وقال ابن أبي زائدة: عن عكرمة عن محمد ابن عبد الله الدؤلي". و"النضر" الذي يشير إليه البخاري: هو النضر بن محمد الجريشي اليمامي. و"عبد العزيز بن اليمان": هو أخو حذيفة بن اليمان، كما صرح بنسبه في الرواية السابقة، وكما وصف بذلك في هذه الرواية، وفي روايتي المسند والبخاري في الكبير. وأما رواية أبي داود ففيها"عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة". وكذلك في رواية ابن منده، التي أشار إليها الحافظ في الإصابة ٥: ١٥٩. ورجح الحافظ في ذلك الموضع، وفي التهذيب ٦: ٣٦٤ - ٣٦٥ أنه ابن أخي حذيفة، لا أخوه. ولكن أكثر الرواة ذكروا أنه أخوه، كما أشرنا، لم يخالفهم إلا"محمد بن عيسى" شيخ أبي داود - فيما رأيت. فلا أدري مم هذا الترجيح؟ بل الذي أراه ترجيح رواية الأكثر، ومنهم"النضر ابن محمد"، وكان مكثرا للرواية عن عكرمة بن عمار. وبذلك جزم ابن أبي حاتم في ترجمة"عبد العزيز بن اليمان" في كتاب الجرح والتعديل ٢ /٢ /٣٩٩، لم يذكر خلافا ولا قولا آخر. والحديث ذكره أيضًا ابن كثير ١: ١٥٧ - ١٥٨ من روايات المسند وأبي داود والطبري ثم ذكر نحوه مطولا، من رواية محمد نصر المروزي في كتاب الصلاة.
12
وكذلك روي عنه ﷺ أنه رأى أبا هريرة منبطحا على بطنه فقال له:"اشكنب درد"؟ قال: نعم، قال: قم فصل؛ فإن في الصلاة شفاء. (١)
(١) الحديث: ٨٥١ - هكذا ذكره الطبري معلقا، دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: ٩٠٥٤ (٢: ٣٩٠ حلبي)، عن أسود بن عامر، عن ذواد أبي المنذر، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة. ثم رواه مرة أخرى: ٩٢٢٩ (٢: ٤٠٣حلبي)، عن موسى بن دواد، عن ذواد. وكذلك رواه ابن ماجه: ٣٤٥٨، بإسنادين عن ذواد. و"ذواد": بفتح الذال المعجمة وتشديد الواو وآخره دال مهملة. وضبطه صاحب الخلاصة"ذؤاد" بضم المعجمةوبعدها همزة مفتوحة، وهو خطأ. وذواد: هو ابن علبة الحارثي، وكان شيخا صالحا صدوقا، وضعفه ابن معين، فقال:"ليس بشيء" وترجمه البخاري في الكبير ٢ / ١ /٢٤١، والصغير، ص: ٢١٤، وقال:"يخالف في بعض حديثه". وروى هذا الحديث في الصغير عن ابن الأصبهاني، عن المحاربي، عن ليث، عن مجاهد:"قال لي أبو هريرة: يا فارسي، شكم درد" ثم قال البخاري:"قال ابن الأصبهاني: ورفعه ذواد، وليس له أصل، أبو هريرة لم يكن فارسيا، إنما مجاهد فارسي". فهذا تعليل دقيق من ابن الأصبهاني، ثم من البخاري، يقضي بضعف إسناد الحديث مرفوعا. قوله في متن الرواية"اشكنب درد": كتب عليها في طبعة بولاق ما نصه:"يعني: تشتكي بطنك، بالفارسية. كذا بهامش الأصل". وكذلك ثبت هذا اللفظ في المسند، إلا الموضع الأول فيه كتب"ذرد" بنقطة فوق الدال الأولى، وهو تصحيف. وثبت هذا اللفظ في رواية البخاري في التاريخ الصغير، ص ٢١٤:"شكم درد". وفي رواية ابن ماجه"اشكمت درد". وكتب الأستاذ فؤاد عبد الباقي شارحا له:"بالفارسية: اشكم، أي بطن. ودرد، أي وجع. والتاء للخطاب. والهمزة همزة وصل. كذا حققه الدكتور حسين الهمداني. ومعناه: أتشتكي بطنك؟ ولكن جاء في تكملة مجمع بحار الأنوار، ص ٧ (أشكنب ددم). وفي رواية بسكون الباء". وأنا أرى أن النقل الأخير فيه خطأ. لأني نقلت في أوراق على المسند قديما أن صوابها"أشكنب دردم". وأكبر ظني الآن أنى نقلت ذاك عن تكملة مجمع بحار الأنوار، وهو ليس في متناول يدى حين أكتب هذا.
13
فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة كما أمر نبيه محمدا ﷺ بذلك، فقال له: (فاصبر) يا محمد (عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه: ١٣٠] فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد:-
٨٥٢- حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين).
(١)
* * *
وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما:-
٨٥٣- حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال يقول: استعينوا
(١) الخبر: ٨٥٢ - إسناده صحيح. عيينة بن عبد الرحمن: ثقة. وأبوه عبد الرحمن بن جرشن الغطفاني: تابعى ثقة.
الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ٦٨، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب.
قُثَم بن العباس بن عبد المطلب، أخو عبد الله بن العباس. وأمه أم الفضل كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح سماعه عنه، فإنه كان في آخر عهد النبي ﷺ فوق ثمان. وخرج مع سعيد بن عثمان زمن معاوية إلى سمرقند، فاستشهد بها. استرجع: قال:"إنا لله وإنا إليه راجعون".
14
بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله.
* * *
وقال ابن جريج بما:-
٨٥٤- حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال: إنهما معونتان على رحمة الله. (١)
٨٥٥- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة) الآية، قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير! قال: إلى الصلاة والإيمان بالله جل ثناؤه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإنها)، وإن الصلاة، ف"الهاء والألف" في"وإنها" عائدتان على"الصلاة". وقد قال بعضهم: إن قوله: (وإنها) بمعنى: إن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكر فتجعل"الهاء والألف" كناية عنه، وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته. (٢)
* * *
ويعني بقوله: (لكبيرة) : لشديدة ثقيلة. كما:-
٨٥٦- حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا ابن يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) قال: إنها لثقيلة. (٣)
* * *
(١) الأثر: ٨٥٤ - الحسين: هو سنيد بن داود المصيصي، و"سنيد" لقب له، كما مضى: ١٤٤.
(٢) الظاهر: هو ما تعرفه العرب من كلامها. والباطن: ما يأتي بالاستنباط من الظاهر على طريق العرب في بيانها. وانظر ما مضى ١: ٧٢ تعليق: ٢.
(٣) الأثر: ٨٥٦ - في المطبوعة"أخبرنا ابن زيد"، والصواب"يزيد" من المخطوطة. وهو"يزيد بن هرون". وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب: ٢٨٤.
ومن الرواة عن جويبر: "حماد بن زيد"، ولا يحتمل أن يكون مرادا في هذا الإسناد، لأن حماد ابن زيد مات سنة ١٧٩. فلا يحتمل أن يروي عنه يحيى بن أبي طالب، لأنه ولد سنة ١٨٢، كما في ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب ١٤: ٢٢٠ - ٢٢١.
15
ويعني بقوله: (إلا على الخاشعين) : إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده. كما:-
٨٥٦- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (إلا على الخاشعين) يعني المصدقين بما أنزل الله.
٨٥٧- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (إلا على الخاشعين) قال: يعني الخائفين.
٨٥٨- وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (إلا على الخاشعين) قال: المؤمنين حقا. (١)
٨٥٩- وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٨٦٠- وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله. وقرأ قول الله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) [الشورى: ٤٥] قال: قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له.
* * *
(١) الأثر: ٨٥٨ - محمد بن عمرو، هو: محمد بن عمرو بن العباس، أبو بكر الباهلي، وهو من شيوخ الطبري الثقات، أكثر من الرواية عنه، مات سنة ٢٤٩. وله ترجمة في تاريخ بغداد ٣: ١٢٧. و"أبو عاصم": هو النبيل، الضحاك بن مخلد. و"سفيان": هو الثوري. و"جابر": هو ابن يزيد الجعفي.
وهكذا جاء هذا الإسناد في هذا الموضع في المخطوطة. ووقع في المطبوعة"محمد بن جعفر" بدل"محمد بن عمرو"، وهو خطأ لا شك فيه.
إنما الشبهة هنا: أن هذا الإسناد"أبو عاصم، عن سفيان، عن جابر" _ يرويه الطبري في أكثر المواضع"عن محمد بن بشار"، عن أبي عاصم. وأما روايته عن"محمد بن عمرو"، فإنما هي لإسناد "أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد". والأمر قريب، ولعله روى هذا وذاك.
16
وأصل"الخشوع": التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر: (١)
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع (٢)
يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده.
* * *
فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله، وكفها عن معاصي الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من مراضي الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه"يظن" أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟
قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين"ظنا"، والشك"ظنا"، نظير تسميتهم الظلمة
(١) الشعر لجرير.
(٢) ديوان جرير: ٣٤٥، والنقائض: ٩٦٩، وقد جاء منسوبا له في تفسيره (١: ٢٨٩ /٧: ١٥٧ بولاق)، وطبقات ابن سعد: ٣/١/ ٧٩، وسيبويه ١: ٢٥، والأضداد لابن الأنباري: ٢٥٨، والخزانة ٢: ١٦٦. استشهد به سيبويه على أن تاء التأنيث جاءت للفعل، لما أضاف"سور" إلى مؤنث وهو"المدينة"، وهو بعض منها. قال سيبويه: "وربما قالوا في بعض الكلام: "ذهبت بعض أصابعه"، وإنما أنث البعض، لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه، ولو لم يكن منه لم يؤنثه. لأنه لو قال: "ذهبت عبد أمك" لم يحسن. (١: ٢٥).
وهذا البيت يعير به الفرزدق بالغدر ويهجوه، فإن الزبير بن العوام رضي الله عنه حين انصرف يوم الجمل، عرض له رجل من بني مجاشع رهط الفرزدق، فرماه فقتله غيلة. ووصف الجبال بأنها"خشع". يريد عند موته، خشعت وطأطأت من هول المصيبة في حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبح ما لقي من غدر بني مجاشع.
17
"سدفة"، والضياء"سدفة"، والمغيث"صارخا"، والمستغيث"صارخا"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد (١)
يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما (٢)
يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها
(١) الأصمعيات: ٢٣، وشرح الحماسة ٢: ١٥٦، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٤٠، وسيأتي غير منسوب في ٢٥: ٨٣، وغير منسوب في ١٣: ٥٨ برواية أخرى:"فظنوا بألفي فارس متلبب"، وقبل البيت في رواية الأصمعي:ورواية أبي تمام: "نصحت لعارض".. "فقلت لهم ظنوا.. " وهذا الشعر قاله في رثاء أخيه عبد الله بن الصمة، وهو عارض، المذكور في شعره. المدجج: الفارس الذي قد تدجج في شكته، أي دخل في سلاحه، كأنه تغطى به. والسراة جمع سري: وهم خيار القوم من فرسانهم. والفارسي المسرد: يعني الدروع الفارسية، قال عمرو بن امرئ القيس الخزرجي:
وقلت لعارض، وأصحاب عارض ورهط بني السوداء، والقوم شهدي
علانية ظنوا....... ....................
إذا مشينا في الفارسي كما يمشى جمال مَصاعبٌ قُطُفُ
السرد: إدخال حلق الدرع بعضها في بعض. والمسرد: المحبوك النسج المتداخل الحلق. ينذر أخاه وقومه أنهم سوف يلقون عدوا من ذوى البأس قد استكمل أداة قتاله.
(٢) نقائض جرير والفرزدق: ٥٣، ٧٨٥، والأضداد لابن الأنباري. ١٢ وهو عميرة بن طارق بن ديسق اليربوعي، قالها في خبر له مع الحوفزان، ورواية النقائض: "وأجلس فيكم... "، و"أجعل علمي ظن غيب مرجما". وقبل البيت:
فلا تأمرني يا ابن أسماء بالتي تجر الفتى ذا الطعم أن يتكلما
ذو الطعم" ذو الحرم. وتجر، من الإجرار: وهو أن يشق لسان الفصيل، إذا أرادوا فطامه، لئلا يرضع. يعني يحول بينه وبين الكلام.
وغزا الأمر واغتزاه: قصده، ومنه الغزو: وهو السير إلى قتال العدو وانتهابه، والمرجم: الذي لا يوقف على حقيقة أمره، لأنه يقذف به على غير يقين، من الرجم: وهو القذف.
هذا، والبيت، كما رواه في النقائض، ليس بشاهد على أن الظن هو اليقين. ورواية الطبري هي التي تصلح شاهدا على هذا المعنى.
18
على أن"الظن" في معنى اليقين أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية.
ومنه قول الله جل ثناؤه: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) [الكهف: ٥٣] وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين.
٨٦١- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (يظنون أنهم ملاقو ربهم) قال: إن الظن ههنا يقين.
٨٦٢- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين،"إني ظننت"،"وظنوا".
٨٦٣- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم. (١)
٨٦٤- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) أما"يظنون" فيستيقنون.
٨٦٥- وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) علموا أنهم ملاقو ربهم، هي كقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة: ٢٠] يقول: علمت.
٨٦٦- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) قال: لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينا،
(١) الأثر: ٨٦٣ - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الحافظ. أبو داود الحفري - بالحاء المهملة والفاء المفتوحتين - هو: عمر بن سعد بن عبيد. ووقع في تفسير ابن كثير ١: ١٥٩"أبو داود الجبري"، وهو تصحيف. وسفيان: هو الثوري.
19
وليس ظنا في شك. وقرأ: (إني ظننت أني ملاق حسابيه).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف"الملاقون" إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون، وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى"فعل"، فأما إذا كانت بمعنى"يفعل وفاعل"، فشأنها إثبات النون، وترك الإضافة.
قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من"فعل ويفعل"، وإسقاط النون وهو بمعنى"يفعل وفاعل"، أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون.
فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: (ملاقو ربهم) وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى"يفعل" وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [سورة آل عمران: ١٨٥ الأنبياء: ٣٥ العنكبوت: ٥٧]، وكما قال: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) [القمر: ٢٧] ولما يرسلها (١) بعد; وكما قال الشاعر:
(١) في المطبوعة: "ولما يرسلها بعد".
20
هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد رب أخا عون بن مخراق؟ (١)
فأضاف"باعثا" إلى"الدينار"، ولما يبعث، ونصب"عبد رب" عطفا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر: (٢)
الحافظو عورة العشيرة، لا يأتيهم من ورائهم نطف (٣)
بنصب"العورة" وخفضها، فالخفض على الإضافة، والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة. (٤)
* * *
وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في (ملاقو) الإضافة، وهي في معنى يلقون، وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء، فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة، فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ، وترك الإضافة للمعنى.
* * *
(١) سيبويه ١: ٨٧، والخزانة ٣: ٤٧٦، والعيني ٣: ٥٦٣. قال صاحب الخزانة: "البيت من أبيات سيبويه التي لم يعرف قائلها. وقال ابن خلف: قيل هو لجابر بن رألان السنبسي، وسنبس أبو حي من طيء. ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير، وإلى تأبط شرا، وإلى أنه مصنوع والله أعلم بالحال! ". دينار وعبد رب، رجلان. والشاهد فيه نصب"عبد رب" على موضع"دينار"، لأن المعنى: هل أنت باعث دينارا أو عبد رب.
(٢) هو عمرو بن امرئ القيس، من بني الحارث بن الخزرج، وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، جاهلي قديم.
(٣) جمهرة أشعار العرب: ١٢٧، سيبويه ١: ٩٥، واللسان (وكف) والخزانة ٢: ١٨٨، ٣٣٧، ٤٨٣ / ٣: ٤٠٠، ٤٧٣. وهو من قصيدة يقولها لمالك بن العجلان النجاري في خبر مذكور. والعورة: المكان الذي يخاف منه مأتى العدو. والنطف: العيب والريبة، يقال: هم أهل الريب والنطف. وهذه رواية سيبويه والطبري، وأما رواية غيره فهي: "من ورائنا وكف"، والوكف العيب والنقص.
(٤) قال سيبويه ١: ٩٥: "لم يحذف النون للإضافة، ولا ليعاقب الاسم النون، ولكن حذفوها كما حذفوها من اللذين والذين، حين طال الكلام، وكان الاسم الأول منتهاه الاسم الآخر".
21
فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي، المتواضعين لأمري، الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم.
وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته; لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب، فالصلاة عنده عناء وضلال، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر، وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة، وإقامتها عليه ثقيلة، وله فادحة.
وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله، الراجين عليها جزيل ثوابه، الخائفين بتضييعها أليم عقابه، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: و"الهاء والميم" اللتان في قوله: (وأنهم) من ذكر الخاشعين، و"الهاء" في"إليه" من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: (ملاقو ربهم) فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون.
* * *
ثم اختلف في تأويل"الرجوع" الذي في قوله: (وأنهم إليه راجعون) فقال بعضهم، بما:-
22
٨٦٧- حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وأنهم إليه راجعون)، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم.
* * *
وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية; لأن الله تعالى ذكره، قال في الآية التي قبلها: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم، وذلك لا شك يوم القيامة، فكذلك تأويل قوله: (وأنهم إليه راجعون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله: (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي). وقد ذكرته هنالك (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: (وأني فضلتكم على العالمين) : أني فضلت أسلافكم، فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم، إذ كانت مآثر الآباء مآثر للأبناء،
(١) انظر ١: ٥٥٥ - ٥٥٩
23
والنعم عند الآباء نعما عند الأبناء، لكون الأبناء من الآباء، وأخرج جل ذكره قوله: (وأني فضلتكم على العالمين) مخرج العموم، وهو يريد به خصوصا; لأن المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه (١). كالذي:-
٨٦٨- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر -وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر- عن قتادة، (وأني فضلتكم على العالمين) قال: فضلهم على عالم ذلك الزمان.
٨٦٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وأني فضلتكم على العالمين) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما.
٨٧٠ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد في قوله: (وأني فضلتكم على العالمين) قال: على من هم بين ظهرانيه.
٨٧١ - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: على من هم بين ظهرانيه.
٨٧٢ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: (وأني فضلتكم على العالمين)، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان: ٣٢] قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره، وقد كان فيهم القردة، وهم أبغض خلقه إليه، وقال لهذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: ١١٠] قال:
(١) انظر ١: ١٤٣ - ١٤٦، ثم ١٥١ - ١٥٢. يقال لكل ما كان في وسط شيء ومعظمه: "هو بين ظهرينا وظهرانينا" على تقدير أنه مقيم بين ظهر من وراءه وظهر من أمامه، فهو مكنوف من جانبيه، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا. ويقال أيضًا: "هو بين أظهرهم مقيم" بهذا المعنى. ويقال أيضًا: " لقيته بين ظهراني الليل"، أي بين العشاء والفجر، وعلى هذا فقس استعمال هذه الكلمة.
24
هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه.
* * *
قال أبو جعفر: والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما:-
٨٧٣ - حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر جميعا، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:"ألا إنكم وفيتم سبعين أمة" -قال يعقوب في حديثه: أنتم آخرها-. وقال الحسن:"أنتم خيرها وأكرمها على الله". (١)
* * *
فقد أنبأ هذا الخبر عن النبي ﷺ أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن معنى قوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الجاثية: ١٦] وقوله: (وأني فضلتكم على العالمين) على ما بينا من تأويله.
(١) الحديث: ٨٧٣ - بهز، بفتح الباء وسكون الهاء: هو ابن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري. وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن المديني وغيرهما، ولا حجة لمن تكلم فيه، وقد ترجمه البخاري في الكبير ١ / ٢ /١٤٣، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ١ / ٤٣٠ - ٤٣١. بل أخرج له البخاري في الصحيح تعليقا، كما ذكر الحافظ في الإصابة ٦: ١١٢، في ترجمة جده. أبوه حكيم بن معاوية: تابعي ثقة، ترجمه البخاري ٢ / ١ /١٢، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٠٧. وجده معاوية بن حيدة: صحابي ثابت الصحبة، قال ابن سعد في الطبقات ٧ / ١ /٢٢:"وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وصحبه، وسأله عن أشياء، وروى عنه أحاديث". وترجمه البخاري ٤ / ١ /٣٢٩، وقال:"سمع النبي صلى الله عليه وسلم".
وهذا الحديث رواه الطبري هنا بإسنادين: من طريق ابن علية عن بهز، ومن طريق معمر بن راشد عن بهز. وسيأتي بهذين الإسنادين منفصلين (٤: ٣٠ بولاق).
ورواه الترمذي ٤: ٨٢ - ٨٣، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن بهز، عن أبيه، عن جده:"أنه سمع النبي ﷺ يقول، في قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، قال: أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله". ثم قال الترمذي:"هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد هذا الحديث عن بهز بن حكيم، نحو هذا، ولم يذكروا فيه (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ". ورواه ابن ماجه: ٤٢٨٨، من طريق ابن علية، عن بهز. ورواه الإمام أحمد في المسند (٥: ٣ حلبي)، عن يزيد بن هرون، عن بهز. ورواه (٥: ٥)، عن يحيى القطان، عن بهز.
ورواه الدارمي ٢: ٣١٣، عن النضر بن شميل، عن بهز. ورواه ابن ماجه أيضًا: ٤٢٨٧، من طريق ابن شوذب، عن بهز.
ثم لم ينفرد به بهز عن أبيه حكيم، إذ رواه أيضًا سعيد بن إياس الجريري: فرواه الإمام أحمد (٤: ٤٤٧)، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، بنحوه. ورواه أيضًا مطولا (٥: ٣)، عن حسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن الجريري. والحديث ذكره ابن كثير ١: ١٦٠، نسبه إلى"المسانيد والسنن". ثم ذكره مرة أخرى ٢: ٢١٤، عن"مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم". ثم قال عقبه:"وهو حديث مشهور. وقد حسنه الترمذي".
25
وقد أتينا على بيان تأويل قوله: (العالمين) بما فيه الكفاية في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) : واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا، كما قال الراجز:
قد صبحت، صبحها السلام... بكبد خالطها سنام
في ساعة يحبها الطعام (٢)
وهو يعني: يحب فيها الطعام. فحذفت"الهاء" الراجعة على"اليوم"، إذ فيه اجتزاء
(١) انظر ما سلف ١: ١٤٣ - ١٤٦.
(٢) الكامل ١: ٢٢، وأمالي ابن الشجري ١: ٦، ١٨٦ وغيرهما. صبح القوم: سقاهم الصبوح، وهو ما يشرب صباحا من لبن أو خمر. يدعو لها بالخير من حسن ما أطعمته على مسغبة كابدها.
26
-بما ظهر من قوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس) الدال على المحذوف منه- عما حذف، إذ كان معلوما معناه.
وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا"الهاء". وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا"فيه". وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه. (١)
* * *
وأما المعنى في قوله: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية -عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة، وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. (٢)
* * *
وأما تأويل قوله: "لا تجزي نفس" فإنه يعني: لا تغني: كما:-
٨٧٤- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: "واتقوا يوما لا تجزي نفس" أما"تجزي": فتغني.
* * *
أصل"الجزاء" -في كلام العرب-: القضاء والتعويض. يقال:"جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء"، بمعنى: قضيته دينه. ومن ذلك قيل:"جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا"، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب:"يقال أجزيت عنه كذا": إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته
وقال آخرون منهم: بل "جَزَيْتُ عنك" قضيت عنك. و"أجزَيتُ" كفيت.
(١) انظر ١: ١٣٩ - ١٤١، ١٧٩، وانظر لسان العرب (جزى).
(٢) تضمين من آية سورة لقمان: ٣٣.
27
وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال:"جزت عنك شاة وأجزَت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي" بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن"جزت عنك، ولا تُجزي عنك" من لغة أهل الحجاز، وأن"أجزأ وتجزئ" من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول:"أجزأت عنك شاة، وهي تجزئ
عنك". وزعم آخرون أن"جزى" بلا همز: قضى، و"أجزأ" بالهمز: كافأ (١) فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى.
فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟
قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه. وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها- يسر الرجل أن يَبْرُدَ له على ولده أو والده حق. (٢) وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما:
٨٧٥- حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي، قالا: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مَظلمة في عِرض -قال أبو كريب في حديثه: أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم" (٣)
(١) انظر ما جاء في ذلك في لسان العرب (جزى)، والذي جاء به الطبري أتم وأبين.
(٢) يرد عليه حق: وجب ولزم. ويرد لي كذا وكذا: أي ثبت. ويقال: لي عليه ألف بارد، أي ثابت.
(٣) الحديث: ٨٧٥ - هذا إسناد صحيح. نصر بن عبد الرحمن الأزدي: سبق في. ٤٢٣، وأثبت في الشرح هناك"التاجي"، وهو سهو، صوابه"الناجي" بالنون. و"الأزدي" بالزاي، وفي المطبوعة هنا"الأودي" بالواو، وهو خطأ. المحاربي: هو عبد الرحمن بن محمد، سبق في: ٢٢١. أبو خالد الدالاني، يزيد بن عبد الرحمن: تكلموا فيه، والحق أنه ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره، وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢ /٣٤٦ - ٣٤٧، وابن أبي حاتم ٤/٢ /٢٧٧، فلم يذكرا فيه جرحا. وهو مترجم في التهذيب في الكني، لخلاف في اسم أبيه، ولكن رجح الترمذي والطبري ما ذكرنا، وكذلك رجح البخاري وابن أبي حاتم."الدالاني" في المطبوعة هنا"الدولابي"، وهو خطأ، صححناه من المخطوطة.
والحديث رواه الترمذي ٣: ٢٩٢، عن هناد، ونصر بن عبد الرحمن، كلاهما عن المحاربي، بهذا الإسناد، ثم قال: " هذا حديث حسن صحيح. وقد روى مالك بن أنس، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه ".
وقوله أثناء الحديث "قال أبو كريب"، في المطبوعة " قال أبو بكر"، وهو خطأ واضح، صحته من المخطوطة.
28
٨٧٦- حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا الفروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه. (١)
٨٧٧- حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أبو همام الأهوازي، قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد، عن سعيد عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه. (٢)
(١) الحديث: ٨٧٦ - هو الحديث السابق، بمعناه، ولكن من رواية مالك. وهي الرواية التي نقلنا إشارة الترمذي إليها. أبو عثمان المقدمي - بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المهملة المفتوحة: وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر، نسب إلى"مقدم" أحد أجداده. وهو ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم ١/١/ ٧٣، وقال:"سمعت منه بمكة، وهو صدوق"، وترجمه السمعاني في الأنساب، في الورقة: ٥٣٩ والخطيب في تاريخ بغداد ٤: ٣٩٨ - ٣٩٩، مات سنة ٢٦٤. الفروي: بفتح الفاء وسكون الراء، نسبة إلى أحد أجداده، وفي المطبوعة بالقاف بدل الفاء، وهو تصحيف. وهو: إسحاق بن محمد بن أبي فروة، أحد الرواة عن مالك، وأحد شيوخ البخاري، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: ٧٤٢٥ والحديث من طريق مالك: رواه البخاري ١١: ٣٤٣ - ٣٤٤ (فتح الباري)، عن إسماعيل - وهو ابن أبي أويس، ابن أخت مالك ونسيبه - عن مالك. ورواه أحمد في المسند: ٩٦١٣ (٢: ٤٣٥ حلبي)، من طريق مالك وابن أبي ذئب، كلاهما عن المقبري. ثم رواه أيضًا: ١٠٥٨٠ (٢: ٥٠٦)، من طريق ابن أبي ذئب. ورواه البخاري أيضًا ٥: ٧٣، من طريق ابن أبي ذئب. وأوله في هذه الروايات:
"من كانت عنده مظلمة )، فذكر نحوه، بمعناه.
(٢) الحديث: ٨٧٧ - هو الحديث السابق، بنحوه، من طريق أخرى. أبو همام الأهوازي: هو محمد بن الزبرقان، وهو ثقة، وترجمه البخاري في الكبير ١ /١ / ٨٧، وقال:"معروف الحديث"، ابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ٢٦٠، وأخرج له الشيخان في الصحيحين. عبد الله بن سعيد: أنا أرجح أنه"عبد الله بن سعيد بن أبي هند"، وهو ثقة. وبعيد أن يكون"عبد الله بن سعيد المقبري"، إذ يأباه سياق الإسناد، لو كان إياه لكان"عبد الله بن سعيد عن أبيه". أما وهو"عبد الله بن سعيد عن سعيد" - فالظاهر أنه غير ابن سعيد المقبري. والحديث صحيح بكل حال، بالأسانيد السابقة.
29
٨٧٨ - حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يموتن أحدكم وعليه دين، فإنه ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات" وأشار رسول الله ﷺ بيده يمينا وشمالا. (١)
٨٧٩ - حدثني محمد بن إسحاق، قال: قال: حدثنا سالم بن قادم، قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى، قال: أخبرني الحارث بن مسلم، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله ﷺ بنحو حديث أبي هريرة. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا)
(١) الحديث: ٨٧٨ - هذا إسناد صحيح متصل عن ابن عباس، ولم أجده في مسند الإمام أحمد، ولا في الكتب الستة، ولا في مجمع الزوائد، ولا أشار إليه الترمذي في قوله"وفي الباب". فهو فائدة زائدة، يستفاد من رواية أبي جعفر رحمه الله.
(٢) الحديث: ٨٧٩ - هذا إسناد فيه إشكال لم أستطع تحقيقه. أما"سلم بن قادم": فإنه"سلم" بفتح السين وسكون اللام. وفي المطبوعة هنا"سالم" بالألف بعد السين، وهو خطأ. وسلم هذا: بغدادي ثقة، يروي عن سفيان بن عيينة، وبقية بن الوليد، وغيرهما. ترجمه ابن أبي حاتم ٢ /١ / ٢٦٨، والخطيب في تاريخ بغداد ٩: ١٤٥ - ١٤٦. وله ترجمة موجزة في لسان الميزان ٣: ٦٥.
وأبو معاوية هاشم بن عيسى: هو هاشم بن أبي هريرة الحمصي، اشتهر بالانتساب إلى كنية أبيه، أعنى"هاشم بن أبي هريرة". ترجمة ابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٠٥، ولم يذكر فيه جرحا. وله ترجمة غير محررة في لسان الميزان ٦: ١٨٤، ذكر فيها اسم الراوي عنه"مسلم بن قادم"، وهو تحريف.
وأما الإشكال في الإسناد، ففي"الحارث بن مسلم"، الراوي هنا عن الزهري. فما أدري من ذا؟ ولا ما صحته؟ ولعل فيه تحريفا لم أستطع إدراكه. ثم لم أجد هذا الحديث من حديث أنس قط، بعد طول البحث والتتبع. وهناك في المستدرك للحاكم ٤: ٥٧٦، حديث آخر لأنس، من وجه آخر فيه بعض هذا المعنى. إسناده ضعيف.
30
يعني: أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق، فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه؟. (١)
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) : لا تجزي منها أن تكون مكانها.
وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده. (٢) وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل:"ما أغنيت عني شيئا"، بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني، بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء، قالوا:"لا يجزي هذا من هذا"، ولا يستجيزون أن يقولوا:"لا يجزي هذا من هذا شيئا".
فلو كان تأويل قوله: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) ما قاله من حكينا قوله لقال: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس) كما يقال: لا تجزي نفس من نفس، ولم يقل:"لا تجزي نفس عن نفس شيئا". وفي صحة التنزيل بقوله:"لا تجزي نفس عن نفس شيئا" أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾
قال أبو جعفر: و"الشفاعة" مصدر من قول الرجل:"شفع لي فلان إلى فلان شفاعة (٤) وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع"شفيع وشافع" لأنه
(١) في المطبوعة: "فيأخذه منه"، والذي في المخطوطة أعرب. تجافى له عن الشيء: أعرض عنه ولم يلازمه بطلبه، وتجاوز له عنه.
(٢) انظر ما مضى في معنى"ظاهر" ١، ٧٢، تعليق: ٢، وهذا الجزء ٢: ١٥.
(٣) هذا من جيد البيان عن معاني اللغة، وهو منهج من النظر سبق به الطبري كل من تكلم في الفصل بين معاني الكلام العربي.
(٤) في المخطوطة: " شفع لي فلان شفاعة". بالحذف.
31
ثنى المستشفع به، فصار به شفعا (١) فكان ذو الحاجة -قبل استشفاعه به في حاجته- فردا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة. ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض"شفيعا" لمصير البائع به شفعا. (٢)
* * *
فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق.
وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما:-
٨٨٠ - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا حجاج بن نصير، عن شعبة، عن العوام بن مراجم -رجل من قيس بن ثعلبة-، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان: أن رسول الله ﷺ قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة، كما قال الله عز وجل (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)... [الأنبياء: ٤٧] الآية (٣)
(١) في المطبوعة: " المستشفع له"، وهو خطأ، كما يدل عليه تمام الكلام.
(٢) قال ابن قتيبة في تفسير"الشفعة": "كان الرجل في الجاهلية، إذا أراد بيع منزل، أتاه رجل فشفع إليه فيما باع، فشفعه وجعله أولى بالميبع ممن بعد سببه. فسميت شفعة، وسمى طالبها شفيعا". والشفعة في الدار والأرض: القضاء بها لصاحبها (اللسان: شفع).
(٣) الحديث: ٨٨٠ - عباس بن أبي طالب: هو عباس بن جعفر بن الزبرقان البغدادي، وهو ثقة، مترجم في التهذيب، ترجمه ابن أبي حاتم ٣ / ١ /٢١٥، والخطيب في تاريخ بغداد ١٢: ٤١١ - ١٤٢."العوام بن مراجم". بالراء والجيم، ثبت في الأصول"مزاحم" بالزاي والحاء، وهو تصحيف.
والحديث ضعيف الإسناد، من أجل حجاج بن نصير الفساطيطي. وقد رواه عبد الله بن أحمد، في الزوائد على المسند: ٥٢٠، عن عباس بن محمد وأبي يحيى البزار، كلاهما عن حجاج بن نصير. وقد فصلنا القول في ضعفه هناك.
وأما معناه فصحيح ثابت، من حديث أبي هريرة، رواه أحمد في المسند: ٧٢٠٣. ورواه مسلم، والترمذي، وصححه. "الجماء": لا قرن لها. و"القرناء": ذات القرن.
32
فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله -مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله في اتباع محمد ﷺ وما جاءهم به من عنده- بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم؛ وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله (١).
وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وأنه قال:"ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا". (٢)
فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين -بشفاعة نبينا محمد ﷺ لهم- عن كثير من عقوبة إجرامهم بينهم وبينه (٣) وأن قوله: (ولا يقبل منها شفاعة) إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل. وليس هذا من مواضع الإطالة في القول في الشفاعة والوعد والوعيد، فنستقصي الحجاج في ذلك، وسنأتي على ما فيه الكفاية في مواضعه إن شاء الله.
* * *
(١) في المطبوعة: "في رحمة الله" وليست بجيدة.
(٢) حديث: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي": هكذا ذكره الطبري دون إسناد. وهو حديث صحيح، ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ونسبه لأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم-عن أنس. والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم-عن جابر. انظر شرح المناوي الكبير، رقم ٤٨٩٢ (ج ٤ ص ١٦٣).
وحديث"ليس من نبي" إلخ: كذلك جاء به الطبري دون إسناد. ومعناه ثابت صحيح، من حديث أنس بن مالك، رواه البخاري، ومسلم. انظر الترغيب والترهيب ٤: ٢١٣.
(٣) في المطبوعة: "إجرامهم بينه وبينهم"، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد.
33
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾
قال أبو جعفر: و"العدل" -في كلام العرب بفتح العين-: الفدية، كما:-
٨٨١ - حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: يعني فداء.
٨٨٢ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: (ولا يؤخذ منها عدل) أما عدل: فيعدلها من العدل، يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
٨٨٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
٨٨٤ - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: بدل، والبدل: الفدية.
٨٨٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (ولا يؤخذ منها عدل) قال: لو أن لها ملء الأرض ذهبا لم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
٨٨٦ - وحدثني نجيح بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن حكيم، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرو بن قيس الملائي، عن رجل من بني أمية -من أهل الشام أحسن عليه الثناء-، قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل: الفدية (١).
(١) الحديث: ٨٨٦ - نجيح بن إبراهيم: لم أجد في كل المراجع التي بين يدى، غير ترجمة"نجيح بن إبراهيم بن محمد الكرماني"، في لسان الميزان ٦: ١٤٩، وأنه كوفي ثقة، يروي عن أبي نعيم فهو من طبقة شيوخ الطبري. فالراجح أنه هو. علي بن حكيم - بفتح الحاء - هو الأودي الكوفي، وهو ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. حميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي، وأبوه: ثقتان. عمرو بن قيس الملائي - بضم الميم وتخفيف اللام - الكوفي: ثقة من أتباع التابعين. وقد روى هذا الحديث مرفوعا، عن رجل أبهم اسمه وأثنى عليه، والراجح أنه تابعي. فيكون الإسناد مرسلا أو منقطعا، فهو ضعيف ولم أجده عن غير الطبري، نقله عنه ابن كثير ١: ١٦١، والسيوطي ١: ٦٨.
34
وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه"عدل"، لمعادلته إياه وهو من غير جنسه; ومصيره له مثلا من وجه الجزاء، لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: ٧٠] بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها. (١) يقال منه:"هذا عدله وعديله". وأما"العدل" بكسر العين، فهو مثل الحمل المحمول على الظهر، يقال من ذلك:"عندي غلام عدل غلامك، وشاة عدل شاتك" -بكسر العين-، إذا كان غلام يعدل غلاما، وشاة تعدل شاة. (٢) وكذلك ذلك في كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل:"عندي عدل شاتك من الدراهم". وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من"العدل" الذي هو بمعنى الفدية لمعادلة ما عادله من جهة الجزاء، وذلك لتقارب معنى العدل والعدل عندهم، فأما واحد"الأعدال" فلم يسمع فيه إلا"عدل" بكسر العين. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) ﴾
وتأويل قوله: (ولا هم ينصرون) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة
(١) الجملة في تفسير الآية، ساقطة من المخطوطة.
(٢) وهذه الجملة في المخطوطة جاءت هكذا: "يقال من ذلك: عندي غلام عدل غلاما وشاة عدل شاة"، واكتفى بهذا القدر منها، مع الخطأ البين فيها.
(٣) وهذا أيضًا بيان جيد، قلما تصيبه في كتاب من كتب اللغة.
35
واضمحلت الرشى والشفاعات، وارتفع بين القوم التعاون والتناصر (١) وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات: ٢٤-٢٦] وكان ابن عباس يقول في معنى: (لا تناصرون)، ما:-
٨٨٧ - حدثت به عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ما لكم لا تناصرون) ما لكم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم! (٢)
* * *
وقد قال بعضهم في معنى قوله: (ولا هم ينصرون) : وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية.
* * *
قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بتأويل الآية لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية -لمن استحق من خلقه عقوبته-، ولا شفاعة فيه، ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا، فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه.
* * *
(١) في المطبوعة: "وارتفع من القوم"، وهو خطأ. وارتفع هنا: بمعنى ذهب وانقضى مجاز من الارتفاع، وهو العلو.
(٢) الأثر: ٨٨٧ - لم يذكره في تفسير الآية من سورة الصافات، انظر (٢٣: ٣٢ بولاق)
36
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾
أما تأويل قوله: (وإذ نجيناكم) فإنه عطف على قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي). فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا
36
إنعامنا عليكم -إذ نجيناكم من آل فرعون- بإنجائناكم منهم. (١)
* * *
وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه.
وأصل"آل" أهل، أبدلت الهاء همزة، كما قالوا"ماء" (٢) فأبدلوا الهاء همزة، فإذا صغروه قالوا:"مويه"، فردوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا آل، قالوا:"أهيل". وقد حكي سماعا من العرب في تصغير"آل":"أويل". (٣) وقد يقال:"فلان من آل النساء" (٤) يراد به أنه منهن خلق، ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن، كما قال الشاعر:
فإنك من آل النساء وإنما يَكُنَّ لأدْنَى; لا وصال لغائب (٥)
وأحسن أماكن"آل" أن ينطق به مع الأسماء المشهورة، مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي، وآل عباس، وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول، وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك; غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل، ورآني آل المرأة -ولا-: رأيت آل البصرة، وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول:"رأيت آل مكة وآل المدينة". وليس ذلك في كلامهم بالفاشي المستعمل (٦).
* * *
(١) في المطبوعة: "بإنجائنا لكم منهم"، غيروه ليستقيم وما ألفوه من دارج الكلام
(٢) في المطبوعة: "كما قالوا: ماه"، وهو خطأ بين.
(٣) انظر مادة (أهل) و (أول) في لسان العرب.
(٤) في المطبوعة: "وقد يقال: فلان... "
(٥) لم أجد البيت ولم أعرف قائله، وقوله: "يكن لأدنى" يعني للداني القريب الحاضر، يصلن حباله بالمودة، أما الغائب فقد تقطعت حباله. وتلك شيمهن، أستغفر الله بل شيمة أبناء أبينا آدم.
(٦) في المطبوعة: "بالمستعمل الفاشي".
37
وأما"فرعون" فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به، كما كانت ملوك الروم يسمى بعضهم"قيصر" وبعضهم"هرقل"، وكما كانت ملوك فارس تسمى"الأكاسرة" واحدهم"كسرى"، وملوك اليمن تسمى"التبابعة"، واحدهم"تبع".
وأما"فرعون موسى" الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه"الوليد بن مُصعب بن الريان"، وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه.
٨٨٨ - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أن اسمه الوليد بن مُصعب بن الريان. (١)
* * *
وإنما جاز أن يقال: (وإذ نجيناكم من آل فرعون)، والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجَّين منه، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة، كما يقول القائل لآخر:"فعلنا بكم كذا، وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبيناكم"، والمخبِر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك، أو أهل بلده ووطنه -كان المقولُ له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه، كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية:
ولقد سما لكم الهذيل فنالكم بإرَابَ، حيث يقسِّم الأنفالا (٢)
(١) انظر تاريخ الطبري ١: ١٩٩.
(٢) ديوانه: ٤٨، ونقائض جرير والأخطل: ٧٧ - ٧٨. قال الطبري فيما مضى ١: ٣٦٦: "سما فلان لفلان": إذا أشرف عليه وقصد نحوه عاليا عليه". والهذيل، هو الهذيل بن هبيرة التغلبي غزا بني يربوع بإراب (وهو ماء لبنى رياح بن يربوع) فقتل منهم قتلا ذريعا. وأصاب نعما كثيرا، وسبى سببا كثيرا، منهم"الخطفى" جد جرير، فسمى الهذيل"مجدعا"، وصارت بنو تميم تفزع أولادها باسمه. (انظر خبر ذلك في النقائض ٤٧٣، ونقائض جرير والأخطل: ٧٨) نالكم: أدرككم وأصاب منكم ما أصاب. والأنفال جمع نفل (بفتحتين) : وهي الغنائم. وفي المطبوعة: "تقسم" وهي صواب لا بأس بها.
38
في فيلق يدعو الأراقم، لم تكن فرسانه عُزلا ولا أكفالا (١)
ولم يلحق جرير هذيلا ولا أدركه، ولا أدرك إراب ولا شهده. (٢) ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه. فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم. (٣).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾
وفي قوله: (يسومونكم) وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل، فيكون معناه حينئذ: واذكروا نعمتي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون (٤) وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويله كان موضع"يسومونكم" رفعا.
والوجه الثاني: أن يكون"يسومونكم" حالا فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم
(١) الفيلق: الكتيبة العظيمة. وقوله: "يدعو" الضمير للهذيل. والأراقم: هم جشم ومالك والحارث وثعلبة ومعاوية وعمرو - أبناء بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، رهط الهذيل. وأنما سموا الأراقم لأن كاهنتهم نظرت إليهم وهم صبيان، وكانوا تحت دثار لهم، فكشفت الدثار، فلما رأتهم قالت: "كأنهم نظروا إلى بعيون الأراقم"، والأراقم جمع أرقم: وهو أخبث الحيات، وأشدها ترقدا وطلبا للناس. والعزل جمع أعزل: وهو الذي لا سلاح معه، والأكفال جمع كفل (بكسر فسكون) : وهو الذي لا يثبت على متن فرسه، ولا يحسن الركوب.
(٢) في المطبوعة: "ولم يلق جرير... ".
(٣) انظر ما سلف قريبا، ٢٣ - ٢٤
(٤) في المطبوعة: "إذ نجيناكم... " علي سياق الآية، وهذه أجود.
39
من آل فرعون سائميكم سوء العذاب، فيكون حالا من آل فرعون.
* * *
وأما تأويل قوله: (يسومونكم) فإنه: يوردونكم، ويذيقونكم، ويولونكم، يقال منه:"سامه خطة ضيم"، إذا أولاه ذلك وأذاقه، كما قال الشاعر: إن سيم خسفا، وجهه تربدا (١)
* * *
فأما تأويل قوله: (سوء العذاب) فإنه يعني: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشد العذاب; ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأ العذاب.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوؤهم؟ (٢)
قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم)، وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما:-
٨٨٩ - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: أخبرنا ابن إسحاق، قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، [وصنف يحرثون]، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة [له] من عمله: فعليه الجزية -فسامهم- كما قال الله عز وجل: سوء العذاب. (٣)
(١) لم أجد الرجز. الخسف: الظلم والإذلال والهوان، وهي شر ما ينزل بالإنسان، وأقبح ما ينزله أخ بأخيه الإنسان. وتربد وجهه: تلون من الغضب وتغير، كأنما تسود منه مواضع. وقوله: "وجهه" فاعل مقدم، أي تربد وجهه.
(٢) قوله: "الذي كان يسوؤهم"، ليس في المخطوطة، سقط منها.
(٣) الأثر: ٨٨٩ - من خبر طويل في تاريخ الطبري ١: ١٩٩، والزيادة بين الأقواس من موضعها هناك ويقال: هؤلاء خول فلان: إذا اتخذهم عبيدا.
40
وقال السدي: جعلهم في الأعمال القذرة، وجعل يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم:
٨٩٠ - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل = من سومهم إياهم سوء العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم = إليهم، دون فرعون -وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون، وعن أمره- لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه، وإن كان عن أمر غيره، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه، وإن كان الآمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك -سلطانا كان الآمر، أو لصا خاربا، أو متغلبا فاجرا. (٢) كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك، فعلوا ما فعلوا، مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو المقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله. (٣)
* * *
(١) الأثر: ٨٩٠ - من خبر طويل في تاريخ الطبري ١: ٢٠٠، وانظر ما سيأتي رقم: ٨٩٥.
(٢) الخارب: اللص الشديد الفساد، من قولهم: فلان صاحب خربة (بضم فسكون) أي فساد وريبة، ومنه الخارب: من شدائد الدهر. وأما أصحاب اللغة فيقولون: الخارب: سارق الإبل خاصة، ثم نقل إلى غيره من اللصوص اتساعا.
(٣) في المطبوعة: "وإن كان قتله إياه"، وهو تصرف لا خير فيه.
41
وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل، واستحيائهم نساءهم، (١) فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي:-
٨٩١ - حدثنا به العباس بن الوليد الآملي وتميم بن المنتصر الواسطي، قالا حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد، قال: حدثنا القاسم بن أيوب، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفارُ (٢) يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم؛ ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان القابل حملت بموسى. (٣)
٨٩٢ - وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي،
(١) في المطبوعة: "ذبح"، مكان"ذبحهم"، وسقط من المخطوطة قوله: "أبناء".
(٢) الشفار جمع شفرة: وهي السكين العريضة العظيمة الحديدة، تمتهن في قطع اللحم وغيره.
(٣) الأثر: ٨٩١ - هذا موقوف، وإسناده صحيح إلى ابن عباس. أما صحة المتن، فلا نستطيع أن نجزم بها، لعله مما كان يتحدث به الصحابة عن التاريخ القديم نقلا عن أهل الكتاب. العباس بن الوليد بن مزيد الآملي البيروتي: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه ابن أبي حاتم ٣ /١ / ٢١٤ - ٢١٥. وتميم بن المنتصر بن تميم الواسطي: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه ابن أبي حاتم ١ / ١/ ٤٤٤ - ٤٤٥. والأصبغ بن زيد بن علي الجهني الواسطي الوراق: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير ١ /٢/ ٣٦، وابن أبي حاتم ١ / ١/ ٣٢٠ - ٣٢١. القاسم بن أبي أيوب الأسدي الواسطي: ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ١ /١٦٨ - ١٦٩، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٠٧. ووقع في المطبوعة هنا" القاسم بن أيوب"، وهو خطأ.
وهو في تاريخ الطبري بتمامه ١: ٢٠٢، مع اختلاف يسير في اللفظ. وفي المخطوطة في هذا الموضع أخطاء من الناسخ تجافينا عن ذكرها. وفي المطبوعة والمخطوطة:"فولدته علانية أمه"، والصواب من التاريخ.
42
قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشرة رجلا فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه، فإن كان ذكرا فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). (١)
٨٩٣ - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل (٢) فإذا ولدت امرأة غلاما أُتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.
٨٩٤ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) الآية، قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، وإنه أتاه آت، فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل، فيظهر عليك، ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم.
٨٩٥ - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
(١) الأثر: ٨٩٢ - وهذا كالذي قبله، موقوف، إسناده إلى ابن عباس صحيح. وقد رواه الطبري بهذا الإسناد، في التاريخ أيضًا ١: ٢٢٥.
عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطان: ثقة مأمون، مات سنة ٢٧٨. ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ١١: ٧٨ - ٧٩، وياقوت في معجم الأدباء ٤: ١٥٤. إبراهيم بن بشار الرمادي: ثقة، يهم في الشيء بعد الشيء. مترجم في التهذيب، وفي الكبير ١ / ١ / ٢٧٧، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٨٩ - ٩٠. أبو سعيد - الراوي عن عكرمة: هو عبد الكريم بن مالك الجزري.
ولم أجد الأثر في مكانه من تاريخ الطبري.
(٢) قوابل جمع قابلة: وهي المرأة التي تتلقى الولد عند الولادة.
43
أسباط بن نصر عن السدي، قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة، فسألهم عن رؤياه (١) فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه -يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم; فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: (إن فرعون علا في الأرض) -يقول: تجبر في الأرض- (وجعل أهلها شيعا) -، يعني بني إسرائيل، حين جعلهم في الأعمال القذرة-، (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ) [القصص: ٤] فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت، فأسرع فيهم. فدخل رءوس القبط على فرعون، فكلموه، فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا! بذبح أبنائهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار! (٢) فلو أنك كنت تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون، فترك; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى. (٣).
٨٩٦ - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه (٤) فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه (٥) يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان، وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء [أهل] مملكته، فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن. (٦)
٨٩٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال، لقد ذكر [لي] أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه (٧) فيحز أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها (٨) فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت الناس
(١) الكهنة جمع كاهن: وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان. والعافة جمع عائف: وهو الذي يتعاطى العيافة، وهو تكهن كان في الجاهلية، ذكروا أنها زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها. وفي اللسان (حزا) : العائف: العالم بالأمور، ولا يستعاف إلا من علم وجرب وعرف. فلعل الذي وصفه أصحاب كتب اللغة إنما هو ضرب واحد من ضروب العيافة. والقافة جمع قائف: وهو الذي يتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، وليست من السحر والكهانة ولا الجبت. ولعل زيادة ذكرها هنا زيادة من النساخ، فإن الذي جاء في رواية التاريخ: "القافة"، ولم يذكر"العافة"، فلعل الذي في التاريخ تصحيف صوابه"العافة"، والحازة جمع حاز، والحازي: هو الذي ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره، فربما أصاب، وهو الحزاء (بتشديد الزاي).
(٢) في المطبوعة: نذبح أبناءهم"، والصواب من التاريخ.
(٣) الأثر: ٨٩٥ - في تاريخ الطبري ١: ٢٠٠، وإسناده هناك هو الإسناد الذي يدور في التفسير وتمامه: "... عن السدي في خبره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم... ".
(٤) في المطبوعة: "فرعون وأحزابه"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة وتاريخ الطبري والحزاة جمع حاز أيضًا، كقاض وقضاة. والحازى: سلف شرحه في ص: ٣٨، تعليق: ١.
(٥) في المطبوعة: " نعم، إنا نجد في علمنا"، وهو خطأ معرق. وتعلم (بتشديد اللام) : بمعنى أعلم، وهي فاشية في سيرة ابن إسحاق وغيره. وانظر تعليقنا فيما مضى ١: ٢١٧. وأظلك: صار كالظل، أي قارب ودنا دنوا شديدا.
(٦) الأثر: ٨٩٦ - في تاريخ الطبري ١: ١٩٩، والزيادة بين القوسين، والتصحيح منه.
(٧) في المطبوعة: "ثم يؤتى... فيوقفن"، بالبناء للمجهول. وذاك نص التاريخ والمخطوطة.
(٨) مصعت المرأة بولدها: زحرت زحرة واحدة فرمته من بطنها وألقته.
44
وقطعت النسل! وإنهم خولك وعمالك! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم (٢) فتأويل قوله إذًا -على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم-: (ويستحيون نساءكم)، يستبقونهن فلا يقتلونهن.
وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: (ويستحيون نساءكم)، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن - أن يكون جائزا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادها:"امرأة" (٣) والصبايا الصغار وهن أطفال:"نساء". لأنهم تأولوا قول الله عز وجل: (ويستحيون نساءكم)، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.
وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال بما:-
٨٩٨ - حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ويستحيون نساءكم) قال: يسترقون نساءكم.
(١) الأثر: ٨٩٧ - في تاريخ الطبري ١: ١٩٩ - ٢٠٠.
(٢) هذه جملة سقط منها خبر"كان"، وهي هكذا في الأصول، وأظن أن صوابها: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم، أن فرعون أمر، بقتل كل مولود يولد من أبناء بني إسرائيل، وباستحياء نسائهم" كما في الأثرين: ٨٩١، ٨٩٦، فكأن سطرا سقط من الناسخ.
(٣) في المطبوعة: " الطفلة من الإناث". والعرب تقول: جارية طفل وطفلة، وجاريتان طفل، وجوار طفل، قال تعالى: "ثم يخرجكم طفلا"، وقال: "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء".
46
فحاد ابن جريج، بقوله هذا، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: (ويستحيون نساءكم) : إنه استحياء الصبايا الأطفال، إذ لم يجدهن يلزمهن اسم"نساء" (١) ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله"ويستحيون"، يسترقون، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية (٢). وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياة (٣) نظير"الاستبقاء" من"البقاء"، و"الاستسقاء" من"السقي". وهو من معنى الاسترقاق بمعزل.
* * *
وقد تأول آخرون: قوله (٤) (يذبحون أبناءكم)، بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم، وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحيين هم النساء، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء، ما بين أن المذبحين هم الرجال (٥).
قال أبو جعفر: وقد أغفل قائلو هذه المقالة - مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين - موضع الصواب. وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء، لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم، أو لو أن موسى كان رجلا لم تجعله أمه في التابوت.
(١) في المطبوعة: "قال: إذ لم يجدهن" بزيادة"قال"، وهو فساد.
(٢) في المطبوعة: "عجمية".
(٣) في المطبوعة: "إنما هو الاستفعال من الحياة"، وليس بشيء
(٤) في المطبوعة: ""وقد قال آخرون... "، وليس بشيء.
(٥) في المطبوعة: "ما يبين أن المذبحين".
47
ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل: من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: (ويستحيون نساءكم)، إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن - وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن، فقيل: (ويستحيون نساءكم)، يعني بذلك الوالدات والمولودات، كما يقال:"قد أقبل الرجال" وإن كان فيهم صبيان. فكذلك قوله: (ويستحيون نساءكم). وأما من الذكور، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون، قيل:"يذبحون أبناءكم"، ولم يقل: يذبحون رجالكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) ﴾
أما قوله: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)، فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم (١) - مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، على ما وصفت - بلاء لكم من ربكم عظيم.
* * *
ويعني بقوله"بلاء": نعمة، كما:-
٨٩٩ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (بلاء من ربكم عظيم)، قال: نعمة.
٩٠٠ - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)، أما البلاء فالنعمة.
(١) في المطبوعة: "من إنجائنا إياكم"، بدلوه ليجرى على دارج كلامهم.
48
٩٠١ - وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)، قال: نعمة من ربكم عظيمة.
٩٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثل حديث سفيان.
٩٠٣ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)، قال: نعمة عظيمة (١).
* * *
وأصل"البلاء" في كلام العرب - الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال ربنا جل ثناؤه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: ١٦٨]، يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: ٣٥]. ثم تسمي العرب الخير"بلاء" والشر"بلاء". غير أن الأكثر في الشر أن يقال:"بلوته أبلوه بلاء"، وفي الخير:"أبليته أبليه إبلاء وبلاء"، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (٢)
فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.
(١) الأثر: ٩٠٣ - مقدم في المخطوطة على الذي قبله.
(٢) ديوانه: ١٠٩، وروايته"رأى الله... فأبلاهما". وهذا بيت من قصيدة من جيد شعر زهير وخالصه.
49
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾
أما تأويل قوله: (وإذ فرقنا بكم)، فإنه عطف على: (وإذ نجيناكم)، بمعنى: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون، وإذ فرقنا بكم البحر.
ومعنى قوله: (فرقنا بكم) : فصلنا بكم البحر. لأنهم كانوا اثني عشر سبطا؛ ففرق البحر اثني عشر طريقا، فسلك كل سبط منهم طريقا منها، فذلك فرق الله بهم عز وجل البحر، وفصله بهم، بتفريقهم في طرقه الاثني عشر، كما:-
٩٠٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما أتى موسى البحر كنّاه"أبا خالد"، وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط. (١)
* * *
وقد قال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر)، فرقنا بينكم وبين الماء. يريد بذلك: فصلنا بينكم وبينه، وحجزناه حيث مررتم به. وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة، (٢) لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم، ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر، فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة، وفرقه البحر بالقوم، إنما هو تفريقه البحر بهم، على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم، على ما جاءت به الآثار.
(١) الأثر ٩٠٤ - من خبر طويل في تاريخ الطبري، وهذه الفقرة منه في ١: ٢١٤، وانظر أيضًا رقم: ٩١٠.
(٢) انظر تفسير"الظاهر" فيما مضى: ٢: ١٥، والمراجع.
50
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون ونجى بني إسرائيل؟
قيل له، كما:-
٩٠٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل، سوى ما في جنده من شهب الخيل. (١)
وخرج موسى، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف، طلع فرعون في جنده من خلفهم، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ) مُوسَى (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء: ٦١-٦٢] أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده. (٢)
٩٠٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: أوحى الله إلى البحر -فيما ذكر لي: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب. بعضه بعضا فرقا من الله وانتظاره أمره. (٣) فأوحى الله جل وعز إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، وفيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل على نشز من الأرض
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "من شية الخيل"، وشية الفرس: لونه، فكان الأجود أن يقول: "من شيات الخيل". وفي التاريخ. "من شهب الخيل"، كما أثبتناه. والشهب جمع أشهب، والشُّهبة في ألوان الخيل: أن تشق معظم لونه شعرة أو شعرات بيض، كميتا كان الفرس أو أشقر أو أدهم.
(٢) الأثر: ٩٠٥ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٧، وفيه"ولا خلف لموعوده". والموعود كالوعد، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول.
(٣) في المطبوعة: "فثاب البحر... "، وهو تصحيف، والصواب في المخطوطة والتاريخ. وفي المطبوعة: "وانتظار أمره"، وفي التاريخ"وانتظارا لأمره"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو جيد.
51
(١). يقول الله لموسى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) [طه: ٧٧]. فلما استقر له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ (٢) سلك فيه موسى ببني إسرائيل، وأتبعه فرعون بجنوده. (٣)
٩٠٧ - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال: حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر، وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن ينفذ. (٤) فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق، (٥) فقربها منه فشمها الفحل، فلما شمها قدمها، (٦) فتقدم معها الحصان عليه فرعون. فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل، دخلوا معه وجبريل أمامه، وهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم، يقول:"الحقوا بصاحبكم". حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى، وليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون -حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذله، وخذلته نفسه (٧) -: (لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٨) [يونس: ٩٠].
(١) في المطبوعة: "على يبس من الأرض"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. والنشز: المتن المرتفع من الأرض - أو ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ.
(٢) في المطبوعة: "فلما استقر لهم... ".
(٣) الأثر: ٩٠٦ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٧.
(٤) هكذا في المخطوطة والمطبوعة"أن ينفذ"، وفي التاريخ: "أن يتقدم"، وكأنها الصواب، والآخر تحريف، سقط الميم من آخره.
(٥) فرس وديق: مريدة للفحل تشهيه.
(٦) في المطبوعة"فلما شمها تبعها"، وهو خطأ وخلط. والصواب ما في المخطوطة والتاريخ. وقوله: "قدمها" أي زجرها، بقولهم للفرس: "أقدم" أي امض قدما إلى أمام.
(٧) في المطبوعة وحدها: "ذلته".
(٨) الأثر: ٩٠٧ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٧. وفي المطبوعة: "آمنت أنه لا إله إلا الذي... " وفي التاريخ: "نادي أن لا إله إلا الذي... " وأثبت ما في المخطوطة.
52
٩٠٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون)، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا: فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط. ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك. يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغَمْر، فذهب به، ثم رجع. (١) فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كَذبتَ ولا كُذبتَ: ففعل ذلك ثلاث مرات. ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: ٦٣]- يقول: مثل جبل - قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم. فلذلك قال: (وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون). قال معمر، قال قتادة: كان مع موسى ستمائة ألف، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان.
٩٠٩ - وحدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أوحى الله جل وعز إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ستمائة ألف. فلما عاينهم فرعون قال: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء: ٥٤-٥٦] فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برَهَج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى،
(١) في ابن كثير ١: ١٦٥"فذهب به الغمر، ثم رجع".
53
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا! هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رَهِقنا بمن معه! (١) قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل (٢) - يعني: له رعدة - لا يدري من أي جوانبه يضربه. قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه. قال: فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا، كل طريق كالطود العظيم؛ فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم.
قال سفيان، قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا. وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر. قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا، (٣) فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض.
قال سفيان: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم ذَنوب حصان (٤). فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، (٥)
(١) رهقه: غشيه وأوشك أن يدركه.
(٢) في المطبوعة"فثاب له"، وهو تصحيف مضى مثله في: ٤٥، تعليق: ٣
(٣) قال بعصاه أو بيده: أشار بها. والإشارة ضرب من التعبير والبيان، فكان مجاز القول إلى معنى الإشارة جيدا.
(٤) الأدهم: الأسود. والذنوب: الفرس الوافر الذنب الطويلة. وقوله: "حصان" هنا: أي فحل، قد ضن بمائه فلم ينز على أنثى.
(٥) الوديق: مضى تفسيرها في ص: ٤٦ تعليق: ٤
54
فلما رآها الحصان تقحم خلفها. وقيل لموسى: اترك البحر رهوا - قال: طُرقا على حاله (١) - قال: ودخل فرعون وقومه في البحر، فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقوا. (٢)
٩١٠ - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، فقال: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. فخرج موسى وهارون في قومهما، وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (فأتبعوهم مشرقين) [الشعراء: ٦٠] فكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم (٣) فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم، فمنعه موسى، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره، وإنما عدوا ما بين ذلك، سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذِيانة (٤) -يعني الأنثى- وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء: ٥٣-٥٤] يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون فضرب البحر، فأبى البحر أن ينفتح، وقال: من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى فكناه"أبا خالد" وضربه فانفلق،
(١) في المخطوطة: "علي حياله"، وهو خطأ، وانظر ما مضى ص: ٤٦، وانظر أيضًا تفسير: "رهوا" في ٢٥: ٧٣ (بولاق).
(٢) الأثر: ٩٠٩ - هو كالأثر الماضي: ٨٩٢، وبالإسناد نفسه. انظر تمام هذا الأثر في رقم: ٩١٨. وأقحم سفيان روايته عن عمار الدهني، في روايته عن أبي سعيد. وعمار، هو عمار بن معاوية الدهني (بضم الدال وسكون الهاء)، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب).
(٣) ساقة الجيش، وساقة الحاج: هم الذين يكونون في مؤخره يسوقونه ويحفظونه من ورائه.
(٤) في المطبوعة: "ما ذبانه"، وفي المخطوطة: " مادنانة" بالدال المهملة. ولم أجد الكلمة فيما بين يدي من الكتب.
55
فكان كل فرق كالطود العظيم -يقول: كالجبل العظيم-، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط -وكانت الطرق انفلقت بجدران (١) - فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا! فلما رأى ذلك موسى، دعا الله، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطِّيقان (٢) فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قال: ألا ترون البحر فَرِق مني؟ (٣) قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) [الشعراء: ٦٤] يقول: قربنا ثم الآخرين، يعني آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانة، فشامت الحصن ريح الماذيانة، فاقتحم في أثرها، (٤) حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم. (٥).
٩١١ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر، قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين! فلما رآهم أصحاب موسى قالوا: إنا لمدركون! قال كلا إن معي ربي سيهدين. فقال موسى للبحر: ألست تعلم أني رسول الله؟ قال: بلى. قال! وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم؟ قال: بلى.
(١) في تاريخ الطبري: "وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران".
(٢) الطيقان والأطواق، جمع طاق: وهو عقد البناء حيث كان.
(٣) فرق يفرق فرقا (بفتحتين) : فزع أشد الفزع.
(٤) في المطبوعة: "ماذبانة... الماذبانة"، وانظر ما سلف: ٤٩ تعليق: ٥، وفي المطبوعة"فشام الحصان" بالإفراد، وهو غير جيد في سياق الكلام. الصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري. وشام الشيء: تشممه. والحصن، جمع حصان.
(٥) الأثر: ٩١٠ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٣ - ٢١٤، ومضت فقرة منه برقم: ٩٠٤. والتطم البحر عليهم: أطبق عليهم وختم وهو يتلاطم موجه. ولم أجدها في كتب اللغة. ولكنهم يقولون: التطمت الأمواج وتلاطمت، ضرب بعضها بعضا. ويقولون: لطم الكتاب: أي ختمه. فالذي جاء في الخبر عربى معرق في مجازه.
56
قال: أتعلم أن هذا عدو الله؟ قال: بلى. قال: فافرق لي طريقا ولمن معي. (١) قال: يا موسى، إنما أنا عبد مملوك، ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى. فأوحى الله عز وجل إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق. وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر، وقرأ قول الله تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) [سورة طه: ٧٧] وقرأ قوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا) [الدخان: ٢٤]-سهلا ليس فيه نُقر (٢) -فانفرق اثنتي عشرة فرقة، فسلك كل سبط في طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخلوا البحر. قال: ادخلوا عليهم. قال: وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم: ليلحق آخركم أولكم. وفي أول آل فرعون يقول لهم: رويدا يلحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم: قد هلكوا! فلما دخل ذلك قلوبهم أوحى الله جل وعز إلى البحر فجعل لهم قناطر، ينظر هؤلاء إلى هؤلاء، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء.
* * *
ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون)، أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر، وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه، وإلى عظيم سلطانه -في الذي أراكم من طاعة البحر إياه، من مصيره ركاما فلقا كهيئة الأطواد الشامخة، (٣) غير زائل عن حده، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته، وهو سائل ذائب قبل ذلك.
يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم، ويحذرهم -في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم- أن يحل
(١) في المطبوعة"فانفرق لي طريقا.. " وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "ليس فيه تعد"، وفي المخطوطة: "نفد" والدال تشبه أن تكون راء. فاستظهرت أن تكون ما أثبت. والنقر جمع نقرة: وهي الوهدة المستديرة في الأرض، أو الحفرة صغيرة ليست بكبيرة. وهذا أشبه بالكلام والمعنى.
(٣) في المطبوعة: "ركاما فرقا"، وهو تغيير بلا سبب. ركام: مجتمع بعضه فوق بعض والفلق جمع فلقة (بكسر فسكون) : وهي الشق.
57
بهم ما حل بفرعون وآله، في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: (وأنتم تنظرون)، كمعنى قول القائل:"ضربت وأهلك ينظرون، فما أتوك ولا أعانوك" بمعنى: وهم قريب بمرأى ومسمع، وكقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) [الفرقان: ٤٥]، وليس هناك رؤية، إنما هو علم.
قال أبو جعفر: والذي دعاه إلى هذا التأويل، أنه وجه قوله: (وأنتم تنظرون)، أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون، فقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا -مما اكتنفهم من البحر- إلى فرعون وغرقه. وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام، إنما التأويل: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم -على ما قد وصفنا آنفا- والتطام أمواج البحر بآل فرعون، في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا. وذلك كان، لا شك نظر عيان لا نظر علم، كما ظنه قائل القول الذي حكينا قوله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾
اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك، (١) فقرأ بعضهم: (واعدنا) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى موافاة الطور لمناجاته، (٢) فكانت المواعدة من الله لموسى، ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة (واعدنا) على"وعدنا" أن قالوا: كل اتعاد كان بين اثنين للالتقاء والاجتماع، (٣) فكل واحد منهما
(١) في المطبوعة في الموضعين: "القراء"، كما فعل كثيرا فيما مضى. والقَرَأَة جمع قارئ.
(٢) في المطبوعة: "ملاقاة الطور"، ولا أدري لم غيره من غيره!.
(٣) في المطبوعة: "كل إبعاد.. أو الاجتماع"، ولا أدري لم فعل ذلك!. واتعد اتعادا افتعل، من الوعد.
58
مواعد صاحبه ذلك. فلذلك -زعموا- (١) وجب أن يُقضى لقراءة من قرأ (واعدنا) بالاختيار على قراءة من قرأ"وعدنا".
وقرأ بعضهم:"وعدنا" بمعنى أن الله الواعد والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر، فأما الله جل ثناؤه، فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر. قالوا: وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله، فقال جل ثناؤه: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) [إبراهيم: ٢٢] وقال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) [الأنفال: ٧]. قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله:"وإذ وعدنا موسى".
* * *
والصواب عندنا في ذلك من القول: أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القَرَأَة، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. (٢) فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان. وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع، فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان، مثل الذي وعده من ذلك صاحبه، إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه. ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك، إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا، وإلى محبته فيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك، إلا وموسى إليه مستجيب. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور، ووعده موسى اللقاء. فكان الله عز ذكره لموسى واعدا مواعدا
(١) في المطبوعة: "فلذلك رموا أنه وجب" بزيادة أنه"، وهي زيادة مفسدة للمعنى.
(٢) انظر ما مضى في تفسير"الظاهر": ٤٤، والمراجع.
59
له المناجاة على الطور، (١) وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأي القراءتين من"وعد" و"واعد" قرأ القارئ، فهو للحق في ذلك -من جهة التأويل واللغة- مصيب، لما وصفنا من العلل قبل. (٢)
ولا معنى لقول القائل: إنما تكون المواعدة بين البشر، وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر. وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب، والخير والشر، والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه -لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه، ولا يغيره عن معانيه. والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا: من أن كل اتعاد كان بين اثنين، (٣) فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه، ومواعدة بينهما، وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد، وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود، إنما هو ما كان بمعنى"الوعد" الذي هو خلاف"الوعيد".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿مُوسَى﴾
وموسى -فيما بلغنا- بالقبطية كلمتان، يعني بهما: ماء وشجر."فمو"، هو الماء، و"شا" هو الشجر. (٤) وإنما سمي بذلك -فيما بلغنا- لأن أمه لما جعلته في التابوت -حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليم، كما أوحى الله إليها، وقيل: إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن
(١) في المطبوعة: قد كان وعد موسى" بزيادة"قد"، وفيها أيضًا "وكان الله عز وجل لموسى واعد ومواعدا"، والواو هنا ليست بشيء في قوله"وكان"، و"مواعدا".
(٢) في المطبوعة: "فهو الحق في ذلك... "، وهو خطأ.
(٣) في المطبوعة هنا أيضًا كما سلف: "كل إبعاد"، وهو فساد وخطأ.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "سا" وأثبت ما في التاريخ.
60
التابوت فأخذنه، فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه، كان ذلك بمكان فيه ماء وشجر، (١) فقيل: موسى، ماء وشجر. كذلك:-
٩١٢ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط بن نصر، عن السدي. (٢)
* * *
وقال أبو جعفر: وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فيما زعم ابن إسحاق.
٩١٣ - حدثني بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عنه. (٣).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾
ومعنى ذلك: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أي رأس الأربعين، ومثل ذلك بقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: ٨٢] وبقولهم:"اليوم أربعون منذ خرج فلان"،"واليوم يومان". أي اليوم تمام يومين، وتمام أربعين.
قال أبو جعفر: وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل، وخلاف ظاهر التلاوة. فأما ظاهر التلاوة، فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة، فليس لأحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن، (٤) بغير برهان دال على صحته.
* * *
(١) في المطبوعة: "وكان ذلك المكان فيه" وليست بشيء.
(٢) الأثر: ٩١٢ تاريخ الطبري ١: ٢٠١ في خبر طويل.
(٣) الأثر: ٩١٣ - مختصر من خبر نسبه في تاريخ الطبري ١: ١٩٨.
(٤) انظر تفسير"ظاهر" و" باطن" فيما سلف ص: ٤٤، والمراجع قبلها.
61
وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره، وهو ما:-
٩١٤ - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)، قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون، فمكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح -وكانت الألواح من برد (١) - فقربه الرب إليه نجيا، وكلمه، وسمع صريف القلم. وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. (٢)
٩١٥ - وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه.
٩١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق قال: وعد الله موسى-حين أهلك فرعون وقومه، ونجاه وقومه ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، يلقاه ربه فيها ما شاء. (٣) واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل، وقال: إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للُقِيِّه شوقا إليه، (٤) وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. (٥)
٩١٧ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "وكانت الألواح من زبرجد"، والصواب ما أثبته من المخطوطة، ومما جاء عن أبي العالية، في صفة الألواح ٩: ٤٦ (بولاق).
(٢) صريف الأقلام: صوتها وصريرها وهي تجري بما تكتبه الملائكة. وقوله: "لم يحدث حدثا"، أي لم يكربه ما يكرب الناس من قضاء الحاجة.
(٣) في المطبوعة: "تلقاه ربه فيها بما شاء".
(٤) في المطبوعة: "للقائه"، وهما سواء في المعنى.
(٥) الأثر: ٩١٦ - صدر هذا الأثر في تاريخ الطبري ١: ٢١٧ - ٢١٨، ولكن قطعه الطبري، وأتمه من خبر السدي.
62
أسباط عن السدي قال: انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ﴾
وتأويل قوله: (ثم اتخذتم العجل من بعده)، ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها، من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. و"الهاء" في قوله"من بعده" عائدة على ذكر موسى.
فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا ﷺ من يهود بني إسرائيل، المكذبين به المخاطبين بهذه الآية -عن فعل آبائهم وأسلافهم، وتكذيبهم رسلهم، وخلافهم أنبياءهم، مع تتابع نعمه عليهم، وشيوع آلائه لديهم، (٢) مُعَرِّفَهم بذلك أنهم -من خلاف محمد ﷺ وتكذيبهم به، وجحودهم لرسالته، مع علمهم بصدقه (٣) - على مثل منهاج آبائهم وأسلافهم، ومحذِّرَهم من نزول سطوته بهم =بمقامهم على ذلك من تكذيبهم= ما نزل بأوائلهم المكذبين بالرسل: من المسخ واللعن وأنواع النقمات.
وكان سبب اتخاذهم العجل، ما:-
٩١٨ - حدثني به عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم
(١) الأثر: ٩١٧ - في تاريخ الطبري في خبر طويل ١: ٢١٨، وسيأتي تمامه في رقم: ٩١٩.
(٢) في المطبوعة: "سبوغ آلائه". وشيوع آلائه: ظهورها وعمومها حتى استوى فيها جميعهم. وانظر ما سيأتي بعد ص: ٧٧، تعليق: ٢.
(٣) في المطبوعة: "من خلافهم محمدا.. ".
63
ذنوب حصان، فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، فلما رآها الحصان تقحم خلفها. (١) قال: وعرف السامري جبريل، لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه، فيجد في بعض أصابعه لبنا، وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ. فلما عاينه في البحر عرفه، فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. -قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: " فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول" [طه: ٩٦].
قال أبو سعيد قال عكرمة، عن ابن عباس: وألقي في رَوْع السامري (٢) إنك لا تلقيها على شيء فتقول:"كن كذا وكذا" إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر. فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وأغرق الله آل فرعون، قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح. ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بني إسرائيل حَلْي من حَلْي آل فرعون قد تعوَّروه، (٣) فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله. فلما جمعوه، قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا، (٤) فقذفها فيه - وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا - وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه، فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري! قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.
٩١٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
(١) انظر آخر الأثر رقم: ٩٠٩ فهو هذا بنصه، ثم يأتي تمامه.
(٢) الروع (بضم الراء) : القلب والعقل. وقع ذلك في روعى: أي في نفسي وخلدي وبالي.
(٣) تعور الشيء واستعاره: أخذه عارية، كما تقول: تعجب واستعجب.
(٤) قال بالقبضة: رفعها مشيرا بيده ليلقيها. وقد مضى تفسير ذلك في ص: ٥٤ تعليق: ٣.
64
أسباط بن نصر، عن السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل - يعني من أرض مصر - أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر، وغرق آل فرعون، أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله. فأقبل على فرس، فرآه السامري فأنكره وقال: إنه فرس الحياة! فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر -حافر الفرس- فانطلق موسى، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حَلْي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعا، واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحَلْي في تلك الحفرة، وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار. وعدت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدوا الليلة يوما واليوم يوما، فلما كان تمام العشرين، خرج لهم العجل. فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسي - يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إنما فتنتم به -يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل- وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، فأخبره خبرهم. قال موسى؛ يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا. قال: رب أنت إذا أضللتهم. (١)
٩٢٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: كان
(١) الأثر: ٩١٩ - مضى صدره في رقم: ٩١٧. وفي التاريخ ١: ٢١٨.
65
-فيما ذكر لي- أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عز وجل به: استعيروا منهم - يعني من آل فرعون - الأمتعة والحلي والثياب، فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم. فلما أذن فرعون في الناس، كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قال: حين ساروا لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم، حتى ذهبوا بأموالكم معهم! (١)
٩٢١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل. فلما فضل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى إلى ربه، (٢) قال لهم هارون: أنتم قد حُمِّلتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - وأمتعة وحليا، فتطهروا منها، فإنها نجس. وأوقد لهم نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. قالوا: نعم.
فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الأمتعة وذلك الحلي، (٣) فيقذفون به فيها. حتى إذا تكسر الحلي فيها، ورأى السامري، أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره، (٤) ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: (٥) يا نبي الله، ألقي ما في يدي؟ قال: نعم. ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة، فقذفه فيها وقال:"كن عجلا جسدا له خوار"، فكان، للبلاء والفتنة. فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: (فنسي) [طه: ٨٨] أي ترك ما كان عليه من الإسلام - يعني السامري - (أَفَلا
(١) الأثر: ٩٢٠ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٦. وفي المطبوعة"أن يخرجوا بأنفسهم"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. نفله الشيء: جعله نفلا، أي غنيمة مستباحة.
(٢) فصل فلان عن البلد يفصل فصولا: إذا خرج وفارقها
(٣) في المطبوعة: "بما كان معهم"، غيروه ليستقيم على دارج ما ألفوه.
(٤) في المطبوعة: "أخذ ترابا"، حذفوا الفاء ليستقي على عربيتهم، فيما زعموا.
(٥) في تاريخ الطبري: "ثم أقبل إلى الحفرة... ".
66
يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا) [طه: ٨٩] وكان اسم السامري موسى بن ظفر، وقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل. (١) فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [طه: ٩٠-٩١] فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون، إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. وكان له هائبا مطيعا (٢).
٩٢٢ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون، وأغرق فرعون ومن معه، قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. قال: لما خرج موسى وأمر هارون بما أمره (٣) وخرج موسى متعجلا مسرورا إلى الله، قد عرف موسى أن المرء إذا أنجح في حاجة سيده، كان يسره أن يتعجل إليه (٤). قال: وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون، فقال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم، فاجمعوا نارا، فألقوه فيها فأحرقوه. قال: فجمعوا نارا. قال: وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل، وكان على فرس أنثى - وكان السامري في قوم موسى - قال: فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة، فيبست عليها يده. فلما ألقى قوم موسى الحلي في النار، وألقى السامري
(١) هو كما ذكر في أول الخبر من أهل"باجرما"، وباجرما: قرية من أعمال البليخ قرب الرقة، من أرض الجزيرة. (ياقوت). ويقال: موضع قبل نصيبن (معجم ما استعجم). وقال الميداني في شرح المثل: [خطب يسير في خطب كبير] أن الزباء كانت من أهل باجرما وتتكلم العربية.
(٢) الأثر: ٩٢١ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٩ - ٢٢٠.
(٣) في المطبوعة: "بما أمره به".
(٤) في المطبوعة: "نجح"، وأنجح: أدرك طلبته وبلغ النجاح. وإن كنت أخشى أن يكون في الكلمة تصحيف خفي عليَّ.
67
معهم القبضة، صور الله جل وعز ذلك لهم عجلا ذهبا، فدخلته الريح، فكان له خوار، فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الخبيث: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)، الآية، إلى قوله: (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) [طه: ٨٨-٩١] قال: حتى إذا أتى موسى الموعد، قال الله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) فقرأ حتى بلغ: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) [طه: ٨٦].
٩٢٣ - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (ثم اتخذتم العجل من بعده) قال: العجل: حسيل البقرة (١). قال: حلي استعاروه من آل فرعون، فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه. وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فطرحه فيه، فانسبك، فكان له كالجوف تهوي فيه الرياح.
٩٢٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: إنما سمي العجل، لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى.
٩٢٥ - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحو حديث القاسم عن الحسن.
٩٢٦ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه (٢)
* * *
(١) الحسيل (بفتح فكسر) : ولد البقرة.
(٢) الأثران: ٩٢٥، ٩٢٦ - في المخطوطة ساق إسناد الأثرين جميعا في موضع واحد قال: "قال حدثنا عيسى - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل - جميعا عن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ثم اتخذتم العجل" قال: العجل: حسيل البقرة... " ثم ساق نص ما في الأثر: ٩٢٤. فآثرت ترك ما في المطبوعة على حاله.
68
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ﴾
يعني" وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا -في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك)، يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة،"من بعد ذلك"، أي من بعد اتخاذكم العجل إلها. كما:-
٩٢٧ - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك)، يعني من بعد ما اتخذتم العجل.
* * *
وأما تأويل قوله: (لعلكم تشكرون)، فإنه يعني به: لتشكروا. ومعنى"لعل" في هذا الموضع معنى"كي". وقد بينت فيما مضى قبلُ أن أحد معاني"لعل""كي"، بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع (٢).
* * *
فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها، لتشكروني على عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل.
* * *
(١) انظر ما مضى ١: ٥٢٣ - ٥٢٤.
(٢) انظر ما مضى ١: ٣٦٤ - ٣٦٥.
69
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب) : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني ب"الكتاب": التوراة، وب"الفرقان": الفصل بين الحق والباطل، كما:-
٩٢٨ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان)، قال: فرق به بين الحق والباطل.
٩٢٩ - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان)، قال: الكتاب: هو الفرقان، فرقان بين الحق والباطل (١).
٩٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٩٣١ - وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان)، قال: الكتاب هو الفرقان، فرق بين الحق والباطل.
٩٣٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، وقال ابن عباس:"الفرقان": جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
وقال ابن زيد في ذلك بما: -
٩٣٣ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب. قال:
(١) في المخطوطة: "هو الفرقان بين الحق والباطل"، والذي في المطبوعة أجود.
70
سألته -يعني ابن زيد- عن قول الله عز وجل: (وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان) فقال: أما"الفرقان" الذي قال الله جل وعز: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال: ٤١]، فذلك يوم بدر، يوم فرق الله بين الحق والباطل، والقضاء الذي فرق به بين الحق والباطل. قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان، فرق الله بينهم، وسلمه وأنجاه، فرق بينهم بالنصر. فكما جعل الله ذلك بين محمد ﷺ والمشركين، فكذلك جعله بين موسى وفرعون (١).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، (٢) ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل.
فيكون"الكتاب" نعتا للتوراة أقيم مقامها، استغناء به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه ب"الفرقان"، إذ كان من نعتها.
* * *
وقد بينا معنى"الكتاب" فيما مضى من كتابنا هذا، وأنه بمعنى المكتوب. (٣)
* * *
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية، وإن كان محتملا غيره من التأويل، لأن الذي قبله من ذكر"الكتاب"، وأن معنى"الفرقان" الفصل (٤) - وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا (٥) -، فإلحاقه إذ كان كذلك، بصفة ما وليه أولى من إلحاقه بصفة ما بعد منه.
(١) في المطبوعة: "بين محمد والمشركين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "فأولى هذين التأويلين... ".
(٣) انظر ما مضى ١: ٩٧ - ٩٩.
(٤) في المطبوعة: "لأن الذي قبله ذكر الكتاب" بإسقاط"من".
(٥) انظر ما مضى ١: ٩٨ - ٩٩.
71
وأما تأويل قوله: (لعلكم تهتدون)، فنظير تأويل قوله: (لعلكم تشكرون)، ومعناه لتهتدوا (١).
وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها، لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) ﴾
وتأويل ذلك: اذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم. وظلمهم إياها، كان فعلَهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كل فاعل فعلا يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم، هو ما أخبر الله عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم.
ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"التوبة": الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه
(١) انظر ما مضى ٢: ٦٩.
72
من طاعته. (١)
* * *
فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم، على ما أمرهم به، كما:-
٩٣٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: (فاقتلوا أنفسكم) قال: عمدوا إلى الخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضا.
٩٣٥ - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج، أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد، (٢) حتى ألوى موسى بثوبه، (٣) فطرحوا ما بأيديهم، فتكشف عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حسبي فقد اكتفيت! فذلك حين ألوى بثوبه. (٤)
٩٣٦ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: (توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم). قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا، (٥)
(١) انظر ما سلف ١: ٥٤٧.
(٢) حن عليه: عطف عليه. وفي ابن كثير ١: ١٦٩"لا يحنو"، وهو مثله في المعنى.
(٣) ألوى بثوبه: لمع به أشار. يأمرهم موسى بالكف عما هم فيه.
(٤) في المطبوعة: "قد اكتفيت، فذلك حين ألوى... " وفي المخطوطة"بذلك"، واخترت ما نقله ابن كثير ١: ١٦٩.
(٥) في المخطوطة: "فاختبأ الذي عكفوا... "، وفي ابن كثير ١: ١٦٩"فأخبر"، وهو خطأ محض. واحتبى بثوبه: ضم رجليه إلى يطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، يشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب. وانظر البغوي ١: ١٦٩، فهو دال على صواب ما استظهرته في قراءة الكلمة.
73
وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، (١) كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
٩٣٧ - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما رجع موسى إلى قومه قال: (يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) إلى قوله: (فكذلك ألقى السامري) [طه: ٨٦-٨٧]. فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه (قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه: ٩٤]. فترك هارون ومال إلى السامري، ف (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) إلى قوله: (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) [طه: ٩٥-٩٧] ثم أخذه فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، (٢) ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: ٩٣]. فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى، ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا:"لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين". فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل، إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلهم حين عبدوا العجل، (٣) فقال لهم موسى: (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم). قال: فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الذين عبدوه
(١) أجلى عن كذا: انكشف عنه.
(٢) حرق الحديد بالمبرد حرقا، وحرقه (بتشديد الراء) : برده وحك بعضه ببعض. وكذلك جاء عن ابن إسحاق في تاريخ الطبري ١: ٢٢٠ قال: "سمعت بعض أهل العلم يقول: إنما كان إحراقه سحلة". والسحل: السحق والحك بالمبرد.
(٣) في المطبوعة: "أن يقاتلوهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري.
74
والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا، وحتى دعا موسى وهارون (١) ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! (٢) ! فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم). (٣)
٩٣٨ - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (باتخاذكم العجل)، قال: كان موسى أمر قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده، فتاب الله عليهم.
٩٣٩ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"باتخاذكم العجل"، قال: كان أمر موسى قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا، ولا يقتل الرجل أباه ولا أخاه. فبلغ ذلك في ساعة من نهار سبعين ألفا. (٤)
٩٤٠ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) الآية، قال: فصاروا صفين، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فبلغ القتلى ما شاء الله، ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول.
٩٤١ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا
(١) في المخطوطة والمطبوعة: " وحتى دعا موسى"، وأثبت ما في التاريخ بحذف واو العطف.
(٢) البقية: الإبقاء عليهم، يدعوان ربهما أن يبقى بقية، فلا يستأصلهم بقتل أنفسهم.
(٣) الأثر: ٩٣٧ - في تاريخ الطبري ١: ٢١٩.
(٤) الأثر: ٩٣٩ - سقط هذا الأثر كله من المطبوعة.
75
ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف، (١) وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه. حتى إذا فتر، أتاه بعضهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه. (٢) فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟، (٣) أما من قتل منكم، فحي عندي يرزق؛ وأما من بقي، فقد قبلت توبته! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل (٤).
٩٤٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: (فاقتلوا أنفسكم)، قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضا، (٥) حتى قيل لهم كُفوا. قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
٩٤٣ - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض، يقتل بعضهم بعضا، ما يترابأ الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نزلت التوبة. (٦)
(١) في المطبوعة: "فتضاربوا" وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير ١: ١٧٠. وتضارب الرجلان بسيفيهما واضطربا: تجالدا بالسيف، بمعنى واحد.
(٢) في المطبوعة: "يشدون"، والصواب من المخطوطة وابن كثير. يريد: يسندون يديه وموسى رافع يديه يدعو الله.
(٣) في المطبوعة: "لا يحزنك"، والصواب من المخطوطة وابن كثير.
(٤) في المطبوعة وابن كثير: "فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل".
(٥) في المطبوعة: " فقتل بعضهم بعضا: ، ليست بشيء.
(٦) في المطبوعة"ما يتوقى الرجل"، وفي المخطوطة"ما يترانا". ورابأت فلانا: اتقيته واتقاني ومن مادته: "أربأ بك عن كذا". أي أرفعك عنه ولا أرضاه لك. ويقال: "ما عبأت به ولا ربأت": أي ما باليت به ولا حفلت. فقوله: "ما يترابأ" أي ما يبالي الرجل أن يقتل أخاه.
76
قال ابن جريج، وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا، ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل، وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين فاقتتلوا بينهم، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة، وكانت توبة لمن بقي. وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا.
٩٤٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذراه في اليم، (١) وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا - سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية، وأَصْلَتَ عليهم القوم السيوف، (٢) فجعلوا يقتلونهم. وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، (٣) فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. (٤)
٩٤٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم. فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! (اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم)
(١) في صدر هذا الخبر من التاريخ ١: ٢٢٠ أن إحراق العجل: سحله، كما مضى في ص: ٧٠ تعليق: ١.
(٢) في المطبوعة: "وسلت القوم عليهم السيوف". وأثبت ما في تاريخ الطبري وابن كثير ١: ١٧٠ وأصلت السيف: جرده من غمده.
(٣) بهش إليه: أقبل عليه وأسرع إليه، وتهيأ للبكاء.
(٤) الأثر ٩٤٤ - في تاريخ الطبري ١: ٢٢١، وابن كثير ١: ١٧٠، وفي التاريخ وحده: "أن يرفع عنهم السيف".
هذا، وفي النسخة المخطوطة التي اعتمدناها، خرم من عند قوله في هذا الأثر: "سأل ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة" - إلى أن يأتي قوله: " القول في تأويل قوله تعالى: "ثم بعثناكم من بعد موتكم". وهو أول المجلد الثاني من هذه النسخة، وتدل وثيقة الوقف التي كتبت على ظهر هذا المجلد، أن هذه النسخة مجزأة في اثنين وعشرين جزءا.
77
الآية. فاخترطوا السيوف والجِرَزَة والخناجر والسكاكين. (١) قال: وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري، ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه. (٢) وقرأ قول الله جل ثناؤه: (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) [الدخان: ٣٣]. قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، وقرأ: (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم). (٣).
* * *
فالذي ذكرنا -عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها- كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم، بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك.
* * *
وأما معنى قوله: (فتوبوا إلى بارئكم)، فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم، وإلى ما يرضيه عنكم، كما: -
٩٤٦ - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فتوبوا إلى بارئكم)، أي: إلى خالقكم.
* * *
وهو من"برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ". و"البرية": الخلق. وهي"فعيلة" بمعنى"مفعولة"، غير أنها لا تهمز. كما لا يهمز"ملك" وهو من"لأك"، لكنه جرى بترك الهمزة كذلك (٤) قال نابغة بني ذبيان:
إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحدُدْها عن الفَنَد
(١) اخترط السيف: سله. والجرزة (بكسر الجيم وفتح الزاي) جمع جرز (بضم فسكون)، وهو عمود من الحديد، سلاح يقاتل به.
(٢) في المطبوعة: "صبر حتى يبلغ" بحذف"نفسه". والزيادة من ابن كثير ١: ١٧٠
(٣) الأثر: ٩٤٥ - في ابن كثير ١: ١٧٠
(٤) انظر ما مضى ١: ٤٤٤ - ٤٤٧.
78
(١)
وقد قيل: إن"البرية" إنما لم تهمز لأنها"فعيلة" من"البَرَى"، والبَرَى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب.
* * *
وقال بعضهم: إنما أخذت"البرية" من قولك"بريت العود". فلذلك لم يهمز.
* * *
قال أبو جعفر: وترك الهمز من"بارئكم" جائز، والإبدال منها جائز. فإذ كان ذلك جائزا في"باريكم" فغير مستنكر أن تكون"البرية" من:"برى الله الخلق" بترك الهمزة.
* * *
وأما قوله: (ذلكم خير لكم عند بارئكم)، فإنه يعني بذلك: توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم، خير لكم عند بارئكم، لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه.
* * *
وقوله: (فتاب عليكم)، أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك. لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله:"فتبتم"، إذ كان في قوله: (فتاب عليكم) دلالة بينة على اقتضاء الكلام"فتبتم".
* * *
ويعني بقوله: (فتاب عيكم) رَجَعَ لكم ربكم إلى ما أحببتم: من العفو عن ذنوبكم وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم، (إنه هو التواب الرحيم) يعني: الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني ب"الرحيم"، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.
* * *
(١) ديوانه: ٢٩، من قصيدته التي قالها يذكر النعمان ويعتذر إليه، وقبل البيت:
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ولا أحاشي من الأقوام من أحد
حَدَدْتُ فلانا عن الشر: منعته وحبسته. والفند: الخطأ في الرأى وفي القول.
79
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الرَّكيَّة، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: (١) "قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة". (٢) ولذلك قيل:"قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا"، (٣) " إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب:
من اللائي يظل الألف منه منيخًا من مخافته جهارا
(١) هذا نص كلام الأخفش (اللسان جهر). وفي المطبوعة"فنفى ما قد غطاه"، ولا بأس بها، ولكني أثبت ما في اللسان.
(٢) قوله"وجهرة"، مصدر لم أجده في اللسان ولا في غيره.
(٣) في المطبوعة: "جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا"، وليس حسنا أن يقال كذلك. فإن"مجاهرة" لا تكون مصدر"جهر" ألبتة، وإن جاز أن يكون"جهار" مصدرا له كما في اللسان: "جهر بكلامه يجهر جهرا وجهارا". فمن أجل ذلك آثرت أن أضع مكان"جهر""جاهر"، حتى يستقيم على الجادة.
80
(١)
٩٤٧ - وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (حتى نرى الله جهرة)، قال: علانية.
٩٤٨ - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: (حتى نرى الله جهرة) يقول: عيانا.
٩٤٩ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (حتى نرى الله جهرة)، حتى يطلع إلينا.
٩٥٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (حتى نرى الله جهرة)، أي عيانا.
فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور، (٢) وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله لديهم، (٣) وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة. وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا
(١) ديوانه: ٤٤٣، والنقائض: ٢٥٥، يهجو جريرا، وقبل البيت:
عوى، فأثار أغلب ضيغميا فويل ابن المراغة! ما استثارا؟
قوله"عوى" يعني جريرا. وقوله"من اللائي"، أصله: من اللائين. و"اللاؤون" جمع"الذي" من غير لفظه، بمعنى"الذين". وفيه لغات: اللاؤون، في الرفع، واللائين، في الخفض والنصب. واللاؤو، بلانون، واللائي، بإثبات الياء في كل حال. يستوى فيه الرجال والنساء، ومنه قول عباد بن طهفة، وهو أبو الربيس، شاعر أموي:
من النفر اللائي الذين إذا همو يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
وأجاز أبو الربيس أن يجمع بين"اللائي" و"الذين"، لاختلاف اللفظين، أو على إلغاء أحدهما. قول الفرزدق:"من اللائي"، يعني: من الذين. ثم قطع القول وحذف، لدلالة الكلام على ما أراد، كأنه قال: هو من الذين عرفت يا جرير. ثم استأنف فقال: يظل الألف منه.. ، والضمير في"منه" عائد إلى قوله:"أغلب ضيغميا"، هو الأسد، ويعني نفسه. والألف: يعني ألف رجل. وقوله:"منيخا": أي قد أناخ"الألف" ركابهم من مخافته، وقد قطع عليهم الطريق.
هذا، ورواية النقائض والديوان:"نهارا" مكان"جهارا" جاء تفسيرها في النقائض:"قال: نهارا، ولم يقل: ليلا، لأن الأسد أكثر شجاعته وقوته بالليل.
فيقول: هذا الأسد يظل الألف منه منيخا بالنهار، فكيف بالليل! ". رواية الطبري:"جهارا" قريبة المعنى من رواية من روى"نهارا". وهم يقولون: لقيته جهارا نهارا. لأن النهار يكشف كل شيء ويعلنه ويجهره. أي أناخوا يرونه وهم يرونه رأى العين، وذلك في النهار.
(٢) ثلجت نفسه بالشيء (بكسر اللام) تثلج وتثلج (بفتح اللام وضمها) ثلوجا: اشتفت واطمأنت وسكنت إليه، ووثقت به.
(٣) مضى في ص: ٥٨ التعليق على مثل هذه الكلمة، وكانت في المخطوطة: "شيوع آلائه لديهم". وسبوغ النعمة: كمالها وتمامها واتساعها. ولا أزال أستحسن أن تكون هنا"شيوع"، لقوله"لديهم"، فأما إن قال"وسبوغ النعم عليهم"، كما سيأتي في آخر هذه الفقرة، فهي"سبوغ"ولا شك.
81
قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها.
فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا -في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى، مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ﴾
اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم. فقال بعضهم بما: -
٩٥١ - حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فأخذتكم الصاعقة)، قال: ماتوا.
٩٥٢ - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فأخذتكم الصاعقة) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا، يقول: فماتوا.
* * *
وقال آخرون بما: -
٩٥٣ - حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
(١) انظر التعليق السالف: ٧٧ تعليق: ٢
82
حدثنا أسباط، عن السدي: (فأخذتكم الصاعقة)، والصاعقة: نار.
* * *
وقال آخرون بما: -
٩٥٤ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا.
* * *
وأصل"الصاعقة" كل أمر هائل رآه [المرء] أو عاينه أو أصابه - (١) حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، (٢) أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا، أو زلزلة، أو رجفا. ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قول الله عز وجل: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف: ١٤٣]، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية:
وهل كان الفرزدق غير قرد أصابته الصواعق فاستدارا (٣)
فقد علم أن موسى لم يكن -حين غشي عليه وصعق ميتا، لأن الله
(١) الزيادة بين القوسين من عندي. ليستقيم بها الكلام.
(٢) قوله"غمور فهم" لم أجد هذا المصدر في كتب اللغة. وكأنه مصدر غمر عليه (بالبناء للمجهول) : أغمى عليه. وفي الحديث أنه أول ما اشتكي بأبي وأمي ﷺ - في بيت ميمونة، اشتد مرضه حتى غمر عليه - أي: أغمى عليه، حتى كأنه غطى على عقله وستر، من قولهم: غمرت الشيء: إذا سترته، وغشي عليه وأغمي عليه من معنى الستر أيضًا (اللسان، الفائق).
(٣) ديوانه: ٢٨١، والنقائض: ٢٥١ وبعده في هجاء الفرزدق، وهو من أشده:
وكنت إذا حللت بدار قوم رحلت بِخَزْيَةٍ وتركت عارا
وما أشد ما قال! وقال في النقائض في شرح البيت: "ولغته - يعني جريرا - الصواقع. فاستدار: أي استدار إنسانا بعد أن كان قردا". وكأنه أخطأ المعنى، فإنه أراد أنه مسخ قردا على هيئته التي كان عليها قبل أن يكون إنسانا. فقوله: "استدار": عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه، ومن ذلك قوله ﷺ في حجة الوداع: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" أي عاد كما بدأ. فهو يقول: كان الفرزدق في أصل نشأته قردا، ثم تحول إنسانا، فلما أصابته صواعق شعري عاد كما كان في أصل نشأته قردا صريحا.
83
جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: (تبت إليك) [الأعراف: ١٤٣]- ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا. ولكن معنى ذلك ما وصفنا.
* * *
ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون)، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى (١) ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) ﴾
يعني بقوله: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم.
* * *
وأصل"البعث" إثارة الشيء من محله. ومنه قيل:"بعث فلان راحلته" إذا أثارها من مبركها للسير، كما قال الشاعر:
فأبعثها وهيَّ صنيعُ حول كركن الرَّعنِ، ذِعْلِبَةً وَقاحا (٢)
(١) عند هذا انتهى الخرم الذي ذكرناه في ص: ٧٧ وبدأنا المخطوطة.
(٢) لم أجد البيت في مكان. وقوله: "هي" بتشديد الياء، وهي لغة همدان، يشددون الواو من"هو" كقول القائل.
وإن لساني شُهدة يشتفى بها وهوَّ، على من صبه الله، علقم
ويشدد الياء من"هي" كقول القائل:
والنفس ما أمرت بالعنف آبيه وهي - إن أمرت باللطف تأتمر
والضمير في"أبعثها"إلى ناقته. وقوله:"صنيع حول" أي قد رعت حولا - عاما - حتى سمنت وقويت. يقال صنع فرسه صنعا وصنعة، فهو فرس صنيع، والأنثى بغير هاء: إذا أحسن القيام عليه فغذاه وعلفه وسمنه. وكل ما تعهدته حتى جاد فهو صنيع. والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما. شبه ناقته في جلالها وقوتها بركن الجبل. ذعلبة: ناقة سريعة باقية على السير. وقاح: صلبة صبور، الذكر والأنثى سواء.
84
و"الرعن": منقطع أنف الجبل، و"الذعلبة": الخفيفة، و"الوقاح": الشديدة الحافر أو الخف. ومن ذلك قيل:"بعثت فلانا لحاجتي"، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها. ومن ذلك قيل ليوم القيامة:"يوم البعث"، لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب.
* * *
يعني بقوله: (من بعد موتكم)، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.
* * *
وقوله: (لعلكم تشكرون)، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم.
وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ثم بعثناكم)، أي بعثناكم أنبياء.
٩٥٥ - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم، ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون.
وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.
٩٥٦ - حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته. والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله: (لعلكم تشكرون)، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء.
* * *
85
وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، ما:-
٩٥٧ - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، (١) اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال له السبعون -فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه: (٢) يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، (٣) قال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله، (٤) ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. (٥) فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، فأخذتهم
(١) في المخطوطة: "وذراه في البحر".
(٢) في المطبوعة: " للقاء الله"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. وفي المخطوطة بعد قوله: "ربه": "لموسى"، وأما التاريخ، فلم يذكر"يا موسى"، ولا"لموسى".
(٣) في المطبوعة: "لنسمع كلام.. " وفي التاريخ: "اطلب لنا نسمع كلام ربنا" بحذف"إلى ربك".
(٤) في المطبوعة: "وقع عليه الغمام"، وفي التاريخ: "وقع عليه عمود الغمام".
(٥) في المطبوعة: "فلما فرغ من أمره"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفيها أيضًا: "وانكشف"بزيادة الواو، وهو خطأ.
86
الرجفة -وهي الصاعقة-[فافتلتت أرواحهم] فماتوا جميعا. (١) وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ (٢) -أي: إن هذا لهم هلاك، اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ (إنا هدنا إليك). فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه، (٣) حتى رد إليهم أرواحهم، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. (٤).
٩٥٨ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا:"لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: (إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) [إلى قوله]
(١) الذي بين القوسين زيادة من تاريخ الطبري، وهي هناك: "فانفلتت أرواحهم"، والصواب ما أثبته. يقال: "افتلتت نفسه" (بالبناء للمجهول)، مات فلتة، أي بغتة، وفي الحديث: أن رجلا أتى رسول الله ﷺ فقال: إن أمي افتلتت نفسها، فماتت ولم توص، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم.
(٢) في التاريخ: "قد سفهوا، فيهلك من ورائي... إن هذا لهم هلاك"، بحذف"أي".
(٣) قوله: "ويسأله" ليست في المطبوعة.
(٤) الأثر: ٩٥٧ - في تاريخ الطبري ١: ٢٢٠ - ٢٢١.
87
(إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) [الأعراف: ١٥٥-١٥٦]. [يقول تبنا إليك]. (١) وذلك قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة). ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك، فادعه يجعلنا أنبياء! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم)، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا. (٢)
٩٥٩ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم -، (٣) : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا (٤) فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، (٥) فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون). فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل
(١) الزيادة التي بين الأقواس من تاريخ الطبري، والأولى منهما زيادة لا بد منها.
(٢) الأثر: ٩٥٨ في تاريخ الطبري ١: ٢٢١. وقوله: "قدم حرفا وأخر حرفا"، هو ما ذكره في تأويل الآية على ما ذهب إليه السدي (ص: ٨٥) "فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم..)
(٣) في المطبوعة: "فقال: إن هذه الألواح.. "
(٤) في المطبوعة: "يطلع الله علينا".
(٥) في المطبوعة: "كما يكلمك أنت". وسيأتي على الصواب في رقم: ١١١٥.
88
فوقهم. (١)
٩٦٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم)، قال: أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم.
٩٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: (فأخذتهم الصاعقة)، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة). قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم)، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم، فبعثوا لبقية آجالهم.
* * *
فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له. (٢) وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة، فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد قامت حجته على من احتج به عليه، ولا حاجة لمن
(١) الأثر: ٩٥٩ - سيأتي أيضًا رقم: ١١١٥، وفيه تمام الخبر نتقوا الجبل: اقتلعوه من أصله ورفعوه فوقهم.
(٢) في المطبوعة: "فسلم لهم"، وهو خطأ وتعبير فاسد. وإنما أراد التسليم للخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي قاله الطبري دليل على صحة ما ذكرنا من أنه لم يستدل بهذه الأخبار إلا للبيان عن بعض المعاني، وإن كانت لا تقوم بها الحجة في التفسير، كما قلنا في التذكرة التي كتبناها في الجزء الأول: ٤٥٣ - ٤٥٤. وانظر بقية كلام الطبري في هذه الفقرة. فإنه كلام بليغ الدلالة، مفيد في معرفة أسلوب الطبري في تفسيره.
89
انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾
(وظللنا عليكم الغمام) عطف على قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم). فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون.
* * *
و"الغمام" جمع"غمامة"، كما السحاب جمع سحابة،"والغمام" هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين. وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما. (١)
* * *
وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا.
٩٦٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وظللنا عليكم الغمام)، قال: ليس بالسحاب.
٩٦٣ - وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وظللنا عليكم الغمام)، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم. (٢)
٩٦٤ - وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: (وظللنا عليكم الغمام)، قال: هو بمنزلة السحاب.
٩٦٥ - وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وظللنا عليكم
(١) في المطبوعة: "فإن العرب تسميه".
(٢) الأثر ٩٦٣ - في المخطوطة، ساق هذا الأثر إلى قوله"قال: ليس بالسحاب" ثم قال بعده ما نصه: "وبإسناده عن مجاهد قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي... " إلى آخر الخبر.
90
الغمام)، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: (١) (في ظلل من الغمام) [البقرة: ٢١٠]، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه. (٢)
* * *
وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها، (٣) فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء.
* * *
وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾
اختلف أهل التأويل في صفة"المن". فقال بعضهم بما: -
٩٦٦ - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (وأنزلنا عليكم المن)، قال: المن صمغة.
٩٦٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن
(١) في المخطوطة: "فيه في قوله" بحذف"يوم القيامة".
(٢) الضمير في قوله: "وكان"، للغمام.
(٣) في المطبوعة: "فغطى وجهها" وتلك أجود.
91
أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٩٦٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وأنزلنا عليكم المن والسلوى)، يقول: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج.
* * *
وقال آخرون: هو شراب.
* ذكر من قال ذلك:
٩٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه.
* * *
وقال آخرون:"المن"، عسل.
* ذكر من قال ذلك:
٩٧٠ - حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينزل لهم من السماء.
٩٧١ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.
* * *
وقال آخرون:"المن" الخبز الرقاق. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٩٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن؟ قال: خبز الرقاق، ، مثل الذرة، ومثل النقي. (٢)
* * *
وقال آخرون:"المن"، الزنجبيل. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "خبز الرقاق". خبز رقاق رقيق، كطويل وطوال، صفة. وهو خبز منبسط رقيق.
(٢) الأثر: ٩٧٢ - بعض أثر سيأتي برقم: ٩٩٥. وفي المخطوطة: "من الذرة"، وفي ابن كثير كما في المطبوعة، وسيأتي كذلك في رقم: ٩٩٥.
(٣) في المطبوعة"الترنجبين"، وكذلك في البغوي"الترنجبين". وفي تاج العروس: "الترنجبين". بالضم، هو المن المذكور في القرآن". وسيأتي ذلك بعد رقم: ٩٧٧، وهو هنا"الزنجيل" كما في ابن كثير، والمخطوطة. وانظر لسان العرب: (منن).
92
٩٧٣ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل (١)
* * *
وقال آخرون:"المن"، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس.
* ذكر من قال ذلك:
٩٧٤ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. (٢).
٩٧٥ - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر في قوله: (وأنزلنا عليكم المن)، قال: المن: الذي يقع على الشجر.
٩٧٦ - حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (المن)، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.
٩٧٧ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر.
* * *
وقد قيل. إن"المن"، هو الترنجبين.
* * *
وقال بعضهم:"المن"، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر، وهو حلو كالعسل، وإياه عنى الأعشى -ميمون بن قيس- بقوله:
(١) في المطبوعة"شجر الترنجبين".
(٢) الأثر: ٩٧٤ - هو في المخطوطة بعد رقم: ٩٧٦.
93
لو أُطعِموا المن والسلوى مكانَهمُ ما أبصر الناس طُعما فيهمُ نجعا (١)
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه ﷺ قال:
٩٧٨ -"الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". (٢)
وقال بعضهم:"المن"، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه.
* * *
وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه:
فرأى الله أنهم بمَضِيعٍ لا بذي مَزْرعٍ ولا معمورا (٣)
(١) ديوانه: ٨٧ من قصيدة طويلة، يذكر فيها ذا التاج هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وكانت بنو تميم قد وثبت على مال وطرف كانت تساق إلى كسرى، فأوقع بهم المكعبر الفارسي، والي كسرى على البحرين، وأدخلهم المشقر - وهو حصن بالبحرين - بخديعة خدعهم بها، فقتل رجالهم واستبقى الغلمان. وكلم هوذة بن علي المكعبر يومئذ في مائة من أسرى بني تميم، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، فقال الأعشى، يذكر ما كان من قبل هوذة في بني تميم:
سائل تميما به أيام صفقتهم لما أتوه أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في عيطاء مظلمة لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتنعا
لو أُطعموا المن....... ....................
فوصف بني تميم بالكفر لنعمته (تاريخ الطبري ٢: ١٣٢ - ١٣٤). والطعم: ما أكل من الطعام. ونجع الطعام في الإنسان: هنا أكله وتبينت تنميته، واستمرأه وصلح عليه.
(٢) الحديث: ٩٧٨ - هكذا رواه الطبري دون إسناد. وقد صدق في أنه تظاهرت به الأخبار. فقد رواه أحمد والشيخان والترمذي، من حديث سعيد بن زيد. ورواه أيضًا أحمد والشيخان وابن ماجه، من حديث أبي سعيد وجابر. ورواه أبو نعيم في الطب، من حديث ابن عباس وعائشة. انظر مثلا، المسند: ١٦٢٥، ١٦٢٦. والجامع الصغير: ٦٤٦٣. وزاد المعاد لابن القيم ٣: ٣٨٣. وتفسير ابن كثير ١: ١٧٤ - ١٧٦، وقد ساق كثيرا من طرقه.
(٣) ديوانه: ٣٤ - ٣٥. في الأصول والديوان. "ولا مثمورا". مضيع: بموضع ضياع وهوان وهلاك. يقال: هو بدار مضيعة (بفتح الميم وكسر الضاد)، كأنه فيها ضائع. وهو مفعلة، وطرح التاء منها كما يقولون: المنزل والمنزلة. ومزرع: مصدر ميمي من"زرع" يعني ليس بذي زرع، ومعمور: أي آهل ذهب خرابه. ونصب"ولا معمورا"، عطفا على محل"بذي مزرع"، وهو نصب. وآثرت هذه الكلمة، لأنها هي التي تتفق مع سياقه الشعر، ولأن التحريف في"معمور" و"مثمور" سهل، ولما سترى في شرح البيت الثالث.
94
فَنَساها عليهم غاديات،... ومرى مزنهم خلايا وخورا (١) عسلا ناطِفا وماء فراتا... وحليبا ذا بهجة مثمورا (٢)
المثمور: الصافي من اللبن (٣). فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلا ناطفا، والناطف: هو القاطر. (٤).
* * *
(١) في المطبوعة: "فعفاها" وفي المخطوطة: "فسناها"، وفي الديوان"فعفاها" ولا معنى لشيء منها، فاستظهرت أن أقرأها من المخطوط"فنساها"، أصلها"فنسأها" مهموزة، كما قالوا: برأ الله الخلق وبراهم بطرح الهمزة. ونسأ الدابة رالإبل ينسؤها نسأ: زجرها وساقها. يقول: ساق عليهم السحاب. غاديات جمع غادية: وهي السحابة التي تنشأ غدوة. ومرى الناقة مريا: مسح ضرعها لتدر. والمزن جمع مزنة: وهي السحابة ذات الماء. وخلايا جمع خلية: وهي الناقة التي خليت للحلب لكرمها وغزارة لبنها. الخور": إبل حمر إلى الغبرة، رقيقات الجلود، طوال الأوبار، لها شعر ينفذ وبرها، وهي أطول من سائر الوبر، فإذا كانت فهي غزار كثيرة اللبن. شبه السحاب الغزير الماء بهذين الضربين من النوق الغزيرة اللبن، يحلب مطرها عليهم حلبا، ثم فصل في البيت التالي أنواع ما نزل عليهم من السماء.
(٢) ناطف، من نطف ينطف: قطر. وهو مشروح بعد - أي يقطر من السماء. والفرات: أشد الماء عذوبة. ووصف اللبن بأنه ذو بهجة. وهي الحسن والنضارة، لأنه لم يؤخذ زبده، فيرق، وتذهب لمعة الزبد منه، فاستعار البهجة لذلك. أما قوله: "مثمورا"، فهي في المطبوعة "ممرورا"، وفي المخطوطة في الصلب كانت تقرأ "مثمورا" ثم لعب فيها قلم الناسخ في الثاء والميم، ثم كتب هو نفسه في الهامش: "مزمورا"، ثم شرح في طرف الصفحة فقال: "المزمور: الصافي من اللبن". وذلك شيء لا وجود له في كتب اللغة، وقد رأيت أنه كتب في البيت الأول"مثمورا"، ورجحت أن صوابها"معمورا"، ورجحت في هذا البيت أن يكون اختلط عليه حين كتب"مثمورا" فعاد فجعلها"مزمورا".
ولم أجد"مثمورا" في كتب اللغة، ولكن يقال: الثمير والثميرة: اللبن الذي ظهر زبده وتحبب قال ابن شميل: إذا مخض رؤي عليه أمثال الحصف في الجلد، ثم يجتمع فيصير زبدا، وما دامت صغارا فهو ثمير. ويقولون: إن لبنك لحسن الثمر، وقد أثمر مخاضك. فكأنه قال: "مثمورا" ويعني"ثميرا"، لأن فعيلا بمعنى مفعول هنا.
(٣) كانت في المطبوعة"الممرور"، وقد ذكرت في التعليقة، أنها بهامش المخطوطة"المزمور".
(٤) قوله: "فجعل المن... " إلى آخر الجملة ليس في المخطوطة.
95
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَالسَّلْوَى﴾
قال أبو جعفر: و"السلوى" اسم طائر يشبه السُّمانَى، واحده وجِماعه بلفظ واحد، كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة.
* ذكر من قال ذلك:
٩٧٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى طير يشبه السُّمانى. (١).
٩٨٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى.
٩٨١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.
٩٨٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السلوى: طائر.
٩٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السلوى طير.
٩٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام. (٢)
(١) الأثر: ٩٧٨ - اقتصر في المخطوطة على بعض هذا الإسناد، إلى قوله: عن السدي"، وأسقط الباقي، وهو الإسناد الدائر في تفسيره، فكأن كل إسناد وقف على السدي، هو هذا الإسناد، ثم اجتزأ ببعضه عن جميعه، كما مضى آنفًا، وكما سيأتي بعد.
(٢) الأثر ٩٨٤ - بعض أثر سيأتي برقم: ٩٩٥.
96
٩٨٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير.
٩٨٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى.
٩٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: السلوى السمانى.
٩٨٨ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى.
٩٨٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: السلوى السمانى.
٩٩٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى.
* * *
فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: -
٩٩١ - فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، (١) وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، (٢) وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه. (٣)
(١) في المخطوطة: "على موسى" بحذف"قوم".
(٢) في المطبوعة: "بالمسير"، وهما سواء.
(٣) هذا اختصار، وتفصيله في التاريخ في موضعه، كما سيأتي في موضعه من ذكره مراجعه.
97
فقال قوم موسى لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون). فغضب موسى فدعا عليهم فقال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين). فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: (إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض). فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا؟ أين الطعام؟ فأنزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين (١) - والسلوى = وهو طير يشبه السمانى = فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) وقوله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ). [البقرة: ٦٠] (٢)
٩٩٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة، (٣) وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم
(١) في المخطوطة وحدها: "الزنجبيل". وانظر ما مضى: ٩٢.
(٢) الأثر: ٩٩١ - في تاريخ الطبري ١: ٢٢١ - ٢٢٢.
(٣) في المخطوطة: "أن يسبق بهم"، وأراد الناسخ أن يصححها في الهامش، فكتب"-" ولم يتمها.
98
عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التيه -بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل (١) - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام؛ ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى.
٩٩٣ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس -
٩٩٤ - وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع (٢) قوله: (وظللنا عليكم الغمام)، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة، (٣) كلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه. فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة. (٤) قال: وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
٩٩٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل -لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو
(١) الخمر (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.
(٢) هذا الإسناد الثاني ساقط من المخطوطة.
(٣) في المخطوطة: "فإذا هو في قدر" مصفحة، وانظر تفسير الطبري ٦: ١١٦ - ١١٧، ١١٩ (بولاق) وقوله: "قدر" ليست في المطبوعة.
(٤) في المخطوطة: "حتى قمرت أربعين سنة" محرفا.
99
مثل النقيّ - (١) قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، (٢) كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - (٣) قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. (٤) قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ (٥) قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! (٦) فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله، قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام. (٧).
٩٩٦ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي.
٩٩٧ - حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق
(١) هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: ٩٧٢
(٢) هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: ٩٨٤
(٣) في المطبوعة: "من السبت إلى السبت".
(٤) الشسع: أحد سيور النعل الذي يدخل بين الإصبعين
(٥) في المطبوعة: "فإن فينا أولادا".
(٦) في المطبوعة: "فبم نبصر".
(٧) الأثر: ٩٩٥ - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الكبير. إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل ابن منبه الصنعاني: ثقة، مترجم في التهذيب، ترجمة البخاري ١ /١ /٣٦٧، وابن أبي حاتم ١ / ١ /١٨٧. وهو يروي هنا عن عمه: عبد الصمد بن معقل بن منبه، وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ /٥٠. وعبد الصمد يروى عن عمه: وهب بن منبه، هذا الأثر.
100
ولا تدرن. (١) قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾
وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله:"وقلنا لكم"، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه. (٢) وقد قيل عنى بقوله: (من طيبات ما رزقناكم) : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا.
والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك ب"الطيب"، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح.
و"ما" التي مع"رزقناكم"، بمعنى"الذي". كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) ﴾
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى
(١) درن الثوب يدرن درنا فهو درن وأدرن: تلطخ بالوسخ.
(٢) في المطبوعة: "من مشهيات"، ليست بشيء.
101
الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، و"ما ظلمونا"، فاكتفى بما ظهر عما ترك.
وقوله: (وما ظلمونا) يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويعني بقوله: (وما ظلمونا)، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. كما: -
٩٩٩ - حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: يضرون.
* * *
وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل"الظلم": وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته. (١)
* * *
وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص، ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل.
* * *
(١) انظر ما مضى ١: ٥٢٣ - ٥٢٤، وهذا الجزء ٢: ٦٩.
102
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾
و"القرية" -التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس * ذكر الرواية بذلك:
٩٩٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: (ادخلوا هذه القرية)، قال: بيت المقدس.
١٠٠٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا
102
أسباط، عن السدي: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) أما القرية، فقرية بيت المقدس.
١٠٠١ - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية)، يعني بيت المقدس.
١٠٠٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته -يعني ابن زيد- عن قوله: (ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم) قال: هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾
يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب. وقد بينا معنى"الرغد" فيما مضى من كتابنا، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾
أما "الباب" الذي أمروا أن يدخلوه، فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
١٠٠٣ - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ادخلوا الباب سجدا) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.
١٠٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
(١) انظر ما مضى ١: ٥١٥ - ٥١٦.
103
١٠٠٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وادخلوا الباب سجدا)، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس.
١٠٠٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وادخلوا الباب سجدا) أنه أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: (سجدا) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.
١٠٠٧ - حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا)، قال: ركعا من باب صغير.
١٠٠٨ - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا)، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"السجود" الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو"ساجد". ومنه قول الشاعر: (١)
بجَمْع تضل البُلْقُ في حَجَراته ترى الأكْم منه سجدا للحوافر (٢)
(١) هو زيد الخيل بن مهلهل الطائي، الفارس المشهور.
(٢) سيأتي بعد في هذا الجزء ١: ٢٨٩ (بولاق)، والكامل ١: ٢٥٨، والمعاني الكبير: ٨٩٠، والأضداد لابن الأنباري: ٢٥٦، وحماسة ابن الشجري: ١٩، ومجموعة المعاني: ١٩٢، وغيرها. والباء في قوله "بجمع" متعلقة ببيت سالف هو:
بَنِي عَامِرٍ، هَلْ تَعْرِفُونَ إِذَا غَدَا أَبُو مِكْنَفٍ قَدْ شَدَّ عَقْدَ الدَّوَابِرِ؟
والبلق جمع أبلق وبلقاء: الفرس يرتفع تحجيلها إلى الفخذين. والحجرات جمع حجرة (بفتح فسكون) : الناحية. والأكم (بضم فسكون، وأصلها بضمتين) جمع إكام، جمع أكمة: وهي تل يكون أشد ارتفاعا مما حوله، دون الجبل، غليظ فيه حجارة. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير: "يقول: إذا ضلت البلق فيه مع شهرتها فلم تعرف، فغيرها أحرى أن يضل. يصف كثرة الجيش، ويريد أن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر". وفي المطبوعة هنا "فيه" والجيد ما أثبته، والضمير في "منه" للجيش أو الجمع.
104
يعني بقوله:"سجدا" خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
يراوح من صلوات المليك... طورا سجودا وطورا جؤارا (١)
فذلك تأويل ابن عباس قوله: (سجدا) ركعا، لأن الراكع منحن، وإن كان الساجد أشد انحناء منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾
وتأويل قوله: (حطة)، فعلة، من قول القائل:"حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة"، بمنزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك: (٢)
١٠٠٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: (وقولوا حطة)، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.
١٠١٠ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وقولوا
(١) ديوانه: ٤١، وسيأتي في ١٨: ٢٨ (بولاق)، ومعه بيت آخر في ١٤: ٨٢ (بولاق) راوح يراوح مراوحة: عمل عملين في عمل، يعمل ذامرة وذا مرة، قال لبيد يصف فرسا. وولّى عامدا لِطِيات فَلْج... يراوح بين صون وابتذال
وقوله: "من صلوات""من" هنا لبيان الجنس، مثل قوله تعالى: يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق". وحذف"بين" التي تقتضيها"يراوح"، لدلالة ما يأتي عليها، وهو قوله: "طورا.. وطورا". والجؤار: رفع الصوت بالدعاء مع تضرع واستغاثة وجزع. جأر إلى ربه يجأر جؤارا.
(٢) في المطبوعة: "ذلك منهم" بالزيادة.
105
حطة)، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم. (١)
١٠١١ - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (قولوا حطة) قال: يحط عنكم خطاياكم.
١٠١٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (حطة)، مغفرة.
١٠١١٣ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (حطة)، قال: يحط عنكم خطاياكم.
١٠١٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: (وقولوا حطة)، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا"لا إله إلا الله"، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول لا إله إلا الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٠١٥ - حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر، قال حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: (وقولوا حطة)، قال: قولوا،"لا إله إلا الله".
* * *
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار.
* ذكر من قال ذلك:
١٠١٦ - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وقولوا حطة) قال: أمروا أن يستغفروا.
* * *
(١) في المطبوعة: "وخطاياكم".
106
وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم.
* ذكر من قال ذلك:
١٠١٧ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقولوا حطة)، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت "الحطة".
فقال بعض نحويي البصرة: رفعت"الحطة" بمعنى"قولوا" ليكن منك حطة لذنوبنا، كما تقول للرجل: سَمْعُك.
وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة، وفرض عليهم قيلها كذلك.
وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت"الحطة" بضمير"هذه"، كأنه قال: وقولوا:"هذه" حطة. (١)
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة، فتكون"حطة" حينئذ خبرا لـ "ما".
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع"حطة" بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله: (وادخلوا الباب سجدا)، كما قال جل ثناؤه:
(١) الضمير: المضمر أو الإضمار، كما سلف في ١: ٤٢٧ تعليق: ١، وقد رأينا أيضًا في كلام نقله الشريف المرتضى في أماليه ١: ٣٣٤ عن أبي بكر بن الأنباري قال: "كاد، لا تضمر، ولابد من أن يكون منطوقا بها، ولو جاز ضميرها لجاز: قام عبد الله، بمعنى كاد عبد الله يقوم... "، وهي هنا بمعنى الإضمار لا شك. وسيأتي في الفقرة التالية أيضًا، بمعنى المضمر.
107
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) [الأعراف: ١٦٤]، (١) يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. فكذلك عندي تأويل قوله: (وقولوا حطة)، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا.
(٢) قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في"حطة"، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا:"لا إله إلا الله"، أو أن يقولوا:"نستغفر الله"، فقد قيل لهم: قولوا هذا القول، ف"قولوا" واقع حينئذ على"الحطة"، لأن"الحطة" على قول عكرمة - هي قول"لا إله إلا الله"، وإذا كانت هي قول"لا إله إلا الله"، فالقول عليها واقع، كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له:"قل خيرا" نصبا، ولم يكن صوابا أن يقول له:"قل خير"، إلا على استكراه شديد.
وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع"الحطة" (٣) بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: (وقولوا حطة). وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: (وقولوا حطة)، (٤) أن تكون القراءة في"حطة" نصبا. لأن من شأن العرب -إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر: (٥)
(١) قراءتنا: "معذرة" بالنصب في مصاحفنا. وقد ذكر الطبري في تفسير الآية ٩: ٦٣ (بولاق) أن الرفع قراءة عامة قراء الحجاز والكوفة والبصرة، وقرأ بعض أهل الكوفة"معذرة" بالنصب
(٢) من هنا أول جزء في التجزئة القديمة التي نقل عنها كاتب مخطوطتنا. وأولها: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك
(٣) في المطبوعة"القراء"، كما جرت عليه في كل ما مضى
(٤) انظر رقم: ١٠١٠ فيما سلف.
(٥) هو الفرزدق
108
أبيدوا بأيدي عصبة وسيوفهم على أمهات الهام ضربا شآميا (١)
وكقول القائل للرجل:"سمعا وطاعة" بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه: (معاذ الله) [يوسف: ٢٣] بمعنى: نعوذ بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ﴾
يعني بقوله: (نغفر لكم) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.
* * *
وأصل "الغفر" التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس"مغفر"، لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله"غمد السيف"، وهو ما تغمده فواراه. (٢) ولذلك قيل لزئبر الثوب: "غفرة"، لتغطيته الثوب، (٣) وحوله بين الناظر والنظر إليه. ومنه قول أوس بن حجر:
(١) ديوانه: ٨٩٠ في قصيدة يمدح فيها يزيد عبد الملك، ويذكر إيقاعه بيزيد بن المهلب في سنة ١٠٢ (انظر خبره في تاريخ الطبري ٨: ١٥١ - ١٦٠). ورواية ديوانه.
"أناخوا بأيدى طاعة، وسيوفهم" قوله:"أناخوا"، أي ذلوا وخضعوا، أو صرعوا فماتوا، كأنهم إبل أناخت واستقرت. وقوله:"أيدي طاعة"، أي أهل طاعة.
(٢) في المطبوعة "ومنه غمد السيف"، وهذا يجعل الكلام مضطربا مقحما، فرجح عندي أن تكون"ومنه"، و"مثله" لأنه فسر"نغفر" بقوله"نتغمد". وفي المطبوعة:" ما يغمده فيواريه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة:"غفر". والغفر جمع غفرة، وزئبر الثوب: هو ما يعلو الثوب الجديد من مائه، كالذي يعلو القطيفة والخز، ويسمونه"درز الثوب" أيضًا. وفي المطبوعة:"لتغطيته العورة.. والنظر إليها"، وهي عبارة غريبة فاسدة، والذي في المخطوطة"لتغطيته الثوب" كما أثبتناها، يعني الزئبر كما وصفنا. ويقال غفر الثوب: إذا أثار زئبره، يكون كالمنتفش على وجه الثوب. هذا، وقد انتهت المخطوطة التي اعتمدنا عند قوله:"لتغطية الثوب". ويأتي بعدها خرم طويل سيستغرق أجزاء برمتها، كما سنبينه في مواضعه.
109
فلا أعتب ابن العم إن كان جاهلا وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا (١)
يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خَطَايَاكُمْ﴾
و"الخطايا" جمع"خطية" بغير همز، كما"المطايا" جمع"مطية"، والحشايا جمع حشية. وإنما ترك جمع"الخطايا" بالهمز، لأن ترك الهمز في"خطيئة" أكثر من الهمز، فجمع على"خطايا"، على أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت"الخطايا" مجموعة على"خطيئة" بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل، وصحيفة وصحائف. وقد تجمع"خطيئة" بالتاء، فيهمز فيقال"خطيئات". و"الخطيئة" فعيلة، من " خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ "، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر: (٢)
وإن مُهَاجِرَيْن تَكَنَّفاه لعمر الله قد خطئا وخابا (٣)
يعني: أضلا الحق وأثما.
* * *
(١) ديوانه، قصيدة" ٣١. وهذه الرواية جاءت في شرح شواهد المغني: ١٣٧، وأما في سائر الكتب:"إن كان ظالما"، وهي أجود. وقوله:"أجهل" بمعنى جاهل، كما قالوا"أوجل" بمعنى وجل، وأميل بمعنى مائل، وأوحد بمعنى واحد، وغيرها. ورواية صدر البيت على الصواب:"ألا أعتب" كما في المفضليات ٥٩٠ وغيره، أو"وقد أعتب" كما في القرطين ٢: ٦٩. ويروى"ولا أشتم ابن العم". يقول: أبلغ رضاه إذا ظلم او جهل، فأترك له ما لا يحب إلى ما يرضاه.
(٢) هو أمية بن الأسكر (طبقات فحول الشعراء: ١٥٩ - ١٦٠)
(٣) أمالي القالي ٣: ١٠٩، وكتاب المعمرين: ٦٨ والخزانة ٢: ٤٠٥، ويروى صدره"أتاه مهاجران تكنفاه". وأما عجزه فاختلفت رواياته: "بترك كبيرة خطئا.. " و"ليترك شيخه خطئا.. "، "ففارق شيخه،.. " وكان أمية قد أسن، عمر في الجاهلية عمرا طويلا، وألفاه الإسلام هرما. ثم جاء زمن عمر، فخرج ابنه كلاب غازيا، وتركه هامة اليوم أو غد. فقال أبياتا منها هذا للبيت، فلما سمعها عمر، كتب إلى سعد بن أبي وقاص: أن رحل كلاب بن أمية بن الأسكر، فرحله. وله مع عمر في هذه الحادثة قصة جيدة (في القالي ١: ١٠٩).
110
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) ﴾
وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس، وهو ما:-
١٠١٨ - حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (وسنزيد المحسنين)، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.
فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعا عليكم بغير حساب؛ وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياته وعبره، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدوا (١) في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم، وقص علينا أنباءهم في
(١) سياق الجملة: ".. إن تعدوا.. أن يكونوا"، و"إن" هنا، نافية بمعنى"ما"، كالتي في قوله: "قل إن أدري أقريب ما توعدون"، وقوله: "إن أدري لعله فتنة لكم".
111
هذه الآيات، فقال جل ثناؤه: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) الآية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾
وتأويل قوله: (فبدل)، فغير. ويعني بقوله: (الذين ظلموا)، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله. ويعني بقوله: (قولا غير الذي قيل لهم)، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره، (١) ما:-
١٠١٩ - حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل:"ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم"، فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعيرة. (٢)
١٠٢٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:-
١٠٢١ - وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد
(١) قوله: "قولا" مفعول"تبديلهم". وأما خبر"كان" فهو قوله: "ما حدثنا به الحسن... ".
(٢) الحديث: ١٠١٩ - رواه أحمد في المسند: ٨٢١٣ (ج ٢ ص ٣١٨ حلبي)، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد، ولكن بلفظ"حبة في شعرة". وكذلك رواه البخاري ٦: ٣١٢، و٨: ٢٢٨- ٢٢٩ (فتح الباري)، من طريق عبد الرازق. وذكر الحافظ (٨: ٢٢٩) أن لفظ "شعرة" رواية أكثر رواة البخاري، وأن رواية الكشميهني"شعيرة". وذكره ابن كثير ١: ١٨٠، ونسبه أيضًا لمسلم والترمذي، من رواية عبد الرزاق.
112
بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة. (١)
١٠٢٢ - وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ في قوله: (حطة)، قال: بدلوا فقالوا: حبة. (٢)
١٠٢٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد، عن أبي الكنود، عن عبد الله: (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. فأنزل الله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
١٠٢٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا) قال: ركوعا - من باب صغير، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
١٠٢٥ - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس قال: أمروا
(١) الحديث: ١٠٢٠، ١٠٢١ - هو الحديث السابق، ولكن رواه الطبري هنا بإسنادين. أحدهما صحيح متصل، والآخر ضعيف فيه راو مبهم بين ابن إسحاق ومحمد ابن أبي محمد.
صالح بن كيسان المدني: تابعي ثقة. وصالح مولى التوأمة: هو ابن نبهان، وهو ثقة أيضًا، إلا أنه تغير بأخرة، فمن روى عنه قديما فحديثه صحيح. وصالح بن كيسان قديم، وهو بلديه، فالراجح أن يكون ممن سمع منه قبل تغيره.
(٢) الحديث: ١٠٢٢ - هو مختصر من الحديث: ١٠١٩. وقد رواه أحمد في المسند: ٨٠٩٥ (ج ٢ ص ٣١٢ حلبي) عن يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، بهذا الإسناد، مطولا. وكذلك رواه البخاري ٨: ١٢٥ (فتح الباري)، مطولا، من طريق عبد الرحمن بن مهدي. عن ابن المبارك.
113
أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة. قال أمروا أن يستغفروا، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
١٠٢٦ - حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر، عن قتادة والحسن: (ادخلوا الباب سجدا) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها، فدخلوها متزحفين على أوراكهم، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فقالوا حبة في شعيرة.
١٠٢٧ - حدثني محمد بن عمرو الباهلي. قال، حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة، وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة. (١)
١٠٢٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة. وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم، فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل -وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة. فذلك التبديل الذ قال الله عز وجل: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم). (٢)
١٠٢٩ - حدثني موسى بن هارون الهمداني [قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني]، عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا:" هطى سمقا يا ازبة هزبا"، وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
١٠٣٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش،
(١) الأثر: ١٠٢٧. سيأتي تمامه في رقم: ١١١٦.
(٢) الأثر: ١٠٢٨ - انظر ما سيأتي رقم: ١١١٧، فهو منه.
114
عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وادخلوا الباب سجدا) قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم.
١٠٣١ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي، عن عكرمة: (وادخلوا الباب سجدا) فدخلوا مقنعي رءوسهم - (وقولوا حطة) فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
١٠٣٢ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة)، قال: فكان سجود أحدهم على خده. و (قولوا حطة) نحط عنكم خطاياكم، فقالوا: حنطة. وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم.
١٠٣٣ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة!! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة.
١٠٣٤ - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة.
١٠٣٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة،"فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم".
* * *
115
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾
يعني بقوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا)، = على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره، ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، = (رجزا من السماء بما كانوا ينسقون).
* * *
و" الرِّجز " في لغة العرب، العذاب، وهو غير " الرُّجز ". (١) وذلك أن الرِّجز: البثر، (٢) ومنه الخبر الذي روي عن النبي ﷺ في الطاعون أنه قال:"إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم".
١٠٣٦ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله ﷺ قال:"إن هذا الوجع -أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم". (٣)
١٠٣٧ - وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة، عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى
(١) الرجز (بضم فسكون)، وهو الذي جاء في قوله تعالى في سورة المدثر: "والرجز فاهجر". وذكر الطبري فرق ما بينهما في ٢٩: ٩٢ (بولاق) فقال: "الرجز بضم الراء... الأوثان"
(٢) البثر: خراج صغار، كالذي يكون من الطاعون والجدري.
(٣) الحديث: ١٠٣٦ - إسناده صحيح. وقد ذكره ابن كثير ١: ١٨٢، وقال: "وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين، من حديث الزهري، ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم أبي النضر - عن عامر بن سعد، بنحوه". ورواه أحمد في المسند، من طريق الزهري (٥: ٢٠٧ - ٢٠٨ حلبي). ورواية أيضًا (٥: ٢٠٩)، من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن أسامة بن زيد، مطولا.
116
الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل. (١)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٠٣٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (رجزا)، قال: عذابا.
١٠٣٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء)، قال: الرجز، الغضب.
١٠٤٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون، فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون)، قال: وبقي الأبناء = ففيهم الفضل والعبادة -التي توصف في بني إسرائيل- والخير = وهلك الأباء كلهم، أهلكهم الطاعون.
١٠٤١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب. وكل شيء في القرآن" رِجز "، فهو عذاب.
(١) الحديث ١٠٣٧ - وهذا إسناد آخر صحيح، للحديث السابق. أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة: هو"إبراهيم بن عبد الله بن محمد"، وهو ثقة، روى عنه أيضًا النسائي وأبو زرعة وأبو حاتم، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ /١/ ١١٠. عمر بن حفص بن غياث: ثقة، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين. أبوه حفص بن غياث: ثقة مأمون، معروف، أخرج له الجماعة. الشيباني: هو أبو إسحاق، سليمان بن أبي سليمان، ثقة حجة. رياح بن عبيدة: هو بكسر الراء وفتح الياء التحتية المخففة، ووقع في المطبوعة"رباح" بالوحدة، وهو تصحيف. و"عبيدة" بفتح العين وكسر الباء الموحدة، ورياح هذا بصري ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة، وهو مترجم في التهذيب ٣: ٢٩٩ - ٣٠٠، والكبير للبخاري ٢ / ١ /٣٠٠، وابن أبي حاتم ١ / ٢ /٥١١، والمشتبه للذهبي، ص: ٢١٢. وهو غير"رياح بن عبيدة السلمى الكوفي"، فرق بينهما المزى في التهذيب. والذهبي في المشتبه. وأنكر الحافظ ابن حجر ذلك على المزى، ولكنه تبع الذهبي في تبصير المنتبه، ولم يعقب عليه، وهو الصواب، إن شاء الله.
117
١٠٤٢ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (رجزا)، قال: كل شيء في كتاب الله من " الرِّجز " يعني به العذاب.
* * *
وقد دللنا على أن تأويل " الرِّجز" العذاب. وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء. وجائز أن يكون ذلك طاعونا، وجائز أن يكون غيره. ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، (١) أي أصناف ذلك كان.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم.
غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله ﷺ في إخباره عن الطاعون أنه رجز، وأنه عذب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله ﷺ لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) ﴾
وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى"الفسق"، الخروج من الشيء. (٢)
(١) انظر تفسير قوله"ظاهر القرآن" فيما مضى: ٢: ١٥ والمراجع.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٠٩ - ٤١٠، وقد ذكر الآية هناك في أثر عن ابن عباس، فيه: "أي بما بعدوا عن امري"، (ص ٤١٠).
118
فتأويل قوله: (بما كانوا يفسقون) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾
يعني بقوله: (وإذ استسقى موسى لقومه)، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسئول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، (١) إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.
وكذلك قوله: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا)، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه.
وكذلك قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم. فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن"أناس" جمع لا واحد له من لفظه، (٢) وأن"الإنسان" لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية. (٣)
* * *
(١) قوله" والمعنى الذي سأل موسى"، يعني"والشيء" وهو الماء
(٢) في المطبوعة: "ان الناس جمع لا واحد له"، وقد مضى ذلك، ولكنه هنا أراد"أناس"، المذكور في الآية، وهو أيضًا جمع لا واحد له من لفظه، وإن قال بعضهم إنه جمع إنس
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٦٨.
119
وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات. وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، كما:-
١٠٤٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه. فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم.
١٠٤٤ - حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول. (١).
١٠٤٥ - حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه. ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
١٠٤٦ - وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) لكل سبط منهم عين. كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا.
١٠٤٧ - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
(١) المنقلة: المرحلة من مراحل السفر، والجمع مناقل.
120
، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه)، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا، ضربه موسى. قال ابن جريج: قال ابن عباس:"الأسباط" بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس. (١)
١٠٤٨ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا، (٢) ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين، فكان بنو إسرائيل يشربون منه، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون، وقيل به فألقى في جانب الجوالق (٣). فإذا نزل رمى به، فقرعه بالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
١٠٤٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط، عن السدي قال: كان ذلك في التيه.
* * *
وأما قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم -في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- (٤) من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل. وذلك
(١) في المطبوعة: "ولد سبطا وأمة من الناس"، والصواب حذف واو العطف فإن قوله "أمة من الناس" تفسير قوله"سبطا".
(٢) الجوالق: وعاء كبير منسوج من صوف أو شعر، تحمل فيه الأطعمة، وهو الذي نسميه في بلادنا"الشوال" محرفة من"الجوالق".
(٣) "قيل به" مبني للمجهول من"قال به". وقال بالشيء: رفعه أو حمله. والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان. يقولون: قال برجله: إذا بدأ يتقدم ومشى، أو إذا أشار بها للركل. ويقولون: قال بالماء على يده أي قلبه وصبه. وما أشبه ذلك. وقد مضى مثل ذلك آنفًا ص ٥٤ تعليق: ٣، ص: ٦٤ تعليق: ٤.
(٤) سياق الجملة "لأن معناهم.. من الشرب، كالذي مخالفا معاني"، وفصل كعادته فيما بينا مرارا. يعني لأن شربهم كان مخالفا شرب سائر الناس..
121
أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس. إذ كان غيرهم -في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾
وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر)، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، (١) الذي لا قرار له في الأرض، ولا سبيل إليه [إلا] لمالكيه، (٢) يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام.
ثم تقدم جل ذكره إليهم (٣) - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما
(١) الحجر المتعاور: الحجر المتبادل، ينقل من يد إلى يد. من تعاوروا الشيء: إذا تبادلوه، ولا يتعاور شيء حتى يكون منقولا، أما الثابت فلا يتعاوره الناس ولا يتبادلونه.
(٢) في المطبوعة: "لا سبيل إليه لمالكيه"، وهو كلام بلا معنى. والصواب ما أثبتناه بزيادة"إلا" ويدل على صواب ذلك ما مضى منذ قليل في تفسير ما سبق من الآية.
(٣) تقدم إليه بكذا: إذا أمره.
122
أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا، والعَثَا فيها استكبارا، فقال جل ثناؤه لهم: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) ﴾
يعني بقوله: (لا تعثوا) لا تطغوا، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما:-
١٠٥٠ - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.
١٠٥١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) لا تعث: لا تطغ.
١٠٥٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين.
١٠٥٣ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، لا تسعوا في الأرض.
وأصل " العَثَا " شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد. (١) يقال منه: عَثِيَ فلان في الأرض" -إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته-"يعثى عثا" مقصور، وللجماعة: هم يعثون. وفيه لغتان أخريان، إحداهما: "عثا يعثو عُثُوّا ". ومن قرأها بهذه اللغة، فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من"يعثو"، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته
(١) العثا: مصدر: عثى يعثى، كرضى يرضى، وهي لغة الحجاز. ولم أجد هذا المصدر إلا في تاج العروس. ولست أعلم أهو بفتح العين ام بكسرها. ولكني أستظهر أن يكون فتح العين هو الأرجح.
123
قرأ به. (١) ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال:"عثوت أعثو"، ومن نطق باللغة الأولى قال: عَثِيت أَعْثَى".
والأخرى منهما:"عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا، كل ذلك بمعنى واحد. ومن"العيث" قول رؤبة بن العجاج:
وعاث فينا مستحل عائث:... مُصَدِّق أو تاجر مقاعث (٢)
يعني بقوله:"عاث فينا"، أفسد فينا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾
قد دللنا -فيما مضى قبل- على معنى "الصبر" وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. (٣) فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم -يا معشر بني إسرائيل-: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك"الطعام الواحد"، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو"السلوى"
(١) "القراءة سنة، ولا يقرأ بما قرأ به القراء". لسان العرب (عثى).
(٢) ديوانه" ٣٠. مستحل: قد استحل أموالهم واستباحها. والمصدق: هو العامل الذي يقبض زكاة أموال الناس، وهو وكيل الفقراء في القبض، وله أن يتصرف لهم بما يؤديه إليه اجتهاده، فربما جار إذا لم يكن من أهل الورع. قعث الشيء يقعثه: استأصله واستوعبه. وقعثه فانقعث: إذا قلعه من أصله فانقلع. ولم تذكر معاجم اللغة: " قاعث فهو مقاعث"، ولكنه لما أراد أن التاجر يأتي بظلمه وجوره وإغلائه السعر، فيستأصل أموال الناس ويقتلعها، والناس يدافعونه عن أموالهم - اشتق له من المفاعلة التي تكون بين اثنين: "قاعث فهو مقاعث"، أي يحاول استئصال أموال الناس، والناس يدافعونه عن أموالهم.
(٣) انظر ما مضى في هذا الجزء ٢: ١١
124
في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو"الخبز النقي مع اللحم" - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى.
* * *
وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا، ما: -
١٠٥٤ - حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوه موسى. فقال الله تعالى: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم).
١٠٥٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لن نصبر على طعام واحد)، قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) الآية.
١٠٥٦ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)، قال: كان طعامهم السلوى، وشرابهم المن، فسألوا ما ذكر، فقيل لهم: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم).
* * *
قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها، فقالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر.
١٠٥٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى
125
قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: (لن نصبر على طعام واحد)، المن والسلوى، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه.
١٠٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله سواء.
١٠٥٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بمثله.
١٠٦٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا، فملوا ذلك وقالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها).
١٠٦١ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل لهم من السماء يقال له المن، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره. فقالوا: يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها"، فقرأ حتى بلغ: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم).
* * *
وإنما قال جل ذكره: (يخرج لنا مما تنبت الأرض) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض، فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن"من" تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها، فاكتفي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام" يريد شيئا منه.
وقد قال بعضهم:"من" ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط. كأن معنى الكلام
126
عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد على ذلك بقول العرب:"ما رأيت من أحد" بمعنى: ما رأيت أحدا، وبقول الله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [البقرة: ٢٧١]، وبقولهم:"قد كان من حديث، فخل عني حتى أذهب"، يريدون: قد كان حديث.
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون"من" بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام، وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم.
فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر"من" (١) -: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها.
* * *
و"البقل" و"القثاء" و"العدس" و"البصل"، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها.
* * *
وأما"الفوم"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
* ذكر من قال ذلك:
١٠٦٢ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: الفوم: ، الخبز.
١٠٦٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد قوله: (وفومها) قالا خبزها.
١٠٦٤ - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفومها)، قال: الخبز.
(١) في المطبوعة: "على ما وصفنا من أمر من ذكرنا"، و"ذكرنا" زائدة ولا شك، كما تبين من سياق كلامه السالف والآتي.
127
١٠٦٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس.
١٠٦٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن بمثله.
١٠٦٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: (وفومها) قال: الحنطة.
١٠٦٨ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: (وفومها)، الحنطة.
١٠٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن وحصين، عن أبي مالك في قوله: (وفومها)، الحنطة.
١٠٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه.
١٠٧١ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: (وفومها)، قال: خبزها، قالها مجاهد.
١٠٧٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.
١٠٧٣ - حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (وفومها) يقول: الحنطة والخبز.
١٠٧٤ - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وفومها) قال: هو البر بعينه، الحنطة.
١٠٧٥ - حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله عز
128
وجل: (وفومها) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم. (١)
١٠٧٦ - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: (وفومها)، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاحح وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا... وَرَد المدينة عن زراعة فوم (٢)
* * *
وقال آخرون: هو الثوم.
* ذكر من قال ذلك:
١٠٧٧ - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد قال: هو هذا الثوم.
١٠٧٨ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفوم، الثوم.
* * *
وهو في بعض القراءات"وثومها".
* * *
(١) الحديث: ١٠٧٥ - مسلم الجرمي: سبق أن رجحنا في: ١٥٤، ٦٤٩، ٨٤٦ أنه"الجرمي" بالجيم. وقد ثبت هنا في المطبوعة بالجيم على ما رجحنا. رشدين - بكسر الراء وسكون الشين المعجمعة وكسر الدال المهملة - بن كريب: ضعيف، بينا القول في ضعفه في شرح المسند: ٢٥٧١. وأبوه، كريب بن أبي مسلم: تابعي ثقة.
(٢) الحديث: ١٠٧٦ - عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري: ثقة، كان من أهل الحديث عالما بالتواريخ، صنف تاريخ مصر وغيره، كما في التهذيب، مات سنة ٢٥٧. وهو مؤلف كتاب (فتوح مصر) المطبوع في أوربة. شيخه عبد العزيز بن منصور: لم أجد له ذكرا فيما بين يدي من المراجع، إلا في فتوح مصر، ص ٤٠ س ٧ - ٨ قال ابن عبد الحكم هناك:"حدثنا عبد العزيز بن منصور اليحصبى، عن عاصم بن حكيم.." وشيخه، نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة المعروفين وهو لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن التابعين، وله ترجمة في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ٢ / ٨، وابن أبي حاتم ٤ / ١ /٤٥٦ - ٤٥٧، وتاريخ إصبهان لأبي نعيم ٢: ٣٢٦ - ٣٢٧.
والبيت في اللسان (فوم)، ونسبه لأبي محجن الثقفي، أنشده الأخفش له، وروايته:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد... نزل المدينة...
وفي الروض الأنف ٢: ٤٥ نسبه لأحيحة، أو لأبي محجن، ورواه"سكن المدينة".
129
وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا"فوما" من اللغة القديمة. حكي سماعا من أهل هذه اللغة:"فوموا لنا"، بمعنى اختبزوا لنا.
* * *
وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود:"وثومها" بالثاء. (١) فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم:"وقعوا في عاثور شر: وعافور شر" وكقولهم""للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير" وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و"المغافير" شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾
يعني بقوله: (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم.
* * *
وأصل"الاستبدال": هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك.
* * *
ومعنى قوله: (أدنى) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا. وأصله من قولهم:"هذا رجل دني بين الدناءة" و"إنه ليدنِّي في الأمور" بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم. يقولون:"ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ، (٢) وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى (٣)
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤١
(٢) هذا كله من قول الفراء في معاني القرآن ١: ٤٢. وكان في المطبوعة"ما كنت دنيا"، والصواب ما أثبته من كتاب الفراء.
(٣) الذي سمع هذا هو الفراء. انظر معاني القرآن له ١: ٤٢، والطبري يجهله دائما
130
باسلةُ الوقعِ سرابيلها... بيض إلى دانِئِها الظاهر (١)
بهمز الدانئ، وأنه سمعهم يقولون:"إنه لدانئ خبيث" بالهمز. (٢) فإن كان ذلك عنهم صحيحا، فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى.
* * *
ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش الرفيع منه.
* * *
وقد تأول بعضهم قوله: (الذي هو أدنى) بمعنى: الذي هو أقرب، ووجه قوله: (أدنى)، إلى أنه أفعل من"الدنو" الذي هو بمعنى القرب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (الذي هو أدنى) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
١٠٧٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه.
١٠٨٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
(١) ديوانه: ١٠٨، وروايته"إلى جانبه الظاهر". يصف حصنا. قال قبل:
في مجدل شيد بنيانه... يزل عنه ظفر الطائر
يجمع خضراء لها سورة... تعصف بالدارع والحاسر
باسلة الوقع............................
والضمير في قوله:"سرابيلها" راجع إلى"خضراء" يقال: كتيبة خضراء، وهي التي غلب عليها لبس الحديد وعلاها سواده، والخضرة سواد عندهم. والسرابيل هنا: الدروع، جمع سربال: وهو كل ما لبس كالدرع وغيره. وقال الفراء:"يعني الدروع على خاصتها - يعني الكتيبة - إلى الخسيس منها". كأنه أراد: يلبسون الدروع من شريف إلى خسيس. وأما رواية الديوان: فالضمير في"جانبه"، راجع إلى"المجدل" وهي أبين الروايتين معنى وأصحهما.
(٢) في معاني الفراء زيادة بين قوسين من بعض النسخ: [إذا كان ماجنا]
131
عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (الذي هو أدنى) قال: أردأ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾
وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له، فقلنا لهم:"اهبطوا مصرا"، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه.
* * *
وقد دللنا -فيما مضى- على أن معنى"الهبوط" إلى المكان، إنما هو النزول إليه والحلول به. (١)
* * *
فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم).
* * *
ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله (٢) (مصرا) فقرأه عامة القَرَأَة: "مصرا" بتنوين"المصر" وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نونوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه. فتأويله -على قراءتهم-: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم -إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك
(١) انظر ما مضى ١: ٥٣٤.
(٢) في المطبوعة: "الفراء"، ورددناها إلى الذي جرى عليه لفظ الطبري فيما سلف، في كل المواضع التي جروا على تبديلها من"قرأة"، إلى"قراء".
132
بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده:"اهبطوا مصرا" البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي"مصر" التي خرجوا عنها. غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفا ثابتة في"مصر"، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: (قواريرا قواريرا من فضة) [الإنسان: ١٥-١٦] منونة اتباعا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينون"مصر" فإنه لا شك أنه عنى"مصر" التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها. (١)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته.
١٠٨١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (اهبطوا مصرا)، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.
١٠٨٢ - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (اهبطوا مصرا) من الأمصار، فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول.
١٠٨٣ - وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: (اهبطوا مصرا) قال: يعني مصرا من الأمصار.
١٠٨٤ - وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (اهبطوا مصرا) قال: مصرا من الأمصار. زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
١٠٨٥- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (اهبطوا مصرا)، قال: مصرا من الأمصار. و"مصر" لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: (ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: ٢١].
* * *
(١) انظر ما قاله الفراء في معاني القرآن ١: ٤٢ - ٤٣.
133
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
* ذكر من قال ذلك:
١٠٨٦ - حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (اهبطوا مصرا) قال: يعني به مصر فرعون.
١٠٨٧ - حدثنا عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: (اهبطوا مصرا)، مصرا من الأمصار دون"مصر" فرعون بعينها -: أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر. وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: ٢١-٢٤]، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك -فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذريتهم الشأم، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ:"اهبطوا مصر"، ونتأوله أنه ردهم إليها.
134
قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: ٥٧-٥٩] قيل لهم: (١) فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم.
* * *
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: (اهبطوا مصرَ) مصرَ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: ٥٧-٥٩] وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الدخان: ٢٥-٢٨]، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها. قالوا: (٢) وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود:"اهبطوا مصر" بغير ألف. قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها"مصر" بعينها.
* * *
قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول ﷺ يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: (٣) إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه
(١) في المطبوعة: "قيل لهم"، وهو خطأ. والضمير في"له" راجع إلى قوله: "فإن احتج محتج".
(٢) قوله: "وأخرى"، أي وحجة أخرى. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٣
(٣) في المطبوعة: "عندنا والصواب"، وهو سهو ناسخ.
135
قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار"مصر"، وجائز أن يكون"الشأم".
فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: (اهبطوا مصرا) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، (١) فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾
قال أبو جعفر: يعنى بقوله: (وضربت) أي فرضت. ووضعت عليهم الذلة وألزموها. من قول القائل:"ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة" و"ضرب الرجل على عبده الخراج" يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم:"ضرب الأمير على الجيش البعث"، يراد به: ألزمهموه. (٢)
* * *
وأما"الذلة" فهي"الفعلة" من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة"، كـ "الصغرة" من "صغُر الأمر"، و "القِعدة" من "قعد". (٣)
و"الذلة" هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال عز وجل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر
(١) الحجة هنا: الذين يحتج بهم.
(٢) البعث: بعث الجند إلى الغزو.
(٣) لم أجد فيما بين يدي من الكتب من نص على صِغرة فرة" و"قعدة" مصدر على فعلة مثل: نشد الدابة نِشدة، ليس للهيئة، وإن وافقها في الوزن.
136
ِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: ٢٩] كما:-
١٠٨٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: (وضربت عليهم الذلة)، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
* * *
وأما"المسكنة" فإنها مصدر"المسكين". يقال:"ما فيهم أسكن من فلان" (١) و"ما كان مسكينا" و"لقد تمسكن مسكنة". ومن العرب من يقول:"تمسكن تمسكنا". و"المسكنة" في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما:-
١٠٨٩ - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (والمسكنة) قال: الفاقة.
١٠٩٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)، قال: الفقر.
١٠٩١ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.
* * *
فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافا عليه.
* * *
(١) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ٤٢، وفسره فقال: "أي أفقر منه".
137
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وباءوا بغضب من الله)، انصرفوا ورجعوا. ولا يقال"باؤوا" إلا موصولا إما بخير، وإما بشر. يقال منه:"باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء". ومنه قول الله عز وجل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة: ٢٩] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني.
* * *
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط. كما:-
١٠٩٢ - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وباؤوا بغضب من الله) فحدث عليهم غضب من الله.
١٠٩٣ - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وباؤوا بغضب من الله) قال: استحقوا الغضب من الله.
* * *
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١).
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ١٨٨ - ١٨٩.
138
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك" ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله:"ذلك" - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل:"ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
* * *
ويعني بقوله: (بأنهم كانوا يكفرون)، من أجل أنهم كانوا يكفرون. يقول: فعلنا بهم -من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق، كما قال أعشى بني ثعلبة:
مليكيةٌ جَاوَرَتْ بالحجا... ز قوما عداة وأرضا شطيرا (١) بما قد تَرَبَّع روض القطا... وروض التناضِب حتى تصيرا (٢)
يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - (٣) من تربعها روض القطا وروض التناضب.
(١) ديوانه: ٦٧. مليكية، منسوبة إلى"المليك": وهو الملك، يعني من نبات الملوك. العداة، جمع عاد، وهو العدو. الشطير: البعيد، والغريب، أراد أنها في أرض مجهولة. وذكره الأرض في هذا البيت. يعني أنها نزلت ديار قوم نشبت العداوة بيننا وبينهم، في غربة بعيدة. فصرت لا أقدر عليها.
(٢) قوله"بما" بمعنى بسبب تربعها وتربع القوم المكان وارتبعوه: أقاموا فيه في زمن الربيع. وروض القطا، من أشهر رياض العرب، في أرض الحجاز. وروض التناضب أيضًا بالحجاز عند سرف. وقوله: "حتى تصيرا"، من قولهم صار الرجل يصير فهو صائر: إذا حضر الماء، والقوم الذين يحضرون الماء يقال لهم: الصائرة. والصير (بكسر الصاد) الماء الذي يحضره الناس. يقول: اغتربت في غير قومها، لما دفعها إلى ذلك طلب الربيع والخصب ومساقط الماء في البلاد.
(٣) كانت هذه الجملة في المخطوطات والمطبوعة هكذا: "وأرضا بعيدة من أهله بمكان قربها كان منه ومن قومه وبدلا من تربعها.. "، وهو كلام لا معنى له. وقد جعلت"بمكان"، "لمكان" و"بدلا"، "بلده". فصار لها معنى تطمئن إليه النفس والجملة بين الخطين اعتراض، وتفسير لقوله: " أرضا بعيدة من أهله".
139
فكذلك قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله)، يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا.
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى"الكفر": تغطية الشيء وستره، (١) وأن"آيات الله" حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله. (٢)
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها.
* * *
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم -لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.
* * *
وهم جماع، وأحدهم"نبي"، غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من"أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء"، وإنما الاسم منه،"منبئ" ولكنه صرف وهو"مفعل" إلى"فعيل"، كما صرف"سميع" إلى"فعيل" من"مسمع"، و"بصير" من"مبصر"، وأشباه ذلك، (٣) وأبدل مكان الهمزة من"النبيء" الياء، فقيل:"نبي". هذا ويجمع"النبي" أيضا على"أنبياء"، وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم"النبيء"، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير"فعيل" من ذوات الياء والواو. وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير"فعيل" من ذوات الياء والواو، جمعوه على"أفعلاء" كقولهم:"ولي وأولياء"، و"وصي وأوصياء"
(١) انظر ما سلف ١: ٢٥٥.
(٢) انظر ما سلف ١: ٥٥٢.
(٣) كان في المطبوعة: "مفعل" مكان"مسمع". وليس يعني بقوله"سميع"، صفة الله عز وجل، بل يعني ما جاء في شعر عمرو بن معد يكرب. أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ؟... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
أي: الداعي المسمع. وانظر ما سلف ١: ٢٨٣.
140
، و"دعى وأدعياء". ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله، وعلى أن الواحد"نبيء" مهموز، لجمعوه على"فعلاء"، فقيل لهم"النبآء"، على مثال"النبهاء"، (١) لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء، والعليم علماء، والحكيم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب في جمع"النبي""النبآء"، وذلك من لغة الذين يهمزون"النبيء"، ثم يجمعونه على"النبآء" - على ما قد بينت. ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
يا خاتم النبآء إنك مرسل بالخير كلُّ هدى السبيل هداكا (٢)
فقال:"يا خاتم النبآء"، على أن واحدهم"نبيء" مهموز. وقد قال بعضهم: (٣) "النبي" و"النبوة" غير مهموز، لأنهما مأخوذان من " النَّبْوَة "، وهي مثل " النَّجْوَة "، وهو المكان المرتفع، وكان يقول: إن أصل"النبي" الطريق، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:
لما وردن نَبِيَّا واستَتَبّ بها مُسْحَنْفِر كخطوط السَّيْح مُنْسَحِل (٤)
(١) في المطبعة: "النبعاء" وفي المخطوطات"النبآء".
(٢) من أبيات له في سيرة ابن هشام ٤: ١٠٣ وغيرها. والضمير الفاعل في قول"هداكا"، لله سبحانه وتعالى، دل عليه ما في قوله"إنك مرسل بالخير"، فإن الله هو الذي أرسله. وهو مضبوط في أكثر الكتب"كل" بالرفع، و"هدى"، و"هداكا" بضم الهاء.
(٣) كأنه يريد الكسائي (البحر المحيط ١: ٢٢٠). ووجدت في معجم البلدان ٨: ٢٤٩"وقال أبو بكر بن الأنباري في"الزاهر" في قول القطامي.. إن النبي في هذا البيت هو الطريق"، وليس يعنيه أبو جعفر، فإن أبا بكر قد ولد سنة ٢٧١ وتوفى ٣٢٨. وقد رد هذا القول أبو القاسم الزجاج - فيما نقل ياقوت - فقال: "كيف يكون ذلك من أسماء الطريق، وهو يقول: "لما وردن نبيا"، وقد كانت قبل وروده على الطريق؟ فكأنه قال: "لما وردن طريقا"، وهذا لا معنى له، إلا أن يكون أراد طريقا بعينه في مكان مخصوص، فيرجع إلى أنه اسم مكان بعينه، قيل: هو رمل بعينه، وقيل: هو اسم جبل". وانظر تحقيق ذلك في معجم البلدان، ومعجم ما استعجم، وغيرهما.
(٤) ديوان: ٤، في قصيدته الجيدة المشهورة، والضمير في"وردن" للإبل ذكرها قبل. وروايته"واستتب بنا". نبي كثيب رمل مرتفع في ديار بني تغلب، ذكره القطامي في كثير من شعره. واستتب الأمر والطريق: استوى واستقام وتبين واطراد وامتد. مسحنفر، صفة للطريق: واسع ممتد ذاهب بين. والسبح: ضرب من البرود أو العباء مخطط، يلبس، أو يستتر به ويفرش. شبه آثار السير عليها بخطوط البرد. وسجلت الريح الأرض فانسحلت: كشطت ما عليها. ووصف الطريق بذلك، لأنه قد استتب بالسير وصار لاحبا واضحا.
141
يقول: إنما سمى الطريق"نبيا"، لأنه ظاهر مستبين، من " النَّبوة ". ويقول: لم أسمع أحدا يهمز"النبي". قال. وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
* * *
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق)، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) ﴾
وقوله: (ذلك)، رد على"ذلك" الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحق، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. (ذلك بما عصوا)، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.
* * *
و"الاعتداء"، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.
* * *
142
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾
قال أبو جعفر: أما"الذين آمنوا"، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله، وإيمانهم بذلك، تصديقهم به - على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا. (١)
* * *
وأما"الذين هادوا"، فهم اليهود. ومعنى:"هادوا"، تابوا. يقال منه:"هاد القوم يهودون هودا وهادة. (٢) وقيل: إنما سميت اليهود"يهود"، من أجل قولهم: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ). [سورة الأعراف: ١٥٦].
١٠٩٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: (إنا هدنا إليك).
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَالنَّصَارَى﴾
قال أبو جعفر: و"النصارى" جمع، واحدهم نصران، كما واحد السكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على"فعلان" فإن جمعه على"فعالى". إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد"النصارى""نصراني". وقد حكى عنهم سماعا"نصران" بطرح الياء، ومنه قول الشاعر:
تراه إذا زار العشي مُحَنِّفًا ويضحي لديه وهو نصران شامس (٣)
(١) انظر ما سلف ١: ٢٣٤ - ٢٣٥.
(٢) قوله"هادة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة.
(٣) لم أعرف قائله. الأضداد لابن الأنباري: ١٥٥، ورواه: "تراه ويضحى وهو.. " ونقله أبو حيان في البحر المحيط ١: ٢٣٨ عن الطبري، وفيهما"إذا دار العشى" وأخطأ القرطبي (تفسيره ١: ٣٦٩) فقال: و"أنشد سيبويه" وذكر البيت، ولم ينشده سيبويه. وروى صدره.
(تراه إذا دار العشا متحنفا)
والبيت في صفة الحرباء. و"محنفا": قد تحنف، أو صار إلى الحنيفية. ويعني أنه مستقبل القبلة. وقوله: "لديه"، أي لدى العشى، ويريد قبل أن يستوى العشى أو لدى الضحى، ويكون قد ذكره في بيت قبله. وقوله: "شامس"، يريد مستقبل الشمس، قبل المشرق. يقول يستقبل الشمس كأنه نصراني، وهو كقول ذي الرمة في صفة الحرباء أيضًا:
143
وسمع منهم في الأنثى: "نصرانة"، قال الشاعر: (١)
فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا... كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ (٢)
يقال: أسجد، إذا مال. (٣) وقد سمع في جمعهم"أنصار"، بمعنى النصارى. قال الشاعر:
لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارَا... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا (٤)
وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا"نصارى" لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا"نصارى"، من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها"ناصرة".
(١) هو أبو الأخزر الحماني.
(٢) سيبويه ٢: ٢٩، ١٠٤، واللسان (حنف)، يصف ناقتين، طأطأتا رؤوسهما من الإعياء، فشبه رأس الناقة في طأطأتها، برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وأسجد الرجل: طأطأ رأسه وخفضه وانحنى. قال حميد بن ثور، يصف نوقا: فلما لوين على معصم... وكف خضيب وأسوارها
فضول أزمتها أسجدت... سجود النصاري لأحبارها
(٣) بيان الطبري عن معنى"أسجد" ليس بجيد.
(٤) لم أعرف صاحب الرجز. والأبيات، في معاني القرآن للفراء ١: ٤٤ أمالي ابن الشجرى ١: ٧٩، ٣٧١. أنشده شاهدا على حذف واو العطف: أي"وكنت لهم من النصارى جارا"، ثم أنشده في الموضع الآخر شاهدا على حذف الفاء العاطفة أي"فكنت لهم.. ".
144
١٠٩٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"النصارى" إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها"ناصرة".
* * *
ويقول آخرون: لقوله: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) [سورة الصف: ١٤].
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضًى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى"ناصرة"، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى:"الناصري".
١٠٩٦ - حدثت بذلك عن هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
١٠٩٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم، فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به.
١٠٩٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) [المائدة: ٢٢] قال: تسموا بقرية يقال لها"ناصرة"، كان عيسى ابن مريم ينزلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾
قال أبو جعفر: و"الصابئون" جمع"صابئ"، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب:"صابئا". يقال منه:"صبأ فلان يصبأ صبْأ". ويقال:"صبأت النجوم": إذا طلعت."وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا"، يعني به: طلع.
* * *
145
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم
* ذكر من قال ذلك:
١٠٩٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي.
١١٠٠ - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.
١١٠١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الحجاج بن أرطاة، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد مثله.
١١٠٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
١١٠٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن حجاج، عن قتادة، عن الحسن مثل ذلك.
١١٠٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح: "الصابئين" بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
١١٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١١٠٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال مجاهد:"الصابئين" بين المجوس واليهود، لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء:"الصابئين" زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، (١) ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال المشركون للنبي: قد صبأ.
(١) يعني سواد العراق.
146
١١٠٧ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والصابئين" قال: الصابئون، [أهل] دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل (١) يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي ﷺ وأصحابه:"هؤلاء الصابئون"، يشبهونهم بهم.
* * *
وقال آخرون: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة
* ذكر من قال ذلك:
١١٠٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: حدثني زياد (٢) أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
١١٠٩ - وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والصابئين) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة، يصلون إلى القبلة، ويقرءون الزبور.
١١١٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور، ويصلون إلى القبلة.
* * *
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب
* ذكر من قال ذلك:
١١١١ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
* * *
(١) في المطبوعة"الصابئون دين من الأديان"، والزيادة بين القوسين لا بد منها.
(٢) زياد، هو زياد بن أبيه، والى العراق في زمن معاوية رضي الله عنه.
147
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر)، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: (فلهم أجرهم عند ربهم)، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.
* * *
فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) ؟
قيل: تمامه جملة قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر). لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟
قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟
قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان = وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به، حتى أدرك محمدا ﷺ فآمن به وصدقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به = ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد ﷺ وبما
148
جاء به، فمن يؤمن منهم بمحمد، وبما جاء به واليوم الآخر، ويعمل صالحا، فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه.
فإن قال قائل: وكيف قال:"فلهم أجرهم عند ربهم"، وإنما لفظه"من" لفظ واحد، والفعل معه موحد؟
قيل:"من"، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا، فإن معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه، كما قال جل ثناؤه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ) [يونس: ٤٢-٤٣]. فجمع مرة مع"من" الفعل لمعناه، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد، كما قال الشاعر:
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما،... وقولا لها: عوجي على من تخلفوا (١)
(١) في ديوان لامرىء القيس، منسوب إليه من قصيدة عدتها ٢٣ بيتا، وفيه: "ويقال إنها لرجل من كندة" وأولها:
إذا حول الظل العشى رأيته حنيفا، وفي قرن الضحى ينتصر
ديار بها الظلمان والعِين تعكف وقفت بها تبكي ودمعك يذرف
والأضداد لابن الأنباري: ٢٨٨ قال أنشده الفراء، وروايته صدره: (ألما بسلمى لمة إذ وقفتما)
والذي في رواية الطبري من قوله: "عنكما" زائدة في الكلام، والعرب تقول: "سر عنك"، و"أنفذ عنك" أي امض، وجز - لا معنى ل"عنك" وفي حديث عمر رضي الله عنه: أنه طاف بالبيت مع يعلى بن أمية، فلما انتهى إلى الركن الغربي الذي يلي الأسود قال له: ألا تستلم؟ فقال: انفذ عنك، فإن النبي ﷺ لم يستلمه. وفي الحديث تفسيره: أي دعه وتجاوزه. وقوله"عرضتما" من قولهم: عرض الرجل: إذا أتى العروض (بفتح العين)، وهي مكة والمدينة وما حولهما.
149
فقال:"تخلفوا"، وجعل"من" بمنزلة"الذين"، وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١)
فثنى "يصطحبان " لمعنى "من". فكذلك قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم)، وحد "آمن وعمل صالحا" للفظ "من"، وجمع ذكرهم في قوله: (فلهم أجرهم)، لمعناه، لأنه في معنى جمع.
* * *
وأما قوله: ﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) ﴾
فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
* * *
* ذكر من قال عُني بقوله: (من آمن بالله)، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
١١١٢ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جُنْدَيسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء، (٢) فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه
(١) ديوانه: ٨٧٠، وسيبويه ١: ٤٠٤، والكامل ١: ٢١٦، وطبقات فحول الشعراء: ٣١٠، والأضداد: ٢٨٨، وأمالي ابن الشجري ٢: ٣١١. ورواية ديوانه"تعش فإن واثقتني". وهو بيت من قصيدته الجيدة التي قالها حين نزل به ذئب فأضافه.
(٢) رفع له الشيء (بالبناء للمجهول) : أبصره من بعد. وفي المطبوعة: " بيت من خباء" والخباء بيت من وبر أو صوف. فهو كلام لا معنى له. وفي الدر المنثور ١: ٧٣ وروى الخبر بطوله: "من عباءة". والصواب ما أثبته. والعباء ضرب من الأكسية فيه خطوط سود كبار، وهو هنا مفرد، وجمعه أعبية. والعباء أيضًا جمع عباءة.
150
وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما. فنزلا إليه، فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله، أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته، فيه: أن لا تزني، ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام.
فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه، حتى كان عيد للملك، فجعل طعاما، (١) ثم جمع الناس والأشراف، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول، فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه. وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين، فإنا في بِيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها، فأتونا فيها.
فخرج الراهب، وبقي سلمان وابن الملك: فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه، وهو رب البيعة.
(١) في الدر المنثور: "فجمع طعاما"، وأظن أن الصواب: فصنع طعاما"، ويدل على صواب ذلك قوله بعد: "فدعاه إلى صنيعه". يقال: صنع لهم طعاما، وكنت في صنيع فلان: أي مأدبته ومدعاته.
151
وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان، (١) فكان سلمان: معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز، فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني.
ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي، وأنا أحق الناس بها، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعُف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء، فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان، فكان سلمان يتعبد معهم.
ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى، فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس، فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يوما حزينا، فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن، فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه، وهو ي
(١) في الدر المنثور: "فكان أهل تلك البيعة، أفضل مرتبة من الرهبان".
152
خرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد، فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره، فأخذ بيده فرفعه، فضرب به الأرض ودعا له وقال: قم بإذن الله! فقام صحيحا يشتد، (١) فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان.
ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته، قال: نعم راعي الصرمة هذا! (٢) فحمله فانطلق به إلى المدينة.
قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه، (٣) فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ (٤) فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك.
فهبط سلمان إلى المدينة، فنطر إلى النبي ﷺ ودار حوله. فلما رآه النبي ﷺ عرف ما يريد، فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه، فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزا، ثم أتاه به. فقال:"ما هذا"؟ قال سلمان: هذه صدقة قال: لا حاجة لي بها،
(١) اشتد: عدا وأسرع.
(٢) الصرمة: القطيع من الإبل والغنم.
(٣) عقبه يعقبه: جاء بعده في نوبته، ومنه التعاقب: أن يأتب هذا ويذهب ذاك.
(٤) أشعرت: علمت.
153
فأخرجها فليأكلها المسلمون". ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي ﷺ فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد [فكل] (١) فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان، وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك، فأنزل الله هذه الآية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر). (٢)
فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا ﷺ منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.
* * *
١١١٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية. قال
(١) الزيادة من الدر المنثور ١: ٧٤.
(٢) الحديث: ١١١٢ - هذا حديث منقطع، في شأن إسلام"سلمان الفارسي". وقال الحافظ في الإصابة ٣: ١١٣: "ورويت قصته من طرق كثيرة، من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه. وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضًا. وأخرجه الحاكم من حديث بريدة. وعلق البخاري طرفا منها. وفي سياق قصته في إسلامه اختلاف يتعسر الجمع فيه". وإشارته إلى رواية أحمد، هي في المسند هـ: ٤٤١ - ٤٤٤ (حلبي)، وهي بالإسناد نفسه في ابن سعد ٤: ٥٣ - ٥٧. وانظر المستدرك للحاكم ٣: ٥٩٩ - ٦٠٤. وتاريخ إصبهان لأبي نعيم ١: ٤٨ - ٥٧، والحلية لأبي نعيم ١: ١٩٠ - ١٩٥.
154
سأل (١) سلمان الفارسي النبي ﷺ عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكرت اجتهادهم، (٢) فنزلت هذه الآية:"إن الذين آمنوا والذين هادوا". (٣) فدعا سلمان فقال: نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم"من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير؛ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك". (٤)
* * *
وقال ابن عباس بما:-
١١١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) إلى قوله: (ولا هم يحزنون). فأنزل الله تعالى بعد هذا: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: ٨٥]
وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله، في الآخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).
* * *
فتأويل الآية إذًا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنزيل، لأن الله جل ثناؤه لم
(١) في المطبوعة: "قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم"، بحذف"سأل". والصواب من الدر المنثور ١: ٧٤.
(٢) في المطبوعة: "وذكر اجتهادهم"، والصواب من الدر المنثور
(٣) الآية لم ترد في المطبوعة، ووردت في نص المدر المنثور.
(٤) الحديث: ١١١٣ - وهذا منقطع أيضًا.
155
يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر)، عن جميع ما ذكر في أول الآية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾
قال أبو جعفر:"الميثاق"،"المفعال"، من"الوثيقة"، إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. (١)
ويعني بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة: ٨٣-٨٥] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-
١١١٥ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. (٢) فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! (٣) قال: خذوا
(١) انظر ما سلف ١: ٤١٤، في قوله تعالى: "من بعد ميثاقه" [سورة البقرة: ٢٧].
(٢) في المطبوعة: "وأمره الذي أمركم"، والتصحيح من روايته في رقم: ٩٥٩.
(٣) في رقم: ٩٥٩: "قالوا أصابنا أنا متنا.. ".
156
كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) حتى بلغ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: ٨٣-٨٥]، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾
قال أبو جعفر: وأما"الطور" فإنه الجبل في كلام العرب، ومنه قول العجاج:
دانَى جناحيه من الطور فمر تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كسر (٢)
وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت. (٣)
* * *
(١) الأثر رقم: ١١١٥ - مضى أكثره في رقم: ٩٥٩.
(٢) ديوانه: ١٧، وهو من قصيدة جيدة يذكر فيها مآثر عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد ولي الولايات العظيمة، وفتح الفتوح الكثيرة، وقاتل الخوارج. والضمير في قوله: "دانى" يعود إلى متأخر، وهو"البازي" المذكور في البيت بعده. فإن قبله، ذكر عمر بن عبيد الله وكتائبه من حوله: إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر... دانى جناحيه.........
حول ابن غراء حصان إن وتر فات، وإن طالب بالوغم اقتدر
يريد: "ابتدر منقضا انقضاض البازي من الطور، دانى جناحيه.. فمر" فقدم وأخر. وهو من جيد التقديم والتأخير. وقوله: "دانى" أي ضم جناحيه وقر بهما وضيق ما بينهما تأهبا للانقضاض من ذروة الجبل. ومر: أسرع إسراعا شديدا. وقوله: "تقضى" أصلها"تقضض"، فقلب الضاد الأخيرة ياء، استثقل ثلاث ضادات، كما فعلوا في"ظنن""وتظنى" على التحويل. وتقضض الطائر: هوى في طيرانه يريد الوقوع. والبازي: ضرب من الصقور، شديد. وكسر الطائر جناحيه: ضم منهما شيئا - أي قليلا- وهو يريد السقوط.
(٣) هذا قول لم أجده في كتب اللغة في مادته.
157
* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:
١١١٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا:"حطة" وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة = و"الطور"، بالسريانية، الجبل = تخويفا، أو خوفا، شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه. (١)
١١١٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية:"الطور".
١١١٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
١١١٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (ورفعنا فوقكم الطور)، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) فأقروا بذلك.
١١٢٠ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ورفعنا فوقكم الطور) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.
(١) الأثر رقم: ١١١٦ - مضى صدر منه برقم: ١٠٢٧.
158
١١٢١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة قال: الطور الجبل.
١١٢٢ - وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف: ١٧١]، وقوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).
١١٢٣ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.
* * *
وقال آخرون:"الطور" اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.
* ذكر من قال ذلك:
١١٢٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: (كأنه ظلة).
* * *
وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
١١٢٥ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (الطور) قال: الطور من الجبال ما أنبت، وما لم ينبت فليس بطور.
* * *
159
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا قذفناه عليكم.
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه، فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام -الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه"أن" كما قال الله جل ثناؤه (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح: ١] قال: ويجوز أن تحذف"أن".
والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به -مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.
ويعني بقوله: (خذوا ما آتيناكم)، ما أمرناكم به في التوراة.
وأصل"الإيتاء"، الإعطاء. (١)
* * *
ويعني بقوله: (بقوة) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-
١١٢٦ - حدثت عن إبراهيم بن بشار قال،: حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (خذوا ما آتيناكم بقوة). قال: تعملوا بما فيه.
١١٢٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١١٢٨ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
(١) انظر ما سلف ١: ٥٧٤.
160
الربيع، عن أبي العالية: (خذوا ما آتيناكم بقوة)، قال: بطاعة.
١١٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (خذوا ما آتيناكم بقوة). قال:"القوة" الجد، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
١١٣٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بقوة)، يعني: بجد واجتهاد.
١١٣١ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.
* * *
فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة، بجد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب، فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، (١) بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-
١١٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن
(١) انظر ما مضى في بيان"لعل" بمعنى"كى" ١: ٣٦٤ -٣٦٥، وهذا الجزء ٢: ٦٨.
161
داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس: (لعلكم تتقون)، قال: تنزعون عما أنتم عليه.
* * *
والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-
١١٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (واذكروا ما فيه) يقول: اذكروا ما في التوراة.
١١٣٤ - كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (واذكروا ما فيه) يقول: أمروا بما في التوراة.
١١٣٥ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: (واذكروا ما فيه)، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. (١) قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ثم توليتم) : ثم أعرضتم. وإنما هو"تفعلتم" من قولهم:"ولاني فلان دبره" إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. (٢) يقال:"قد تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن مواصلته"، ومنه قول الله جل ثناؤه: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [التوبة: ٧٦]، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
(١) في المطبوعة: "بطاعة الله وصدق" خطأ.
(٢) في المطبوعة: "طاعة أمر: عز وجل"، بزيادة الثناء على ربنا سبحانه، وعلى أن"أمر" مبني للمعلوم. وهذا مخالف للسياق، وسهو من النساخ.
162
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [التوبة: ٧٥]، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم
* * *
ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها، كما قال أبو خراش الهذلي: (١)
فليس كعهد الدار يا أم مالك... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل (٢) وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحق شيئا واستراحل (٣)
يعني بقوله:"أحاطت بالرقاب السلاسل"، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.
ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: (ثم توليتم
(١) كان في المطبوعة: "قال أبو ذؤيب الهذلي"، وهو خطأ فاضح، لا يقع في مثله مثل أبي جعفر.
(٢) ديوان الهذليين ٢: ١٥٠، وسيرة ابن هشام ٤: ١١٦، والأغاني ٢١: ٤١، والكامل ١: ٢٦٧. وهي أبيات جياد في رثاء صديق. وذلك أن زهير بن العجوة الهذلي من بني عمرو بن الحارث - وكان ابن عم ابي خراش، وله صديقا - خرج يطلب الغنائم يوم حنين فأسر، وكتف في أناس أخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه جميل بن معمر الجمحي - وكانت بينهما إحنة في الجاهلية - فقال له: أنت الماشي لنا بالمغايظ؟ فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه. وقال لجميل بن معمر:
وإنك لو واجهته إذ لقيته فنازلته، أو كنت ممن ينازل
لظل جميل أسوأ القوم تلة ولكن قرن الظهر للمرء شاغل
فليس كعهد.......... ....................
وفي المطبوعة: "فليس لعهد الدار" خطأ. ويعني بقوله: "الدار": مكة وما حولها وما جاورها. يقول: ليس الأمر كما عهدت بها وعهدتا، جاء الإسلام فهدم ذلك كله.
(٣) يقول: فارق الفتى أخلاق فتوته وعرامه، وصار كالكهل في أناته وتثبته، فإن الدين قد وقذ الفتيان ذوى البأس وسكنهم من مخافة عقاب ربهم في القتل من غير قتال ومعركة. فاستراحت العواذل لأنهن أصبحن لا يجدن ما يعذلن فيه أزواجهن من التعرض للهلاك.
163
من بعد ذلك)، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.
وكنى بقوله جل ذكره:"ذلك"، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة، أعني قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (فلولا فضل الله عليكم)، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة = بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم = لكنتم من الخاسرين.
وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب، فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى. (١)
* * *
(١) انظر ما مضى في هذا الجزء ٢: ٣٨ - ٣٩.
164
وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.
* * *
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين -وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- (١) أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر: (٢)
إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة، ولم تجدي من أن تقري به بدا
(٣)
فقال:"إذا ما انتسبنا"، و"إذا" تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال:"لم تلدني لئيمة"، فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.
والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.
* * *
(١) في المطبوعة: "إذ المعنى في ذلك.. "، وهو كلام لا يستقيم. وسياق الجملة يقتضي أن توضع"أن" مكان"إذ" أي: "لأن سامعيه كانوا عالمين.. أن المعنى في ذلك.. "، وما بينهما فصل واعتراض.
(٢) في حاشية الأمير على مغنى اللبيب ١: ٢٥ قال: "في حاشية السيوطي" قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي، يعرض بزوجته، وكانت أمها سرية"، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى: ٣٣.
(٣) سيأتي في هذا الجزء ١: ٣٣٣ (بولاق)، وفي ٣: ٤٩ (بولاق)، ومعانى الفراء:
165
وكان أبو العالية يقول في قوله: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.
١١٣٦ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته)، قال:"فضل الله"، الإسلام،"ورحمته"، القرآن.
١١٣٧ - وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [عن أبيه]، عن الربيع بمثله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.
وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى"الخسار" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولقد علمتم)، ولقد عرفتم. (٣) كقولك:
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، وانظر آخر إسناد عن عمار بن الحسن رقم: ١١٣٤.
(٢) انظر ما مضى ١: ٤١٧.
(٣) سيأتي دليل هذا من تفسير ابن عباس في رقم: ١١٣٨.
166
قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه"، يعني عرفته، ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: ٦٠]، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.
* * *
وقوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت)، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.
وقد دللت -فيما مضى- على أن"الاعتداء"، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - (٢) ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:-
١١٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني، اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة،
(١) انظر ما مضى من هذا الجزء: ٢: ١٤٢.
(٢) سياق عبارته: مما عدد الله على بني إسرائيل... ما كانوا يبرمون من العقود"، وما بينهما فصل بصفة"بني إسرائيل".
167
وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد ﷺ محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. (١) ومن لم يفعل ذلك، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها -: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، (٢) وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت -: أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا) [الأعراف: ١٦٣]، يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله: (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف: ١٦٣]. ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام] (٣) ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء، ويحوله كما يشاء.
١١٣٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-. فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها"مدين". فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان، (٤) عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في
(١) في المطبوعة: "بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم"، وهي جملة غير صحيحة، صححتها كما ترى.
(٢) سبت: سكن، وقولهم: "سبت له"، يريدون: خشع له وانقطع عن كل عمل إلا عبادته سبحانه وانظر ما سيأتي ص: ١٧٤.
(٣) هذه الزيادة من تفسير ابن كثير ١: ١٩٣، والدر المنثور ١: ٧٥، وهي زيادة لا بد منها. وفي المطبوعة بعدها؛"ولم تأكل ولم تشرب، ولم تنسل" خطأ.
(٤) القرم: شدة الشهوة إلى اللحم، قرم يقرم (بفتح الراء) قرما (بفتحتين).
168
يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. (١) قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة: (٢) ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) لسخطنا أعمالهم - (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) [الأعراف: ١٦٤]، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية [الأعراف: ١٦٣].
١١٤٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة
(١) عثر على الأمر: اطلع عليه وكان خافيا. وفي المطبوعة: "على ما صنع"، وأثبت نص ابن كثير في التفسير ١: ١٩٤.
(٢) في المطبوعة: "من أهل التقية"، وهو خطأ محض. أهل البقية: هم أهل التمييز والفهم، يبقون على أنفسهم بطاعة الله، وبتمسكهم بالدين المرضي. وفلان بقية: فيه فضل وخير فيما يمدح به وسيأتي بعد على الصواب. وقال الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) [سورة هود: ١١٦].
170
خاسئين) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: (كونوا قردة خاسئين) فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.
١١٤١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، فكانت تشرع إليهم يوم السبت، وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم الله قردة خاسئين.
١١٤٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال: فهم أهل"أيلة"، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف: ١٦٣]، فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث [فيها]. (١) فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي
(١) الزيادة من تفسير ابن كثير ١: ١٩٥.
171
السمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) [الأعراف: ١٦٤]، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف: ١٦٤]. فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: ١٦٦]، فذلك حين يقول: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة: ٧٨]، فهم القردة.
١١٤٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا (١).
١١٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) سورة الجمعة: ٥٤.
172
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. (١) وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، (٢) كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: ١٥٣]، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: ٢٤] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: (٣) هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. (٤) ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض -فيما أنكر من ذلك- بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته.
* * *
(١) انظر معنى"ظاهر" فيما سلف ٢: ١٥ والمراجع.
(٢) سورة المائدة: ٦٠.
(٣) في المطبوعة: "فسواء قال قائل"، وسياق العبارة يقتضي التقديم. لقوله"وآخر قال".
(٤) في المطبوعة: "والعقوبات والأنكال"، ليس صوابا. والنكال: العذاب الشديد يكون عبرة للناس حتى ينكلوا عن شيء ويخافوه. وأما"الأنكال" فجمع نكل: وهو القيد.
173
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فقلنا لهم) أي: فقلنا للذين اعتدوا في السبت - يعني في يوم السبت.
* * *
وأصل"السبت" الهدوّ والسكون في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم"مسبوت" لهدوّه وسكون جسده واستراحته، كما قال جل ثناؤه: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) [النبأ: ٩] أي راحة لأجسادكم. وهو مصدر من قول القائل:"سبت فلان يسبت سبتا".
وقد قيل: إنه سمي"سبتا"، لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة - وهو اليوم الذي قبله - من خلق جميع خلقه.
* * *
وقوله: (كونوا قردة خاسئين)، أي: صيروا كذلك.
* * *
و"الخاسئ" المبعد المطرود، كما يخسأ الكلب يقال منه:"خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا، وهو يخسأ خسوءا". قال: ويقال:"خسأته فخسأ وانخسأ". ومنه قول الراجز:
كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ (١)
يعني: إن طردته انطرد ذليلا صاغرا.
فكذلك معنى قوله: (كونوا قردة خاسئين) أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء، (٢) كما:-
١١٤٥ - حدثنا محمد بن بشار، (٣) قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
(١) لسان العرب: (خسأ)، وروايته: "إن قيل له".
(٢) صاغر، جمعه صغرة (بفتحات). وهذا ما نصوا عليه، ولم أجد"صغراء" على وزن جهلاء، وهو جمع في بعض الصفات التي على وزن"فاعل"، مثل شاعر وشعراء، وعالم وعلماء. فهم يشبهون"فاعلا" بـ "فعيل" نحو كريم وكرماء، فيجمعونه كجمعه.
(٣) في المطبوعة"حدثنا بشار" وهو خطأ لا شك فيه، وأقرب إسناد مثله مر بنا هو رقم: ١٠٦٢.
حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كونوا قردة خاسئين) قال: صاغرين.
١١٤٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
١١٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١١٤٨ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (خاسئين)، قال: صاغرين.
١١٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (كونوا قردة خاسئين)، أي أذلة صاغرين.
١١٥٠ - وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: خاسئا، يعني ذليلا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل"الهاء والألف" في قوله: (فجعلناها)، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:-
١١٥١ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فجعلناها) فجعلنا تلك العقوبة -وهي المسخة-"نكالا".
فالهاء والألف من قوله: (فجعلناها) -على قول ابن عباس هذا- كناية
175
عن"المسخة"، وهي"فعلة" مسخهم الله مسخة. (١)
فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، (فجعلناها)، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، (نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين).
* * *
والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:-
١١٥١ - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فجعلناها)، يعني الحيتان.
و"الهاء والألف" -على هذا القول- من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كني عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت).
* * *
وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ "الهاء" و "الألف" -في قول هؤلاء- كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا"نكالا لما بين يديها وما خلفها"، فجعلوا"الهاء والألف" كناية عن القردة.
* * *
وقال آخرون: (فجعلناها)، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت"نكالا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿نَكَالا﴾
و"النكال" مصدر من قول القائل: "نكَّل فلان بفلان تنكيلا ونكالا". وأصل "النكال"، العقوبة، كما قال عدي بن زيد العباد:
لا
(١) كأنه يريد أنه مصدر: كقولهم: رحمه الله رحمة، ولم يرد المرة، وسيدل على ذلك ما يقوله بعد سطرين.
176
٦١، ١٧٨ وقبل البيت يقول لامرأته. رمتنى عن قوس العدو، وباعدت عبيدة، زاد الله ما بيننا بعدا
يسخط الضليل ما يسع العبـ د ولا في نكاله تنكير (١)
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس:
١١٥٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (نكالا) يقول: عقوبة.
١١٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فجعلناها نكالا)، أي عقوبة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-
١١٥٤ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لما بين يديها) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. (وما خلفها)، يقول: الذين كانوا بقوا معهم.
١١٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لما بين يدلها وما خلفها)، لما خلا لهم من الذنوب، (٢) (وما خلفها)، أي عبرة لمن بقي من الناس.
* * *
(١) لم أجد البيت في جميع المراجع التي ذكرت قصيدة عدي بن زيد التي كتبها إلى النعمان من محبسه. وقد أثبت البيت كما هو في النسخ السقيمة التي بقيت من تفسير الطبري، وظني أن يكون البيت:
لا يكُظ المليك ما يسع العبـ ـد ولا في نكاله تنكير
فلم يحسن الناسخ قراءة"يكظ" كتبها "يسخط"، ووضع مكان"المليك""الضليل" وكظه الأمر: بهظه وشق عليه. يقول للنعمان: أنت مليك قادر، فلا يبهظك ما يسع عبيدك من العفو عمن أساء واجترم، فإن عاقبت، فما في عقابك ما يستنكر، فأنت السيد المطاع النافذ أمرك في رعيتك صغيرهم وكبيرهم.
(٢) خلا: مضى وذهب وانقضى.
177
وقال آخرون بما:
١١٥٦ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)، أي من القرى.
* * *
وقال آخرون بما:-
١١٥٧ - حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله (فجعلناها نكالا لما بين يديها) -من ذنوب القوم- (وما خلفها)، أي للحيتان التي أصابوا.
١١٥٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لما بين يديها)، من ذنوبها، (وما خلفها)، من الحيتان.
١١٥٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (لما بين يديها)، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به.
١١٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (نكالا لما بين يديها وما خلفها)، يقول:"بين يديها"، ما مضى من خطاياهم، (وما خلفها) خطاياهم التي هلكوا بها.
١١٦١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله - إلا أنه قال: (وما خلفها)، خطيئتهم التي هلكوا بها.
* * *
وقال آخرون بما:-
١١٦٢ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) قال: أما"ما بين يديها" فما سلف من عملهم، (وما خلفها)، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.
* * *
178
وقال آخرون بما:-
١١٦٣ - حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله، (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)، يعني الحيتان، جعلها نكالا"لما بين يديها وما خلفها"، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: (ما بين يديها وما خلفها).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن"الهاء والألف" - في قوله: (فجعلناها نكالا) - بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم (١). وفي إبانته عز ذكره - بقوله: (نكالا) : أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم - ما يعلم أنه عنى بقوله: (فعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها - دون غيره من المعاني. وإذْ كانت "الهاء والألف" - بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؛ فكذلك العائد في قوله: (لما بين يديها وما خلفها) من"الهاء والألف": أن يكون من ذكر"الهاء والألف" اللتين في قوله: (فجعلناها)، أولى من أن يكون من [ذكر] غيره. (٢)
فتأويل الكلام - إذْ كان الأمر على ما وصفنا -: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم - (٣) ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل،
(١) في المطبوعة: "وبذلك يخوفهم"، ولعل الأجود ما أثبت.
(٢) ما بين القوسين زيادة لا بد منها في سياق الجملة.
(٣) في المطبوعة"مسخنا إياهم" بحذف حرف الجر، وهو غير مستقيم، وقوله: "ولما خلف عقوبتنا لهم" على قوله: "لما بين يديها... ".
179
فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.
وأما الذي قال في تأويل ذلك: (فجعلناها)، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم - فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: (فجعلناها). فإن ظن ظان أن ذلك جائز - وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر - لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب - والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل - إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول ﷺ منقول، (١) ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.
وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَوْعِظَةً﴾
و"الموعظة"، مصدر من قول القائل:"وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة"، إذا ذكرته.
* * *
فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين، ليتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها، كما:-
١١٦٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا
(١) انظر تفسير"ظاهر" و"باطن" فيما سلف من هذا الجزء ٢: ١٥ والمراجع.
180
بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) ﴾
وأما"المتقون"، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:-
١١٦٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة للمتقين)، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.
* * *
فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به - إلى يوم القيامة -، كالذي:-
١١٦٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس في قوله: (وموعظة للمتقين)، إلى يوم القيامة.
١١٦٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وموعظة للمتقين)، أي: بعدهم.
١١٦٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
١١٦٩ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"موعظة للمتقين"، فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
١١٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وموعظة للمتقين)، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة.
181
١١٧١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (وموعظة للمتقين)، أي لمن بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي،"إذ قال موسى لقومه" - وقومه بنو إسرائيل، إذ ادارؤوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا).
و"الهزؤ": اللعب والسخرية، كما قال الراجز: (١)
قد هزئت مني أم طيسله قالت أراه معدما لا شيء له (٢)
يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت.
ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله -فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي- هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم -عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.
* * *
(١) هو صخير بن عمير التميمي، ويقال إن القصيدة للأصمعي نفسه.
(٢) الأصمعيات: ٥٨، وأمالي القالي ٢: ٢٨٤، وانظر تحقيق ما قيل فيها في تعليق سمط اللآلي للراجكوتي: ٩٣٠ وروايتهم جميعا:
تهزأ مني أخت آل طيسله ...................
ويروى"مملقا لا شيء له" و"مبلطا"، وكلها بمعنى واحد: فقيرا لا شيء له.
182
وحذفت"الفاء" من قوله: (أتتخذنا هزوا)، وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه، وحَسُن السكوت على قوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، فجاز لذلك إسقاط"الفاء" من قوله: (أتتخذنا هزوا)، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا) [الحجر: ٥٧، ٥٨ الذاريات: ٣١، ٣٢]، ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل"فقالوا" كان حسنا أيضا جائزا. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه"الفاء". وذلك أنك إذا قلت:"قمت ففعلت كذا وكذا"، لم تقل: قمت فعلت كذا وكذا" (١) لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه.
فأخبرهم موسى -إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. (٢) وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.
* * *
وكان سبب قيل موسى لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، ما:-
١١٧٢ - حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم -أو عاقر- قال: فقتله وليه، ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله؟ قال: فأتوا نبي الله، فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال:"أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة)، إلى قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، قال:
(١) في المطبوعة: "قمت وفعلت" وفي المطبوعة: "ولم تقل: قمت.. " بزيادة الواو، وهو فاسد. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٤.
(٢) سياق معناه: أخبرهم موسى أن المخبر عن الله بهُزُء وسخرية، هو من الجاهلين.
183
ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك. (١)
١١٧٣ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قول الله (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة). قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، (٢) وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة). فعجبوا وقالوا: (أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض) - يعني: لا هرمة - (ولا بكر) - يعني: ولا صغيرة - (عوان بين ذلك) - أي: نصف، بين البكر والهرمة - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) - أي: صاف لونها - (تسر الناظرين) - أي تعجب الناظرين - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) أي: لم يذللها العمل - (تثير الأرض) - يعني ليست بذلول فتثير الأرض - (ولا تسقي الحرث) - يقول: ولا تعمل في الحرث - (مسلمة)، يعني مسلمة من العيوب، (لا شية فيها) - يقول: لا بياض فيها - (قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما
(١) الأثر: ١١٧٢ - عبيدة، بفتح العين وبعد الباء الموحدة ياء تحتية: هو عبيدة السلماني. وهذا الأثر نقله ابن كثير ١: ١٩٧ - ١٩٨، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق هشام بن حسان"عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه.
وقد مضى أثر آخر: ٢٤٥ من رواية أيوب وابن عون، عن ابن سيرين، عن"عبيدة". ورجحنا هناك أن صوابه"عبيدة". فهذا الإسناد الذي هنا يؤيد ما رجحنا.
(٢) مجمع الطريق: هو حيث يلتقى الناس ويجتمعون، أو حيث تلتقى الطرق.
184
كادوا يفعلون). قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، (١) لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، (٢) أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه، - فقتله الله على أسوء عمله.
١١٧٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة). قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها، (٣) فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله.
(١) استعرضوا: أخذوا من عرض البقر (بضم العين وسكون الراء) فلم يبالوا أيها أخذوا. والعرض: الوجه والناحية، أي ما يعرض لك من الشيء.
(٢) تقول: "هذا الأمر لا يزكو بفلان" أي لا يليق به ولا يصلح له. فقوله: "لا يزكو لهم غيرها" أي لا يصلح لهم غيرها ولا ينفع فيما أمرهم الله به.
(٣) في المطبوعة: "أصيب فيها"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٢٠٠. أصاب الإنسان من المال وغيره: تناول وأخذ. ويريد أصيب منها ربحا.
185
فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادى: واعماه! فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة، (١) فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون). فقال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة). قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) - قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم - (٢) فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) - والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا، والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها -"فافعلوا ما تؤمرون" * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) - قال: تعجب الناظرين - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) - من بياض ولا سواد ولا حمرة - (قالوا الآن جئت بالحق). فطلبوها فلم يقدروا عليها.
وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري
(١) في المطبوعة: "ادع لنا حتى يتبين". ونص ابن كثير في تفسيره ١: ٢٠٠"ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب القضية".
(٢) أعنته وتعنته: سأله عن شيء أراد به اللبس عليه والمشقة.
186
مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا، وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي، فأعطوه ثنتين فأبي، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.
١١٧٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة -
١١٧٦ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، عن مجاهد -
١١٧٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد -
١١٧٨ - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبا يذكر -
١١٧٩ - وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد - وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -
187
١١٨٠ - وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس -
- فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه - عن أمر الله إياهم بذلك - (١) فقالوا له: وما ذبح البقرة؟ يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادُّعِي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:-
١١٨١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل، فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزئ بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: (أتتخذنا هزوا). قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزئ بنا؟ فقال موسى: (أعوذ بالله أن أكون من
(١) الأجود أن يكون"عن أمر الله إياه بذلك".
188
الجاهلين).
١١٨٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم - موسى وقصوا قصتهم عليه، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين). قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم:"إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، وتقولون:"أتتخذنا هزوا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ﴾
(١)
قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) - بعد أن علموا واستقر عندهم، أن الذي أمرهم به موسى من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة - جد وحق، (٢) (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم:"اذبحوا بقرة". لأنه جل ثناؤه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر - أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف - فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم، وسوء أفهامهم، وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤونته، تعنتا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-
١١٨٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قال لهم موسى: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين). قالوا له يتعنتونه: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي).
فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها، تعنتا منهم نبيهم موسى صلوات الله عليه، بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه، بقولهم: (أتتخذنا هزوا) (٣) - عاقبهم عز وجل بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه
(١) الآية كلها ساقطة من الأصول، فوضعتها في موضعها.
(٢) قوله"جد وحق"، خبر قوله"أن الذي أمرهم به موسى... "
(٣) سياق العبارة: "فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا.. عاقبهم.. "، وما بينهما فصل.
189
من البقر على نوع منها دون نوع، (١) فقال لهم جل ثناؤه - إذ سألوه فقالوا: ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟ حَلِّها لنا لنعرفها! (٢) -قال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر).
* * *
يعني بقوله جل ثناؤه: (لا فارض) لا مسنة هرمة. يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا"، يعني بذلك: أسنت. ومن ذلك قول الشاعر:
يا رب ذي ضغن عليَّ فارضِ له قروء كقروء الحائضِ (٣)
يعني بقوله:"فارض"، قديم. يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر:
لها زِجاج ولهاة فارض حدلاء كالوطب نحاه الماخض (٤)
(١) في المطبوعة"بأن خص بذبح ما كان أمرهم"، وعبارة الطبري فيما أرجح هي ما أثبته/، وقد قال آنفًا: ١٨٩"من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع"، وسيقول بعد: ١٩٧"فحصروا على نوع دون سائر الأنواع".
(٢) الحلية (بكسر فسكون) الصفة والصورة: حلى الرجل يحليه تحلية: وصف صورته وهيأته. وتحليت الرجل: عرفت صفته.
(٣) مجالس ثعلب: ٣٦٤، والمعاني الكبير: ٨٥٠، ١١٤٣، والحيوان ٦: ٦٦ - ٦٧، والأضداد: ٢٢، وكتاب القرطين ١: ٤٤، ٧٧، واللسان (فرض)، وغيرها، وصواب إنشاده:
يارب مولى حاسد مباغض عليّ ذي ضغن وضب فارض
والضب: الغيظ والحقد تضمره في القلب. قروء وأقراء جمع قرء (بضم فسكون) : وهو وقت الحيض قال ابن قتيبة: "أي له أوقات تهيج فيها عداوته"، وقال الجاحظ: "كأنه ذهب إلى أن حقده يخبو ثم يستعر، ثم يخبو ثم يستعر".
(٤) البيت الأول في اللسان (زجج)، والثاني في المخصص ١: ١٦٢. وكان في الأصل:
له زجاج ولهاة فارض هدلاء كالوطب تجاه الماخض
وهو تصحيف. والزجاج جمع زج: وهو الحديدة التي تركب في أسفل الرمح يركز به في الأرض. فاستعاره للألباب. واللهاة: لحمة حمراء في الحنك، معلقة على عكدة اللسان، مشرفة على الحلق. والفارض في هذا البيت: الواسع العظيم الضخم يقال: لحية فارض، وشِقْشِقَة فارض. (وهي لهاة البعير) ودلو فارض قال أبو محمد الفقعسي يذكر دلوا واسعا (وهو الغرب). والغرب غرب بقري فارض
وحدلاء وأحدل: وهو الذي يمشي في شق، وفي منكبيه ورقبته إقبال على صدره، وانحناء. والوطب: سقاء اللبن، يكون من جلد. ونحاه: صرفه وأماله. والماخض: من مخض اللبن: إذا وضع في الممخضة، ليخرج زبده. لعله يهجو امرأته، ويذكر قبح أنيابها، وسعة لهاتها، من شدة شرهها. ويصف مشيتها مائلة على شق، وتكدس بدنها بعضه على بعض، كأنها وطب أماله الماخض يمنة ويسرة يحركه.
190
وبمثل الذي قلنا في تأويل"فارض" قال المتأولون:
* ذكر من قال ذلك:
١١٨٤ - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: (لا فارض)، قال: لا كبيرة. (١)
١١٨٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أو عن عكرمة، شك شريك-: (لا فارض)، قال: الكبيرة.
١١٨٥ - حدثني محمد بن سعد قال، أخبرني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لا فارض)، الفارض: الهرمة.
١١٨٦ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لا فارض)، يقول: ليست بكبيرة هرمة.
١١٨٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: (لا فارض)، الهرمة.
١١٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الفارض" الكبيرة.
١١٨٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،
(١) الخبر ١١٨٤ - علي بن سعيد بن مسروق الكندي، شيخ الطبري: كوفي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ /١٨٩ - ١٩٠، مات سنة ٢٤٩. عبد السلام بن حرب الملائي الكوفي، الحافظ: ثقة حجة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وترجمه ابن أبي حاتم ٣ / ١ /٤٧.
191
حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قوله: (لا فارض)، قال: الكبيرة.
١١٩٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (لا فارض)، يعني: لا هرمة.
١١٩١ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
١١٩٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الفارض"، الهرمة.
١١٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، قال قتادة:"الفارض" الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك.
١١٩٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الفارض"، الهرمة التي لا تلد.
١١٩٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الفارض"، الكبيرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا بِكْرٌ﴾
قال أبو جعفر: و"البكر" من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء، لم يسمع منه "فَعَل" ولا "يفعل". وأما"البكر" بفتح الباء فهو الفتي من الإبل.
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله (ولا بكر) ولا صغيرة لم تلد، كما:-
١١٩٦ - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: (ولا بكر)، صغيرة.
192
١١٩٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"البكر"، الصغيرة.
١١٩٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد، عن ابن عباس -أو عكرمة، شك-: (ولا بكر)، قال: الصغيرة.
١١٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (ولا بكر)، الصغيرة.
١٢٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (ولا بكر) ولا صغيرة.
١٢٠١ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولا بكر)، ولا صغيرة ضعيفة.
١٢٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا بكر)، يعني: ولا صغيرة.
١٢٠٣ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
١٢٠٤ - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: في"البكر"، لم تلد إلا ولدا واحدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿عَوَانٌ﴾
قال أبو جعفر:"العوان" النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن، وليست بنعت للبكر. يقال منه:"قد عونت" إذا صارت كذلك.
وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان
193
بين ذلك. ولا يجوز أن يكون"عوان" إلا مبتدأ. لأن قوله (بين ذلك)، كناية عن الفارض والبكر، فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما، ومنه قول الأخطل:
وما بمكة من شُمط مُحَفِّلة وما بيثرب من عُونٍ وأبكار (١)
وجمعها"عون" يقال:"امرأة عوان من نسوة عون". ومنه قول تميم بن مقبل:
ومأتم كالدمي حورٍ مدامعها لم تبأس العيش أبكارا ولا عونا (٢)
وبقرة "عوان، وبقر عون". قال: وربما قالت العرب: "بقر عُوُن" مثل"رسل" يطلبون بذلك الفرق بين جمع"عوان" من البقر، وجمع"عانة" من الحمر. ويقال:"هذه حرب عوان"، إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة. يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال:"حاجة عوان"، إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.
(١) ديوانه: ١١٩، وهو يخالف ما رواه الطبري، وقبله:
إني حلفت برب الراقصات وما أضحي بمكة من حجب وأستار
وبالهدي - إذا احمرت مذارعها في يوم نسك وتشريق وتنحار
وما بزمزم من شمط محلقه وما بيثرب من عون وأبكار
يعني: حلقوا رؤوسهم، وقد تحللوا من إحرامهم وقضوا حجتهم، والشمط جمع أشمط: وهو الذي خالط سواد شعره بياض الشيب. فإن صحت رواية الطبري"شمط مُحَفِّلَةٍ"، فكأنها من الحفيل والاحتفال: وهو الجد والاجتهاد، يقال منه: رجل ذو حفيل، وذو حفل وحفلة: له جد واجتهاد ومبالغة فيما أخذ فيه من الأمور. فكأنه عنى: مجتهدون في العبادة والنسك.
(٢) جمهرة أشعار العرب: ١٦٢، من جيد شعر تميم بن أبي بن مقبل. والمأتم عند العرب: جماعة النساء - أو الرجال - في خير أو شر. قالوا: والعامة تغلط فتظن أن"المأتم" النوح والنياحة. والدمى جمع دمية: الصورة أو التمثال، يتنوق في صنعتها ويبالغ في تحسينها، والعرب تكثر من تشبيه النساء بالدمي. والحور جمع حوراء. والحور أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها، تستدير حدقتها، وترق جفونها، ويبيض ما حولها. وقوله: "لم تبأس" أي لم يلحقها بؤس عيش، أو لم تشك بؤس عيش بئس يبأس بؤسا، فهو بائس وبئيس، افتقر واشتد عليه البؤس. وفي الأصل المطبوع، وفي اللسان (أتم) :"لم تيأس" بالياء المثناة، وهو خطأ.
194
١٢٠٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، أن ابن زيد أنشده:
قعود لدى الأبواب طلاب حاجة عوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا (١)
قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٠٦ - حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: (عوان بين ذلك)، وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين. (٢)
١٢٠٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عوان)، قال:"العوان": العانس النصف.
١٢٠٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"العوان"، النصف.
١٢٠٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -أو عكرمة، شك شريك- (عوان)، قال: بين ذلك.
١٢١٠ - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (عوان)، قال: بين الصغيرة والكبيرة، وهى أقوى
(١) ديوان الفرزدق: ٢٢٧، وطبقات فحول الشعراء: ٢٥٦، وتاريخ الطبري: ١٣٨، وغيرها. وسيأتي في ٧: ١٨٨ (بولاق)، والشعر في زياد، وقبله:
دعاني زياد للعطاء ولم أكن لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا
وعند زياد، لو يريد عطاءهم، رجال كثير قد يرى بهمُ فقرا
ويروى: قعودا، ورواية ابن سلام"طالب حاجة"، ونصب"أو حاجة بكرا" عطفا على محل"حاجة عوان"، فمحلها نصب بقوله: "طلاب".
(٢) الخبر: ١٢٠٦ -"على بن سعيد الكندي": ترجمنا له في: ١١٨٤، وفي الأصول هنا"سعد" بدل"سعيد"، وهو خطأ.
195
ما تكون من البقر والدواب، وأحسن ما تكون.
١٢١١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: (عوان)، قال: النصف.
١٢١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (عوان) نَصَف.
١٢١٣ - وحُدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
١٢١٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"العوان"، نَصَف بين ذلك.
١٢١٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: (عوان)، التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين.
١٢١٥ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"العوان"، النصَف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدُها.
١٢١٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"العوان"، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (بين ذلك) بين البكر والهرمة، كما:-
١٢١٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (بين ذلك)، أي بين البكر والهرمة.
* * *
فإن قال قائل: قد علمت أن"بين" لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين
196
فصاعدا، فكيف قيل"بين ذلك" و"ذلك" واحد في اللفظ؟
قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة، لأن"ذلك" بمعنى اثنين، والعرب تجمع في"ذلك" و"ذاك" شيئين ومعنيين من الأفعال، كما يقول القائل:"أظن أخاك قائما، وكان عمرو أباك"، (١) ثم يقول:"قد كان ذاك، وأظن ذلك". فيجمع ب"ذلك" و"ذاك" الاسم والخبر، الذي كان لا بد لـ "ظن" و "كان" منهما. (٢)
* * *
فمعنى الكلام: قال: إنه يقول إنما بقرة لا مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد، ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن، بين الهرم والشباب. فجمع"ذلك" معنى الهرم والشباب لما وصفنا، ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين، لم يجمع مع"بين" ذلك. وذلك أن"ذلك" لا يؤدي عن اسم شخصين، وغير جائز لمن قال:"كنت بين زيد وعمرو"، أن يقول:"كنت بين ذلك"، وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به، تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي؛ واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها، تصلوا - بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها - إلى العلم بقاتل قتيلكم.
* * *
(١) عبارة الفراء هنا أوضح قال: فلا بد لـ"كان" من شيئين"، ولا بد لـ"أظن" من شيئين ثم يجوز أن تقول: "قد كان ذاك، وأظن ذلك". معاني القرآن ١: ٤٥.
(٢) كان في المطبوعة: "الذي كان لا بد للظن وكان منهما"، وهو كلام يضطرب.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٥.
197
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الأول، وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة. وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية - إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها، فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها، فحصروا على نوع دون سائر الأنواع، عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعنتا منهم له. ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون، فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء، فقالوا - تعنتا منهم لنبيهم ﷺ كما ذكر ابن عباس-: (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) فقيل لهم عقوبة لهم: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين). فحصروا على لون منها دون لون. ومعنى ذلك: أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (يبين لنا ما لونها)، أي شيء لونها؟ فلذلك كان اللون مرفوعا، لأنه مرافع"ما". وإنما لم ينصب"ما" بقوله"يبين لنا"، لأن أصل"أي" و"ما"، جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل (١) بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلما لم يكن لقوله:"بين لنا" أن يقع على الاستفهام متفرقا، لم يكن له أن يقع على"أي"، لأنه جمع ذلك المتفرق. (٢) وكذلك كل ما كان من نظائره فالعمل فيه واحد، في"ما" و"أي".
(١) في الأصل المطبوعة"كقول القائل"، وهو فساد.
(٢) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "فلما لم يكن كقوله: بين لنا، ارتفع على الاستفهام منصرفا، لم يكن له ارتفع على أي.. "، وهو كلام ضرب عليه التصحيف ضربا. وانظر ما جاء في معاني الفراء ١: ٤٦ - ٤٨، ففيه بيان شاف كاف.
198
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (صفراء). فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد.
* ذكر من قال ذلك منهم:
١٢١٨ - حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري قال، حدثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن الحسن: (صفراء فاقع لونها)، قال: سوداء شديدة السواد. (١)
١٢١٩ - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائده. والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن أبي رجاء، عن الحسن مثله. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٢٠ - حدثني هشام بن يونس النهشلي قال، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن في قوله: (صفراء فاقع لونها)، قال: صفراء القرن والظلف. (٣)
١٢٢١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في قوله: (صفراء فاقع لونها)، قال: كانت وحشية. (٤)
(١) الخبر: ١٢١٨ - أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري البصري: ثقة، روى عنه أيضًا النسائي وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ١ ٢٠٠ مات سنة ٢٤٨. نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني: ، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ /١١١ - ١١٢، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٨٣.
(٢) الخبر: ١٢١٩ - أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي يحيى بن أبي زائدة: ثقة، روى عنه أبو حاتم وغيره، وذكر بعضهم أن البخاري روى عنه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٠١ - ٦٠٢. مسلم بن إبراهيم: هو الأزدي الفراهيدي الحافظ. محمد بن سيف عن أبي رجاء". وهو خطأ، صوابه حذف"عن".
(٣) الخبر: ١٢٢٠ - هشام بن يونس بن وابل النهشلي اللؤلؤي: ثقة، روى عنه الترمذي، وسمع منه أبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٧٢.
(٤) الخبر: ١٢٢١ - كثير بن زياد أبو سهل البرساني - بضم الموحدة وسكون الراء- الأزدي العتكي: ثقة من أكابر أصحاب الحسن. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ /٢١٥، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٥١. والإسناد ضعيف، من أجل"جويبر بن سعيد"، كما ذكرنا ضعفه في: ٢٨٤. وسيأتي قريبا برقم: ١٢٥٤.
199
١٢٢٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن إبراهيم، عن أبي حفص، عن مغراء - أو عن رجل -، عن سعيد بن جبير: (بقرة صفراء فاقع لونها)، قال: صفراء القرن والظلف. (١)
١٢٢٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هي صفراء.
١٢٢٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها)، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: (صفراء)، يعني به سوداء، ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود: (٢) "هذه إبل صفر، وهذه ناقة صفراء" يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الإبل لأن سوادها يضرب إلى الصفرة، ومنه قول الشاعر: (٣)
تلك خيلي منه وتلك ركابي... هن صفر أولادها كالزبيب (٤)
(١) الخبر: ١٢٢٢ - مروان بن معاوية: هو الفزاري الكوفي الحافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق والأئمة. مغراء، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة: تابعي روى عن ابن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٦٥، وابن أبي حاتم ٤ / ١/٤٢٩، فلم يذكروا فيه جرحا. ولكن هذا الإسناد ضعيف، لتردد الراوي: أنه عن مغراء، أو عن رجل، فتردد بين ثقة وبين مبهم
(٢) في المطبوعة: "ذهب إلى قوله"، وليس بشيء.
(٣) هو الأعشى الكبير.
(٤) ديوانه: ٢١٩، والأضداد: ١٣٨، واللسان (صفر)، وغيرها. من قصيدة يمدح بها أبا الأشعث قيس بن معد يكرب الكندي. وكان في الأصل: "تلك خيلي منها" وهو خطأ، فسياق الشعر: إن قيسا، قيس الفعال أبا الأشـ... عث أمست أمداؤه لِشعوب
كل عام يمدني بجموم... عند وضع العنان أو بنجيب
تلك خيلي منه........................
وما أظن الطبري يخطئ في رواية هذا الشعر، والركاب: الإبل التي يسار عليها، لا واحد لها من لفظها، واحدتها راحلة. والزبيب: ذاوي العنب، وأسوده أجوده، ولكنه ليس خالص السواد. يقول: كل ما أملك من خيل، ومن إبل قد ولدت لي خير ما تلد الإبل، فهو من جود أبي الأشعث.
200
يعني بقوله:"هن صفر" هن سود وذلك إن وصفت الإبل به، فليس مما توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع، وإنما تصف السواد -إذا وصفته- بالشدة بالحلوكة ونحوها، فتقول:"هو أسود حالك وحانك وحُلكوك، وأسود غِربيب ودَجوجي" - ولا تقول: هو أسود فاقع. وإنما تقول:"هو أصفر فاقع". فوصفه إياه بالفقوع، من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله: (إنها بقرة صفراء فاقع) المتأول، بأن معناه سوداء شديدة السواد. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني خالص لونها. و"الفقوع" في الصفر، نظير النصوع في البياض، وهو شدته وصفاؤه، كما:-
١٢٢٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: (فاقع لونها)، هي الصافي لونها.
١٢٢٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فاقع لونها)، أي صاف لونها.
١٢٢٧ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
١٢٢٨ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فاقع)، قال: نقي لونها.
١٢٢٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: (فاقع لونها)، شديدة الصفرة، تكاد
(١) مجرى العبارة: الذي تأول المتأول بأن معناه. "المتأول" فاعل مرفوع.
201
من صفرتها تَبْيَضُّ. وقال أبو جعفر: أُراه أبيض! (١)
١٢٣٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فاقع لونها)، قال: شديدة صفرتها.
* * *
يقال منه:"فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا، فهو فاقع، كما قال الشاعر:
حملت عليه الوَرد حتى تركته ذليلا يسُف الترب واللون فاقع (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (تسر الناظرين)، تعجب هذه البقرة -في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها- الناظر إليها، كما:-
١٢٣١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (تسر الناظرين)، أي تعجب الناظرين.
١٢٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا: (تسر الناظرين)، إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
١٢٣٣ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (تسر الناظرين)، قال: تعجب الناطرين.
* * *
(١) كأن أبا جعفر أراد أن يعترض على قوله: "تكاد من صفرتها تبيض"، فقال ما معناه: لو صح ذلك لكان قوله: "فاقع لونها"، أي أبيض، والصفرة تشتد، فإذا خفت ابيضت. هذا هو معنى ما قاله فيما أرجح.
(٢) لم أعرف قائله. والورد: فرسه.
202
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (قالوا) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى. فترك ذكر موسى، وذكر عائد ذكره، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له:"ادع ربك". فلم يذكر"له" لما وصفنا.
وقوله: (يبين لنا ما هي)، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة. وذلك أنهم لو كانوا، إذ أمروا بذبح البقرة، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة، كانت عنهم مجزئة، ولم يكن عليهم غيرها، لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة. فلما سألوا بيانها بأي صفة هي، بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان، (١) فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر والضرع. (٢) فكانوا - إذْ بينت لهم سنها- لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم، كانت عنهم مجزئة، لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم، ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه. ولذلك قال نبينا ﷺ لأمته:-
١٢٣٤ -"ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوه، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم". (٣)
(١) في المطبوعة: "فبين لهم أنها بسن.. "، والفاء لا مكان لها هنا.
(٢) الضرع: الضعيف الضاوي الجسم.
(٣) الحديث: ١٢٣٤ - رواه هنا دون إسناد. وهو من حديث أبي هريرة. ووقع في آخره خطأ، قلب معناه. واللفظ الصحيح، بالمعنى الصحيح؛"فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم". هذا لفظ البخاري. وقد أفاض الحافظ في شرحه، في الفتح ١٣: ٢١٩ - ٢٢٦. ورواه أيضًا أحمد: ٧٣٦١، بنحو معناه. وأشرنا هناك إلى كثير من طرقه في المسند وغيره وكذلك رواه مسلم ٢: ٢٢١، بنحوه، من طرق. وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، من طرق: ١٧، ١٨، ١٩، ٢٠ (بتحقيقنا) وفي رواية ابن حبان: ١٧، "قال ابن عجلان: فحدثت به أبان بن صالح، فقال لي: ما أجود هذه الكلمة، قوله: فأتوا منه ما استطعتم". وهو الحديث التاسع من الأربعين النووية، وقد شرحه ابن رجب، في جامع العلوم والحكم، شرحا مسهبا. ولعل الخطأ الذي وقع هنا خطأ من الناسخين. فما أظن الطبري يخفي عليه ما في هذا اللفظ من تهافت.
203
قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى ﷺ أذى وتعنتا، زادهم الله عقوبة وتشديدا، كما:-
١٢٣٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
١٢٣٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. (١)
١٢٣٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب-
١٢٣٨ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان جميعا، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم.
١٢٣٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة
(١) الخبر: ١٢٣٦ - جاء شيخ الطبري هنا باسم"عمرو بن عبد الأعلى"! وما وجدت راويا يسمى بهذا. وإنما هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني"، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، كما مضى مثل هذا الإسناد على الصواب: ١١٧٢. ومحمد بن عبد الأعلى: بصري ثقة، مات سنة ٢٤٥، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ / ١ / ١٧٤، وابن أبي حاتم ٤ / ١ /١٦.
204
لأجزأت عنهم. ولولا قولهم: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، لما وجدوها.
١٢٤٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، لو أخذوا بقرة ما كانت، لأجزأت عنهم. (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر)، قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) الآية.
١٢٤١ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، وزاد فيه: ولكنهم شددوا فشدد عليهم.
١٢٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد:"لو أخذوا بقرة مَّا كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج، قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شُدد الله عليهم؛ وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد". (١)
١٢٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا
(١) الخبر: ١٢٤٢ - جاء في آخره حديث مرفوع، ذكره ابن جريج. وهو مرسل لا تقوم به حجة. وسيأتي أيضًا: ١٢٤٤، عن قتادة مرسلا. وذكر معناه ابن كثير ١: ٢٠٣، من تفسيرى ابن أبي حاتم وابن مردويه، بإسناديهما، من رواية الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مرفوعا، بنحوه. قال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي ".
205
بقرة فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، لما هدوا إليها أبدا.
١٢٤٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول:"إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم. والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد.
١٢٤٥ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم.
١٢٤٦ - حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة -يعني بني إسرائيل- لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد عليهم، فاشتروها بملء جلدها دنانير. (١)
١٢٤٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك، ولكن البلاء في هذه المسائل، فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)، فشدد عليهم، فقال: (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك)، فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)، قال: وشدد عليهم أشد من الأول، فقرأ حتى بلغ: (مسلمة لا شية فيها) فأبوا أيضا فقالوا: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) فشدد عليهم، فقال: "إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها)،
(١) الخبر: ١٢٤٦ - هذا الإسناد منقطع بين أبي بكر بن عياش وابن عباس، كما هو ظاهر لأن ابا بكر يروى عن التابعين، ومولده بعد موت ابن عباس بدهر. وهذا الخبر ذكره السيوطي ١: ٧٧، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم"من طرق".
206
قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها، وهي صفراء، ليس فيها سواد ولا بياض. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، على العموم الظاهر، دون الخصوص الباطن، (٢) إلا أن يخص، بعض ما عمه ظاهر التنزيل، كتاب من الله أو رسولُ الله، وأن التنزيل أو الرسول، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر، فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة، وسائر حكم الآية على العموم؛ على نحو ما قد بيناه في كتابنا (كتاب الرسالة) من (لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام) - في قولنا في العموم والخصوص، وموافقة قولهم في ذلك قولنا، ومذهبهم مذهبنا، وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام، وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية. فإن خص منها بعض، فحكم الآية حينئذ على الخصوص.
وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم ﷺ عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله ﷺ موسى ذلك مخطئين، وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك
(١) الأثر: ١٢٤٧ - سيأتي تمامه في رقم: ١٢٧٣.
(٢) انظر ما مضى في تفسير" الظاهر، والباطن": ٢: ١٥ والمراجع.
207
مؤدين، وللحق مطيعين، إذْ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع، وسن دون سن.
ورأوا مع ذلك أنهم - إذْ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها، وحصرهم منها على سن دون سن، ونوع دون نوع، وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية، بعد الذي خص لهم من أنوع البقر، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى.
وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية، وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى، استعمال ظاهر الأمر، وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة.
وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية، استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص. ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله ﷺ بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص، وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له. وأنه إذا خص منه شيء، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر، وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك، (١) وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه.
(١) في المطبوعة: " ويؤيد حقيقة ما قلنا... "، وهو خطأ، وقوله"مؤيد حقيقة ما قلنا" معطوف على قوله آنفًا: " ففي إجماع جميعهم.. دليل واضح.. ومؤيد حقيقة ما قلنا.. وشاهد عدل.. ".
208
وقد زعم بعض من عظمت جهالته، واشتدت حيرته، أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك، كما خصت عصا موسى في معناها، فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها.
ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا، لسهل عليه ما استصعب من القول. وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم، ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم. فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا، ويتعبدهم بعبادة، ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به، حتى يسألوا بيان ذلك لهم! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه، ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه، فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض، فنعوذ بالله من الحيرة، ونسأله التوفيق والهداية.
* * *
وأما قوله: (إن البقر تشابه علينا)، فإن"البقر" جماع بقرة.
وقد قرأ بعضهم: (إن الباقر)، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها، كما قال ميمون بن قيس: (١)
وما ذنبه أن عافت الماء باقر وما إن تعاف الماء إلا ليضربا (٢)
(١) يعني الأعشى الكبير.
(٢) ديوانه: ٩٠، والحيوان ١: ١٩ (وانظر أيضًا ١: ٣٠١، ٦: ١٧٤)، واللسان (ثور) وغيرها. من قصيدة يقولها لبني قيس بن سعد، وما كان بينه وبينهم من قطيعة بعد مواصلة ومودة، وقبل البيت:
وإني وما كلفتموني - وربكم ليعلم من أمسى أعق وأحربا
لكالثور، والجِنِّيّ يضرب ظهره وما ذنبه إن عافت الماء مشربا
قال الجاحظ: "كانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب، إما لكدر الماء أو لقلة العطش، ضربوا الثور ليقتحم، لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل، وكما تتبع أتن الوحش الحمار.. وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء، حتى تمسك البقر عن الشرب، حتى تهلك.. كأنه قال: إذا كان يضرب أبدا لأنها عافت الماء، فكأنها إنما عافت الماء ليضرب".
209
وكما قال أمية: (١)
ويسوقون باقر السهل للط ود مهازيل خشية أن تبورا (٢)
- فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب.
* * *
وأما تأويل: (تشابه علينا)، فإنه يعني به، التبس علينا. والقَرَأَة مختلفة في تلاوته. (٣) فبعضهم كانوا يتلونه:"تشابه علينا"، بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال "تفاعل"، ويُذَكِّر الفعل، وإن كان "البقر" جماعا. لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه، (٤) كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر: ٢٠]، فذكر"المنقعر" وهو من صفة النخل، لتذكير لفظ"النخل" - وقال في موضع آخر: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) [الحاقة: ٧]، فأنث"الخاوية" وهي من صفة"النخل" - بمعنى النخل. (٥) لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر -على ما وصفنا قبل- فهي جماع"نخلة".
* * *
(١) يعني: أمية بن أبي الصلت.
(٢) ديوانه: ٣٥، والحيوان ٤: ٤٦٧، والأزمنة والأمكنة ٢: ١٢٤، وغيرها. وفي الأصل المطبوع: "باقر الطود للسهل"، وفي الديوان والحيوان"باقرا يطرد السهل"، وصواب الرواية ما أثبته من الأزمنة. قال الجاحظ في ذكر نيران العرب: ""ونار أخرى: وهي النار التي كانوا يستمطرون بها في الجاهلية الأولى. فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار، اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع، فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا"، وقال ابن الكلبي: " كانوا يضرمون تفاؤلا للبرق" والمهازيل جمع مهزول، مثل هزيل وجمعه هزلي: وهي التي ضعفت ضعفا شديدا وذهب سمنها. وتبور: تهلك.
(٣) في المطبوعة: "والقراء"، ورددتها إلى ما جرى عليه لفظ الطبري، كما سلف مرارا.
(٤) وحدان جمع واحد: ويعني أفراده. وقوله"وتأنيثه" معطوف على قوله"تذكير كل فعل".
(٥) السياق: "فأنث (الخاوية).. بمعنى النخل"، يعني أنثها من أجل معناه وهو جمع مؤنث، ولم يذكره من أجل لفظه، وهو مذكر.
210
وكان بعضهم يتلوه: (إن البقر تشَّابهُ علينا)، بتشديد الشين وضم الهاء، فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث"البقر"، كما قال: (أعجاز نخل خاوية)، ويدخل في أول"تشابه" تاء تدل على تأنيثها، ثم تدغم التاء الثانية في"شين""تشابه" لتقارب مخرجها ومخرج"الشين" فتصير"شينا" مشددة، وترفع"الهاء" بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.
* * *
وكان بعضهم يتلوه: (إن البقر تشَّابهُ علينا)، فيخرج"يشابه" مخرج الخبر عن الذكر، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: (تشابه) بالتخفيف ونصب"الهاء"، غير أنه كان يرفعه ب"الياء" التي يحدثها في أول"تشابه" التي تأتي بمعنى الاستقبال، وتدغم"التاء" في"الشين" كما فعله القارئ في"تشابه" ب"التاء" والتشديد.
* * *
قال ابو جعفر: والصواب في ذلك من القراءة عندنا: (إن البقر تَشَابَهَ علينا)، بتخفيف"شين""تشابه" ونصب"هائه"، بمعنى"تفاعل"، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك، ودفعهم ما سواه من القراءات. (١) ولا يعترض على الحجة بقول من يَجُوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ.
* * *
وأما قوله: (وإنا إن شاء الله لمهتدون)، فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى"اهتدائهم" في هذا الموضع معنى:"تبينهم" أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "ورفعهم"، والصواب ما أثبته.
(٢) يعني أن ذلك من قولهم: هداه، أي بين له، ومنه قوله تعالى: "وأما ثمود فهد يناهم"، أي بينا لهم طريق الهدى.
211
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول.
ويعني بقوله: (لا ذلول)، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها، ولا سُنِيَ عليها الماء فيُسقى عليها الزرع. (١) كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل:"دابة ذلول بينة الذِّل" بكسر الذال. (٢) ويقال في مثله من بني آدم:"رجل ذليل بين الذِّل والذلة".
١٢٤٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إنها بقرة لا ذلول)، يقول: صعبة لم يذلها عمل، (تثير الأرض، ولا تسقي الحرث).
١٢٤٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض)، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها، وليست تسقي الحرث.
١٢٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (إنها بقرة لا ذلول)، أي لم يذللها العمل. (تثير الأرض) يعني: ليست بذلول فتثير الأرض. (ولا تسقي الحرث) يقول: ولا تعمل في الحرث.
١٢٥١ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
(١) سنت الناقة تسنو، وسنا الرجل يسنو سنوا وسناية: إذا سقى الأرض. والسانية: هي الناضحة، وهي الناقة أو غيرها مما يسقى عليها الزرع، والجمع: السواني.
(٢) الذل: اللين، ضد الصعوبة.
212
الربيع: (إنها بقرة لا ذلول) يقول: لم يذلها العمل، (تثير الأرض) يقول: تثير الأرض بأظلافها، (١) (ولا تسقي الحرث)، يقول: لا تعمل في الحرث.
١٢٥٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث)، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك.
١٢٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
* * *
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (تثير الأرض)، تقلب الأرض للحرث. يقال منه:"أثرت الأرض أثيرها إثارة"، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت -فيما قيل- وَحشِيّة.
١٢٥٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن قال: كانت وحشية. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى "مسلمة" "مفعلة" من "السلامة". يقال منه: " سُلِّمت تسلم فهي مسلمة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه، فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما:-
١٢٥٥ - حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مسلمة"، يقول: مسلمة من الشية، و (لا شية فيها)،
(١) في المطبوعة: "تبين الأرض"، وهو تصحيف.
(٢) الأثر: ١٢٥٤ - سلف قريبا برقم: ١٢٢١.
213
لا بياض فيها ولا سواد.
١٢٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٢٥٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (مسلمة)، قال: مسلمة من الشية، (لا شية فيها) لا بياض فيها ولا سواد.
* * *
وقال آخرون: مسلمة من العيوب.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٥٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مسلمة لا شية فيها)، أي مسلمة من العيوب.
١٢٥٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (مسلمة)، يقول: لا عيب فيها.
١٢٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (مسلمة)، يعني مسلمة من العيوب.
١٢٦١ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
١٢٦٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (مسلمة)، لا عَوَارَ فيها. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: (مسلمة) مُكْتَفًى عن قوله: (لا شية فيها). وفي قوله: (لا شية فيها)، ما يوضح عن أن معنى قوله: (مُسَلَّمة)، غير معنى قوله: (لا شية فيها)، وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: إنه
(١) العوار (بفتح العين، وتضم) : العيب.
214
يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع، (١) وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا شِيَةَ فِيهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (لا شية فيها)، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من "وشي الثوب"، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته، (٢) يقال منه:"وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا"، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره:"واش"، لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه:"وشيت به إلى السلطان وشاية". ومنه قول كعب بن زهير:
تسعى الوشاة جَنَابَيْها وقولهُمُ إنك يا ابن أبي سُلمى لمقتول (٣)
و"الوشاة جمع واش"، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي ﷺ قتله.
وقد زعم بعض أهل العربية أن"الوشي"، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل:"وشيت بفلان إلى فلان" غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة.
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء: ٢١١ تعليق: ١.
(٢) السدَى: الأسفل من الثوب، واللُّحمة: الأعلى منه يداخل السدَى.
(٣) ديوانه: ١٩، وسيرة ابن هشام ٤: ١٥٣، والروض الأنف ٢: ٣١٤، والفائق (قحل) ورواية الديوان "بجنبيها" ورواية ابن هشام: "تسعى الغواة". وقوله: "جنابيها". والجناب: الناحية، ويريد ناحية الجنب. يقال: "جنبيه، وجانبيه، وجنابيه،. والضمير في قوله: "جنابيها" لناقته التي ذكرها قبل. وقوله: "وقولهم: إنك.. "، حال، أي: وهم يقولون، والمعنى يكثرون القول عليه: إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول، كأنهم لا يقولون غير ذلك، ترهيبا له وتخويفا.
215
وإنما قيل: (لا شية فيها) وهي من"وشيت"، لأن"الواو" لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها"الهاء" في آخرها. كما قيل: "وزنته زنة" و "وسن سِنة" (١) و"وعدته عِدة" و"وديته دِية".
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: (لا شية فيها)، قال أهل التأويل:
١٢٦٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (لا شية فيها)، أي لا بياض فيها.
١٢٦٤ - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
١٢٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (لا شية فيها)، يقول: لا بياض فيها.
١٢٦٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا شية فيها) أي لا بياض فيها ولا سواد.
١٢٦٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٢٦٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (لا شية فيها)، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها.
١٢٦٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا شية فيها)، من بياض ولا سواد ولا حمرة.
١٢٧٠ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (لا شية فيها)، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد.
١٢٧١ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لا شية فيها)، يقول: لا بياض فيها.
* * *
(١) في المطبوعة: " ووسيته سية"، وهو كلام لا أصل له، وكأنه مصحف ما أثبت.
216
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (قالوا الآن جئت بالحق). فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه، وعرفنا أية بقرة عنيت. (١) وممن قال ذلك قتادة:
١٢٧٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قالوا الآن جئت بالحق)، أي الآن بينت لنا.
* * *
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد:
١٢٧٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها، وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض، فقالوا: هذه بقرة فلان: (الآن جئت بالحق)، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله: (قالوا الآن جئت بالحق)، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر، فعرفنا أيها الواجب علينا ذبحها منها. (٣) لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد
(١) في المطبوعة: "فتبيناه وعرفناه أنه بقرة عينت"، تصحيف وتحريف، وهو فاسد جدا. مضى في ص" ٢٠٩ نقض الطبري لقول من زعم أنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها. فسألوه أن يصفها لهم ليعرفوها، وسمى قائل ذلك: جاهلا، وشفى في بيان جهله، فلو كان الله تعالى"عينها" لهم، لبين لهم ما عين، إذا أمر بذبحها.
(٢) الأثر: ١٢٧٣ - بعض الأثر: ١٢٤٧، وهنا زيادة عليه من تمامه.
(٣) في المطبوعة: "الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها"، و"البقرة"و"أنها" تصحيف وتحريف، يفسد معنى ما قال الطبري ىنفا ص: ٢٠٩، وما سيأتي بعد هذه الجملة. وانظر التعليق السالف رقم: ١.
217
قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها، فقال: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، وإن كانوا قد قالوا - بقولهم: الآن بينت لنا الحق - هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلا من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى ﷺ كان مبينا لهم - في كل مسألة سألوها إياه، ورد رادوه في أمر البقر - (١) الحق. وإنما يقال:"الآن بينت لنا الحق" لمن لم يكن مبينا قبل ذلك، فأما من كان كل قيله -فيما أبان عن الله تعالى ذكره- حقا وبيانا، فغير جائز أن يقال له = في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: (الآن جئت بالحق)، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك!
* * *
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: (الآن جئت بالحق)، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر.
وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فذبحوها)، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها.
ويعني بقوله: (وما كادوا يفعلون)، أي: قاربوا أن يَدَعوا ذبحها، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان
(١) السياق: "كان مبينا لهم.. الحق"، ما بينهما فصل، كعادته في الفصل.
218
غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) قال: لغلاء ثمنها.
١٢٧٥ - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، قال: من كثرة قيمتها. (١)
١٢٧٦ - حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - في حديث فيه طول، ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض - قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، لكثرة الثمن، أخذوها بملء مسكها ذهبا من مال المقتول، (٢) فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها.
١٢٧٧ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها: وكل شيء في القرآن"كاد" أو"كادوا" أو"لو"، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: (أكاد أخفيها) [طه: ٢٠]
* * *
وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على
(١) الخبر: ١٢٧٥ - محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي، شيخ الطبري: ثقة، روى عنه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. مترجم في التهذيب، ولم أجد له ترجمة في غيره. عبد العزيز ابن الخطاب الكوفي أبو الحسن: ثقة، روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهما، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ /٣٨١. أبو معشر: هو نجيح - بفتح النون - بن عبد الرحمن السندي - بكسر السين - المدني، وهو ضعيف. البخاري في الكبير ٤ / ٢ /١١٤، وقال: "منكر الحديث" وابن أبي حاتم ٤ /١ / ٤٩٥. محمد بن كعب القرظي: تابعي ثقة معروف.
(٢) المسك (بفتح فسكون) : جلد البقرة وغيرها من الحيوان.
219
قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا، أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؛ والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه - على قاتله.
* * *
فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات.
١٢٧٨ - فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا، فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
١٢٧٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير.
١٢٨٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له، فباعها بملء جلدها ذهبا.
١٢٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم.
١٢٨٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير، ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير، ثم دفعوها إليه.
١٢٨٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي (١)
(١) في المطبوعة: محمد بن سعيد قال حدثني أبي قال حدثني يحيى"، وهذا خطأ، والصواب ما أثبته. وقد مضى الكلام على هذا الإسناد في ١: ٢٦٣ - ٢٦٤، وهو كثير الدوران في تفسير الطبري"، وسيأتي بعد في رقم: ١٢٩٠على الصواب.
220
قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا، فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير، فرضي به فأعطاهم إياها.
١٢٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز، وإنها سألتهم أضعاف ثمنها، فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها.
١٢٨٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عَبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد، فباعها بوزنها ذهبا، أو ملء مسكها ذهبا - فذبحوها.
١٢٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: وجدوا البقرة عند رجل، فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا، فاشتروها بملء جلدها ذهبا.
١٢٨٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها - وهو جلدها - ذهبا.
* * *
وأما صغر خطرها وقلة قيمتها، فإن الحسن بن يحيى:-
١٢٨٨ - حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة، عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم، فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: (أتتخذنا هزوا)، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها.
١٢٨٩ - حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه.
وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله،
221
أنكرت قتلته قتله، فقالوا: والله ما قتلناه؛ بعد أن رأوا الآية والحق.
١٢٩٠ - حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثتي أبي عن أبيه، عن ابن عباس.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ قتلتم نفسا)، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. و"النفس" التي قتلوها، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة).
* * *
وقوله: (فادارأتم فيها)، يعني فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو"فتدارأتم فيها" على مثال"تفاعلتم"، من الدرء. و"الدرء": العوج، ومنه قول أبي النجم العجلي:
خشية ضَغّام إذا هم جَسَر يأكل ذا الدرء ويقصي من حقر (١)
يعني: ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
أدركتها قدام كل مِدْرَهِ بالدفع عني درء كل عُنْجُهِ (٢)
(١) لم أجد البيت في مكان، وكان في المطبوعة. خشية طغام إذا هم حسر ...................
وهو كلام مختل. والضغام من الضغم: وهو أن يملأ فمه مما أهوى إليه. وجسر جسورا وجسارة مضى ونفذ من شدة إقدامه.
(٢) ديوانه: ١٦٦ من قصيدة يصف بها نفسه. والضمير في قوله: "أدركتها" إلى ما سبق في رجزه. وَحقّةٍ ليست بقول التره
وقوله: "حقة"، يعني خصومة أو منافرة أو مفاخرة، أو ما أشبه ذلك. والمدره: هو المدافع الذي يقدم عند الخصومة، بلسان أو يد. والعنجه والعنجهي: ذو الكبر والعظمة حتى كاد يبلغ الجهل والحمق ومنه العنجهية.
222
ومنه الخبر الذي:-
١٢٩١ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن السائب قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية، فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا أعلم به منكما، ألم تكن شريكي في الجاهلية؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري". (١)
(١) الحديث: ١٢٩١ - في هذا الإسناد ضعف، وفي الحديث نفسه اضطراب، كما سيأتي: أبو كريب: هو محمد بن العلاء بن كريب الحافظ، ثقة كبير، من شيوخ أصحاب الكتب الستة، روى عنه الطبري كثيرا. مات سنة ٢٤٨. مصعب بن المقدام الخثعمي: ثقة، وضعفه بعضهم، وأخرج له مسلم في صحيحه، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ١ / ٣٥٤، وابن أبي حاتم ٤ /١ / ٣٠٨. إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة حافظ معروف. إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي: ثقة، تكلم فيه بغير حجة، وأخرج له مسلم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ / ١ / ٣٢٨، وصرح بأنه سمع مجاهدا، وابن أبي حاتم ١ /١ / ١٣٢ - ١٣٣. السائب: صحابي - كما هو ظاهر من هذا الحديث وغيره، واختلف فيه كثيرا، فقيل: "السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ.. "، وقيل: "السائب بن عبد الله المخزومي"، بل قيل أيضًا: "قيس بن السائب"! والذي جزم به البخاري في الكبير ٢ / ٢ / ١٥٢ واقتصر عليه: "السائب بن أبي السائب القرشي المكي، له صحبة". وكذلك صنع ابن أبي حاتم ٢ /١ / ٢٤٢، وقال: "منهم من يقول: له صحبة، ومنهم من يقول: لأبيه صحبة. روى عنه مجاهد. يقال: "إنه مولى مجاهد من فوق". وفي الإصابة ٣: ٦٠ نقلا عن ابن أبي شيبة، أنه روى من طريق يونس بن خباب عن مجاهد: "كنت أقود السائب، فيقول لي: يا مجاهد.. ". ولو صح هذا لثبت اتصال الإسناد، لكن يونس بن خباب ضعيف.
والحديث روى أحمد في المسند: ١٥٥٦٦ (٣: ٤٢٥ حلبي) نحو معناه، بزيادة ونقص، عن أسود بن عامر، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، "عن السائب بن عبد الله"، ثم روى بعده مثله، بمعناه، مطولا ومختصرا، من طرق، وفي بعضها" عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب".
وروى أبو داود: ٤٨٣٦، نحوه، من طريق الثوري، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب وقال المنذري في تهذيب السنن: ٤٦٦٩"وأخرجه النسائي وابن ماجه.. وهذا الحديث قد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا. وذكر ابو عمر يوسف بن عبد البر النمري: أن هذا الحديث مضطرب جدا.. وهذا الاضطراب لا تقوم به حجة".
وقد وقع في متن الحديث هنا خطأ، لا ندري: أهو من الرواية، أم من الناسخين. وذلك قوله"جاءني عثمان وزهير ابنا أمية". فلا يوجد في الصحابة من يسمي بهذا ولا بذاك. والصواب ما في رواية المسند: ١٥٥٦٦"جاء بي عثمان بن عفان، وزهير". وزهير: هو ابن أبي أمية، أخو أم سلمة، أم المؤمنين، وهي بنت أبي أمية. كما بين ذلك في الإصابة ٣: ١٣ - ١٤، إذ قال: "وروى ابن منده من طريق مجاهد، عن السائب شريك رسول الله ﷺ قال: ذهب بي عثمان، وزهير بن أبي أمية.. "
وانظر نسب قريش للمصعب، ص: ٣٣٣. حيث جزم بأن"السائب بن أبي السائب صيفي" قتل يوم بدر كافرا؛ وانظر أيضًا الإشارة إلى أصل القصة في الإصابة ٣: ١٣ - ١٤، ٦٠، و ٤: ٧٤، و٥: ٢٥٣ - ٢٥٤. والموضوع لا يزال محتاجا إلى تحقيق وبحث.
223
يعني بقوله:"لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارُّه.
* * *
وإنما أصل (فادارأتم)، فتدارأتم، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر:
تولي الضجيع إذا ما استافها خَصِرا... عذب المذاق إذا ما اتّابعَ القُبَل (١)
يريد إذا ما تتابع القبل، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها، وذلك إذا كان قبله شيء، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء، ومنه قول الله جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) [الأعراف: ٣٨]، إنما هو"تداركوا"، ولكن التاء منها أدغمت في الدال، فصارت دالا مشددة، وجعلت فيها ألف -إذ وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله، وابتدئ به، قيل: تداركوا وتثاقلوا، فأظهروا الإدغام. وقد قيل يقال:"اداركوا، وادارءوا".
وقد قيل إن معنى قوله: (فادارأتم فيها)، فتدافعتم فيها. من قول القائل:"درأت هذا الأمر عني"، ومن قول الله: (ويدرأ عنها العذاب) [النور: ٨]، بمعنى
(١) لم أعرف قائله، وسيأتي في ١٠: ٩٤ (بولاق)، وفي المطبوعة هنا"اشتاقها" وهو خطأ والصحيح ما أثبته من هناك. وساف الشيء يسوفه سوفا واستافه: دنا منه وشمه. واستعاره للقبلة، كما استعاروا الشم للقبلة، لأن دنو الأنف يسبق ما أراد المريد. قال الراعي يصف ما يصف من القبلة يثني مُساوفها غضروف أرنبة... شماء، من رخصة في جيدها غيد
قال الزمخشري: "ساوفتها" ضاجعتها، ولكنه في البيت: الذي يُقبِّل.
224
يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول. لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله، كما قد بينا قبل قيما مضى من كتابنا هذا. (١) وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (فادارأتم فيها) قال أهل التأويل.
١٢٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (فادارأتم فيها)، قال: اختلفتم فيها.
١٢٩٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٢٩٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه.
١٢٩٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فادارأتم فيها)، قال: اختلفتم، وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا.
* * *
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما:-
١٢٩٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا -أو انتفلوا- منه. شك أبو عاصم. (٢)
١٢٩٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) انظر ما سلف رقم: ١١٧٢، ١١٨٠.
(٢) انتفل من الشيء: انتفى منه وتبرأ، وأنكر أن يكون فعله أو عرفه وفي حديث ابن عمر: "إن فلانا انتفل من ولده" أي تبرأ منه.
225
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم فانتفوا -ولم يشك- منه. (١)
١٢٩٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: قتيل كان في بني إسرائيل. فقذف كل سبط منهم [سبطا به]، (٢) حتى تفاقم بينهم الشر، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله إلى موسى: أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله، من أجل ميراث كان بينهم.
١٢٩٩- حدثني ابن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في شأن البقرة. وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته. فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم، أتاهم الشيطان، فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم، عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وأنهم عمدوا إلى موسى، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى،
(١) في المطبوعة: "ولم يشك فيه"، وهو خطأ وتصحيف. "لم يشك" فاصلة بين الفعل وحرفه.
(٢) الزيادة بين القوسين، لا بد منها ليستقيم معناه، وأخشى أن يكون في الأصول تحريف لم أعثر على صوابه.
226
فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها.
١٣٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا حسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل، لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف، (١) فإذا لم ير شيئا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه، فطال عليه حياته، فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة، فنظر فلم ير شيئا. ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب: فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل، (٢) كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم. أخذهم. فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض. فأتوا موسى فذكروا له شأنهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب. وقال أهل المدينة: يا رسول الله، قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة -كما رأيت- نعتزل شرور الناس، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه: أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
١٣٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير، فقتله ابن أخ له، فجره فألقاه على باب ناس آخرين.
(١) تشرف الشيء واسشرفه: وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس، حتى يبصره ويستبينه.
(٢) لعل الصواب: "كثر في أصحابه".
227
ثم أصبحوا، فادعاه عليهم، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يقتتلوا، فقال، ذوو النهي منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى، فقصوا عليه القصة، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها، فقالوا: أتتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
١٣٠٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل، طرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
* * *
قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو"الدرء" الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: (فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون)، والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم، ثم ادارأتم فيه.
* * *
ومعنى"الإخراج" -في هذا الموضع- الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه، وإطلاعهم عليه، كما قال الله تعالى ذكره: (أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [النمل: ٢٥] يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه.
* * *
والذي كانوا يكتمونه فأخرجه، هو قتل القاتل القتيل. لما كتم ذلك
228
القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك، (١) حتى أظهره الله وأخرجه، فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره.
* * *
وعَنَى جل ذكره بقوله: (تكتمون)، تسرون وتغيبون، كما:
١٣٠٣ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (والله مخرج ما كنتم تكتمون)، قال: تغيبون.
١٣٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما كنتم تكتمون)، ما كنتم تغيبون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارءوا في القتيل (٢) - الذي قد تقدم وصفنا أمره -: اضربوا القتيل. و"الهاء" التي في قوله: (اضربوه) من ذكر القتيل؛ (ببعضها) أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
* * *
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها. فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا، فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
(١) "ذلك" في قوله: "لما كتم ذلك" مفعول، هو كناية عن قوله: "هو قتل القاتل القتيل".
(٢) في المطبوعة: ".. بقوله فقلنا لقوم موسى"، والصواب زيادة لفظ الآية، كما فعلت.
229
١٣٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة، ثم ذكر مثله.
١٣٠٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: (فقلنا اضربوه ببعضها)، قال: بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله. (١)
١٣٠٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن خالد بن يزيد، عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
١٣٠٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها -وقال معمر، عن قتادة -: ضربوه بلحم الفخذ فعاش، فقال: قتلني فلان.
١٣١٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات.
* * *
وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
١٣١١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فقلنا اضربوه ببعضها)، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.
(١) الخبر: ١٣٠٧ - النضر بن عربي الباهلي: ثقة من أتباع التابعين، وثقه ابن معين وغيره، مات سنة ١٦٨، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ٢ /٨٩، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٧٥.
(٢) البضعة: القطعة من اللحم، قولهم: بضع اللحم: قطعه.
230
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها.
* ذكر من قال ذلك:
١٣١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣١٣ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - (١) قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط، أراد أن يأخذ ديته.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: (فقلنا اضربوه ببعضها)، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا [في] خبر تقوم به حجة، (٢) على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى ﷺ والذين ادارءوا فيه - من قاتله.
(١) آراب جمع إرب (بكسر فسكون) : وهو العضو، يقال: قطعه إربا إربا، أي عضوا عضوا.
(٢) الزيادة بين القوسين، أولى من حذفها.
231
فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه - نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي - كما قال جل ثناؤه: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء: ٦٣]، والمعنى: فضرب فانفلق - دل على ذلك قوله: (١) (كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾
قال أبو جعفر: وقوله: (كذلك يحيى الله الموتى)، مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث.
وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، (٢) وهم قوم أميون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قِبَلَهم.
* * *
(١) في المطبوعة: "يدل على ذلك قوله.. "، وليست بشيء.
(٢) في المطبوعة: "فإنما احتج.. "، والفاء ليست بشيء هنا.
232
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - من آياته = وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته = (١) لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل، وهم -فيما ذكر- بنو أخي المقتول، فقال لهم:"ثم قست قلوبكم": أي جفت وغلظت وعست، كما قال الراجز:
وقد قسوت وقسا لداتي (٢)
يقال:"قسا" و"عسا" و"عتا" بمعنى واحد، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقَساء. (٣)
* * *
ويعني بقوله: (من بعد ذلك)، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي - ادارءوا
(١) انظر ما سلف ١: ٥٥٢، وهذا الجزء ٢: ١٣٩.
(٢) لم أعرف قائله، وسيأتي في ٦: ٩٩ (بولاق)، وكان في الأصل هنا"وقسا لدنى"، وهو خطأ. ولداتى جمع لدة، ولدة الرجل: تربه، ولد معه. وقسا هنا بمعنى: أسن وكبر وولي شبابه، وجف عوده. ولم ترد بذلك المعنى في المعاجم.
(٣) أنا في شك في ضبطه المصدر الأول من هذه المصادر الأربعة وهو"قسوا"، وتبعت في ضبطه القاموس المحيط، وإن، كان قد ضبط بالقلم، وأخشى أن يكون مصدرا على"فعول" مثل دنا يدنوا دنوا، وسما يسمو سموا.
233
في قتله، فأخبرهم بقاتله، وما وبالسبب الذي من أجله قتله، (١) كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل (٢). وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم -فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانية، كما:-
١٣١٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه، فقال الله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) -يعني بني أخي الشيخ- (فهي كالحجارة أو أشد قسوة).
١٣١٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم،"فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فهي) :"قلوبكم". يقول: ثم صلبت قلوبكم -بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد قسوة"،
(١) في المطبوعة: "وما السبب" وليست بشيء.
(٢) سياق العبارة بلا فصل"من بعد أن أحيى المقتول لهم.. وفصل بخبره بين المحق منهم والمبطل".
234
يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة. (١)
* * *
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، و"أو" عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.
* * *
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب"أو"، كقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧]، وكقول الله جل ذكره: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ: ٢٤] [الإبهام على من خاطبه] (٢) فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، (٣) وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب، كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا (٤)
(١) كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا: "كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد صلابة، يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة". وكأنها سهو من الناسخ، فرددته إلى أصله بحمد الله.
(٢) اللسان (سكن). غاله الشيء يغوله: ذهب به فلم تدر أين هو وأجن: ستر وأخفى.
(٣) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام، استظهرته من قوله بعد: "ولكنه أبهم على المخاطب"، ومن تفسير ابن كثير ١: ٢٠٩، ٢١٠.
(٤) ديوانه: ٣٢ (من نفائس المخطوطات)، والأغاني ١١: ١١٣، وإنباه الرواة ١: ١٧، وسيأتي البيت الثاني وحده في ٢٢: ٦٥ (بولاق) ورواية الديوان: "وفيهم أسوة إن كان غيا".
235
فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا
قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد، ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، فقال: أَوَ كان شاكا -من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال. (١)
* * *
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل:"ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا"، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم:"أو" في قوله: (أو أشد قسوة)، بمعنى، وأشد قسوة، كما قال تبارك وتعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) [الإنسان: ٢٤] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر (٢)
يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة:
قالت:
ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد (٣)
(١) قوله"في الهادي من الضلال" يعني نبيه صلى الله عليه وسلم. وعبارة الأغاني: أفترى الله عز وجل شك في نبيه".
(٢) سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٣٣٧.
(٣) ديوانه: ٣٢، وروايته هناك"ونصفه". وهو من قصيدته المشهورة التي يعتذر فيها إلى النعمان. والضمير في قوله: "قالت" إلى"فتاة الحي، المذكورة في شعر قبله، وهي زرقاء اليمامة. وهو خبر مشهور، لا نطيل بذكره.
236
يريد. ونصفه
* * *
وقال آخرون:"أو" في هذا الموضع بمعنى"بل"، فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧]، بمعنى: بل يزيدون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد، (١) على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشد قسوة. لأن"أو"، وإن استعملت في أماكن من أماكن"الواو" حتى يلتبس معناها ومعنى"الواو"، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - (٢) فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا (٣) أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: (أو أشد قسوة) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى"الكاف" في قوله: (كالحجارة)، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى"مثل"، [فيكون تأويله] (٤) فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
(١) في المطبوعة: "فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشد"، واستظهرت تصويبه مما مضى آنفًا، ومن تأويله بعد، فوضعت"إما" مكان"من".
(٢) انظر ما سلف في ١: ٣٢٧ - ٣٢٨.
(٣) في المطبوعة: "من وجد إلى ذلك سبيلا". وهو خطأ.
(٤) زدت ما بين القوسين، ليستقيم الكلام.
237
والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير"هي" عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار، فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. (١) وإنما ذكر فقال"منه"، للفظ"ما". (٢)
* * *
و"التفجر":"التفعل" من"تفجر الماء"، (٣) وذلك إذا تنزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد"انفجر"، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك، ومنه قوله عمر بن لجأ:
ولما أن قرنت إلى جرير أبى ذو بطنه إلا انفجارا (٤)
يعني: إلا خروجا وسيلانا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: وإن منها لما يشقق"،
(١) في المطبوعة: "بذكر الماء عن ذكر الأنهار"، وهو خطأ بين.
(٢) في المطبوعة: "وإنما ذكر فقيل.. "، وهو لا شيء.
(٣) في المطبوعة: "من: فجر الماء"، وهو خطأ يدل السياق على خلافه، وهو ما أثبت.
(٤) طبقات فحول الشعراء: ٣٦٩، والأغاني ٨: ٧٢، وروايتهما"إلا انحدارا"، وراوية الطبري أعرق في الشعر. وفي المطبوعة"قربت"، وهو خطأ محض. قاله عمر بن لجأا حين أخذهما أبو بكر ابن حزم - بأمر الوليد بن عبد الملك - فقرنهما، وأقامهما على البلس يشهر بهما، فكان التميمي ينشد هذا البيت في هجاء جرير. وقوله: "ذو بطنه"، كناية جيدة عما يشمأز من ذكره.
238
وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. (١) وإنما هي: لما يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة.
وقوله: (فيخرج منه الماء) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - (٢) من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى"الهبوط" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وأدخلت هذه"اللامات" اللواتي في"ما"، توكيدا للخبر.
وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، (٤) مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، (٥) دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم
(١) أسقط ذكر الآية في المطبوعة، كأنه استطال التكرار؛ وأقمنا الكلام على نهج أبي جعفر وفي المطبوعة: "لحجارة تشقق"، ورددتها إلى الصواب أيضًا.
(٢) تردى من الجبل ترديا: طاح وسقط.
(٣) انظر ما سلف ١: ٥٣٤، وهذا الجزء ٢: ١٣٢.
(٤) سياق هذه العبارة: جعل منها مثلا لقلوب الذين.
(٥) وسياق هذه الجملة: وإنما وصف الله بما وصفها به.. معذرة منه لها" أي للحجارة، وما بين ذلك فصل كدأب جعفر رحمه الله.
239
يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:-
١٣١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣١٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله)، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن.
١٣١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٣١٩ - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله).
١٣٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر، عن قتادة مثله.
١٣٢١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء).
١٣٢٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن
240
جريج أنه قال: فيها كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل، فمن خشية الله. نزل به القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.
فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله. (١)
وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. (٢)
وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه.
١٣٢٤ - كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله ﷺ إذا خطب، فلما تحول عنه حن. (٣)
١٣٢٥ - وكالذي روي عن النبي ﷺ أنه قال:"إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن". (٤)
(١) يريد قوله تعالى في سورة النحل: ٤٨ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ). وانظر تفسير الآية من تفسير الطبري ١٤: ٧٨، ٧٩ (بولاق).
(٢) يريد قوله تعالى في سورة الأعراف: ١٤٣: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا).
(٣) الحديث: ١٣٢٤ - قصة حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متواترة صحيحة، لا يشك في صحتها إلا من لا يريد أن يؤمن. وقد عقد الحافظ ابن كثير في التاريخ بابا لذلك ٦: ١٢٥ - ١٣٢ قال في أوله: "باب حنين الجذع شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقا من فراقه. وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة، بطرق متعددة، تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان، ثم ساق من الأحاديث الصحاح من دواوين السنة. وانظر منها في المسند: ٢٢٣٦، ٣٤٣٠ من حديث ابن عباس. و٢٢٣٧، ٣٤٣١، من حديث أنس. و٣٤٣٢ من حديث ابن عباس وأنس. وصحيح البخاري ٦: ٤٤٣ (من الفتح).
(٤) الحديث: ١٣٢٥ - روى مسلم في صحيحه ٢: ٢٠٣ - ٢٠٤، عن جابر بن سمرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". وذكره ابن كثير في التاريخ ٦: ١٣٤، من مسند أحمد، ثم نسبه لصحيح مسلم، ومسند الطيالسي.
241
وقال آخرون: بل قوله: (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) كقوله: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله، كما قال زيد الخيل:
بجمع تضل البلق في حَجَراته ترى الأكْمَ منه سجدا للحوافر (١)
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له:
ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع (٢)
يريد أنه ذليل. (٣)
وكما قال جرير بن عطية:
لما أتى خبر الرسول تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع (٤)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (يهبط من خشية الله)، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل:"ناقة تاجرة"، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية:
(١) مضى هذا البيت في هذا الجزء: ٢: ١٠٤ وورد هنا"ترى الأكم فيها" والصواب ما أثبته، كما مضى آنفًا، وفي الأضداد لابن الأنباري"منها" مكان"فيها".
(٢) المفضليات: ٤٠٧، والأضداد لابن الأنباري: ٢٥٧. من قصيدته المحكمة. و"ساجد" منصوب إذ قبله، في ذكر عدوه هذا:وفي الأصل المطبوع: "إذ يرفعه"، وهو خلل في الكلام. وأثبت ما في المفضليات، ورواية ابن الأنباري: "ما يرفعه".. يقول أذله فطأطأ رأسه خزيا، وألزم الأرض بصره، وصار كأنه أصم لا يسمع ما يقال له، فهو لا حراك به، مات وهو حي قائم، لا يحير جوابا. ولذلك قال بعده:
ثم ولى وهو لا يحمى استه طائر الإتراف عنه قد وقع
فر مني هاربا شيطانه حيث لا يعطى، ولا شيئا منع
(٣) هذه الجملة كانت قبل البيت، فرددتها إلى حيث ينبغي أن ترد.
(٤) سلف هذا البيت وتخرجه في هذا الجزء ٢: ١٧، وروايته هناك "خبر الزبير"، وهي أصح وأجود.
242
وأعور من نبهان، أما نهاره فأعمى، وأما ليله فبصير (١)
فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به.
* * *
وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. (٢)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"الخشية"، وأنها الرهبة والمخافة، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وما الله بغافل عما تعملون)، وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا. (٤)
(١) سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٣١٧ من طبعتنا هذه، وأغفلت هناك أن أرده إلى هذا الموضع من التفسير، فقيده.
(٢) ليت من تهور من أهل زماننا، فاجترأ على جعل كتاب ربه منبعا يستقى منه ما يشاء لأهوائه وأهواء أصحاب السلطان - سمع ما يقول أبو جعفر، فيما تجيزه لغة العرب، فكيف بما هو تهجم على كلام ربه بغير علم ولا هدى ولا حجة؟ اللهم إنا نبرأ إليك منهم، ونستعيذ بك أن نضل على آثارهم.
(٣) انظر ما سلف ١: ٥٥٩ - ٥٦٠، وهو من تفسير" فارهبون"، ولم ترد مادة (خشي) في القرآن قبل هذا الموضع، فلذلك قطعت بأنه أحال على هذه الآية.
(٤) كانت في المطبوعة"يحصيها،.. فيجازيكم.. أو يعاقبكم" بالياء في أولها جميعا، واستجزت أن أردها إلى الاسمية، لأن الطبري هكذا يقول، وقد سلف مثل ذلك مرارا، ورأيت النساخ تصرفوا فيه كما بيناه في موضعه. فاستأنست بنهجه في بيانه، وهو أبلغ وأقوم.
243
وأصل"الغفلة" عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له.
* * *
فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أفتطمعون) يا أصحاب محمد، أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟
* * *
ويعني بقوله: (أن يؤمنوا لكم)، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم ﷺ محمد من عند ربكم، كما:-
١٣٢٦ - حُدثت عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،"أن يؤمنوا لكم" يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟.
١٣٢٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) الآية، قال: هم اليهود.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾
قال أبو جعفر: أما"الفريق" فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو"فعيل" من"التفرق" سمي به الجماع، كما سميت الجماعة ب"الحزب"، من"التحزب"، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
244
أجَدّوا فلما خفت أن يتفرقوا... فريقين، منهم مُصعِد ومُصوِّب (١)
يعني بقوله: (منهم)، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم، فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته، فيقول:"كان منا فلان"، (٢) يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: (وقد كان فريق منهم).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون). فقال بعضهم بما:-
١٣٢٨ - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)،
(١) ديوانه: ١٣٧، وفي المطبوعة: "أخذوا" خطأ. أجد السير: انكمش فيه وأسرع مصعد: مبتدئ في صعوده إلى نجد والحجاز. ومُصَوِّب منحدر في رجوعه إلى العراق والشام وأشباه ذلك وبعد البيت من تمامه. طلبتهمُ، تَطوى بي البيد جَسْرَة... شُوَيْقَئةُ النابين وجَناء ذِعْلب
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٨، ٣٩.
245
فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء منهم.
١٣٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
١٣٣٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه)، قال: هي التوراة، حرفوها.
١٣٣١ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه)، قال: التوراة التي أنزلها عليهم، يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا، إذا جاءهم المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برِشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، (١) فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة: ٤٤].
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
١٣٣٢ - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
١٣٣٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) الآية، قال: ليس قوله: (يسمعون كلام الله)، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
(١) يعني: "ذلك الكتاب" المحرف، لا"كتاب الله" الصادق.
246
١٣٣٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم، فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام [أن يسجدوا] فوقعوا سجودا، (١) وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة، ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانا منه تعالى ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى، (٢) فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه، ثم يبدله ويحرفه ويجحده، فهؤلاء الذين بين
(١) ما بين القوسين زيادة من ابن كثير ١: ٢١٢.
(٢) في المطبوعة"وإيذانا منه.. وقطع أطماعهم" بالعطف بالواو، وليس يستقيم. وآذنه الأمر وآذنه به يذانا: أعلمه. فقوله: "قطع" منصوب مفعول ثان للمصدر"إيذانا".
347
أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله، وإنما يسمعونه منكم - (١) وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد ﷺ ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا - (٢) من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله: (يسمعون كلام الله)، يسمعون التوراة، لم يكن لذكر قوله: (يسمعون كلام الله) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له. (٣)
فإن ظن ظان [أنه] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: (يحرفونه)، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. (٤) وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.
* * *
ويعني بقوله: (ثم يحرفونه)، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من"انحراف الشيء عن جهته"، وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: (يحرفونه)
(١) قوله: "وأقرب"، معطوف على قوله: "أحرى.. ".
(٢) قوله: "من أوائلهم.. " متعلق بقوله آنفًا: "أحرى أن يجحدوا.. وأقرب إلى أن يحرفوا.. ".
(٣) سياق العبارة: فخصوص المحرف بأنه.. لا معنى له".
(٤) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
248
أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا، وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: (يحرفونه من بعد ما عقلوه)، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، (وهم يعلمون)، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم، وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد ﷺ بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾
قال أبو جعفر: أما قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد ﷺ من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد ﷺ قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد ﷺ وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:-
١٣٣٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا ﷺ قالوا:
249
آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم.
١٣٣٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد ﷺ قالوا: آمنا.
* * *
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر * وهو ما:-
١٣٣٧ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، أي: بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصة.
١٣٣٨ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) الآية، قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم -"قالوا" يعني: قال بعضهم لبعض -:"أتحدثونهم بما فتح الله عليكم".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (بما فتح الله عليكم). فقال بعضهم بما:-
١٣٣٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن
250
عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، أي: بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. (١) فأنزل الله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم)، أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون).
١٣٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
١٣٤٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، (أفلا تعقلون).
(١) قوله: "فكان منهم"، أي كان منهم النبي الذي كانوا يستفتحون به على مشركي العرب ويستنصرون، ويرجون أن يكون منهم، فكان من العرب. وسيأتي خبر استفتاحهم بعد في تفسير الآية: ٨٩ من سورة البقرة في هذا الجزء.
251
١٣٤٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، ليحتجوا به عليكم.
١٣٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، يعني: بما أنزل الله عليكم من أمر محمد ﷺ ونعته.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
١٣٤٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) قال: قول يهود بني قريظة، (١) حين سبهم النبي ﷺ بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا، فقال: يا إخوة القردة والخنازير. (٢)
١٣٤٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي ﷺ فقال:"اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير".
١٣٤٧ - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (أتحدثونهم بما فتح
(١) في المطبوعة: "يهود من قريظة"، ليست بشيء.
(٢) من أول قوله: "قالوا من حدثك؟.. " إلى آخر العبارة، تفسير للقصة قبله. وقوله"فقال: يا إخوة القردة والخنازير" من كلام رسول الله صلى الله عليهم وسلم، لا كلام علي رضي الله عنه. وسيظهر ذلك في الخبرين بعده.
252
الله عليكم)، قال: قام النبي ﷺ يوم قريظة تحت حصونهم فقال:"يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت. فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم! (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) ! بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم. (١)
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣٤٨ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) - من العذاب -"ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم؟
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣٤٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالو أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن (٢). فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر (٣) وقرأ قول الله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: ٧٢]. وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله
(١) الأثر: ١٣٤٧ - في ابن كثير ١: ٢١٤ وفيه: "من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم".
(٢) قصبة القرية: وسطها وجوفها. وقصبة البلاد: مدينتها، لأنها تكون في أوسطها.
(٣) البكر جمع بكرة (بضم فسكون) : وهي الغدوة، أول النهار.
253
عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه ﷺ بهم، قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله ﷺ يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء]- قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم"، الآية. (١)
* * *
وأصل"الفتح" في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه:"اللهم افتح بيني وبين فلان"، أي احكم بيني وبينه، ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ بني عُصْمٍ رسولا بأني عن فُتاحَتكم غني (٢)
قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي:"الفتاح" (٣) ومنه قول الله عز وجل: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: ٨٩] أي احكم بيننا وبينهم.
* * *
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا، تبين أن معنى قوله: (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله ﷺ وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود
(١) الأثر: ١٣٤٩ في ابن كثير ١: ٢١٣ - ٢١٤، والزيادة بين القوسين منه.
(٢) ينسب للأسعر الجعفي، ومحمد بن حمران بن أبي حمران. انظر تعليق الراجكوتي في سمط اللآلئ: ٩٢٧.
(٣) أمالي القالي ٢: ٢٨١ واللسان (فتح) (رسل)، وغيرهما، وبنو عصم، هم رهط عمرو ابن معد يكرب الزبيدي. وقد اختلفت روايات البيت اختلافا شديدا، وليس هذا مكان تحقيقها، لطولها.
254
المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [من أحكامه وقضائه]. (١)
فإذ كان كذلك. (٢) فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد ﷺ إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله ﷺ ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.
وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله ﷺ ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد ﷺ وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله ﷺ بذلك. فكان تلاومهم -فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد ﷺ في كتبهم، ويكفرون به، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد ﷺ إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله: (أفلا تعقلون)، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله ﷺ بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي ﷺ بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم، ولا تخبروهم
(١) ما بين القوسين، زيادة استظهرتها من سابق بيانه، ليستقيم الكلام.
(٢) في المطبوعة: "فإن كان كذلك"، والزيادة ماضية على نهج أبي جعفر.
255
بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون).
* * *
256
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)، أو لا يعلم - هؤلاء اللائمون من اليهود إخوانهم من أهل ملتهم، على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول الله ﷺ ومبعثه، القائلون لهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم - أن الله عالم بما يسرون، فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم = من كفرهم، وتلاومهم بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله وللمؤمنين به من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قيلهم لهم: آمنا، ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم، وقضى لهم عليهم في كتبهم، من حقيقة نبوة محمد ﷺ ونعته ومبعثه = وما يعلنون، فيظهرونه لمحمد ﷺ ولأصحابه المؤمنين به إذا لقوهم، من قيلهم لهم: آمنا بمحمد ﷺ وبما جاء به، نفاقا وخداعا لله ولرسوله وللمؤمنين؟ كما:-
١٣٥٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون)، من كفرهم وتكذيبهم محمدا ﷺ إذا خلا بعضهم إلى بعض، (وما يعلنون) إذا لقوا أصحاب محمد ﷺ قالوا: آمنا ليرضوهم بذلك.
١٣٥١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
الربيع، عن أبي العالية: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)، يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم، (وما يعلنون)، يعني: ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين: آمنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ومنهم أميون)، ومن هؤلاء -اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات، وأيأس أصحاب رسول الله ﷺ من إيمانهم فقال لهم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، وهم إذا لقوكم قالوا: آمنا، كما:-
١٣٥٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ومنهم أميون)، يعني: من اليهود.
١٣٥٣ - وحُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
١٣٥٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ومنهم أميون)، قال: أناس من يهود.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بـ "الأميين"، الذين لا يكتبون ولا يقرءون.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (١) يقال منه:"رجل أمي بين الأمية". (٢) كما:-
١٣٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثني سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
(١) الحديث: ١٣٥٥ - هو حديث صحيح. ورواه البخاري ٤: ١٠٨ - ١٠٩ (من الفتح)، ورواه أيضًا مسلم وأبو داود والنسائي، كما في الجامع الصغير للسيوطي، رقم: ٢٥٢١.
(٢) كان في المطبوعة: "أي بين الأمية"، فحذفت"أي"، فليس ذلك مما يقال.
257
المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب)، قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. (١)
١٣٥٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومنهم أميون) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود.
* * *
وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول، وهو ما:-
١٣٥٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ومنهم أميون)، قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم،
(١) قوله "لا يحسن أن يكتب" نفى لمعرفة الكتابة، لا لجودة معرفة الكتابة، كما يسبق إلى الوهم. وقديما قام بعض أساتذتنا يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يعرف الكتابة، ولكنة لا يحسنها، لخبر استدل به هو - أو اتبع فيه من استدل به من أعاجم المستشرقين - وهو ما جاء في تاريخ الطبري ٣: ٨٠ في شرح قصة الحديبية، حين جاء سهيل بن عمرو، لكتابة الصلح. روى الطبري عن البراء بن عازب قال:".. فلما كتب الكتاب، كتب:"هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله"، فقالوا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله. قال لعلي: امح"رسول الله". قال: لا والله لا أمحاك أبدا. فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب: "فكتب مكان "رسول الله" "محمد"، فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد".
فظن أولا أن ضمير الفاعل في قوله "فكتب مكان "رسول الله" - محمد"، هو رسول الله صلى الله عليه. وليس كذلك بل هو: علي بن أبي طالب الكاتب. وفي الكلام اختصار، فإنه لما أمر عليا أن يمحو الكتاب فأبى، أخذه رسول الله، وليس يحسن يكتب، فمحاه. وتفسير ذلك قد أتى في حديث البخاري عن البراء بن عازب أيضًا ٣: ١٨٤:"فقال لعلى" امحه. فقال على: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى عليه وسلم بيده". وأخرى أنه أخطأ في معنى"يحسن"، فإنها هنا بمعنى"يعلم"، وهو أدب حسن في العبارة، حتى لا ينفي عنه العلم، وقد جاء في تفسير الطبري ٢١: ٦ في تفسير قوله تعالى:"أحسن كل شيء خلقه"، ما نصه:"معنى ذلك: أعلم كل شيء خلقه. كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم كل خلقه ما يحتاجون إليه. وأنه قوله:"أحسن"، إنما هو من قول القائل:"فلا يحسن كذا"، إذا كان يعلمه". هذا، والعرب تتأدب بمثل هذا، فتضع اللفظ مكان اللفظ؛ وتبطل بعض معناه، ليكون تنزيها للسان، أو تكرمه للذي تخبر عنه. فمعنى قوله:"ليس يحسن يكتب"، أي ليس يعرف يكتب. وقد أطال السهيلي في الروض الأنف ١: ٢٣٠ بكلام ليس يغني في تفسير هذا الكلمة.
258
ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن"الأمي" عند العرب: هو الذي لا يكتب.
* * *
قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي"أمي"؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى"أمه"، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال -إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي ﷺ من قوله:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، وكما قال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: ٢]. (٢) فإذا كان معنى"الأمي" في كلام العرب ما وصفنا، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى قوله: (ومنهم أميون) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (لا يعلمون الكتاب)، لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم، كالذي:-
١٣٥٩ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(١) قال ابن كثير في تفسيره ١: ٢١٥، وساق الخبر وكلام الطبري، ثم قال: "قلت: في صحة هذا عن ابن عباس - بهذا الإسناد - نظر، والله أعلم".
(٢) اقتصر في المطبوعة على قوله: "رسولا منهم"، وأتممت الآية، لأنه يستدل بها على أنه جاء يعلم الأمين"الكتاب".
259
معمر، عن قتادة في قوله، (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) : إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون شيئا.
١٣٦٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يعلمون الكتاب)، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه.
١٣٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (لا يعلمون الكتاب) لا يدرون ما فيه.
١٣٦٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لا يعلمون الكتاب) قال: لا يدرون بما فيه.
١٣٦٣ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (لا يعلمون الكتاب)، لا يعلمون شيئا، لا يقرءون التوراة. ليست تستظهر، إنما تقرأ هكذا. فإذا لم يكتب أحدهم، لم يستطع أن يقرأ. (١)
١٣٦٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله، (لا يعلمون الكتاب)، قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عني بـ "الكتاب": التوراة، ولذلك أدخلت فيه "الألف واللام" لأنه قصد به كتاب معروف بعينه.
* * *
ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من أحكام الله وفرائضه، وما فيه من حدوده التي بينها فيه.
[واختلف أهل التأويل في تأويل قوله] (٢) (إلا أماني) فقال بعضهم بما:-
(١) الأثر: ١٣٦٣ - كان في المطبوعة: "حدثنا بشر قال أخبرنا ابن وهب.. "، وهو سهو من الناسخ، والإسناد كثير الدوران في التفسير، أقربه رقم ١٣٥٧.
(٢) ما بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام. وكأن الناسخ سها فأغفلها.
260
١٣٦٥ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (إلا أماني)، يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا.
١٣٦٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) : إلا كذبا.
١٣٦٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣٦٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا أماني)، يقول: يتمنون على الله ما ليس لهم.
١٣٦٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (إلا أماني)، يقول: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم.
١٣٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، [عن معاوية بن صالح]، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، يقول: إلا أحاديث.
١٣٧١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب. أماني يتمنونها.
١٣٧٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (إلا أماني)، يتمنون على الله ما ليس لهم.
١٣٧٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا أماني)، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.
* * *
261
قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل قوله: (إلا أماني)، بالحق، وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن"الأميين" الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا. (١)
* * *
و"التمني" في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال منه:"تمنيت كذا"، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما تغنيت ولا تمنيت"، (٢) يعني بقوله:"ما تمنيت"، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك.
* * *
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله: (إلا أماني) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: (وإن هم إلا يظنون). فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم"يتلونه"، لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه:"يشتهونه". لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد ﷺ من اليهود -فيما بلغنا-
(١) في المطبوعة: "وأنهم لا يفقهون" بزيادة الواو، وهو خطأ لا يستقيم، والصواب ما أثبته من ابن كثير ١: ٢١٦.
(٢) في الفائق ١: ١٦٣ عن عثمان رضي الله عنه: "قد اختبأت عند الله خصالا: إني لرابع الإسلام، وزوجني رسول الله ﷺ ابنته ثم ابنته، وبايعته بيدي هذه اليمنى فما مسست بها ذكرى، وما تغنيت ولا تمنيت، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا إسلام". وروى الطبري في تاريخه في خبر مقتله رضي الله عنه ٥: ١٣٠، أن الرجل الذي انتدب لقتله دخل عليه فقال له: "اخلعها وندعك. فقال: ويحك! ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعا قميصا كسانيه الله عز وجل".
262
شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك"المتمني" الذي هو في معنى"المشتهي" غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه. (١)
* * *
وإنما قيل: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، والأماني من غير نوع"الكتاب"، كما قال ربنا جل ثناؤه: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: ١٥٧] و"الظن" من"العلم" بمعزل. وكما قال: (وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى) [الليل: ١٩-٢٠]، وكما قال الشاعر: (٢)
ليس بيني وبين قيس عتاب... غير طعن الكُلَى وضرب الرقاب (٣)
وكما قال نابغة بني ذبيان:
حلفت يمينا غير ذي مَثْنَوية،... ولا علم إلا حسنَ ظن بصاحب (٤)
(١) في المطبوعة: "غير جائز"، والصواب إثبات الفاء.
(٢) هو عمرو بن الأيهم التغلبي النصراني، وقيل اسمه: عمير، وقيل هو أعشى تغلب. روي عن الأخطل أنه قيل له وهو يموت: على من تخلف قومك؟ قال: على العميرين. يعني القطامي عمير ابن أشيم، وعمير بن الأهتم.
(٣) سيبويه ١: ٣٦٥، والوحشيات رقم: ٥٥، ومعجم الشعراء: ٢٤٢، وحماسة البحتري: ٣٢، وانظر تحقيق الراجكوتي في سمط اللآلئ: ١٨٤. والشعر يقوله في هجاء قيس عيلان يقول فيها: قاتل الله قيس عيلان طرا... ما لهم دون غدرة من حجاب
ثم إن سيبويه أنشد البيت برفع"غير"، على البدل من"عتاب"، اتساعا ومجازا.
(٤) ديوانه: ٤٢، وسيبويه ١: ٣٦٥، وغيرهما، وروايتهم جميعا: "بصاحب"، وكان في الأصل المطبوع"بغائب"، وأظن أن ما كان في الطبري خطأ من النساخ، لأنه لا يتفق مع الشعر. فالنابغة يمدح بهذه الأبيات عمرو بن الحارث الأعرج الغساني، فيقول قبله: على لعمرو نعمة بعد نعمة... لوالده، ليست، بذات عقارب
حلفت يمينا...........................
لئن كان للقبرين: قبر بجلق... وقبر بصيداء الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه... ليلتمسن بالجيش دار المحارب
وقوله: "مثنوية" أي استثناء. فهو يقول لعمرو: حلفت يمينا لئن كان من هو - من ولد هؤلاء الملوك من آبائه، الذين عدد قبورهم ومآثرهم - ليغزون من حاربه في عقر داره وليهزمنه، ولم أقل هذا عن علم إلا ما عندي في صاحبي من حسن الظن. فرواية الطبري لا تستقيم، إن صحت عنه.
263
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب. (١)
ويخرجُ بـ "إلا" ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه. ويسمي ذلك بعض أهل العربية"استثناء منقطعا"، لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد"إلا" عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك، في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان"إلا""لكن"؛ فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول، ألا ترى أنك إذا قلت: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) ثم أردت وضع "لكن" مكان "إلا" وحذف "إلا"، وجدت الكلام صحيحا معناه، صحته وفيه"إلا"؟ وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني. يعني: لكنهم يتمنون. وكذلك قوله: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن)، لكن اتباع الظن، بمعنى: لكنهم يتبعون الظن. وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا.
* * *
وقد ذكر عن بعض القَرَأَة أنه قرأ: (٢) (إلا أماني) مخففة. ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم"المفتاح""مفاتح"، و"القرقور"،"قراقر"، (٣) وأن
(١) انظر سيبويه ١: ٣٦٣ - ٣٦٦"هذا باب يختار فيه النصب، لأن الآخر ليس من نوع الأول". ثم الباب الذي يليه: "هذا باب ما لا يكون إلا على معنى: ولكن".
(٢) في المطبوعة: "بعض القراء" و"لإجماع القراء"، ورددته إلى ما جرى عليه الطبري آنفًا.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء: ١: ٤٩.
264
ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية - أعني من"الأماني" - كما جمعوا"الأثفية""أثافي" مخففة، كما قال زهير بن أبي سلمى:
أثافيَ سُفْعا في مُعَرَّسِ مِرْجَل ونُؤْيا كجِذم الحوض لم يَتَثَلَّم (١)
وأما من ثقل: (أماني) فشدد ياءها، فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم"المفتاح مفاتيح، والقرقور قراقير، والزنبور زنابير"، فاجتمعت ياء"فعاليل" ولامها، وهما جميعا ياآن، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا ياء واحدة مشددة.
* * *
فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك، فتشديد ياء"الأماني"، لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم، غير مدفوعة صحته - وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك. (٢) وكفى دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها، (٣) إجماعها على تخطئته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن هم إلا يظنون)، وما هم، كما قال جل ثناؤه: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم: ١١]، يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم.
* * *
ومعنى قوله: (إلا يظنون) : إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. و"الظن" - في هذا الموضع- الشك.
(١) ديوانه: ٧ المرجل: قدر يطبخ فيها، ومعرس المرجل: حيث يقام فيه، من التعريس: وهو النزول والإقامة، وسفع جمع أسفع: والسفعة: سواد تخالطه حمرة، من أثر النار ودخانها. والنؤي: ما يقام من الحجارة حول الخباء حتى لا يدخله ماء المطر. وجذم الحوض: حرفه وأصله. يعني: النؤي قد ذهب أعلاه وبقى أصله لم يتحطم، كبقايا الحوض. يقول: عرفت الدار بهذه الآثار، قبله: "فلأيا عرفت الدار بعد توهم"، "ونصب"أثافي" بقوله: "توهم".
(٢) سياق العبارة: لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة.. وعلى شذوذ القارئ بتخفيفها" على العطف.
(٣) في المطبوعة: "وكفى خطأ على قارئ ذلك"، وهو ليس بكلام صحيح، والصواب ما أثبته، استظهار من عبارة الطبري، فيما سلف من أشباه ذلك.
265
فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه، إلا تخرصا وتقولا على الله الباطل، ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل.
* * *
وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم محقون وهم مبطلون، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله، ولم تكن من كتاب الله، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعون ما هم فيه شاكون، وفي حقيقته مرتابون، مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله، ومخالفة منهم لأمر الله، واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (وإن هم إلا يظنون)، قال فيه المتأولون من السلف:
١٣٧٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن هم إلا يظنون) إلا يكذبون.
١٣٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٣٧٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
١٣٧٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون)، أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن.
١٣٧٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وإن هم إلا يظنون)، قال: يظنون الظنون بغير الحق.
١٣٧٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
266
الربيع، عن أبي العالية قال: يظنون الظنون بغير الحق.
١٣٨٠ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فويل). فقال بعضهم بما:-
١٣٨١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس (فويل)، يقول: فالعذاب عليهم. (١)
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣٨٢ - حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم. (٢)
١٣٨٣ - حدثنا بشر بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض في قوله: (فويل)، قال: صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم. (٣)
(١) في المطبوعة: "فويل لهم". والصواب حذف"لهم"، ليست من الآية هنا.
(٢) الخبر: ١٣٨٢ - سفيان: هو الثوري. زياد بن فياض الخزاعي: ثقة، مات سنة ١٢٩. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ / ١ /٣٣٤، وابن أبي حاتم ١ / ٢ /٥٤٢. أبو عياض: هو عمرو بن الأسود العنسي، تابعي ثقة، كان من عباد أهل الشأم وزهادهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٢٢٠ - ٢٢١.
(٣) الخبر: ١٣٨٣ - بشر بن أبان الحطاب، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدى من المراجع.
267
١٣٨٤ - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، حدثنا سفيان عن زياد بن فياض، عن أبي عياض قال: الويل، واد من صديد في جهنم. (١)
١٣٨٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن شقيق قال: (ويل)، ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٣٨٦ - حدثنا به المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري. قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله ﷺ قال:"الويل جبل في النار". (٢)
(١) الخبر: ١٣٨٤ - علي بن سهل الرملي، شيخ الطبري: ثقة، مات سنة ٢٦١. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ /١٨٩. وزيد بن أبي الزرقاء الموصلي، نزيل الرملة: ثقة، مات سنة ١٩٤. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ /١ /٣٦١، وابن أبي حاتم ١ / ٢/ ٥٧٥. سفيان هو الثوري. "عن زياد بن فياض"، كالإسنادين اللذين قبله. وفي المطبوعة: "سفيان بن زياد بن فياض"، وهو تحريف.
(٢) الحديث: ١٣٨٦ - هذا الإسناد مشكل. ووقع فيه هنا خطأ. من الناسخ أو الطابع، صححناه من الرواية الآتية: ١٣٩٥ فقد كان فيه"حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر"؛ وصوابه"عن عبد الحميد بن جعفر"، كما هو بديهي.
أما ما أشكل علينا فيه: فراويان لم نجد لهما ذكرا ولا ترجمة.
أحدهما:"إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري". وسيأتي في الإسناد الآخر"إبراهيم بن عبد السلام" فقط. ولم أستطع أن أعرف من هو؟ وقد نقل ابن كثير ١: ٢١٧ الحديث الآتي: ١٣٩٥، وأكمل نسب هذا الشيخ، ولكنه وقع فيه هكذا "إبراهيم بن عبد السلام، حدثنا صالح القشيري"! وأنا لست على ثقة من دقة التصحيح في طبعة تفسير ابن كثير، وأرى أن ما نسخة الطبري أقرب إلى الصحة.
الراوي الآخر:"على بن جرير". وقد أتعبنى أن أعرف من هو؟ مع البحث في كل المراجع، وتقليبه على كل الاحتمالات.
أما عبد الحميد بن جعفر: فإنه الأنصاري الأوسى المدني، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما، مات سنة ١٥٣، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ /١٠. و"كنانة العدوي": هو كنافة ابن نعيم، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ١ /٢٣٦، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ /١٦٩. ولكني أخشى أن لا يكون أدرك عثمان بن عفان، فإنهم لم يذكروا له رواية إلا عن أبي برزة الأسلمي وقصيبة بن المخارق، وهما متأخران كثيرا عن عثمان.
وأيا ما كان، فهذا الحديث لا أظنه مما يقوم إسناده. وهو مختصر من الحديث الآتي: ١٣٩٥. والحافظ ابن كثير حين ذكره عن الطبري، وصفه بأنه"غريب جدا". وقد ذكره السيوطي أيضًا ١: ٨٢، ولم ينسباه لغير الطبري. فالله أعلم.
268
١٣٨٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال:"ويل" واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره". (١)
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية - على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل (ويل) -: فالعذاب = الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم = لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله.
* * *
(١) الحديث: ١٣٨٧ - إسناده صحيح. عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري: ثقة حافظ متقن، مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧ / ٢ / ٢٠٣ وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٢٢٥. دراج، بفتح الدال وتشديد الراء: هو ابن سمعان، أبو السمح، المصري القاص، وهو ثقة، فيه خلاف كثير. والراجح عندنا أنه ثقة، كما بينا ذلك في شرح المسند: ٦٦٣٤، وفي تعليقنا على تهذيب السنن: ٢٣٨٨. أبو الهيثم: هو سليمان بن عمرو العتواري المصري، كان يتيما لأبي سعيد الخدري، وكان في حجره. وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ / ٢ / ٢٨ - ٢٩، وابن أبي حاتم ٢ /١ / ١٣١ - ١٣٢.
والحديث رواه ابن أبي حاتم - كما نقل عنه ابن كثير ١: ٢١٧ - عن يونس بن عبد الأعلى، شيخ الطبري هنا، بهذا الإسناد.
ورواه الحاكم في المستدرك ٤: ٥٩٦، من طريق بحر بن نصر. عن ابن وهب، بهذا الإسناد، بزيادة في آخره. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ورواه أحمد في المسند: ١١٧٣٥ (ج ٣ ص ٧٥ حلبي)، عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، به، بزيادة في آخره. وقال ابن كثير - عقب رواية ابن أبي حاتم: "ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن الحسن بن موسى.. وقال هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. قلت [القائل ابن كثير] : لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى. ولكن الآفة ممن بعده! وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا - منكر"!
أقول: وابن كثير يريد بذلك جرح دراج أبي السمح، وجعله علة الحديث. والصحيح ما ذهبنا إليه. وقد رواه ابن حبان في صحيحه أيضًا. كما في الدر المنثور ١: ٨٢.
269
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل، وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله - لطلب عرض من الدنيا خسيس، فقال الله لهم: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)، كما:-
١٣٨٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا)، قال: كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنا قليلا.
١٣٨٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله"ليشتروا به ثمنا قليلا". قال: عرضا من عرض الدنيا.
١٣٩٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)، قال: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله، يحرفونه.
١٣٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، إلا أنه قال: ثم يحرفونه.
270
١٣٩٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن قتادة: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) الآية، وهم اليهود.
١٣٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)، قال: كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم، ليتأكلوا الناس، فقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله. (١)
١٣٩٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا)، قال: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد ﷺ فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا، فقال: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
١٣٩٥ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)، الويل: جبل في النار، وهو الذي أنزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد ﷺ من التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). (٢)
١٣٩٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي
(١) يقال فلان يستأكل الضعفاء: يأخذ أموالهم ويأكلها. أما قوله: "ليتأكلوا"، فلم أجد في المعاجم"يتأكل"، فإن صح نص الطبري، وإلا فهي عربية معرقة، صح أو لم يصح.
(٢) الحديث: ١٣٩٥ - مضى الكلام فيه مفصلا: ١٣٨٦.
271
أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار. قال: ويل، واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة حره. (١)
* * *
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: (٢) (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء - القوم الذين قص الله قصتهم - أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟
قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: كتب فلان إلى فلان بكذا"، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف إليه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) عباده المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، (٣) تَكَذُّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: (يكتبون الكتاب بأيديهم)، أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل:"باعني فلان عينُه كذا وكذا، فاشترى فلان نفسه كذا"، يراد بإدخال"النفس والعين" في ذلك، نفي اللبس عن سامعه، أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره، (٤)
ويوجب حقيقة الفعل للمخبر
(١) سيرت: أدخلت ودفعت لتسير. وانماع الملح في الماء: ذاب. وفي اللسان روى تفسير عطاء، وفيه: "لماعت"، أي ذابت وسالت.
(٢) في المطبوعة: "فما وجه فويل للذين.. "، كأنه سقط حرف من ناسخ أو طابع.
(٣) يقال: نحل فلان فلانا شعرا: نسبه إليه باطلا. وكره الطبري أن يقول ما لا يجوز لأحد في ذكر ربه سبحانه وتعالى، فانتهج طريقا في أساليب العربية، فقال: "فنحله إلى أنه من عند الله" أي نسبه باطلا إلى أنه من عند الله. ولم يعد الفعل إلى مفعوليه.
(٤) كان في المطبوعة: "أن يكون المتولى بيع ذلك وشراءه، غير الموصوف به بأمره" وهو كلام غير واضح ولا مفهوم، فآثرت أن أصححه ما استطعت.
272
عنه، فكذلك قوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فويل لهم مما كتبت أيديهم)، أي فالعذاب - في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم - لهم، يعني: للذين يكتبون الكتاب، الذي وصفنا أمره، من يهود بني إسرائيل محرفا، ثم قالوا: هذا من عند الله، ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم.
* * *
وقوله: (مما كتبت أيديهم)، يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك، وويل لهم أيضا (مما يكسبون)، يعني: مما يعملون من الخطايا، ويجترحون من الآثام، ويكسبون من الحرام، بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم، بخلاف ما أنزل الله، ثم يأكلون ثمنه، وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله، كما:-
١٣٩٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وويل لهم مما يكسبون)، يعني: من الخطيئة.
١٣٩٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (فويل لهم)، يقول: فالعذاب عليهم. قال: يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، (وويل لهم مما يكسبون)، يقول: مما يأكلون به من السفلة وغيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الكسب": العمل. فكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف، فهو كاسب لما عمل، كما قال لبيد بن ربيعة:
273
لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يُمَنُّ طعامُها (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وقالوا)، اليهود، يقول: وقالت اليهود: (لن تمسنا النار)، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن ندخلها،"إلا أياما معدودة". وإنما قيل"معدودة" وإن لم يكن مبينا عددها في التنزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها"معدودة" لما وصفنا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك * فقال بعضهم بما:-
١٣٩٩ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا
(١) من معلقته النبيلة. واللام في قوله"لمعفر"، ترده إلى البيت قبله:
خنساء ضيعت الفَرِيرَ، فلم يَرِم عُرض الشقائق طوفها وبُغَامها
والخنساء: البقرة الوحشية، والفرير: ولدها. والشقائق: أرض غليظة بين رملتين، أودعت هناك فيه ولدها. وطوفها طوافها حائرة. بغامها: صوتها صائحة باكية. ظلت تطوف وتنادي ولدها. وقوله:"لمعفر"، أي طوفها وبغامها من أجل"معفر". والمعفر: الذي ألقي في العفر، وهو التراب، صادت ولدها الذئاب. قهد: هو ولد البقر، لطيف الجسم أبيض اللون. والشلو: العضو من اللحم، أو الجسد كله. وغبس: غبر، وهي الذئاب. لا يمن طعامها: تكسب طعامها بنفسها، فلا يمن عليها أحد.
274
تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب والقسم.
١٤٠٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.
١٤٠١ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا، (١) نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه.
١٤٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
١٤٠٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل.
١٤٠٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله،
(١) نقيت الثوب (بتشديد القاف) وأنقيته نقاء فهو نقي: نظيف. و"استنقيته" ليست في المعاجم، ولكنها صحيحة البناء والمعنى.
275
أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك. (١) فذلك قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في الصَّعود في جهنم يرهقون. (٢)
١٤٠٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، إلا أربعين ليلة.
١٤٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله ﷺ فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله ﷺ بيده على رءوسهم (٣) "بل أنتم فيها خالدون، لا يخلفكم فيها أحد. فأنزل الله جل ثناؤه: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة).
١٤٠٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)،
(١) خلا يخلو: مضى وذهب وانقضى.
(٢) الصعود: مشقة العذاب، ولكنه أراد هنا ما قالوا: جبل في جهنم من جمرة واحدة، يكلف الكافر ارتقاءه، ويضرب بالمقامع، فكلما وضع عليه رجله ذابت إلى أسفل دركة، ثم تعود مكانها صحيحة، والله أعلم.
(٣) قال بيده: أشار. وقد مضى مثل ذلك مرارا.
276
- وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي ﷺ وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذبتم، بل أنتم فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا". (١)
١٤٠٨ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل.
١٤٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله ﷺ قال لهم:"أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، مَن أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة، فنمكث في النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا". فنزل القرآن تصديقا لقول النبي ﷺ وتكذيبا لهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا) إلى قوله: (هم فيها خالدون). (٢)
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
١٤١٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة، وإنها سبعة أيام. فأنزل الله في ذلك من
(١) الحديثان: ١٤٠٦، ١٤٠٧ - هما حديث واحد بإسنادين. ونسبه السيوطي أيضًا ١: ٨٤، لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وهو حديث مرسل، لا تقوم به حجة.
(٢) الحديث: ١٤٠٩ - هو حديث مرسل أيضًا.
277
قولهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) الآية.
١٤١١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (لن تمسنا النار) الآية.
١٤١٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
١٤١٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا، وسائر الحديث مثله.
١٤١٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة يوما. يهود تقوله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: (لن تمسنا النار إلا أياما
278
معدودة) - على ما قد بينا من تأويل ذلك - قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر اليهود: (أتخذتم عند الله عهدا) : أأخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده، أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:-
١٤١٥ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل أتخذتم عند الله عهدا) أي: موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
١٤١٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٤١٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: (أتخذتم عند الله عهدا)، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟
١٤١٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله جل ثناؤه لمحم، قل"أتخذتم عند الله عهدا"، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا، ثم متم على ذلك، لكان لكم ذخرا عندي، ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها.
١٤١٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله عز وجل: (قل أتخذتم
279
عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) - وقال في مكان آخر: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). [آل عمران: ٢٤]، ثم أخبر الخبر فقال: (بلى من كسب سيئة).
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: (قل أتخذتم عند الله عهدا). لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به، الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به: أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار، فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه، فمتفق المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾
قال أبو جعفر: وقوله: (بلى من كسب سيئة) تكذيب من الله القائلين من اليهود: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، فمخلده في النار، (١) فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده * كما:-
١٤٢٠ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
* * *
قال أبو جعفر: وأما (بلى)، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما
(١) في المطبوعة: "أنه يعذب.. فمخلد في النار"، والصواب ما أثبته.
280
"نعم" إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها"بل" التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك:"ما قام عمرو بل زيد". فزيد فيها"الياء" ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت"بل" لا يصلح عليها الوقوف، إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد. ولتكون - أعني"بلى" - رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فدلت"الياء" منها على معنى الإقرار والإنعام. (١) ودل لفظ"بل" عن الرجوع عن الجحد. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما"السيئة" التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك بالله * كما:-
١٤٢١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال، حدثني عاصم، عن أبي وائل: (بلى من كسب سيئة)، قال: الشرك بالله.
١٤٢٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بلى من كسب سيئة) شركا.
١٤٢٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٤٢٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (بلى من كسب سيئة)، قال: أما السيئة فالشرك.
١٤٢٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
١٤٢٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) الإنعام: التصديق. يقال: أنعم: أجاب بقوله: نعم. وهو تصديق.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٥٢ - ٥٣، وقد عد الطبري الحرف الآخر من"بلى""ياء"، وعدها الفراء"ألفا".
281
السدي: (بلى من كسب سيئة)، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار.
١٤٢٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: (بلى من كسب سيئة)، قال: الشرك - قال ابن جريج قال، قال مجاهد: (سيئة) شركا.
١٤٢٨ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (بلى من كسب سيئة)، يعني: الشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن"السيئة" - التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها - في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما، (١) لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) - قوله - (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون). فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان.
* * *
فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار الله = أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا، ومدخلُنا المُدخلَ الكريم = ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: (بلى من كسب سيئة)، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا
(١) انظر تفسير"الظاهر" فيما سلف: ٢: ١٥ والمراجع.
282
كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: (بلى من كسب سيئة) ؟
قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعنيَّ بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذرَ من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها. فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية يأتي عاما في صنف ظاهرها، وهي خاص في ذلك الصنف باطنها. (١)
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالَنا منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"الظاهر والباطن" آنفًا: ٢: ١٥ والمراجع.
(٢) هذا رد على المعتزلة، في إيجابهم خلود أهل الإيمان في النار. ورجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض، مما جاء في الأخبار، ولم يأت به نص قرآن.
283
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وأحاطت به خطيئته)، اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها.
* * *
وأصل"الإحاطة بالشيء"، الإحداق به، بمنزلة"الحائط" الذي تحاط به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: (نارا أحاط بهم سرادقها) [الكهف: ٢٩].
* * *
فتأويل الآية إذًا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٢٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي روق، عن الضحاك: (وأحاطت به خطيئته)، قال: مات بذنبه.
١٤٣٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: (وأحاطت به خطيئته)، قال: مات عليها. (١)
١٤٣١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (وأحاطت به خطيئته)، قال: يحيط كفره بما له من حسنة.
١٤٣٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى،
(١) الخبر: ١٤٣٠ - الربيع بن خثيم الثوري الكوفي: من كبار التابعين وخيارهم، ثقة لا يسأل عن مثله. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ / ١ /٢٤٦ وابن أبي حاتم ١/ ٢ /٤٥٩. وأبوه "خثيم" بضم الخاء المعجمة مصغر، كما ضبطه ابن دريد في الاشتقاق: ١١٢ - ١١٣، والحافظ في التقريب، ووقع في المطبوعة"خيثم" بتقديم الياء على الثاء، وبذلك ضبطه صاحب الخلاصة. وهو خطأ صرف.
284
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأحاطت به خطيئته)، قال: ما أوجب الله فيه النار.
١٤٣٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وأحاطت به خطيئته)، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة.
١٤٣٤ - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق [قال، أخبرنا معمر]، عن قتاده: (وأحاطت به خطيئته)، قال: الخطيئة: الكبائر.
١٤٣٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم، عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: (وأحاطت به خطيئته)، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة.
١٤٣٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار.
١٤٣٧ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: (وأحاطت به خطيئته)، قال: مات بخطيئته.
١٤٣٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا مسعود أبو رزين، عن الربيع بن خثيم في قوله: (وأحاطت به خطيئته)، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.
١٤٣٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: (وأحاطت به خطيئته)، مات بذنوبه.
١٤٤٠ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وأحاطت به خطيئته)، الكبيرة الموجبة.
285
١٤٤١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أحاطت به خطيئته)، فمات ولم يتب.
١٤٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: (وأحاطت به خطيئته)، قال: الشرك، ثم تلا (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل: ٩٠]. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم، أصحاب النار هم فيها خالدون.
* * *
ويعني بقوله جل ثناؤه: (أصحاب النار)، أهل النار، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره = بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة = لها أصحابا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به.
* * *
(هم فيها)، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: (خالدون) مقيمون * كما:
١٤٤٣ - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (هم فيها خالدون)، أي خالدون أبدا.
١٤٤٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
(١) انظر ما مضى في كلامه عن"الخطيئة" في هذا الجزء ٢: ١١٠.
286
عن السدي: (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها أبدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والذين آمنوا)، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: (وعملوا الصالحات)، أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: (فأولئك)، فالذين هم كذلك (أصحاب الجنة هم فيها خالدون)، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها (خالدون)، مقيمون أبدا.
* * *
وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها، [وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها]، (١) ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها، تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة * كما:-
١٤٤٥ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
١٤٤٦ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لسياقة الكلام.
قال ابن زيد: (والذين آمنوا وعملوا الصلحات)، محمد ﷺ وأصحابه -"أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن"الميثاق""مفعال" من"التوثق باليمين" ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. (١) فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:-
١٤٤٧ - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) -أي ميثاقكم- (لا تعبدون إلا الله).
* * *
قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله (٢) (لا تعبدون). فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال (لا تعبدون) و (لا يعبدون) وهم غَيَب، (٣) لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول:"استحلفت أخاك ليقومن" فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول:"استحلفته لتقومن"، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا.
(١) انظر ما سلف ١: ٤١٤، وهذا الجزء ٢: ١٥٦.
(٢) في المطبوعة: "والقراء مختلفة"، ورددتها إلى ما جرى عليه الطبري في كل ما سلف.
(٣) غيب (بفتح الغين والياء) جمع غائب، مثل خادم وخدم.
288
فكذلك قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) و (لا يعبدون). من قرأ ذلك"بالتاء" فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ"بالياء" فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
* * *
وأما رفع"لا تعبدون"، فبالتاء التي في"تعبدون"، ولا ينصب بـ "أن" التي كانت تصلح أن تدخل مع (لا تعبدون إلا الله). لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) [الزمر: ٦٤]، فرفع"أعبد" إذ لم تدخل فيها"أن" - بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر: (١)
ألا أيهذا الزاجري أحضرُ الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي (٢)
فرفع"أحضر" وإن كان يصلح دخول"أن" فيها -إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنما صلح حذف"أن" من قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون)، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها - منها. (٣)
* * *
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، حكاية، كأنك قلت: استحلفناهم: لا تعبدون، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون - وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك.
(١) هو طرفة بن العبد.
(٢) ديوانه: ٣١٧ (أشعار الستة الجاهليين)، من معلقته النفيسة وسيأتي في ٢١: ٢٢ / ٣٠: ١٣٠ (بولاق)، وسيبويه ١: ٤٥٢.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٥٣ - ٥٤.
289
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره.
١٤٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
١٤٥٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (وبالوالدين إحسانا) عطف على موضع"أن" المحذوفة في (لا تعبدون إلا الله). فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع (لا تعبدون) لما حذف"أن"، ثم عطف بالوالدين على موضعها، كما قال الشاعر: (٢)
معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٣)
(١) قوله تعالى في سورة المائدة: ١٢: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) إلى آخر الآية.
(٢) عقيبة بن هبيرة الأسدي، جاهلي إسلامي.
(٣) سيبويه ١: ٣٤، ٣٧٥، ٤٤٨، والخزانة ١: ٣٤٣، وسمط اللآلئ: ١٤٩ وفيه تحقيق جيد. وهذا البيت مما أخطأ فيه سيبويه، وكان عقيبة وفد على معاوية، ودفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات:
معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد
فهبها أمة ذهبت ضياعا يزيد أميرها وأبو يزيد
أكلتم أرضنا فجردتموها فهل من قائم أو من حصيد ؟
ذروا خَوْنَ الخلافة واستقيموا وتأمير الأراذل والعبيد
وأعطونا السوية، لا تزركم جنود مردفات بالجنود
فدعاه معاوية فقال له: ما أجرأك علي؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك. فقال معاوية: ما أظنك إلا صادقا.
290
فنصب"الحديد" على العطف به على موضع"الجبال"، لأنها لو لم تكن فيها"باء" خافضة كانت نصبا، فعطف بـ "الحديد" على معنى "الجبال"، لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله: (وبالوالدين إحسانا).
* * *
وأما"الإحسان" فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: (وبالوالدين)، إذ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف -: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله: (وبالوالدين) من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا، فجعل"الباء" التي في"الوالدين" من صلة الإحسان، مقدمة عليه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن"الباء" التي في"الوالدين" من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما يقال:"أحسن فلان
291
إلى والديه" ولا يقال: أحسن بوالديه، إلا على استكراه للكلام.
ولكن القول فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره. (١)
* * *
فإن قال قاتل: وما ذلك"الإحسان" الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وذي القربي)، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.
* * *
و"القربي" مصدر على تقدير"فعلى"، من قولك،"قربت مني رحم فلان قرابة وقربي وقربا"، بمعنى واحد.
* * *
وأما"اليتامى". فهم جمع"يتيم"، مثل"أسير وأسارى". ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث.
* * *
ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي: أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم.
(١) انظر ما سلف ١: ١٣٨.
292
* * *
و"المسكين"، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة، وهو"مفعيل" من"المسكنة". و"المسكنة" هي ذل الحاجة والفاقة. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾
قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: (وقولوا للناس حسنا)، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي. فلو كان مكان:"لا تعبدون إلا الله"، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول.
فكان معنى الكلام -لو كان مقروءا كذلك-: وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: ٦٣]. فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: (لا تعبدون إلا الله)، عطف بقوله: (وقولوا للناس حسنا)، على موضع (لا تعبدون)، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه، (٢) لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع"لا تعبدون". فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه، (٣) ثم تعود إلى الخبر على
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء: ٢: ١٣٧.
(٢) في المطبوعة:"ومعناه" بزيادة الواو، والصواب حذفها.
(٣) في المطبوعة: "في موضع الحكايات كما أخبرت عنه"، والصواب ما أثبته.
293
وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، (١) كما قال الشاعر: (٢)
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّت (٣)
يعني: تقليت.
* * *
وأما"الحسن" فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. (٤) فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: (وقولوا للناس حَسَنا) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: (حُسْنا) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: "وقولوا للناس " حُسْنَى " على مثال "فُعلى".
* * *
واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: "حُسْنا" و"حَسَنا". فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ"الحَسَن" "الحُسن" وكلاهما لغة، كما يقال: "البُخل والبَخَل"، وإما أن يكون جعل "الحُسن" هو "الحَسن" في التشبيه. وذلك أن الحُسن "مصدر" و "الحَسن" هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك:"إنما أنت أكل وشرب"، وكما قال الشاعر: (٥)
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع (٦)
(١) انظر ما سلف ١: ١٥٣ - ١٥٤، وسيأتي في هذا الجزء ٢: ٣٥٧.
(٢) هو كثير عزة.
(٣) ديوانه ١: ٥٣ من قصيدته المشهورة. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه وأبغضه. وتقلى تبغض، أي استعمل من الفعل أو القول ما يدعو إلى بغضه.
(٤) في المطبوعة: "فإن القراء"، ورددته إلى ما مضى عليه أبو جعفر في عبارته، كما سلف مرارا.
(٥) يقال هو: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. (الخزانة ٤: ٥٦)، وليس في قصيدته التي على هذا الوزن في الأصمعيات: ٤٣، ولكنه أتى في نوادر أبي زيد: ١٤٩ - ١٥٠ أنه لعمرو بن معد يكرب. فكأنه له، وكأنه سقط من رواية الأصمعي، وهو في رواية غيره.
(٦) نوادر أبي زيد: ١٥٠، وسيبويه ١: ٣٦٥، ٤٢٩ والخزانة ٤: ٥٣. وغيرها.
294
فجعل"التحية" ضربا.
وقال آخر: بل "الحُسن" هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن. و"الحسن" هو البعض من معاني"الحُسن". قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: ٨] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحُسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: (وقولوا للناس حسنا)، يعني بذلك بعض معاني الحُسن.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى"الحسن" بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما"الحسن" فإنه صفة وقعت لما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك، فالصواب من القراءة في قوله: (وقولوا للناس حَسنا)، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم:"وقولوا للناس" باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين، على قراءته بضم الحاء وسكون السين.
* * *
وأما الذي قرأ ذلك: (وقولوا للناس حسنى)، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ "فعلى" "وأفعل" إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال:"جاءني أحسن"، حتى يقولوا:"الأحسن". ولا يقال:"أجمل"، حتى يقولوا،"الأجمل". وذلك أن"الأفعل والفعلى"، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى". وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى، ورجل أحسن.
* * *
وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل
295
في هذه الآية، أن يقولوه للناس، (١) فهو ما:-
١٤٥١ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقولوا للناس حسنا)، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بـ "لا إله إلا الله" من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
١٤٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وقولوا للناس حسنا)، قال، قولوا للناس معروفا.
١٤٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (وقولوا للناس حسنا)، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم.
١٤٥٤ - وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: (وقولوا للناس حسنا)، قال: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. (٢)
١٤٥٥ - حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح، عن قول الله جل ثناؤه: (وقولوا للناس حسنا)، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر، فقال مثل ذلك. (٣)
١٤٥٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك،
(١) في المطبوعة: "لأن يقولوه للناس" بزيادة اللام، فاسدة.
(٢) الأثر: ١٤٥٤ - أخشى أن يكون سقط من إسناده شيء.
(٣) الخبر: ١٤٥٥ - هارون بن إدريس الأصم، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة، ولا وجدته في مكان، إلا في رواية الطبري عنه في التاريخ أيضًا ١: ٢٥٣، و٢: ١٢٦. روى عنه، عن المحاربي. عبد الملك بن أبي سليمان: هو العرزمي، أحد الأئمة الثقات الحفاظ. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ /٣٦٦ - ٣٦٨.
296
عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: (وقولوا للناس حسنا)، قال: للناس كلهم.
١٤٥٧ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وأقيموا الصلاة)، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها * كما:-
١٤٥٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود قال: (وأقيموا الصلاة)، هذه و"إقامة الصلاة" تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى"الزكاة" وما أصلها. (٢)
* * *
وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية، فهي ما:-
١٤٥٩ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وآتوا الزكاة)، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار
(١) انظر ما سلف ١: ٢٤١، ٥٧٣.
(٢) انظر ما سلف ١: ٥٧٣ - ٥٧٤.
297
فتحملها، فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.
١٤٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وآتوا الزكاة)، يعني"بالزكاة": طاعة الله والإخلاص.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:-
١٤٦١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم، وهم الذين استثنى الله فقال: (ثم توليتم)، يقول: أعرضتم عن طاعتي، (إلا قليلا منكم)، قال: القليل الذين اخترتهم
298
لطاعتي، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. (١).
١٤٦٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون)، أي تركتم ذلك كله.
* * *
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: (وأنتم معرضون)، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: (ثم توليتم إلا قليلا منكم) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم -على ما ذكرناه فيما مضى قبل- (٢) ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.
* * *
وقال آخرون: بل قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون)، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.
* * *
(١) انظر معنى "تولى" فيما سلف من هذا الجزء ٢: ١٦٢.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٨، ٣٩ ثم: ١٦٤، ثم: ٢٤٥، ثم ٣٠٢.
299
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) في المعنى والإعراب نظير قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله).
* * *
299
وأما"سفك الدم"، فإنه صبه وإراقته.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذ كانت ملتهما [واحدة، فهما] بمنزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام: (١)
١٤٦٣ -"إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". (٢)
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم)، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة:"أنت جنيت هذا على نفسك".
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)، أي: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.
(١) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام.
(٢) الحديث: ١٤٦٣ - هكذا رواه الطبري معلقا. والظاهر أنه رواه بالمعنى أيضًا. ولفظه في صحيح مسلم ٢: ٢٨٤، من حديث النعمان بن بشير: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وكذلك رواه أحمد في المسند (٤: ٢٧٠ حلبي). ورواه البخاري بنحو معناه ١٠: ٣٦٧ (من الفتح).
300
١٤٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.
١٤٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: (لا تسفكون دماءكم)، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ثم أقررتم)، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-
١٤٦٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ثم أقررتم)، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.
١٤٦٨ - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: (وأنتم تشهدون). فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: (ثم أقررتم)،
301
يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، (وأنتم تشهدون) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حُكي معنى هذا القول عنه، ابنُ عباس.
١٤٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أن هذا حق من ميثاقي عليكم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مُخرج المخاطبة، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها، التي قد بينا تأويلها فيما مضى. (١)
* * *
وتأولوا قوله: (وأنتم تشهدون)، على معنى: وأنتم شهود.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: (وأنتم تشهدون)، يقول: وأنتم شهود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن يكون قوله: (وأنتم تشهدون) خبرا عن أسلافهم، وداخلا فيه المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) خبرا عن أسلافهم، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢) لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى ﷺ من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم
(١) انظر ما سلف: ٢: ٢٩٨، تعليق: ٢، والمراجع.
(٢) في المطبوعة: "بأن كان خطابا.. "، وهو لا يستقيم.
302
ذلك الميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، (١) بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون). فإذْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا ﷺ منهم، (٢) فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض. والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك، (٣) فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها، أعني قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية. لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) وجهان. أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك"يا" استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [يوسف: ٢٩]، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم
(١) سياق العبارة: "وتكذيبهم ما وكدوا من العهود على أنفسهم بالوفاء له.. "، فقدم وأخر.
(٢) في المطبوعة: "فإن كان خارجا.. " وهو تصحيف لا يستقيم.
(٣) في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك"، وهو تصحيف لا يستقيم أيضًا.
303
من دياركم، ثم أقررتم = بعد شهادتكم على أنفسكم = (١) بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، متعاونين عليهم، في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان. (٢)
* * *
والتعاون هو"التظاهر". وإنما قيل للتعاون"التظاهر"، (٣) لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو"تفاعل" من"الظهر"، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.
* * *
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن"أنتم". وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم"بهؤلاء"، كما تقول العرب:"أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس"، (٤) وإذْ قيل:"أنا هذا أجلس" كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك تقوم".
وقد زعم بعض البصريين أن قوله"هؤلاء" في قوله: (ثم أنتم هؤلاء)، تنبيه وتوكيد لـ "أنتم". وزعم أن"أنتم" وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا بـ "هؤلاء" و"أولاء"، (٥) لأنها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يَأطر متنه:... تبين خُفافا إنني أنا ذلكا (٦)
يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
(١) في المطبوعة: "ثم أقررتم وبعد شهادتكم.. " والواو لا مكان لها هنا.
(٢) في المطبوعة"متعاونين عليه في إخراجكم.. "، وهذا سهو.
(٣) في المطبوعة: " وإنما قيل التعاون التظاهر.. " وهذا لا شيء.
(٤) في المطبوعة: "ولوقيل. أنا هذا أجلس". والصواب ما أثبت.
(٥) في المطبوعة: "وأولى"، وهو خطأ. ويعني قوله تعالى في سورة آل عمران: ١١٩: "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، وقوله تعالى في سورة طه: ٨٤: " قال هم أولاء على أثرى".
(٦) مضى تخريجه فيما سلف ١: ٢٢٧.
304
بِهِمْ) [يونس: ٢٢]
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن عَني بقوله: (وأنتم تشهدون) * ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
١٤٧١ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) إلى أهل الشرك، (١) حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم. (٢) قال: أنبهم الله [على ذلك] من فعلهم، (٣) وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، (٤) لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم، تصديقا لما في التوراة، وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس،
(١) في تفسير ابن كثير ١: ٢٢٣، والدر المنثور ١: ٨٦: "أي أهل الشرك"، والصواب ما في الطبري، وقوله: "إلى أهل الشرك"، أي تخرجون فريقا منكم - إلى أهل الشرك.
(٢) في المطبوعة: "فقال أنبهم"، والأجود حذفها.
(٣) ما بين القوسين زيادة لا بد منها. وأما ابن كثير في تفسيره ١: ٢٢٣ فكتب: "أنبأهم الله بذلك من فعلهم"، وهو تحريف.
(٤) في المطبوعة: "أهل الشرك"، والصواب في سيرة ابن هشام ٢: ١٨٨، وابن كثير ١: ٢٢٤.
305
وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء، (١) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، (٢) مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك: (٣) (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، (٤) ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه - ابتغاء عرض من عرض الدنيا.
ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصة. (٥)
١٤٧٢ - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه، فأعتقوه. (٦) فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمير. (٧) فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى
(١) طل دمه وأطله: أهدره وأبطله.
(٢) في المطبوعة: "وقتلوا من قتلوا.. "، والصواب من ابن هشام ٢: ١٨٩.
(٣) في المطبوعة: "أنباهم بذلك"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام ٢: ١٨٩، وسترى ذلك في تفسير الآية نفسها بعد.
(٤) في المطبوعة: "من ذلك"، وهو محض خطأ.
(٥) هذه الجملة الأخيرة من كلام ابن إسحاق، لا من كلام ابن عباس.
(٦) في المطبوعة: "بما قدم يمينه فأعتقوه". وهو كلام من السقم بمكان. يقال: قامت الأمة مئة دينار، أي بلغت قيمتها مئة دينار. ويقال: كم قامت أمتك؟ أي كم بلغت؟ ووجدتها في تفسير البغوي على الصواب: "بما قام من ثمنه" ١: ٢٢٤ (بهامش تفسير ابن كثير).
(٧) حرب سُمير. كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج. وسُمير رجل من بني عمرو بن عوف. وانظر خبر هذه الحرب في الأغاني ٣: ١٨: ٢٦.
306
يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان).
١٤٧٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه المثابة، (١) وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا، وافترقت قريظة والنضير، فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس، فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضا، فقال الله جل ثناؤه: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) الآية.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٤٧٤ - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما "العدوان" فهو"الفعلان" من"التعدي"، يقال منه:"عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداء"، وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا.
* * *
وقد اختلف الْقَرَأَة في قراءة: (تظاهرون). (٢) فقرأها بعضهم:"تظاهرون" على مثال"تفاعلون" فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون:
(١) المثابة: يعني المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمثابة المنزل، لأن أهله يتصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه، يرجعون إليه. وقال الله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا"
(٢) في المطبوعة: "وقد اختلف القراء"، ورددتها إلى منهج الطبري.
307
(تظَّاهرون)، فشدد، بتأويل: (تتظاهرون)، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما، فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما، فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارئ، لأنهما جميعا لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا أن يختار مختار"تظاهرون" المشددة طلبا منه تتمة الكلمة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم) اليهود. يوبخهم بذلك، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها، فقال لهم: ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم = يعني به: يقتل بعضكم بعضا = وأنتم، مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونه، (١) ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [حرام عليكم]، (٢) فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم، وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء. (٣) لأن الذي حرمت عليكم
(١) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ.
(٢) الزيادة بين القوسين لا معدى عنها لاستقامة الكلام.
(٣) في المطبوعة: "وهم جميعا"، والصواب ما أثبت.
308
من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما:-
١٤٧٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تَفْدُوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، [أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين] ؟ (١) والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم أفتكوهم.
١٤٧٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: (وإن يأتوكم أسارى تَفْدوهم)، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم، (وهو محرم عليكم) في كتابكم (إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرا بذلك.
١٤٧٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟
(١) كان في المطبوعة: ".. وتكفرون ببعض فادين والله إن فداء لإيمان"، وهو كلام مضطرب فزدت ما بين القوسين استظهارا، حتى يستقيم الكلام.
309
١٤٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، فكان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
١٤٧٩ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية، قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق: إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا.
١٤٨٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، حدثنا الربيع بن أنس قال، أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن.
١٤٨١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، قال: كفرهم القتل والإخراج، وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ (١) وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف الْقَرَأَة (٢) في قراءة قوله: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم).
(١) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ.
(٢) في المطبوعة: "واختلف القراء"، ورددته إلى نهج أبي جعفر.
310
فقرأه بعضهم: (أسرى تَفْدوهم)، وبعضهم: (أُسارى تُفادوهم)، وبعضهم (أُسارى تَفدوهم)، وبعضهم: (أسرى تفادوهم).
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى)، فإنه أراد جمع"الأسير"، إذ كان على"فعيل"، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير"فعيل"، إذ كان"الأسر" شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا، فقيل: أسير وأسرى"، كما قيل:"مريض ومرضى، وكسير وكَسرى، وجريح وجرحى".
* * *
وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: (أُسارى)، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع "فَعلان"، إذ كان جمع "فَعلان" الذي له "فَعلى" قد يشارك جمع "فعيل" كما قالوا: "سَكارى وسَكرى، وكَسالى وكَسلى"، فشبهوا"أسيرا" - وجمعوه مرة"أسارى"، وأخرى"أسرى" - بذلك.
* * *
وكان بعضهم يزعم أن معنى"الأسرى" مخالف معنى"الأسارى"، ويزعم أن معنى"الأسرى" استئسار القوم بغير أسر من المستأسِر لهم، وأن معنى"الأسارى" معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب. ولكن ذلك على ما وصفت من جمع"الأسير" مرة على "فَعلى" لما بينت من العلة، ومرة على"فُعالى"، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه بجمع"سكران وكسلان" وما أشبه ذلك.
* * *
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ (وإن يأتوكم أسرى)، لأن"فعالى" في جمع"فعيل" غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان ذلك غير مستفيض في كلامهم، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى
311
الآلام والزمانة - وواحده على تقدير"فعيل"، على"فعلى"، كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك"الأسير"، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها.
* * *
وأما من قرأ: (تفادوهم)، فإنه أراد: أنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم.
* * *
وأما من قرأ ذلك (تفدوهم)، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم.
وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني: (أسرى تفادوهم) - (١) لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
* * *
وأما قوله: (وهو محرم عليكم إخراجهم)، فإن في قوله: (وهو) وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر"الإخراج" الذي بعد"وهو محرم عليكم" تكريرا على"هو"، لما حال بين"الإخراج" و"هو" كلام.
والتأويل الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت "الواو" التي مع "هو" تقتضي اسما يليها دون الفعل. (٢) فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه "الواو" أن يليها - أُولِيَتْ "هو"، لأنه اسم، كما تقول: "أتيتك وهو قائم أبوك"، بمعنى:"وأبوك قائم"، إذ كانت"الواو" تقتضي اسما، فعمدت بـ "هو"، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام. (٣) كما قال الشاعر:
(١) في المطبوعة: "أسرى تفدوهم"، وهو غير الصواب، فيما اختاره أبو جعفر من القراءة.
(٢) العماد، هو ما اصطلح عليه البصريون بقولهم: "ضمير الفصل"، ويسمى أيضًا: "دعامة"، "صفة". وأراد بقوله: "الفعل" هنا: المشتق الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل. وسيتبين مراده في العبارات الآتية.
(٣) قد استوفى هذا كله الفراء في معاني القرآن ١: ٥٠ - ٥٢.
312
فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته... على العيس في آباطها عَرَق يَبْسُ (١) بأن السُّلامِيَّ الذي بِضَرِيَّة... أميرَ الحمى، قد باع حَقِّي بني عبسِ (٢) بثوب ودينار وشاة ودرهم... فهل هو مرفوع بما ههنا رَأْسُ (٣)
فأوليت"هل""هو" لطلبها الاسم العماد. (٤)
* * *
(١) سيأتي الشطر الثاني من البيت الأخير في ١١: ٣٤، ١٧: ٧٣ ولم أجد الشعر في غير معاني القرآن للفراء ١: ٥٢، ولم أعرف قائله. والعيس: إبل بيض يخالطها شقرة يسيرة، وهي من كرائم الإبل. ويبس يابس. قد يبس العرق في آباطها من طول الرحلة.
(٢) السلامي: يعني رجلا كان - فيما أرجح - مصدقا وعاملا على الزكاة، وأميرا على حمى ضرية، ولست أعرف نسبته، أهي قبيلة أم إلى بلد. وحمى ضرية: في نجد، على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، وهي أرض طيبة مذكورة في شعرهم. وفي البيت إقواء.
(٣) سيأتي الشطر الثاني بعد قليل: ٣٧٤ قوله: "بثوب"، متعلق بقوله آنفًا "باع". يقول: أخذ هذه الرشى التي عددها من بني عبس، فأسلم إليهم حقي. وقوله: "فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس" يقوله لأبي يحيى الذي ذكره، ويقول: فهل نجد ناصرا ينصرنا وياخذ لناحقنا، فنرفع رؤوسنا بعد ما نزل بنا من الضيم. وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك. قال الراعي (طبقات فحول الشعراء: ٤٤٢) :وقال أعرابي:
فإن رفعت بهم رأسا نَعَشْتُهم وإن لَقُوا مثلها في قابل فسدوا
فتى مثل ضوء الشمس، ليس بباخل بخير، ولا مهد ملاما لباخل
ولا ناطق عوراء تؤذى جليسه ولا رافع رأسا بعوراء قائل
وجاءت هذه الكلمة في (باب فضل من علم وعلم) من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله ﷺ (البخاري ١: ٢٣) :"فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
(٤) في المطبوعة: "فأوليت هل لطلبها"، وزيادة"هو" لا بد منها.
313
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) : فليس لمن قتل منكم قتيلا = فكفر بقتله إياه، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى = جزاء - يعني"بالجزاء": الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه - (١) إلا خزي في الحياة الدنيا. و"الخزي": الذل والصغار، يقال منه:"خزي الرجل يخزى خزيا"، (في الحياة الدنيا)، يعني: في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
* * *
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا، والانتقام للمظلوم من الظالم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلة لهم وصغارا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول الله ﷺ النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
(١) انظر ما سلف ٢: ٢٧ - ٢٨ من هذا الجزء.
314
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) : ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا. (١)
ولا معنى لقول قائل ذلك. (٢) ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه"الألف واللام"، لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وما الله بغافل عما يعملون) بـ "الياء"، على وجه الإخبار عنهم، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون)، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب.
* * *
وقرأه آخرون: (وما الله بغافل عما تعملون) بـ "التاء" على وجه المخاطبة.
(١) في المطبوعة: "إلى أشد العذاب من عذاب الدنيا"، والصواب حذف"العذاب".
(٢) في المطبوعة: "ولا معنىلقول ذلك بأن.. " والصواب زيادة"ذلك".
315
قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). وما الله بغافل، يا معشر اليهود، عما تعملون أنتم.
* * *
وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بـ "الياء"، اتباعا لقوله: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم)، ولقوله: (ويوم القيامة يردون). لأن قوله: (وما الله بغافل عما يعملون) إلى ذلك، أقرب منه إلى قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، فاتباعه الأقرب إليه، أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب.
* * *
وتأويل قوله:"وما الله بغافل عما يعملون"، (١) وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، ويخزيهم في الدنيا، فيذلهم ويفضحهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض، فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء [هم] الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم، (٣) وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان، الذي كان يكون لهم به في الآخرة - لو كانوا أتوا به مكان الكفر - الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه
(١) في المطبوعة: "وتأويل قوله: وما الله بساه"، لم يذكر الآية، والصواب إثباتها.
(٢) مضى تفسير معنى"الغفلة" فيما سلف من هذا الجزء ٢: ٢٤٤
(٣) ما بين القوسين زيادة، لا يستقيم الكلام بطرحها.
بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها، عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين. فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله، ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا، (١) كما:-
١٤٨٢ - حدثنا بشر، حدثنا يزيد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة - بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه - لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب، غير مخفف عنهم فيها العذاب. لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب، هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء، لاشترائهم - بالذي كان في الدنيا - دنياهم بآخرتهم. (٣)
* * *
وأما قوله: (ولا هم ينصرون) فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله - لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (آتينا موسى الكتاب) : أنزلناه إليه. وقد بينا أن معنى"الإيتاء" الإعطاء، فيما مضى قبل. (٤)
* * *
(١) انظر ما مضى ١: ٣١٢: - ٣١٥ في معنى"الاشتراء".
(٢) الأثر: ١٤٨٢ - كان في المطبوعة: "حدثنا يزيد.. " بإسقاط: "حدثنا بشر قال"، وهذا إسناده إلى قتادة، كثير الدوران، وأقربه فيما مضى رقم: ١٤٧٥.
(٣) في المطبوعة: "لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم"، وهو كلام سقيم، ولعل الصواب ما أثبت.
(٤) انظر ما سلف ١: ٥٧٤.
317
و"الكتاب" الذي آتاه الله موسى عليه السلام، هو التوراة.
وأما قوله: (وقفينا)، فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض، كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من"القفا"، يقال منه:"قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال:"دبرته": إذا صرت في دبره.
* * *
ويعني بقوله: (من بعده)، من بعد موسى.
* * *
ويعني بـ (الرسل) : الأنبياء، وهم جمع"رسول". يقال:"هو رسول وهم رسل"، كما يقال:"هو صبور وهم قوم صبر، وهو رجل شكور وهم قوم شكر.
* * *
وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: (وقفينا من بعده بالرسل)، أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى ﷺ إلى زمان عيسى ابن مريم، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ما فيها. فلذلك قيل: (وقفينا من بعده بالرسل)، يعني على منهاجه وشريعته، والعمل بما كان يعمل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات)، أعطينا عيسى ابن مريم.
* * *
ويعني بـ "البينات" التي آتاه الله إياها: ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، ونحو ذلك من الآيات، التي أبانت منزلته من الله، ودلت على صدقه وصحة نبوته، كما:-
١٤٨٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن
318
عباس: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) : أي الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾
قال أبو جعفر: أما معنى قوله: (وأيدناه)، فإنه قويناه فأعناه، كما:-
١٤٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (وأيدناه)، يقول: نصرناه. يقال منه:"أيدك الله"، أي قواك،"وهو رجل ذو أَيْد، وذو آد"، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:
من أن تبدلت بآدي آدا (١) *
يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر: (٢)
إن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو جَلَد وبطش أيِّد
(١) زيادة ديوانه: ٧٦، واللسان (آود) (أيد) ومجاز القرآن: ٤٦، وأمالي الزجاجي: ٣٩ في خبر، ورواه:والقعاد: القواعد من النساء، جمع على جمع المذكر، كما قال القطامي:
فإن تبدلت بآدي آدا لم يك ينآد فأمسى انآدا
فقد أراني أصل القعادا .....................
أبصارهن إلى الشبان مائلة وقد أراهن عني غير صداد
يعني: غير صواد.
(٢) ينسب البيت - من أبيات - لعبد الملك بن مروان، والصواب أنه لعبد الله بن عبد الأعلى ابن أبي عمرة الشيباني. مولى بني شيبان (تاريخ الطبري ٤: ٢٢ / وسمط اللآلئ: ٩٦٣ ترجمته).
319
(١)
يعني بالأيد: القوي.
* * *
ثم اختلف في تأويل قوله: (بروح القدس). فقال بعضهم:"روح القدس" الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به، هو جبريل عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وأيدناه بروح القدس) قال: هو جبريل.
١٤٨٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (وأيدناه بروح القدس)، قال: هو جبريل عليه السلام.
١٤٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وأيدناه بروح القدس)، قال: روح القدس، جبريل.
١٤٨٨ - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وأيدناه بروح القدس)، قال: أيد عيسى بجبريل، وهو روح القدس.
١٤٨٩ - وقال ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله ﷺ فقالوا: أخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو [الذي]
(١) البيت من أبيات جياد رواها أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي ورقة: ١٠٥، ١٠٦، والمسعودى في مروج الذهب ٣: ١٠٤، ولباب الآداب: ٣١، وجاء بيت الشاهد في تاريخ الإسلام للذهبي ٣: ٢٨٠، وتاريخ ابن كثير ٩: ٦٧، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: ١٤٧، واختلفت رواية البيت الشاهد. وقد أوصى عبد الملك بن مروان بنيه وصية جليلة، ثم قال لهم احفظوا عني هذه الأبيات - يعني شعر عبد الله بن عبد الأعلى - أمرهم أن يجتمعوا ولا يتفرقوا فتذهب ريحهم. وبعد البيت:
320
يأتيني؟ قالوا: نعم. (١)
وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى، هو الإنجيل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأيدناه بروح القدس)، قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا، كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله، كما قال الله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى: ٥٢].
* * *
وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩١ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وأيدناه بروح القدس)، قال: هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال:"الروح" في هذا الموضع جبريل. لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا
(١) الحديث: ١٤٨٩ - وقع في المطبوعة "حدثنا سلمة، عن إسحاق". وهو خطأ، صوابه"عن ابن إسحاق". عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي: ثقة فقيه، من شيوخ الليث ومالك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ /٩٧. شهر بن حوشب الأشعري: تابعي ثقة، ومن تكلم فيه فلا حجة له. وقد فصلنا القول في توثيقه، في شرح المسند: ٥٠٠٧. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري. ٢ /٢ / ٦٥٩ - ٢٦٠، وابن سعد ٧ /٢ /١٥٨، وابن أبي حاتم ٢ / ١ ٣٨٢ - ٣٨٣. ولكن هذا الحديث مرسل، فإن شهرا تابعي كما قلنا. ومعناه - في تفسير"الروح" بأنه جبريل - ثابت في أحاديث صحاح متكاثرة. ذكر منها ابن كثير ١: ٢٢٧ حديث ابن مسعود، في صحيح ابن حبان، مرفوعا: "إن روح القدس نقث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وقد ذكرنا في شرحنا رسالة الشافعي. رقم: ٣٠٦ كثيرا من هذا المعنى. وهذا الحديث جزء من حديث مطول، سيأتي بهذا الإسناد رقم: ١٦٠٦.
321
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ) [المائدة: ١١٠]، فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل، لكان قوله:"إذ أيدتك بروح القدس"، و"إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من قال: معنى (إذ أيدتك بروح القدس)، إنما هو: إذ أيدتك بالإنجيل - وإذ علمتك الإنجيل. وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو مُعَلَّمُه، فذلك تكرير كلام واحد، من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر. وذلك خلف من الكلام، (١) والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذْ كان ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ فساد قول من زعم أن"الروح" في هذا الموضع، الإنجيل، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة، وتنتعش بها النفوس المولية، وتهتدي بها الأحلام الضالة.
* * *
وإنما سمى الله تعالى جبريل"روحا" وأضافه إلى"القدس"، لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده، فسماه بذلك"روحا"، وأضافه إلى"القدس" - و"القدس"، هو الطهر - كما سمي عيسى ابن مريم"روحا" لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده.
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أن معنى"التقديس": التطهير، و"القدس"- الطهر، من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه. (٢)
١٤٩٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: القدس، البركة.
١٤٩٣ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: القدس، وهو الرب تعالى ذكره.
(١) الخلف: الرديء الفاسد من القول. يقال في المثل: "سكت ألفا ونطق خلفا"، للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ والخطل.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٧٥ - ٤٧٦.
322
١٤٩٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وأيدناه بروح القدس)، قال: الله، القدس، وأيد عيسى بروحه، قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر: ٢٣]، قال: القدس والقدوس، واحد.
١٤٩٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، [عن هلال] بن أسامة، عن عطاء بن يسار قال، قال كعب: الله، القدس. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم)، اليهود من بني إسرائيل.
١٤٩٦ - حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
* * *
قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني إسرائيل، لقد آتينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم، وآتينا عيسى ابن مريم
(١) الخبر: ١٤٩٥ - هو كلمة من كلام كعب الأحبار. أما الإسناد إليه ففيه إشكال. ولعله خطأ من الناسخين. فليس في الرواة - فيما علمنا - من يسمى"سعيد بن أبي هلال بن أسامة" كما كان في المطبوعة. وإنما صوابه ما رجحنا إثباته، بزيادة [عن هلال].
فسعيد بن أبي هلال الليثي المدني المصري: ثقة من أتباع التابعين، يروي عنه عمرو بن الحارث (الذي سبقت ترجمته في ١٣٨٧). وسعيد مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري ٢ / ١ /٤٧٥، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٧١. وهلال بن أسامة: هو: "هلال بن علي بن أسامة المدني "، وبعضهم نسبه إلى جده، فقال: ابن أسامة"، كما في التهذيب، وهو ثقة. مترجم أيضًا في الكبير للبخاري ٤ / ٢ /٢٠٤ - ٢٠٥، وابن أبي حاتم ٤ /٢ /٧٦. وقد فصلنا القول في ترجمته، في شرح المسند: ٧٣٤٦.
323
البينات والحجج، إذ بعثناه إليكم، وقويناه بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم - تجبرا وبغيا - استكبار إمامكم إبليس، فكذبتم بعضا منهم. وقتلتم بعضا. فهذا فعلكم أبدا برسلي.
* * *
وقوله: (أفكلما)، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب، فهو بمعنى الخبر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وقالوا قلوبنا غُلْف) مخففة اللام ساكنة. وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار. وقرأه بعضهم:"وقالوا قلوبنا غُلُف" مثقلة اللام مضمومة.
* * *
فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأولوها، أنهم قالوا: قلوبنا في أكنة وأغطية وغلْف. و"الغلْف" -على قراءة هؤلاء- جمع"أغلف"، وهو الذي في غلاف وغطاء، كما يقال للرجل الذي لم يختتن"أغلف"، والمرأة"غلفاء". وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه:"سيف أغلف"، وقوس غلفاء" وجمعها"غُلْف"، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على"أفعل" وأنثاه على"فعلاء"، يجمع على"فُعْل" مضمومة الأول ساكنة الثاني، مثل:"أحمر وحمر، وأصفر وصفر"، فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير. ولا يجوز تثقيل عين"فعل" منه، إلا في ضرورة شعر، كما قال طرفة بن العبد: (١)
عزت ولم تكسر، وإن هي بددت فالوهن والتكسير للمتبدد
أيها الفتيان في مجلسنا جردوا منها وِرادا وشُقُر
(١) ديوانه (أشعار الستة الجاهليين) : ٣٣١، من قصيدة نفيسة.
324
(١)
يريد: شُقْرًا، إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي:-
١٤٩٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة - ثم ذكرها - فقال فيما ذكر: وقلب أغلف معصوب عليه، فذلك قلب الكافر. (٢)
* * *
* ذكر من قال ذلك، يعني أنها في أغطية.
١٤٩٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق
(١) جردوا: قدموا للغارة. وتجرد الفرس: تقدم الحلبة فخرج منها. وتجرد في الأمر: جد فيه. وراد جمع ورد (بفتح فسكون) وهو من الخيل، بين الكميت والأشقر. والأشقر: الأحمر حمرة صافية، يحمر منها السبيب والمعرفة والناصية. والعرب تقول: أكرم الخيل وذوات الخير منها شقرها.
(٢) الخبر: ١٤٩٧ - هذا موقوف على حذيفة، وإسناده جيد، إلا أنه منقطع، كما سنبين، إن شاء الله. الحكم بن بشير بن سلمان النهدي الكوفي: ثقة، مترجم في التهذيب، ووقع هناك خطأ مطبعي في اسمي أبيه وجده. وله ترجمة عند البخاري في الكبير ٢/١/٣٤٠، وابن أبي حاتم ١ / ٢ /١١٤. عمرو بن قيس الملائي": مضت ترجمته: ٨٨٦. و"عمرو بن مرة الجملي"و"أبو البختري" واسمه"سعيد بن فيروز" مضيا في: ١٧٥.
انقطاع الإسناد، هو بين أبي البختري، المتوفي سنة ٨٣، وبين حذيفة بن اليمان، المتوفى أوائل سنة ٣٦ بعد مقتل عثمان بأربعين يوما. ونص في التهذيب على أن أبا البختري لم يدرك حذيفة.
هذا الخبر ذكره الطبري مختصرا - كما ترى - وجاء به السيوطي كاملا ١: ٨٧، ونسبه لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير، فذكر نحوه، موقوفا على حذيفة.
وقد ورد معناه مرفوعا: فروى أحمد في المسند: ١١١٤٦ (ج٣ ص ١٧ حلبي)، عن أبي النضر، عن أبي معاوية، وهو شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن ليث، وهو ابن أبي سليم، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري. وهذا إسناد صحيح. ويظهر منه أن أبا البختري كان عنده هذا الحديث، عن أبي سعيد مرفوعا متصلا، وعن حذيفة بن اليمان موقوفا منقطعا. ومثل هذا كثير، ولا نجعل إحدى الروايتين علة للأخرى.
وحديث أبي سعيد هذا: ذكره السيوطي ١: ٨٧، ونسبه لأحمد"بسند جيد". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٦٣، وقال:"رواه أحمد، والطبراني في الصغير، وفي إسناده ليث بن أبي سليم". كأنه يريد إعلاله بضعف ليث. وليث بن أبي سليم: ليس بضعيف بمرة، ولكن في حفظه شيء وحديثه عندنا صحيح، إلا ما ظهر خطؤه فيه، كما بينا في شرح المسند: ١١٩٩، وقد ترجمة البخاري في الكبير ٤ / ١ /٢٤٦، فلم يذكر فيه جرحا.
325
قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (وقالوا قلوبنا غلف)، أي في أكنة.
١٤٩٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (قلوبنا غلف)، أي في غطاء.
١٥٠٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،: (وقالوا قلوبنا غلف)، فهي القلوب المطبوع عليها.
١٥٠١ - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قوله: (وقالوا قلوبنا غلف)، عليها غشاوة.
١٥٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (وقالوا قلوبنا غلف)، عليها غشاوة.
١٥٠٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك عن الأعمش قوله: (قلوبنا غلف)، قال: هي في غُلُف.
١٥٠٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف)، أي لا تفقه.
١٥٠٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: هو كقوله: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت: ٥].
١٥٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: (قلوبنا غلف) قال: عليها طابَع، قال: هو كقوله: (قلوبنا في أكنة).
١٥٠٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (قلوبنا غلف)، أي لا تفقه.
326
١٥٠٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.
١٥٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قلوبنا غلف)، قال يقول: قلبي في غلاف، فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) [فصلت: ٥]. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها "غلف" بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية.
قال: و"الغلف" على تأويل هؤلاء جمع"غلاف". كما يجمع"الكتاب كتب، والحجاب حجب، والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ"غلف" بتحريك اللام وضمها، وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم، وأوعية له ولغيره.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٠ - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: أوعية للذكر.
١٥١١ - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: (قلوبنا غلف) قال: أوعية للعلم. (٢)
١٥١٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل، عن عطية مثله.
١٥١٣ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وقالوا قلوبنا غلف)، قال: مملوءة علما، لا تحتاج إلى محمد ﷺ ولا غيره.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: (قلوبنا غلف)، هي قراءة من قرأ (غلف)
(١) في المطبوعة:"شيء" ساقطة، واستدركتها من ابن كثير ١: ٢٢٩.
(٢) الخبر: ١٥١١ - محمد بن عمارة الأسدى، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه في التاريخ أيضًا مرارا.
327
بتسكين اللام - بمعنى أنها في أغشية وأغطية، لاجتماع الحجة من الْقَرَأَة وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه، من قراءة ذلك بضم"اللام".
وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه، حجة على من بلغه. وما جاء به المنفرد، فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بل لعنهم الله)، بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم، وجحودهم آيات الله وبيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك.
* * *
وأصل"اللعن" الطرد والإبعاد والإقصاء يقال:"لعن الله فلانا يلعنه لعنا، وهو ملعون". ثم يصرف"مفعول": فيقال: هو"لعين". ومنه قول الشماخ بن ضرار:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مكان الذئب كالرجل اللعين (٢)
* * *
قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: (بل لعنهم الله بكفرهم) تكذيب منه للقائلين من اليهود: (قلوبنا غلف). لأن قوله: (بل) دلالة على جحده جل
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢١٠، ٢١١، ٢٦٥، ٢٩٥
(٢) ديوانه: ٩٢، ومجاز القرآن ٤٦١، وسيأتي في ٢: ٣٣ (بولاق)، وروايته هناك وفي ديوانه،"مقام الذئب" والضمير في"به" إلى"ماء" في قوله قبله:
وماء قد وردت لوصل أروى عليه الطير كالورق اللجين
وأراد في البيت: مقام الذئب الطريد اللعين كالرجل. والرجل اللعين المطرود لا يزال منتبذا عن الناس، شبه الذئب به، يعني في ذله وشدة مخافته وذعره.
328
ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك، إذ كانت"بل" لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود. فإذ كان ذلك كذلك، فبَيِّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلا ما يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فقليلا ما يؤمنون). فقال بعضهم، معناه فقليل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قليل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون)، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.
١٥١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون)، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (فقليلا ما يؤمنون)، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في قوله: (فقليلا ما يؤمنون) بالصواب،
329
ما نحن متقنوه إن شاء الله. وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك نصب قوله: (فقليلا)، لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره. ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم، فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذًا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك. لأن معنى ذلك، لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان"القليل" مرفوعا لا منصوبا. لأنه إذا كان ذلك تأويله، كان"القليل" حينئذ مرافعا"ما". فإذْ نصب"القليل" - و"ما" في معنى"من" أو"الذي" -[فقد] بقيت"ما" لا مرافع لها. (١) وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.
* * *
فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى"ما" التي في قوله: (فقليلا ما يؤمنون). فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون، كما قال جل ذكره: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران: ١٥٩] وما أشبه ذلك، فزعم أن"ما" في ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك - بيت مهلهل:
لو بأبانين جاء يخطبها خضب ما أنف خاطب بدم (٢)
وزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم، وأن"ما" زائدة.
* * *
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في"ما"، في الآية وفي البيت الذي
(١) في المطبوعة: "وإن نصب القليل"، وكأن الأجود ما أثبته. والزيادة بين القوسين واجبة.
(٢) الكامل ٢: ٦٨، ومعجم ما استعجم: ٩٦، وشرح شواهد المغني: ٢٤٧ وغيرها قال أبو العباس: "أبان جبل: وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض قال مهلهل، وكان نزل في آخر حربهم - حرب البسوس - في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج، وجنب حي من أحيائهم وضيع، وخطبت ابنته ومهرت أدما فزوجها وقال قبله:
330
أنشده، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء، إذ كانت"ما" كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها.
* * *
وهذا القول عندنا أولى بالصواب. لأن زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه.
* * *
ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون - من الإيمان قليل أو كثير، فيقال فيهم:"فقليلا ما يؤمنون"؟
قيل: إن معنى"الإيمان" هو التصديق. وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله، وبالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد ﷺ ونبوته، وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به، لأنه في كتبهم، ومما جاءهم به موسى، فصدقوا ببعض - وذلك هو القليل من إيمانهم - وكذبوا ببعض، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.
* * *
وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قيل: (فقليلا ما يؤمنون)، وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب:"قلما رأيت مثل هذا قط". وقد روي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل" يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـ "القلة"، والمعنى فيه نفي جميعه. (١)
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٥٥٤، تعليق: ١، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٥٩ - ٦٠.
331
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله
331
مصدق لما معهم)، ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم- (كتاب من عند الله) = يعني بـ "الكتاب" القرآن الذي أنزله الله على محمد ﷺ = (مصدق لما معهم)، يعني مصدق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن، كما:-
١٥١٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)، وهو القرآن الذي أنزل على محمد، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.
١٥١٨ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)، وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)، أي: وكان هؤلاء اليهود - الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنزلها الله قبل الفرقان، كفروا به - يستفتحون بمحمد ﷺ = ومعنى"الاستفتاح"، الاستنصار = (١) يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه، أي من قبل أن يبعث، كما:-
١٥١٩ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٥٢٤.
332
عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار، وفي اليهود = الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة = يعني: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) = قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية - (١) ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب - (٢) فكانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم. (٣) فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه، كفروا به. يقول الله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به). (٤)
١٥٢٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته! فقال سَلام بن مِشْكَم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: (ولما جاءهم
(١) في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠"علوناهم ظهرا".
(٢) في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠"ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب".
(٣) في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠"نقتلكم معه.. "، وكذلك هو في ابن كثير ١: ٢٣٠، وكأنه الصواب.
(٤) الخبر: ١٥١٩ - هذا له حكم الحديث المرفوع، لأنه حكاية عن وقائع في عهد النبوة، كانت سببا لنزول الآية، تشير الآية إليها. الراجح أن يكون موصولا. لأن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري الظفري المدني: تابعي ثقة، وهو يحكي عن"أشياخ منهم"، فهم آله من الأنصار. وعن هذا رجحنا اتصاله. وقد نقل السيوطي ١: ٨٧ هذا الخبر، ونسبه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبي نعيم، والبيهقي، كلاهما في الدلائل.
333
كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين). (١)
١٥٢١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله.
١٥٢٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)، يقول: يستنصرون بخروج محمد ﷺ على مشركي العرب - يعني بذلك أهل الكتاب - فلما بعث الله محمدا ﷺ ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه.
١٥٢٣ - وحدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي في قول الله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)، قال: اليهود، كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس، يستفتحون - يستنصرون - به على الناس.
١٥٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي - وهو البارقي - في قول الله جل ثناؤه: (وكانوا من قبل يستفتحون)، فذكر مثله. (٢)
١٥٢٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)، كانت اليهود
(١) الخبر: ١٥٢٠ - فس يرة ابن هشام ٢: ١٩٦.
(٢) الأثر: ١٥٢٣، ١٥٢٤ - عليٍ الأزدى البارقي، هو علي بن عبد الله أبو عبد الله بن أبي الوليد البارقي، روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبيد بن عمير، وأرسل عن زيد بن حارثة. وعنه مجاهد بن جبر، وهو من أقرانه. قال ابن عدى: ليس عنده كثير حديث، وهو عندي لا بأس به (تهذيب ٧: ٣٥٨، ٣٥٩).
334
تستفتح بمحمد ﷺ على كفار العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا ﷺ فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به).
١٥٢٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد ﷺ على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا، ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال الله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
١٥٢٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به). قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا ﷺ في التوراة، ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب. فلما جاءهم محمد كفروا به، حين لم يكن من بني إسرائيل.
١٥٢٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)، قال: كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجون أن يكون منهم. فلما خرج ورأوه ليس منهم، كفروا وقد عرفوا أنه الحق، وأنه النبي. قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
١٥٢٩ - قال حدثنا ابن جريج، وقال مجاهد: يستفتحون بمحمد صلى الله
335
عليه وسلم تقول: إنه - يخرج. (فلما جاءهم ما عرفوا) -وكان من غيرهم- كفروا به. (١)
١٥٣٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج - وقال ابن عباس: كانوا يستفتحون على كفار العرب.
١٥٣١ - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثني شريك، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، قال: هم اليهود عرفوا محمدا أنه نبي وكفروا به.
١٥٣٢ - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)، قال: كانوا يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمدا عليهم. وليسوا كذلك، يكذبون.
١٥٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به). قال: كانت يهود يستفتحون على كفار العرب، يقولون: أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى، أحمد، لكان لنا عليكم! وكانوا يظنون أنه منهم، والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به، ويستنصرون به. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحسدوه، وقرأ قول الله جل ثناؤه: (كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [سورة البقرة: ١٠٩]. قال: قد تبين لهم أنه رسول، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيا خارج.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) ؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في جوابه. فقال بعضهم: هو مما ترك جوابه، استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه، وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن. (٢)
(١) الأثر: ١٥٢٩ - هذا إسناد قد سقط صدره، فما أدري ما هو. وهو مضطرب اللفظ أيضًا.
(٢) أنا في شك من هذه الجملة الأخيرة، أن يكون فيها تحريف.
336
وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبة، فتحذف أجوبتها، لاستغناء سامعيها - بمعرفتهم بمعناها - عن ذكر الأجوبة، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا) [سورة الرعد: ٣١]، فترك جوابه. والمعنى:"ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن - استغناء بعلم السامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم).
* * *
وقال آخرون: جواب قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) في"الفاء" التي في قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، وجواب الجزاءين في"كفروا به"، كقولك:"لما قمت، فلما جئتنا أحسنت"، بمعنى: لما جئتنا إذْ قمت أحسنت. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة، وعلى معنى"الكفر"، بما فيه الكفاية. (٢)
* * *
فمعنى الآية: فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولأنبيائه، المنكرين لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي إخبار الله عز وجل عن اليهود - بما أخبر الله عنهم بقوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) - البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعد قيام الحجة بنبوته عليهم، وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم.
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٥٩.
(٢) انظر ما سلف (الكفر) ١: ٢٥٥، ٣٨٢، ٥٢٢، وهذا الجزء (اللعنة) ٢: ٣٢٨
337
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾
قال أبوجعفر ومعنى قوله جل ثناؤه: (بئس ما اشتروا به أنفسهم) : ساء ما اشتروا به أنفسهم.
* * *
وأصل"بئس" "بَئِس" من"البؤس"، سكنت همزتها، ثم نقلت حركتها إلى"الباء"، كما قيل في"ظللت""ظلت"، وكما قيل"للكبد"،"كِبْد" - فنقلت حركة"الباء" إلى"الكاف" لما سكنت"الباء".
وقد يحتمل أن تكون"بئس"، وإن كان أصلها"بَئِس"، من لغة الذين ينقلون حركة العين من"فعل" إلى الفاء، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة، كما قالوا من"لعب" "لِعْب"، ومن"سئم""سِئْم"، وذلك -فيما يقال- لغة فاشية في تميم.
ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ، ووصلت بـ "ما".
واختلف أهل العربية في معنى"ما" التي مع"بئسما". فقال بعض نحويي البصرة: هي وحدها اسم، و"أن يكفروا" تفسير له، (١) نحو: نعم رجلا زيد، و"أن ينزل الله" بدل من"أنزل الله".
وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف"ما" اسم"بئس"، و"أن يكفروا" الاسم الثاني. وزعم أن:"أن يكفروا" إن شئت جعلت"أن" في موضع رفع، وإن شئت في موضع خفض. (٢) أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن يفعلوه. وأما الخفض: فبئس
(١) "التفسير" هو ما اصطلح البصريون على تسميته"التمييز"، ويقال له التبيين أيضًا، (همع الهوامع ١: ٢٥٠).
(٢) في المطبوعة: "وزعم أن أن ينزل من فضله إن شئت جعلت... "، وهو سهو من النساخ، وصوابه ماأثبته من معاني القرآن للفراء ١: ٥٦.
338
الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا. قال: وقوله: (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) [سورة المائدة: ٨٠] كمثل ذلك. والعرب تجعل"ما" وحدها في هذا الباب، بمنزلة الاسم التام، كقوله: (فنعما هي) [سورة البقرة: ٢٧١]، و"بئسما أنت"، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز:
أنكحها فقدها الأراقم في جنب وكان الحباء من أدم
لا تعجلا في السير وادْلُوها لبئسما بطءٌ ولا نرعاها (١)
قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر"، فيجعلون"ما" وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي"بئس" معرفة مُوَقَّتَة، وخبره معرفة موقتة. وقد زعم أن"بئسما" بمنزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم، فقد صارت"ما" بصلتها اسما موقتا، لأن"اشتروا" فعل ماض من صلة"ما"، في قول قائل هذه المقالة. وإذا وصلت بماض من الفعل، كانت معرفة موقتة معلومة، فيصير تأويل الكلام حينئذ:"بئس شراؤهم كفرهم". وذلك عنده غير جائز: فقد تبين فساد هذا القول. (٢)
وكان آخر منهم يزعم أن"أن" في موضع خفض إن شئت، ورفع إن شئت. فأما الخفض: فأن ترده على"الهاء" التي في،"به" على التكرير على كلامين. كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع: فأن يكون مكرورا على موضع"ما" التي تلي"بئس". (٣) قال: ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك:"بئس الرجل عبد الله. (٤)
وقال بعضهم:"بئسما" شيء واحد يرافع ما بعده (٥) كما حكي عن العرب:
(١) لم أعرف الراجز، والبيتان في اللسان (دلو). دلوت الناقة دلوا: سقتها سوقا رفيقا رويدا ورعى الماشية وأرعاها: أطلقها في المرعى.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٥٦ - ٥٧، كأنه قول الكسائي. والمعرفة الموقتة: وهي المعرفة المحددة. وانظر شرح ذلك فيما سلف ١: ١٨١، تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة: "مكررا"، والصواب من معاني القرآن للفراء ١: ٥٦.
(٤) هذه الفقرة هي نص كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٥٦.
(٥) في المطبوعة: "يعرف ما بعده"، والصواب ما أثبت.
339
"بئسما تزويج ولا مهر" فرافع"تزويج""بئسما"، (١) كما يقال:"بئسما زيد، وبئس ما عمرو"، فيكون"بئسما" رفعا بما عاد عليها من"الهاء". كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم، وتكون"أن" مترجمة عن"بئسما". (٢)
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل"بئسما" مرفوعا بالراجع من"الهاء" في قوله: (اشتروا به)، كما رفعوا ذلك بـ "عبد الله" إذ قالوا:"بئسما عبد الله"، وجعل"أن يكفروا" مترجمة عن"بئسما". (٣) فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون"أن" التي في قوله:"أن ينزل الله"، في موضع نصب. لأنه يعني به"أن يكفروا بما أنزل الله": من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. موضع "أن" جزاء. (٤) وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن"أن" في موضع خفض بنية"الباء". وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها. والحرف الخافض لا يخفض مضمرا.
* * *
وأما قوله: (اشتروا به أنفسهم)، فإنه يعني به: باعوا أنفسهم * كما:-
١٥٣٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بئسما اشتروا به أنفسهم)، يقول: باعوا أنفسهم"أن يكفروا بما أنزل الله بغيا".
١٥٣٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (بئسما اشتروا به أنفسهم)، يهود، شروا الحق
(١) في المطبوعة: "فرفع"، والصواب ما أثبت.
(٢) الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان" و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان.
(٣) الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان" و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان.
(٤) الجزاء: المفعول لأجله هنا، وفي المطبوعة: "جر"، وهو خطأ، وصوابه في معاني القرآن للفراء ١: ٥٨.
340
بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد ﷺ بأن يبينوه. (١)
قال أبو جعفر: والعرب تقول:"شريته"، بمعنى بعته. و"اشتروا"، في هذا الموضع،"افتعلوا" من"شريت". وكلام العرب -فيما بلغنا- أن يقولوا:"شريت" بمعنى: بعت، و"اشتريت" بمعنى: ابتعت. وقيل: إنما سمي"الشاري"،"شاريا"، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته. (٢)
ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني... من قبل برد كنت هامة (٣)
ومنه قول المسيب بن علس:
يعطى بها ثمنا فيمنعها... ويقول صاحبها ألا تشري؟ (٤)
(١) في المطبوعة: "بأن بينوه"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٢٣١. والمعنى اشتروا الكتمان بالبيان.
(٢) الشاري واحد الشراة (بضم الشين)، وهم الخوارج، وقال قطري بن الفجاءة الخارجي في معنى ذلك، ويذكر أم حكيم، وذلك في يوم دولاب: فلو شهدتنا يوم ذاك، وخيلنا... تبيح من الكفار كل حريم
رأت فتية باعوا الإله نفوسهم... بجنات عدن عنده ونعيم
وقال الخوارج: نحن الشراة، لقول الله عز وجل: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيعها ويبذلها في الجهاد، وثمنها الجنة، وقيل: سموا بذلك لقولهم: "إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله حين فارقنا الأئمة الجائرة"، أي: بعناها بالجنة.
(٣) طبقات فحول الشعراء: ٥٥٥ من قصيدة له، في هجاء عباد بن زياد، حين باع ما له في دين كان عليه، وقضى الغرماء، وكان فيما باع غلام لابن مفرغ، يقال له"برد"، وجارية يقال لها"أراكة". وقوله: "كنت هامة" أي هالكا. يقال: فلان هامة اليوم أو غد، أي قريب هلاكه، فإذا هو"هامة"، وذلك زعم أبطله الله بالإسلام كان في الجاهلية: أن عظم الميت أو روحه تصير هامة (وهو طير كالبومة) فتطير. ورواية غيره: "من بعد برد".
(٤) ديوانه: ٣٥٢ (من ملحق ديوان الأعشى - والمسيب خال الأعشى، والأعشى راويته)، ورواية الديوان"ويقول صاحبه"، وهي الصواب. والبيت من أبيات آية في الجودة، يصف الغواص الفقير، قد ظفر بدرة لا شبيه لها، فضن بها على البيع، وقد أعطى فيها ما يغنى من الثمن، فأبى، وصاحبه يحضضه على بيعها، وبعده: وترى الصراري يسجدون لها... ويضمها بيديه للنحر
والصراري: الملاحون، من أصحاب الغواصين.
341
يعني به: بعت بردا. وربما استعمل"اشتريت" بمعنى: بعت، و"شريت" في معنى:"ابتعت". والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت.
* * *
وأما معنى قوله: (بغيا)، فإنه يعني به: تعديا وحسدا، كما:-
١٥٣٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة: (بغيا)، قال: أي حسدا، وهم اليهود.
١٥٣٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بغيا)، قال: بغوا على محمد ﷺ وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟ فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
١٥٣٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (بغيا)، يعني: حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
١٥٣٩ - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم، الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن أنزل الله من فضله = وفضله: حكمته وآياته ونبوته = على من يشاء من عباده - يعني به: على محمد ﷺ - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل.
* * *
فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: (بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله) ؟ وهل يشتري بالكفر شيء؟
قيل: إن معنى:"الشراء" و"البيع" عند العرب، هو إزالة مالك ملكه
342
إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، شرا أو خيرا، فتقول:"نعم ما باع به فلان نفسه" و"بئس ما باع به فلان نفسه"، بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: (بئس ما اشتروا به أنفسهم) - لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد ﷺ فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: (بئس ما اشتروا به أنفسهم)، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك.
* * *
وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا ﷺ وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به، مع علمهم بصدقه، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل - (١) نظيره الآية الأخرى في سورة النساء، وذلك قوله، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [سورة النساء: ٥١-٥٤].
* * *
(١) قوله"- نظيره الآية.. " خبر قوله في صدر هذه الفقرة: "وهذه الآية-".
343
القول في تأويل قوله: ﴿أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾
قال أبو جعفر: قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه:-
١٥٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قوله: (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده)، أي أن الله تعالى جعله في غيرهم. (١).
١٥٤١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: هم اليهود. لما بعث الله نبيه محمدا ﷺ فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به - حسدا للعرب - وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة.
١٥٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
١٥٤٣ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
١٥٤٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟
١٥٤٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي. قال: نزلت في اليهود. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١٥٤٠ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠
(٢) الأثر: ١٥٤٥ - انظر التعليق على رقم: ١٥٢٣، ١٥٢٤.
344
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فباءوا بغضب على غضب)، (١) فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد ﷺ والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا فباءوا بغضب من الله = استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم، عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب = على غضب سالف، كان من الله عليهم قبل ذلك، سابقٍ غضبه الثاني، لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت، يستحقون بها الغضب من الله، كما:-
١٥٤٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما روى عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (فباءوا بغضب على غضب)، فالغضب على الغضب، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. (٢)
١٥٤٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: (فباءوا بغضب على غضب) قال: كفر بعيسى، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. (٣)
١٥٤٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان،
(١) انظر تفسير. "باء" فيما سلف من هذا الجزء ٢: ١٣٨.
(٢) الأثر: ١٥٤٦- سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠.
(٣) الأثر: ١٥٤٧ - في الدر المنثور: "كفرهم" في الموضعين، وهما سواء.
345
عن أبي بكير، عن عكرمة: (فباءوا بغضب على غضب)، قال: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
١٥٤٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله.
١٥٥٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فباء بغضب.
١٥٥١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فباءوا بغضب على غضب)، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
١٥٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فباءوا بغضب)، اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم، (على غضب)، جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بما جاء به.
١٥٥٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فباءوا بغضب على غضب)، يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن.
١٥٥٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فباءوا بغضب على غضب)، أما الغضب الأول فهو حين غضب الله عليهم في العجل؛ وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
346
١٥٥٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: (فباءوا بغضب على غضب)، قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي ﷺ - من تبديلهم وكفرهم -، ثم غضب عليهم في محمد ﷺ - إذ خرج، فكفروا به.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"الغضب" من الله على من غضب عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وللكافرين عذاب مهين)، وللجاحدين نبوة محمد ﷺ من الناس كلهم، عذاب من الله، إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة، (مهين) هو المذل صاحبه، المخزي، الملبسه هوانا وذلة.
* * *
فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه، فيكون للكافرين المهين منه؟
قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا، الذي يخلد فيه صاحبه، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله. وأما الذي هو غير مهين صاحبه، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه. وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل
(١) انظر ما سلف ١: ١٨٨ - ١٨٩، وما مضى في هذا الجزء ٢: ١٣٨ هذا وقد كان في المطبوعة بعد قوله: "عن إعادته" ما نصه: "والله تعالى أعلم"، وليس لها مكان هنا، وهي بلا شك زيادة بعض النساخ، فلذلك تركتها.
347
الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير جرائمهم التي ارتكبوها، ليمحصوا من ذنوبهم، ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك، وإن كان عذابا، فغير مهين من عذب به. إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه، ثم يورده معدن العز والكرامة، ويخلده في نعيم الجنان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذا قيل لهم)، وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (آمنوا)، أي صدقوا، (بما أنزل الله)، يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، (قالوا: نؤمن)، أي نصدق، (بما أنزل علينا)، يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ويكفرون بما وراءه)، ويجحدون،"بما وراءه"، يعني: بما وراء التوراة.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل"وراءه" في هذا الموضع"سوى". كما يقال للرجل المتكلم بالحسن:"ما وراء هذا الكلام شيء" يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله: (ويكفرون بما وراءه)، أي
348
بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله، (١) كما:-
١٥٥٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويكفرون بما وراءه)، يقول: بما بعده.
١٥٥٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ويكفرون بما وراءه)، أي بما بعده - يعني: بما بعد التوراة.
١٥٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ويكفرون بما وراءه)، يقول: بما بعده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهو الحق مصدقا)، أي: ما وراء الكتاب - الذي أنزل عليهم من الكتب
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٦٠.
349
التي أنزلها الله إلى أنبيائه - الحق. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
١٥٥٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه)، وهو القرآن. يقول الله جل ثناؤه: (وهو الحق مصدقا لما معهم). وإنما قال جل ثناؤه: (مصدقا لما معهم)، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام. فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذْ أخبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه، من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه -: إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم، يعني: أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون.
قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة، على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان، عنادا لله، وخلافا لأمره، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: (قل فلم تقتلون أنبياء الله)، قل يا محمد، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا-: لم تقتلون = إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم = أنبياءه، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) وتعيير لهم، كما:-
١٥٦٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني اليهود: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) ؟
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل)، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى؟
قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك. فقال بعض البصريين: معنى
350
ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كما قال جل ثناؤه: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) [سورة البقرة: ١٠٢]، أي: ما تلت، (١) وكما قال الشاعر: (٢)
ولقد أمر على اللئيم يسبني... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني (٣)
يريد بقوله:"ولقد أمر" ولقد مررت. واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله:"فمضيت عنه"، ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن"فعل" و"يفعل" قد تشترك في معنى واحد، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: (٤)
وإني لآتيكم تَشَكُّرَ ما مضى... من الأمر، واسْتِيجابَ ما كان في غد (٥)
يعني بذلك: ما يكون في غد، وبقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه... أن الوليد أحق بالعذر (٦)
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٦٠ - ٦١.
(٢) هو رجل من بني سلول.
(٣) سيبويه ١: ٤١٦، الخزانة ١: ١٧٣، وشرح شواهد المغني: ١٠٧ وغيرها كثير. وروايتهم جميعا"ثمت قلت". وبعده بيت آخر: غضبان ممتلئا علي إهابه... إني وربك سخطه يرضيني
(٤) هو الطرماح بن حكيم الطائي.
(٥) ديوانه: ١٤٦، وسيأتي في ٤: ٩٧ (بولاق)، وحماسة البحتري: ١٠٩، واللسان (كون) وقد كان في هذا الموضع"بشكرى"، وهو خطأ، سيأتي من رواية الطبري على الصواب. وروى اللسان: "واستنجاز ما كان". وصواب الرواية: "فإني لآتيكم" فإنه قبله: من كان لا يأتيك إلا لحاجة... يروح بها فيما يروح ويغتدى
فإني لآتيكم...........................
(٦) ديوانه: ٨٥، ونسب قريش: ١٣٨، والاستيعاب: ٦٠٤، وأنساب الأشراف ٥: ٣٢، وسمط اللآلئ: ٦٧٤. قالها الحطيئة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان من رجالات قريش همة وسخاء. استعمله أبو بكر وعمر وعثمان، فلما كان زمان عثمان، رفعوا عليه أنه شرب الخمر، فعزله عثمان وجلده الحد، وكان لهذا شأن كبير، فقال الحطيئة يعذره ويمدحه، ويذكر عزله: شهد الحطيئة حين يلقى ربه... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت، ولو... تركوا عنانك لم تزل تجري
ورأوا شمائل ماجد أنف... يعطي على الميسور والعسر
فنزعت، مكذوبا عليك، ولم... تردد إلى عوز ولا فقر
قال مصعب بن عبد الله الزبيري في نسب قريش: "فزادوا فيها من غير قول الحطيئة: نادى وقد تمت صلاتهم... أأزيدكم؟ ثملا ولا يدري
ليزيدهم خمسا، ولو فعلوا... مرت صلاتهم على العشر
وقد أكثر الناس فيما كان من خبر الوليد، وما كان من شعر الحطيئة فيه. وهذا نص من أعلم قريش بأمر قريش، على أن البيتين قد نحلهما الحطيئة، متكذب على الوليد، لما كان له في الشأن في أمر عثمان رضي الله عنه. ولقد جلد الوليدبن عقبة مكذوبا عليه كما قال الحطيئة، فاعتزل الناس. وروى أبو العباس المبرد في التعازي والمراثي (ورقة: ١٩٦) قال:: "قال الوليد بن عقبة عند الموت، وهو بالبليخ من أرض الجزيرة: "اللهم إن كان أهل الكوفة صدقوا على، فلا تلق روحي منك روحا ولا ريحانا، وإن كانوا كذبوا على فلا ترضهم بأمير ولا ترض أميرا عنهم. انتقم لي منهم، واجعله كفارة لما لا يعلمون من ذنوبي". فليت أهل الشر كفوا ألسنتهم عن رجل من عقلاء الرجال وأشرافهم.
351
يعني: يشهد. وكما قال الآخر:
فما أضحي ولا أمسيت إلا أراني منكم في كَوَّفان (١)
فقال: أضحي، ثم قال:"ولا أمسيت".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل)، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل، ومعناه الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له: ويحك، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر:
(١) لم أعرف قائله، وهو في اللسان (كوف) والصاحبي: ١٨٧. والكوفان (بتشديد الواو) : الاختلاط والشدة والعناء. يقال: إنا منه في كوفان، أي في عنت وشقاء ودوران واختلاط.
352
إذا ما انتسبنا، لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تُقِري به بُدَّا (١)
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت. وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام:"إذا نظرت في سيرة عمر، لم تجده يسيء". (٢) المعنى: لم تجده أساء. فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل. فلذلك صلحت"من قبل" مع قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل). قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا، فتولوهم على ذلك ورضوا به، فنسب القتل إليهم. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب فيه من القول عندنا، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به، نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا -، (٤) يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل)، إذْ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن
(١) سلف تخريجه في هذا الجزء ٢: ١٦٥.
(٢) في معاني القرآن للفراء: "لم يسئ"، بحذف"تجده".
(٣) في المطبوعة: "فتلوهم على ذلك ورضوا. فنسب.. "، والصواب ما أثبته من معاني القرآن للفراء ١: ٦٠ - ٦١، وهذا الذي نقله الطبري هو نص كلامه.
(٤) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٠٢ تعليق: ١ والمراجع.
353
فعل السالفين منهم - (١) على نحو الذي بينا - جاز أن يقال"من قبل"، إذْ كان معناه: قل: فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل"؟ وكان معلوما بأن قوله: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل)، إنما هو خبر عن فعل سلفهم.
* * *
وتأويل قوله: (من قبل)، أي: من قبل اليوم.
* * *
وأما قوله: (إن كنتم مؤمنين)، فإنه يعني: إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله ﷺ وأسلافهم - إن كانوا وكنتم، كما تزعمون أيها اليهود، مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه، عند قولهم حين قيل لهم: (آمنوا بما أنزل الله. قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله، مع قيلهم: نؤمن بما أنزل علينا - متولين، وبفعلهم راضين. فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أفعالهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد جاءكم موسى بالبينات)، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته، (٣) كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا، ويده التي
(١) في المطبوعة: "وإن كان قد خرج على لفظ الخبر.. "، والصواب: "إذ.. " كما أثبته.
(٢) في المطبوعة: "أي وترضون.. " بزيادة واو لا خير فيها.
(٣) في المطبوعة: "وحقية نبوته"، وليست مما يقوله أبو جعفر، وقد مضى آنفًا مثل هذا التبديل من النساخ، وكان في المخطوطة العتيقة، على مثل الذي أثبته، وانظر ما سلف ٢: ٣١٨.
354
أخرجها بيضاء للناظرين. وفلق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا، والجراد والقمل والضفادع، وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته. (١)
وإنما سماها الله"بينات" لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر، إلا بتسخير الله ذلك له. وإنما هي جمع"بينة"، مثل"طيبة وطيبات". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته. (٣)
* * *
وقوله:"ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون" يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها. فالهاء التي في قوله:"من بعده"، من ذكر موسى. وإنما قال: من بعد موسى، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا. (٤)
وقد يجوز أن تكون"الهاء" التي في"بعده" إلى ذكر المجيء. فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون. كما تقول: جئتني فكرهته، يعني كرهت مجيئك.
* * *
وأما قوله: (وأنتم ظالمون)، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه. لأن العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣١٨، ٣٥٤.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣١٨، ٣١٩.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣١٨، ٣٥٤.
(٤) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٦٠ - ٦٩.
355
ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حِكَم الله - فهم إلى تكذيب محمد ﷺ وجحود ما في كتبهم = التي زعموا أنهم بها مؤمنون = من صفته ونعته، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة - أسرع (١) وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ أخذنا ميثاقكم)، واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط، فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم، إذ رفعنا فوقكم الجبل. (٢)
وأما قوله: (واسمعوا)، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر:"سمعت وأطعت"، يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك، كما قال الراجز:
السمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني ميمْ (٣)
(١) سياق هذه الجملة المفصلة:.. "وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا.. فهم إلى تكذيب محمد... أسرع"، وكل ما بين ذلك فصول متتابعة كدأبه.
(٢) سلف شرحه لألفاظ هذه الآية: "ميثاق"، "الطور"، "الإيتاء"، "قوة"، فاطلبه في المواضع الآتية ٢: ١٥٦، ١٥٧، ١٦٠ والمراجع.
(٣) قائلة رجل من ضبة، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك، ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة في سنة ٥٥، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا، فأمر به عبد الله بن عمرو فقطعت يده. فقال الرجز. ورفعوا الأمر إلى معاوية فعزله (تاريخ الطبري ٦: ١٦٧).
356
يعني بقوله:"السمع"، قبول ما يسمع، و"الطاعة" لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: (واسمعوا)، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة، واعملوا بما سمعتم، وأطيعوا الله، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك.
* * *
وأما قوله: (قالوا سمعنا)، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، فإن ذلك كما وصفنا، (١) من أن ابتداء الكلام، إذا كان حكاية، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب، كما بينا ذلك فيما مضى قبل. (٢) فكذلك ذلك في هذه الآية، لأن قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم)، بمعنى: قلنا لكم، فأجبتمونا.
* * *
وأما قوله: (قالوا سمعنا)، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، قال: أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.
(١) في المطبوعة: "مما وصفنا"، ليست شيئا.
(٢) انظر ما سلف ١: ١٥٣ - ١٥٤، وهذا الجزء ٢: ٢٩٣، ٢٩٤.
357
١٥٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، قال: أشربوا حب العجل بكفرهم.
١٥٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، (٢) ثم ذرّاه في اليم، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا منه، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب. فذلك حين يقول الله عز وجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم). (٣)
١٥٦٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: لما سحل فألقي في اليم، استقبلوا جرية الماء، فشربوا حتى ملئوا بطونهم، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: (وأشربوا
(١) السحالة: ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما إذا سحلا، أي بردا بالمبرد.
(٢) حرقه: برده بالمبرد، وانظر ما سلف من هذا الجزء ٢: ٧٤.
(٣) الأثر: ١٥٦٤ - سلف برقم: ٩٣٧.
358
في قلوبهم العجل) تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشيء، فيقال منه:"أشرب قلب فلان حب كذا"، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء (١)
قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر"الحب" اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) [سورة الأعراف: ١٦٣]، (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) [يوسف: ٨٢]، وكما قال الشاعر: (٢)
ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا ألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل (٣)
(١) ديوانه: ٣٣٩، وهو هناك"تشربه" بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب"فؤادك"، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه قال: "تدخله" وقال: "تشربه" تلزمه ولكن استدلال الطبري، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع"فؤادك". وحب داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن.
(٢) هو طرفة بن العبد.
(٣) ديوانه: ٣٤٣ (أشعار الستة الجاهليين)، ونوادر أبي زيد: ٨٣، واللسان (سود). واختلف فيما أراد بقوله: "أسود". قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره: "يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو الماء، يدعى الأسود". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب إليها، فإني واصل حبل من وصل
ألا إنما أبكى ليوم لقيته بجرثم قاس، كل ما بعده جلل
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا به حين يأتي - لا كذاب ولا علل
ألا إنني.......... ...................
ويروى: "ألا بجلى من الحياة"، وهي أجود.. ورواية الديوان واللسان: (ألا إنني شربت)، والتي هنا أجود. وقوله: "بجل"، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة.
159
يعني بذلك سُمّا أسود، فاكتفى بذكر"أسود" عن ذكر"السم" لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله:"سقيت أسود". ويروى:
ألا إنني سقيت أسود سالخا (١)
وقد تقول العرب:"إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم"، (٢)
فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وإن جهادا طيئ وقتالها (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به إيمانكم؛ إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله،
(١) السالخ من الحيات: الأسود الشديد السواد، وهو أقتل ما يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام.
(٢) هرم بن سنان، صاحب زهير بن أبي سلمى، وحاتم: هو الطائي الذي لا يخفى له ذكر. وأكثر هذا في معاني القرآن للفراء ١: ٦١ - ٦٢.
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ٦٢، ومجالس ثعلب: ٧٦، واللسان (غزا)، ونسبه لجميل، ولا أظنه إلا أخطأ، لذكر جميل في البيت، ولمشابهته لقول جميل: يقولون:
جاهد يا جميل بغزوة! وأي جهاد غيرهن أريد؟
ولكن البيت من شعر آخر، لم أهتد إليه بعد البحث، ويريد الأول: وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها، فحذف واجتزأ.
360
والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده. ومعنى"إيمانهم": تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله، إذْ قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله. فقالوا: نؤمن بما أنزل علينا. وقوله: (إن كنتم مؤمنين)، أي: إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم، (١) وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهي عن ذلك كله، وتأمر بخلافه. فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة، إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان.
* * *
(١) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" ١: ٢٣٥، ٢: ١٤٣ وغيرهما.
361
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد ﷺ على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه ﷺ أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. (١) وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة
(١) وذلك ما جاء في سورة آل عمران: ٦١، وانظر خبره في التفسير والسير.
361
من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي ﷺ إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي ﷺ في عيسى، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة.
فبلغنا أن رسول الله ﷺ قال:"لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا".
١٥٦٦ - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (١)
(١) الحديث: ١٥٦٦ - إسناده صحيح. أبو كريب: هو محمد بن العلاء. زكريا بن عدي ابن زريق التيمي الكوفي: ثقة جليل ورع قال ابن سعد: " كان رجلا صالحا صدوقا". وهو مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري ٢ /١ / ٣٨٧ - ٣٨٨، والصغير: ٢٣٢، وابن سعد ٦: ٢٨٤، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٠٠، ووقع هنا في المطبوعة"أبو زكريا" وزيادة"أبو" خطأ من ناسخ أو طابع، عبيد الله بن عمرو: هو أبو وهب الجزري الرقي، ثقة معروف أخرج له أصحاب الكتب الستة، وترجمته في التهذيب، وابن سعد ٧ /٢ /١٨٢، والصغير للبخاري: ٢٠٣، وابن أبي حاتم ٢ /٢ / ٣٢٨ - ٣٢٩. عبد الكريم: هو ابن مالك الجزري الحراني، وهو ثقة ثبت صاحب سنة، من شيوخ ابن جريج ومالك والثوري وأضرابهم. ترجمته في التهذيب، والصغير للبخاري: ١٤٨، وابن أبي حاتم ٣ / ١ /٥٨ - ٥٩.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٢٢٦، عن أحمد بن عبد الملك الحراني، عن عبيد الله، وهو ابن عمرو، بهذا الإسناد، ولكن لم يذكر لفظه، أحاله على الرواية قبله: ٢٢٢٥، من طريق فرات بن سلمان الحضرمي، عن عبد الكريم، به، بزيادة في أوله. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٨: ٢٢٨، عن الرواية المطولة، وقال: "في الصحيح طرف من أوله"، ثم قال: "رواه أحمد، أبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح". أقول: ورجال أحمد في الإسناد: ٢٢٢٦ - رجال الصحيح أيضًا. وذكر السيوطي ١: ٨٩ بعضه، ونسبه أيضًا إلى الشيخين، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، وأبي نعيم.
362
١٥٦٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن ابن عباس في قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. (١)
١٥٦٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة في قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا. (٢)
١٥٦٩ - حدثني موسى قال، أخبرنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن ابن عباس مثله.
١٥٧٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر: فيما أروي: أنبأنا - عن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لو تمنوه يوم قال ذلك لهم، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات. (٣)
قال أبو جعفر: فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.
(١) الخبر: ١٥٦٧ - هو موقوف على ابن عباس، في معنى الحديث قبله. ولكن إسناده هذا منقطع. الأعمش: لم يدرك ابن عباس.
(٢) الخبر: ١٥٦٨- هو بعض الحديث السابق: ١٥٦٦، وإسناده صحيح. وظاهره هنا أنه موقوف على ابن عباس، ولكنه مرفوع بالروايات الأخر.
(٣) الأثر: ١٥٧٠ - في ابن هشام ٢: ١٩١.
363
وإنما أُمر رسول الله ﷺ أن يقول لهم: (تمنوا الموت إن كنتم صادقين)، لأنهم -فيما ذكر لنا- قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: ١٨]، وقالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [البقرة: ١١١]. فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون، فتمنوا الموت. فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه ﷺ أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت، وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. (١)
* * *
وقال آخرون بما:-
١٥٧٢ - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس)، وذلك أنهم قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [البقرة: ١١١]، وقالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: ١٨] فقيل لهم: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين).
١٥٧٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
(١) الأثر: ١٥٧١ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩١، وفيها: "أكذب عند الله"، وانظر رقم: ١٥٧٨.
364
الربيع، عن أبي العالية قال: قالت اليهود: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه) فقال الله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، فلم يفعلوا.
١٥٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة) الآية، وذلك بأنهم قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه). (١).
* * *
وأما تأويل قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة)، فإنه يقول: قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر"الدار"، من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا معنى"الدار الآخرة". فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
وأما تأويل قوله: (خالصة)، فإنه يعني به: صافية. كما يقال:"خلص لي فلان" بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. يقال منه:"خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة، و"الخالصة" مصدر مثل"العافية". ويقال للرجل:"هذا خُلْصاني"، يعني خالصتي من دون أصحابي.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: (خالصة) : خاصة. وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك.
١٥٧٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قل إن كانت لكم
(١) الأثر: ١٥٧٤ - في المطبوعة".. حدثنا إسحاق قال حدثني أبو جعفر عن الربيع" وهذا إسناد فاسد، وهو كثير الدوران في التفسير، وأقرب ذلك رقم: ١٥٦٣
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٤٥.
365
الدار الآخرة)، قال:"قل" يا محمد لهم - يعني اليهود -: إن كانت لكم الدار الآخرة" - يعني: الجنة (١) - (عند الله خالصة)، يقول: خاصة لكم.
* * *
وأما قوله: (من دون الناس)، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك:
١٥٧٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (من دون الناس)، يقول: من دون محمد ﷺ وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم.
* * *
وأما قوله: (فتمنوا الموت) فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا يعرف"التمني" بمعنى"المسألة" في كلام العرب. ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى"الأمنية" - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة، إذْ كانت المسألة، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.
١٥٧٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: (فتمنوا الموت)، فسلوا الموت، (إن كنتم صادقين).
* * *
(١) في المطبوعة: "يعني الخير"، وهو تصحيف وتحريف، صوابه ما أثبت.
366
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد ﷺ أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي:-
١٥٧٨ - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) الآية، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك. (١)
١٥٧٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولن يتمنوه أبدا)، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم.
١٥٨٠ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(١) الأثر: ١٥٧٨ - مضى في رقم: ١٥٧١، وهنا تمامه. وفي سيرة ابن هشام ١: ١٩١"أكذب عند الله". وفي المطبوعة: "وقالوا ذلك على رسول الله.. " وهو خطأ، صوابه ما في سيرة ابن هشام. وفي المطبوعة: "أي لعلمهم بما عندهم.. " والذي أثبته هو نص ابن هشام.
367
ابن جريج قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا.
* * *
وأما قوله: (بما قدمت أيديهم)، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها:"نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك، وبما قدمت يداك"، فتضيف ذلك إلى"اليد". ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.
قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى"اليد"، لأن عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى"أيديهم"، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده.
فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد ﷺ وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم، والبغي عليه، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم، وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
١٥٨١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (بما قدمت أيديهم)، يقول: بما أسلفت أيديهم.
368
١٥٨٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (بما قدمت أيديهم)، قال: إنهم عرفوا أن محمدا ﷺ نبي فكتموه.
* * *
وأما قوله: (والله عليم بالظالمين)، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون.
وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.
وقد دللنا على معنى"الظلم" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) - اليهود -. يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود * كما:-
١٥٨٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)، يعني اليهود.
١٥٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع، عن أبي العالية: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)، يعني اليهود. (٢)
١٥٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
(١) انظر ما سلف ١: ٥٢٣ - ٥٢٤.
(٢) الأثر: ١٥٨٤ - في المطبوعة: "حدثنا أبو جعفر عن أبي العالية"، سقط منه"حدثنا الربيع"؛ وهو إسناد دائر، وأقربه في رقم: ١٥٧٣.
369
أبيه، عن الربيع مثله. (١)
١٥٨٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن الذين أشركوا)، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال:"هو أشجع الناس ومن عنترة" بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة. فكذلك قوله: (ومن الذين أشركوا). لأن معنى الكلام: ولتجدن -يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [من] الناس على حياة ومن الذين أشركوا. (٢) فلما أضيف"أحرص" إلى"الناس" وفيه تأويل"من"، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل الذي ذكرنا.
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك، (٣) فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب، (٤) فاليهود أحرص
(١) الأثر: ١٥٨٥ - في المطبوعة: "حدثني المثنى قال حدثنا ابن أبي جعفر" سقط منه"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر، وأقربه رقم: ١٥٧٤.
(٢) الزيادة بين القوسين، لا بد منها، يدل عليها سياقه.
(٣) في المطبوعة: "مما لا يقر به"، والصواب ما أثبته.
(٤) في المطبوعة: "وإن المشركين لا يصدقون.. "، و"إن" لا مكان لها هنا.
370
منهم على الحياة وأكره للموت.
* * *
وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث * ذكر من قال هم المجوس:
١٥٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، يعني المجوس.
١٥٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: المجوس.
١٥٨٩ - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد: (ومن الذين أشركوا)، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة.
* * *
* ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث:
١٥٩٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا)، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم. (١)
* * *
(١) الأثر: ١٥٩٠ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩١.
371
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾
قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا (١) - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة. يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته، (٢) أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض:"عشرة آلاف عام" حرصا منهم على الحياة، كما:-
١٥٩١ - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي عليا، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول الأعاجم:"سال زه نوروز مهرجان حر". (٣)
(١) في المطبوعة: "هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا" والصواب حذف"بقوله"، والنسخة المطبوعة ومخطوطاتها مضطربة في هذا الموضع من الكتاب اضطرابا شديدا.
(٢) في المطبوعة: "يود أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا ما.. بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته"، بياض فيها وفي الأصل. واستظهرت قراءتها كما أثبت، فإنه هو المعنى الذي يدور عليه تفسير أبي جعفر: أن هذا المشرك قد يئس أن يكون له بعد فناء الدنيا وانقضاء الحياة نشور أو محيا أو فرح أو سرور، فهو يود لو يعمر ألف سنة.
(٣) الأثر: ١٥٩١ - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، وأبوه: ثقتان، ترجمنا لهما في شرح المسند: ٧٤٣٧. أبو حمزة: هو السكري، محمد بن ميمون، ثقة إمام. وهذا الإسناد صحيح متصل. وانظر الإسناد الآتي. في تفسير ابن كثير ١: ٢٣٨، ونص الكلام الفارسي فيه:"هزار سال نوروز مهرجان". وقد سألت أحد أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال: إن هذا النص لا ينطبق على قواعد الفارسية، وأنه يظن أن صوابها:"زه در مهرجان نو وروز هزار سال" ومعنى"زه": عش، و"در" ظرف بمعنى"في"، ومهرجان هو عيد لهم. ونيروز: عيد آخر في أول السنة. و"هزار" ألف، و"سال": سنة. فكأن"حر" التي في آخر الكلام في نص الطبري هي:"در" مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح، ومعناه: عش ألف سنة.
وفي المستدرك للحاكم ٢: ٢٦٤"هزار سال سرور مهرجان بخور"، وقال مصححه: يعني"تمتع ألف سنة كمثل عيد مهرجان. وهو عيد لهم"، وكأن هذا هو الصواب.
372
١٥٩٢ - وحدثت عن نعيم النحوي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس:"زه هزار سال".
١٥٩٣ - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر.
١٥٩٤ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد، عن ابن علية، عن ابن أبي نجيح في قوله: (يود أحدهم)، فذكر مثله.
١٥٩٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) حتى بلغ: (لو يعمر ألف سنة)، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة.
١٥٩٦ - وحدثت عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول أحدهم إذا عطس:"زه هزار سال"، يقول: عشرة آلاف سنة. (١)
* * *
(١) الخبر: ١٥٩٦ - ذكره الطبري هكذا مجهول الإسناد، بقوله: "حدثت عن أبي معاوية"، إلخ. والعلة في ذلك - فيما أرى - أن الأعمش لم يسمعه من سعيد بن جبير، وإن كان أدركه وروى عنه.
فقد روى الحاكم هذا الخبر، في المستدرك ٢: ٢٦٣ - ٢٦٤، من طريق إسحاق بن إبراهيم"حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس" - بنحوه. ثم قال الحاكم: "رواه قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس". ثم رواه بإسناده إلى محمد بن يوسف، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.. " وهذا إسناد صحيح متصل، دل على انقطاع الإسناد: "الأعمش عن سعيد بن جبير".
373
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله.
* * *
وقوله: (هو) عماد لطلب "ما" الاسم أكثر من طلبها الفعل، (١) كما قال الشاعر:
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس * (٢)
و"أن" التي في: (أن يعمر)، رفع، بـ "مزحزحه"، و"هو" الذي مع"ما" تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة.
* * *
وقد قال بعضهم: إن"هو" الذي مع"ما" كناية ذكر العمر. كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل"أن يعمر" مترجما عن"هو"، يريد ما هو بمزحزحه التعمير. (٣)
* * *
وقال بعضهم: قوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر.
* * *
قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا، وهو أن يكون"هو" عمادا، نظير قولك:"ما هو قائم عمرو".
* * *
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣١٢ في معنى"الاسم" و"الفعل"، و"العماد"، تعليق رقم: ٢، وانظر معاني الفراء ١: ٥٠ - ٥٢.
(٢) هذا شطر بيت مضى من أبيات ثلاثة، في هذا الجزء ٢: ٣١٣.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٤٠ معنى"الترجمة".
374
وقد قال قوم من أهل التأويل: إن"أن" التي في قوله:"أن يعمر" بمعنى: وإن عمر، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، يقول: وإن عمر.
١٥٩٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
١٥٩٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"أن يعمر"- ولو عمر.
* * *
وأما تأويل قوله: (بمزحزحه)، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه، كما قال الحطيئة:
وقالوا: تزحزح ما بنا فضل حاجة... إليك، وما منا لوَهْيِك راقع (١)
يعني بقوله::"تزحزح"، تباعد، يقال منه:"زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا،"وهو عنك متزحزح"، أي متباعد.
* * *
فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى الله، كما:-
(١) البيت ليس للحطيئة، وإنما هو لقيس بن الحدادية، من قصيدة له نفيسة طويلة رواها أبو الفرج في أغانيه ١٣: ٦. يقول قبل البيت، يذكر مجيئه إلى صاحبته أم مالك. وما راعنى إلا المنادى: ألا اظعنوا... وإلا الرواغى غدوة والقعاقع
فجئت كأني مستضيف وسائل... لأخبرها كل الذي أنا صانع
فقالت: تزحزح! ما بنا كبر حاجة... إليك، ولا منا لفقرك راقع
فما زلت تحت الستر حتى كأنني... من الحر ذو طمرين في البحر كارع
375
١٦٠٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما أروي- (١) عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، أي: ما هو بمنحيه من العذاب.
١٦٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، يقول: وإن عُمِّر، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منحيه.
١٦٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
١٦٠٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب)، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام.
١٦٠٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله بصير بما يعملون)، والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفي عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها.
* * *
(١) في المطبوعة: "فيما أرى"، خطأ، والصواب ما أثبت. وانظر الإسناد رقم: ١٥٩٠.
376
وأصل"بصير""مبصر" - من قول القائل:"أبصرت فأنا مبصر"، ولكن صرف إلى"فعيل"، كما صرف"مسمع" إلى"سميع"، و"عذاب مؤلم" إلى"أليم"،"ومبدع السموات" إلى بديع، وما أشبه ذلك. (١)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله ﷺ في أمر نبوته.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، (٢) عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا
(١) انظر ما سلف ١: ٢٨٣، وهذا الجزء ٢: ١٤٠.
(٢) في المطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ محض.
377
كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال:"نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر: فيما أروي: (١) وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال: وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، (٢) فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك. قال:"فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون)، فعندها باءوا بغضب على غضب. (٣)
١٦٠٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين -يعني المكي-، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ (٤) نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟
(١) في المطبوعة: "فيما أرى" - وانظر ما سلف قريبا: ٣٧٦.
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٣٩"أنت الآن فحدثنا.. "، وهي جيدة.
(٣) الأثر: ١٦٠٥ - إسناده صحيح. يونس بن بكير بن واصل الشيباني: ثقة، من تكلم فيه فلا حجة له، وأخرج له مسلم في صحيحه. وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ٢ / ٤١١، وابن سعد ٦: ٢٧٩، وابن أبي حاتم ٤ /٢ /٢٣٦. ووقع في المطبوعة هنا"يونس عن بكير" وهو خطأ واضح. عبد الحميد بن بهرام - بفتح الباء وسكون الهاء - الفزاري: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وتكلم فيه بعضهم من أجل روايته عن شهر بن حوشب، وهو راويته، ولكن شهر ثقة أيضًا، كما أشرنا في: ١٤٨٩.
والحديث رواه أحمد في المسند، مطولا: ٢٥١٤، وابن سعد في الطبقات ١/١/١١٥ - ١١٦، كلاهما من هاشم بن القاسم، عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد. ثم رواه أحمد: ٢٥١٥، عن محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، به ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله. ورواه أحمد أيضًا: ٢٤٧١، مختصرا، عن حسين، هو ابن محمد المروزي عن عبد الحميد بن بهرام.
ورواه أيضًا: ٢٤٨٣، من وجه آخر، أطول قليلا. وكذلك رواه أبو نعيم في الحلية ٤: ٣٠٤ - ٣٠٥ من هذا الوجه. وذكر الهيثمي الرواية: ٢٤٨٣، وأشار إلى ما في الرواية: ٢٥١٤ من الزيادة، في مجمع الزوائد ٨: ٢٤١ - ٢٤٢، وقال:"رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات". ونقل ابن كثير في التفسير ١: ٢٣٨ - ٢٣٩ رواية الطبري التي هنا، ثم أشار إلى رواية المسند: ٢٥١٤. ثم نقل رواية المسند: ٢٤٨٣ فيه ١: ٢٤٠، ونقل روايتي المسند أيضًا ٢: ١٨٦ - ١٨٧.
(٤) في المطبوعة: "فأيهما غلبت صاحبتها"، والصواب من نص سيرة ابن هشام ٢: ١٩١ - ١٩٢.
378
(١) قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، (٢) وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله فيهم: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون). (٣)
١٦٠٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! (٤) فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. (٥)
* * *
وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين
(١) نص ابن إسحاق في رواية ابن هشام ٢: ١٩٢: "هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به، تنام عيناه وقلبه يقظان؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ " وبعد ذلك اختلاف أيضًا في رواية ابن جرير عن ابن إسحاق.
(٢) في سيرة ابن هشام: "هل تعلمونه"، وهو أشبه بالصواب.
(٣) الأثر: ١٦٠٦ - هو حديث مرسل، مضى جزء منه، بهذا الإسناد: ١٤٨٩. وأشار إليه ابن كثير ٢٣٩: ١ - ٢٤٠، عقب حديث ابن عباس الذي قبله، وصرح أيضًا بأنه رواه محمد بن إسحاق مرسلا. وفي سيرة ابن هشام ٢: ١٩١ - ١٩٢، وفيه اختلاف في بعض اللفظ. وقد ساق ابن كثير هذين الأثرين (١٦٠٥، ١٦٠٦) وخرجهما، وواستوفى الكلام في هذه القصة في تفسيره ١: ٢٣٨ - ٢٤٥.
(٤) في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٠: "إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو".
(٥) الأثر: ١٦٠٧ - وهذا منقطع، وقد ذكره ابن كثير ١: ٢٤٠، عن هذا الموضع و"القاسم بن أبي بزة": سبق في: ٦٣١، وهو يروى عن التابعين.
380
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٨ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله ﷺ صلى ههنا. فكره ذلك وقال: أيما؟ رسول الله ﷺ أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! (١) ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله ﷺ فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. (٢) قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا به، فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم! إذا هلكتم! (٣) قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟
(١) في المطبوعة: "وقال: إنما رسول الله ﷺ أدركته الصلاة"، وهي عبارة ركيكة. وأثبت ما جاء في تفسير ابن كثير عن الطبري ١: ٢٤٠. وقوله"أيما" استفهام وتعجب، وأكثر ما تكتب: "أيم" (بفتح فسكون ففتح)، وبحذف الألف. تقول: أيم تقول؟ أي: أي شيء تقول؟ وانظر اللسان (أيم). يتعجب عمر من فعلهم.
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٢: "قد غلظ عليكم".
(٣) في المطبوعة: "أي هلكتم"، والصواب في تفسير ابن كثير.
381
قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. (١) قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان، (٢) فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ على: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، (٣) والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر! (٤)
١٦٠٩ - حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي. (٥)
١٦١٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة (٦) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم، فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه نحو رسول الله ﷺ ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله).
١٦١١ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما، فذكر نحوه.
١٦١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (من كان عدوا لجبريل)، قال: قالت اليهود:
(١) السلم: المسالم. تقول: أنا سلم لمن سالمني. رجل سلم، وقوم سلم، وامرأة سلم.
(٢) في المطبوعة: "خرقة"، وفي تفسير ابن كثير"خوخة" والصواب"مخرفة" كما أثبتها. والمخرفة: البستان، أو سكة بين صفين من نخل. خرف النخل والثمر: اجتناه، واجتناء الثمر هـ"الخرفة" (بضم فسكون).
(٣) في المطبوعة: "بأبي وأمي يا رسول الله" بإسقاط"أنت"، وأثبت ما في تفسير ابن كثير
(٤) الحديث: ١٦٠٨ - وهذا مرسل أيضًا. ذكره ابن كثير ١: ٢٤١ - ٢٤٣، عن هذا الموضع، ثم عن تفسير ابن أبي حاتم، من رواية مجالد عن عامر - وهو الشعبي - وسيأتي نحوها أيضًا من رواية مجالد رقم: ١٦١٤. ثم قال ابن كثير:"وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر. ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر، فإنه لم يدرك زمانه". وقال السيوطي في الدر المنثور ١: ٩٠"صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر".
رِبْعِي، بكسر الراء والعين المهملة، بينهما باء موحدة ساكنة، وآخره ياء تحتية مشددة: هو"ربعي بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" عرف"بابن علية"، كأخيه"إسماعيل بن علية". وربعي: ثقة مأمون، من شيوخ أحمد وأبي خيثمة وغيرهما. وقال عبد الرحمن بن مهدي:"كنا نعد ربعي بن علية من بقايا شيوخنا". وفي المسند: ٧٤٤٤ أن أحمد بن حنبل قال:"كان يفضل على أخيه". وهو مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ١ /٢٩٩، وابن أبي حاتم ١ /٢ /٥٠٩ - ٥١٠. داود بن أبي هند: ثقة، جيد الإسناد، رفع، من حفاظ البصرين. ترجمته في التهذيب، والكبير ٢/١/٢١١ -٢١٢، والصغير: ١٦٠، وابن أبي حاتم ١ /٢ /٤١١ - ٤١٢.
الشعبي: هو عامر بن شراحيل الهمداني، إمام جليل الشأن، من كبار التابعين. ولكنه لم يدرك عمر، كما قال ابن كثير. فإنه ولد سنة ١٩، أو سنة ٢٠.
(٥) الأثر: ١٦٠٩ - في المطبوعة: "حدثني يعقوب قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن علية" والصواب ما أثبته، يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وقد سلف مرارا بهذا الإسناد، وروايته عن ابن علية
(٦) السنة: الجدب والقحط.
382
إن جبريل هو عدونا، لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: (من كان عدوا لجبريل).
١٦١٣ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه)، قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة، فكان يأتيها، وكان ممره على طريق مدراس اليهود، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد ﷺ أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا، وتمر بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا ﷺ عندكم؟ فأَسْكتوا. (١) فقال: تكلموا، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى بعض، فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو لأخبرنه. قالوا: نعم، إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف، ولو أنه كان وليه ميكائيل، إذًا لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم،
(١) سكت الرجل: صمت. وأسكت الرجل (غير متعد) : انقطع كلامه فلم يتكلم، وأطرق من فكرة انتابته وقطعته.
384
فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فدعاه النبي ﷺ فقرأ عليه، فقال عمر: والذي بعثك بالحق، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك! (١)
١٦١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير، عن مجالد، عن الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله، (٢) وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [فبينما هو عندهم]، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم، (٣) فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنزل عليه: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله: (فإن الله عدو للكافرين). (٤)
(١) الأثر: ١٦١٣ - في الدر المنثور ١ - ٩١ مع اختلاف يسير في اللفظ واختصار في روايته.
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٣: "ما ينزلان إلا بإذن الله"، وكأنه هو الصواب.
(٣) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، زدتها من تفسير ابن كثير ١: ٢٤٢، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره.
(٤) الحديث: ١٦١٤ - وهذا إسناد مرسل أيضًا، ووقع فيه في المطبوعة خطأ في موضعين أثبتنا الصواب لليقين به. وكان في المطبوعة"حدثنا عبد الرحمن بن مغراء قال حدثنا زهير عن مجاهد عن الشعبي". فلا يوجد في شيوخ ابن مغراء، ولا في الرواة عن"مجاهد" أو"مجالد" من يسمى"زهيرا". و"مجاهد عن الشعبي" خطأ أيضًا، وكلاهما من كبار التابعين، من طبقة واحدة، ومجاهد أقدم قليلا. وعبد الرحمن بن مغراء لا يدرك أن يروى عن مجاهد، ولا عن الشعبي.
ومجالد: هو ابن سعيد الهمداني، وهو ثقة، ضعفه بعض الأئمة. وروى عنه من الأئمة: شعبة والسفيانان وابن المبارك، ورجحنا تصحيح حديث القدماء عنه، في شرح المسند: ٣٧٨١، لأن أعدل كلمة فيه قول عبد الرحمن بن مهدي:"حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء،". قال ابن حاتم:"يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره". وذكر ابن سعد في ترجمته ٦: ٢٤٣ جرح يحيى القطان إياه، ثم قال:"وقد روى عنه يحيى بن سعيد القطان مع هذا، وروى عنه سفيان الثورى، وشعبة، وغيرهم". وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري ٤/ ٢/٩، والصغير: ١٦٨، ١٦٩، وابن أبي حاتم ٤ /١/ ٣٦١ - ٣٦٢.
إسحاق بن الحجاج الرازي: هو الطاحوني المقرئ، ترجمنا له فيما مضى: ٢٣٠. وعبد الرحمن بن مغراء بن عياض الدوسي، أبو زهير: ثقة، تكلم بعضهم في روايته عن الأعمش، وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٢ /٢ /٢٩٠ - ٢٩١.
وهذا الحديث نقله ابن كثير ١: ٢٤٢ - ٢٤٣، من تفسير ابن أبي حاتم."حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر.." - وهو الشعبي، فذكر نحوه. ثم بين ابن كثير أنه منقطع، كما أشرنا آنفًا.
الراجح عندي أن عبد الرحمن بن مغراء ممن روى عن مجالد بعد تغيره.
385
١٦١٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله: (من كان عدوا لجبريل). قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنزلت هذه الآية: (من كان عدوا لجبريل).
١٦١٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بنحو ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) - فهو: أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة، فأبوا اتباعك، وجحدوا نبوتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك، وزعموا أنه عدو لهم -: من يكن من الناس
386
لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي، ويشد فؤادي، كما:-
١٦١٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (قل من كان عدوا لجبريل)، قال: وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا ﷺ عن أشياء كثيرة، فأخبرهم بها على ما هي عندهم -"إلا جبريل"، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني: تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم رسول الله ﷺ فيما سألوه عنه: أن جبريل صاحب وحي الله، وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم: (قل) يا محمد: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك)، يقول: فإن جبريل نزله. يقول: نزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك"، يعني: بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك.
١٦١٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)، يقول: أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله.
١٦١٩ - وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فإنه نزله على قلبك)، يقول: نزل الكتاب على قليك جبريل.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: (فإنه نزله على قلبك) - وهو يعني
387
بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل: فإنه نزله على قلبي = ولو قيل:"على قلبي" كان صوابا من القول = لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه، إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في نظير ذلك:"قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه-: و"قل للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك:"لا تقل للقوم إني قائم" و"لا تقل لهم إنك قائم"، و"الياء" من"إني" اسم المأمور بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) و (تغلبون) [آل عمران: ١٢]، بالياء والتاء. (١)
* * *
وأما"جبريل" فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون"جبريل، وميكال" بغير همز، بكسر الجيم والراء من"جبريل" وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة.
أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون:"جَبرئيل وميكائيل" على مثال"جبرعيل وميكاعيل"، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة، كما قال جرير بن عطية:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجَبرَئيل وكذبوا ميكالا (٢)
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٦٣.
(٢) ديوانه: ٤٥٠، ونقائض جرير والأخطل: ٨٧، من قصيدته الدامغة في هجاء الأخطل، والضمير إلى تغلب، رهط الأخطل، وقبله:
388
وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن:"جبريل" بفتح الجيم. وترك الهمز.
قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها، لأن"فعليل" في كلام العرب غير موجود. (١) وقد اختار ذلك بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال:"سمويل"، وأنشد في ذلك: (٢)
بحيث لو وزنت لخم بأجمعها... ما وازنت ريشة من ريش سمويلا (٣)
وأما بنو أسد فإنها تقول"جِبرين" بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في"جبريل""ألفا" فتقول: جبراييل وميكاييل.
وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ:"جَبْرَئِلّ" بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام.
فأما"جبر" و"ميك"، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى:"عبد"، والآخر بمعنى:"عبيد".
* * *
(١) في المطبوعة: "فعيل"، هو خطأ.
(٢) هو الربيع بن زياد العبسي، أحد الكملة من بني فاطمة بنت الخرشب الأنمارية.
(٣) الأغاني ١٤: ٩٢، ١٦: ٢٢، واللسان (سمل)، من أبيات أرسلها الربيع إلى النعمان ابن المنذر في خبر طويل، حين قال لبيد في رجزه: مهلا، أبيت اللعن، لا تأكل معه
وزعم أنه أبرص الخبيثة، وذكر من فعله قبيحا كريها، فرحل الربيع عن النعمان، وكان له نديما، وأرسل إليه أبياته. لئن رحلت جمالي لا إلى سعة... ما مثلها سعة عرضا ولا طولا
بحيث لو وزنت لخم بأجمعها... لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا
ترعى الروائم أحرار البقول بها... لا مثل رعيكم ملحا وغسويلا
فاثبت بأرضك بعدي، واخل متكئا... مع النطاسي طورا وابن توفيلا
ولخم: هم رهط آل المنذر ملوك الحيرة.
389
وأما"إيل" فهو الله تعالى ذكره، كما:-
١٦٢٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس:"جبريل" و"ميكائيل"، كقولك: عبد الله.
١٦٢١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"جبريل" عبد الله؛ و"ميكائيل"، عبيد الله. وكل اسم"إيل" فهو: الله.
١٦٢٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس: أن"إسرائيل، وميكائيل وجبريل، وإسرافيل" كقولك: عبد الله.
١٦٢٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال:"إيل"، الله، بالعبرانية.
١٦٢٤ - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن منصور قال، حدثنا قيس، عن عاصم، عن عكرمة، قال:"جبريل" اسمه: عبد الله؛ و"ميكائيل" اسمه: عبيد الله."إيل": الله.
١٦٢٥ - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: اسم"جبريل" عبد الله، واسم"ميكائيل" عبيد الله، واسم"إسرافيل": عبد الرحمن. وكل معبد،"إيل"، فهو عبد الله. (١)
١٦٢٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن
(١) الخبر: ١٦٢٥ - الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي: ضعيف قال أبو زرعة: "لا يصدق". وهو مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم ١/٢/٦١ -٦٢، والأنساب، في الورقة: ٤٠١. و"العنقزي": بفتح العين المهلة والقاف بينهما نون ساكنة وبالزاي. ووقع في المطبوعة"العبقري"، وهو تصحيف. وكذلك سيأتي في رقم: ١٦٥٥، بالتصحيف، وصححناه هناك.
390
محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين، قال: ما تعدون"جبريل" في أسمائكم؟ قال:"جبريل" عبد الله، و"ميكائيل" عبيد الله. وكل اسم فيه"إيل"، فهو مُعَبَّدٌ لله.
١٦٢٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: قال لي: هل تدري ما اسم"جبريل" من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله. قال: فهل تدري ما اسم"ميكائيل" من أسمائكم؟ قلت: لا. (١) قال: عبيد الله. وقد سمى لي"إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته، إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى"إيل" فهو معبد له.
١٦٢٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله: (جبريل) قال:"جبر" عبد،"إيل" الله، و"ميكا" قال: عبد."إيل": الله. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ"جبرئيل" بالفتح، والهمز، والمد. وهو -إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز.
وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة"جبر" و"ميكا" إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني. وذلك أن"الإلّ" بلسان العرب: الله، كما قال: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) [التوبة: ١٠]. فقال جماعة من أهل العلم:"الإل" هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول، فأخبروه - فقال لهم: ويحكم"
(١) في المطبوعة: "قال: لا"، والصواب ما أثبت.
(٢) لعله"وميكا". قال: "عبيد" بالتصغير، كما سلف آنفًا.
391
أين ذهب بكم؟ والله، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني"من إل": من الله * وقد:-
١٦٢٩ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) قال: قول"جبريل" و"ميكائيل" و"إسرافيل".
كأنه يقول: حين يضيف"جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى"إيل" يقول: عبد الله. (١) (لا يرقبون في مؤمن إلا)، كأنه يقول: لا يرقبون الله عز وجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه)، القرآن. ونصب "مصدقا" على القطع من"الهاء" التي في قوله: (نزله على قلبك). (٢)
فمعنى الكلام: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد ﷺ وما جاء به من عند الله، وهي تصدقه. (٣) كما:-
١٦٣٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس. (مصدقا لما بين
(١) لعل الصواب أن يقول: "إسراف"، مكان"إسرا"، أو تكون الأولى"إسرائيل" مكان"إسرافيل".
(٢) القطع: الحال هنا. وانظر ما سلف ١: ٢٣٠ - ٢٣٢، ٣٣٠، ٥٦١.
(٣) في المطبوعة: "وهي تصديقه" والصواب ما أثبت، يريد: وهي توافقه. كما فسر قبل.
392
يديه)، يقول: لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم.
١٦٣١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مصدقا لما بين يديه)، من التوراة والإنجيل.
١٦٣٢ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهدى) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه"هدى"، لاهتداء المؤمن به. و"اهتداؤه به" اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و"الهادي" من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل:"هواديها"، وهو ما تقدم أمامها، وكذلك قيل للعنق:"الهادي"، لتقدمها أمام سائر الجسد. (١)
* * *
وأما"البشرى" فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه، وذلك هو"البشرى" التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره. (٢)
وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:
(١) انظر ما سلف ١: ١٦٦ - ١٧٠، ٢٣٠، ٢٤٩ ثم ٥٤٩ - ٥٥١.
(٢) انظر ما سلف ١: ٣٨٣.
393
١٦٣٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هدى وبشرى للمؤمنين)، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه، وكان على يقين من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله، من عاداه، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ (١) وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل، وعادى جميع ملائكته ورسله. لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته، ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته. لأن العدو لله عدو لأوليائه، والعدو لأولياء الله عدو له. فكذلك قال لليهود - الذين قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة، وميكائيل ولينا منهم-: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين)، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو، وكذلك عدو بعض رسل الله، عدو لله ولكل ولي. وقد:-
١٦٣٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله - يعني العتكي -، عن رجل من قريش قال: سأل النبي ﷺ اليهود
(١) هكذا في المطبوعة: "من كان عدوا لله"، وهو لايستقيم، وكأن الصواب"أن من كان عدوا لله، عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله" بإسقاط"من" من"من عاداه".
394
فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنزل الله: (من كان عدوا لله وملائكته) الآية. (١)
١٦٣٥ - حدثت عن عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو عدو لنا. فقال له عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين). قال: فنزلت على لسان عمر.
* * *
وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو، وأن عدو محمد من الناس كلهم، لمن الكافرين بالله، الجاحدين آياته.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟
قيل: بلى.
فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟
قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما، أن اليهود لما قالت:"جبريل عدونا، وميكائيل ولينا" - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن
(١) الحديث: ١٦٣٤ - عبيد الله العتكي: هو عبيد الله بن عبد الله، أبو المنيب العتكي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وذكره البخاري في كتاب الضعفاء، ص: ٢٢، وقال: "عنده مناكير". وقال ابن أبي حاتم ٢ /٢ /٣٢٢ في ترجمته: "سمعت أبي يقول: هو صالح الحديث. وأنكر على البخاري إدخاله في كتاب الضعفاء. وقال: "يحول". ولكن هذا الحديث منقطع ضعيف الإسناد، لأن أبا المنيب إنما يروى عن التابعين.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٥، من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، به. وصحه الذهبي في مختصره. ونقله ابن كثير ١: ٢٤٨ - ٢٤٩، عن الطبري، ثم أشار إلى رواية الحاكم.
395
جبريل صاحب محمد ﷺ - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا، فإن الله له عدو، وأنه من الكافرين. فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء. لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: (ورسله)، فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين.
* * *
وأما إظهار اسم الله في قوله: (فإن الله عدو للكافرين)، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: (من كان عدوا لله وملائكته) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية، فقيل:"فإنه عدو للكافرين"، على سامعه، من المَعْنِيّ بـ "الهاء" التي في"فإنه": أألله، أم رسل الله جل ثناؤه، أم جبريل، أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك، لاحتمال الكلام ما وصفت، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر: (١)
قبح الإله وجوه تغلب، كلما شَبَح الحجيج وكبروا إهلالا
ليت الغراب غداة ينعَب دائما كان الغراب مقطع الأوداج (٢)
وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر في ذلك بخلاف ما قال. وذلك أن"الغراب" الثاني لو كان مكنى عنه، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم "الغراب" الأول، إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه
(١) هو جرير.
(٢) ديوانه ٨٩، وأمالي ابن الشجرى ١: ٢٤٣، وغيرهما. ورواية ديوانه"ينعت بالنوى" وهو الجيد، فإن قبله:
إن الغراب، بما كرهت، لمولع بنوى الأحبة دائم التشحاج
والأوداج جمع ودج: وهو عرق من عروق تكتنف الحلقوم.
396
غير كناية اسم "الغراب" الأول - وأن قبل قوله: (فإن الله عدو للكافرين) أسماء، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه، (١) لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم، إلا بتوقيف من حجة. فلذلك اختلف أمراهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولقد أنزلنا إليك آيات)، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد ﷺ من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. (٢) فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد ﷺ من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
١٦٣٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولقد أنزلنا إليك
(١) في المطبوعة: "وإن قيل قوله فإن الله عدو للكافرين" اسما لو جاء.. " والصواب ما أثبت. وقد رجم مصححو المطبوعة رجما لا خير فيه في تصحيح كلام الطبري.
(٢) في المطبوعة: "فأطلع الله في كتابه.. " وهو كلام لا يستقيم، والصواب ما أثبت. يعني فأظهر الله هذه الخفايا، وتلك الأخبار، وما حرفوه من الأحكام في توراتهم.
397
آيات بينات) يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.
١٦٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (١) يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! (٢) فأنزل الله عز وجل: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) ! (٣)
١٦٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة"القطيوني" بالقاف، وهو خطأ، وهو من بني ثعلبة بن الفطيون (بكسر الفاء وسكون الطاء، وضم الياء). قال السهيلي: "الفطيون: كلمة عبرانية تطلق على كل من ولي أمر اليهود وملكهم". ورواية ابن جرير: "ابن صوريا"، والذي في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦"ابن صلوبا الفطيوني". وقد ذكر ابن هشام فيما روى من سيرة ابن إسحاق ١: ١٦٠ - ١٦١"الأعداء من يهود"، فعد في بني ثعلبة: ابن الفطيون: "عبد الله بن صوريا الأعور، ولم يكن في زمانه أحد أعلم بالتوارة منه، وابن صلوبا، ومخيريق. وكان حبرهم، أسلم"، ولم أستطع أن أرجح أهو: ابن صوريا، أو - ابن صلوبا - الذي كان من أمره ما كان. ولعلهما روايتان مختلفتان عن ابن إسحاق. وانظر أيضًا الأثر: ١٦٣٨.
(٢) في ابن هشام: "من آية فنتبعك لها، فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله: "ولقد أنزلنا إليك.. "
(٣) الأثران: ١٦٣٧ - ١٦٣٨ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦.
(٤) الأثران: ١٦٣٧ - ١٦٣٨ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦.
398
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (٩٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى"الكفر" الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا. (١) وكذلك بينا معنى"الفسق"، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره. (٢)
* * *
فتأويل الآية: ولقد أنزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم، ونبي مبعوث، وما يجحد تلك الآيات = الدالات على صدقك ونبوتك، التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم = إلا الخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا ﷺ من يهود بني إسرائيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) ﴾
قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم"الواو" التي في قوله: (أو كلما عاهدوا عهدا). فقال بعض نحويي البصريين: هي"واو" تجعل مع حروف الاستفهام، وهي مثل"الفاء" في قوله: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة: ٨٧]، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه،
(١) انظر ما سلف ١: ٢٥٥، ٣٨٢، ٥٥٢، وهذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٣٧.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٠٩ - ٤١٠، وهذا الجزء ٢: ١١٨.
399
وهي مثل"الفاء" التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا، (١) وكقولك للرجل:"أفلا تقوم"؟ وإن شئت جعلت"الفاء" و"الواو" هاهنا حرف عطف.
وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام.
* * *
والصواب في ذلك عندي من القولة أنها"واو" عطف، أدخلت عليها"ألف" الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا قالوا: سمعنا وعصينا)، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. ثم أدخل"ألف" الاستفهام على"وكلما" فقال: (قالوا سمعنا وعصينا، أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم.
وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له، (٢) فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن"الواو" و"الفاء" من قوله: (أو كلما) و (أفكلما) زائدتان لا معنى لهما.
* * *
وأما"العهد"، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد ﷺ من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:-
١٦٣٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث
(١) لم أعلم ماذا أراد الطبري بهذا.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٣٩ - ٤٤١.
400
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه-: والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنزل الله جل ثناؤه: (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون). (١)
١٦٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأما"النبذ" فإن أصله -في كلام العرب- الطرح، ولذلك قيل للملقوط:"المنبوذ"، (٢) لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ"نبيذا"، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله"مفعول" صرف إلى"فعيل"، أعني أن"النبيذ" أصله"منبوذ" ثم صرف إلى"فعيل" فقيل:"نبيذ"، كما قيل:"كف خضيب، ولحية دهين" - يعني: مخضوبة ومدهونة. (٣) يقال منه:"نبذته أنبذه نبذا"، كما قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا (٤)
* * *
فمعنى قوله جل ذكره: (نبذه فريق منهم)، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:-
(١) الأثر: ١٦٣٩ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦، مع اختلاف يسير في اللفظ. وقد ذكر ابن هشام في ٢: ١٦١"مالك بن الصيف" وقال: "ويقال: ابن ضيف".
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٧: "وسمى اللقيط.. " واللقيط أجود من الملقوط.
(٣) انظر ما سلف ١: ١١٢.
(٤) ديوانه: ٢١ (في نفائس المخطوطات: ٢)، وسيأتي في ٢٠: ٤٩ - ٥٠ (بولاق)، ومجاز القرآن: ٤٨، من أبيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على ميسان، وكان كتب إليه في أمر يهمه، فشغل عنه؛ وقبل البيت:
401
١٦٤١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (نبذه فريق منهم) يقول: نقضه فريق منهم.
١٦٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (نبذه فريق منهم)، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: (نقضه فريق منهم).
* * *
و"الهاء" التي في قوله: (نبذه)، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم.
* * *
و"الفريق" الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنزلة"الجيش" و"الرهط" الذي لا واحد له من لفظه. (١)
* * *
و"الهاء والميم" اللتان في قوله: (فريق منهم)، من ذكر اليهود من بني إسرائيل.
* * *
وأما قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون.
* * *
ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٤٤، ٢٤٥.
402
العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه = على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم = ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى"الإيمان"، وأنه التصديق. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولما جاءهم)، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - (رسول)، يعني بالرسول: محمدا صلى الله عليه وسلم. كما:-
١٦٤٣ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (ولما جاءهم رسول)، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله: (مصدق لما معهم)، فإنه يعني به أن محمدا ﷺ يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه.
* * *
وأما تأويل قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم)، فإنه للذي هو مع اليهود، وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله ﷺ من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا ﷺ نبي لله، (نبذ فريق)، يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب). وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: (كتاب الله)، التوراة.
(١) انظر ما سلف ١: ٢٣٤ - ٢٣٥، ٢٧١، ٥٦٠، وهذا الجزء ٢: ١٤٣، ٣٤٨.
403
وقوله: (وراء ظهورهم)، (١) جعلوه وراء ظهورهم. وهذا مثل، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال:"قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره"، يعني به: أعرض عنه وصد وانصرف، كما:-
١٦٤٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم)، قال: لما جاءهم محمد ﷺ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. (٢) فذلك قوله الله: (كأنهم لا يعلمون).
* * *
ومعنى قوله: (كأنهم لا يعلمون)، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد ﷺ وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم، كما:-
١٦٤٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب)، يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب"كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون) : أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا.
* * *
(١) في المطبوعة: "وقوله نبذوه وراء ظهورهم"، فحذفت"نبذوه"، لأن الطبري ساق الآية بتمامها، وهذا لفظ مقحم فيها.
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٧ زيادة، بعد قوله: "وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قول الله". وآصف: كان كاتب سليمان. وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان. ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا (ابن كثير ١: ٢٤٨).
404
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى، وراء ظهورهم، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان). فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله ﷺ بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة، تأمر من اتباع محمد ﷺ وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٤٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) - على عهد سليمان - قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، (١) فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب
(١) في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٩: "ما يكون في الأرض.. أو غيب".
405
الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا اسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ (١) قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. (٢) فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد ﷺ خاصموه بها، فذلك حين يقول: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (٣)
١٦٤٧ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا ﷺ زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. (٤) فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر
(١) لا تأكلونه: أي لا تنفدونه أبدا. يقال: أكل فلان عمره: إذا أفناه.
(٢) في المطبوعة: "فقام"، والصواب ما أثبته من تفسير ابن كثير.
(٣) الأثر: ١٦٤٦ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٩.
(٤) خاصمني فخصمته أخصمه: غلبته بالحجة في خصومي.
406
والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان - (١) وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي ﷺ بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم. (٢)
* * *
١٦٤٨ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، قال: لما جاءهم رسول الله ﷺ مصدقا لما معهم، (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) الآية، قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر).
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٤٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان، فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان.
١٦٥٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر:"من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا". حتى إذا صنعوا أصناف السحر، (٣) جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان
(١) في تفسير ابن كثير: "تحت كرسي مجلس سليمان".
(٢) الأثر: ١٦٤٧ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٩ - ٢٥٠.
(٣) في تفسير ابن كثير: "صنفوا أصناف السحر". وهي أجود.
407
بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! (١) يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا). (٢)
* * *
قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، (٣) فلما رجع الله إلى سليمان ملكه، قام الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك، (٤) فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه
(١) في المطبوعة: "لمحمد صلى الله عليه وسلم"، والذي أثبته مقتضى سياق كلامهم.
(٢) إلى هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره عن أبي جعفر ١: ٢٥٠، أما سائر الخبر، فإنه رواه في ١: ٢٤٧، وصدره بقوله: "وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية - وكان حين ذهب ملك سليمان.. "، وساق الخبر بنصه هذا. فلست أدري أفي نسخ الطبري سقط، أم هذه جزء من رواية الطبري عن ابن إسحاق من حديث ابن عباس.
(٣) الفئام: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه.
(٤) حدثان الشيء (بكسر فسكون) : أوله وابتداؤه وقرب العهد به. وهو منصوب على الظرفية.
408
ويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: (واتبعوا) بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله ﷺ أثر منقول، ولا حجة تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما تتلوا الشياطين)، الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
* * *
واختلف في تأويل قوله: (تتلو). فقال بعضهم: يعني بقوله: (تتلو)، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو "تِلاوة" الرجل للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٥١ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو، عن مجاهد في قول الله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٨ - ٣٩.
409
مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر. (١)
١٦٥٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، من الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه.
١٦٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، قال: نراه ما تحدث.
١٦٥٤ - حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ما تتلو)، ما تتبعه وترويه وتعمل به.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٥٥ - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: (تتلوا)، قال: تتبع. (٣)
١٦٥٦ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي رزين مثله. (٤)
* * *
(١) الأثر: ١٦٥١ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٠.
(٢) الأثر: ١٦٥٤ - كان في المطبوعة: "سالم بن جنادة"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر رقم: ٤٨ في الجزء الأول. وهو جزء من خبر سيأتي برقم: ١٦٦٠.
(٣) الأثر: ١٦٥٥ - في المطبوعة"العبقري"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر رقم: ١٦٢٥.
(٤) الأثر: ١٦٥٦ - في المطبوعة"نصر بن عبد الرحمن الأودي"، وهو خطأ وانظر التعليق على الأثر: ٤٢٣ في الجزء الأول.
410
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين.
* * *
ولقول القائل:"هو يتلو كذا" في كلام العرب معنيان. أحدهما: الاتباع، كما يقال:"تلوت فلانا" إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه: (هُنَالِكَ تتلو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) [يونس: ٣٠]، (١) يعني بذلك تتبع.
والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول:"فلان يتلو القرآن"، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت:
وخبرني من كنت أرسلت أنما أخذت كتابي معرضا بشمالكا
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد (٢)
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى"التلاوة" كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (على ملك سليمان)، في ملك سليمان. وذلك أن العرب تضع"في" موضع"على" و"على" في موضع"في".
(١) "هنالك تتلو" إحدى القراءتين، والأخرى"هنالك تبلو"، وهي التي في مصاحفنا اليوم وقال أبو جعفر في تفسيره ١١: ٧٩"إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل منهما أئمة من القراء".
(٢) ديوانه: ٨٨، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد، حين خرج رسول الله مهاجرا إلى المدينة. ورواية الديوان: "في كل مسجد"، ورواية الطبري أمثل.
(٣) كان ينبغي أن يكون في هذا المكان تفسير قوله" ما تتلو" الذي سيأتي في: ٤١٨
411
(١) من ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [سورة طه: ٧١] يعني به: على جذوع النخل، وكما قالوا:"فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا"، بمعنى واحد. (٢) وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله:
١٦٥٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: (على ملك سليمان)، يقول: في ملك سليمان.
* * *
١٦٥٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق في قوله: (على ملك سليمان)، أي: في ملك سليمان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، (٣) ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟
قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى
(١) انظر ما سلف ١: ٢٩٩.
(٢) في المطبوعة: "وكما قال: فعلت كذا.. " ولا يستقيم إلا على تمريض.
(٣) قوله: "وما هذا الكلام" الإشارة فيه إلى الآية التي يؤولها: "وما كفر سليمان" يقولون: ما مكان هذا الكلام - من هذا الكلام وهو قوله: "واتبعوا ما تتلو الشياطين".
412
الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم، (١) عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان، وهو نبي الله ﷺ - منهم بشر، (٢) وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر = لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها = وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه.
* * *
* ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار:
* * *
١٦٥٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان
(١) في المطبوعة"لأنفسهم"، والصواب إسقاط هذه اللام، كما يدل عليه السياق.
(٢) سياق العبارة: "وتبرأ.. من سليمان.. منهم بشر". ولعل"بشر" هذه"نفر"، أي جماعة. يقول: تبرأت جماعة أخرى من سليمان، إذ نسب إلى السحر، وكفروه.
413
يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد ﷺ براءة سليمان. فقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) الآية، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. (١)
١٦٦٠ - حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل جل ثناؤه: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، فأنزل الله جل وعز وعذره. (٢)
١٦٦١ - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير، عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان من كل
(١) الثر: ١٦٥٩ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٠.
(٢) الأثر: ١٦٦٠ - انظر الأثر السالف: ١٦٥٤ والتعليق عليه.
414
دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (١)
١٦٦٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا حدث منه صدق، (٢) كذب معها سبعين كذبة. قال: فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - (٣) فأنزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (٤).
١٦٦٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. (٥) فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى
(١) الأثر: ١٦٦١ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥١، وفيه"فزاد الناس".. مكان"فرأى" والصواب ما في الطبري.
(٢) في تفسير ابن كثير: "فإذا جرت منه وصدق"، ولعلها تصحيف.
(٣) في تفسير ابن كثير: "حتى بقاياها".
(٤) الأثر: ١٦٦٢ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٨ - ٢٤٩، مع اختلاف في بعض اللفظ غير الذي أثبته.
(٥) في المطبوعة: "وأعلموهم إياه"، وقد مضى في رقم: ١٦٥٢، "وعلموهم"، وكذلك أثبتها هنا.
415
الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه، (١) كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا).
١٦٦٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر).
١٦٦٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. (٢)
١٦٦٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت:"من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا". فكتبته وجعلت عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان
(١) في المطبوعة: "فتتبع تلك الكتب" بزيادة الفاء، ولا موضع لها.
(٢) الأثر: ١٦٦٥ - كان في المطبوعة: "حدثنا القاسم قال حدثنا حجاج" أسقط منه"قال حدثنا الحسين"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه إلينا رقم: ١٦٥٧، وسيأتي في الذي يلي.
416
بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نبيا، وإنما كان ساحرا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) الآية. (١)
١٦٦٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وذلك أن رسول الله ﷺ -فيما بلغني- لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، -أي باتباعهم السحر وعملهم به- (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت). (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وتأويل قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ما ذكرنا = فبين أن في الكلام متروكا، (٣) ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان، وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
(١) الأثر: ١٦٦٦ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥١.
(٢) الأثر: ١٦٦٧ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٢ - ١٩٣.
(٣) في المطبوعة: "فتبين" وما أثبت أشبه بعبارة الطبري.
417
السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) على ما قلنا.
١٦٦٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، يقول: ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى"تتلو"، (١) وتوجيه من وجه ذلك إلى أن"تتلو" بمعنى"تلت"، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: (واتبعوا)، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول، (٢) فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
وأما معنى قوله: (ما تتلوا)، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو السحر. (٣)
١٦٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، أي السحر. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟
قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر.
[فإن] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟
(١) انظر ما سلف قريبا: ٤١١.
(٢) قوله: "وتوجيه من وجه ذلك أن: تتلو - بمعنى: تلت" لم يأت هنا في تفسير الآية، بل جاء في تفسير آية مضت من سورة البقرة: ٩١، ص ٣٥٠ - ٣٥٢.
(٣) هذه الفقرة، والأخرى التي قبلها، والأثر الآتي رقم: ١٦٦٩، كان أولى أن تكون في آخر تفسير قوله: "ما تتلو الشياطين" فيما مضى: ٤١١.
(٤) الأثر: ١٦٦٩ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٢.
418
قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين). فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى"لم".
* ذكر من قال ذلك:
١٦٧٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فإنه يقول: لم ينزل الله السحر.
١٦٧١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: (وما أنزل على الملكين)، قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
* * *
فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله: (وما أنزل على الملكين) إلى: ولم ينزل على الملكين-: واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين = ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ="ببابل، هاروت وماروت". فيكون حينئذ قوله:" (ببابل هاروت وماروت)، من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
419
فإن قال لنا قائل: وكيف - وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [من السحر]، وما أنزل [الله السحر] على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت - فيكون معنيا بـ "الملكين": جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمدا ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس [ذلك] ببابل، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: (١) اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون"هاروت وماروت"، على هذا التأويل، ترجمة على"الناس" وردا عليهم. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل تأويل"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) -"الذي".
* ذكر من قال ذلك:
١٦٧٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، (٣) ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر".
(١) في المطبوعة وابن كثير: "وأن الذين يعلمونهم"، وما أثبت هو الصواب.
(٢) "الترجمة" عند الكوفيين هي"البدل"، وانظر ما سلف ٢: ٣٤٠ وانظر ما سيأتي: ٤٢٣. والزيادات التي بين الأقواس في هذه الفقرة، من تفسير ابن كثير ١: ٢٥٢، وقد نقل كلام الطبري بنصه.
(٣) حاف له يحيف حيفا: مال معه فجاز وظلم غيره. وحاف عليه: ظلمه وجار عليه.
420
١٦٧٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا. (١)
١٦٧٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الناس ببابل هاروت وماروت). فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت.
١٦٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، قال: التفريق بين المرء وزوجه.
١٦٧٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين)، فقرأ حتى بلغ: (فلا تكفر)، قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى.
* * *
قال أبو جعفر (٢) إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم
(١) الأثر: ١٦٧٣ - هو من تتمة الأثر السالف: ١٦٤٦، ويرجع الضمير في قوله: "وخاصموه به أيضًا - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اليهود، كما تبين ذلك من مراجعة الأثر هناك.
(٢) كان في المطبوعة هنا: "وقالوا: إن قال لنا قائل.. ". والضمير في"قالوا"، لا يعود إلى مذكورين قبل. وكأن الناسخ تعاظمه أن يكون الرد الآتي من كلام أبي جعفر، فحذف ما جرى عليه في تفسيره من قوله"قال أبو جعفر"، وأقحم"وقالوا" مكانها، ثم زاد فحشا هذه الفقرات الآتية بكلمته"وقالوا"، كما سنبينه في مواضعه من التعليق. وهذا أسلوب لم يطرقه أبو جعفر قط في تفسيره كله.
والذي استبشعه بعض النساخ - فيما نرجح - سيأتي بعد قليل في ص ٤٢٣ - ٤٢٦ بأوضح مما قاله هنا. وقد عد ابن كثير قول أبي جعفر مسلكا غريبا، فقال في تفسيره ١: ٢٥٣، وذكر ما ذكره أبو جعفر من قول من قال"ما" بمعنى"لم" فقال: "ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن"ما" بمعنى"الذي"، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر، اختبارا لعباده وامتحانا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به. وهذا الذي سلكه غريب جدا".
ولست أستنكر ما قاله أبو جعفر، كما استنكره ابن كثير، ولو أنت أنصفت وتتبعت كلام أبي جعفر، لرأيت فيه حجة بينه ساطعة على صواب مذهبه الذي ذهب إليه، ولرأيت دقة ولطفا في تناول المعاني، وتدبير الألفاظ، لا تكاد تجدهما في غير هذا التفسير الجليل القدر.
421
هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟
قلنا له: إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله، وبين جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.
(١) وليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته. وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به.
(٢) فليس في إنزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. (٣) ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حرجا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما
(١) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ليس في العلم.. ". انظر ما سلف.
(٢) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) فليس في إنزال الله.. " انظر ما سلف.
(٣) كان في المطبوعة هنا: " (قالوا) ولو كان الله أباح.. " انظر ما سلف.
422
به. (١) إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى"ما" معنى"الذي"، وهي عطف على"ما" الأولى. غير أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا). وكان يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين، وأما الذي يعلم الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه، كما قال الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: جائز أن تكون"ما" بمعنى"الذي"، وجائز أن تكون"ما" بمعنى"لم".
* ذكر من قال ذلك:
١٦٧٨ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنزل عليهما، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
١٦٧٩ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض، عن
(١) استعمل أبو جعفر: هو"حرج" - على وزن: هو"فرح" - بمعنى: آثم. وأهل اللغة ينكرون ذلك. لا يقال للآثم إلا"الحارج" على النسب. لأن"الحرج" بمعنى الإثم، لا فعل له. ولعل الناسخ أخطأ فكتب"حرجا.. وحرجين" مكان"حارجا.. وحارجين"، بمعنى: آثم، وآثمين، ولكني تركتها هنا على حالها مخافة أن تكون من كلام أبي جعفر خطأ اجتهاد، أو صوابا علمه هو لم يبلغنا.
(٢) سيأتي بيان قوله هذا كله بأوفى من هذا وأتم في ص: ٤٢٣ - ٤٢٦.
423
بعض أصحابه، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره: (وما أنزل على الملكين)، فقيل له: أنزل أو لم ينزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان، إلا أني آمنت به. (١).
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) إلى معنى"الذي"، دون معنى"ما" التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن"ما" إن وجهت إلى معنى الجحد، تنفي عن"الملكين" أن يكونا منزلا إليهما، (٢) ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني"هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما (٣) أو بدلا من"الناس" في قوله: (يعلمون الناس السحر)، وترجمة عنهما. (٤) فإن جعلا بدلا من"الملكين" وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنه فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به من بين المرء وزوجه). لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ (٥)
(١) الخبر: ١٦٧٩ - يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري: إمام معروف، يروى عنه الطبري كثيرا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة. وقال ابن أبي حاتم ٤ /٢ /٢٤٣: "كتبت عنه، وأقمت عليه سبعة أشهر". وقال: "سمعت أبي يوثق يونس بن عبد الأعلى، ويرفع من شأنه". ولد سنة ١٧٠، ومات سنة ٢٦٤.
وأما شيخه هنا فهو: "أنس بن عياض بن ضمرة": وهو ثقة، خرج له أصحاب الكتب الستة. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ /٢ /٣٤، وابن أبي حاتم ١ /١ /٢٨٩.
وكتب في المطبوعة"بشر" بدل"أنس". وهو تحريف واضح. صوابه في ابن كثير ١: ٢٥٣، نقلا عن هذا الموضع من الطبري. ولم نجد في الرواة من يسمى"بشر بن عياض" أبدا.
(٢) في المطبوعة: "فتنفي... " بزيادة فاء لا خير فيها.
(٣) انظر معنى "الترجمة" آنفًا: ٤٢٠ تعليق: ٢.
(٤) في المطبوعة "يعلمان الناس السحر" وهو خطأ. وانظر ما سلف: ٤٢٠.
(٥) في المطبوعة: "ما يفرق"، والصواب ما أثبت.
424
وبعد، فإن"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين)، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: (وما كفر سليمان)، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: (وما كفر سليمان)، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين.
وإن كان قوله"هاروت وماروت" ترجمة عن"الناس" الذين في قوله: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو"هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين:
إما أن يكونا ملكين، فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول.
أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم. (١) لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما.
(١) يقول في سياقه: قد ارتفع من بني آدم - السحر، والعلم به والعمل.
425
وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله. (١)
* * *
فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبَيِّنٌ أن معنى (ما) التي في قوله: (وما أنزل على الملكين) بمعنى"الذي"، وأن"هاروت وماروت"، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لأنهما في موضع خفض على الرد على"الملكين". ولكنهما لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما.
* * *
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه = يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا،
(١) بطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا. وهذا باطل بين البطول والبطلان.
426
إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. (١) فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر)، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك، كما:-
١٦٨٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن في قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) إلى قوله: (فلا تكفر)، أخذ عليهما ذلك.
* * *
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (ببابل) :
* * *
١٦٨١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب، عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فاهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها"بيذخت" فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما
(١) هذه حجة رجل يبصر دقيق المعاني، ولا يغفل عن مواضع السقط في كلام من يتكلم وهو لا يضبط ما يقتضيه كلامه. وقد استخف به ابن كثير، لأنه لم يضبط ما ضبطه هذا الإمام المتمكن من عقله وفهمه.
427
للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل. (١)
١٦٨٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حجاج، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! (٢) فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! (٣) قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكان أهل فارس يسمونها"بيذخت". قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. (٤) (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا). فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. (٥)
(١) الخبر: ١٦٨١ - أبو شعبة العدوي، هذا الذي يروى هنا عن ابن عباس: لم أعرف من هو؟ ولا وجدت له ذكرا في شيء من المراجع. والراجح عندي أن اسمه محرف عن شيء لا أعرفه.
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٦، والدر المنثور ١: ٩٩: "ربنا، لا تمهلهم"، وكأنها هي الصواب، وإن كانت الأولى صحيحة المعنى.
(٣) هذه العبارة صحيحة المعنى، ولكنها جاءت في تفسير ابن كثير: "إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". وجاءت في الدر المنثور: "إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا". مختصرا.
(٤) في المطبوعة: "وكانت الملائكة" بالواو، والصواب من ابن كثير والدر المنثور.
(٥) الخبر: ١٦٨٢ - الحجاج بن المنهال الأنماطي: ثقة فاضل، أخرج له الجماعة. شيخه"حماد": الراجح عندنا أنه"حماد بن سلمة"، وإن كان في التهذيب أنه يروى عن"الحمادين"، يعني حماد بن زيد وحماد بن سلمة. ولكن اقتصر البخاري في ترجمته في الكبير ١ /٢ / ٣٧٦ على ذكر"حماد بن سلمة"، وكذلك صنع ابن أبي حاتم ١ /٢ /١٦٧. فصنيعهما يدل على أنه عرف بالرواية عنه أكثر - ووقع في المطبوعة هنا"حجاج" بدل"حماد". والتصحيح من ابن كثير ١: ٢٥٦، إذ نقل هذا الخبر عن الطبري.
428
١٦٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد قال، سمعت عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا. (١)
١٦٨٤ - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق - جميعا، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما. (٢)
(١) الخبر: ١٦٨٣ - خالد الحذاء: هو"خالد بن مهران"، ثقة كثير الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢ /٢ /١٥٩، وابن أبي حاتم ١ /٢ / ٣٥٢ - ٣٥٣.
عمير بن سعيد النخعي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ /١ /٣٧٦. ووقع في المطبوعة هنا"عمرو" بدل"عمير". وهو خطأ، صوابه في ابن كثير ١: ٢٥٥ عن رواية الطبري هذه.
والخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٥ - ٢٦٦، مطولا، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، "عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت عليا.. "، فذكره بطوله.
(٢) الخبر: ١٦٨٤ - راه البخاري بإسنادين: من طريق مؤمل بن إسماعيل، ومن طريق عبد الرازق، كلاهما عن الثوري. موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي: هو صاحب المغازي، كان ثقة ثبتا. كان مالك يقول:"عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة". وهو مترجم في الكبير للبخاري ٤/ ١/ ٢٩٢ وابن أبي حاتم ٤/ ١ /١٥٤ - ١٥٥.
والذي أثبتنا هو الصواب، وكان في المطبوعة"محمد بن عقبة"، بدل"موسى". و"محمد ابن عقبة": هو أخو موسى بن عقبة. وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، والكبير ١/١ /١٩٨ - ١٩٩، وابن أبي حاتم ٤/١/٣٥.
وكان من المحتمل أن يكون ما في المطبوعة صحيحا، لأن سفيان الثوري يروي عن محمد بن عقبة، كما يروي عن أخيه موسى. لولا الدلائل والقرائن، التي جزمنا معها بخطأ ذلك:
فأولا: أن محمد بن عقبة لم يذكر في ترجمته بالرواية عن سالم بن عبد الله بن عمر.
وثانيا: أن ابن كثير نقل هذا الخبر عن تفسير عبد الرزاق، عن الثوري، عن موسى بن عقبة ١: ٢٥٥، ثم ذكر أن الطبري رواه من طريق عبد الرزاق. وثالثا: الخبر ثابت في تفسير عبد الرزاق، في نسخة مصورة عندي، عن مخطوطة دار الكتب المصرية، المكتوبة سنة ٧٢٤. وفيها"عن موسى بن عقبة".
فاتفق على هذا الكتابان: الكتاب الذي نقل عنه الطبري، والكتاب الذي نقل عن الطبري.
ورابعا: أن ابن كثير قال أيضًا:"رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مؤمل، عن سفيان الثوري، به".
والطبري هنا رواه - كما ذكرنا - عن مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري. فاتفقت روايته مع رواية ابن أبي حاتم.
وليس بعد هذا ثبت ويقين.
429
١٦٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي، فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول، انزلا إلى الأرض، ولا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما. (١)
(١) الخبر: ١٦٨٥ - هو تكرار للخبر قبله، من رواية عبد العزيز بن المختار، عن موسى ابن عقبة. وعبد العزيز بن المختار الدباغ: ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم /٢/٣٩٣ - ٣٩٤.
430
١٦٨٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية،"الزُّهَرة"، وبالنبطية"بيذخت"، واسمها بالفارسية"أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها، قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها، (١) وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا الهلك، (٢) فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة، فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر.
١٦٨٧ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من
(١) في ابن كثير ١: ٢٥٩: "فثبتت مكانها".
(٢) في ابن كثير ١: ٢٥٩: "الهلكة"، وهما سواء.
431
المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. (١) فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل بهما شهوات بني آدم، (٢) وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، (٣) فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله، (٤) ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية (٥) فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان. (٦)
١٦٨٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثا- (٧) ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (٨) وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت. (٩)
(١) ما أدري ما يعني بقوله: "إنهم في غيب"، إلا أن يكون أراد الغيب: وهو ما غيبك من الأرض، لبعده وانقطاعه، وهبوطه عما حوله. كأنه يقول: إنهم في مكان غيبهم عما تشهدون أنتم - أيتها الملائكة - من آيات ربكم. وانظر ص: ٤٣٣.
(٢) في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٧: "فجعل لهما.. ".
(٣) في تفسير ابن كثير: "أتيا عليها".
(٤) في المطبوعة: "فصبرا ما شاء الله"، وفي ابن كثير: "فعبرا". وغبر: مكث وبقى.
(٥) انظر ص: ٤٣٢ تعليق: ١.
(٦) الأثر: ١٦٨٧ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٧ - ٢٥٨ عن أبي حاتم قال: "أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس رضي الله عنهما"، وهو غير إسناد ابن جرير، وكلاهما من طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس، ولكن ابن جرير لم يرفعه إلى ابن عباس. ونصهما واحد إلا بعض خلاف يسير في بعض اللفظ.
(٧) في المطبوعة: "قالها مرتين أو ثلاثا"، والصواب من ابن كثير في تفسيره ١: ٢٥٥، والدر المنثور ١: ٩٧.
(٨) في ابن كثير: "أو قال - قال لي رسول الله.. ".
(٩) الفرج بن فضالة التنوخي القضاعي: ضعيف قال البخاري: "منكر الحديث"، وهو مترجم في التهذيب، والكبير ٤ /١/١٣٤، والصغير: ١٩٢، ١٩٩، والضعفاء للبخاري: ٢٩، والنسائي: ٢٥، وابن أبي حاتم ٣ /٢ /٨٥ - ٨٦.
وهذا الحديث هنا مختصر. وقد رواه الخطيب في ترجمة سنيد، مطولا، من طريق عبد الكريم بن الهيثم، عن سنيد، بهذا الإسناد.
وهذه الأخبار، في قصة هاروت وماروت، وقصة الزهرة، وأنها كانت امرأة فمسخت كوكبا - أخبار أعلها أهل العلم بالحديث. وقد جاء هذا المعنى في حديث مرفوع، ورواه أحمد في المسند: ٦١٧٨، من طريق موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر. وقد فصلت القول في تعليله في شرح المسند، ونقلت قول ابن كثير في التفسير ١: ٢٥٥"وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم". واستدل بروايتي الطبري السالفتين: ١٦٨٤، ١٦٨٥ عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار.
وقد أشار ابن كثير أيضًا في التاريخ ١: ٣٧ - ٣٨ قال: "فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سيبل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل ":. وقال أيضًا، بعد الإشارة إلى أسانيد أخر: "وإذا أحسنا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها".
وقال في التفسير أيضًا ١: ٢٦٠، بعد ذكر كثير من الروايات التي في الطبري وغيره: "وقد روى في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وظاهر سياق القرآن إجمال القصة" من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى. والله أعلم بحقيقة الحال".
وهذا هو الحق، وفيه القول الفصل. والحمد لله.
432
١٦٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، (١) وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر ونهاهما. (٢) ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما
(١) في ابن كثير ١: ٢٥٩: "أعجبتم من بني آدم.. وإنكما ليس بيني وبينكم رسول".
(٢) في ابن كثير: "فأمرهما بأمور ونهاهما".
434
فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم، فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالالها -وقضيا لها-: ائتينا! فأتتهما، (١) فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، (٢) ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. (٣) فأمرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وما أنزل على الملكين)، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، (٥) فأما من جهة النقل، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من
(١) في ابن كثير: "قالا وقضيا لها فأتتهما"، وليس بصواب.
(٢) في ابن كثير: "فزجرا ولم يؤذن لهما، وهما سواء.
(٣) في ابن كثير: "فقالا: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله.. وفي الدنيا تسع مرات مثلها". وفي الدر المنثور: "فقالا: نعلم أن أفواج عذاب الله.. نعم، ومع الدنيا سبع مرات.. " وقوله"ومع الدنيا.. " أي إذا قيس بعذاب الدنيا، كان سبعة أمثال عذابها.
(٤) الأثر: ١٦٨٩ - في تفسير ابن كثير ١: ٢٥٩ - ٢٦٠، وفي الدر المنثور ١: ١٠٢
(٥) انظر ما سلف ص: ٤٢٥ - ٤٢٦.
435
الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها.
* * *
وأمأ قوله (ببابل)، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها"بابل دُنْبَاوَنْد".
١٦٩٠ - حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (١)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك"بابل العراق".
* ذكر من قال ذلك:
١٦٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر. (٢)
قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته: يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:-
(١) الأثر: ١٦٩٠ - هو الأثر السابق ١٦٨٦.
(٢) الأثر: ١٦٩١ الحسين: هو سنيد، كما مضى مرارا.
حجاج: هو ابن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة رفيع الشأن، من شيوخ أحمد وابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٣٧٦، وابن أبي حاتم ١/٢/١٦٦، وتاريخ بغداد ٨: ٢٣٦ - ٢٣٩.
وهذا الخبر قطعة من خبر مطول، سيأتي: ١٦٩٢، من طريق ابن أبي الزناد أيضًا.
436
١٦٩٢ - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي ﷺ لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. (١)
١٦٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت، سحر رسول الله ﷺ يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله ﷺ يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. (٢)
(١) الحديث: ١٦٩٢ - أحمد بن الوليد، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ وسفيان بن وكيع بن الجراح: ضعيف قال البخاري في التاريخ الصغير، ص: ٢٤٦"يتكلمون فيه لأشياء لقنوه". وقال النسائي في الضعفاء، ص: ١٦"ليس بشيء". بل اتهمه أبو زرعة بالكذب. ودفع عنه أبو حاتم هذه السبة، وإنما جاءه ذلك من وراقه، أفسد عليه حديثه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٣١ - ٢٣٢، والمجروحين لابن حبان (مخطوط مصور)، رقم: ٤٧٠. وليس ضعفه بسبب لضعف هذا الحديث فقد جاء بأسانيد صحاح، سنشير إليها في الحديث التالي.
يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام الحافظ.
(٢) الحديث: ١٦٩٣- هو تكرار للحديث السابق بإسناد آخر، رواه سفيان بن وكيع عن ابن نمير.
ابن نمير: هو عبد الله بن نمير الهمداني: ثقة صاحب سنة، روى عنه الأئمة، أحمد، وابن المديني. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٧٤ - ٢٧٥. وابن أبي حاتم ٢ /٢ /١٨٦.
وهذا الحديث - بطريقيه - مختصر من حديث مطول: أما من رواية ابن نمير، فقد رواه أحمد في المسند ٦: ٥٧ (حلبي) عن ابن نمير. ورواه مسلم في صحيحه ٢: ١٨٠، عن أبي كريب. ورواه ابن ماجه: ٣٥٤٥، عن أبي بكر بن شيبة - كلاهما عن ابن نمير، به مطولا.
وقد رواه كثير من الثقات الأثبات عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:
فرواه أحمد في المسند ٦: ٦٣، من طريق معمر. ورواه أحمد أيضًا ٦: ٦٣، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، وكذلك رواه البخاري ١٠: ٢٠١، ومسلم ٢: ١٨٠ - كلاهما من طريق أبي أسامة. ورواه أحمد أيضًا ٦: ٩٦، وابن سعد ٢ /٢ /٤ - كلاهما من طريق وهيب. ورواه البخاري ١٠: ١٩٢ - ١٩٧، من طريق عيسى بن يونس. و١٠: ١٩٩ - ٢٠١، من طريق ابن عيينة. و ١٠: ٤٠٠، من طريق سفيان، وهو ابن عيينة. و١١: ١٦٣، من طريق أنس ابن عياض أبي ضمرة. ورواه أيضًا ٦: ٢٣٩، معلقا من رواية الليث بن سعد، - كل هؤلاء رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقال البخاري ١٠: ١٩٧، عقب رواية عيسى بن يونس: أنه سمعه قبل ذلك من ابن جريح"يقول: حدثني آل عروة عن عروة". ، وأنه - أي ابن عيينة - سأل هشاما عنه، فحدثه به عن أبيه عن عائشة.
وذكر ابن كثير بعض طرقه، في تفسير سورة الفلق ٩: ٣٥٣ - ٣٥٤. وإنما فصلنا القول في طرقه هنا، لأن الطبري لم يذكره هناك في موضعه.
وقد ثبت مثل هذه القصة من حديث زيد بن أرقم. رواه أحمد في المسند ٤: ٣٦٧ (حلبي)، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، به وهذا إسناد صحيح. يزيد بن حيان أبو حيان التيمي: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤/ ٢/٣٢٤ - ٣٢٥، وابن أبي حاتم ٤ /٢ /٢٥٥ - ٢٥٦.
ورواه أيضًا ابن سعد ٢/٢/٦، عن موسى بن مسعود، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ثمامة المحلمي، عن زيد بن أرقم. وهذا إسناد صحيح أيضًا. موسى بن مسعود النهدي: سبق توثيقه: ٢٨٠. و"ثمامة بن عقبة المحلمي": ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١ /٢ /١٧٦، والجرح ١/١/٤٦٥ - ٤٦٦. و"المحلمي"بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشددة بعدهما ميم، نسبة إلى"محلم بن تميم".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٢٨١، بروايتين، وقال:"رواه النسائي باختصار"، ثم قال:"رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح".
وذكره الحافظ في الفتح ١٠: ١٩٤ أنه"صححه الحاكم وعبد حميد".
وقصة السحر هذه عرض لها كثير من أهل عصرنا بالإنكار؛ وهم في إنكارهم مقلدون، ويزعمون أنهم بعقلهم يهتدون. وقد سبقهم إلى ذلك غيرهم، ورد عليهم العلماء:
فقال الحافظ في الفتح ١٠: ١٩٢"قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها! ١٠: ١٩٢"قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم! وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء!! قال المازري: وهذا كله مردود. لأن الدليل قد قام على صدق النبي ﷺ فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها - فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض. فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك من أمور الدين". ثم أفاض الحافظ في هذا البحث الدقيق، بقوته المعروفة، في جمع الروايات وتفسيرها، بما لا يدع شكا عند من ينصف. وعقد القاضي عياض فصلا جيدا في هذا البحث، في كتاب الشفاء. انظره في شرح العلامة على القارئ٢: ١٩٠ - ١٩٣ من طبعة بولاق سنة ١٢٥٧.
437
١٦٩٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله ﷺ إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان
438
رسول الله ﷺ يقول: سحرتني يهود بني زريق. (١)
* * *
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الحق والباطل فصل، (٢) ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [سورة طه: ٦٦]، وفي خبر عائشة عن رسول الله ﷺ أنه كان إذْ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين =: أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان = وصحة ما قلنا. (٣)
* * *
وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا، وأن يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك بما:-
١٦٩٥ - حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج
(١) الحديث: ١٦٩٤ - هذا في معنى الحديثين قبله. ولكن هذا مرسل. وقد روى ابن سعد ٢/٢/٥، نحوه مختصرا، عن الزهري، "عن ابن المسيب وعروة بن الزبير قالا: فكان رسول الله ﷺ يقول: سحرتني يهود بني زريق". وقد أشار الحافظ في الفتح ١٠: ١٩٣ إلى أن مرسل سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق، وذكر من بعض ألفاظه ما يدل على أنه أطول مما هنا. وقوله"بئر حزم"، لا يعرف. والذي في الروايات جميعا: "بئر ذروان".
(٢) في المطبوعة: "فضل"، وهو خطأ.
(٣) سياق العبارة: "أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين.. وصحة ما قلنا" معطوفا.
439
النبي ﷺ أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله ﷺ بعد موته حداثة ذلك، (١) تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله ﷺ فيشفيها، (٢) كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، (٣) فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. (٤) فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت، (٥) فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك! (٦) فأربيت وأبيت، فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، (٧) فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت، وقلت: أطلعي! فأطلعت، وقلت: أحقلي! فأحقلت، ثم قلت: أفركي! فأفركت، ثم قلت: أيبسي! فأيبست، ثم قلت: أطحني! فأطحنت، ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. (٨) فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. (٩)
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان، لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة.
* * *
وقال آخرون: بل"السحر" أخذ بالعين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:-
١٦٩٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) يقال: "كان في حدثان كذا وكذا" (بكسر فسكون)، و"في حداثته": أي على قرب عهد به.
(٢) يشفيها: أي يجيبها بما يبلغ بها سكينة القلب فتبرأ من حيرتها. ومنه: "شفاء العي السؤال". والجهل والحيرة مرض القلوب والنفوس.
(٣) في ابن كثير ١: ٢٦٠: "فلم يكن شيء"، والصواب ما هنا وفي الدر المنثور ١: ١٠١ وقولها: "فلم يكن كشيء" عبارة جيدة، بمعنى: لم يكن ما مضى كشيء يعد، بل أقل من القليل. والعرب تقول: تأخرت عنك شيئا، أي قليلا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة. وقالت لهن: اربعن شيئا، لعلني... وإن لامني فيما ارتأيت مليم
أي قفن قليلا. ويقولون في مثل ذلك أيضًا: "لم يكن إلا كلا ولا"، كل ذلك بمعنى السرعة الخاطفة.
(٤) في المطبوعة: "فقالا، اذهبي.. "، وأثبت ما في الدر المنثور وابن كثير، فهي أجود.
(٥) في المطبوعة: "فأبيت" بحذف"فأرببت". وأرب بالمكان لزمه ولم يبرحه. والزيادة من ابن كثير في الموضعين.
(٦) يقال: أنت على رأس أمرك، وعلى رئاس أمرك: أي في أوله وعلى شرف منه. وزعم الجوهري أن قولهم: "على رأس أمرك" من كلام العامة، وهذا الخبر ينقض ما قال.
(٧) في تفسير ابن كثير والدر المنثور: "فرأيت فارسا"، وما هنا صواب جيد.
(٨) في هذه الفقرة كلمات لم تثبتها كتب اللغة، سأذكرها في مدرج شرحها. "أطلعي فأطلعت" أي أخرجي شطأك، من قولهم: أطلع الزرع، إذا بدا أول نباته من الأرض. "أحقل الزرع: تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه. "أفركي فأفركت"، أي كوني فريكا. وهو حب السنبلة إذا اشتد وصلح أن يفرك. أفرك السنبل: صار فريكا، وهو حين يصلح أن يفرك فيؤكل. و"أيبسي فأيبست" أي كوني حبا يابسا، أيبس البقل: يبس وجف. "أطحني فأطحنت". أي كوني طحينا. ولم يرد في كتب اللغة: "أطحن"، ولكنها أتبعت هذا الحرف ما مضى من أخواته، وهي عربية سليمة ماضية على سنن اللغة في هذا الموضع. "أخبزي فأخبزت"، أي كوني خبزا يؤكل، وهذه أيضًا لم ترد في كتب اللغة، ولكنها عريقة كأختها السالفة. وقد قال ابن كثير أن إسناد هذا الحديث جيد إلى عائشة، وأن الحاكم صححه، فإن كان ذلك كما قالا، فلا شك في عربية هذه الألفاظ من طريق الرواية أيضًا.
(٩) الخبر: ١٦٩٥ - مضت قطعة منه، بإسناد آخر إلى ابن أبي الزناد: ١٦٩١.
وهذا الخبر نقله ابن كثير ١: ٢٦٠ - ٢٦١، بطوله، عن الطبري. وقدم له بكلمة قال"وقد ورد في ذلك أثر غريب، وسياق عجيب في ذلك. أحببنا أن ننبه عليه". ثم قال بعد نقله. "فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها". وذكر أنه رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان، بأطول منه.
وذكره السيوطي ١: ١٠١، ونسبه أيضًا للحاكم وصححه. والبيهقي في سننه.
وهي قصة عجيبة، لا ندري أصدقت تلك المرأة فيما أخبرت به عائشة؟ أما عائشة فقد صدقت في أن المرأة أخبرتها. والإسناد إلى عائشة جيد، بل صحيح.
الربيع بن سليمان: هو المرادي المصري المؤذن، صاحب الشافعي وراوية كتبه، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٦٤. ابن أبي الزناد: هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان"، وهو ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة، في روايته عن أبيه، وفي رواية البغداديين عنه. والحق أنه ثقة، وخاصة في حديث هشام بن عروة. فقد قال ابن معين - فيما رواه أبو داود عنه عند الخطيب وغيره -"أثبت الناس في هشام بن عروة: عبد الرحمن بن أبي الزناد". وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن ٣: ٥٩، في حديث له صححه، وفيه حرف لم يروه غيره، فقال: "وإنما ذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ثقة حافظ".
440
السدي قال: إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة! فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه، (١) فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) الآية.
١٦٩٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: (حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)، قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. (٢)
١٦٩٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر".
١٦٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر".
١٧٠٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك.
١٧٠١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا"إنما نحن فتنة فلا تكفر". لا يجترئ على السحر إلا كافر.
* * *
(١) في المطبوعة: "وقيل شيء أسود.. " كلام بلا معنى. والتصحيح من ابن كثير ١: ٢٦٢.
(٢) في المطبوعة: أخذ عليها أن لا يعلما" والزيادة من ابن كثير ١: ٢٦٢.
443
وأما الفتنة في هذا الموضع، فإن معناها: الاختبار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر. (١)
وقد فتن الناس في دينهم... وخلى ابن عفان شرا طويلا (٢)
ومنه قوله:"فتنت الذهب في النار"، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته، "أفتنه فتنة وفتونا"، كما:-
١٧٠٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (إنما نحن فتنة)، أي بلاء.
* * *
(١) نسبه الطبري في تاريخه ١: ١٥١ - ١٥٢ للحتات بن يزيد المجاشعي عم الفرزدق. ونسبه البلاذري في أنساب الأشراف ٥: ١٠٤ إلى: علي بن الغدير بن المضرس الغنوي، وإلى: إهاب بن همام بن صعصة بن ناجية بن عقال المجاشعي، وإلى: ابن الغريرة النهشلي، وهو كثير بن عبد الله بن مالك النهشلي، وهو مخضرم، وإليه أيضًا في معجم الشعراء: ٣٤٩، وفي الكامل للمبرد ٢: ٣٤، وقال أبو الحسن الأخفش: "ابن الغريرة الضبي"، وهو خطأ محض، إنما هو النهشلي.
(٢) أول هذه القصيدة: نأتك أمامة نأيا طويلا... وحملك الحب عبئا ثقيلا
ثم قال: لعمر أبيك فلا تجزعي... لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد فتن الناس في دينهم... وخلى ابن عفان شرا طويلا
أعاذل كل امرئ هالك... فسيرى إلى الله سيرا جميلا
فإن الزمان له لذة... ولا بد لذته أن تزولا
وروى الطبري صدر البيت الذي استشهد به هنا في تاريخه: * لقد سفه الناس في دينهم *
444
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (فيتعلمون منهما)، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله: (وما يعلمان من أحد)، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع فقيل:"فيتعلمون". فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. (١)
وقد قيل: إن قوله: (فيتعلمون)، خبر عن اليهود معطوف على قوله:"ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت"،"فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه). وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، (٢) أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام.
و"الهاء" و"الميم" و"الألف" من قوله: (منهما)، من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
* * *
و"ما" التي مع"يفرقون" بمعنى"الذي". وقيل: معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل. (٣)
(١) يعني الطبري أن في الكلام حذف اجتزأ بفهم سامعه عن ذكره، وهو قوله: "فيأتون قبول ذلك منهما".
(٢) قوله: "ما كان للتأويل.. "، هي ما يقولونه في العربية الركيكة"ما دام للتأويل.. "
(٣) انظر ما سلف: ٤٢٣ - ٤٢٤.
445
وأما"المرء"، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني آدم، والأنثى منه"المرأة". يوحد ويثنى، ولا تجمع ثلاثته على صورته، (١) يقال منه:"هذا امرؤ صالح، وهذان امرآن صالحان". ولا يقال: هؤلاء امرؤو صدق، ولكن يقال:"هؤلاء رجال صدق"، وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه امرأة، وهاتان امرأتان". ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن:"هؤلاء نسوة".
* * *
وأما"الزوج"، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل:"هي زوجه" بمنزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [سورة الأحزاب: ٣٧]، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون:"هي زوجته". (٢) كما قال الشاعر: (٣)
وإن الذي يمشي يحرش زوجتي كماش إلى أسد الشرى يستبيلها (٤)
فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى"السحر": تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. (٥) فإن كان
(١) في المطبوعة: "ولا يجمع ثلاثيه" خطأ محض.
(٢) انظر ما سلف ١: ٥١٤، ففيه زيادة عما هنا.
(٣) هو الفرزدق.
(٤) ديوانه: ٦٠٥، والأغاني ٩: ٣٢٦، و١٩: ٨ (ساسى)، في قصته مع النوار، ويقول هذا الشعر لبني أم النسير (طبقات فحول الشعراء: ٢٨١، والأغاني)، وكانت خرجت مع رجل يقال له زهير بن ثعلبة ومع بني أم النسير، فقال هذا الشعر، وبعد البيت:
ومن دون أبوال الأسود بسالة وصولة أيد يمنع الضيم طولها
ورواية الديوان وغيره: وإن امرءا يسعى يخبب زوجتي
وقوله: "يخبب"، أي يفسدها على. ويحرش: يحرض ويغرى بيني وبينها. و"يستبيلها": أي يطلب أن تبول في يده.
(٥) انظر ما سلف: ٤٣٥ وما بعدها.
446
ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، (١) فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا. فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢) فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٠٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه، (٣) ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه.
* * *
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: (فيتعلمون منهما) إلى"فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا"، أي مكان كذا، كما قال الشاعر:
ججَمَعَت من الخيرات وَطبا وعلبة وصرا لأخلاف المُزَنَّمة البزل (٤)
(١) في المطبوعة: "فإن كان ذلك صحيحا"، والأجود ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف ١: ١٩٦.
(٣) أخذه تأخيذا. والتأخيذ: حبس السواحر أزواج النساء عن غيرهن من النساء، ويقال لهذه الحيلة: الأخذة (بضم فسكون).
(٤) لم أعرف قائلهما، ولم أجدها إلا في أمالي الشريف المرتضى ١: ٤٢١، وكأنه نقلهما عن الطبري، لأنهما جاءا في تفسير هذه الآية، على هذا المعنى. والوطب: سقاء اللبن خاصة. والعلبة: جلدة تؤخذ من جنب البعير، فتسوى مستديرة، ثم تملأ رملا سهلا، ثم تضم أطرافها بخلال حتى تجف وتيبس، ثم يقطع رأسها وقد قامت قائمة لجفافها تشبه قصعة مدورة، فكأنها نحتت نحتا، ويعلقها الراعي ويشرب بها، وله فيها رفق وخفة لأنها لا تنكسر إذا حركها البعير أو طاحت إلى الأرض. والصر: شد ضرع النوق الحلوبات إذا أرسلوها للمرعي سارحة، ويسمون ذلك الرباط: صرارا. والأخلاف جمع خلف (بكسر فسكون)، وهو ضرع الناقة أو البعير إذا استكمل الثامنة وطعن في التاسعة، وبزل نابه، أي انشق عن اللحم. وهو أقصى سنه وتمام قوته. وفي المطبوعة هنا"المذممة"، وفي أمالي الشريف:"المزممة"، وفي نسخة أخرى منها"المزهمة"، وقد علق أحد أصحاب الحواشي على الأمالي فقال: "المزممة: التي علق عليها الزمام ". واخترت أن تكون "المزنمة" فهي أشبه بهذا الشعر. يقال: ناقة مزنمة وهي التي عليها سمة التزنيم، وهو أن يقطع طرف أذنه ويترك له زنمة مشرفة. وإنما يفعل ذلك بالكرام من الإبل. وهذا هجاء يقول له: إنما أنت راع خسيس، ترعى على السادة الكرام كرام إبلهم، ولا تجمع من خيرات ما يتمتع به سادتك، إلا وطبا وعلبة وعلاجا لإبلهم التي ترعاها عليهم.
447
ومن كل أخلاق الكرام نميمة وسعيا على الجار المجاور بالنَّجْل (١)
يريد بقوله:"جمعت من الخيرات"، مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر:
صلدت صفاتك أن تلين حيودها وورثت من سلف الكرام عقوقا (٢)
يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك.
* * *
(١) الجار: الذي قرب منزله من منزلك، ووصفه بقوله: "المجاور" للدلالة على شدة قربه، وهو الجار الجنب، فهو أشد حرمة لنزوله في جواره ومنعته، وركونه إلى أمان عهده. والنجل: تمزيق عرضه بالغيبة والمعابة والسب بظهر الغيب. وفي الحديث: "من نجل الناس نجلوه" أي سبهم وقطع أعراضهم بالشتم كما يقطع بالمنجل، جازوه بمثل فعله.
(٢) لم أعرف قائله. صلدت: صلبت وقست. والصفاة: الحجر الصلد الأملس الضخم الذي لا ينبت شيئا. والحيود جمع حيد: وهو التنوء في الجبل أو القرن أو غيرهما. وهذا مثل: يقول له أنت غليظ جاف لا يصلحك شيء، ولا خير فيك، كالصفاة الملساء ذات النتوء، لا يصلحها شيء ولا تأتي بخير. والسلف: سلف الإنسان: من تقدمه من آبائه وذوي قرابته ممن هم فوقه في السن والفضل. يقول: ورثت من والديك مكان مآثر الأسلاف الكرام، عقوقا، فأنت تعقهم، كما عقوا هم آباءهم. فأنتم خلف يلعن سلفا لئيما عاقا، يلعن أسلافه. فأنتم معرقون في العقوق، وهو شر أخلاق الناس.
448
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه، بضارين - بالذي تعلموه منهما، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى، فإن ذلك غير ضاره، ولا نائله أذاه.
* * *
ولـ لإذن" في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة. (١)
ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه.
ومنها العلم بالشيء، يقال منه:"قد أذنت بهذا الأمر" إذا علمت به"آذن به إذنا"، ومنه قول الحطيئة:
ألا يا هند إن جددت وصلا وإلا فأذنيني بانصرام (٢)
يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ) [سورة البقرة: ٢٧٩]، وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وما هم بضارين،
(١) كأنه يريد: حرم التفريق على لسان الأمة: أن تنطق به وتأمر بفعله
(٢) لم أجد البيت في ديوان الحطيئة المطبوع. وقوله"فأذنيني"، يدل على أن الفعل متعد: "أذنه بالشيء يأذنه إذنا" أعلمه به، مثل"آذنه به". ولم يرد ذلك في شيء من كتب اللغة، والبيت شاهد عليه، وشرح الطبري بعد دال أيضًا على مراده.
449
بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:-
١٧٠٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، قال: بقضاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ويتعلمون)، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (١) (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون - من يهود بني
(١) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه". ويتعلمون أي الناس الذين يتعلمون.. " وهو كلام غير مستقيم، كأنه تصرف من بعض النساخ.
450
إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم = التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت = لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:-
١٧٠٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة.
١٧٠٦ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما له في الآخرة من خلاق.
١٧٠٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه.
١٧٠٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (لمن اشتراه)، فإن"من" في موضع رفع، وليس
451
قوله: (ولقد علموا) بعامل فيها. لأن قوله: (ولقد علموا)، (١) بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: (قد علموا) بمعنى اليمين، حققت بـ "لام اليمين"، فقيل: (لمن اشتراه)، كما يقال:"أقسم لمن قام خير ممن قعد". وكما يقال:"قد علمت، لعمرو خير من أبيك".
وأما"من" فهو حرف جزاء. وإنما قيل"اشتراه" ولم يقل"يشتروه"، لدخول"لام القسم" على"من". ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ "فعل" دون"يفعل"، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم، كما قال الله جل ثناؤه: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) [سورة الحشر: ١٢]، وقد يجوز إظهار فعله بعده على"يفعل" مجزوما، (٢)
كما قال الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع (٣)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما له في الآخرة من خلاق). فقال بعضهم:"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٠٩ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما له في الآخرة من خلاق)، يقول: من نصيب.
(١) في المطبوعة: "لأن قوله: علموا، بمعنى اليمين"، وآثرت إثبات"ولقد"، لأن الجملة كلها بمعنى اليمين.
(٢) هذا كله في معاني الفراء ١: ٦٥ - ٦٩، مع تصرف في اللفظ.
(٣) رواه الفراء في معاني الفراء ١: ٦٦ غير منسوب، ولكن صاحب الخزانة ٤: ٢٢٠ نسبه لكميت بن معروف، ولكني لم أجده منسوبا إليه في كتاب آخر، وأخشى أن يكون صاحب الخزانة قدوهم. هذا، والبيت وما قبله جميعا في معاني الفراء ١: ٦٥ - ٦٦.
452
١٧١٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما له في الآخرة من خلاق)، من نصيب.
١٧١١ - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: (وما له في الآخرة من خلاق)، أنه ما له في الآخرة من نصيب.
* * *
وقال بعضهم:"الخلاق" ههنا الحجة.
* ذكر من قال ذلك:
١٧١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (وما له في الآخرة من خلاق)، قال: ليس له في الآخرة حجة.
وقال آخرون: الخلاق: الدين.
* ذكر من قال ذلك:
١٧١٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: (ما له في الآخرة من خلاق)، قال: ليس له دين.
* * *
وقال آخرون:"الخلاق" ههنا القوام.
* ذكر من قال ذلك:
١٧١٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (ما له في الآخرة من خلاق)، قال: قوام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى"الخلاق" في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
453
١٧١٥ -"ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". (١)
يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يَدْعُون بالويل فيها لا خَلاق لهم إلا سرابيلُ من قِطْر وأغلال (٢)
يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال.
* * *
فكذلك قوله: (ما له في الآخرة من خلاق) : ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: (ما له في الآخرة من خلاق)، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.
* * *
(١) الحديث: ١٧١٥ - هكذا علق الطبري هذا الحديث، بدون إسناد وقد رواه أحمد في المسند ٥: ٤٥ (حلبي)، من حديث أبي بكرة، بلفظ: "إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٥: ٣٠٢، ثم قال: "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات". وذكره أيضًا بعده، من حديث أنس، وقال: "رواه البزار والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد البزار ثقات الرجال". (كذا بالأصل). وذكره السيوطي في الجامع الصغير: ١٨٣٨، ونسبه للنسائي وابن حبان من حديث أنس، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة. ونقل شارحه المناوي أن الحافظ العراقي قال: "إسناده جيد". وحديث أنس رواه أيضًا أبو نعيم في الحلية ٦: ٢٦٢. ورواه قبل ذلك ٣: ١٣، من حديث الحسن مرسلا. ثم أشار إلى حديث أنس.
(٢) ديوانه: ٤٧ بيت مفرد:. وقوله"فيها"، أظنه يعني النار. والقطر: النحاس الذائب.
454
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"شروا":"باعوا". (١) فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما:
١٧١٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي (ولبئس ما شروا به أنفسهم)، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ؟ وقد قال قبل: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟
قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: (لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف حلاله وحرامه، وأمره ونهيه.
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٤٠ - ٣٤٢.
455
ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم، وبغيا على رسله، وتعديا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله.
* * *
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يعني به الشياطين، وأن قوله: (لو كانوا يعلمون)، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف. وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه)، معني به اليهود دون الشياطين: ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنزيل. لأن الآيات قبل قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه)، وبعد قوله: (لو كانوا يعلمون)، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، أحد تلك الأخبار عنهم.
* * *
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق). وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: (لو كانوا يعلمون) - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: (ولقد علموا) - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما:"لو علمت لأقصرت" كما قال كعب بن زهير المزني، وهو
456
يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:
إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه!!... ألم تعلما أني من الزاد مرمل (١)
فأخبر أنه قال لهما:"لو تعلمانه"، فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) و (لو كانوا يعلمون)
* * *
وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: (ولقد علموا) وقوله: (لو كانوا يعلمون)، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب = دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن = أولى. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا)، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه،"آمنوا" فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، و"اتقوا" ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به،"لو كانوا يعلمون" أن ثواب الله إياهم على ذلك
(١) ديوانه: ٥١، وأمالي الشريف المرتضى ١: ٤٢٤، وكأنه كان ينقل كلام الطبري في تفسير هذه الآية، مع التصرف. والمرمل: الذي نفد زاده. أرمل الرجل فهو مرمل، كأنه لصق بالرمل لما أنفض.
(٢) يقول: "وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر من الخطاب.. أولى" وفصل فأطال.
457
خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: (لو كانوا يعلمون) العلم عنهم: أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله، وقدر جزائه على طاعته.
* * *
و"المثوبة" في كلام العرب، مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة". فأصل ذلك من:"ثاب إليك الشيء" بمعنى: رجع. ثم يقال:"أثبته إليك": أي، رجعته إليك ورددته. فكان معنى"إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها": إرجاعه إليه منها بدلا (١) ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه: مثيبا له. ومنه"ثواب" الله عز وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه - عن ذكر جوابه. وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله: لأثيبوا.
* * *
وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا)، (لمثوبه)، وأن"لو" إنما أجيبت"بالمثوبة"، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى"لئن" في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للإيمان. فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت"لو" بجواب "لئن"، و"لئن" بجواب "لو"، لذلك، وإن اختلفت أجوبتهما، فكانت"لو" من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت"لئن" من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما وصفنا من تقاربهما. فكان يتأول معنى قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا) : ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير.
* * *
(١) في المطبوعة: "إرجاعه إليها" سهو من ناسخ.
458
وبما قلنا في تأويل"المثوبة" قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧١٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لمثوبة من عند الله)، يقول: ثواب من عند الله.
١٧١٨ - حدثني يونس قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله)، أما"المثوبة"، فهو الثواب.
١٧١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير)، يقول: لثواب من عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا تقولوا راعنا). فقال بعضهم: تأويله: لا تقولوا خلافا.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٢٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: (لا تقولوا راعنا)، قال: لا تقولوا خلافا.
١٧٢١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا تقولوا راعنا)، لا تقولوا خلافا.
١٧٢٢ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٢٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد مثله.
١٧٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله.
* * *
459
وقال آخرون: تأويله: أَرْعِنَا سمعك. أي: اسمع منا ونسمع منك.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٢٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: (راعنا)، أي: أَرْعِنا سمعك.
١٧٢٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.
١٧٢٧ - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (راعنا)، قال: كان الرجل من المشركين يقول: أَرْعِني سمعك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا"راعنا". فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٢٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) قول كانت تقوله اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم.
١٧٢٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: (لا تقولوا راعنا)، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)، كما قالت اليهود والنصارى.
460
١٧٣٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)، قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا).
١٧٣١ - وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (لا تقولوا راعنا)، قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك! وإنما"راعنا" كقولك، عاطنا.
١٧٣٢ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) قال:"راعنا" القول الذي قاله القوم، قالوا: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة النساء: ٤٦] قال:"قال: هذا الراعن" - والراعن: الخطاء - قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا خطاء، كما قال القوم، وقولوا: انظرنا واسمعوا. قال: كانوا ينظرون إلى النبي ﷺ ويكلمونه، ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم. (١)
* * *
وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٣٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء في قوله: (لا تقولوا راعنا)، قال: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية، فنزلت هذه الآية: (لا تقولوا راعنا) ولكن قولوا انظرنا) إلى آخر الآية.
(١) قوله"الراعن: الخطاء" لم أجده في غيره بعد. والذي في كتب التفسير واللغة. وربما كانت"الخطأ". وقد قالوا: "راعنا: الهجر من القول". وقالوا اشتقوه من الرعونة: وهي الحمق والجهل والاسترخاء.
461
١٧٣٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: (لا تقولوا راعنا)، قال: كانت لغة في الأنصار.
١٧٣٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء مثله.
١٧٣٦ - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (لا تقولوا راعنا)، قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أَرْعِني سمعك! فنهوا عن ذلك.
١٧٣٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"راعنا"، قول الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه، يقال له: رفاعة بن زيد. كان يكلم النبي ﷺ به على وجه السب له، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٣٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)، كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: (١) أَرْعِني سمعك، واسمع غير مسمع = فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان
(١) في المطبوعة: "فقال"، والفاء لا مكان لها.
462
ناس منهم يقولون:"اسمع غير مسمع"، كقولك اسمع غير صاغر = وهي التي في النساء (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة النساء: ٤٦]، يقول: إنما يريد بقوله طعنا في الدين. ثم تقدم إلى المؤمنين فقال:"لا تقولوا راعنا". (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه:"راعنا" أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي ﷺ أنه قال:
١٧٣٩ -"لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة". (٢)
١٧٤٠ - و"لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي". (٣)
وما أشبه ذلك، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي ﷺ في "العنب" أن يقال له"كرم"، وفي"العبد" أن يقال له"عبد"، فما المعنى الذي في قوله: (راعنا) حينئذ، الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين
(١) تقدم إليه: أمره.
(٢) الحديث: ١٧٣٩ - ذكره الطبري معلقا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: ٧٥٠٩، من حديث أبي هريرة، مرفوعا: "ولا تسموا العنب الكرم". ورواه الشيخان وغيرهما، كما بينا هناك. ورواه أيضًا قبل ذلك إشارة موجزا: ٧٢٥٦.
وروى مسلم ٢: ١٩٧، من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه، مرفوعا: "لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، يعني العنب".
(٣) الحديث: ١٧٤٠ - وهذا معلق أيضًا. وهو جزء من حديث طويل. رواه البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة، مرفوعا: ".. ولا يقل أحدكم عبدي، أمتي، وليقل: فتاى، فتاتي، غلامي". انظر البخاري ٥: ١٢٨ - ١٣١ (فتح)، ومسلم ٢: ١٩٧.
463
عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله: (انظرنا) ؟
قيل: الذي فيه من ذلك، نظير الذي في قول القائل:"الكرم" للعنب، و"العبد" للمملوك. وذلك أن قول القائل:"عبدي" لجميع عباد الله، فكره للنبي ﷺ أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل، فيقال:"فتاي". وكذلك وجه نهيه في"العنب" أن يقال:"كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرَم، وإن كانت مُسَكَّنَة، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد. فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا:"راعنا"، لما كان قول القائل:"راعنا" محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض:"رعاك الله": بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، من قولهم:"أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة"، بمعنى: فرغته لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
يُرْعِي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا (١)
يعني بقوله"يرعى"، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.
وكان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه ﷺ وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم. (٢)
(١) ديوانه: ٨٦، وسيأتي في هذا الجزء ٢: ٥٤٠ وقد سلف تخريج أبيات من هذه القصيدة في ١: ١٠٦، ٢: ٩٤، وهي في هوذة بن علي كما سلف. يقول قبله:
يا هوذ، يا خير من يمشي على قدم بحر المواهب للوراد والشرعا
وابتدع: أحدث ما شاء.
(٢) اقرأ قول الله تعالى في صدر"سورة الحجرات".
464
فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها. فكان من ذلك قولهم: (راعنا) لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل:"عاطنا، وحادثنا، وجالسنا"، بمعنى: افعل بنا ونفعل بك - (١) ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له: (اسمع غير مسمع وراعنا).
يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم)، (٢) فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه، مما يسر اليهود والمشركين.
* * *
فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: (راعنا) أنه بمعنى: خلافا، فمما لا يعقل في كلام العرب. لأن"راعيت" في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى"فاعلت" من "الرِّعْية" وهي الرِّقبة والكَلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع، بمعنى"أرعيته سمعي". وأما"راعيت" بمعنى"خالفت"، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ.
* * *
وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه: أن قوله: (راعنا)
(١) قوله: "ومعنى" معطوف على قوله آنفًا: "لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك.. ".
(٢) وهي الآية التي تلي الآية التي يفسرها.
465
كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين: أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه، أن يخاطب رسول الله ﷺ به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك، من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره.
* * *
وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (لا تقولوا راعنا) بالتنوين، بمعنى: لا تقولوا قولا"راعنا"، من"الرعونة" وهي الحمق والجهل. وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين.
ومن نون"راعنا" نونه بقوله: (لا تقولوا)، لأنه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي. لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا)، بمعنى مسألته: إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه"راعنا". فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت
466
تكون في"يراعيه" ويدل عليها - أعني على"الياء" الساقطة - كسرة"العين" من"راعنا".
* * *
وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا)، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا، كان خطابهم للنبي ﷺ أو لغيره. ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقولوا انظرنا)، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا، كما:
١٧٤١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا محمد.
١٧٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا محمد.
١٧٤٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
* * *
يقال منه:"نظرت الرجل أنظره نظرة" بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة:
467
وقد نَظَرتكمُ أَعْشاء صادرةٍ للخِمس، طال بها حَوْزي وتَنْساسي (١)
ومنه قول الله عز وجل: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد: ١٣]، يعني به: انتظرونا.
* * *
وقد قرئ"أنظرنا" و"أنظرونا" بقطع"الألف" في الموضعين جميعا (٢) فمن قرأ ذلك كذلك أراد: أخرنا، كما قال الله جل ثناؤه: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة ص: ٧٩]، أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع. لأن أصحاب رسول الله ﷺ إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض الجناح - لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب - إذْ كان ذلك كذلك - (٣) من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله: (انظرنا)، ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا.
* * *
وقد قيل: إن معنى (أنظرنا) بقطع الألف بمعنى: أمهلنا. حكي عن بعض
(١) ديوانه: ٥٣، واللسان (نظر) (حوز) (نس) (عشا). من قصيدة يهجو بها الزبرقان ابن بدر، ويمدح بغيض بن عامر من شماس. والأعشاء جمع عشى (بكسر فسكون) : وهو ما تتعشاه الإبل. والصادرة: الإبل التي تصدر عن الماء. والخمس: من أظماء الإبل، وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام، ثم ترد في الرابع. والحوز: السوق اللين، حاز الإبل: ساقها سوقا رويدا. والتنساس والنس، مصدر قولك: نس الإبل بينها: ساقها سوقا شديدا لورود الماء. ويروى"إيتاء صادرة". والإيتاء مصدر آنيت الشيء: إذ أخرته. يقول للزبرقان، حين نزل بداره، ثم تحول عنها إلى دار بغيض (انظر خبرهما في طبقات فحول الشعراء: ٩٦ - ٩٨) : انتظرت خيركم انتظار الإبل الخوامس لعشائها. وذلك أن الإبل إذا صدرت تعشت طويلا، وفي بطونها ماء كثير، فهي تحتاج إلى بقل كثير. يصف طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار. وقد شكاه الزبرقان إلى عمر لهذه القصيدة، ولقوله فيها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي
(٢) زدت قول الله تعالى: "أنظرونا"، من أجل اختلاف" الحرفين.
(٣) في المطبوعة: "إن كان ذلك.. "، ليست بشيء.
468
العرب سماعا:"أنظرني أكلمك"، وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه، فأخبره أنه أراد أمهلني. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم"فانظرنا" و"أنظرنا" - بقطع"الألف" ووصلها - متقاربا المعني. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها، قراءة من قرأ: (وقولوا انظرنا)، بوصل"الألف" بمعنى: انتظرنا، لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من القراآت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (واسمعوا)، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وعُوه وافهموه، كما:-
١٧٤٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واسمعوا)، اسمعوا ما يقال لكم.
* * *
فمعنى الآية إذًا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم: راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول. ولكن قولوا: انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا. واسمعوا منه ما يقول لكم، فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله، العذاب الموجع في الآخرة، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم. يعني بقوله:"الأليم"، الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل، وما فيه من الآثار. (١)
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٢٨٣، ثم هذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٧٧.
469
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ما يود)، ما يحب، أي: ليس يحب كثير من أهل الكتاب. يقال منه:"ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة".
* * *
وأما"المشركين" (١) فإنهم في موضع خفض بالعطف على"أهل الكتاب". ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم.
* * *
وأما (أن) في قوله: (أن ينزل) فنصب بقوله: (يود). وقد دللنا على وجه دخول"من" في قوله: (من خير) وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم. (٣) فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد ﷺ من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين.
وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.
* * *
(١) في المطبوعة: "وأما المشركون"، والصواب ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ١٢٦، ١٢٧، وكان ينبغي أن يذكره في تفسير الآية: ١٠٢ أو يحيل كما أحال هنا.
(٣) كان في المطبوعة: "الذي كان عند الله ينزله عليهم"، ولا يستقيم الكلام إلا كما أثبتنا.
470
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (والله يختص برحمته من يشاء) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. و"اختصاصه" إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.
* * *
وأما قوله: (والله ذو الفضل العظيم). فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه.
* * *
وفي قوله: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدا ﷺ والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه، (١) وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.
* * *
(١) في المطبوعة: "تفضلا منه"، وهو خطأ، بل هذا خبر"أن".
471
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية) : ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. (١) وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام
(١) كان في المطبوعة: "ما نسخ من آية إلى غيره فنبد له"، والزيادة من تفسير ابن كثير ١: ٢٧٣.
471
حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
* * *
وأصل"النسخ" من"نسخ الكتاب"، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. (١) فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك، أو محي أثرها، فعفِّي ونسي، (٢) إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه:"نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، و "النُّسخة" الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول:
١٧٤٥ - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)، قال: إن نبيكم ﷺ أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، (٣) ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه.
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما ننسخ) فقال بعضهم بما:-
(١) في المطبوعة: "عنه إلى غيره"، وفي تفسير ابن كثير: "ونقل عبارة إلى غيرها". والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "أوفر حظها فترك، أو محي أثرها فعفي أو نسي"، وهي جملة حشيت تصحيفا وخلطا. ومراد الطبري أن النسخ، وهو تغير الحكم، قد يكون مع إقرار الخط كما هو، والإتيان بحكم آخر في عبارة أخرى - أو رفع الخط، ونسيان الناس ما حفظوه عند التنزيل. وقوله"عفي"، من قولهم: عفا الأثر يعفو: درس وذهب. وعفاه يعفيه (بالتشديد) : طمسه وأذهبه.
هذا والجملة التالية: "إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"، وحديث الحسن الآتي، يدل على صواب ما أثبته في قراءة نص الطبري.
(٣) في المطبوعة: "قال أقرئ قرآنا"، سقط منه ما أثبته، وسيأتي على الصواب في الأثر برقم: ١٧٥٤، ومنه زدت هذه الزيادة.
472
١٧٤٦ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما ننسخ من آية)، أما نسخها، فقبضها.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٧٤٧ - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ما ننسخ من آية)، يقول: ما نبدل من آية.
* * *
وقال آخرون بما:
١٧٤٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا: (ما ننسخ من آية)، نثبت خطها، [ونبدل حكمها].
١٧٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما ننسخ من آية)، نثبت خطها، ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود.
١٧٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: (ما ننسخ من آية) نثبت خطها، [ونبدل حكمها]. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: (أو ننسها). ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل.
(١) الأثر: ١٧٥٠ - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير ١: ٢٧٣ ثم ٢٧٤.
473
أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: (ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها)، فذلك تأويل:"النسيان". وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)، كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله ﷺ الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.
١٧٥٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها)، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه ﷺ ما شاء، وينسخ ما شاء.
١٧٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها)، نرفعها من عندكم.
١٧٥٤ - حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها)، قال: إن نبيكم ﷺ أقرئ قرآنا، ثم نسيه. (١)
* * *
وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها: (أو تَنسها) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك:
١٧٥٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى
(١) الأثر: ١٧٥٤ - انظر الأثر السالف: ١٧٤٥ والتعليق عليه.
474
بن عطاء، عن القاسم [بن ربيعة] قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (ما ننسخ من آية أو تنسها)، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: (أو تُنْسها)، (١) قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: ٦] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (٢) [سورة الكهف: ٢٤].
١٧٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه. (٣)
١٧٥٧ - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تُنسها) فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: (ما ننسخ من آية أو تنسها) يا محمد. ثم قرأ: (سنقرئك فلا تنسى) و (واذكر ربك إذا نسيت). (٤)
١٧٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
(١) في المطبوعة: "أو ننسها". والصواب ما أثبت، وفي ابن كثير ١: ٢٧٥"أو ننساها، ولكن أبا حيان نص في البحر المحيط ١: ٣٣٤ على أن قراءة سعيد"أو تنساها" بغير همزة بضم التاء، وأما ابن خالوية فقد نص في شواذ القراآت: ٩ قال: "أو تنسها" كذلك، إلا أنه لم يسم فاعله. سعيد بن المسيب". فأثبت هذا، لأنها هي رسم ما في نص الطبري. وانظر الآثار الآتية: ١٧٥٦، ١٧٥٧، والمستدرك للحاكم ٢: ٢٤٢.
(٢) الأثر: ١٧٥٥ - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير ١: ٢٧٥. والقاسم بن ربيعة، هو القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن قانف الثقفي، وربما نسب إلى جده. وهو ابن ابن أخي ليلى بنت قانف الصحابية. روى عن سعد بن أبي وقاص في قوله: "ما ننسخ من آية"، وعنه يعلى بن عطاء العامري. ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: قرأت بخط الذهبي: ما حدث عنه سوى يعلى (تهذيب التهذيب ٨: ٣٢٠). وانظر رقم: ١٧٥٦، ١٧٥٧.
(٣) الأثر: ١٧٥٦ - في المطبوعة: "بن قانف" وهو"قانف" بقاف ثم نون ثم فاء. هكذا نص عليه في الإصابة في ترجمة: "ليلى بنت قانف".
(٤) الأثر ١٧٥٧ - انظر الأثرين السالفين. وقال الحاكم في المستدرك ٢: ٢٤٢: "هذا حديث صحيح عى شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
475
أبيه، عن الربيع في قوله: (ما ننسخ من آية أو نُنسها)، يقول:"ننسها": نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها.
* * *
والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى"الترك"، من قول الله جل ثناؤه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: ٦٧]، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (أو نَنسها)، يقول: أو نتركها لا نبدلها. (١)
١٧٦٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (أو ننسها)، نتركها لا ننسخها.
١٧٦١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها)، قال: الناسخ والمنسوخ.
* * *
قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:-
١٧٦٢ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (نُنسها)، نمحها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (أو ننسأها) بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى نؤخرها، من قولك:"نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء"، إذا أخرته، وهو من قولهم:"بعته
(١) الأثر: ١٧٥٩ - في تفسير ابن كثير: "أو ننساها". والصواب ما في الطبري، بفتح النون.
476
بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
لعمرك إن الموت ما أَنْسَأ الفتى لكالطِّوَل المُرْخى وثِنْياه باليد (١)
يعني بقوله"أنسأ"، أخر.
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٦٣ - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (ما ننسخ من آية أو نَنْسأها)، قال: نؤخرها.
١٧٦٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: (أو ننسأها)، قال: نُرْجئها.
١٧٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو ننسأها)، نرجئها ونؤخرها.
١٧٦٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل، عن عطية: (أو ننسأها)، قال: نؤخرها فلا ننسخها.
١٧٦٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي، عن عبيد بن عمير (أو ننسأها)، إرجاؤها وتأخيرها.
هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير،"عن عبيد الأزدي"، وإنما هو عن"علي الأزدي".
١٧٦٨ - حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن علي الأزدي، عن عبيد
(١) ديوانه: ٣١٨ (من أشعار الستة الجاهليين) من معلقته المشهورة. وروايتهم: "ما أخطأ الفتى". والطول: حبل يطول للدابة لترعى وهي مشدودة فيه. وثنياه" طرفاء. أي إنه لا يفلت من حبال المنية، وإن أخر في أجله. وما أصدق ما قال! ولكننا ننسى!
477
بن عمير أنه قرأها: (ننسأها). (١)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها.
* * *
وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما ننسخ من آية أو تُنسها). وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: (أو نُنسها)، إلا أن معنى (أو تُنسها)، أنت يا محمد.
* * *
وقد قرأ بعضهم: (ما نُنسخ من آية)، بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من"أنسختك فأنا أنسخك". وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ (تُنسها) أو (تَنسها) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة.
وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب، من قرأ: (أو نُنْسها) بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه ﷺ أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها، أن يكون - إذ قدم الخبر
(١) الخبران: ١٧٦٧، ١٧٦٨ - أبان الطبري في الإسناد الأول أن شيخه القاسم قال في الإسناد:"عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي"، وبين أن صوابه"عن علي الأزدي". ثم ساق الإسناد الثاني على الصواب. وهو كما قال عبد الله بن كثير الداري المكي: هو القارئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢ /١٤٤.
علي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ /١/١٩٣. عبيد بن عمير - بالتصغير فيهما -: هو الليثي الجندعي المكي، ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة، وأثنى عليه الناس خيرا في مجلس ابن عمر، في المسند: ٥٣٥٩. مترجم في التهذيب، والإصابة ٥: ٧٩، وابن سعد ٥: ٣٤١ - ٣٤٢، وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠٩.
478
عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية). قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك، (١) ومعنى "النَّساء" الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك.
* * *
وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: (أو نَنْسها)، إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله ﷺ نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) [الإسراء: ٨٦]، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله ﷺ وأصحابه بنحو الذي قلنا.
١٧٦٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا:"بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا". ثم إن ذلك رفع. (٢)
(١) قد رد أهل اللغة أن يكون الإنساء بمعنى الترك، وقالوا: إنما يقال نسيت: إذا تركت، لا يقال: أنسيت، تركت. وانظر ما جاء في ذلك في اللسان (نسي)، وسائر كتب التفسير.
(٢) الحديث: ١٧٦٩ - يزيد بن زريع - بضم الزاي - العيشي: ثقة حافظ حجة، روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من الكبار. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٣٥، وابن سعد ٧ / ٢ / ٤٤ وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٦٣ - ٢٦٥. وسعيد: هو ابن أبي عروبة.
وهذا الحديث مختصر من حديث لأنس، في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة. ورواه الأئمة عن أنس، من أوجه مختلفة.
فمن ذلك: أنه رواه البخاري ٧: ٢٩٧ (فتح الباري)، عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، بهذا الإسناد. وفي آخره: "قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا، أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا".
وروى مسلم ١: ١٨٧ - ١٨٨، من رواية مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وانظر تفصيل ذلك في تاريخ ابن كثير٤: ٧١ - ٧٤.
479
١٧٧٠ - والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون:"لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". ثم رفع. (١)
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.
وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه ﷺ بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز.
وأما قوله: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك)، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) [الأعلى: ٦-٧]، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله.
فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. (٢)
* * *
(١) الحديث: ١٧٧٠ - ذكره الطبري تعليقا. وهو جزء من حديث طويل، رواه مسلم ١: ٢٨٦، من حديث أبي موسى الأشعري. وذكره السيوطي في الدر المنثور١: ١٠٥، ونسبه أيضًا لابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل.
وقد أفاض السيوطي في الإتقان ٢: ٢٩ - ٣٢ (طبعة المطبعة الموسوية بمصر سنة ١٢٨٧) - في هذا البحث، ونقل روايات كثيرة فيه.
(٢) في المطبوعة: "قد كان آتى نبيه بعض ما ننسخ"، والصواب ما أثبت.
480
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (نأت بخير منها أو مثلها). فقال بعضهم بما:-
١٧٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (نأت بخير منها أو مثلها)، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
* * *
وقال آخرون بما:
١٧٧٢ - حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (نأت بخير منها أو مثلها)، يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، (١) فيها أمر، فيها نهي.
* * *
وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٧٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (نأت بخير منها)، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثلها، أو مثل التي تركناها.
* * *
"فالهاء والألف" اللتان في قوله: (منها) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله: (ما ننسخ من آية). و"الهاء والألف" اللتان في قوله: (أو مثلها)، عائدتان على"الهاء والألف" اللتين في قوله: (أو ننسها).
* * *
وقال آخرون بما:-
١٧٧٤ - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) في تفسير ابن كثير: ١: ٢٧٥"فيها رخصة" مكان: "فيها رحمة".
481
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) : نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها. (١)
١٧٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (أو نُنسها)، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها. (٢)
١٧٧٦ - وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود مثله.
* * *
والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم = وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: (نأت بخير منها). لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره.
أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام.
(١) الأثر: ١٧٧٤ - مضى شطره برقم: ١٧٥٣.
(٢) الأثر: ١٧٧٥ - مضى شطره برقم: ١٧٥٨.
482
فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى"المثل" الذي قال جل ثناؤه: (أو مثلها).
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر"الآية" من ذكر"حكمها". وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: ٩٣]، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك. (١)
* * *
فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم -أيها المؤمنون- حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.
* * *
فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: (وأشربوا في قلوبهم العجلَ)، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) - لذلك نظير؟
قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: (نأت بخير منها أو مثلها)، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض. (٢)
* * *
(١) انظر ما سلف من هذا الجزء ٢: ٣٥٧ - ٣٦٠.
(٢) من شاء أن يرى كيف كان أبو جعفر رضي الله عنه يبصر معنى كل حرف، متحريا للحق والصواب حريصا على دلالة كل كلمة، فليقرأ أمثال هذا القول فيما مضى وفيما يستقبل.
483
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم = عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة = وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير.
* * *
ومعنى قوله: (قدير) في هذا الموضع: قوي. يقال منه:"قد قدرت على كذا وكذا"، إذا قويت عليه"أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا ومقدرة"، وبنو مرة من غطفان تقول:"قدِرت عليه" بكسر الدال. (١)
فأما من"التقدير" من قول القائل:"قدرت الشيء"، فإنه يقال منه"قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله ﷺ يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟
(١) انظر ما سلف ١: ٣٦١.
484
قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا، فيقول أحدهما لصاحبه:"ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ " بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه، يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه: (ألم تعلم)، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات، وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا). والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي ﷺ بقوله: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض). لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الأحزاب: ١-٢]، فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
485
إلى السراج المنير أحمد، لا... يَعْدِلني رغبة ولا رهب (١) عنه إلى غيره ولو رفع الن... اس إليّ العيونُ وارتقبوا (٢) وقيل: أفرطتَ! بل قصدتُ ولو... عنفني القائلون أو ثَلَبُوا (٣) لج بتفضيلك اللسان، ولو... أكثر فيك الضِّجاج واللجَب (٤) أنت المصفي المحض المهذب في الن... سبة، إن نص قومَك النسب (٥)
فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته، فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي ﷺ وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله. (٦)
(١) الهاشميات: ٣٤، والحيوان للجاحظ ٥: ١٧٠ - ١٧١.
(٢) "عنه إلى غيره" متعلق بقوله: لا يعدلني.. "، في البيت قبله.
(٣) أفرطت: أي جاوزت الحد. و"قصدت" من القصد: وهو العدل بين الإفراط والتقصير. والثلب: العيب والذم.
(٤) قوله"فيك" أي بسببك ومن أجلك. والضجاج مصدر: ضاجه يضاجه (بتشديد الجيم) مضاجة وضجاجا: وهو المشاغبة مع الصياح والضجيج. واللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها طلبا للغلبة.
(٥) هذب الشيء: نقاء وخلصه وطهره من كل ما يعيبه. وقوله"المهذب في النسبة"، أي المهذب النسبة، وأدخل"في" للتوكيد، بمعنى الزيادة. ونص الشيء: رفعه وأظهره وأبانه. يعني أبان فضلهم على غيرهم.
(٦) من شاء أن يعرف فضل ما بين عقلين من عقول أهل الذكاء والفطنة، فلينظر إلى ما بين قول أبي جعفر في حسن تأتيه، وبين قول الجاحظ في استطالته بذكائه حيث يقول في كتابه الحيوان ٥: ١٦٩ - ١٧١.
ومن المديح الخطأ، الذي لم أر قط أعجب منه قول الكميت بن زيد، وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: فلو كان مديحه لبني أمية لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أو لو مدح به بعض بني هاشم، لجاز أن يعترض عليه بعض بني أمية، أو لو مدح أبا بلال الخارجي لجاز أن تعيبه العامة، أو لو مدح عمرو بن عبيد لجاز أن يعيبه المخالف، أو لو مدح المهلب، لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف، فأما مديح النبي صلى الله عليه وسلم. فمن هذا الذي يسوؤه ذلك؟ " ثم أنشد الأبيات السالفة، وقال:"ولو كان لم يقل فيه عليه السلام إلا مثل قوله:
وبورك قبر أنت فيه وبوركت به وله أهل بذلك يثرب
لقد غيبوا برا وحزما ونائلا عشية واراك الصفيح المنصب
فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب، لما كان بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا؟ ".
والجاحظ تأخذ قلمه أحيانا مثل الحكة، لا تهدأ من ثوراتها عليه حتى يشتفى منها ببعض القول، وببعض الاستطالة، وبفرط العقل! ومع ذلك، فإن النقاد يتبعون الجاحظ ثقة بفضله وعقله، فربما هجروا من القول ما هو أولى، فتنة بما يقول.
486
وكما قال جميل بن معمر:
ألا إن جيراني العشية رائح... دعتهم دواع من هوى ومنادح (١)
فقال:"ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال:"رائح"، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى:
خليلي فيما عشتما، هل رأيتما... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي (٢)
وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها. فكذلك قوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض)، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى
(١) لم أجد البيت فيما طبع من شعر جميل، ولا فيما جمعته منه. والمنادح: البلاد الواسعة البعيدة. كأنهما جمع مندوحة، حذفت ياؤه. وقال تميم بن أبي بن مقبل. وإني إذا ملت ركابي مناخها... ركبت، ولم تعجز على المنادح
وربما حسن أن يقال: إنه جمع لا واحد له من لفظه، كمحاسن مشابه، والواحد من ذلك ندح وجمعه أنداح: وهو ما اتسع من الأرض.
(٢) الأمالي ٢: ٧٤، والأغاني ١: ١١٧، ٧: ١٤٠، وهي قصيدة من جيد شعر جميل.
487
من قبل) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك. (١)
* * *
أما قوله: (له ملك السموات والأرض) ولم يقل: ملك السموات، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "المِلك". والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان، قالت: "ملك الله الخلق مُلكا". وإذا أرادت الخبر عن "المِلك" قالت: "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا.
* * *
فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر منها ما أشاء؟
* * *
وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد ﷺ على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عما شاء، ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه ﷺ وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قيم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم، والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أعلي حجتكم،
(١) انظر ما سيأتي بعد قليل: ٤٩٩ - ٥٠٠.
488
وأجعلها عليهم لكم.
* * *
و"الولي" معناه"فعيل" من قول القائل:"وَلِيت أمر فلان"، إذا صرت قيِّما به،"فأنا أليه، فهو وليه" وقَيِّمُه. ومن ذلك قيل:"فلان ولي عهد المسلمين"، يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين.
* * *
وأما"النصير" فإنه"فعيل" من قولك:"نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك ونصيرك"، وهو المؤيد والمقوي.
* * *
وأما معنى قوله: (من دون الله)، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يا نفس مالك دون الله من واقي وما على حدثان الدهر من باقي (١)
يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره.
* * *
فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية. فقال بعضهم بما:
١٧٧٧ - حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير - وحدثنا
(١) ديوانه: ٤٣. ومثله قول ابن أحمر:
إن نحن إلا أناس أهل سائمة وما لهم دونها حرث ولا غُرر
يريد: ليس لنا مال سوى السائمة، فليس لنا زرع ولا خيل.
489
ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل- (١) قالا حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما: (٢) (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، الآية. (٣)
* * *
وقال آخرون بما:-
١٧٧٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، وكان موسى يسأل، فقيل له: (أرنا الله جهرة).
١٨٨٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله ﷺ أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٧٨٠ - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدا ﷺ أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا، قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم"! فأبوا ورجعوا.
١٧٨١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(١) في المطبوعة: "قال حدثنا إسحاق" والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "من قولهم"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام.
(٣) الأثر ١٧٧٧ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٧.
490
ابن جريج، عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال:"نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، أن يريهم الله جهرة.
١٧٨٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٧٨٣ - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال، قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل، قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: ١١٠]. قال: وقال:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن".
وقال:"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك".
فأنزل الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل). (١)
* * *
(١) الحديث: ١٧٨٣ - هذا حديث مرسل، من مراسيل أبي العالية. وقد نقله ابن كثير ١: ٢٧٩، عن الطبري. ونقله السيوطي ١: ١٠٧، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.
وأبو العالية الرياحي: ثقة من كبار التابعين، كما قلنا في: ١٨٤. ونزيد هنا أنه مترجم في التهذيب والكبير ٢/١/٢٩٨، والصغير: ١٠٩، وابن سعد ٧ /١ /٨١ - ٨٥، وابن أبي حاتم ١/٥١٠ والإصابة ٢: ٢٢١. ولكن الاحتجاج بحديثه - كغيره من التابعين فمن بعدهم - هو في الإسناد المتصل، أما المرسل والمنقطع، فلا حجة فيهما.
491
واختلف أهل العربية في معنى (أم) التي في قوله: (أم تريدون). فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام. وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟
* * *
وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام، كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء" و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ " قال: وليس قوله: (أم تريدون) على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل:
كذبَتْك عينُك أم رأيت بواسط غَلَس الظلام من الرَّباب خيالا (١)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: (أم تريدون) استفهاما على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه: (الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [السجدة: ١-٣]، فجاءت"أم" وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة:"أم" في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين: إحداهما أن تُفَرِّق معنى"أي"، (٢) والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق، والذي ينوي بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. (٣) فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ "الألف" أو بـ "هل". (٤)
(١) ديوانه: ٤١، ونقائض جرير والخطل: ٧٠. وواسط: قرية غربي الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة، وهي من منازل بني تغلب، وهي غير واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة. الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بتباشير الصباح، فهي سواد مختلط ببياض وحمرة.
(٢) في المطبوعة: "تعرف معنى أي"، وفي لسان العرب (أمم ١٤: ٣٠٠) :"أن تفارق معنى أم" وكلتاهما خطأ صرف. والصواب في معاني القرآن للفراء١: ٧١. وذلك أن قولك: أزيد عندك أم عمرو"، معناه أيهما عندك. وبين أن"أم" تفرق الاستفهام، وأن"أي" تجمع متفرق الاستفهام. وقد قال الطبري فيما سلف في هذا الجزء ٢: ١٩٨: "إن أصل"أي" و"ما" جمع متفرق الاستفهام".
(٣) في المطبوعة: "وتكون على جهة النسق، وللذي ينوى به الابتداء"، والصواب من معاني القرآن للفراء.
(٤) هذا نص كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٧١.
492
قال: وإن شئت قلت في قوله: (أم تريدون)، قبله استفهام، فرد عليه وهو في قوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير). (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ "أم"، وإن كانت"أم" أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: (الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [السجدة: ١-٣] وقد تكون"أم" بمعنى"بل"، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه"أي"، فيقولون:"هل لك قِبَلَنا حق، أم أنت رجل معروف بالظلم؟ " (٢) وقال الشاعر:
فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم النوم أم كل إلي حبيب (٣)
يعني: بل كل إلي حبيب.
وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن"أم" في قوله: (أم تريدون)
(١) وهذا أيضًا بعض نص الفراء في معاني القرآن.
(٢) هذا أيضًا ذكره الفراء. ثم قال بعده: "يريدون: بل أنت رجل معروف بالظلم".
(٣) لم أعرف قائله. وسيأتى في تفسيره ٢٠: ٦ (بولاق) على الصواب، وفي معاني القرآن للفراء ١: ٧٢، واللسان (أمم)، والصاحبي: ٩٨. وفي المطبوعة هنا: "تقولت.. أم القول، وهو خطأ محض. وقوله: "تغولت"، أي تصورت في صورة امرأة أحسها وأراها. من تغول الغول: وهي أن تتلون وتتخيل في صور شتى. يعنى أنها بعيدة لا شك في بعدها، ولكنه يخال أنه يراها أمامه ماثلة قائمة. وقال الأخطل:
وتعرضت لك بالأباطح بعد ما قطعت بأبرق خلة ووصالا
وتغولت لتروعنا جنية والغانيات يرينك الأهوالا
ثم يقول: "أم النوم" أي: أم هو حلم. بل كلاهما حبيب إلى، يعني أي ذلك كان، فهو حبيب إلى.
493
استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها إلى أوله -: إن الأول خبر، والثاني استفهام، والاستفهام لا يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر، فاستفهم.
* * *
قال أبو جعفر: فإذا كان معنى"أم" ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا -إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه، (١) فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد إعطاء الله إياها سؤلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يتبدل)، ومن يستبدل "الكفر"، (٢) ويعني بـ "الكفر"، الجحود بالله وبآياته، (٣) (بالإيمان)، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به. (٤)
وقد قيل: عنى بـ "الكفر" في هذا الموضع: الشدة، وبـ "الإيمان" الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني"الكفر"، ولا الرخاء في معنى"الإيمان"، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله"الكفر" بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله"الإيمان" في معنى الرخاء -: ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعد الله لأهل
(١) في المطبوعة: "أو أتهلكوا" خطأ.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ١٣٠.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ١: ٢٥٥، ٣٨٢، ٥٥٢ وغيرها بعدها.
(٤) انظر ما سلف ١: ٢٣٤ - ٢٣٥، ٢٧١، ٥٦٠ وغيرها بعدها.
494
الإيمان فيها من النعيم، فيكون ذلك وجها، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان)، يقول: يتبدل الشدة بالرخاء.
١٧٨٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية بمثله.
* * *
وفي قوله: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل)، دليل واضح على ما قلنا: (١) من أن هذه الآيات من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (٢) وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله ﷺ لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا، فقد أخطأ قصد السبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله: (فقد ضل)، فإنه يعني به ذهب وحاد. وأصل"الضلال عن الشيء"، الذهاب عند والحيد، (٣) ثم يستعمل في الشيء الهالك،
(١) انظر ما سلف قريبا: ٤٦٢ - ٤٦٦، ٤٨٤ - ٤٨٨، وانظر ما سيأتي قريبا: ٤٩٨، ٤٩٩
(٢) في المطبوعة: "المؤمنين به أصحاب رسول الله.. "، وزيادة"به" خطأ.
(٣) انظر ما سلف ١: ١٩٥.
495
والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة: "ضُل بن ضُل"، و "قُل بن قُل"، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك:
كنتَ القَذَى في موجِ أكدر مُزْبدٍ قذف الأتِيُّ به فضل ضلالا (١)
يعني: هلك فذهب.
* * *
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: (فقد ضل سواء السبيل)، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.
* * *
وأما تأويل قوله: (سواء السبيل)، فإنه يعني بـ "السواء"، القصد والمنهج.
وأصل"السواء" الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال:"ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي"، يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت:
يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد (٢)
(١) ديوانه: ٥٠، ونقائض جرير والأخطل: ٨٣ وسيأتي في تفسير الطبري ٣: ٢١٩ / ٢١: ٦١ (بولاق). وقوله: "كنت"، يعني جريرا، وهو جواب"إذا"، فقبل البيت:
وإذا سما للمجد فرعا وائل واستجمع الوادي عليك فسالا
" فرعا وائل" يعني بكرا وتغلب رهط الأخطل. والقذي" ما يكون فوق الماء من تبن وورق وأعواد. وفي المطبوعة هنا: "أكبر" مكان"أكدر"، وهو تصحيف، وأتى على صوابه في الموضعين الآخرين من التفسير. وقوله"أكدر" يعني بحرا متلاطما، فكدر بعد صفاء. ومزبد: بحر هائج مائج يقذف بالزبد. والأتي: السيل الذي يأتي من مكان بعيد. وقوله: "قذف الآتي به"، صفة للقذى. يقول: كنت عندئذ كالقذى رمى به السيل في بحر مزبد لا يهدأ موجه، فهلك هلاكا. ورواية الديوان: "في لج أكدر".
(٢) ديوانه: ٩٨، وسيأتي في تفسير الطبري ١٠: ٢٠ (بولاق)، وهكذا جاءت الرواية هنا"نسله"، وأظنها خطأ من ناسخ أو خطأ في رواية. ورواية الديوان وما سيأتي في الطبري، وغيرهما"ورهطه". وهو من رثاء حسان رسول الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وعنى بقوله: "ورهطه" المهاجرين رضي الله عنهم. والمغيب مصدر غيبه في الأرض: واراه. و"الملحد" بضم الميم وفتح الحاء بينهما لام ساكنة: هو اللحد، والقبر.
496
يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول:"هو في سواء السبيل"، يعني في مستوى السبيل،"وسواء الأرض": مستواها، عندهم.
وأما"السبيل"، فإنها الطريق المسبول، صرف من"مسبول" إلى"سبيل". (١)
* * *
فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر، فيرتد عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول. (٢)
وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق، والمعْنِيُّ به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في آخرتهم، (٣) كالذي يدرك اللازم محجة السبيل = بلزومه إياها = طلبته من النجاة منها، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - (٤) في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، (٥) وذهابه عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه، مثلَ الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه، (٦) إلا ازداد من موضع حاجته بعدا،
(١) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري: "مسبول". ويهون ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك.
(٢) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري: "مسبول". ويهون ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك.
(٣) في المطبوعة: "لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم.. " وقوله: "إدراكهم" زائدة من ناسخ.
(٤) في المطبوعة: "والحائد عن اتباع ما دعاه.. "، وأظن الصواب ما أثبت.
(٥) في المطبوعة: "في حياته ما رجا أن يدركه.. "، وهي مصحفة ولا شك، وأثبت ما أداني إليه اجتهادي في قراءته. لأنهم يقول أخطأ الطريق، وأخطأ ما ابتغى، إلى أشباه ذلك.
(٦) الوغول، مصدر"وغل يغل وغولا"، إذا ذهب فأبعد المذهب.
497
وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا.
وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها، هي الصراط المستقيم"، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾
قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، (١) وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله ﷺ الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، (٢) تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: (٣) لا تقولوا لنبيكم ﷺ كما تقول له اليهود:"راعنا"، تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا:"انظرنا واسمعوا"، فإن أذى رسول الله ﷺ كفر بي، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم
(١) في المطبوعة: "للمؤمنين وأصحابه"، وكأنه الصواب ما أثبت.
(٢) سياق العبارة: أو من استعمل.. الجفاء، واستعمل ما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود.
(٣) في المطبوعة: "قال لهم ربهم"، والصواب زيادة الفاء.
498
من خير من ربكم، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة.
* * *
وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب)، كعب بن الأشرف.
١٧٨٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب)، هو كعب بن الأشرف.
١٧٨٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان العمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة: (ود كثير من أهل الكتاب)، قال: كعب بن الأشرف. (١)
وقال بعضهم بما:-
١٧٨٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) الآية. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب)
(١) الأثر: ١٧٨٧ - في المطبوعة: "أبو سفيان المعمري". وهو محمد بن حميد اليشكري المعمري البصري نزيل بغداد، قيل له المعمري" لأنه رحل إلى معمر بن راشد الأزدي. وهو ثقة صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: "في حديثه نظر" مات سنة ١٨٢ (تهذيب التهذيب ٩: ١٣٢).
(٢) الأثر: ١٧٨٨ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٧.
499
كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن الأشرف واحد، وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له"كثير"، بمعنى الكثرة في العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال:"فلان في الناس كثير"، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال: (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا)، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد = أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل، (١) فيكون ذلك أيضا خطأ. وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه، ولا دلالة تدل في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: ويعني جل ثناؤه بقوله: (حسدا من عند أنفسهم)، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدا منهم وبغيا عليهم.
* * *
و"الحسد" إذا منصوب على غير النعت للكفار، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر، كقول القائل لغيره:"تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك"، فيكون"الحسد" مصدرا
(١) انظر ما سلف قريبا: ٤٨٧ قوله: "ألا إن جيراني العشية رائح".
500
من معنى قوله:"تمنيت من السوء". لأن في قوله تمنيت لك ذلك، معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب"الحسد"، لأن في قوله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)، معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما، ولم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: (حسدا)، مصدرا من ذلك المعنى.
* * *
وأما قوله: (من عند أنفسهم)، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم، كما يقول القائل:"لي عندك كذا وكذا"، بمعنى: لي قبلك، وكما:
١٧٨٩ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله: (من عند أنفسهم)، قال: من قبل أنفسهم. (١)
وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (من بعد ما تبين لهم الحق)، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب -الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم- الحقُّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما:-
(١) الأثر: ١٧٨٩ - كان هذا الإسناد مبتورا، فأتممه استظهارا من الإسناد الدائر في التفسير في مئات المواضع السالفة، أقربها رقم: ١٦٤٧ وسيأتي أيضًا رقم: ١٧٩٢، وكان الأثر نفسه مبتورا فأتممته من تفسير ابن كثير ١: ٢٨٠، والدر المنثور ١: ١٠٧.
501
١٧٩٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (من بعد ما تبين لهم الحق)، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام دين الله.
١٧٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: (من بعد ما تبين لهم الحق)، يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
١٧٩٢ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله - وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا، إذْ كان من غيرهم.
١٧٩٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (من بعد ما تبين لهم الحق)، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول.
١٧٩٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (من بعد ما تبين لهم الحق)، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله.
* * *
قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون، كما:-
١٧٩٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (من بعد ما تبين لهم الحق)، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة.
* * *
502
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فاعفوا) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)، [النساء: ٤٦]، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين به: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). [التوبة: ٢٩]. فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا، كما:-
١٧٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير)، ونسخ ذلك قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، [التوبة: ٥]
١٧٩٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)، فأتى الله بأمره فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، حتى بلغ (وهم صاغرون)، أي: صغارا
503
ونقمة لهم. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره).
١٧٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث الله بعد فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، إلى: (وهم صاغرون).
١٧٩٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) قال: نسختها: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
١٨٠٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)، قال: هذا منسوخ، نسخه (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، إلى قوله: (وهم صاغرون).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"القدير"، وأنه القوي. (١)
فمعنى الآية ههنا: إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم، (٢) وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه، لأن له الخلق والأمر.
* * *
(١) انظر ما سلف قريبا: ٤٨٤ وفي ١: ٣٦١.
(٢) في المطبوعة: "إن شاء الله الانتقام منهم" والسياق يقتضي ما أثبت.
504
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"إقامة الصلاة"، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل"الصلاة" وما أصلها، وعلى معنى"إيتاء الزكاة"، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووجبت، وعلى معنى"الزكاة" واختلاف المختلفين فيها، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وأما قوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)، فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به.
* * *
و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: (تجدوه)، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:-
١٨٠١- حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (تجدوه) يعني: تجدوا ثوابه عند الله.
قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه، كما قال عمر بن لجأ: (٢)
وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمرا بسوقهم نهارا (٣)
وإنما أراد: وسبح أهل المدينة.
(١) انظر ما سلف ١: ٢٤١ - ٢٤٢، ثم ١: ٥٧٣ - ٥٧٤.
(٢) في المطبوعة: "عمرو بن لجأ"، وهو خطأ.
(٣) سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٢٧٩.
505
وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله ﷺ بقوله: (راعنا)، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. (١)
وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا. وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه، كما قال: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)، وليحذروا معصيته، إذْ كان مطلعا على راكبها، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وعد عليه فمأمور به.
* * *
وأما قوله: (بصير)، فإنه"مبصر" صرف إلى"بصير"، كما صرف"مبدع" إلى"بديع"، و"مؤلم" إلى"أليم". (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "جزاءه" والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٢٨١.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٨٣، وهذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٧٧.
506
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وقالوا)، وقالت اليهود والنصارى: (لن يدخل الجنة).
* * *
فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه، جُمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) الآية - أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.
* * *
وأما قوله: (من كان هودا)، فإن في"الهود" قولين: أحدهما أن يكون جمع"هائد"، كما جاء "عُوط" جمع "عائط"، و "عُوذ" جمع "عائذ"، و "حُول" جمع"حائل"، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد. و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق. (١)
والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع، كما يقال:"رجل صَوم وقوم
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ١٤٣.
507
صوم"، و "رجل فِطر وقوم فطر، ونسوة فطر". (١)
وقد قيل: إن قوله: (إلا من كان هودا)، إنما هو قوله، إلا من كان يهودا، ولكنه حذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي:"إلا من كان يهوديا أو نصرانيا". (٢)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"النصارى"، ولم سميت بذلك، وجمعت كذلك، بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
وأما قوله: (تلك أمانيهم)، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان، ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة، كما:-
١٨٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (تلك أمانيهم)، أماني يتمنونها على الله كاذبة.
١٨٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (تلك أمانيهم)، قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق.
* * *
(١) أخشى أن يكون أبو جعفر قد زل زلة العجلان. فإنه ذكر آنفًا (٢: ١٤٣) مصدر الفعل: "هاد" وهو"هودا" بفتح فسكون، وعلى ذلك إجماع أهل اللغة، ولم يأت منه مصدر مضموم الهاء، حتى يشبه بقولهم"صوم"، و"فطر"، فهما مصدران. ولا يستقيم كلام أبي جعفر حتى يكون مصدر"هاد يهود هودا" بضم الهاء، ولم يقله هو ولا قاله غيره. فسقط هذا الوجه، حتى تقيمه حجة من رواية صادقة.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٧٣.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ١٤٣ - ١٤٥.
508
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه ﷺ بدعاء الذين قالوا: (لن يدخل الجنة
509
إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر: (هاتوا برهانكم)، على ما تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.
* * *
والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-
١٨٠٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (هاتوا برهانكم)، هاتوا بينتكم.
١٨٠٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (هاتوا برهانكم)، هاتوا حجتكم.
١٨٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (قل هاتوا برهانكم)، قال: حجتكم. (١)
١٨٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (قل هاتوا برهانكم)، أي: حجتكم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)، عن أن الذي ذكرنا من الكلام، (٢) بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم.
* * *
وأما تأويل قوله: (قل هاتوا برهانكم) فإنه: أحضروا وأتوا به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ)، أنه ليس كما قال الزاعمون (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:-
١٨٠٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية.
* * *
وقد بينا معنى (بلى) فيما مضى قبل. (٣)
* * *
وأما قوله: (من أسلم وجهه لله)، فإنه يعني بـ "إسلام الوجه": التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل"الإسلام": الاستسلام، لأنه"من استسلمت لأمره"، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي"المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:-
١٨١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ)، يقول: أخلص لله.
(١) الأثر: ١٨٠٦ - كان في المطبوعة"حدثنا الحسن" وهو خطأ، إسناد دائر، والحسين هو الحسين بن داود المصيصي، ولقبه"سنيد" عرف به.
(٢) في المطبوعة: "على أن الذي ذكرنا"، وهو تحريف.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٨٠، ٢٨١.
510
وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا (١)
يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له.
* * *
وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى"وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى:
أَؤُوِّل الحكم على وَجهه ليس قضائي بالهوى الجائر (٢)
يعني بقوله:"على وجهه": على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة:
فطاوعت همي وانجلى وجه بازل من الأمر، لم يترك خِلاجا بُزُولُها (٣)
(١) سيرة ابن هشام ١: ٢٤٦ وغيره.
(٢) ديوانه: ١٠٦ من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما. وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني ١٥: ٥٠ - ٥٦). وأول الحكم: قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت:وبعده:(٣) ديوانه: ٥٦٠ يمدح عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، في آخر القصيدة، فقال بعد البيت: فقالت:
علقم، لا تسفه، ولا تجعلن عرضك للوارد والصادر
قد قلت قولا فقضى بينكم واعترف المنفور للنافر
عبيد الله من آل معمر إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها
وقوله: "طاوعت همي"، ما هم به في نفسه. يقول: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: "بازل من الأمر" يعني خطة يركبها. هذا مثل. يقال: بزل ناب البعير بزولا، أي طله وانشق وظهر. ومنه قيل: بزل الأمر والرأى: قطعه. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. فقوله"بازل من الأمر" صفة لما أضمره من قوله"خطة"، وأتى بها على التذكير، كما أتوا بها على التذكير في قولهم: "ناقة بازل". والخلاج: الشك والتردد والتنازع. يقول: طاوعت ما جال في نفسي، فانجلى عن خطة ظاهرة انشقت وظهرت، فلم تدع للنفس مذهبا في الشك والتردد، إذ قالت: اقصد عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر.
511
يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، (١) إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر"الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر"الوجه".
* * *
وأما قوله: (وهو محسن)، فإنه يعني به: في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له، محسنا في فعله ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ)، فللمسلم وجهه لله محسنا، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه، عند الله في معاده.
* * *
ويعني بقوله: (ولا خوف عليهم)، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون،
(١) الضمير في قوله، "وصفها" إلى العرب، فيما سلف.
512
المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم.
* * *
ويعني بقوله: (ولا هم يحزنون)، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته.
* * *
وإنما قال جل ثناؤه: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وقد قال قبل: (فله أجره عند ربه)، لأن"من" التي في قوله: (بلى من أسلم وجهه لله)، في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: (فله أجره) للفظ، والجمع في قوله: (ولا خوف عليهم)، للمعنى.
* * *
513
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض.
* ذكر من قال ذلك:
١٨١١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، قالا جميعا- حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله ﷺ فقال رافع بن حريملة:
513
ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، إلى قوله: (فيما كانوا فيه يختلفون) (١)
١٨١٢- حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب!، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين، إعلاما، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض.
ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.
(١) الأثر: ١٨١١ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٧ - ١٩٨.
514
فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟
قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل، من أن إنكار كل فريق منهم، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا ﷺ على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد ﷺ في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما:-
١٨١٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)، قال: بلى! قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، وقالت النصارى: (ليست اليهود على شيء)، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا.
١٨١٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.
* * *
وأما قوله: (وهم يتلون الكتاب)، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل،
515
وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما:-
١٨١٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون). فقال بعضهم بما:-
١٨١٦- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.
١٨١٧- حدثنا بشر بن سعيد، عن قتادة: (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.
* * *
وقال آخرون بما:-
(١) الأثر: ١٨١٥ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٨.
516
١٨١٨- حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل.
* * *
وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٨١٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، فهم العرب، قالوا: ليس محمد ﷺ على شيء.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء). وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذْ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول الله ﷺ ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل، ولا من جهة النقل المستفيض.
وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل، وافتراء الكذب على الله، وجحود نبوة الأنبياء والرسل، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون، وعلى الله مفترون، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا.
517
وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به. لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين، = القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به = فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا.
* * *
وأما"القيامة" فهي مصدر من قول القائل:"قمت قياما وقيامة"، كما يقال:"عدت فلانا عيادة" و"صنت هذا الأمر صيانة".
* * *
وإنما عنى"بالقيامة" قيام الخلق من قبورهم لربهم. فمعنى"يوم القيامة": يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم.
* * *
518
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. (١) وتأويل قوله: (ومن أظلم)، وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟
* * *
و"المساجد" جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى. (٢) فمعنى"المسجد": الموضع الذي يسجد لله فيه، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه:"المجلس"، وللموضع الذي ينزل فيه:"منزل"، ثم يجمع:"منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب"مساجد" في واحد المساجد، وذلك كالخطأ من قائله.
* * *
وأما قوله: (أن يذكر فيها اسمه)، فإن فيه وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، فتكون"أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض، وتعلق الفعل بها.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده، فتكون"أن" حينئذ في موضع نصب، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه. (٣)
* * *
وأما قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن
(١) انظر ما سلف ١: ٥٢٣ - ٥٢٤، وهذا الجزء ٢: ١٠١ - ١٠٢، ٣٦٩
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ١٠٤ - ١٠٥.
(٣) قوله: "تكريرا"، أي بدل اشتمال.
519
يذكر فيها اسمه، وممن سعى في خراب مساجد الله. فـ "سعى" إذًا عطف على "منع".
* * *
فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ؟ وأي المساجد هي؟
قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى، والمسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٢٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)، أنهم النصارى.
١٨٢١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
١٨٢٢- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى، والمسجد: مسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:-
١٨٢٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)، الآية، أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
١٨٢٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
520
معمر، عن قتادة في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.
١٨٢٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا.
* * *
وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش، إذ منعوا رسول الله ﷺ من المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٢٦- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: هؤلاء المشركون، حين حالوا بين رسول الله ﷺ يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم:"ما كان أحد يرد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!
وفي قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) قال: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره، (١) ويأتيها للحج والعمرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) النصارى. وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر
(١) في المطبوعة: "قالوا إذا قطعوا"، والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٢٨٥ فهذا جزء من من الأثر، والقائل هو: ابن زيد.
521
على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.
والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، إلا أحد المسجدين، إما مسجد بيت المقدس، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك = وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله ﷺ وأصحابه من الصلاة فيه = صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده، غير الذين وصفهم الله بعمارتها. إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية، وبعمارته كان افتخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فيه، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم.
وأخرى، أن الآية التي قبل قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام قبلها، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) - إليهم وإلى المسجد الحرام.
وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت. (١)
فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك، إذْ كان المسلمون لم يلزمهم
(١) أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري في تفسير الآية، في تفسيره ١: ٢٨٥ / ٢٨٧ وقال:"اختار ابن جرير القول الأول، واحتج- بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعت في تخريب بيت المقدس، قال ابن كثير: والذي يظهر والله أعلم، القول الثاني، كما قاله ابن زيد... " ثم قال:"وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا منها رسول الله ﷺ وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم.."
ثم استدل بآيات من كتاب الله وقال:"ليس المراد بعمارتها، زخرفتها وإقامة صورتها، فقط، إنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها" إلى آخر ما قاله.
هذا الاعتراض من ابن كثير على أبي جعفر رحمهما الله، ليس يقوم في وجه حجة الطبري على صواب ما ذهب إليه في تأويل الآية. والطبري لم يغفل عن مثل اعتراض ابن كثير، ولكن ابن كثير غفل عن سياق تأويل الطبري. وصحيح أن ما كان من أمر أهل الشرك في الجاهلية في البيت الحرام يدخل في عموم معنى قوله: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابها﴾، ولكن سياق الآيات السابقة، ثم التي تليها، توجب-كما ذهب إليه الطبري- أن يكون معنيا بها من كانت الآيات نازلة في خبره وقصته.
والآيات السالفة جميعا خبر عن بني إسرائيل الذين كانوا على عهد موسى، وتأنيب لبني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما كان منهم لأهل الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحذير لهم من أهل الكتاب جميعا، يهوديهم ونصرانيهم، وذكر لافتراء الفريقين بعضهم على بعض، وادعاء كل فريق أنه هو الفريق الناجي يوم القيامة. ثم أفرد بعد ذلك أخبار النصارى، كما أفرد من قبل أخبار بني إسرائيل، فعدد سوء فعلهم في منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ثم كذبهم على ربهم أنه اتخذ ولدا، ثم قول بعضهم: ﴿لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية﴾، وأن ذلك شيبه بقول اليهود: ﴿أرنا الله جهرة﴾، ثم أخبر أنه أرسل رسوله محمدا بشيرا ونذيرا، وأمره أن يعرض عن أهل الجحيم من هؤلاء وهؤلاء، ثم أعلنه أن اليهود والنصارى جميعا لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وطريقهم، في الافتراء على رب العالمين. فالسياق كما ترى، بمعزل عن المشركين من العرب، ولكن ابن كثير وغيره من أئمتنا رضوان الله عليهم، تختلط عليهم المعاني حين تتقارب، ولكن أبا جعفر صابر على كتاب ربه، مطيق لحمله، لا يعجله شيء عن شيء ما استطاع. فهو يخلص معاني كتاب ربه تخليصا لم أجده قط لأحد بعده، ممن قرأ كتابه. وأكثرهم يعترض عليه، ولو صبر على دقة هذا الإمام. لكان ذلك أولى به، وأشبه بخلق أهل العلم، وهم له أهل، غفر الله لنا ولهم.
522
قط فرض الصلاة في [المسجد المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون] توجيه قوله (١) (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد. وإن كان قد دل بعموم قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، (٢) فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا-، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره ﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها، ما داموا على مناصبة الحرب، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها، كالذي:-
١٨٢٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، وهم اليوم كذلك، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة.
١٨٢٨- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: قال الله عز وجل: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، وهم النصارى، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة، إن قدر عليهم عوقبوا.
١٨٢٩- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أولئك ما كان لهم إن يدخلوها إلا خائفين)، فليس في الأرض رومي يدخلها
(١) الذي بين القوسين، هكذا جاء في النسخ المطبوعة والمخطوطة السقيمة. ولم أجد نقلا عن أبي جعفر يهديني إلى تصويب هذا الخلط. فاجتهدت أن استظهر سياق كلامه. فأقرب ما انتهيت إليه أن يكون فيه سقطا وتحريفا، وأن يكون سياقه كما يلي:
[إذ كان المسلمون هم المخاطبون بالآيات التي سبقت هذه الآية، وكان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في مسجد بيت المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه، وكان النصارى واليهود لم يمنعوهم قط من الصلاة فيه، فيجوز توجيه قوله -:} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} - إلى أنه معنى به مسجد بيت المقدس]. هذا اجتهادي في قراءة هذا النص المختلط، والله أعلم.
(٢) في المطبوعة: "في مسجد الله"، والصواب ما أثبت.
523
اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية، فهو يؤديها.
١٨٣٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننزل!.
* * *
وإنما قيل: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع، وهو خبر عن (من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)، لأن"من" في معنى الجميع، وإن كان لفظه واحدا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤) ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله عز وجل: (لهم)، فإنه يعني: الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله: (لهم في الدنيا خزي)، فإنه يعني بـ "الخزي": العار والشر والذلة (٢) إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية، كما:-
١٨٣١- حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (لهم في الدنيا خزي)، قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
١٨٣٢- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (لهم في الدنيا خزي)، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٥١٣.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣١٤.
525
في خرابها، ولهم = على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادا = عذاب جهنم، وهو العذاب العظيم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولله المشرق والمغرب)، لله ملكهما وتدبيرهما، كما يقال:"لفلان هذه الدار"، يعني بها: أنها له، ملكا. فذلك قوله: (ولله المشرق والمغرب)، يعني أنهما له، ملكا وخلقا.
* * *
و"المشرق" هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال: لموضع طلوعها منه"مطلع" بكسر اللام، وكما بينا في معنى"المساجد" آنفا. (١)
* * *
فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد، حتى قيل: (ولله المشرق والمغرب) ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق، وما بين قطري المغرب، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم.
فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه (٢) الخلق خلقه!
(١) انظر ما سلف قريبا: ٥١٩.
(٢) قوله: "فلله كل ما دونه"، أي كل ما سواه من شيء.
526
قيل: بلى!
فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع، دون سائر الأشياء غيرها؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس، وكان رسول الله ﷺ يفعل ذلك مدة، ثم حولوا إلى الكعبة. فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [سورة البقرة: ١٤٤] إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة: ١٤٤-١٥٠]، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: (مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [سورة البقرة: ١٤٢]، فأنزل الله عز وجل: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، وقال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ). (١)
(١) الحديث: ١٨٣٣ - علي: هو ابن أبي طلحة الهاشمي: ثقة، تكلموا فيه. والراجح أن كلامهم فيه من أجل تشيعه. ولكن لم يسمع من ابن عباس، فروى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: ٥٢، عن دحيم قال:"إن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير". وروي عن أبيه أبي حاتم مثل ذلك. وفي التهذيب أنه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال:"روى عن ابن عباس، ولم يره". فهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه.
ولكن معناه ثابت عن ابن عباس، من وجه صحيح. فرواه أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ - فيما نقل ابن كثير ١: ٢٨٨ -"أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس.." فذكر نحوه. وهذا إسناد صحيح، من جهة رواية ابن جريج عن عطاء، وهو ابن أبي رباح. وأما"عثمان ابن عطاء"، فإنه"الخراساني". وهو ضعيف. وحجاج بن محمد: سمعه منهما، من ثقة ومن ضعيف، فلا بأس. ورواه الحاكم ٢: ٢٦٧ - ٢٦٨، من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وذكره السيوطي ١: ١٠٨، ونسبه لأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه.
527
١٨٣٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي نحوه.
* * *
وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه ﷺ وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، (١) كما قال جل وعز: (وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [سورة المجادلة: ٧] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي
(١) قال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٨٩ تعليقا على كلمة أبي جعفر رحمه الله: "في قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان - إن أراد علمه تعالى، فصحيح. فإن علمه تعالى، محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله على ذلك علوا كبيرا". قلت: الذي قاله ابن كثير هو عقيدة أبي جعفر رحمه الله، وقد بين ذلك في تفسير سورة المجادلة من تفسيره ٢٨: ١٠، فلا معنى لتشكك ابن كثير في كلام إمام ضابط من أئمة أهل الحق، وعبارته صحيحة اللفظ، ولكن أهل الأهواء جعلوا الناس يفهمون من عربية الفصحاء معنى غير المعنى الذي تدل عليه.
528
فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٣٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال الله: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) [سورة البقرة: ١٤٩-١٥٠]
١٨٣٦- حدثنا الحسن قال (١) أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام.
١٨٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله ﷺ بمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله ﷺ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام. فنسخها الله في آية أخرى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) إِلَى (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة: ١٤٤]، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.
١٨٣٨- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا - يقول: قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي ﷺ ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل:
(١) في المطبوعة: "حدثت عن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في تفسيره أقربه رقم: ١٧٣١.
529
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآية [سورة البقرة: ١٤٤].
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك، بقوله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله).
* ذكر من قال ذلك:
١٨٣٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله). (١)
١٨٤٠- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه قال:"إنما نزلت هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله) أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله ﷺ إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة". (٢)
* * *
(١) الحديث: ١٨٣٩ - ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، سبق توثيقه: ٤٣٨. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا، وقد سبق توثيقه: ١٤٥٥.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٥٠٠١، عن عبد الله بن إدريس، بهذا الإسناد. وسيأتي تمام تخريجه في الذي بعده.
(٢) الحديث: ١٨٤٠ - ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، وهو ثقة، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما. بل روى عنه الثوري، وهو أكبر منه. مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ١ / ١٢٠٧ -٢٠٨، وابن أبي حاتم ٤/١/٥٧ -٥٨.
والحديث رواه أحمد أيضًا: ٤٧١٤، عن يحيى القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، بنحوه. ورواه مسلم ١: ١٩٥، من طريق يحيى، وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٢: ٤، بأسانيد من طريق عبد الملك.
وقد رجحنا في شرح المسند الرواية السابقة، بأن هذه الآية لم تنزل في ذلك، بل هي في معنى أعم، وإنما تصلح شاهدا ودليلا، كما يتبين ذلك من فقه تفسيرها في سياقها.
530
وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، (١) وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٤١- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال،"كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة. فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم). (٢)
(١) في المطبوعة: "فإن وليتم وجوهكم". والصواب ما أثبت.
(٢) الحديث: ١٨٤١ - أحمد، شيخ الطبري: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، كما سبق نسبه كاملا في: ١٥٩، وهو صدوق، من شيوخ أبي داود، مترجم في التهذيب، وأبو أحمد: هو الزبيري. واسمه: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم، وهو ثقة حافظ، من شيوخ الإمام أحمد. مترجم في التهذيب. والكبير ١/١/١٣٣ - ١٣٤، وابن سعد ٦: ٢٨١، وابن أبي حاتم ٣ /٢ /٢٩٧. أبو الربيع السمان. هو أشعث بن سعيد، سبق في: ٢٤ أنه ضعيف جدا. عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: هو ضعيف، وقد بينا ضعفه في شرح المسند: ٥٢٢٩.
عبد الله بن عامر بن ربيعة: ثقة من كبار التابعين. وأبوه صحابي معروف، من المهاجرين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد كلها.
والحديث ذكره ابن كثير ١: ٢٨٩ - ٢٩٠، عن هذا الموضع. ووقع فيه خطأ في اسم شيخ الطبري، كتب"محمد بن إسحاق"، بدل"أحمد". وهو خطأ ناسخ أو طابع. ثم أشار ابن كثير إلى روايته الآتية: ١٨٤٣. ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم. ثم نقل كلام الترمذي قال:"هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان: يضعف في الحديث". قال ابن كثير:"قلت: وشيخه عاصم، أيضًا ضعيف قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك.
وقد ذهبت في شرحي للترمذي، رقم: ٣٤٥، إلى تحسين إسناده. ولكني أستدرك الآن، وأرى أنه حديث ضعيف.
ونقله السيوطي ١: ١٠٩، مع تخريجه وبيان ضعفه.
531
١٨٤٢- حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت، شك الطبري - (١) فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك، يقول الله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله).
١٨٤٣- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال، كنا مع النبي ﷺ في ليلة مظلمة في سفر، فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله، (٢) ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ). (٣)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، لأن أصحاب رسول الله ﷺ تنازعوا في أمره، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٤٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي، عن قتادة أن النبي ﷺ قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! قال فنزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ) [سورة
(١) لم يرد في كتب اللغة: "أيقظت" لازما، وأخشى أن يكون الطبري يصححها، وأشباهها في العربية كثير.
(٢) في لسان العرب"فصلى كل منا حياله"، أي تلقاء وجهه، وزيادة"علي" لا تضر المعنى.
(٣) الحديث: ١٨٤٣ - هو مكرر الحديث: ١٨٤١.
532
آل عمران: ١٩٩]، قال: قتادة، فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله). (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم = إذ كان له ملكهم = طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من الفرائض، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب، والمراد به من بينهما من الخلق، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه، كما قيل: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، وما أشبه ذلك. (٢)
ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي.
* * *
فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا.
(١) الحديث: ١٨٤٤ - هو حديث ضعيف، لأنه مرسل وقد نقله السيوطي ١: ١٠٩، ونسبه لابن جرير: وابن المنذر. ونقله ابن كثير ١: ٢٩١، عن هذا الموضع. ثم قال: "هذا غريب". وأقول: وسياقته تدل على ضعفه ونكارته.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٣٥٧ - ٣٦٠، ٤٨٣.
533
= ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال:-
١٨٤٥ - أبو كريب قال حدثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله)، قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها.
١٨٤٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة.
= ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما:-
١٨٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر: ٦٠]، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فأينما تولوا فثم وجه الله).
* * *
فإذ كان قوله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله)، محتملا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها.
لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله)، مَعْنِيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله ﷺ وأصحابه نحو بيت المقدس، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله ﷺ ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت.
534
= ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا: بأن تكون جاءت بعموم، ومعناها: في حال دون حال - (١) إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا.
وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام"، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله ﷺ إلا ما نفى حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. (٢) فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه.
ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله)، بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ.
* * *
وأما قوله: (فأينما)، فإن معناه: حيثما.
* * *
وأما قوله: (تولوا) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون: تولون نحوه وإليه، كما يقول القائل:"وليته وجهي ووليته إليه"، (٣) بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة الله.
* * *
وأما قوله: (فثم) فإنه بمعنى: هنالك.
* * *
(١) في المطبوعة: "أو معناها في حال دون حال"، وهو فاسد. ومراده أن الآية جاءت عامة، وتحتمل أحد معنيين: إما في حال دون حال_ وإما في كل حال، كما فصل بعد.
(٢) في المطبوعة: "لظاهره"، وانظر ما سلف في معنى"الظاهر والباطن" ٢: ١٥ والمراجع
(٣) في المطبوعة: "وليت وجهي"، والصواب ما أثبت.
535
واختلف في تأويل قوله: (فثم وجه الله) (١) فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٤٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: (فثم وجه الله) قال: قبلة الله.
١٨٤٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها.
* * *
وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، فثم الله تبارك وتعالى.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم.
* * *
وقال آخرون: عنى بـ "الوجه" ذا الوجه. وقال قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له.
* * *
فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟
قيل: هي لها مواصلة. وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه، فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله، تبتغون به وجهه.
* * *
(١) في المطبوعة: "فثم، فقال بعضهم"، والصواب إثبات"وجه الله".
536
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واسع) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.
وأما قوله: (عليم)، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقالوا اتخذ الله ولدا)، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، (وقالوا) : معطوف على قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا).
* * *
وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم: (١) (سبحانه)، يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل:"سبحان الله"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا. ومعنى ذلك:
(١) في المطبوعة: "ومنفيا ما نحلوه". وانتفى من الشيء: تبرأ منه. ونحله الشيء: نسبه إليه. والفرية: الكذب المختلق.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٧٤، ٤٩٥.
537
وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات، وإما في الأرض، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم، لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده، في ظهور آيات الصنعة فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٥٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (كل له قانتون)، مطيعون.
١٨٥١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (كل له قانتون)، قال: مطيعون قال، طاعة الكافر في سجود ظله.
١٨٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره.
١٨٥٣- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كل له قانتون)، يقول: كل له مطيعون يوم القيامة.
١٨٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يحيى بن سعيد، عمن ذكره، عن عكرمة: (كل له قانتون)، قال: الطاعة.
١٨٥٥- حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (قانتون)، مطيعون.
* * *
538
وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٥٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: (كل له قانتون)، كل مقر له بالعبودية.
* * *
وقال آخرون بما:-
١٨٥٧- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (كل له قانتون)، قال: كل له قائم يوم القيامة.
* * *
ولِـ "القنوت" في كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والآخر القيام، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه.
* * *
وأولى معاني "القنوت" في قوله: (كل له قانتون)، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: (بل له ما في السموات والأرض)، ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟
* * *
وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن قوله: (كل له قانتون)، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها، إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام".
* * *
وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله -
539
مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية، عقيب قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا)، فدل ذلك على صحة ما قلنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (بديع السموات والأرض)، مبدعها.
* * *
وإنما هو"مُفْعِل" صرف إلى"فعيل" كما صرف"المؤلم" إلى"أليم"، و"المسمع" إلى"سميع". (١) ومعنى"المبدع": المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد. ولذلك سمي المبتدع في الدين"مبتدعا"، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، (٢) في مدح هَوْذَة بن علي الحنفي:
يُرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم، أو ما شاءه ابتدعا (٣)
أي يحدث ما شاء، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
فأيها الغاشي القِذَافَ الأتْيَعَا إن كنت لله التقي الأطوعا
فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا (٤)
يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه.
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٢٥١، وهذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٧٧، ٥٠٦.
(٢) في المطبوعة: "الأعشى بن ثعلبة"، وهو خطأ محض.
(٣) سلف تخريجه في هذا الجزء: ٢: ٤٦٤.
(٤) ديوانه: ٨٧، واللسان (بدع) من رجز طويل يفخر فيه برهطه بني تميم. ورواية الديوان"القذاف الأتبعا"، وليس لها معنى يدرك، ورواية الطبري لها مخرج في العربية. "الغاشي" من قولهم: غشي الشيء: أي قصده وباشره أو نزل به. والقذاف: سرعة السير والإبعاد فيه، أو كأنه أراد الناحية البعيدة، وإن لم أجده في كتب العربية. والأتيع: لم أجده في شيء، ولعله أخذه من قولهم: تتايع القوم في الأرض: إذا تباعدوا فيها على عمى وشدة. يقول: يا أيها الذاهب في المسالك البعيدة عن سنن الطريق- يعني به: من ابتدع من الأمور ما لا عهد للناس به، فسلك في ابتداعه المسالك الغريبة.
540
فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه؟
* * *
وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك: المسيح، الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. (١) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٥٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (بديع السموات والأرض)، يقول: ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد.
١٨٥٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بديع السموات والأرض)، يقول: ابتدعها فخلقها، ولم يُخلق قبلها شيء فيتمثل به. (٢)
* * *
(١) نقل ابن كثير في تفسيره ١: ٢٩٤، عبارة الطبري ثم قال: "وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد، وعبارة صحيحة"، فاستحسن ابن كثير ما خف محمله، ولكن ما ثقل عليه آنفًا (انظر ص: ٥٢٢ تعليق: ١) كان مثارا لاعتراضه، مع أنه أعلى وأجود وأدق وألطف، وأصح عبارة، وأعمق غورا. وهذا عجب من العجب فيما ناله ابن جرير من قلة معرفة الناس بسلامة فهمه، ولطف إدراكه.
(٢) الأثر: ١٨٥٩- كان في المطبوعة: "ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به"، وهو كلام فاسد. والصواب في الدر المنثور ١: ١١٠.
541
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذا قضى أمرا)، وإذا أحكم أمرا وحتمه. (١)
* * *
وأصل كل"قضاء أمر" الإحكام، والفراغ منه. (٢) ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس:"القاضي" بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به. (٣) ومنه قيل للميت:"قد قضى"، يراد به قد فرغ من الدنيا، وفصل منها. ومنه قيل:"ما ينقضي عجبي من فلان"، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل:"تقضي النهار"، إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: ٢٣] أي: فصل الحكم فيه بين عباده، بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) [سورة الإسراء: ٤]، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب:
وعليهما مسرودتان، قضاهما داود أو صَنَعَ السوابغِ تُبَّعُ (٤)
(١) حتم الأمر: قضاه قضاء لازما.
(٢) كان في المطبوعة: "قضاء الإحكام"، والصواب ما أثبت.
(٣) في المطبوعة"فراغه" وزيادة"منه" واجبة.
(٤) ديوانه: ١٩، والمفضليات: ٨٨١ وتأويل مشكل القرآن: ٣٤٢، وسيأتي في تفسير الطبري ١١: ٦٥، ٢٢: ٤٧ (بولاق)، من قصيدته التي فاقت كل شعر، يرثى أولاده حين ماتوا بالطاعون. والضمير في قوله: "وعليهما" إلى بطلين وصفهما في شعره قبل، كل قد أعد عدته:
فتناديا فتواقفت خيلاهما وكلاهما بطل اللقاء مخدع
متحاميين المجد، كل واثق ببلائه، واليوم يوم أشنع
وعليهما مسرودتان... ...................
"مسرودتان"، يعني درعين، من السرد، وهو الخرز أو النسج، قد نسجت حلقهما نسجا محكما. وداود: هو نبي الله صلى الله عليه وسلم. وتبع: اسم لكل ملك من ملوك حمير (انظر ما سلف ٢: ٢٣٧). قال ابن الأنباري: "سمع بأن الحديد سخر لداود عليه السلام، وسمع بالدروع التبعية، فظن أن تبعا عملها. وكان تبع أعظم من أن يصنع شيئا بيده، وإنما صنعت في عهده وفي ملكه". والصنع: الحاذق بعمله، والمرأة: صناع. ويروى: "وعليهما ماذيتان"، يعني درعين. والماذية: الدرع الخالصة الحديد، اللينة السهلة.
542
ويروى:
* وتعاورا مسرودتين قضاهما * (١)
ويعني بقوله:"قضاهما"، أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (٢)
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بَوائِق في أكمامها لم تَفَتَّقِ (٣)
ويروى:"بوائج". (٤)
* * *
(١) "تعاورا"، يعني - كما قالوا: تعاورا بالطعن، مسرودتين. من قولهم: تعاورنا فلانا بالضرب: إذا ضربته أنت ثم صاحبك. ورأيي أنها رواية مرفوضة، لا تساوق لشعر فإنه يقول بعده:
وكلاهما في كفه يزنية فيها سنان، كالمنارة أصلع
وكلاهما متوشح ذارونق عضبا، إذا مس الضريبة يقطع
فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العُبُط التي لا ترفع
فهو يصف، ثم يخبر أنهما قد تضاربا ضربا مهلكا، ولا معنى لتقديم الطعن ثم العود إلى صفة السلاح، إلا على بعد واستكراه.
(٢) هو جزء بن ضرار، أخو الشماخ بن ضرار. وقد اختلف في نسبتها. نسبت للشماخ، ولغيره، حتى نسبوها إلى الجن (انظر طبقات فحول الشعراء: ١١١، وحماسة أبي تمام ٣: ٦٥، وابن سعد ٣: ٢٤١، والأغاني ٩: ١٥٩، ونهج البلاغة ٣: ١٤٧، والبيان والتبيين ٣: ٣٦٤، وتأويل مشكل القرآن: ٣٤٣، وغيرها كثير). هذا والصواب أن يقول: "في رثاء عمر بن الخطاب".
(٣) البوائق جمع بائقة: وهي الداهية المنكرة التي فتحت ثغرة لا تسد. والأكمام جمع كم _ (بضم الكاف وكسرها). وهو غلاف الثمرة قبل أن ينشق عنه. وقوله: "لم تفتق"، أصلها: تتفتق، حذف إحدى التاءين. وتفتق الكم عن زهرته: انشق وانفطر. ورحم الله عمر من إمام جمع أمور الناس حياته، حتى إذا قضى انتشرت أمورهم.
(٤) بوائج جمع بائجة: وهي الداهية التي تنفتق انفتاقا منكرا فتعم الناس، وتتابع عليهم شرورها من قولهم: باج البرق وانباج وتبوج: إذا لمع وتكشف وعم السحاب، وانتشر ضوؤه.
543
وأما قوله: (فإنما يقول له كن فيكون)، فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الأمر"كن"، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه:"كن"؟ أفي حال عدمه، وتلك حال لا يجوز فيها أمره، (١) إذْ كان محالا أن يأمر إلا المأمور، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر، ؛ وكما محالٌ الأمر من غير آمر، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور. (٢) أم يقول له ذلك في حال وجوده؟ = وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث، لأنه حادث موجود، ولا يقال للموجود:"كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟
قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك، ونحن مخبرون بما قالوا فيه، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك: (٣)
* * *
قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه
(١) في المطبوعة: "وتلك حال لا يجوز أمره"، بإسقاط"فيها"، وهي واجبة، واستظرتها من السياق ومن الشطر الآتي من السؤال.
(٢) في المطبوعة: "كما محال الأمر"، بإسقاط الواو، وهي واجب إثباتها. ويعنى بقوله: "المأمور"، أي الموجود المأمور.
(٣) أحب أن أنبه قارئ هذا التفسير، أن يلقى باله إلى سياق أقوال القائلين، وكيف يخلص هو المعاني بعضها من بعض، وكيف يصيب الحجة بعقل ولطف إدراك، وصحة بيان عن معاني الكلام، وعن تأويل آيات كتاب ربنا سبحانه وتعالى ثم لينظر بعد ذلك أقوال المفسرين، وكيف تجنبوا الإيغال فيما توغل هو فيه، ثقة بعون الله له، ثم اتباعا لأهدى السبل في طلب المقاصد.
544
قضاؤه، ومضى فيه أمره، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم، وكالذي خسف به وبداره الأرض، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه.
فوجه قائلو هذا القول قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، إلى الخصوص دون العموم
* * *.
وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها. (١) وقال: إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها، نظائر التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها:"كوني"، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم.
* * *
وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهرَ عمومٍ، فتأويلها الخصوص، لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور، على ما وصفت قبل. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت، أو إماتة حي، ونحو ذلك، فإنما يقول لحي:"كن ميتا، أو لميت: كن حيا"، وما أشبه ذلك من الأمر.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي -. وقالوا: إنما قول الله عز وجل: (وإذا
(١) انظر معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف: ٢: ١٥ والمراجع.
545
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه" و"قال بيده"، إذا حرك رأسه، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا، وكما قال أبو النجم:
وقالت للبَطْنِ الْحَقِ الحق... قِدْمًا فآضت كالفَنِيقِ المحنِق (١)
ولا قول هنالك، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي: (٢)
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه... إذا رام تطيارا يقال له: قعِ (٣)
ولا قول هناك، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع، وكما قال الآخر:
امتلأ الحوض وقال: قطني... سلا رويدا، قد ملأت بطني (٤)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول
(١) لم أجد الرجز كاملا، والبيتان في اللسان (حنق). يصف ناقة أنضاها السير. والأنساع جمع نسع (بكسر فسكون)، وهو سير يضفر عريضا تشد به الرحال. ولحق البطن يلحق لحوقا: ضمر. أي قالت سيور التصدير لبطن الناقة: كن ضامرا. يعني بذلك ما أضناها من السير. وقدما: أي منذ القدم قال بشامة بن الغدير. لا تظلمونا، ولا تنسوا قرابتنا... إطوا إلينا، فقدما تعطف الرحم
ويعني أبو النجم: أن الضمور قد طال بها، فإن الأنساع قالت ذلك منذ زمن بعيد. وآض: صار ورجع. والفنيق الجمل الفحل المودع للفحلة، لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، فهو ضخم شديد التركيب. والمحنق: الضامر القليل اللحم. والإحناق: لزوق البطن بالصلب.
(٢) يقال له أيضًا: كعب بن حممة، وهو أحد المعمرين، زعموا عاش أربعمائة سنة غير عشر سنين. وهو أحد حكام العرب، ويقال إنه هو"ذو الحلم" الذي قرعت له العصا، فضرب به المثل.
(٣) كتاب المعمرين: ٢٢، وحماسة البحتري: ٢٠٥ ومعجم الشعراء: ٢٠٩، وهي أبيات.
(٤) أمالي ابن الشجري ١: ٣١٣، ٢: ١٤٠، واللسان (قطط). وفي المطبوعة: "سيلا"، والصواب في اللسا وأمالي ابن الشجري، والرواية المشهورة"مهلا رويدا". وقطني: حسبي وكفاني وللنحاة كلام كثير في"قطني". وقوله"سلا": كأنه من قولهم: انسل السيل: وذلك أول ما يبتدئ حين يسيل، قبل أن يشتد. كأنه يقول: صبا رويدا.
546
له كن فيكون)، أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: (كن) في حال إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، (١) إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. (٢) فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [سورة الروم: ٢٥] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله، ولا يتأخر عنه.
* * *
ويسألُ من زعم أن قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز، (٣) عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله.
ويسألُ الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: (فإنما يقول له كن فيكون)، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه أو بيده"، إذا حركه وأومأ، ونظير قول الشاعر: (٤)
(١) في المطبوعة: "وجوده" الذي أراد إيجاده" وزيادة الهاء في"وجوده" لا مكان لها.
(٢) يقول: إن وجود الشيء، لا يتقدم إرادة الله وأمره، ولا يتأخر عنهما.
(٣) يقول: "يسأل من زعم.. عن دعوة أهل القبور".
(٤) هو المثقب العبدي.
547
تقول إذا درأت لها وضيني:... أهذا دينه أبدا وديني (١)
وما أشبه ذلك-: فإنهم لا صواب اللغة أصابوا، ولا كتاب الله، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له:"كن"، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا من الملة.
وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل:"قال الحائط فمال" ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط.
قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟
فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها.
وإن قالوا: ذلك غير جائز.
قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل:"قال الحائط فمال"، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، وقول القائل:"قال الحائط فمال"؟
(١) المفضليات: ٥٨٦، والكامل ١: ١٩٣ وطبقات فحول الشعراء: ٢٣١، وسيأتي في تفسيره ٤: ١١٢ (بولاق) من قصيدة جيدة، يقول قبله في ناقته: إذا ما قمت أرحلها بليل... تأوه آهة الرجل الحزين
ودرأ الوضين لناقته: بسطه على الأرض، ثم أبركها عليه ليشد عليها رحلها. والوضين: حزام عريض من جلد منسوج يشد به رحل البعير. والدين: الدأب والعادة.
548
وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله.
* * *
وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود، فبَيِّنٌ بذلك أن الذي هو أولى بقوله: (فيكون) (١) الرفع على العطف على قوله (٢) (يقول) لأن"القول" و"الكون" حالهما واحد. وهو نظير قول القائل:"تاب فلان فاهتدى"، و"اهتدى فلان فتاب"، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود.
ولذلك استجاز من استجاز نصب"فيكون" من قرأ: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: ٤٠]، بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن نقول فيكونَ.
وأما رفع من رفع ذلك، (٣) فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله: (إذا أردناه أن نقول له كن). إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا، ثم ابتدأ بقوله: فيكون، كما قال جل ثناؤه: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ)، [سورة الحج: ٥] وكما قال ابن أحمر:
يعالج عاقرا أعيت عليه ليُلْقِحَها فيَنْتِجُها حُوارا (٤)
(١) في المطبوعة: "فتبين"، والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "فيكون على العطف" سقط من الناسخ قوله: الرفع".
(٣) وهذه هي قراءة مصحفنا اليوم.
(٤) المعاني الكبير: ٨٤٦، ١١٣٤، وسيبويه ١: ٣٤١، من أبيات يذكر صديقا كان له، يقول:
أرانا لا يزال لنا حميم كداء البطن سِلا أو صُفارا
يعالج عاقرا أعيت عليه ليلقحها، فينتجها حوارا
ويزعم أنه ناز علينا بشرته فتاركنا تبارا
جعل هذا الصديق كداء البطن لا يدري من أين يهج ولا كيف يتأتى له. وهو يعالج من الشر ما لا يقدر عليه، فكأنه يطلب الولد من عاقر. جعل ذلك مثلا. والحوار: ولد البقرة. والشرة: حدة الشر، والتبار: الهلاك.
549
يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا.
* * *
فمعنى الآية إذًا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه:"كن"، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه، إذْ أراد خلقه من غير والد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ)، فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٦٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
550
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)، قال: النصارى تقوله.
١٨٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله - وزاد فيه (وقال الذين لا يعلمون)، النصارى.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٦٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، قالا جميعا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله كما تقول، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)، الآية كلها. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٦٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)، وهم كفار العرب.
١٨٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله)، قال: هم كفار العرب.
١٨٦٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) الأثر: ١٨٦٢ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٨.
551
السدي: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله)، أما الذين لا يعلمون: فهم العرب.
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى عنى بقوله: (وقال الذين لا يعلمون)، النصارى دون غيرهم. لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: (اتخذ الله ولدا)، تمنوا على الله الأباطيل، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون: (لولا يكلمنا الله)، كما يكلم رسوله وأنبياءه، أو تأتينا آية كما أتتهم؟ ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده، فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه.
وأمّا الزاعم: أن الله عنى بقوله (١) (وقال الذين لا يعلمون) العرب، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته، ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه، لأنه ادعى ما لا برهان على صحته، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد.
* * *
وأما معنى قوله: (لولا يكلمنا الله)، فإنه بمعنى: هلا يكلمنا الله! كما قال الأشهب بن رميلة: (٢)
(١) في المطبوعة: "وقال الزاعم.. " والصواب ما أثبت، كما استدركه مصحح المطبوعة.
(٢) ليس للأشهب، بل هو لجرير، وقد تابعه ابن الشجري في أماليه ٢: ٢١٠، كأنه نقله عنه كعادته.
552
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى، لولا الكمي المقنعا (١)
بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع! كما:
١٨٦٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لولا يكلمنا الله) قال: فهلا يكلمنا الله!
قال أبو جعفر: فأما"الآية" فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة. (٢) وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلا تأتينا آية على ما نريد ونسأل، (٣) كما
(١) ديوان جرير: ٣٣٨، النقائض: ٨٣٣، وسيأتي في التفسير ٧: ١١٩ (بولاق) غير منسوب، ومجاز القرآن: ٥٢، وأمالي ابن الشجري ١: ٢٧٩، ٣٣٤ / ٢: ٢١٠، والخزانة ١: ٤٦١. ورواية الديوان والنقائض: "أفضل سعيكم". والبيت من قصيدة طويلة في مناقضة جرير والفرزدق. وقوله: "عقر النيب". عقر الناقة أو الفرس: ضرب قوائمها فقطعها، وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، ثم نحروه، وإنما يفعلون به ذلك كيلا يشرد عند النحر. وكان العرب يتكارمون بالمعاقرة. وهي أن يعقر هذا ناقة، فيعقر الآخر، يتباريان في الجود والسخاء، ويلحان في ذلك حتى يغلب أحدهما صاحبه. والنيب جمع ناب: وهي الناقة المسنة، أسموها بذلك لطول نابها. ويشير جرير بذلك إلى ما كان يفخر به الفرزدق من معاقرة أبيه غالب بن صعصعة، سحيم بن وثيل الرياحي بمكان يقال له"صوأر"، فعقر سحيم خمسا ثم بدا له، وعقر غالب مئة، أو مئتين. وهذا أمر من أمور الجاهلية قال ابن عباس: " لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا آمن أن يكون مما أهل لغير الله به"، وقال علي رضي الله عنه: "يا أيها الناس، لا تحل لكم، فإنها أهل بها لغير الله". (انظر خبر المعاقرة في النقائض: ٦٢٥ - ٦٢٦).
وقوله: "بني ضوطرى"، يعني: يا بني الحمقى. هكذا قيل، وأخشى أن لا يكون كذلك، فإن: "ضوطرى" نبز لرجل من بني مجاشع بن دارم - لم يعينوه - فقال جرير للفرزدق:
إن ابن شعرة، والقرين، وضوطرى بئس الفوارس ليلة الحدثان
فهذا دليل على أنه شخص بعينه، أرجو أن أحققه في غير هذا المكان. وقد أراد ذمه بأسلافه على كل. والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، فلا يحيد عن قرنه، كان عليه سلاح أو لم يكن.
وقوله: "تعدون" أي تحسبون وتجعلون، فعدى الفعل"عد" إلى مفعولين، تضمينا لمعنى"جعل وحسب"، كما قال ذو الرمة:
أشم أغر أزهر هبرزي يعد القاصدين له عيالا
(٢) انظر ما سلف: ١: ١٠٦.
(٣) في المطبوعة: "عما نريده ونسأل"، والصواب ما أثبت.
553
أتت الأنبياء والرسل! فقال عز وجل: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم)، فقال بعضهم في ذلك بما:-
١٨٦٧- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم)، هم اليهود.
١٨٦٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قال الذين من قبلهم)، اليهود.
* * *
وقال آخرون: هم اليهود والنصارى، لأن الذين لا يعلمون هم العرب. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٨٦٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (قال الذين من قبلهم)، يعني اليهود والنصارى وغيرهم.
١٨٧٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قالوا يعني - العرب- كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم.
١٨٧١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
(١) في المطبوعة: "هم اليهود"، والصواب ما أثبت، كما استظهره مصحح المطبوعة، ودليل ذلك أنه سيروى بعد عن قتادة، وقد مضى في رقم: ١٧٦٣ بإسناده هذا عن قتادة: أن" الذين لا يعلمون"، هم كفار العرب، والأثر التالي تتمة هذا الأثر السالف.
554
عن أبيه، عن الربيع: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم)، يعني اليهود والنصارى.
* * *
قال أبو جعفر: قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله)، هم النصارى، والذين قالوا مثل قولهم هم اليهود (١) سألت موسى ﷺ أن يريهم ربهم جهرة، (٢) وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا - (٣) وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك، مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد.
١٨٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تشابهت قلوبهم) قلوب النصارى واليهود.
* * *
وقال غيره: (٤) معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٧٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
(١) في المطبوعة: "والذين قالت". والضمير في قوله"والذين قالوا" إلى النصارى يعود. وانظر دليله فيما سلف قريبا: ٥٥٠.
(٢) في المطبوعة: "وسألت موسى"، وحذف الواو أولى. وكان أحب أن يكون"سألوا" مكان"سألت".
(٣) انظر ما سلف في تفسير الآية: ٥٥، والأثر: ٩٥٩.
(٤) في المطبوعة: "وقال غيرهم"، والصواب ما أثبت، فإنه روى قول مجاهد وحده.
555
قتادة: (تشابهت قلوبهم)، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.
١٨٧٤- حدثني المثنى، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (تشابهت قلوبهم)، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز في قوله: (تشابهت) التثقيل، لأن التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله:"تفاعل"، وإن ثقلت صارت تاءين، ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال، والأخرى منها التي في"تفاعل"، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل، فيقال: تشابه بعد اليوم قلوبنا. (١)
* * *
فمعنى الآية: وقالت النصارى، الجهال بالله وبعظمته: هلا يكلمنا الله ربنا، كما كلم أنبياءه ورسله، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم، قال من قبلهم من اليهود، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة، ويؤتيهم آية، واحتكموا عليه وعلى رسله، وتمنوا الأماني. فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها.
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٧٥، وعبارة الطبري هنا تصحح الخطأ الذي هناك.
556
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون)، قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود، وجعل منهم القردة والخنازير، وأعد لهم العذاب المهين في معادهم، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا، وأعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها. فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر، إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه. وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفي عن خبر الله عز وجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾
قال أبو جعفر: ومعنى قوله جل ثناؤه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)، إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان، وهو الحق؛ مبشرا من اتبعك فأطاعك، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا، والظفر بالثواب في الآخرة، والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد
557
عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا، والذل فيها، والعذاب المهين في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) ﴾
قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم)، بضم"التاء" من"تسئل"، ورفع"اللام" منها على الخبر، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغت ما أرسلت به، وإنما عليك البلاغ والإنذار، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق، وكان من أهل الجحيم.
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: (ولا تَسألْ) جزما. بمعنى النهي، مفتوح"التاء" من"تسأل"، وجزم"اللام" منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما:-
١٨٧٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت: (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم).
١٨٧٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ " ثلاثا، فنزلت: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم)، فما ذكرهما حتى توفاه الله. (١)
(١) الحديثان: ١٨٧٥، ١٨٧٦ - هما حديثان مرسلان. فإن محمد بن كعب بن سليم القرظي: تابعي. والمرسل لا تقوم به حجة، ثم هما إسنادان ضعيفان أيضًا، بضعف راويهما: موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي: ضعيف جدا، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ /١/ ٢٩١، والصغير: ١٧٢ - ١٧٣، وابن أبي حاتم ٤ /١ /١٥١، فقال البخاري: "منكر الحديث قاله أحمد بن حنبل. وقال علي بن المديني، عن القطان: كنا نتقيه تلك الأيام". وروى ابن أبي حاتم عن الجوجزاني قال: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة، قلنا: يا أبا عبد الله، لا يحل؟ قال: عندي، قلت: فإن سفيان وشعبة قد رويا عنه؟ قال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه". وقال ابن معين: "لا يحتج بحديثه". وقال أبو حاتم: "منكر الحديث". وأبوه"عبيدة"، بالتصغير، ووقع في المطبوعة في الإسنادين"عبدة". وهو خطأ.
558
١٨٧٧- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم، أن النبي ﷺ قال ذات يوم:"ليت شعري أين أبواي؟ " فنزلت: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم). (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكفرهم بالله، وجراءتهم على أنبيائه، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنا أرسلناك) يا محمد (بالحق بشيرا)، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه، (ونذيرا) من كفر بك وخالفك، فبلغ رسالتي، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله ﷺ ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله: (ولا تسأل عن
(١) الحديث: ١٨٧٧ - وهذا مرسل أيضًا، لا تقوم به حجة.
داود بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة، ويروى عن بعض التابعين أيضًا. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٢١٠. والجرح ١/٢/٤٢١. ووقع في المطبوعة"داو عن أبي عاصم". وهو تحريف، صححناه من ابن كثير ١: ٢٩٧.
ونقل ابن كثير ١: ٢٩٦ عن القرطبي أنه قال: "وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: إن أبي وأباك في النار". ثم علق ابن كثير، فقال: "الحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام - ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها، وإسناده ضعيف".
وأنا أرى أن الإفاضة في مثل هذا غير مجدية، وما أمرنا أن نتكلف القول فيه.
559
أصحاب الجحيم)، وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي ﷺ نهي عن أن يسأل -في هذه الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم. (١)
* * *
فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا)، بـ "الواو" - بقوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)، وتركه وصل ذلك بأوله بـ "الفاء"، وأن يكون:"إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم" - (٢) أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: (٣) "ولا تسئل"، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: (وما تسأل)، وفي قراءة ابن مسعود: (ولن تسأل)، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه، دون النهي. (٤)
* * *
(١) حجة قوية لا ترد، وبصر بسياق معاني القرآن وتتابعها. ولكن كثيرا من الناس يغفلون عن مواطن الحق في موضع بعينه، لاختلاط الأمر عليهم لمشابهته لموطن آخر في موضع غيره، كما سترى في التعليق التالي رقم: ٤٠.
(٢) كان في المطبوعة: "بالواو يقول: فلا تسئل عن أصحاب الجحيم... بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم" وهو خطأ كما استدركه مصحح المطبوعة في تعليقه.
(٣) في المطبوعة: "أوضح الدلائل" بالجمع، والإفراد هو الصواب، وكأنه سبق قلم من ناسخ.
(٤) قال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٩٧" وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك؛ لاستحالة الشك من الرسول ﷺ في أمر أبويه، واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه، قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا في الصحيح. ولهذا أشباه كثيرة ونظائر، ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم".
ينسى ابن كثير غفر الله له، ما أعاد الطبري وأبدأ من ذكر سياق الآيات المتتابعة، والسياق كما قال هو في ذكر اليهود والنصارى وقصصهم، وتشابه قلوبهم في الكفر بالله، وقلة معرفتهم بعظمة ربهم، وجرأتهم على رسل الله وأنبيائه، وكل ذلك موجب عذاب الجحيم، فما الذي أدخل كفار العرب في هذا السياق؟ نعم إنهم يدخلون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، كما يدخل فيه كل مشرك من العرب وغيرهم. وقد بينا آنفًا ص: ٥٢١ تعليق: ١ أن هذه الآيات السالفة والتي تليها، دالة أوضح الدلالة على أن قصتها كلها في اليهود والنصارى، ولا شأن لمشركي العرب بها. وإن دخل هؤلاء المشركون في معنى أنهم من أصحاب الجحيم، وإذن فسياق الآيات يوجب أن تكون في اليهود والنصارى، فتخصيص شطر من آية بأنه نزل في أمر بعض مشركي الجاهلية. تحكم بلا خبر ولا بينة. (وانظر ص: ٥٦٥).
إن ابن كثير غفل عن معنى الطبري، فإن الطبري أراد أن يدل على شيئين: أن خبر محمد بن كعب لا يصح، وأنه إن صح عنه من وجه، فإن نزول الآية لم يكن لهذا الذي روي عنه. وبيان ذلك: أن الخبر لا يصح، لأنه جاء على صيغة التشكك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر بعض أهل الجاهلية: ما فعل به، في جنة أو نار! وهذا مما يتنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفرق كبير بين أن يستغفر رسول الله ﷺ لأبويه اللذين كانا من أهل الجاهلية، وعلى مثل أمرها من الشرك، وبين أن يتشكك في أمرهما فيقول:"ليت شعري ما فعل أبواي؟ ". وإنما يصح كلام ابن كثير، إذا كان بين هذا التشكك، وبين الاستغفار رابط يوجب أن يكون أحدهما ملازما للآخر، أو بسبب منه. ثم يرد الخبر أيضًا، لأن سياق الآيات يدل ظاهرها البين على أنها في اليهود والنصارى نزلت، فلا يمكن تخصيص شطر من آية من هذه الآيات المتتابعة، على خبر لا يصح، لعلة موهنة له. فلست أدري لم أقحم ابن كثير الاستغفار والتبرؤ في هذا الموضع، مع وضوح حجة الطبري في الفقرة السالفة. من جهة السياق، وفي هذه الفقرة من جهة العربية؟
إن بعض المشكلات التي يدور عليها جدال الناس، ربما أغفلت مثل ابن كثير عن مواطن الدقة والصواب والتحري، وهم يفسرون كتاب الله الذي لا يخالف بعضه بعضا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، ونستهديك في البيان عن معاني كتابك.
560
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم"التاء"، وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك قراءته:"ولا تسأل"، بفتح"التاء" وضم"اللام" على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك.
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما روي عن ابن
561
مسعود وأبي من القراءة، (١) لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من"ما" و"لن" يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: (ولا تسأل). وإذا كان ابتداء لم يكن حالا.
* * *
وأما (أصحاب الجحيم)، ف"الجحيم"، هي النار بعينها إذا شبت وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
إذا شبت جهنم ثم دارت... وأَعْرَض عن قوابسها الجحيم (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: يرفعهما ما روي... " والصواب ما أثبت.
(٢) ديوانه: ٥٣، وروايته: "ثم فارت"، وكأنها هي الصواب، وأخشى أن يكون البيت محرفا. لم أعرف معنى"قوابسها" هناك، وأظنه"قدامسها" جمع قدموس، وهي الحجارة الضخمة الصلبة، كقوله تعالى: "وقودها الناس والحجارة"، وأعرض الشيء اتسع وعرض، وقوله"عن" أي بسبب قذف هذه الحجارة فيها. هذا أقرب ما اهتديت إليه من معناه، ويرجح ذلك البيت الذي يليه، وفيه جواب"إذا": تحش بصندل صم صلاب... كأن الضاحيات لها قضيم
وكأنه يعني بالضاحيات: النخيل. وشعر أمية مشكل على كل حال.
562
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، وليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية
562
في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا، وذلك مما لا يكون منك أبدا، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل.
* * *
وأما"الملة" فإنها الدين، وجمعها الملل.
* * *
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد - لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) - (إن هدى الله هو الهدى)، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء الفاصل بيننا، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه- الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل، وأينا أهل الجنة، وأينا أهل النار، وأينا على الصواب، وأينا على الخطأ.
وإنما أمر الله نبيه ﷺ أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولئن اتبعت)، يا محمد، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر، فصرت من ذلك
563
إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي = يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به = ولا نصير، ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك. وقد بينا معنى"الولي" و"النصير" فيما مضى قبل. (١)
وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه، غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: (الذين آتيناهم الكتاب) فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من أصحابه.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (الذين آتيناهم الكتاب)، هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة. فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٤٨٨، ٤٨٩.
564
الله عليه وسلم، والإيمان به، والتصديق بما جاء به من عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، قال: من كفر بالنبي ﷺ من يهود فأولئك هم الخاسرون.
* * *
وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة. لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله، وتأولهم إياه على غير تأويله، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد ﷺ في الآية التي قبلها ذكر، فيكون قوله: (الذين آتيناهم الكتاب)، موجها إلى الخبر عنهم، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له. (١)
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه [قصصهم] في الآية قبلها والآية بعدها، (٢) وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد -وهو التوراة- فقرءوه واتبعوا ما فيه، فصدقوك وآمنوا بك، وبما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حق تلاوته.
* * *
(١) رحم الله أبا جعفر، فهو لا يدع الاحتجاج الصحيح عند كل آية، ولكن بعض أهل التفسير يتجاوزون ويتساهلون، فليتهم نهجوا نهجه في الضبط والحفظ والاستدلال.
(٢) ما بين القوسين زيادة لا بد منها.
565
وإنما أدخلت الألف واللام في"الكتاب" لأنه معرفة، وقد كان النبي ﷺ وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته)، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٨٠- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني ابن أبي عدي، وعبد الأعلى، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي جميعا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته)، يتبعونه حق اتباعه.
١٨٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة بمثله.
١٨٨٠- وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة بمثله.
١٨٨٣- حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قوله الله عز وجل: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)، قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه. (١)
١٨٨٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: (يتلونه حق تلاوته)، فذكر مثله، إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه.
١٨٨٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المؤمل قال، حدثنا سفيان قال:
(١) الأثر: ١٨٨٣ - في المطبوعة: "الحسن بن عمرو العبقري"، وانظر التعليق على الأثر رقم: ١٦٢٥ وكذلك مضى في الأثر: ١٦٥٥"الحسن"، وهو خطأ، نصححه.
566
حدثنا يزيد، عن مرة، عن عبد الله في قول الله عز وجل: (يتلونه حق تلاوته) : قال: يتبعونه حق اتباعه.
١٨٨٦- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال، قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.
١٨٨٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود في قوله: (يتلونه حق تلاوته)، أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه.
١٨٨٨- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال، حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته) يتبعونه حق اتباعه.
١٨٨٩- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن عطاء، بمثله.
١٨٩٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: (يتلونه حق تلاوته)، قال: يتبعونه حق اتباعه.
١٨٩١- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان -وحدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم قال، حدثنا سفيان-
وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان - قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله.
١٨٩٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته)، قال: عملا به. (١)
(١) الأثر: ١٨٩٢ - في المطبوعة: "أبو حميد"، والصواب ما اثبت، وهو محمد بن حميد، وهو كثير ذكره فيما سلف.
567
١٨٩٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن قيس بن سعد: (يتلونه حق تلاوته)، قال: يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) [سورة الشمس: ٢]، يعني الشمس إذا تَبعها القمر.
١٨٩٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء وقيس بن سعد، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته)، قال: يعملون به حق عمله.
١٨٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال، يتبعونه حق اتباعه.
١٨٩٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته)، يعملون به حق عمله.
١٨٩٨- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن مجاهد في قوله: (يتلونه حق تلاوته)، قال: يتبعونه حق اتباعه.
١٨٩٩- حدثني عمرو قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن أبي أيوب، عن أبي الخليل، عن مجاهد: (يتلونه حق تلاوته)، قال: يتبعونه حق اتباعه. (١)
(١) الخبر: ١٨٩٩ - أبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة الشعيري - بفتح الشين المعجمة - الخراساني، وهو ثقة مأمون، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١٦٠، وابن أبي حاتم ٢/١/١٢٢٦.
الحسن بن أبي جعفر الجفري: حسن الحديث، تكلموا فيه، ورجحنا تحسين أحاديثه مفصلا في شرح المسند: ٥٨١٨. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٢٨٦ وابن أبي حاتم ١/٢/٢٩. و"الجفري": بضم الجيم وسكون الفاء، نسبة إلى"جفرة خالد" بالبصرة. كما في الأنساب واللباب والمشتبه. أيوب: هو السختياني، وفي المطبوعة"عن أبي أيوب". وهو خطأ. استقينا تصويبه من التراجم. أبو الخليل: هو صالح بن أبي مريم الضبعي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٢٩٠ وابن أبي حاتم ٢/١/٤١٥ - ٤١٦.
568
١٩٠٠- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى القطان، عن عبد الملك، عن عطاء قوله: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه، يعملون به حق عمله.
١٩٠١- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن المبارك، عن الحسن: (يتلونه حق تلاوته) قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. (١)
١٩٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يتلونه حق تلاوته)، قال: أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته: أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه.
١٩٠٣- حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا الحكم بن عطية، سمعت قتادة يقول: (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه. قال: اتباعه: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل.
١٩٠٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم عن داود، عن عكرمة في قوله: (يتلونه حق تلاوته)، قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) [سورة الشمس: ٢]، قال: إذا تبعها.
* * *
وقال آخرون: (يتلونه حق تلاوته)، يقرءونه حق قراءته. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره، إذا اتبع أثره، (٣) لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
(١) الخبر: ١٩٠١ - مبارك: هو ابن فضالة. وهو من أخص الناس بالحسن البصري. كما قلنا في: ٦١١.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٤١١.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٤١١.
569
وإذ كان ذلك تأويله، فمعنى الكلام: الذين آتيناهم الكتاب، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي، يتبعون كتابي الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك، وأنك رسولي، فرضٌ عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي، ويعملون بما أحللت لهم، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنزلته عليهم - بتأويل ولا غيره.
* * *
أما قوله: (حق تلاوته)، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال:"إن فلانا لعالم حق عالم"، وكما يقال:"إن فلانا لفاضل كل فاضل" (١)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في إضافة"حق" إلى المعرفة، فقال بعض نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى"أي"، وبمعنى قولك:"أفضل رجل فلان"، و"أفعل" لا يضاف إلى واحد معرفة، لأنه مبعض، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن يقال:"مررت بالرجل حق الرجل"، و"مررت بالرجل جِدِّ الرجل"، كما أحالوا"مررت بالرجل أي الرجل"، وأجازوا ذلك في"كل الرجل" و"عين الرجل" و"نفس الرجل". (٢) وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا، فلما صرن مدوحا، تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة.
وزعموا أن قوله: (يتلونه حق تلاوته)، إنما جازت إضافته إلى التلاوة، وهي مضافة إلى معرفة، لأن العرب تعتد ب"الهاء" -إذا عادت إلى نكرة - بالنكرة، فيقولون:"مررت برجل واحد أمه، ونسيج وحده، وسيد قومه"، قالوا: فكذلك قوله: (حق تلاوته)، إنما جازت إضافة"حق" إلى"التلاوة" وهي مضافة إلى
(١) انظر سيبويه ١: ٢٢٣ - ٢٢٤.
(٢) في المطبوعة"غير الرجل".
570
"الهاء"، لاعتداد العرب ب"الهاء" التي في نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك"حق التلاوة"، لوجب أن يكون جائزا:"مررت بالرجل حق الرجل".
فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة"حق" إلى النكرات مع النكرات، ومع المعارف إلى المعارف، وإنما ذلك نظير قول القائل:"مررت بالرجل غلام الرجل"، و"برجل غلام رجل".
فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته (١)
* * *
وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول، لأن معنى قوله: (حق تلاوته)، أي تلاوة، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها."وأي" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم. وكذلك"حق" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة.
وإنما أضيف في (حق تلاوته) إلى ما فيه"الهاء" لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك)، هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته، وأما قوله: (يؤمنون)، فإنه يعني: يصدقون به. و"الهاء" التي في قوله:"به" عائدة على"الهاء" التي في"تلاوته"، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: (الذين آتيناهم الكتاب).
فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة، هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته، دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها، مغيرا
(١) الصواب أن يقول: "حق تلاوة الكتاب"، ولعل الناسخ أخطأ.
571
سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه.
* * *
وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبي الله ﷺ وتصديقه، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته، وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون بما فيها، كما:-
١٩٠٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولئك يؤمنون به)، قال: من آمن برسول الله ﷺ من بني إسرائيل، وبالتوراة، وإن الكافر بمحمد ﷺ هو الكافر بها الخاسر، كما قال جل ثناؤه: (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون). (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يكفر به)، ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: (يكفر)، يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه، ويبدله فيحرف تأويله، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن زيد في قوله، بما:-
١٩٠٦- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
(١) انظر ما سلف في معنى"الخاسر" ١: ٤١٧ ثم هذا الجزء ٢: ١٦٦.
572
(ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون)، قال: من كفر بالنبي ﷺ من يهود، (فأولئك هم الخاسرون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم، وصنائعي عندكم، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وإنزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم، وتمكيني لكم في البلاد، بعد أن كنتم مذللين مقهورين، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه، أيام أنتم في طاعتي- (١) باتباع رسولي إليكم، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي، ودعوا التمادي في الضلال والغي.
وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، والمعاني التي ذكرهم جل ثناؤه من آلائه عندهم، والعالم الذي فضلوا عليه - فيما مضى قبل، بالروايات والشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته، إذْ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا. (٢)
* * *
(١) إن لم يكن قد سقط هنا قوله: "وأعظكم باتباع رسولي.. "، فإن قوله" باتباع رسولي" متعلق بقوله في صدر الخطاب: "اذكروا أيادي لديكم.. ".
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٣ - ٢٦.
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله عن وجهه، المكذبين برسولي محمد ﷺ - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا تغني عنها غناء، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي، وتكذيبكم رسولي، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع، ولا هي ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه. (١)
* * *
وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "ولا هم ينصرهم"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٦ - ٣٦.

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإذ ابتلى)، وإذا اختبر.
* * *
يقال منه:"ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء"، ومنه قول الله عز وجل: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) [سورة النساء: ٦]، يعني به: اختبروهم. (١).
* * *
وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه، وأمر أمره به. وذلك هو"الكلمات" التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"الكلمات" التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه.
* * *
فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
١٩٠٧- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال،
(١) انظر ما سلف في الجزء ٢: ٤٨، ٤٩.
(٢) السهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر، وهي القداح. ثم سمى ما يفوز به الفالج سهما، ثم كثر حتى سمى كل نصيب سهما. وقوله هنا يدل على أنهم استعملوه في كل جزء من شيء يتجزأ وهو جملة واحدة. فقوله: "سهما" هنا، أي خصلة وشعبة. وسيأتي شاهدها في الأخبار الآتية.
7
قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم: ٣٧]. قال: عشر منها في"الأحزاب"، وعشر منها في"براءة"، وعشر منها في"المؤمنون" و"سأل سائل"، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما. (١)
١٩٠٨- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال:"وإبراهيم الذي وفى"، فذكر عشرا في"براءة" [١١٢] فقال: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ) إلى آخر الآية، (٢) وعشرا في"الأحزاب" [٣٥]، (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)، وعشرا في"سورة المؤمنون" [١-٩] إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)، وعشرا في"سأل سائل" [٢٢-٣٤] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ).
١٩٠٩- حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما، وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم، قال الله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، فكتب الله له براءة من النار. (٣)
* * *
(١) سيأتي بيانها في الأثر التالي.
(٢) في المطبوعة: "الآيات"، والصواب ما أثبت.
(٣) الخبر ١٩٠٩- عبد الله بن أحمد بن شبويه: هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن ثابت بن مسعود بن يزيد، أبو عبد الرحمن، عرف بابن شبويه، وهو من أئمة الحديث، كما قال الخطيب. مترجم في تاريخ بغداد ٩: ٣٧١، وله ترجمة موجزة في ابن أبي حاتم. ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله بن أحمد بن شبرمة". وهو تحريف وخطأ. صححناه من التاريخ، ومما سيأتي في التفسير.
علي بن الحسن بن شقيق بن دينار: ثقة، من شيوح أحمد، والبخاري، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وفي شرح المسند: ٧٤٣٧.
وهذا الخبر سيأتي بهذا الإسناد، في التفسير: ٢٧: ٤٣ (بولاق). وكذلك رواه أبو جعفر بهذا الإسناد، في التاريخ ١: ١٤٤.
وذكره ابن كثير ١: ٣٠٢، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والحاكم. وذكره السيوطي ١: ١١١-١١٢، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن مردويه، وابن عساكر. وهذا الإسناد صحيح.
8
وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
١٩١٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. (١)
١٩١١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن عباس، بمثله- ولم يذكر أثر البول.
١٩١٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.
١٩١٣- حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة:
(١) الخبر: ١٩١٠- وهذا الإسناد صحيح أيضًا.
وهو في تفسير عبد الرزاق (مخطوطة دار الكتب المصورة)، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه أبو جعفر في التاريخ ١: ١٤٤، من تفسير عبد الرزاق. بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الحاكم ٢: ٢٦٦، من طريق ابن طاوس عن أبيه، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير ١: ٣٠١. وكذلك ذكره السيوطي ١: ١١١ وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه.
9
الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج (١).
* * *
وقال بعضهم: بل"الكلمات" التي ابتلي بهن عشر خلال; بعضهن في تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج.
*ذكر من قال ذلك:
١٩١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال، ستة في الإنسان، وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك:"إني جاعلك للناس إماما"، في مناسك الحج.
* ذكر من قال ذلك:
١٩١٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"، وآيات النسك. (٣)
١٩١٦- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل
(١) الخبر: ١٩١٣- مطر: هو ابن طهمان الوراق. وأبو الجلد: بفتح الجيم وسكون اللام، سبق بيانه: ٤٣٤. وفي المطبوعة"أبو الخلد" بالخاء المعجمة بدل الجيم، وهو تصحيف تكرر فيها كثيرا.
البراجم جمع برجمة (بضم الباء وسكون الراء وضم الجيم) : وهي ظهور القصب من مفاصل الأصابع.
(٢) الخبر: ١٩١٤- ابن هبيرة: هو عبد الله بن هبيرة السبائي المصري، وهو ثقة، وثقه أحمد وغيره، وخرج له مسلم في الصحيح. حنش، بفتحتين وبالشين المعجمة: هو ابن عبد الله السبائي الصنعاني، من صنعاء دمشق -وهي قرية بالغوطة من دمشق- وهو تابعي ثقة.
وهذا الخبر رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى. عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد - كما في ابن كثير ١: ٣٠٢. وهو إسناد صحيح.
(٣) يأتي بيان آيات النسك في الخبرين التاليين.
10
بن أبي خالد، عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن"إني جاعلك للناس إماما" ومنهن آيات النسك: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [سورة البقرة: ١٢٧].
١٩١٧- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال: نعم. [قال] : وأمنا. قال: نعم. [قال] : وتجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [قال] : وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.
١٩١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٩١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.
١٩٢٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا.
١٩٢١- حدثنا سفيان قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال، ابتلي بالآيات التي بعدها:"إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين".
١٩٢٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
11
الربيع في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فالكلمات:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس"، وقوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية، وقوله:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. (١)
١٩٢٣- حدثني محمد بن سعد (٢) قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"، ومنهن:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، ومنهن الآيات في شأن النسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد ﷺ في ذريتهما عليهما السلام.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٢٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، مناسك الحج. (٣)
١٩٢٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان ابن عباس يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، المناسك.
(١) في المطبوعة: "فذلك كلمة من الكلمات"، والصواب من ابن كثير ١: ٣٠٣.
(٢) في المطبوعة: "محمد بن سعيد"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في الطبري، وانظر رقم: ٣٠٥.
(٣) الخبر: ١٩٢٤- هذا الإسناد ضعيف من ناحيتين. أما سلم -بفتح السين وسكون اللام- ابن قتيبة أبو قتيبة: فإنه ثقة، خرج له البخاري في صحيحه. وأما الضعف، فلأن"عمر بن نبهان الغبري" بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة: ضعيف جدا، ذمه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/١٣٨. والوجه الآخر من الضعف: أنه منقطع، لأن قتادة لم يدرك ابن عباس.
12
١٩٢٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك.
١٩٢٧- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، المناسك.
١٩٢٨- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، مناسك الحج.
١٩٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن مناسك الحج. (١)
* * *
وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٣٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، منهن الختان.
١٩٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله.
١٩٣٢- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول الله:"وإذ ابتلى
(١) الخبران: ١٩٢٨، ١٩٢٩- أبو إسحق: هو السبيعي، عمرو بن عبد الله الهمداني، الإمام التابعي الثقة، التميمي: هو"أربدة" بسكون الراء وكسر الباء الموحدة. ويقال"أربد" بدون هاء. وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٦٤، وابن أبي حاتم ١/١/٣٤٥، وقد عرف بأني راوي التفسير عن ابن عباس. وفي المسند: ٢٤٠٥- في حديث آخر"عن أبي إسحاق، عن التميمي الذي يحدث التفسير". لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي.
13
إبراهيم ربه بكلمات" - قال، منهن الختان، يا أبا إسحاق.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٣٣- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: قلت للحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن". قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛ وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان.
١٩٣٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.
١٩٣٥- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، وبالكوكب، والشمس، والقمر.
١٩٣٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو هلال، عن الحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال، ابتلاه بالكوكب، وبالشمس والقمر، فوجده صابرا.
* * *
وقال آخرون بما:
١٩٣٧- حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
14
أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ) [سورة البقرة: ١٢٧-١٢٩]
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. (١) وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل"الكلمات"، وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي ﷺ في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا، أو أحدهما، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما، ما:-
١٩٣٨- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان النبي ﷺ يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: (الَّذِي وَفَّى) ؟ [سورة النجم: ٣٧] لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [سورة الروم: ١٧] حتى يختم الآية. (٢)
(١) في المطبوعة: "وأتمهن" بالواو، والأجود ما أثبت.
(٢) الحديث: ١٩٣٩- إسناده منهار لا تقوم له قائمة. وقد ضعفه الطبري نفسه، هو والحديث الذي بعده. وقال ابن كثير ١: ٣٠٤- بعد إشارته إلى ذلك: "وهو كما قال، فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجود عديدة، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه".
رشدين بن سعد: ضعيف جدا، وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: ٥٧٤٨، و"رشدين": بكسر الراء وسكون الشين المعجمة وكسر الدال وبعد الياء نون، ووقع في المطبوعة وفي ابن كثير"راشد". وهو تصحيف.
زبان بن فائد المصري الحمراوي: ضعيف أيضًا. قال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وضعفه ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٠٥، وابن أبي حاتم ١/٢/٦١٦. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: ٢١٠ مخطوطة مصور عندي) :"منكر الحديث جدا، يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة". و"زبان": بالزاي المعجمة وتشديد الباء الموحدة. ووقع في المطبوعة"ريان" بالراء والتحتية، وهو تصحيف.
سهل بن معاذ بن أنس الجهني: ضعيف أيضًا، ضعفه ابن معين. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: ٢٣٢) :"روى عنه زبان بن فائد، منكر الحديث جدا. فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبان بن فائد؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها أحدهما ساقطة".
وهذا الحديث -على ما فيه من ضعف شديد- رواه أحمد في المسند: ١٥٦٨٨ (ج ٣ ص ٤٣٩ حلبي). بل إنه روى هذه النسخة، التي كاد ابن حبان أن يجزم بأنها موضوعة.
15
والآخر منهما ما:-
١٩٣٩- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإبراهيم الذي وفى" قال، أتدرون ما"وفى"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفي عمل يومه، أربع ركعات في النهار. (١)
* * *
(١) الحديث: ١٩٣٩- ضعفه أيضًا الطبري ووافقه ابن كثير، كما قلنا في الذي قبله. الحسن بن عطية بن نجيح الكوفي: ثقة، روى عنه البخاري في الكبير ٢/١/٢٩٩، ولم يذكر فيه جرحا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: "صدوق". وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٧. وهو غير"الحسن بن عطية بن سعد العوفي، السابق ترجمته في: ٣٠٥.
إسرائيل: هو ابن يونس بن إسحاق السبيعي، وهو ثقة، مضى في: ١٢٩١.
جعفر بن الزبير الحنفي، أو الباهلي، الدمشقي ثم البصري: ضعيف جدا. مترجم في التهذيب، وفي الكبير للبخاري ١/٢/١٩١، وفي الضعفاء له، ص: ٧، وقال: "متروك الحديث، تركوه"، وفي ابن أبي حاتم ١/١/٤٧٩. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص: ١٤٢) :"روى عن القاسم مولى معاوية وغيره، أشياء كأنها موضوعة". وقال أبو حاتم: "روى جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، نسخة موضوعة، أكثر من مئة حديث".
وأما القاسم: فهو ابن عبد الرحمن الشامي، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقد اختلف فيه، والراجح أنه ثقة، وأن ما أنكر عليه إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند: ٥٩٨، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري: ٢٣٧٦.
والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور ٦: ١٢٩، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم، وقال: "بسند ضعيف".
16
قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى:"فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون"- أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته، كان معلوما أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى"الكلمات" التي أخبر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم، ما بينا آنفا.
ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبا. لأن قوله:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فأتمهن"، فأتم إبراهيم الكلمات. و"إتمامه إياهن"، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي
(١) وقد نقل ابن كثير في تفسيره ١: ٣٠٤ هذه الفقرة من أول قوله"ولو قال قائل" ثم عقب عليه بقوله: "قلت: والذي قاله أولا: من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله. لأن السياق يعطى غير ما قالوه، والله أعلم". لم يأت ابن كثير بشيء، فإن قول الطبري بين، وهو قاض بأن الصواب هو القول الأول، وأن هذا الثاني لو قيل كان مذهبا. وهذه كلمة تضعيف لا كلمة تقوية.
17
قال الله جل ثناؤه: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم: ٣٧]، يعني وفى بما عهد إليه،"بالكلمات"، بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، (١) كما:-
١٩٤٠- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس:"فأتمهن"، أي فأداهن.
١٩٤١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن.
١٩٤٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إني جاعلك للناس إماما"، فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به، كما:-
١٩٤٣- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إني جاعلك للناس إماما"، ليؤتم به ويقتدى به.
* * *
يقال منه:"أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة"، إذا كنت إمامهم.
* * *
وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم:"إني جاعلك للناس إماما"، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي، تتقدمهم أنت، (٢) ويتبعون هديك، ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك ووحيي إليك.
* * *
(١) في المطبوعة: "يعني: وفى بما عهد إليه بالكتاب فأمره به من فرائضه ومحنه فيها"، وهي عبارة مضطربة لا تستقيم، وكأن الصواب ما أثبته.
(٢) في المطبوعة: "فتقدمهم أنت"، ليست بشيء.
18
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم- لمّا رفع الله منزلته وكرمه، فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه -: يا رب، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:-
١٩٤٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال إبراهيم:"ومن ذريتي"، يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به.
* * *
وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم:"ومن ذريتي"، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه، كما قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [سورة إبراهيم: ٣٥]، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه، بقوله:"لا ينال عهدي الظالمين".
* * *
والظاهر من التنزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه:"ومن ذريتي"، في إثر قول الله جل ثناؤه:"إني جاعلك للناس إماما". فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه، لكان مبينا. (١) ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره، اكتفى بالذكر الذي قد مضى، من تكريره وإعادته، فقال:"ومن ذريتي"، بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس.
* * *
(١) قوله: "لكان مبينا"، أي لجاء ما سأل إبراهيم ربه مبينا في الآية.
19
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه (١) أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مُصَيِّره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.
* * *
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه.
فقال بعضهم: ذلك"العهد"، هو النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٤٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، يقول: عهدي، نبوتي.
فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك.
* * *
وقال آخرون: معنى"العهد": عهد الإمامة.
فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما، إماما لعبادي يقتدى به.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٤٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالما.
(١) في المطبوعة: "لما توهم"، وهي خطأ، والصواب ما أثبته، بالبناء للمجهول.
20
١٩٤٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال الله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالما.
١٩٤٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة بمثله.
١٩٤٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
١٩٥٠- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٩٥١- حدثنا مشرَّف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. (١).
١٩٥٢- حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.
١٩٥٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
(١) الخبر: ١٩٥١- مشرف بن أبان أبو ثابت الحطاب، شيخ الطبري: ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد ١٣: ٢٢٤، وذكر أنه يروي عن ابن عيينة، وغيره. مات ببغداد سنة ٢٤٣. ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا غير ذلك، و"مشرف": بوزن"محمد"، كما نص على أنه الجادة في المشتبه للذهبي، ص: ٤٨٤، والتبصير للحافظ ابن حجر (مخطوط مصور).
ووقع في المطبوعة"مسروق"، وهو خطأ بين، وقد مضى في: ١٣٨٣ باسم"بشر بن أبان الحطاب". وهو خطأ أيضًا. ثم هو سيأتي على الصواب: "مشرف" - في: ٢٣٨٢.
وأما"الحطاب"، فهكذا هو الثابت هنا بالحاء المهملة، وفي تاريخ بغداد"الخطاب" بالمعجمة. ولم أستطع الترجيح بينهما.
21
ابن جريج، عن مجاهد:"لا ينال عهدي الظالمين": قال: لا يكون إماما ظالم.
قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال:"إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي"، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٥٤- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا ينال عهدي الظالمين"، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
١٩٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه.
١٩٥٦- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال، ليس لظالم عهد.
* * *
وقال آخرون: معنى"العهد" في هذا الموضع: الأمان.
فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٥٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم، فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله، فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. (١) فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.
(١) في المطبوعة: "وعادوهم"، والصواب من الدر المنثور ١: ١١٨، وقوله: "غازوهم" أي كانوا معهم في الغزو وشاركوهم في الغنائم.
22
١٩٥٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش.
١٩٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم:"قال لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش.
* * *
وقال آخرون: بل"العهد" الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٦٠- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله لإبراهيم:"لا ينال عهدي الظالمين" فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين. ألا ترى أنه قال: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [سورة الصافات: ١١٣]، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
١٩٦١- حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال، لا ينال عهدي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر = عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله - الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير،
(١) الأثر: ١٩٦١- يحيى بن جعفر، هو يحيى بن أبي طالب، وانظر الأثر رقم: ٢٨٤.
23
بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة، من وفى لله به في الدنيا (١) - من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق (٢). فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به، ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده، كالذي:-
١٩٦٢- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين" قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون (٣)
* * *
وأما نصب"الظالمين"، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين.
وذكر أنه في قراءة ابن مسعود:"لا ينال عهدي الظالمون"، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله.
* * *
وإنما جاز الرفع في"الظالمين" والنصب، وكذلك في"العهد"، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال:"نالني خير فلان، ونلت خيره"، فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (٤)
* * *
(١) سياق هذه الجملة المعترضة: ".. لا ينال من ولد إبراهيم عهد الله... من كان منهم ظالما... ".
(٢) وسياق هذه الجملة التي اعترضتها الجملة الطويلة السالفة: "وإن كان ظاهره ظاهر خبر.. فهو إعلام من الله... "، وهكذا دأب أبي جعفر رضي الله عنه.
(٣) الأثر: ١٩٦٢- في المطبوعة"عتاب بن بشر"، وهو خطأ. هو عتاب بن بشير الجزري أبو الحسن ويقال أبو سهل الحراني (تهذيب التهذيب) والتاريخ الكبير للبخاري ٤/١/٥٦.
(٤) انظر ما سلف ١: ٥٢٣-٥٢٤.
24
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة"، فإنه عطف ب"إذ" على قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات". وقوله:"وإذ ابتلى إبراهيم" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي"، واذكروا"إذ ابتلى إبراهيم ربه"،"وإذ جعلنا البيت مثابة".
* * *
و"البيت" الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام.
* * *
وأما"المثابة"، فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت.
فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في"المثابة"، لما كثر من يثوب إليه، كما يقال:"سيارة" لمن يكثر ذلك،"ونسابة".
وقال بعض نحويي الكوفة: بل"المثاب" و"المثابة" بمعنى واحد، نظيرة"المقام" و"المقامة" (١). و"المقام"، ذكر -على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت"المقامة"، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون"المثابة" ك"السيارة، والنسابة". ، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في"السيارة والنسابة" تشبيها لها ب"الداعية".
* * *
و"المثابة""مفعلة" من"ثاب القوم إلى الموضع"، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. (٢)
(١) في المطبوعة: "نظيره" والأرجح ما أثبت.
(٢) لم تذكر هذه المصادر في كتب اللغة، "المثاب، والمثابة" مصدران ميميان قياسيان، فإغفالهما في كتب اللغة غير غريب، وأما قوله"وثوابا"، فهذا إن صح عن الطبري، فهو جائز في العربية أيضًا، ولكنهم نصوا على أن مصدر"ثاب" هو"ثوبانا، وثوبا، وثؤوبا" فأخشى أن تكون محرفة عن إحداها. وأما"الثواب" في المعروف من كتب العربية الاسم من"أثابه يثيبه إثابة، وهو الثواب"، وهو المجازاة على الصنيع.
25
فمعنى قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس": وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا. ومن"المثاب"، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم:
مثاب لأفناء القبائل كلها تخب إليه اليعملات الطلائح (١)
ومنه قيل:"ثاب إليه عقله"، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٦٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو عاصم قال، حدثنا] عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإذ جعلنا البيت مثابة
(١) من أبيات طويلة لورقة بن نوفل في البداية والنهاية لابن كثير ٢: ٢٩٧، والبيت في تفسير أبي حيان ١: ٣٨٠، بهذه الرواية، وقبل البيت في ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام:
فمتبع دين الذي أسس البنا وكان له فضل على الناس راجح
وأسس بنيانا بمكة ثابتا تلألأ فيه بالظلام المصابح
مثابا لأفناء......... ...................
بنصب"مثابا" بيد أن الشافعي روى هذا البيت في الأم ٢: ١٢٠ لورقة بن نوفل، وعجزه. تخب إليه اليعملات الذوامل
وكذلك جاء في القرطبي ٢: ١٠٠، وعدها أبو حيان رواية في البيت، وبهذه الرواية ذكره صاحب اللسان في (ثوب) منسوبا لأبي طالب، وفي (ذمل) غير منسوب. والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في رواية البيت. وأخطأ صاحب اللسان في نسبته، اشتبه عليه بشعر أبي طالب في قصيدته المشهورة.
وأفناء القبائل: أخلاطهم ونزاعهم من هاهنا وهاهنا. وخبت الدابة تخب خببا: وهو ضرب سريع من العدو. واليعملات جمع يعملة وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل، اشتق اسمها من العمل، والعمل الإسراع والعجلة. والطلائع جمع طليح. ناقة طليح أسفار: جهدها السير وهزلها، فهي ضامرة هزلا. يعني الإبل أنضاها أصحابها في إسراعهم إلى حج البيت. وأما"الذوامل" في الرواية الأخرى، فهو جمع ذاملة. ناقة ذمول وذاملة: وهي التي تسير سيرا لينا سريعا.
26
للناس" قال: لا يقضون منه وطرا. (١)
١٩٦٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٩٦٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه، لا يقضون منه وطرا.
١٩٦٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه.
١٩٦٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.
١٩٦٨- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.
١٩٦٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا.
١٩٧٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء مثله.
١٩٧١- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال،
(١) الأثر: ١٩٦٣- ما بين القوسين ساقط من الأصول. وهذا إسناد دائر، أقربه إلينا رقم: ١٩٤٦، فأتممته على الصواب.
27
حدثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا (١).
١٩٧٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يحجون ويثوبون.
١٩٧٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا الثوري، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير في قوله:"مثابة للناس" قال، يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا. (٢)
١٩٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر، عن غالب، عن سعيد بن جبير:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. (٣)
١٩٧٥-- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" قال، مجمعا.
١٩٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه.
(١) الخبر: ١٩٧١- شيخ الطبري"محمد بن عمارة الأسدي"، كما مضى في: ٦٤٥، ١٥١١، وكما ذكرنا أنه يروى عنه في التاريخ كثيرا. وفي المطبوعة"محمد بن عمار".
سهل بن عامر: هو البجلي، وهو ضعيف جدا، ترجمه للبخاري في الصغير، ص: ٢٣٤، وقال: "منكر الحديث، لا يكتب حديثه". وترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/٢٠٢ وروى عن أبيه قال: "هو ضعيف الحديث، روى أحاديث بواطيل! أدركته بالكوفة، وكان يفتعل الحديث". وترجم في لسان الميزان ٣: ١١٩-١٢٠، ووقع اسم أبيه في التاريخ الصغير"عمار"، وهو خطأ ناسخ أو طابع.
(٢) الخبران: ١٩٧٢-١٩٧٣- أبو الهذيل: هو غالب بن الهذيل الأودي، يروي عن أنس، وسعيد بن جبير، وغيرهما، وهو ثقة، وثقه ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤/١/٩٩، وابن أبي حاتم ٣/٢/٤٧. وسيأتي باسمه في الخبر بعدهما.
(٣) الخبر: ١٩٧٤- غالب: هو أبو الهذيل في الخبرين قبله. مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين: هو ابن كدام -بكسر الكاف وتخفيف الدال- وهو أحد الأعلام. الثقات.
28
١٩٧٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه.
١٩٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَمْنًا﴾
قال أبو جعفر: و"الأمن" مصدر من قول القائل:"أمن يأمن أمنا".
* * *
وإنما سماه الله"أمنا"، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). [سورة العنكبوت: ٦٧]
١٩٧٩- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وأمنا" قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.
١٩٨٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"أمنا"، فمن دخله كان آمنا.
١٩٨١- حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.
١٩٨٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وأمنا"، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن.
29
١٩٨٣- حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"وأمنا" قال، أمنا للناس.
١٩٨٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بكسر"الخاء"، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. (١) وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:-
١٩٨٥- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى".
١٩٨٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
(١) كان في المطبوعة: "قراء" في هذه المواضع، فرددتها إلى ما جرى عليه الطبري في الأجزاء السالفة.
30
١٩٨٧- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، فذكر مثله. (١)
* * *
قالوا: فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه ﷺ باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها -وهي أمر- على وجه الخبر.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" و"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،..... كما حدثنا [عن] الربيع بن أنس. (٢) بما:-
١٩٨٨- حدثت [به] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام. (٣)
* * *
(١) الأحاديث: ١٩٨٥-١٩٨٧، هي حديث واحد بأربعة أسانيد صحاح. وهو مختصر من حديث مطول، رواه أحمد في المسند: ١٥٧، ١٦٠، ٢٥٠، عن هشيم، وعن ابن أبي عدي، وعن يحيى - ثلاثتهم، عن حميد، عن أنس. ورواه البخاري أيضًا، عن مسدد، عن يحيى. كما ذكره ابن كثير ١: ٣٠٩-٣١٠، من رواية البخاري وأحمد، ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
(٢) كان في المطبوعة: "كما حدثنا الربيع بن أنس"، وهو خطأ، فزدت"عن" بين القوسين، فبين أبي جعفر الطبري والربيع بن أنس دهر طويل. وانظر التعليق التالي.
(٣) الأثر: ١٩٨٨- هو جزء من الأثر السالف رقم: ١٩٢٢ وهو"عن ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس"، فزدت ما بين الأقواس، ليستقيم الكلام. وسيأتي أيضًا برقم: ٢٠٠١ ولكني وضعت هذه النقط في الموضع السالف، لأني أخشى أن يكون في الكلام سقط. وذلك أنه بدأ فقال: إن الأمر بهذه الآية على قول هذا البصري - لليهود من بني إسرائيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عقب عليه بقوله: "فأمرهم أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام". ولست أعلم أن اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون في البيت الحرام خلف المقام، فلذلك وضعت هذه النقط، لأني أرجح أنه قد سقط من كلام الطبري في هذا الموضع ما يستقيم به هذا الكلام. ولم أجد في الكتب التي تنقل عن تفسير الطبري ما يهدي إلى صواب هذه العبارة.
والذي استظهره أن يكون سقط من هذا الموضع، توجيه الأمر في هذه الآية إلى إبراهيم وذريته من ولد إسماعيل، فيكون الضمير في قوله: "فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام" إلى ذرية إبراهيم من ولد إسماعيل، وهم العرب من أهل دين إسماعيل، وبقاياهم من أهل الجاهلية، الذين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقيمهم على الحنيفية ملة إبراهيم، وهي الإسلام.
31
فتأويل قائل هذا القول: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال، إني جاعلك للناس إماما، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
* * *
قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله ﷺ قبل، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: (واتخذوا) بفتح"الخاء" على وجه الخبر.
* * *
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله:"واتخذوا" إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر،
فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. (١)
وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله:"جعلنا"، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى (٢).
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا:"واتخذوا"
(١) الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها، وإلا لم يكن بين هذا القول والذي يليه فرق. ويعني البصري في هذا التأويل أن العطف على جملة"وإذ جعلنا"، فتكون"إذ" مضمرة في قوله تعالى: "واتخذوا".
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٧٧ وهو تأويله.
32
بكسر"الخاء"، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله ﷺ الذي ذكرناه آنفا، وأن:
١٩٨٩- عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وفي"مقام إبراهيم". فقال بعضهم:"مقام إبراهيم"، هو الحج كله.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٩٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"مقام إبراهيم"، قال الحج كله مقام إبراهيم.
١٩٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحج كله.
١٩٩٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الحج كله"مقام إبراهيم".
* * *
وقال آخرون:"مقام إبراهيم" عرفة والمزدلفة والجمار.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٩٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار.
(١) الحديث: ١٩٨٩- عمرو بن علي: هو الفلاس، من كبار الحفاظ الثقات، روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. وشيخه يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام.
والحديث جزء من حديث جابر -الطويل- في الحج كما سنذكر في: ٢٠٠٣، إن شاء الله.
33
١٩٩٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة.
١٩٩٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه، عرفة.
١٩٩٦- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [سورة المائدة: ٣]، الآية.
١٩٩٧- حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن الشعبي مثله
* * *
وقال آخرون:"مقام إبراهيم"، الحرم.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٩٨- حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحرم كله"مقام إبراهيم".
* * *
وقال آخرون:"مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن
34
رفع الحجارة.
* ذكر من قال ذلك:
١٩٩٩- حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو"مقام إبراهيم" (١)
* * *
وقال آخرون: بل"مقام إبراهيم"، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٠٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. (٢) ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. (٣)
٢٠٠١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فهم يصلون خلف المقام. (٤)
٢٠٠٢- حدثني موسى (٥) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وهو الصلاة عند مقامه في الحج.
و"المقام" هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته، فغابت رجله
(١) الحديث: ١٩٩٩- هو قطعة من الحديث الآتي: ٢٠٥٦. وسنخرجه هناك، إن شاء الله. وشيخ الطبري هنا"ابن سنان القزاز": هو"محمد بن سنان"، مضت ترجمته في: ١٥٧. وفي المطبوعة"سنان" بحذف"ابن"، وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "مما تكلفته"، والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٣١١.
(٣) في المطبوعة: "أصابعه فيها"، والصواب من تفسير ابن كثير. خلق الشيء وأخلق واخلولق: بلى.
(٤) الأثر: ٢٠٠١- هو الأثر السالف: ١٩٨٨، وانظر التعليق عليه.
(٥) كان في المطبوعة"حدثني يونس"، وهو خطأ محض بل هو إسناده الدائر في التفسير - إلى السدي، وأقربه رقم: ١٩٨٠.
35
أيضا فيه، فجعلها الله من شعائره، فقال:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن"مقام إبراهيم"، هو المقام المعروف بهذا الاسم، الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، (١) ولما:-
٢٠٠٣- حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله ﷺ الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. (٢)
* * *
فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب"مقام إبراهيم" الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا.
ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه
(١) انظر ما سلف رقم: ١٩٨٥- ١٩٨٧.
(٢) الحديث: ٢٠٠٣- يوسف بن سلمان، شيخ الطبري: هو أبو عمر الباهلي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٢٣-٢٢٤. وفي المطبوعة"سليمان" بدل"سلمان"، وهو خطأ.
حاتم بن إسماعيل المدني: ثقة مأمون كثير الحديث، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٧٢، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٥٨-٢٥٩، وابن سعد ٥: ٣١٤.
جعفر بن محمد: هو جعفر الصادق، بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو ثقة صادق مأمون، من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا. وإنما يكذب عليه الشيعة الروافض. أما رواية الثقات عنه فصحيحة.
وهذا الحديث قطعة من حديث جابر -الطويل- في صفة حجة الوداع. وقد مضت قطعة منه: ١٩٨٩، من رواية يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر الصادق.
وستأتي قطعة منه، بهذا الإسناد: ٢٣٦٥.
والحديث بطوله -رواه الإمام أحمد في المسند: ١٤٤٩٢ (ج ٣ ص ٣٢٠-٣٢١ حلبي) عن يحيى القطان، عن جعفر.
ورواه مسلم في صحيحه ١: ٣٤٦-٣٤٧، عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه -كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر الصادق، به.
36
وسلم، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، (١) حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب"مقام إبراهيم" هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"
* * *
[قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى:"مصلى"]، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. (٢) فقال بعضهم: هو المدعى.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٠٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٠٥- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده.
٢٠٠٦- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو الصلاة عنده.
* * *
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل:"المصلى" ههنا، المُدَّعَى، وَجَّهوا "المصَلَّى" إلى أنه"مُفَعَّل"، من قول القائل:"صليت" بمعنى دعوت. (٣).
(١) انظر تفسير"الظاهر والباطن" فيما سلف ٢: ١٥، واطلبه في الفهارس.
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٤٢-٢٤٣.
37
وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله.
* * *
فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها، فإني قد جعلته لمن بعده -من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به.
* * *
وأما تأويل القائلين القول الآخر، فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادةً منكم، وتكرمةً مني لإبراهيم.
* * *
وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وَعهدنا"؛ وأمرنا، كما:-
٢٠٠٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
٢٠٠٨- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم" قال، أمرناه.
* * *
فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين."والتطهير" الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله.
* * *
38
فإن قال قائل: وما معنى قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين"؟ وهل كان أيام إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟
قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل. (١)
أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب (٢) كما قال تعالى ذكره: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ)، [سورة التوبة: ١٠٩]، فكذلك قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:-
٢٠٠٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، يقول: ابنيا بيتي [للطائفين]. (٣)
فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:-
٢٠١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:
(١) في المطبوعة: "قد كان لكل واحد من الوجهين"، وهو كلام هالك.
(٢) الريب هنا: الشر والخوف من قولهم: رابني أمره، أي أدخل علي شرا وخوفا، وكأن ذلك مردود إلى قوله تعالى: "مثابة للناس وأمنا".
(٣) هذه الزيادة، من تفسير ابن كثير ١: ٣١٥.
39
"أن طهرا" قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها. (١)
٢٠١١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير:"أن طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان والرَّيْب.
٢٠١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، مثله.
٢٠١٣- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: من الشرك.
٢٠١٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل، عن أبي حصين، عن مجاهد:"طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان.
٢٠١٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"طهرا بيتي للطائفين" قال: من الشرك وعبادة الأوثان.
٢٠١٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطائفين" في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
(١) قال ابن كثير في تفسيره ١: ٣١٤-٣١٥، بعد أن ساق هذا الوجه، وهذا الأثر: "قلت: وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم".
(٢) الغربة والغرب (بفتح فسكون) : النوى والبعد. يعني من أتاه من مكان بعيد.
40
٢٠١٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله:"للطائفين" قال، من أتاه من غربة.
* * *
وقال آخرون: بل"الطائفون" هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠١٨- حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء:"للطائفين" قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من"الطائفين".
* * *
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن"الطائف" هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم"طائف بالبيت"، إن لم يطف به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والعاكفين"، والمقيمين به."والعاكف على الشيء"، هو المقيم عليه، كما قال نابغة بني ذبيان:
عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم رمى الله في تلك الأكف الكوانع (١)
(١) ديوانه: ٦٣ من أبيات قالها لزرعة بن عامر العامري. حين بعثت بنو عامر إلى حصن بن حذيفة وابنه عيينة بن حصن: أن اقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد، وألحقوهم ببني كنانة، ونحالفكم ونحن بنو أبيكم. وكان عيينة هم بذلك، فقالت بنو ذبيان: أخرجوا من فيكم من الحلفاء، ونخرج من فينا! فأبوا، فقال النابغة:
ليهن بني ذبيان أن بلادهم خلت لهم من كل مولى وتابع
سوى أسد، يحمونها كل شارق بألفي كمي، ذي سلاح، ودارع
ثم مدح بني أسد، وذم بني عبس، وتنقص بني سهم ومالك من غطفان وعبد بن سعد بن ذبيان، وهجاهم بهذا البيت الذي استشهد به الطبري، ورواية الديوان"قعودا"، و"يثمدونها"، والضمير للأبيات.
وقوله: "يثمدونهم" أصله من قولهم: "ثمد الماء يثمده ثمدا"، نبث عنه التراب ليخرج. وماء مثمود: كثر عليه الناس حتى فني ونفد إلا أقله. وأخذوا منه: "رجل مثمود"، إذا ألح الناس عليه في السؤال، فأعطى حتى نفد ما عنده. يقول: يظل بنو سعد ومالك لدى أبيات عبد بن سعد يستنزفون أموالهم. يصفهم بالخسة وسقوط الهمة. ومن روى: "يثمدونها" وأعاد الضمير إلى"أبياتهم"، فهو مثله، في أنهم يلازمون بيوتهم ويسترزقونها، يهزأ بهم.
والكوانع جمع كانع: وهو الخاضع الذي تدانى وتصاغر وتقارب بعضه من بعض، كأنه يتقبض من ذلته. يصفهم بالخسة والطمع والسؤال الذليل. وقوله: "رمى الله" يعني أصابها بما يستأصلها، ورواية الديوان: "في تلك الأنوف"، فمعناه: رمى فيها بالجدع، وهو دعاء عليهم، واشمئزاز من حقارتهم.
41
وإنما قيل للمعتكف"معتكف"، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"والعاكفين".
فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠١٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين.
* * *
وقال بعضهم:"العاكفون"، هم المعتكفون المجاورون.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢٠- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة:"طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال، المجاورون.
* * *
وقال بعضهم:"العاكفون"، هم أهل البلد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا
42
أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله:"والعاكفين" قال: أهل البلد.
٢٠٢٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والعاكفين" قال: العاكفون: أهله.
* * *
وقال آخرون:"العاكفون"، هم المصلون.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله:"طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال، العاكفون، المصلون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء، وهو أن"العاكف" في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة"العكوف" ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله:"أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" - المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من"العاكف"، غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والركع"، جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم"راكع". وكذلك"السجود" هم جماعة القوم الساجدين فيه له،
43
واحدهم"ساجد" - كما يقال:"رجل قاعد ورجال قعود" و"رجل جالس ورجال جلوس"، فكذلك"رجل ساجد ورجال سجود". (١)
* * *
وقيل: بل عنى"بالركع السجود"، المصلين.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء:"والركع السجود" قال، إذا كان يصلي فهو من"الركع السجود".
٢٠٢٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والركع السجود"، أهل الصلاة.
* * *
وقد بينا فيما مضى بيان معنى"الركوع" و"السجود"، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا"، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"آمنا": آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا
(١) مما استظهرته من أمر هذا الجمع، جمع فاعل على فعول: أن كل فعل ثلاثي جاء مصدره على"فعول" بضم الفاء، فجمع"فاعل" منه على"فعول"، كهذه الأمثلة التي ذكرت هنا، وكل ما سواها مما قيدته كتب اللغة، ومما هو منثور في الشعر.
(٢) انظر ما سلف ١: ٥٧٤-٥٧٥، ثم ٢: ١٠٣-١٠٥، ٥١٩.
44
عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان، من خسف، وائتفاك، وغرق، (١) وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما:
٢٠٢٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش. وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان -حين أغرق الله قوم نوح- رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله.
* * *
فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟
قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما:-
٢٠٢٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله ﷺ خطيبا فقال:"يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي،
(١) في المطبوعة: "وانتقال" مكان"وائتفاك"، وذاك لفظ بلا معنى هنا وبلا دلالة. والائتفاك الانقلاب، وهو عذاب الله الشديد الذي أنزله بقوم لوط، فقال سبحانه في سورة هود: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها"، وهذا هو الائتفاك، ائتفكت بهم الأرض: أي انقلبت فصار عاليها سافلها، فسمى الله هذه القرى، قرى لوط"المؤتفكات" في سورة التوبة: ٧٠، وفي سورة الحاقة: ٩، وقال في سورة النجم: ٥٢-٥٣"والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى"
45
ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فمن قال: إن رسول الله ﷺ قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك". (١)
٢٠٢٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها:"هذه حرم حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، أُحِلَّت لي ساعة من نهار. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٢٠٢٧- هذا مختصر من حديث صحيح مطول:
فرواه أحمد في المسند: ١٦٤٤٨ (ج ٤ ص ٣٢ حلبي)، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، بهذا الإسناد.
ورواية ابن إسحاق ثابتة أيضًا -مطولة- في سيرة ابن هشام ٤: ٥٧-٥٨ (حلبي)، و ٨٢٣- ٨٢٤ أوربة، ٢: ٢٧٧-٢٧٨ (من الروض الأنف).
ورواه أيضًا، بنحوه، أحمد: ١٦٤٤٤ (ج ٤ ص ٣١)، والبخاري ١: ١٧٦-١٧٧، و ٤: ٣٥-٣٩ (فتح)، ومسلم ١: ٣٨٣-٣٨٤ كلهم من طريق الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح.
وقوله في الحديث: "أو يعضد بها شجرا"، أي يقطعه، يقال"عضد الشجر"، من باب"ضرب" قطعه.
وقوله: "غضبا على أهلها": هذا هو الصحيح الثابت في رواية ابن إسحاق، في المسند، وسيرة ابن هشام، وفي المطبوعة: "عصى على أهلها". وهو تصحيف.
(٢) الحديث: ٢٠٢٨- هذا الحديث رواه الطبري بإسنادين، عن ثلاثة شيوخ: فرواه عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن عبد الرحيم بن سليمان الرازي. ثم رواه عن ابن حميد - وهو محمد بن حميد الرازي، وعن ابن وكيع - وهو سفيان بن وكيع، كلاهما: أعني ابن حميد وابن وكيع، عن جرير بن عبد الحميد الضبي. ثم يجتمع الإسنادان: فيرويه عبد الرحيم بن سليمان وجرير بن عبد الحميد"جميعا عن يزيد بن أبي زياد".
وهذه الأسانيد ظاهرها الصحة، وإن كان سفيان بن وكيع ضعيفا، كما بينا في: ١٦٩٢- فإن الطبري لم يفرده بالرواية عنه، بل قرن به محمد الرازي، وهو ثقة - إلا أن في الحديث انقطاعا، بين مجاهد وابن عباس. وقد سمع مجاهد من ابن عباس حديثا كثيرا، ولكن هذا الحديث بعينه رواه"عن طاوس عن ابن عباس".
و"يزيد بن أبي زياد الكوفي مولى بني هاشم": صدوق، في حفظه شيء بعد ما كبر، قال ابن سعد ٦: ٢٣٧"كان ثقة في نفسه، إلا أنه اختلط في آخر عمره، فجاء بالعجائب". وقال يعقوب بن سفيان: "ويزيد -وإن كانوا يتكلمون فيه لتغييره- فهو على العدالة والثقة، وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور". وهو مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٣٤، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٦٥. فلعله وهم في حذف"طاوس" بين مجاهد وابن عباس.
والحديث في ذاته صحيح.
فرواه أحمد بنحوه مطولا: ٢٣٥٣، ٢٨٩٨، من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس.
وكذلك رواه البخاري ٤: ٤٠-٤٢، ومسلم ١: ٣٨٣، من طريق منصور.
ومنصور بن المعتمر: سبق توثيقه ١٧٧. وهو أثبت حفظا من مئة مثل يزيد بن أبي زياد. بل قال يحيى القطان: "ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم - من منصور". وقدمه الأئمة -في الحفظ- على الأعمش والحكم.
بل إن هذا الحديث نفسه: ذكر الحافظ في الفتح أنه رواه الأعمش عن مجاهد عن النبي ﷺ - مرسلا، يعني بحذف طاوس وابن عباس، ثم قال: "ومنصور ثقة حافظ، فالحكم لوصله". أي أن هذه الزيادة زيادة ثقة، يجب قبولها والحكم لها بالترجيح.
وقوله في هذه الرواية: "ووضع هذين الأخشبين". هذه الزيادة لم أجدها في شيء من الروايات الأخر. و"الأخشبان"، بلفظ التثنية: هما جبلا مكة المطيفان بها. انظر النهاية لابن الأثير، ومعجم البلدان لياقوت.
46
قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله ﷺ التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط، وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله:"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر". قالوا: وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته، وهو غير ذي زرع ولا ضرع، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه.
قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه، وهو القائل - حين حله، ونزله بأهله وولده: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم: ٣٧] ؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه
47
تحريمه لما قال:"عند بيتك المحرم" عند نزوله به، ولكنه حُرِّم قبله، وحُرِّم بعده.
* * *
وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه، كما كانت مدينة رسول الله ﷺ حلالا قبل تحريم رسول الله ﷺ إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك، ما:-
٢٠٢٩- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع عضاهها. (١)
٢٠٣٠- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال]، حدثنا عبد الرحيم الرازي، [قالا جميعا] : سمعنا أشعث، عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير. (٢)
(١) الحديث: ٢٠٢٩- إسناده صحيح. عبد الرحمن بن مهدي: هو الإمام الحافظ العلم. سفيان: هو الثوري.
أبو الزبير: هو المكي، محمد بن مسلم بن تدرس، تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. جابر: هو ابن عبد الله، الصحابي المشهور.
والحديث رواه مسلم ١: ٣٨٥، بنحوه، من طريق محمد بن عبد الله الأسدي، عن سفيان، بهذا الإسناد. بلفظ"إن إبراهيم حرم مكة" إلخ.
ونقله ابن كثير ١: ٣١٦، وقال: "وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن بشار بندار، به". و"بندار": لقب محمد بن بشار.
اللابتان: هما الحرتان بجانبي المدينة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها.
العضاه، بكسر العين وتخفيف الضاد المعجمة وآخره هاء: كل شجر عظيم له شوك.
(٢) الحديث: ٢٠٣٠- أبو السائب: هو مسلم بن جنادة، مضت ترجمته: ٤٨. ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي. سبقت ترجمته في: ٤٣٨.
عبد الرحيم الرازي: هو عبد الرحيم بن سليمان الرازي الأشل الكناني - الذي مضت له رواية في الحديث ٢٠٢٨- وهو ثقة كثير الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٣٩.
أشعث: هو ابن سوار الكندي، ضعفه بعضهم، ووثقه آخرون. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: ٦٦١. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٤٣٠، وابن أبي حاتم ١/١/٢٧١-٢٧٢.
نافع: هو مولى ابن عمر، الثقة الثبت الحجة.
وقد كان هذا الإسناد: مغلوطا في المطبوعة هكذا: "حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا عبد الرحيم الرازي: سمعت أشعث... " نقص منه"ابن إدريس". فكان ظاهره أن أبا كريب وأبا السائب روياه عن عبد الرحيم الرازي عن أشعث. والصواب ما أثبتناه، نقلا عن ابن كثير ١: ٣١٦، عن هذا الموضع من الطبري.
فصحة الإسناد: أنه يرويه الطبري عن أبي كريب وأبي السائب. كلاهما عن عبد الله بن إدريس، ثم يرويه الطبري عن أبي كريب وحده، عن عبد الرحيم الرازي -وأن عبد الله بن إدريس وعبد الرحيم الرازي سمعاه جميعا من أشعث.
وهذا الحديث من هذا الوجه، قال فيه ابن كثير: "وهذه الطريق غريبة، ليست في شيء من الكتب الستة". وأزيد عليه: أني لم أجدها في المسند أيضًا، ولا في غيره مما استطعت الرجوع إليه من المراجع.
ثم أشار ابن كثير إلى أن أصل معناه ثابت عن أبي هريرة، من وجه آخر، في صحيح مسلم. وهو حديث مالك في الموطأ، ص: ٨٨٥، عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة: "كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله ﷺ قال، اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة، ومثله معه". وهو في صحيح مسلم ١: ٣٨٧، عن قتيبة، عن مالك.
48
٢٠٣١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن سعيد قال، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابيتها. (١)
(١) الحديث: ٢٠٣١- بكر من مضر بن محمد بن حكيم المصري: ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٩٥، وابن أبي حاتم ١/١/٣٩٢-٣٩٣، وتذكرة الحفاظ، وقال: "الإمام المحدث الصادق العابد".
ابن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني. وهو ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٤٤، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٧٥. أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: تابعي ثقة حجة، لا يسأل عن مثله.
عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: تابعي ثقة، وكان شريفا جوادا ممدحا. جده لأمه: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
والحديث رواه مسلم في صحيحه ١: ٣٨٥، عن قتيبة بن سعيد، بهذا الإسناد. ونقله ابن كثير ١: ٣١٦، وقال: "انفرد بإخراجه مسلم". يعني دون البخاري.
49
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب.
* * *
قالوا:"وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال:"رب اجعل هذا بلدا آمنا"، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض، فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم،"أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض"، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنون به فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله، للناس إماما يقتدى به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه،
فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - (١) فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم.
(١) سياق هذه الجملة المعترضة: "بعد أن كانت ممنوعة... ، ومحرمة... "، وسياق الجملة التي دخلها الاعتراض: "فصارت مكة... فرض تحريمها... وواجب على عباده... "
50
فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم مكة". لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - (١) كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، [وهو الذي] لزم العباد فرضه دون غيره. (٢)
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال:"وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر" - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم: أن النبي ﷺ قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة"؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر، كما ظنه بعض الجهال.
وغير جائز في أخبار رسول الله ﷺ أن يكون بعضها دافعا بعضا، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه.
وأما قول إبراهيم عليه السلام (٣) (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم: ٣٧] فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، (٤) فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، (٥) من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد، لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك.
* * *
(١) كلأه الله يكلؤه كلاء (بفتح فسكون) وكلأ (بكسر فسكون) وكلاءة (بكسر الكاف) : حرسه وحفظه. وكان في المطبوعة"الكلاء" بهمزة مفردة مع المد، وليس صوابا. هذا، وسياق العبارة: "لأن فرض تحريمها... كان عن مسألة إبراهيم ربه".
(٢) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(٣) في الأصول: "وقول إبراهيم"، والصواب زيادة"أما" كما يدل عليه السياق.
(٤) وفيها: "إن يكن قال قبل إيجاب الله". والصواب ما أثبت.
(٥) وفيها: "وكلائه"، والصواب ما أثبت، وانظر التعليق السالف رقم: ١.
51
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾
قال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص، بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين، لما أعلمه الله -عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم- أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر، خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلا.
* * *
وأما "من" من قوله: "من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فإنه نصبٌ على الترجمة والبيان عن"الأهل"، (١) كما قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) [سورة البقرة: ٢١٧]، بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وكما قال تعالى ذكره: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) [سورة آل عمران: ٩٧] : بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا.
* * *
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرا، وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله الطائف من فلسطين.
٢٠٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم:"وارزق أهله من الثمرات"، نقل الله الطائف من فلسطين.
* * *
(١) الترجمة: هي عطف البيان أو البدل عند الكوفيين، كما سلف ٢: ٣٤٠، ٤٢٠.
52
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره، وتأويله على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك:"فأمتعه قليلا"، بتشديد"التاء" ورفع"العين".
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع، قال، حدثني أبو العالية، عن أبي بن كعب في قوله:"ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار"، قال هو قول الرب تعالى ذكره.
٢٠٣٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما قال إبراهيم:"رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية، = انقطاعا إلى الله، (١) ومحبة وفراقا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره (٢) = فقال الله: ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة منه ربه أن
(١) يعني أن إبراهيم قال ذلك، وصرف الدعوة: "انقطاعا إلى الله... "
(٢) في المطبوعة: "أنه كان منهم ظالم... " والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير. قوله: "بخبره عن ذلك.. " سياقه، أنه: عدل الدعوة عمن أبي.. بخبر الله عن ذلك حين أخبره. وفي المطبوعة: "فقال الله.. "، والفاء مفسدة للسياق، فإنه: "لما قال إبراهيم.. وعدل الدعوة.. قال الله.. ".
(٣) الأثر: ٢٠٣٤- في تفسير ابن كثير ١: ٣١٩، وفيه اختلاف في بعض اللفظ، ولم أجده في سيرة ابن هشام.
53
يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا"ثم اضطره إلى عذاب النار" - بتخفيف"التاء" وجزم"العين"، وفتح"الراء" من اضطره، وفصل"ثم اضطره" بغير قطع ألفها (١) - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٣٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.
* * *
٢٠٣٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ليث، عن مجاهد:"ومن كفر فأمتعه قليلا"، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا، ثم أضطره إلى عذاب النار. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل، ما قاله أبي بن كعب وقراءته، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار.
* * *
وأما قوله:"فأمتعه قليلا" يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته
(١) هذا رسم القراءة ﴿فأمتعه قليلا ثم اضطره﴾، على أنهما فعلا أمر، يراد بهما الدعاء والسؤال.
(٢) الأثر: ٢٠٣٦- كان ينبغي أن يقدم هذا الأثر على ذكر هذه القراءة التي سوف يردها الطبري. وبين من نقل ابن كثير عن الطبري أن موقعه قبل الأثر رقم: ٢٠٣٤، وسيأتي في كلام الطبري بعد قليل ما يقطع بأن هذا الخبر عن مجاهد، بمعزل عن هذه القراءة. فأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط الخبر عند النسخ، ثم عاد فوضعه هنا حين انتبه إلى أنه قد أسقطه. وكدت أرده إلى مكانه، ولكني آثرت تركه على حاله مع التنبيه على الخطأ، وفصلته عن الذي قبله بالنجوم الفاصلة.
54
متاعا يتمتع به إلى وقت مماته. (١)
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة. فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه. (٢)
وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.
وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدا ﷺ فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه، لما وصفنا. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"ثم أضطره إلى عذاب النار"، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها، كما قال تعالى ذكره: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ
(١) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف ١: ٥٣٩-٥٤١.
(٢) انظر الأثر: رقم: ٢٠٣٦، والتعليق عليه.
(٣) ما أحسن ما قال أبو جعفر فإن أكثر الكلام، يحتمل وجوها، ولكن سياق المعاني وترابطها يوجب معنى واحدا مما يحتمله الكلام. وهذا ما يعنيه بقوله: "دليل ظاهر الكلام". وانظر تفسير"الظاهر" فيما سلف ٢: ١٥ والمراجع قبله وبعده.
55
جَهَنَّمَ دَعًّا) [سورة الطور: ١٣]. (١)
* * *
ومعنى"الاضطرار"، الإكراه. يقال:"اضطررت فلانا إلى هذا الأمر"، إذا ألجأته إليه وحملته عليه.
فذلك معنى قوله:"ثم أضطره إلى عذاب النار"، أدفعه إليها وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا على أن"بئس" أصله "بِئس" من "البؤس" سُكِّن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله، كما قيل للكَبد كِبْد، وما أشبه ذلك. (٢)
* * *
ومعنى الكلام: وساء المصيرُ عذابُ النار، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها.
* * *
وأما"المصير"، فإنه "مَفعِل" من قول القائل:"صرت مصيرا صالحا"، ، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار. (٣)
* * *
(١) قال أبو جعفر في تفسير هذه الآية (٢٧: ١٣-١٤، بولاق) :"يدفعون بإرهاق وإزعاج. يقال منه. دععت في قفاه: إذا دفعت فيه".
(٢) انظر ما سلف ٢: ٣٣٨-٣٤٠.
(٣) يريد الطبري أنه المنزل الذي ينتهى إليه، من قولهم: "أين مصيركم؟ "، أي منزلكم. والمصير: العاقبة وما يصير إليه الشيء.
56
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.
* * *
و"القواعد" جمع"قاعدة"، يقال للواحدة من"قواعد البيت""قاعدة"، وللواحدة من"قواعد النساء" وعجائزهن"قاعد"، فتلغى هاء التأنيث، لأنها"فاعل" من قول القائل:"قعدت عن الحيض"، ولا حظَّ فيه للذكورة، كما يقال:"امرأة طاهر وطامث"، لأنه لا حظ في ذلك للذكور. ولو عنى به"القعود" الذي هو خلاف"القيام"، لقيل:"قاعدة"، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. و"قواعد البيت": إساسه. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت. أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟
فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه والسلام، فبناه.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قال آدم: يا رب، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، وابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت
(١) الإساس (بكسر الهمزة) جمع أس (بضم الهمزة)، وجمع الأساس، أسس (بضمتين) وجمع الأسس (بفتحتين) آساس (بالمد)، وكلها بمعنى واحد.
57
الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"طورزيتا"، و"طورسينا"، و"جبل لبنان"، و"الجودي"، وكان ربضه من حراء. فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد. (١)
٢٠٣٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٣٩- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل - معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من"حراء" و"ثبير" و"لبنان" و"جبل الطور" و"جبل الخمر". (٢)
(١) الأثر: ٢٠٣٧- في تفسير ابن كثير ١: ٣٢٥، وقال: "وهذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة والله أعلم". وربض البناء (بفتحتين) وربضه (بضم فسكون) : هو وسطه الذي يربض عليه، أي يستقر ويثبت.
(٢) الخبر: ٢٠٣٩- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، وهو ثقة، من شيوخ الشافعي وأحمد وأضرابهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٧١، وابن سعد ٧/٢/٤٤.
أيوب: هو ابن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة حجة. قال شعبة: "كان سيد الفقهاء". مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٤٠٩-٤١٠، وابن سعد ٧/٢/١٤-١٧، وابن أبي حاتم.
أبو قلابة، بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد الجرمي. وهو تابعي ثقة مشهور. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/١/١٣٣-١٣٥، وابن أبي حاتم ٢/٢/٥٧-٥٨.
وهذا الخبر ذكره السيوطي ١: ١٢٧، ونسبه الطبري وابن أبي حاتم، والطبراني، عن"عبد الله بن عمرو بن العاص".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٢٨٨، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، موقوفا، ورجاله رجال الصحيح". وهو كما قال. ولكن ليس فيه حجة، ولعله مما كان يسمع عبد الله بن عمرو من أخبار أهل الكتاب. جبل الخمر: هو جبل بيت المقدس، سمي بذلك لكثرة كرومه (ياقوت).
58
٢٠٤٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا إسماعيل بن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما أهبط آدم، ثم ذكر نحوه.
٢٠٤١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار [ختن عطاء]، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الأرض. فلما فقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة. وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم فبناه. فذلك قول الله:"وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت". (١)
٢٠٤٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم، حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا: فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي.
(١) الأثر: ٢٠٤١- في تاريخ الطبري ١: ٦١، والزيادة بين القوسين منه. وفي تفسير ابن كثير ١: ٣٢٥، وقال"هذا صحيح إلى عطاء، ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم"، ومعه أيضًا الأثر الذي سلف رقم: ٢٠٣٧.
59
فانطلق إليه آدم فخرج، ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك. فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء.
٢٠٤٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة -أو درة واحدة- حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه، فبوأه الله لإبراهيم، فبناه بعد ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوه حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، (١) وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٤٤- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال جرير بن حازم، حدثني حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، مثل الزبْدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض.
٢٠٤٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفقت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها. فلذلك هي"أم القرى". قال ابن جريج، قال عطاء: ثم وَتَدها بالجبال كي لا تكفأ بميد، فكان أول جبل"أبو قيس". (٢)
(١) الزبد (بفتحتين) : هو ما يطفو على الماء من رغوته البيضاء. والطائفة من الزبد، زبدة (بفتح فسكون).
(٢) صفقت الريح الماء (بفتح الفاء، وبتشديدها مع الفتح) : ضربته وقلبته يمينا وشمالا.
والحشفة: صخرة رخوة في سهل الأرض. ويقال للجزيرة في البحر لا يعلوها الماء: "حشفة"، وجمعها حشاف (بكسر الحاء)، إذا كانت صغيرة مستديرة. وكفأ الشيء يكفؤه: قلبه. وماد الشيء يميد ميدا. تحرك ومال.
60
٢٠٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت (١).
٢٠٤٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنتره، عن عطاء بن أبي رباح قال: وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه:"إني أنا الله ذو بكة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك حنفاء" (٢).
٢٠٤٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع. وحملوا -فيما حدثني- على البراق ومعه جبريل يدله على
(١) قال مصحح النسخة المطبوعة: "قوله: وضع البيت على أركان الماء... هكذا في الأصل وعبارة الدر المنثور: كان البيت على أربعة أركان في الماء" وهذا تعليق غريب جدا، فإن نص الدر المنثور ١: ١٢٧، هو نفس نص الطبري، وهو نفس ما نقله ابن كثير في تفسيره عن الطبري ١: ٣٢٦. وعبارة الطبري صحيحة.
(٢) الأثر: ٢٠٤٧- لم أجده من طريق عطاء بن أبي رباح، ولكنه مروي عن ابن عباس، ومجاهد في أخبار مكة للأزرقي ١: ٣٧-٣٨، بألفاظ مختلفة، في خبر طويل تام اختصره أبو جعفر. ونص خبر مجاهد: "وجد في بعض الزبور: أنا الله ذو بكة، جعلتها بين هذين الجبلين، وصغتها يوم صغت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء... ". وأما ابن إسحاق فقال (سيرة ابن هشام ١: ٢٠٨) ؛"حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن". قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها".
أما قوله: "حنفاء" فجمع حنيف، وهو المسلم الذي قال لا إله إلا الله ثم استقام على الطريق. ووصف الملائكة بأنهم حنفاء، لطاعتهم واستقامتهم في عبادة ربهم، وصبرهم أنفسهم على ما أمروا به من حفظ هذا البيت المطهر.. وانظر تفسير"حنفاء" في الآثار رقم: ٢٠٩٦، ٢٠٩٨، ٢٠٩٩. هذا وقد كان في المطبوعة: "حففته بسبعة أملاك حفا"، وهو خطأ صوابه ما أثبت من المراجع، أخبار مكة للأزرقي ١: ٣٧-٣٨، وسيرة ابن هشام ١: ٢٠٨، والسهيلي في الروض الأنف ١: ١٣١.
61
موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه جبريل، فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه! حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر، وبها أناس يقال لهم"العماليق" خارج مكة وما حولها، (١) والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). [سورة إبراهيم: ٣٧]
قال ابن حميد: قال، سلمة قال، ابن إسحاق: ويزعمون -والله أعلم- أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنزلهما إبراهيم مكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت - فأشار لها إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: (٢) هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه للناس. (٣)
٢٠٤٩- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان قال، أخبرني حميد، عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا
(١) في المطبوعة: "يربها أناس يقال لهم... "، وهي صحيحة المعنى: أي يملكها العماليق وهم سادتها وأصحابها. من ذلك حديث صفوان بن أمية حين قال لأبي سفيان: "لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن". أي يكون ربا فوقي وسيدا يملكني. ولكني أثبت ما في تاريخ الطبري، وما نقله عنه ابن كثير، وأخبار مكة للأزرقي.
(٢) في المطبوعة: "فأشار لهما.. فقال لهما.. " على التثنية، وهو خطأ محض، فإن الخطاب لهاجر وحدها، كما يدل عليه السياق قبل وبعد، والصواب في أخبار مكة للأزرقي.
(٣) الأثر: ٢٠٤٨- الفقرة الأولى من هذا الأثر في تاريخ الطبري ١: ١٣٠ مع بعض الاختلاف في اللفظ في صدر الخبر، وفي أخبار مكة للأزرقي ١: ١٩، وفي تفسير ابن كثير ١: ٣٢٦. وأما الفقرة الأخيرة منه فهي في أخبار مكة للأزرقي ١: ٢٠-٢١، وقد كان مكان قوله في آخرها"يرفعانه للناس"، "يرفعانه فالله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ في أغلب الظن. وأثبت نص ما جاء في أخبار مكة.
والعضاه: كل شجر يعظم وله شوك شديد. والسلم والسمر: ضربان من شجر العضاه. وقوله: "مدرة"، أي طين يابس لزج، لا رمل فيه، وهو الطين الحر.
62
البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة.
٢٠٥٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، أخبرني بشر بن عاصم، عن ابن المسيب قال، حدثنا كعب: إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة، ومنه دحيت الأرض. قال [سعيد] : وحُدّثنا عن علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة، تدله على تبوئ البيت، كما تتبوأ العنكبوت بيتها قال، فرفعت عن أحجار تطيقه -أو لا تطيقه- ثلاثون رجلا قال، قلت: يا أبا محمد فإن الله يقول:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، كان ذاك بعد. (١)
* * *
(١) الخبر: ٢٠٥٠- بشر بن عاصم بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الطائفي: ثقة، يروي عن سعيد بن المسيب. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٧٧-٧٨، وابن سعد ٥: ٣٨٠، وابن أبي حاتم ١/١/٣٦٠.
وهذا الخبر خبران: أولهما عن كعب الأحبار. ولا قيمة له. والثاني عن علي بن أبي طالب. والظاهر أنه مما كان يتحدث به الصحابة من أخبار أهل الكتاب.
وقد روى القسمين ابن أبي حاتم، فيما نقل ابن كثير ١: ٣٢٤-٣٢٥. عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، بهذا الإسناد.
وروى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٧ -خبر على وحده- من طريق زكريا بن إسحاق، عن بشر بن عاصم، به. وزكريا بن إسحاق المكي: ثقة.
وكذلك روى خبر علي وحده - الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد، في تاريخ مكة ١: ٢٥ (طبعة مكة سنة ١٣٥٢) - عن جده، عن سفيان بن عيينة، عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب، "قال: أخبرني علي بن أبي طالب".
وفي المطبوعة هنا - أول خبر علي: "قال: وحدثنا عن علي بن أبي طالب". فالذي يقول هذا: هو سعيد بن المسيب. وما أدري أوقعت الرواية للطبري هكذا، أم هو تحريف من الناسخين. فالذي في رواية ابن أبي حاتم: "قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب". ويؤيده رواية الحاكم: "عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب قال: حدثنا علي بن أبي طالب". وكذلك رواية الأزرقي. وهذا هو الصواب فيما أرى.
وخبر علي: نقله أيضًا السيوطي ١: ١٢٦، ونسبه فوق هذا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
الغثاءة واحدة الغثاء، وهو ما يحمله السيل والماء من الزبد والهالك البالي من الشجر وغيره، يخالط الزبد. وفي ابن كثير: "فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا". والضمير في قوله: "تطيقه" إلى حجر من الأحجار المذكورة، إن لم يكن في الأصول تحريف أو سقط.
63
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، (١) لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو - إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا. والله تعالى أعلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا. وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن سعود. وهو قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٥١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه، قال:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا
(١) مضى مثل هذا التعبير في ١: ٥٢٠ س ١٦، ثم ٢: ٥١٧ س ١٥.
64
أمة مسلمة لك ربنا وابعث فيهم رسولا منهم".
٢٠٥٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال، هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني.
* * *
فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قائلين: ربنا تقبل منا.
* * *
وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإذ يقول ربنا تقبل منا. فيصير حينئذ"إسماعيل" مرفوعا بالجملة التي بعده. و"يقول" حينئذ، خبر له دون إبراهيم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها.
فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين". (١)
(١) صدر هذا الخبر في تفسير ابن كثير: "وقال السدي: إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل: ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم... " وفي تاريخ الطبري ١: ١٢٩: "قال: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم... "
65
قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت. فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، (١) واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ). [سورة الحج: ٢٦]. فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان تعب. قال: علي بذلك. فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا. فانطلق يطلب له حجرا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة. (٢) وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس. فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك! فبنياه. (٣)
٢٠٥٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "وعن أساس البيت" بزيادة الواو، ولا خير في زيادتها، وأثبت ما في التاريخ، وابن كثير. وفي ابن كثير: "فكشفت لهما" مكان"فكنست". والريح الخجوج: الشديدة المر، التي تلتوي في هبوبها، وتشق شقا بشدة عصفها.
(٢) الثغامة: نبات ذو ساق جماحته مثل هامة الشيخ، أبيض الثمر والزهر، يشبه به بياض الشيب. وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ أتى بأبي قحافة يوم الفتح، وكأن رأسه ثغامة، فأمرهم أن يغيروه.
(٣) الأثر: ٢٠٥٢- في تاريخ الطبري ١: ١٢٩ صدره إلى قوله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت"، وهو بتمامه في تفسير ابن كثير ١: ٣٢٥. وقد مضى شطر من صدره بالرقم: ٢٠٠٩.
(٤) الخبر: ٢٠٥٤- عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام: من ثقات أتباع التابعين يروي أيضًا عن جده عروة بن الزبير، وأخرج له الشيخان في الصحيحين. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/١/١١٧، وكتاب الجمع بين رجال الصحيحين، ص: ٣٤١.
ووقع في المطبوعة"عمرو بن عبد الله بن عتبة"، وهو خطأ كبير، فلا يوجد في الرواة من يسمى بهذا.
ثم هذا الخبر نفسه كلمات قلائل، من خبر مطول في قصة، رواه الطبري في التاريخ ١: ١٣٤. بهذا الإسناد"عن عمر بن عبد الله بن عروة: أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم دعا إلى الحج؟.. ".
عبيد بن عمير الليثي: مضت ترجمته: ١٧٦٨.
66
وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٥- حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة -يزيد أحدهما على الآخر-، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا! وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها قال، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، حتى دور حول البيت. (١)
(١) الحديث: ٢٠٥٥- أحمد بن ثابت بن عتاب الرازي، المعروف بفرخويه، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ١/١/٤٤، ولسان الميزان ١: ١٤٣. وروى ابن أبي حاتم عن أبي العباس الطهراني قال، "كانوا لا يشكون أن فرخويه كذاب".
وقد يصدق الكذوب! فالحديث في ذاته صحيح:
رواه البخاري -مطولا جدا- عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد ٦: ٢٨٣-٢٨٩ (فتح). والذي هنا قطعة منه.
وقد ذكر ابن كثير ١: ٣٢٠-٣٢٢، رواية البخاري بطولها، ثم أشار إلى رواية الطبري هذه.
67
٢٠٥٦- حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء -يعني إبراهيم- فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم. قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". (١)
* * *
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل يومئذ طفل صغير.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٧- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على
(١) الحديث: ٢٠٥٦- ابن سنان القزاز: هو محمد بن سنان. وقد مضت ترجمته في: ١٥٧. ووقع في المطبوعة هنا"ابن بشار"! وهو تصحيف.
وهذا الحديث أيضًا جزء من حديث مطول، رواه البخاري ٦: ٢٩٠ (فتح)، عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، عن إبراهيم بن نافع، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير أيضًا ١: ٣٢٢-٣٢٣، عن رواية البخاري.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٥٥١-٥٥٢، مختصرا، عن أبي العباس الأصم محمد بن يعقوب، عن محمد بن سنان القزاز -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فلم ينبه إلى خطأ الحاكم في استدراكه، إذ رواه البخاري. وقد نبه على ذلك ابن كثير، واستعجب أن يستدركه الحاكم، وهو في صحيح البخاري!
68
ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص. فلما بنى [خرج] وخلف إسماعيل وهاجر، (١) فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال، فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت، فلم تر شيئا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. (٢) فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف! قال: ففحص [الغلام] الأرض بإصبعه، (٣) فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رَوَاء. (٤)
٢٠٥٨- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟
(١) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري ١: ١٢٩، وتفسير ابن كثير ١: ٣٢٤.
(٢) فحصت الدجاجة وغيرها برجلها في التراب: بحثته وأزالت التراب عن حفرة.
(٣) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري ١: ١٢٩، وليست في ابن كثير.
(٤) الحديث: ٢٠٥٧- مؤمل- بوزن: محمد -: هو ابن إسماعيل العدوي، وهو ثقة. بينا توثيقه في شرح المسند: ٢١٧٣.
سفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي.
حارثة ابن مضرب العبدي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٨٧، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٥٥.
و"مضرب": بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة. ووقع في المطبوعة"مصرف"، وهو تصحيف.
والخبر رواه الطبري في التاريخ أيضًا ١: ١٢٩، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التفسير ١: ٣٢٤، عن الطبري. ثم قال: "ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما. وقد يحتمل -إن كان محفوظا- أن يكون أولا وضع له حوطا وتجميرا، لا أنه بناه إلى أعلاه. حتى كبر إسماعيل، فبنياه معا، كما قال الله تعالى".
وقوله: "فإنها رواء" (بفتح الراء والواو). يقال ماء روى (بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء) وروى (بكسر ففتح) ورواء: كثير عذب مرو لا ينقطع.
69
أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، (١) مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة -وهى ريح خجوج، ولها رأسان (٢) - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، (٣) وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا ابغني حجرا كما آمرك. (٤) قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء. فأتماه. (٥)
٢٠٥٩- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا سعيد، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه.
٢٠٦٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال: رفعها إبراهيم وكان
(١) في المطبوعة وفي التاريخ، وابن كثير: "وضع في البركة". وفي المستدرك الحاكم ١: ٢٩٣، والدر المنثور، "وضع للناس فيه البركة والهدى"، فصححتها من هناك.
(٢) انظر ما سلف قريبا: ٦٦ تعليق رقم: ١.
(٣) تطوت: استدارت. تطوت الحية: تحوت والتف بعضها على بعض واستدارت كالطوق. والحجفة: الترس من الجلود يطارق بعضه على بعض، ليس فيه خشب. وفي رواية الطبري في التاريخ"كتطوي الحية"، وكذلك في المستدرك"كتطوق الحية"، وجاء في ابن كثير"الجحفة" وهو خطأ.
(٤) في التاريخ: "لا أبغي حجرا... "، وهو خطأ، وفي ابن كثير: "فقال إبراهيم: ابغي حجرا كما آمرك"، وهو خطأ أيضًا. يقال: ابغني كذا وكذا، وابغ لي كذا وكذا: أي اطلبه لي والتمسه. بغى فلان فلانا شيئا: التمسه له.
(٥) الأخبار: ٢٠٥٨-٢٠٦٠، هي خبر واحد بثلاثة أسانيد.
وشيخ الطبري في الإسناد الأول"هناد": هو ابن السري بن مصعب الدارمي التميمي، وهو ثقة. من شيوخ البخاري ومسلم وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٤٨، والصغير: ٢٤٥، وابن أبي حاتم ٤/٢/١١٩-١٢٠.
وقع في المطبوعة"عباد"، وهو تحريف، تصويبه، من التاريخ للطبري ١: ١٢٨-١٢٩، حيث روى هذا الخبر بهذا الإسناد الأول"حدثنا هناد بن السري". وكذلك نقله ابن كثير ١: ٢٢٤، عن الطبري.
أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي الحافظ الثقة.
سماك - بكسر السين وتخفيف الميم: هو ابن حرب بن أوس البكري، وهو تابعي ثقة، روى له مسلم ووثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١٧٤، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٧٩-٢٨٠.
خالد بن عرعرة التيمي: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ٢/١/١٤٩، وقال: "سمع عليا". وابن أبي حاتم ١/٢/٣٤٣، ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات.
و"سعيد" -في الإسناد الثاني-: أنا أرجح أنه محرف عن"شعبة"، فهو الذي يروي عن سماك ابن حرب، وهو الذي يطلقه"محمد بن جعفر غندر"، إذ هو شيخه الذي لزمه وجالسه نحوا من عشرين سنة. و"أبو داود" في الإسناد الثالث: هو الطيالسي.
والخبر رواه أيضًا الأزرقي في تاريخ مكة ١: ٢٤-٢٥، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٢-٢٩٣، من طريق إسرائيل، عن خالد بن حرب، عن خالد بن عرعرة. قال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي ١: ١٢٦، ونسبه لهؤلاء ولغيرهم.
70
إسماعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل. ويكون الكلام حينئذ:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" يقولان:"ربنا تقبل منا". وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا.
وأما على التأويل الذي روي عن علي:- أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة.
* * *
والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. وذلك أن إبراهيم وإسماعيل، إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته.
وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان -في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله (١) - كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.
* * *
فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، إنك أنت السميع العليم.
* * *
وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، ولا منزلا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا"ربنا تقبل منا". ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم، لم يكن لقولهما:"تقبل منا" وجه مفهوم. لأنه كانا
(١) سياق العبارة: "وإذا كان... كذلك" وما بينهما فصل. ويعني بقوله"كذلك" أنه كان قد فهم الضر والنفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه.
72
يكونان -لو كان الأمر كذلك- سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنك أنت السميع العليم"، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا، (٢). كما:-
٢٠٦١- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل: أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان:"ربنا واجعلنا مسلمين لك"، يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك
(١) يقول: هما من العلم والنبوة بمنزلة وموضع، فلا يسألان الله قبول عمل ليس من القربات إلى الله.
(٢) قوله: "وما نبدي... " معطوف على قوله: "العليم بما في ضمائر نفوسنا".
73
في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"الإسلام": الخضوع لله بالطاعة. (١)
* * *
وأما قوله:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، فإنهما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله ﷺ قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما.
* * *
وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٢- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه. لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد.
* * *
وأما"الأمة" في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، (٢) من قول الله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: ١٥٩]. (٣)
* * *
(١) انظر ما سلف ٢: ٥١٠، ٥١١.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٢١ س: ١٤.
(٣) جاء في تفسير ابن كثير ١: ٣٣٢ ما نصه:
قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"
وهو كما ترى ليس في أصل الطبري. فلا أدري أهو تصرف من ابن كثير، أم في أصول الطبري خرم في هذا الموضع، وكلاهما جائز، ولا أقطع بشيء.
هذا وقد أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري، فزعم أن تخصيص السدي أنهم العرب لا ينفي من عداهم ثم قال: "والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم".
واعتراض ابن كثير هذا لا يقوم، واحتجاجه بالسياق هنا لا ينهض. فالدعاء دعاء إبراهيم وإسماعيل معا، ولكل منهما ذرية يشملها الدعاء. والسياق هنا سياق الآيات المتتابعة لا سياق آية واحدة. ففي الآيات التي تلي هذه الآية ذكر ملة إبراهيم، وبيانها: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون".
وهي آيات متتابعة، فالتخصيص فيها غير جائز، مع وضوح الدلالة على أن ذرية إبراهيم من غير إسماعيل، كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهم له مسلمون وهذا دليل على ما ذهبت إليه في مقدمة الجزء الأول، من اختصار الطبري في تفسيره هذا، فإنه لو شاء لأفاض واحتج بما احتججت بما احتججت به. وهو دليل أيضًا على أن قراءة الطبري تحتاج إلى متابعة آية بعد آية، وأن قراءته مفرقا توقع في خطأ في فهم مراده وحجته. ودليل على أن الطبري شديد العناية بسياق الآيات وترابطها، ولكنه ربما أغفل ذكر هذا الترابط مفصلا وحجته فيه، لأنه قد استوفى ذلك في مواضع سبقت، فاختصر المواضع الأخرى ثقة بتتبع قارئه لما أراد. ودليل آخر على أن هذا التفسير لا يزال مجهول المكانة، على علو مكانته عند أسلافنا غفر الله لنا ولهم.
74
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (١) فقرأه بعضهم:"وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة.
(١) في المطبوعة: "القراء"و"قراء"، ورددتها إلى ما درج عليه الطبري في عبارته. والقَرَأَة جمع قارئ، مثل حافظ وحفظة، كما سلف مرارا.
75
وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل، يسكن الراء من"أرنا"، غير أنه يشمها كسرة.
* * *
واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله:"مناسكنا"
فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين - أو دينه.
٢٠٦٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا نسكنا وحجنا.
٢٠٦٥- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت، أمره الله أن ينادي فقال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [سورة الحج: ٢٧]، فنادى بين أخشبي مكة: (١) يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة:"لبيك لبيك". فأجابوه بالتلبية:"لبيك اللهم لبيك"، وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها [له]، (٢) فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات
(١) أخشبا مكة: هما الجبلان المطيفان بها، وهما: "أبو قبيس" و"الأحمر"، وهو مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ، وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها".
(٢) الزيادة بين القوسين، أظنها أحرى بالصواب.
76
يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى"ذا المجاز"، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت. قال: قد عرفت! فسميت:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، (١) فسميت"المزدلفة"، فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله:"وأرنا مناسكنا". (٢)
* * *
وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة -"المناسك": المذابح. فكان تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك. (٣)
ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأرنا مناسكنا" قال: ذبحنا.
(١) ازدلف إلى الشيء: تقرب إليه ودنا منه. وجمع (بفتح الجيم وسكون الميم) هي"مزدلفة".
(٢) الأثر: ٢٠٦٥ سيأتي بعضه برقم: ٣٧٩٢ في هذا الجزء.
(٣) نسك ينسك (بضم السين) نسكا (بسكون السين) ذبح. والنسيكة: الذبيحة.
77
٢٠٦٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء قال: مذابحنا.
٢٠٦٧م- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٠٦٧م- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٦٧م- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا مذابحنا.
* * *
وقال آخرون:"وأرنا مناسكنا" بتسكين"الراء"، (١) وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يعفر، أخي الأسود بن يعفر: (٢)
ريني جوادا مات هزلا لعلني... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا (٣)
يعني بقوله:"أريني"، دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين.
(١) كان في المطبوعة: "وقال آخرون"، واستظهرت من السياق أنها"وقرأ آخرون"، فلذلك أثبت ما استظهرت، فسيقول بعد: "وهذه قراءة رويت... ".
(٢) هما أخوان من بني نهشل بن دارم، جاهليان، أمهما رهم بنت العباب.
(٣) الشعر والشعراء: ٢٠١-٢٠٢، ٢١١ وفيه تحقيق عن اختلاف قديم في نسبته، ومجاز القرآن: ٥٥، والخزانة ١: ١٩٥-١٩٦ وفيهما مراجع كثيرة. روى البيت لحاتم الطائي، ولمعن بن أوس، وفي اللسان (أنن) و (علل) عن ابن برى وقال: "حطائط بن يعفر، ويقال هو لدريد"، وسيأتي في تفسير الطبري منسوبا لدريد بن الصمة (٧: ٢١٣ بولاق) مع اختلاف في رواية صدره: ذريني أطوف في البلاد لأنني
ولم أجد هذه الرواية في الكتب التي بين يدي، وأخشى أن يكون الطبري أو من أنشده البيت - قد وهم. فقول حطائط قبله أو بعده. ذريني أكن للمال ربا، ولا يكن... لي المال ربا، تحمدي غبه غدا
ذريني فلا أعيا بما حل ساحتى... أسود فأكفي، أو أطيع المسودا
وهو يخاطب بهذه الأبيات أمه رهم بنت العباب، وكانت تلومه على جوده وإتلافه المال. والهزل (بفتح وسكون) والهزل (بضم فسكون) والهزال: هو نقيض السمن، مع الضعف والاسترخاء. وقوله: "لأنني" بفتح الهمزة بمعنى: "لعلني". من قولهم: "أن" بمعنى"عل"، و"لأن" بمعنى"لعل"، وأرى أن الهمزة منقلبة عن العين، والنون منقلبة عن اللام. وهما لغتان من لغات العرب. واجتمعتا في هذا اللفظ.
78
وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. (١)
ذكر من قال ذلك:
٢٠٦٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء:"أرنا مناسكنا"، أخرجها لنا، علمناها.
٢٠٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال:"فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا" -أبرزها لنا، علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به.
* * *
قال أبو جعفر: والقول واحد، فمن كسر"الراء" جعل علامة الجزم سقوط"الياء" التي في قول القائل:"أرينه""أرنه"، (٢) وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن"الراء" من"أرنا"، توهم أن إعراب الحرف في"الراء"، فسكنها في الجزم، كما فعلوا ذلك في"لم يكن" و"لم يك". (٣).
وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب.
* * *
وأما"المناسك" فإنها جمع"منسك"، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج
(١) كان الأجود أن تكون هذه الجملة بعد قوله: "وقرأ آخرون: "وأرنا مناسكنا" بتسكين الراء". ولكن هكذا وقع في النسخ.
(٢) هكذا جاء في المطبوعة"أرينه"، وأظن صواب هذا الحرف"يرينيه"، مضارعا مرفوعا، ليستقيم مع قوله: "وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم".
(٣) ظاهر كلام الطبري هنا يدل على أن قوله: "لم يك" بتسكين الكاف، على توهم أن إعراب هذه الكلمة في الكاف، فسكنها لما دخل عليها الجازم. ولم أجد هذا القول في كتاب مما بين يدي من الكتب، وأخشى أن يكون في نص الطبري في هذا المكان سقط لم أتبينه.
79
"مناسكه"، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها.
* * *
وأصل"المنسك" في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال:"لفلان منسك"، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر. ولذلك سميت"المناسك""مناسك"، لأنها تعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله.
* * *
وقد قيل: إن معنى"النسك": عبادة الله. وأن"الناسك" إنما سمي"ناسكا" بعبادة ربه.
فتأول قائلو هذه المقالة. قوله:"وأرنا مناسكنا"، وعلمنا عبادتك، كيف نعبدك؟ وأين نعبدك؟ وما يرضيك عنا فنفعله؟
وهذا القول، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى"المناسك" ما وصفنا قبل، من أنها"مناسك الحج" التي ذكرنا معناها.
* * *
وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما. وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين. فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك. (١) وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية، وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما:"ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا"وأرنا مناسكنا". وأما التي في الآية التي بعدها:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة.
(١) في المطبوعة: "عن أنفسهم بذلك"، والصواب ما أثبت.
80
وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود:"وأرهم مناسكهم"، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: أما"التوبة"، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب. فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه. (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟
قيل: إنه ليس أحد من خلق الله، إلا وله من العمل -فيما بينه وبين ربه- ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خَصَّا به الحال التي كانا عليها، (٢) من رفع قواعد البيت. لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدى بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما:"وتب علينا"، وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا -الذين أعلمتنا أمرهم- من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما، والمعني به ذريتهما. كما
(١) انظر معنى"التوبة" فيما سلف ١: ٥٤٧/٢: ٧٢-٧٣.
(٢) في المطبوعة: "ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خصا... "، وهو كلام فاسد والصواب ما أثبت. يجعل"قبلهما"، أي قولهما. وبحذف الواو من: "وإنما".
81
يقال:"أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني فلان"، إذا بر ولده.
* * *
وأما قوله:"إنك أنت التواب الرحيم"، فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾
قال أبو جعفر: وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد ﷺ خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا ﷺ يقول:"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى":-
٢٠٧٠- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، صلى الله عليه وسلم. (١)
(١) الحديث: ٢٠٧٠- ثور بن يزيد الكلاعي الحمصي. ثقة من أثبت الرواة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/١٨٠-١٨١، وابن أبي حاتم ١/١/٤٦٨-٤٦٩.
خالد بن معدان الكلاعي الحمصي: تابعي ثقة ثبت، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/١٦١-١٦٢، وابن سعد ٧/٢/١٦٢، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٥١.
وهذا الإسناد مرسل، لأن خالد بن معدان لم يذكر أنه عن أحد من الصحابة. وكذلك هو في سيرة ابن هشام، (ص ١٠٦-١٠٧ طبعة أوربة، ١: ١٧٥ طبعة الحلبي). في قصة مطولة. وكذلك رواه الطبري في التاريخ ٢: ١٣٠، بهذا الإسناد، مطولا أيضًا، مرسلا.
ولكنه ثبت موصولا، من رواية ابن إسحاق أيضًا: فرواه الحاكم في المستدرك ٢: ٦٠٠، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، "حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ ".. فذكر الحديث مختصرا، بنحو مما هنا. ثم قال الحاكم: "خالد بن معدان: من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من الصحابة. فإذا أسند حديثا إلى الصحابة، فإنه صحيح الإسناد، وإن لم يخرجاه". ووافقه الذهبي على تصحيحه.
82
٢٠٧١- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا أبو اليمان قال، حدثنا أبو كريب، عن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي قال، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إني عند الله في أم الكتاب، خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي. (١)
٢٠٧٢- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية -، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثني أبي قال، حدثنا
(١) الحديث: ٢٠٧١- عمران بن بكار الكلاعي: ثقة، من شيوخ النسائي، ووثقه هو وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٩٤، وذكر أنه سمع منه. وقد مضت رواية الطبري عنه: ١٤٩ ولم نترجمه هناك. ووقع في التهذيب أنه مات"سنة إحدى وسبعين ومائة"! وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا يعقل ذلك وأن يسمع منه النسائي والطبري وهذه الطبقة. وصحته: سنة ٢٧١.
أبو اليمان: هو الحكم بن نافع الحمصي، وهو ثقة من شيوخ أحمد بن حنبل والبخاري. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٣٤٢، وابن أبي حاتم ١/٢/١٢٩، وقال: "وهو نبيل ثقة صدوق".
أما قوله"حدثنا أبو كريب" - هنا: فإنه خطأ يقينا من الناسخين. فإن"أبا كريب محمد بن العلاء" - وقد مضت ترجمته: ١٢٩١- متأخر عن أبي اليمان. هذه واحدة، وأخرى، أن أبا اليمان روى هذا الحديث عن ابن أبي مريم، كما سيأتي. فإما أنه ذكر خطأ من الناسخ، وإما أن يكون صوابه"وأبو كريب، قالا: حدثنا". فيكون عمران بن بكار رواه عن شيخين.
ابن أبي مريم: هو"أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي"، وهو ضعيف، من قبل سوء حفظه وتغيره، كما بينا في شرح المسند: ١٤٦٤، ٦١٦٥. ووقع هنا في المطبوعة"عن أبي مريم" بحذف"ابن". وهو خطأ واضح. ثم إن ضعف"ابن أبي مريم" من قبل حفظه، قد جبر في هذا الحديث، بأن رواه غيره. ولكنه أخطأ فيه بحذف التابعي من إسناده.
سعيد بن سويد الكلبي الشامي: وهو تابعي ثقة، سمع من بعض الصحابة ولقيهم. ولكن ابن حبان ذكره في الثقات (ص: ٤٧٥) في أتباع التابعين. ترجمه الحافظ في التعجيل: ١٥٢، وأشار إلى هذا الحديث، ونقل أن البخاري قال: "لم يصح حديثه". وما أدري أين قاله البخاري، فإنه لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في الضعفاء. وترجمه في الكبير ٢/١/٤٣٦، ولم يذكر فيه جرحا. وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/٢٩، ولم يذكر فيه جرحا أيضًا. وإنما اختلف عنه الراويان - في هذا الإسناد والإسنادين بعده: أهو"عن العرباض"، أم بينهما تابعي آخر؟ فأخطأ ابن أبي مريم في حذف التابعي بين سعيد والعرباض. كما سيأتي، إن شاء الله.
83
الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح - قالا جميعا، عن سعيد بن سويد، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية السلمي، عن النبي ﷺ بنحوه. (١)
٢٠٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية: أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول، فذكر نحوه. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٢٠٧٢- وهذا إسناد آخر للحديث قبله، بل إسنادان: فرواه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، ثم رواه عن عبيد بن آدم العسقلاني، عن أبيه، عن الليث بن سعد - وابن وهب والليث روياه عن معاوية بن صالح.
وأولهما واضح. و"عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني" - في ثانيهما: ثقة، روى عنه أيضًا أبو زرعة وأبو حاتم، والنسائي، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠٢. وأبوه"آدم بن أبي إياس". مضت ترجمته: ١٨٧. والليث بن سعد: ومعاوية بن صالح: مضت ترجمته: ١٨٧ أيضًا.
(٢) الحديث: ٢٠٧٣- وهذا إسناد آخر للحديث السابق. و"أبو صالح": هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته: ١٨٦. عبد الأعلى بن هلال السلمي: هكذا اختلف في اسمه على معاوية بن صالح، في الإسناد السابق وهذا الإسناد: فهنالك"عبد الله بن هلال"، وهنا"عبد الأعلى بن هلال". وأنا أرجح أنه"عبد الأعلى" لما سيأتي من الدلائل، إن شاء الله.
وهذا التابعي قصر الحافظ فلم يترجم له في التعجيل في واحد من الاسمين، مع أنه من رجال مسند أحمد، ومع أن سلفه الحافظ الحسيني ترجم له في الإكمال، ص: ٦٤ قال، "عبد الله بن هلال السلمي، ويقال: عبد الأعلى، شامي. روى عن العرباض بن سارية، وأبي أمامة الباهلي. وعنه سويد بن سعيد الكلبي. مجهول"! وما كان الرجل مجهولا قط! وهو مترجم عند ابن أبي حاتم ٣/١/٢٥ باسم"عبد الأعلى"، وكذلك ذكره ابن حبان في الثقات، ص: ٢٦٧، وذكر له هذا الحديث، عن العرباض بن سارية. وكذلك ذكره البخاري في الكبير، في ترجمة"سعيد بن سويد" باسم"عبد الأعلى بن هلال". وكذلك صنع ابن أبي حاتم وابن حبان.
وأيضًا فإن الرواة عن الليث بن سعد اختلفوا عليه كذلك. ففي روايتي أحمد وابن سعد، من طريق الليث: "عبد الأعلى بن هلال"، كما سنذكر.
بل إن عبد الأعلى هذا له ذكر في حديث آخر في المسند (٥: ٢٦١ حلبي) في مسند أبي أمامة الباهلي، فروى الإمام أحمد بإسناده إلى خالد بن معدان قال، "حضرنا صنيعا لعبد الأعلى بن هلال، فلما فرغنا من الطعام قام أبو أمامة فقال:.. "، إلخ.
وأيا ما كان فهذه الأسانيد صحاح، على الرغم من هذا الاختلاف. وكثيرا ما يكون مثل هذا، ولا أثر له في صحة الحديث.
والحديث - من رواية أبي بكر بن أبي مريم: ٢٠٧١- رواه أيضًا أحمد في المسند: ١٧٢٣٠ (ج ٤ ص ١٢٧ حلبي)، عن أبي اليمان الحكم بن نافع، عن أبي بكر، عن سعيد بن سويد، عن العرباض، بنحوه. وآخره عنده: "ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين، صلوات الله عليهم".
وبنحو ذلك - وشيء من الاختصار- رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٦٠٠، من طريق أبي اليمان، عن ابن أبي مريم. وصححه هو والذهبي.
ورواه أيضًا الإمام أحمد: ١٧٢١٧ (ج ٤ ص ١٢٧ حلبي)، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد الله بن هلال السلمي"، عن عرباض بن سارية، نحوه. فعبد الرحمن بن مهدي، سمي التابعي"عبد الله" - كما صنع ابن وهب وآدم بن أبي إياس، هنا في روايتهما عن الليث.
ورواه أيضًا الإمام أحمد: ١٧٢١٨، وابن سعد في الطبقات ١/١/٩٥-٩٦، كلاهما عن أبي العلاء الحسن بن سوار الخراساني، عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد الأعلى بن هلال السلمي"، عن العرباض.
وقد ذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد ٨: ٢٢٣، بألفاظ عن العرباض. ثم قال: "رواه أحمد بأسانيد، والبزار، والطبراني بنحوه... وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان".
وهو أيضًا عند السيوطي ١: ١٣٩، ونسبه -زيادة على ما ذكرنا- لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.
وبعد: فإن للحديث شاهدا آخر، يصلح للاستشهاد، مع ضعف في إسناده:
فروى أبو داود الطيالسي في مسنده: ١١٤٠، عن الفرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو هذا الحديث.
وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند (٥: ٢٦٢ حلبي)، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن الفرج بن فضالة. بهذا الإسناد. والفرج بن فضالة: ضعيف، كما قلنا في: ١٦٨٨.
وذكره السيوطي ١: ١٣٩، ونسبه أيضًا للطبراني، وابن مردويه، والبيهقي.
84
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.
85
٢٠٧٥- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
٢٠٧٦- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان.
* * *
قال أبو جعفر: ويعني تعالى ذكره بقوله:"يتلو عليهم آياتك": يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿َ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
قال أبو جعفر: ويعني ب"الكتاب": القرآن.
وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن"كتابا"، وما تأويله. (٢) وهو قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ويعلمهم الكتاب"، القرآن.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هي السنة.
ذكر من قال ذلك:
(١) انظر معاني"تلا" فيما سلف ٢: ٤٠٩- ٤١١، ٥٦٩.
(٢) انظر ما سلف ١: ٩٧، ٩٩.
86
٢٠٧٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة""والحكمة"، أي السنة.
* * *
وقال بعضهم:"الحكمة"، هي المعرفة بالدين والفقه فيه.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٧٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له.
٢٠٨٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والحكمة" قال،"الحكمة"، الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و"الحكمة"، العقل في الدين وقرأ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [سورة البقرة: ٢٦٩]، وقال لعيسى، (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ) [سورة آل عمران: ٤٨] قال، وقرأ ابن زيد: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) [سورة الأعراف: ١٧٥] قال، لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال:"والحكمة" شيء يجعله الله في القلب، ينور له به.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في"الحكمة"، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من"الحكم" الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة "الجِلسة والقِعدة" من "الجلوس والقعود"، يقال منه:"إن فلانا لحكيم بين الحكمة"، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو
87
عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"التزكية": التطهير، وأن معنى"الزكاة"، النماء والزيادة. (١)
فمعنى قوله:"ويزكيهم" في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله، كما:-
٢٠٨١- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يتلو عليهم آياتك ويزكيهم" قال، يعني بالزكاة، طاعة الله والإخلاص.
٢٠٨٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"ويزكيهم" قال، يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت"العزيز" القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك؛ و"الحكيم" الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٥٧٣-٥٧٤.
88
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم"، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟ (١)
* * *
وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن"ملة إبراهيم" هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: ٦٧]، فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه، كما:-
٢٠٨٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"، رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم -يعني الإسلام- حنيفا؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا ﷺ بملة إبراهيم.
٢٠٨٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومن يرغبث عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" قال، رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام.
* * *
(١) سيأتي تفسير"الملة" بعد صفحات ص: ١٠٤.
89
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إلا من سفه نفسه"، إلا من سفهت نفسه. وقد بينا فيما مضى أن معنى"السفه"، الجهل. (١)
فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها، كما:-
٢٠٨٥- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا من سفه نفسه" قال، إلا من أخطأ حظَّه.
* * *
وإنما نصب"النفس" على معنى المفسر. ذلك أن"السفه" في الأصل للنفس، فلما نقل إلى"من"، نصبت"النفس"، بمعنى التفسير. (٢) كما يقال:"هو أوسعكم دارا"، فتدخل"الدار" في الكلام على أن السعة فيها، لا في الرجل. فكذلك"النفس" أدخلت لأن السفه للنفس لا ل"من". ولذلك لم يجز أن يقال: سفه أخوك. وإنما جاز أن يفسر بالنفس، وهي مضافة إلى معرفة، لأنها في تأويل نكرة. (٣)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله:"سفه نفسه" جرت مجرى"سفه" إذا كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى"نفسه" و"رأيه" وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو"سفه"، إذا هو لم يتعد. فأما"غبن" و"خسر" فقد يتعدى إلى غيره، يقال:"غبن خمسين، وخسر خمسين".
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٢٩٣-٢٩٥.
(٢) التفسير والمفسر: يعني التمييز، ويقال له أيضًا "التبيين".
(٣) انظر بيان ذلك في معاني القرآن للفراء ١: ٧٩، واللسان (سفه).
90
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا"، ولقد اصطفينا إبراهيم. و"الهاء" التي في قوله:"اصطفيناه"، من ذكر إبراهيم.
* * *
و"الاصطفاء""الافتعال" من"الصفوة"، وكذلك"اصطفين"ا"افتعلنا" منه، صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد.
ويعني بقوله:"اصطفيناه": اخترناه واجتبيناه للخلة، (١) ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما.
* * *
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده، فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته، وجعله للناس إماما، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإنه في الآخرة لمن الصالحين"، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.
* * *
و"الصالح" من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.
(١) الخلة (بضم فتشديد) : الصداقة والمحبة. والخليل: الصديق الحبيب. وهي هنا منزلة من منازل محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم وأحبهم.
91
فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في الدنيا صفي، وفي الآخرة ولي، وأنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال له ربه أسلم"، إذ قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة، وقد دللنا فيما مضى على معنى"الإسلام" في كلام العرب، فأغنى عن إعادته. (١)
* * *
وأما معنى قوله:"قال أسلمت لرب العالمين"، فإنه يعني تعالى ذكره، قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت العبادة، لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره.
* * *
فإن قال قائل: قد علمت أن"إذ" وقت، فما الذي وقت به؟ وما الذي هو له صلة. (٢)
قيل: هو صلة لقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا". وتأويل الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا، حين قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. وإنما معنى الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا حين قلنا له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأظهر اسم"الله" في قوله:"إذ قال له ربه أسلم"، على وجه الخبر
(١) انظر ما سلف ٢: ٥١٠، ٥١١، وهذا الجزء ٣: ٧٤.
(٢) في المطبوعة: "وما الذي صلته". والصواب ما أثبت.
عن غائب، وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر عن نفسه، كما قال خُفاف بن ندبة:
أقول له - والرمح يأطر متنه:... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا (١)
* * *
ءفإن قال لنا قائل: وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام؟
قيل له: نعم، قد دعاه إليه.
فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه؟
قيل حين قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: ٧٨-٧٩]، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه: أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ووصى بها"، ووصى بهذه الكلمة. عنى ب"الكلمة" قوله (٣) "أسلمت لرب العالمين"، وهي"الإسلام"
(١) سلف تخريج هذا البيت في ١: ٢٢٧/ ٢: ٣٠٤.
(٢) قرأ الآيات من سورة الأنعام: ٧٤-٧٨.
(٣) في المطبوعة: "أعني بالكلمة"، وهو خطأ محض.
93
الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له. (١)
* * *
ويعني بقوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، عهد إليهم بذلك وأمرهم به.
* * *
وأما قوله:"ويعقوب"، فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه، كما:-
٢٠٨٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم.
٢٠٨٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بمثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وقال بعضهم: قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه)، خبر منقض. وقوله:"ويعقوب" خبر مبتدأ. فإنه قال:"ووصى بها إبراهيم بنيه". بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب بنيه: أن:"يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
ولا معنى لقول من قال ذلك. لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه، نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه: من الحث على طاعة الله، والخضوع له، والإسلام.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت: من أن معناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: أن"يا بني" - فما بال"أن" محذوفة من الكلام؟
قيل: لأن الوصية قول، فحملت على معناها. وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ
(١) انظر تفسير"الإسلام" قبل ٢: ٥١٠، ٥١١، وهذا الجزء ٣: ٧٤، ٩٢.
94
القول، لم تحسن معه"أن"، وإنما كان يقال: وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب:"يا بني". فلما كانت الوصية قولا حملت على معناها دون لفظها، (١) فحذفت"أن" التي تحسن معها، كما قال تعالى ذكره: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: ١١]، وكما قال الشاعر:
إني سأبدي لك فيما أبدي... لي شجنان شجن بنجد... وشجن لي ببلاد السند (٢)
فحذفت"أن"، إذ كان الإبداء باللسان في المعنى قولا فحمله على معناه دون لفظه. (٣)
* * *
وقد قال بعض أهل العربية: إنما حذفت"أن" من قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، اكتفاء بالنداء - يعني بالنداء قوله:"يا بني" وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالأدوات عن"أن"، كقولهم:"ناديت هل قمت؟ - وناديت أين زيد؟ ". قال: وربما أدخلوها مع الأدوات. فقالوا:"ناديت، أن هل قمت؟ ".
* * *
(١) في المطبوعة: "على معناها دون قولها"، وهو خطأ صوابه ما أثبت.
(٢) معاني القرآن للفراء ١: ٨٠، ١٨٠، ولسان العرب (شجن). وقوله"شجن": هوى النفس، والحاجة. وهو مجاز من"الشجن" الذي هو الحزن والهم. وكنوا به عن المرأة المحبوبة التي تشغل القلب بالهم والحزن، من فراق أو دلال أو تجن، يقول مسلم بن الوليد الأنصاري:يعني نساء، وقال أيضًا:
وسرب من الأشجان يطوى له الحشا على شرق، من يلقه يتبلد
أطال عمري، أم مد في أجلي، أم ليس في الظاعنين لي شجن؟
أي امرأة أحبها، وهوى يحزنني فراقه وبعده؟
(٣) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء ١: ٨٠-٨١.
95
وقد قرأ جماعة من القرأة:"وأوصى بها إبراهيم"، بمعنى: عهد.
وأما من قرأ"ووصى" مشددة، فإنه يعني بذلك أنه عهد إليهم عهدا بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفى لكم الدين"، إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه، واجتباه لكم. (١)
* * *
وإنما أدخل"الألف واللام" في"الدين"، لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك، كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به، وعهدهما إليهم فيه، ثم قالا لهم -بعد أن عرفاهموه-: إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه، فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أوَ إلَى بني آدمَ الموتُ والحياةُ، فينهى أحدُهم أن يموت إلا على حالة دون حالة؟
قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ. وإنما معنى (٢) "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أي: فلا تفارقوا هذا الدين -وهو الإسلام- أيام حياتكم. وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيتُه، فلذلك قالا لهم:"فلا تموتن إلا وأنتم
(١) انظر معنى"الاصطفاء" فيما سلف قريبا: ٩١.
(٢) في المطبوعة: "وإنما معناه"، والصواب ما أثبت.
96
مسلمون"، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربُّكم ساخط عليكم، فتهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أم كنتم شهداء"، أكنتم. ولكنه استفهم ب"أم"، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه، كما قيل: (الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: ١-٣] وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه، تستفهم فيه ب"أم". (١)
* * *
"والشهداء" جمع"شهيد"، كما"الشركاء" جمع"شريك" و"الخصماء" جمع"خصيم". (٢)
* * *
قال أبو جعفر وتأويل الكلام: أكنتم -يا معشر اليهود والنصارى، المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين نبوته-، حضورَ يعقوبَ وشهودَه إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتَنحلوهم اليهوديةَ والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم -وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم- بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصَّوْا بنيهم، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم. فلو حضرتموهم
(١) استوفى الطبري حديث"أم" فيما سلف ٢: ٤٩٢-٤٩٤ وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٦.
(٢) مضى تفسير"الشهداء" في ١: ٣٧٦-٣٧٨.
97
فسمعتم منهم، علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم (١).
* * *
وهذه آيات نزلت، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب: أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية:"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت"، فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"أم كنتم شهداء"، يعني أهل الكتاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال لبنيه"، إذ قال يعقوب لبنيه".
* * *
و"إذ" هذه مكررة إبدالا من"إذ" الأولى، بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته.
* * *
ويعني بقوله:"ما تعبدون من بعدي" - أي شيء تعبدون،"من بعدي"؟ أي من بعد وفاتي؟ قالوا:"نعبد إلهك"، يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق،"إلها واحدا" أي: ن
(١) في المطبوعة: "علىغير ما تنحلوهم"، والصواب ما أثبت".
98
خلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئا، ولا نتخذ دونه ربا.
* * *
ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون"، ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة.
ويحتمل قوله:"ونحن له مسلمون"، أن تكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون.
* * *
وأحسن هذين الوجهين -في تأويل ذلك- أن يكون بمعنى الحال، وأن يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، مسلمين لعبادته.
* * *
وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٨٩- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" قال، يقال: بدأ بإسماعيل لأنه أكبر.
* * *
وقرأ بعض المتقدمين:"وإله أبيك إبراهيم"، ظنا منه أن إسماعيل، إذ كان عما ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن تُرجم به عن الآباء، وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك، قلة علم منه بمجاري كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء، والأخوال بمعنى الأمهات. (١) فلذلك دخل إسماعيل فيمن تُرجم به عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ترجمةٌ عن الآباء في موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون (٢).
* * *
(١) وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٧، وقوله: "والعرب تجعل العم والخال أبا".
(٢) "الترجمة" وما اشتق منها: هي"البدل"، كما سلف آنفًا ٢: ٣٤٠، ٤٢٠، وهذا الجزء ٣: ٥٢ وقوله: "ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون"، بمعنى أنها أسماء ممنوعة من الصرف، كما هو بين، ولكنه تعبير مليح.
99
والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"وإله آبائك"، لإجماع القراء على تصويب ذلك، وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك.
* * *
ونصب قوله:"إلها"، على الحال من قوله:"إلهك".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره. بقوله:"تلك أمة قد خلت"، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم.
يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى، دَعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها إليهم، فإنهم أمة - ويعني: ب"الأمة" في هذا الموضع: الجماعةَ والقرنَ من الناس (١) - قد خلت: مضت لسبيلها.
* * *
وإنما قيل للذي قد مات فذهب:"قد خلا"، لتخليه من الدنيا وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه. (٢)
وأصله من قولهم:"خلا الرجل"، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك الوجه.
* * *
ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه - ضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه (٣) - من أنبيائي ورسلي، ما كسب (٤).
(١) انظر ما سلف في معنى"أمة" ١: ٢٢١، وهذا الجزء ٣: ٧٤.
(٢) في المطبوعة: "بما كان من الأنس"، والصواب ما أثبت: أي: تخليه عما كان من الأنس بأهله..
(٣) في المطبوعة: "بضلالكم وكفركم" بزيادة الباء، وسياق الطبري يقتضي حذف هذه الباء.
(٤) في المطبوعة: "كسبت"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
100
"والهاء والألف" في قوله:"لها"، عائدة إن شئت على"تلك"، وإن شئت على"الأمة".
* * *
ويعني بقوله:"لها ما كسبت"، أي ما عملت من خير، (١). ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخذون أنتم - أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون. فيكسبون من خير وشر، لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن الدعاوَى غيرُ مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتم عملتموها وقدمتموها.
* * *
(١) انظر معنى"الكسب" فيما سلف ٢: ٢٧٣-٢٧٤.
101
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا"، وقالت اليهود لمحمد ﷺ وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا؛ وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا.
* * *
تعني بقولها:"تهتدوا"، أي تصيبوا طريق الحق، (١). كما:-
٢٠٩٠- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة - جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى
(١) انظر معاني"الهدى" فيما سلف ١: ١٦٦-١٧٠، ٢٣٠، ٢٤٩، ٥٤٩-٥٥١/٢: ٣٩٣.
101
زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين". (١)
* * *
قال أبو جعفر: احتج الله لنبيه محمد ﷺ أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه ﷺ فقال: يا محمد، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك:"كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" -: بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه (٢) وأمر به -فإن دينه كان الحنيفية المسلمة- وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا. فإن ذلك -على اختلافه- لا سبيل لنا على الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم.
* * *
وفي نصب قوله:"بل ملة إبراهيم" أوجه ثلاثة. أحدها: أن يوجه معنى قوله:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى"، إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية. لأنهم إذ قالوا:"كونوا هودا أو نصارى"، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة. فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد، لا نتبع اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، ثم يحذف"نتبع" الثانية، ويعطف ب"الملة" على إعراب اليهودية والنصرانية.
والآخر: أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى"نتبع"
والثالث: أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة
(١) الأثر: ٢٠٩٠- سيرة ابن هشام ٢: ١٩٨.
(٢) في المطبوعة: "تجمع جميعنا"، وهي خطأ، والصواب"يجمع"، من الإجماع.
102
إبراهيم. ثم حذف"الأهل" و"الأصحاب"، وأقيمت"الملة" مقامهم، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، (١) كما قال الشاعر: (٢)
حسبت بغام راحلتي عناقا!... وما هي، ويب غيرك، بالعناق (٣)
يعني: صوت عناق، فتكون"الملة" حينئذ منصوبة، عطفا في الإعراب على"اليهود والنصارى".
* * *
وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء، باتباع ملة إبراهيم. (٤)
وقرأ بعض القراء ذلك رفعا، فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم.
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٨٢، ويريد في هذا القول الأخير، أن النصب بقوله"نكون"، التي هي من معنى قوله: "كونوا هودا.. "، ثم حذفت"نكون".
(٢) هو ذو الخرق الطهوي، وانظر الاختلاف في اسمه، ومن سمي باسمه في المؤتلف والمختلف: ١١٩، والخزانة ١: ٢٠، ٢١.
(٣) سيأتي في التفسير ٢: ٥٦ منسوبا / ثم ٤: ٦٠/١٥: ١٤ (بولاق)، ونوادر أبي زيد: ١١٦، ومعاني القرآن للفراء ١: ٦١ - ٦٢، واللسان (ويب) (عنق) (عقا) (بغم) وغيرها. وهو من أبيات يقولها لذئب تبعه في طريقه، وهي أبيات ساخرة جياد. ألم تعجب لذئب بات يسري... ليؤذن صاحبا له باللحاق
حسبت بغام راحلتي عناقا!... وما هي، ويب غيرك، بالعناق
ولو أني دعوتك من قريب... لعاقك عن دعاء الذئب عاق
ولكني رميتك من بعيد... فلم أفعل، وقد أوهت بساقي
عليك الشاء، شاء بني تميم،... فعافقه، فإنك ذو عفاق
وقوله"عناق" في البيت: هي أنثى المعز، وقوله: "ويب" أي ويل. والبغام: صوت الظبية أو الناقة، واستعاره هنا للمعز. وقوله في البيت الثالث"عاق"، أي عائق، فقلب، والعقاق: السرعة في الذهاب بالشيء. عافقه: عالجه وخادعه ثم ذهب به خطفة واحدة.
(٤) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٧، وقوله: "عليكم ملة إبراهيم".
103
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: و"الملة"، الدين
* * *
وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك.
* * *
فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما.
فيكون"الحنيف" حينئذ حالا من"إبراهيم"
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"الحنيف" الحاج. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الإسلام"الحنيفية"، لأنه أول إمام لزم العباد -الذين كانوا في عصره، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة- اتباعه في مناسك الحج، والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته، فهو"حنيف"، مسلم على دين إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٩١- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا القاسم بن الفضل، عن كثير أبي سهل، قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"، قال: حج البيت.
٢٠٩٢- حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن موسى
104
قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"حنيفا" قال الحنيف: الحاج. (١)
٢٠٩٣- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال: حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية مثله. (٢)
(١) الخبر: ٢٠٩٢- محمد بن عبادة الأسدي، شيخ الطبري: هذا الشيخ مضى مرارا في المطبوعة على أوجه. منها: ٦٤٥، ١٥١١ باسم"محمد بن عمارة الأسدي"، وذكرنا في ثانيهما أننا لم نجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه مرارا في التاريخ. ولم نجده في فهارس التاريخ إلا كذلك. ومنها: ١٩٧١، باسم"محمد بن عمار"، وصححناه فيه على ما رأينا من قبل"محمد بن عمارة". ولكنه جاء هنا -كما ترى- باسم"محمد بن عبادة". والراجح عندي الآن أنه هو الصواب. فإن يكن ذلك تكن نسخ الطبري في التفسير وفي التاريخ محرفة في كل موضع ذكر فيه على غير هذا النحو.
وهذا الشيخ"محمد بن عبادة بن البختري الأسدي الواسطي": ثقة صدوق، كان صاحب نحو وأدب. وهو من شيوخ البخاري، وأبي حاتم، وأبي داود، وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/١/١٧. روى عنه البخاري في الصحيح حديثين، (٨: ٢٦، و ٩: ٩٣ من الطبعة السلطانية) - (١٠: ٤٢٩، و ١٣: ٢١٤ من الفتح) - (٩: ٥٣، و ١٠: ٢٤٦ من القسطلاني طبعة بولاق الأول). ونص بهامش السلطانية على أن"عبادة" - في الموضعين: بفتح العين. وكذلك ضبطه الشارحان. قال الحافظ (١٣: ٢١٤) :"بفتح المهملة وتخفيف الموحدة، واسم جده: البختري، بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة من فوق، ثقة واسطي، يكنى: أبا جعفر. ما له في البخاري إلا هذا الحديث، وآخر تقدم في كتاب الأدب"، يعني الذي مضى في الفتح (٨: ٢٦).
وكذلك ضبط اسم أبيه، في المشتبه للذهبي: ٣٣٣، والحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط).
وإنما رجحت -هنا- أنه"محمد بن عبادة": لأن"محمد بن عمارة الأسدي" مفقود ذكره في كتب التراجم والرواية. فيما وصل إليه علمي، ولأن كثيرا من رواياته في التاريخ والتفسير - عن"عبيد الله بن موسى"، كما في التفسير: ١٥١١، والتاريخ ١: ٥٧، و ٢: ٢٦٦، و ٣: ٧٦، ٧٨. نعم: يمكن أن يكون هناك شيخ آخر -لم يصل إلينا علمه- باسم"محمد بن عمارة" يتفق مع هذا في شيوخه وفي الرواة عنه. ولكني أرى أن ما ذكرت هو الأرجح.
و"عبيد الله بن موسى": هو العبسي الحافظ الثقة. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٣٤-٣٣٥، وتذكرة الحفاظ ١: ٣٢٢-٣٢٣، ووقع اسمه في المطبوعة هنا"عبد الله" وهو تحريف واضح.
فضيل: هو ابن مرزوق الرقاشي: وهو ثقة، رجحنا توثيقه في شرح المسند: ١٢٥١، لأن من تكلم فيه، إنما تكلم من أجل أحاديث يرويها عن عطية العوفي - الذي يروى عنه هنا، وعطية ضعيف، كما مضى في: ٣٠٥.
(٢) الخبر: ٢٠٩٣- الحسين بن علي الصدائي -بضم الصاد وتخفيف الدال المهملتين- الأكفاني: ثقة عدل من الصالحين، روى عنه الترمذي والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٥٦، وتاريخ بغداد ٨: ٦٧-٦٨.
أبوه"علي بن يزيد بن سليم الصدائي": ثقة أيضًا، تكلم فيه بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٠٩.
105
٢٠٩٤- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام بن سلم، (١) عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: الحنيف الحاج.
٢٠٩٥- حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"، قال: هو حج هذا البيت.
قال ابن التيمي: وأخبرني جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، مثله. (٢)
٢٠٩٦- حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن مجاهد:"حنفاء" قال: حجاجا. (٣)
٢٠٩٧- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"حنيفا" قال: حاجا.
٢٠٩٨- حدثت عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن القاسم قال: كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون"حنفاء"، فأنزل الله تعالى ذكره (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). [سورة الحج: ٣١]
* * *
وقال آخرون:"الحنيف"، المتبع، كما وصفنا قبل، من قول الذين قالوا: إن معناه: الاستقامة.
ذكر من قال ذلك:
٢٠٩٩- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان،
(١) في المطبوعة"حكام بن سالم"، خطأ. وقد مضى كثيرا في إسناد الطبري.
(٢) الخبر: ٢٠٩٥- ابن التيمي: لم أجد نصا يعين من هو؟ ونسبة"التيمي" فيها سعة. وأنا أرجح أن يكون"معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي". فإنه من هذه الطبقة، ويروي عنه عبد الرزاق. ولعل عبد الرزاق ذكره بهذه النسبة، لئلا يشتبه باسم معمر. وهو ابن راشد، إذ يكثر عبد الرزاق الرواية عن معمر. فخشي التصحيف لو قال هنا"معتمر". فخرج منه بقوله"ابن التيمي".
(٣) انظر ما سيأتي في رقم: ٢٠٩٨، فهذا من تفسير آية سورة الحج المذكورة ثم.
106
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حنفاء" قال: متبعين.
* * *
وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم"الحنيفية"، لأنه أول إمام سن للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختثن على سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام، فهو"حنيف" على ملة إبراهيم. (١)
وقال آخرون:"بل ملة إبراهيم حنيفا"، بل ملة إبراهيم مخلصا."فالحنيف" على قولهم: المخلص دينه لله وحده.
ذكر من قال ذلك:
٢١٠٠- حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"واتبع ملة إبراهيم حنيفا"، يقول: مخلصا.
* * *
وقال آخرون: بل"الحنيفية" الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها، فهو"حنيف".
* * *
قال أبو جعفر:"الحنف" عندي، هو الاستقامة على دين إبراهيم، واتباعه على ملته. (٢). وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: (ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) [سورة آل عمران: ٦٧]
فكذلك القول في الختان. لأن"الحنيفية" لو كانت هي الختان، لوجب أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: ٦٧].
(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٨.
(٢) في المطبوعة: "الحنيف عندي هو الاستقامة"، وهو كلام مختلف، صوابه ما أثبت.
107
فقد صحّ إذًا أن"الحنيفية" ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها.
* * *
فإن قال قائل: أوَ ما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟
قيل: بَلى.
فإن قال: فكيف أضيف"الحنيفية" إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟
قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من الناس"حنيفًا" باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه، وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل، فقيل:"يهودي، ونصرانيّ، ومجوسيّ"، وغير ذلك من صنوف الملل
* * *
وأما قوله: و"ما كانَ مِن المشركين"، يقول: إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا من النصارى، بل كان حنيفًا مسلمًا.
* * *
108
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"قولوا" -أيها المؤمنون، لهؤلاء اليهودِ والنصارَى، الذين قالوا لكم:"كونوا هُودًا أو نصارى تَهتدوا"-:"آمنا"، أي صدَّقنا"بالله".
وقد دللنا فيما مضى أنّ معنى"الإيمان"، التصديقُ، بما أغنى عن إعادته. (١).
* * *
"وما أنزل إلينا"، يقول أيضًا: صدّقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم، إذ كانوا متّبعيه، ومأمورين منهيين به. فكان - وإنْ كان تنزيلا إلى رسول الله ﷺ - بمعنى التنزيل إليهم، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفتُ
* * *
ويعني بقوله:"ومَا أنزل إلى إبراهيم"، صدَّقنا أيضًا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم"وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط"، وهم الأنبياء من ولد يَعقوب.
* * *
وقوله:"ومَا أوتي مُوسَى وعيسى"، يعني: وآمنا أيضًا بالتوراة التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم، وأقرَرنا وصدّقنا أن ذلك كله حَق وهُدى ونور من عند الله، وأن جَميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى، يُصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله، والعمل بطاعته،"لا نُفرِّق بَينَ أحد منهم"، يقول: ل
(١) انظر ما سلف ١: ٢٣٥-٢٣٦، ثم ٢: ١٤٣، ٣٤٨... ومواضع أخرى غيرها.
109
انؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، ونتبرَّأ من بعضٍ ونتولى بعضًا، كما تبرأت اليهودُ من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وكما تبرأت النصارَى من محمد ﷺ وأقرّت بغيره من الأنبياء، بل نشهد لجميعهم أنّهم كانوا رسلَ الله وأنبياءَه، بعثوا بالحق والهدى.
* * *
وأما قوله:"ونحنُ لَهُ مُسلمون"، فإنه يعني تعالى ذكره: ونحنُ له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية. (١)
* * *
فذُكر أنّ نبيّ الله ﷺ قال ذلك لليهود، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به، كما:-
٢١٠١- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ نَفرٌمن يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، (٢) ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار، وأشْيَع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وَمَا أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبرَاهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوب والأسباط، ومَا أوتي مُوسى وعيسى وَمَا أوتي النبيون من رَبهم لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به. فأنزل الله فيهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) (٣) [سورة المائدة: ٥٩]
(١) انظر"الإسلام" فيما سلف: ٥١٠، ٥١١ / وهذا الجزء ٣، ٧٤، ٩٢، ٩٤.
(٢) في سيرة ابن هشام ٢: ٢١٦"منهم: أبو ياسر".
(٣) الأثر: ٢١٠١- سيأتي في تفسير سورة المائدة: ٥٩ (٦: ١٨٨-١٨٩ بولاق) بإسناده عن هناد بن السري عن يونس بن بكير، وهو في سيرة ابن هشام ٢: ٢١٦ مع اختلاف يسير في بعض لفظه. وانظر الأثر التالي.
110
٢١٠٢- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه - إلا أنه قال:"ونافع بن أبي نافع" مكانَ"رافع بن أبي رافع" (١).
* * *
وقال قتادة: أنزلتْ هذه الآية، أمرًا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رُسله كلهم.
٢١٠٣- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"قُولُوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم" إلى قوله:"ونَحنُ له مسلمون"، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرِّقوا بين أحد منهم.
* * *
وأما"الأسباط" الذين ذكرهم، فهم اثنا عشر رَجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وَلَد كل رجل منهم أمّة من الناس، فسموا"أسباطًا" (٢). كما:-
٢١٠٤- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأسباط، يوسفُ وإخوته، بنو يَعقوب. ولد اثني عشر رجلا فولد كل وحل منهم أمَّة من الناس، فسموا:"أسباطا".
٢١٠٥- حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما الأسباط، فهم بنو يعقوب: يوسُف، وبنيامين، ورُوبيل،
(١) الأثر: ٢١٠٢ - هكذا جاء في سيرة ابن هشام ٢: ٢١٦، وانظر سيرة ابن هشام أيضًا ١: ١٦١، ١٦٢"رافع بن أبي رافع"، و"نافع بن أبي نافع"، والخلط في أسماء يهود ذلك العهد كثير في كتب السير.
(٢) انظر تفسير"الأسباط" فيما سلف أيضًا ٢: ١٢١.
111
ويهوذا، وشَمعون، ولاوِي، ودَان، وقهاث. (١).
٢١٠٦- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال:"الأسباط" يوسف وإخوته بنو يعقوب، اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمّة من الناس، فسموا"الأسباط".
٢١٠٧- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق قال (٢) نكح يَعقوب بن إسحاق -وهو إسرائيل- ابنة خاله"ليا" ابنة"ليان بن توبيل بن إلياس"، (٣) فولدت له"روبيل بن يعقوب"، (٤) وكان أكبر ولده، و"شمعون بن يعقوب"، و"لاوي بن يعقوب" و"يهوذا بن يعقوب" و"ريالون بن يعقوب"، (٥) و"يشجر بن يعقوب"، (٦) و"دينة بنت يعقوب"، ثم توفيت"ليا بنت ليان". (٧) فخلف يعقوب على أختها"راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس" (٨) فولدت له"يوسف بن يعقوب" و"بنيامين" -وهو بالعربية أسد- وولد له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما"زلفة"، واسم الأخرى"بلهية"، (٩) أربعة
(١) الأثر: ٢١٠٥- في الدر المنثور ١: ١٤٠. ولم أجد في ولد يعقوب"قهاث" وفي الدر المنثور"وتهان"، والظاهر أنهما جميعًا محرفان عن"نفتالى" أخبر"دان" من أمها"بلهية" جارية"راحيل"، كما سيأتي في الأثر التالي: ٢١٠٧، وكما هو في كتاب بني إسرائيل الذي بين أيدينا. هذا، وقد اقتصر الطبري هنا على ثمانية نفر من الأسباط. وزاد السيوطي في الدر المنثور تاسعًا -في روايته عن الطبري- قال"وكونوا - بالنون"، وليس في ولد يعقوب هذا الاسم، إلا أن يكون تصحيفًا صوابه"زبلون" كما هو في كتب القوم. انظر التعليق على الأثر التالي: ٢١٠٧.
(٢) الأثر: ٢١٠٧- لم أصحح هذه الأسماء، مع الاختلاف فيها، ولكني سأذكر مواضع الاختلاف على رسمها في كتاب بني إسرائيل الذي بين أيدينا، في التعليقات الآتية.
(٣) "ليئة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان.. "
(٤) (رأُوبين بن يعقُوبُ)
(٥) (زَبُولُون بن يعقوب)
(٦) (يسَّاكر بن يعقوب)
(٧) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان.. "
(٨) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان.. "
(٩) (بِلْهة)
112
نفر:"دان بن يعقوب"، و"نَفثالي بن يعقوب" و"جَاد بن يعقوب"، و"إشرب بن يعقوب" (١) فكان بنو يعقوب اثني عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا يعلم أنسابَهم إلا الله، يقول الله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا). [سورة الأعراف: ١٦٠]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنزل إليكم، وما أنزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم، فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك.
فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها، كما:-
٢١٠٨- حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" ونحو هذا، قال: أخبر الله سبحانه أنّ الإيمان هو العروة الوثقى، وَأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.
* * *
(١) (أشِير بن يَعْقُوب) وراجع في الجميع سفر التكوين إصحاح: ٢٩، ٣٠، ٣٥.
113
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءةٌ، جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافها، وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها. وذلك ما:-
٢١٠٩- حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: قال ابن عباس: لا تقولوا:"فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" -فإنه ليس لله مثل- ولكن قولوا:"فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا"- أو قال:"فإن آمنوا بما آمنتم به".
* * *
فكأن ابن عباس -في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه- يوجِّه تأويل قراءة من قرأ:"فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به"، فإن آمنوا بمثل الله، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله تعالى ذكرُه، فنؤمن أو نكفر به.
* * *
ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وَجّه إليه تأويله. وإنما معناه ما وصفنا، وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به -من جميع ما عددنا عليكم من كتُب الله وأنبيائه- فقد اهتدوا. فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء. كقول القائل:"مرّ عمرو بأخيك مثلَ ما مررتُ به"، يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مُروري به. والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين، لا بين عمرو وبين المتكلم. فكذلك قوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين، لا بين المؤمَنِ به.
* * *
114
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"وإن تَوَلَّوْا"، وإن تولى -هؤلاء الذين قالوا لمحمد ﷺ وأصحابه:"كونوا هودًا أو نصارَى"- فأعرضوا، (١) = فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ = فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم، كما:-
٢١١٠- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "وإنما هُم في شقاق"، أي: في فراق (٢)
٢١١١- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإنما هُمْ في شقاق"، يعني فراق.
٢١١٢- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"وإن توَلوا فإنما هم في شقاق" قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) [سورة النساء: ١١٥].
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الشقاق" عندنا، والله أعلم، مأخوذٌ من قول القائل:"شَقَّ عليه هذا الأمر"، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل:"شاقَّ فلانٌ فلانًا"، بمعنى: نال
(١) انظر معنى"تولى" فيما سلف، ٢: ١٦٢، ١٦٣ / ثم ٢٩٨، ٢٩٩.
(٢) الأثر: ٢١١٠- سقط من المطبوعة في إسناده: "عن سعيد"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به فيما سلف: ٢١٠٤.
115
كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء: ٣٥] بمعنى: فراقَ بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فسيكفيكهمُ الله"، فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لَكَ ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تهتدوا"، من اليهود والنصارى، إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورُسُله - إما بقتل السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو"السميع" لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضّالة -"العليمُ" بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده، فكفى نبيّه ﷺ بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار.
* * *
116
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره ب"الصبغة: صبغةَ الإسلام. وذلك أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية. (١)
فقال الله تعالى ذكره -إذ قالوا لنبيه محمد ﷺ وأصحابه المؤمنين به:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا"-: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه.
* * *
ونصب"الصبغة" من قرأها نصبًا على الردِّ على"الملة". وكذلك رَفع"الصبغة" من رَفع"الملة"، على ردّها عليها.
وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء، بمعنى: هي صبغةُ الله.
وقد يجوز نصبها على غير وجه الرّد على"الملة"، ولكن على قوله:"قولوا آمنا بالله" إلى قوله"ونحنُ له مسلمون"،"صبغةَ الله"، بمعنى: آمنا هذا الإيمان، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغةُ الله. (٢)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الصبغة" قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٢١١٣- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(١) انظر معاني القرآن ١: ٨٢-٨٣.
(٢) انظر معاني القرآن ١: ٨٢-٨٣.
117
"صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة" إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى، وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.
٢١١٤- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال عطاء:"صبغةَ الله" صبغت اليهودُ أبناءَهم خالفوا الفِطْرة.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"صبغة الله". فقال بعضهم: دينُ الله.
ذكر من قال ذلك:
٢١١٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"صبغة الله" قال: دينَ الله.
٢١١٦- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله،"ومن أحسن من الله صِبغةً"، ومن أحسنُ من الله دينًا.
٢١١٧- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع مثله.
٢١١٨- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
٢١١٩- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله.
٢١٢٠- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢١٢١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فُضَيل بن مرزوق، عن عطية قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.
118
٢١٢٢- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة"، يقول: دينَ الله، ومن أحسن من الله دينًا.
٢١٢٣- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.
٢١٢٤- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله:"صبغةَ الله" قال: دين الله.
٢١٢٥- حدثني ابن البرقي قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سألت ابن زيد عن قول الله:"صبغةَ الله"، فذكر مثله.
* * *
وقال أخرون:"صبغة الله" فطرَة الله. (١)
ذكر من قال ذلك:
٢١٢٦- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"صبغة الله" قال: فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها.
٢١٢٧- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن مجاهد:"ومن أحسنُ من الله صبغة" قال: الصبغة، الفطرةُ.
٢١٢٨- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "صبغةَ الله"، الإسلام، فطرةَ الله التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن كثير:"صبغةَ الله" قال: دين الله، ومن أحسنُ من الله دينًا. قال: هي فطرة الله.
* * *
(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٩.
119
ومن قال هذا القول، فوجَّه"الصبغة" إلى الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأنعام: ١٤]. بمعنى خالق السماوات والأرض (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: وقوله تعالى ذكره:"ونَحنُ له عَابدون"، أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه ﷺ أن يقوله لليهود والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه:"كونوا هودًا أو نَصارَى". فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بل نتبعُ ملة إبراهيم حنيفًا، صبغةَ الله، ونحنُ له عابدون. يعني: ملة الخاضعين لله المستكينين له، في اتّباعنا ملة إبراهيم، وَديْنُونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار برسالته رسلَه، كما استكبرت اليهودُ والنصارَى، فكفروا بمحمد ﷺ استكبارًا وبغيًا وحسدًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"قُلْ أتُحاجُّونَنا في الله"، قل يا محمد = لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا
(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٥٩.
120
أو نَصَارَى تَهتدوا"، وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبلَ كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم =:"أتحاجوننا في الله وهو رَبنا وربكم"، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ، والجزاءُ على الأعمال - الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أوْلى منا، من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربّكم وربّنا واحدٌ، وأنّ لكلّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازى [عليها] فيثابُ أو يعاقبُ، (١) - لا على الأنساب وقدمَ الدِّين والكتاب.
* * *
ويعني بقوله:"قُلْ أتحاجوننا"، قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ كما-
٢١٢٩- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قل أتحاجوننا في الله"، قل: أتخاصموننا؟
٢١٣٠- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"قل أتحاجُّونَنا"، أتخاصموننا؟
٢١٣١- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أتحاجوننا"، أتجادلوننا؟
* * *
فأما قوله:"ونحن له مُخلصون"، فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قولوا -أيها المؤمنون، لليهود
(١) في المطبوعة: "ويجازى فيثاب أو يعاقب". وكأن الصواب يقتضي حذف"الواو"، وزيادة: "عليها". وقوله: "لأعلى الأنساب" معطوف على قوله: "والجزاء على الأعمال".
121
والنصارى الذين قالوا لكم:"كونوا هودًا أو نصارى تَهتدوا"-:"أتحاجوننا في الله"؟ يعني بقوله:"في الله"، في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدينه به، وربنا وربكم واحدٌ عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي العبادَ عَلى ما اكتسبوا. وتزعمون أنّكم أولى بالله منا، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحنُ مُخلصون له العبادةَ، لم نشرك به شَيئًا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا، وأولى بالله منا؟ (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان. أحدهما:"أمْ تَقولون" ب"التاء". فمن قرأ كذلك، فتأويله: قل يا محمد -للقائلين لَك من اليهود والنصارى:"كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا"-: أتجادلوننا في الله، أم تقولون إن إبراهيم؟ فيكون ذلك معطوفًا على قوله:"أتحاجوننا في الله".
والوجه الآخر منهما:"أم يَقولون" ب"الياء". ومن قرأ ذلك كذلك وجّه قوله:"أم يقولون" إلى أنه استفهام مُستأنَف، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: ٣]، وكما يقال:"إنها لإبل أم شَاءٌ". (٢) وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا، لمجيء خبر مستأنف، كما يقال:"أتقوم أم يقوم أخوك؟ " فيصير قوله:"أم يقوم أخوك" خبرًا مستأنفًا لجملة ليست من الأول واستفهامًا
(١) في المطبوعة: "وأنى تكونوا خيرًا منا"، والصواب ما أثبت. "أنى" استفهام بمعنى: كيف.
(٢) انظر ما سلف في خبر"أم" ٢: ٤٩٢-٤٩٤، وهذا الجزء ٣: ٩٧.
122
مبتدأ. ولو كان نَسقًا على الاستفهام الأول، لكان خبرًا عن الأول، فقيل:"أتقوم أم تقعد؟ "
وقد زعم بعض أهل العربية أنّ ذلك، إذا قرئ كذلك ب"الياء"، فإن كان الذي بعد"أم" جملة تامة، فهو عطفٌ على الاستفهام الأول. لأن معنى الكلام: قيل: أيّ هذين الأمرين كائنٌ؟ هذا أم هذا؟
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القرَاءة عندنا في ذلك:"أم تقولون""بالتاء" دون"الياء" عطفًا على قوله:"قل أتحاجُّوننا"، بمعنى: أيّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله، فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا -وأمرنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا (١) - أمْ تزعمون أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم، فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم، (٢) لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه. وغير جائزة قراءة ذلك ب"الياء"، لشذوذها عن قراءة القراء.
* * *
وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيّه ﷺ على اليهود والنصارى، الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد -لهؤلاء اليهود والنصارى-: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان من الله تعالى ذكره، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا -على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يقتدى بهم.
(١) في المطبوعة: "أيضًا"، والصواب ما أثبت.
(٢) أخشى أن يكون الصواب"فيتضح للناس"، والذي في الأصل لا بأس به.
123
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُل لهم يا محمد - إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى - الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نصارى"، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى، فمن أظلمُ منهم؟ يقول: وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
٢١٣٢- فحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شَهادةً عندهُ من الله" قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما، إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد عَلم أنهم كاذبون.
٢١٣٣- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما: إنهم كانوا يهود أو نصارَى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة فيهم، إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين.
124
٢١٣٤- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني إسحاق، عن أبي الأشهب، عن الحسن أنه تلا هذه الآية:"أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل" إلى قوله:"قل أأنتم أعلمُ أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله"، قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شَهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلُّوها؟
٢١٣٥- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان.
* * *
وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارَى، (١) إن ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا هودًا أو نصارى، تبيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، (٢) كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ = لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم = وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية والنصرانية، (٣) قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين، فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه.
* * *
وقال آخرون: بل عَنى تعالى ذكره بقوله:"ومَنْ أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله"، اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد ﷺ ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم.
(١) في المطبوعة: "وأنه عنى تعالى ذكره... " والسياق مختل، فاستظهرت إصلاحه كما سترى في التعليق الآتي:
(٢) في المطبوعة"بين لأهل الشرك". والسياق يوجب ما أثبت.
(٣) سياق هذه الجملة من أول الفقرة: "وإنما عنى تعالى ذكره أن اليهود والنصارى، إن ادعوا أن إبراهيم... تبين لأهل الشرك... وإن نفوا عنهم اليهودية قيل لهم:... "، وبذلك يتبين أن الذي أثبتنا أحق بسياق الكلام.
125
ذكر من قال ذلك:
٢١٣٦- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أم تَقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصارَى"، أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
٢١٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ومَنْ أظلمُ ممن كتم شهادة عنده من الله" قال: الشهادةُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مكتوبٌ عندهم، وهو الذي كتموا.
٢١٣٨- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو حديث بشر بن معاذ، عن يزيد. (١)
٢١٣٩- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عند منَ الله" قال: هم يهودُ، يُسألون عن النبي ﷺ وعن صفته في كتاب الله عندهم، فيكتمون الصفة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القولَ الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن قوله تعالى ذكره:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، في إثر قصة من سمَّى الله من أنبيائه، وأمامَ قصته لهم. فأوْلى بالذي هو بَين ذلك أن يكون من قَصصهم دون غَيره.
* * *
فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ؟
(١) الأثر: ٢١٣٨- كان في المطبوعة"حدثني المثنى قال حدثني ابن أبي جعفر"، أسقط من الإسناد"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ١١٧.
126
قيل: الشهادةُ التي عندهم من الله في أمرهم، مأ أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرُهم فيها بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين. وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي الله ﷺ إلى الإسلام، فقالوا له: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [سورة البقرة: ١١١]، وقالوا له ولأصحابه:"كونوا هُودًا أوْ نصارى تَهتدوا"، فأنزلَ الله فيهم هذه الآيات، في تكذيبهم، وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقل -لهؤلاء اليهود والنصارَى، الذين يحاجُّونك يا محمد-:"وما اللهُ بغافل عما تعملون"، من كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر الإسلام، وأنهم كانُوا مسلمين، وأنّ الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به، دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل- ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك، (١) بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلا في الدنيا، بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مُجازيهم في الآخرة العذابَ المهين.
* * *
(١) انظر تفسير"غافل" فيما سلف ٢: ٢٤٣-٢٤٤ / ثم: ٣١٦.
127
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك أمة"، إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. كما:-
٢١٤٠- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى:"تلك أمة قَد خَلت"، يعني: إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ.
٢١٤١- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى أن"الأمة"، الجماعة (١).
* * *
فمعنى الآية إذًا: قلْ يا محمد = لهؤلاء الذين يُجادلونك في الله من اليهود والنصارى، إن كتموا ما عندَهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سَمَّينا مَعه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا أنهم كانوا هودًا أو نصارى، فكذبوا =: إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ أمَّةٌ قد خَلتْ -أي مضت لسبيلها (٢) - فصارت إلى ربها، وخَلتْ بأعمالها وآمالها، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر، لا ينفعها غيرُ صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيِّئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم، إنْ كان هؤلاء - (٣) وهم الذين
(١) انظر ما سلف ١: ٢٢١ ثم هذا الجزء ٣: ٧٤، ١٠٠ / ثم انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء ٣: ١٠١ والمراجع هناك.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٢١ ثم هذا الجزء ٣: ٧٤، ١٠٠ / ثم انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء ٣: ١٠١ والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: "هم الذين بهم... "، والصواب"وهم... ".
128
بهم تَفتخرون، وتزعمون أنّ بهم تَرجُون النجاةَ من عذاب ربكم، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا يَنفعهم عند الله غيرُ ما قدَّموا من صالح الأعمال، ولا يضرهم غير سيئها، فأنتم كذلك أحرَى أنْ لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال، (١) ولا يضرّكم غيرُ سَيئها. فاحذروا على أنفسكم، وبادروا خروجَها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفِرية على الله وعلى أنبيائه ورُسُله، ودَعُوا الاتكالَ على فَضَائل الآباء والأجداد، فإنما لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تُسألون عما كان إبراهيم وإسماعيلُ وإسحاقُ ويعقوبُ والأسباط يَعملون من الأعمال، لأن كل نفس قَدِمت على الله يوم القيامة، فإنما تُسأل عما كسبت وأسلفت، دون ما أسلفَ غيرُها.
* * *
(١) سياق هذه العبارة: "إن كان هؤلاء... لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا... فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم غير صالح الأعمال... ".
129
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيقول السفهاء"، سيقول الجهال"منَ الناس"، وهم اليهود وأهل النفاق.
وإنما سماهم الله عز وجل"سُفهاء"، لأنهم سَفِهوا الحق. (١) فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا.
* * *
وبما قلنا في"السفهاء" -أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل.
ذكر من قال: هم اليهود:
(١) سفه الحق: جهله. وانظر ما سلف في معنى"السفه" ١: ٢٩٣-٢٩٤ / ثم هذا الجزء ٣: ٩٠.
129
٢١٤٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم" قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس.
٢١٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢١٤٤- حدثت عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن البَراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. (١)
٢١٤٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود.
٢١٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله:"سيقول السفهاء من الناس" قال، أهل الكتاب
٢١٤٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: اليهودُ.
* * *
وقال آخرون:"السفهاء"، المنافقون.
* ذكر من قال ذلك.
٢١٤٨- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزلت"سَيقول السفهاء من الناس"، في المنافقين.
* * *
(١) الأثر: ٢١٤٤- هذا إسناد ليس بذاك، فإن الطبري رواه عن شخص مبهم، عن أحمد بن يونس، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي. وهو ثقة، أخرج له الجماعة، وقد ينسب إلى جده. ولد سنة ١٣٣، أو ١٣٤، ومات سنة ٢٢٧. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٦، والصغير، ص: ٢٣٩، وابن أبي حاتم ١/١/٥٧. وابن سعد ٦: ٢٨٣. زهير: هو ابن معاوية أبو خيثمة الكوفي. ثقة ثبت معروف. وأبو إسحاق: هو السبيعي، عمرو بن عبد الله. التابعي الكبير المشهور، البراء: هو ابن عازب الصحابي.
130
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ما ولاهم": أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل:"ولاني فلان دُبُره"، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله:"ما ولاهم"؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟ (١)
* * *
وأما قوله:"عن قبلتهم"، فإن"قبلة" كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي"فِعْلة" بمنزلة"الجلسة والقِعْدة"، (٢) من قول القائل."قابلت فلانًا"، إذا صرتُ قُبالته أقابله، فهو لي"قبلة" وأنا له"قبلة"، إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا -إذْ كان ذلك معناه (٣) -: سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله، - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام -: أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟
فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم:"لله المشرقُ والمغرب يَهدي مَنْ يَشاء إلى صرَاط مستقيم".
* * *
(١) انظر ما سلف في معنى"ولي" ٢: ١٦٢، وهذا الجزء ٣: ١١٥.
(٢) انظر ما قال من ذلك في"الحكمة" في هذا الجزء ٣: ٨٧.
(٣) في المطبوعة: "إذ كان معناه" بإسقاط"ذلك"، ولا يقوم الكلام إلا بها.
131
وكان سببُ ذلك أنّ النبي ﷺ صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة ﷺ إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه، وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب.
* * *
ذكر المدة التي صلاها رسول الله ﷺ وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟
اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:-
٢١٤٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة -شكّ محمد-، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة -وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله ﷺ المدينةَ- أتى رسولَ الله ﷺ رفاعةُ بنُ قيس، وقَرْدَم بن عمرو، وكعبُ بن الأشرف، ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع (١) - والحجاج بن عمرو = حليفُ كعب بن الأشرف = والربيعُ بن الربيعُ بن [أبي] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، (٢) فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ١١١ تعليق: ١.
(٢) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. وفيها: "وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق".
132
الله فيهم:"سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"إلا لنعلمَ مَنْ يَتَّبع الرسول ممن يَنقلبُ عَلى عَقبَيْه". (١)
٢١٥٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال البراء: صلّى رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا، وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم، فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي ﷺ قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت. (٢)
٢١٥١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي ﷺ المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس. (٣)
٢١٥٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي ﷺ نحو
(١) الأثر: ٢١٤٩- نص ما في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٨-١٩٩.
(٢) الحديث: ٢١٥٠- أبو بكر بن عياش: ثقة معروف، إلا أنهم أخذوا عليه بعض الأخطاء، لأنه لما كبر ساء حفظه وتغير. وهو هنا يروى الحديث -منقطعًا- عن البراء، لأنه لم يدركه. وقد سأله بعض سامعيه، كما حكى أبو كريب في آخر الحديث: "فيه: أبو إسحاق"؟ يريد السائل أن يستوثق منه: أسمعه من أبي إسحاق السبيعي عن البراء؟ فسكت ولم يجبه. ولو كان هذا وحده كان الحديث ضعيفًا. ولكنه ثابت من رواية أبي إسحاق السبيعي عن البراء، في الأسانيد الثلاثة التالية -وأولها من رواية ابن عياش نفسه- ومن مصادر الحديث الأخر، كما سيأتي.
(٣) الحديث: ٢١٥١- هذا إسناد ضعيف، لضعف سفيان بن وكيع - شيخ الطبري. ولكنه يتقوى بالروايات الآتية وغيرها.
وقد رواه ابن ماجه: ١٠١٠، عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، مطولا. وذكر فيه أن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت"ثمانية عشر شهرًا". وعلقمة بن عمرو الدارمي: ثقة. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "حديث البراء صحيح، ورجاله ثقات".
133
بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا -شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة. (١)
٢١٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء: أنّ رسول الله ﷺ كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نزلَ على أجداده -أو أخواله- من الأنصار، وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب، فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك. (٢)
٢١٥٤- حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله ﷺ نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا، ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين. (٣)
* * *
(١) الحديث: ٢١٥٢- هذا إسناد صحيح جدًا. يحيى: هو ابن سعيد القطان. سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر. وهكذا رواه البخاري ٨: ١٣٢ (فتح الباري) ومسلم ١: ١٤٨ - كلاهما من طريق يحيى، عن سفيان، به، مختصرًا.
(٢) الحديث: ٢١٥٣- وهذه رواية مفصلة. والإسناد صحيح جدًا. رواه الإمام أحمد في المسند ٤: ٢٨٣ (حلبي)، عن حسن بن موسى، عن زهير وهو ابن معاوية. بهذا الإسناد نحوه. بأطول منه. ورواه ابن سعد في الطبقات ١/٢/٥، عن الحسن بن موسى، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري ١: ٨٩-٩٠، عن عمرو بن خالد، عن زهير، به. ورواه أيضًا ٨: ١٣٠، عن أبي نعيم، عن زهير، مختصرًا قليلا.
ورواه أيضًا البخاري ١: ٤٢١-٤٢٢، و ١٣: ٢٠٢. ومسلم ١: ١٤٨، من أوجه، عن البراء بن عازب.
وسيأتي باقيه بهذا الإسناد: ٢٢٢٢.
(٣) الحديث: ٢١٥٤- عمران بن موسى بن حيان القزاز الليثي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٠٥-٣٠٦.
عبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، أحد الأعلام، يحيى بن سعيد: هو الأنصاري البخاري ثقة حجة، من شيوخ الزهري ومالك والثوري وغيرهم.
ابن المسيب: هو سعيد بن المسيب الإمام التابعي الكبير، ووقع في المطبوعة"المسيب"، بحذف"ابن"! وهو خطأ واضح من الناسخين.
وهذا الحديث مرسل، كما هو مبين، وكذلك رواه مالك في الموطأ، ص ١٩٦، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا. وكذلك رواه الشافعي عن مالك، في الرسالة، بتحقيقنا، رقم ٣٦٦. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات ١/٢/٤، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد.
وقد وصله العطاردي. من حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه البيهقي في السنن الكبرى ٢: ٣، من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي: "حدثنا محمد بين الفضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال، سمعت سعدًا يقول... ". فذكر الحديث. ثم قال البيهقي: "هكذا رواه العطاردي عن ابن فضيل. ورواه مالك، والثوري، وحماد بن زيد - عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، مرسلا دون ذكر سعد".
وهذا إسناد جيد، يصلح متابعة جيدة للرواية المرسلة. فإن"أحمد بن عبد الجبار العطاردي": قد مضى في: ٦٦ أن أبا حاتم قال فيه: "ليس بقوي". ولكن المتأمل في ترجمته في التهذيب ١: ٥١-٥٢، وتاريخ بغداد ٤: ٢٦٢-٢٦٥ - يرى أن توثيقه أرجح، وأن الكلام فيه لم يكن عن بينة. ولذلك قال الخطيب: "كان أبو كريب من الشيوخ الكبار، الصادقين الأبرار وأبو عبيدة السري ابن يحيى شيخ جليل أيضًا ثقة، من طبقة العطاردي. وقد شهد له أحدهما بالسماع، والآخر بالعدالة. وذلك يفيد حسن حالته، وجواز روايته. إذ لم يثبت لغيرهما قول يوجب إسقاط حديثه، واطراح خبره". وهذا كاف في قبول زيادته في هذا الحديث، بوصله من رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص.
134
وقال آخرون بما:-
٢١٥٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله ﷺ نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس، انصرف بوَجْهه إلى الكعبة، فقال السفهاء:"ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها". (١)
* * *
(١) الحديث: ٢١٥٥- عمرو بن علي: هو الفلاس، مضت ترجمته: ١٩٨٩.
أبو عاصم: هو النيل، واسمه"الضحاك بن مخلد"، وهو فقيه ثقة حافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٣٣٧، والصغير: ٢٣١، وابن سعد ٧/٢/٤٩، وابن أبي حاتم٢/١/٤٦٣، والجمع بين رجال الصحيحين ٢٢٨-٢٢٩. وكان نبيلا حقًا، صفة ولقبًا. قال البخاري في الكبير: "سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها". ولد سنة ١٢٢، ومات سنة ٢١٢ وهو ابن ٩٠ سنة و ٤ أشهر ولدته أمه وعمرها ١٢ سنة. رحمهما الله.
عثمان بن سعد التميمي الكاتب المعلم: ثقة، وثقه أبو نعيم، والحاكم وغيرهما، وتكلم فيه بعضهم بغير حجة، ونقل بعضهم عن النسائي أنه قال: "ليس بثقة"، ونقل الحافظ أنه رأى بخط ابن عبد الهادي: "الصواب في قول النسائي: أنه ليس بالقوي". وهذا هو الصواب عن النسائي، وهو الذي في كتاب الضعفاء له، ص: ٢٢. وترجمه ابن أبي حاتم ٣/١/١٥٣، وقال: "سمع أنس بن مالك". وسماعه من أنس ثابت عندنا في حديث آخر في المسند: ١٣٢٠١.
فهذا الإسناد -عندنا- صحيح. والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٣، ونسبه البزار وابن جرير. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢: ١٣، وقال: "رواه البزار، وفيه عثمان بن سعد، ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابو نعيم الحافظ، وقال أبو حاتم: شيخ". وقال الهيثمي أيضًا: "حديث أنس في الصحيح، إلا أنه جعل ذلك في صلاة الصبح، وهنا: الظهر". يشير بذلك إلى أن أصله في الصحيح، وهو الحديث في صحيح مسلم ١: ١٤٨، من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، بنحوه، وفيه: "فمر رجل من بني سلمة، وهم ركوع في صلاة الفجر، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت! فمالوا كما هم نحو القبلة". وكذلك رواه ابن سعد ١/٢/٤، من طريق حماد بن سلمة. ومن الواضح أن هذه قصة غير التي رواها الطبري هنا. فإن الذي هنا أن رسول الله ﷺ هو الذي انصرف بوجهه إلى الكعبة. فهذا أول تحويل القبلة. وأما رواية مسلم فتلك بشأن جماعة آخرين، في مسجد قباء، جاءهم مخبر فأخبرهم وهم في الصلاة بتحويل القبلة، فاستداروا إليها. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر. وهو في المسند: ٤٦٤٢، ٤٧٩٤، ٥٩٣٤، ٥٨٢٧.
135
وقال آخرون بما:-
٢١٥٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله ﷺ قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا. (١)
(١) الحديث: ٢١٥٦- أبو داود: هو الطيالسي الإمام الحافظ، واسمه: "سليمان بن داود بن الجارود". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١١، وابن سعد ٧/٢/٥١، وابن أبي حاتم ٢/١/١١١-١١٣، مات سنة ٢٠٣ عن ٩٢ سنة لم يستكملها، كما قال ابن سعد.
المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد لله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، تغير حفظه في آخر عمره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٥٠-٢٥٢. وترجمنا له في شرح المسند مرارًا، آخرها في الحديث: ٧١٠٥.
ابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن، التابعي المشهور. ولكنه لم يسمع من معاذ بن جبل، كما جزم بذلك علي بن المديني والترمذي وابن خزيمة، لأنه ولد سنة وفاة معاذ أو قبلها أو بعدها بقليل.
فهذا الإسناد منقطع.
والحديث بهذا الإسناد، مختصرًا، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ٥٦٦، بلفظ: "أن النبي ﷺ قدم المدينة، فصلى سبعة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم نزلت عليه هذه الآية: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، إلى آخر الآية قال، فوجهه الله إلى الكعبة".
وهو جزء من حديث طويل، رواه أبو داود السجستاني في سننه: ٥٠٧، بإسنادين: عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- عن أبي داود، وهو الطيالسي - ثم رواه عن نصر بن المهاجر، عن يزيد بن هارون، كلاهما عن المسعودي. ولكن بين أبو داود أن رواية محمد بن المثنى مختصرة، كالرواية التي في مسند الطيالسي، ولكن ذكر أن صلاتهم نحو بيت المقدس كانت"ثلاثة عشر شهرًا"، كرواية الطبري هنا عن ابن المثنى. وأنا أرجح أن تكون رواية ابن المثنى عن الطيالسي. أرجح من الرواية التي في مسند الطيالسي، إذ أنه ليس من جمعه، بل هو من جمع أحد الرواة عنه.
ثم إن حديث معاذ -بطوله- رواه أحمد في المسند ٥: ٢٤٦-٢٤٧، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، بهذا الإسناد. ولكن فيه"سبعة عشر شهرًا"، كرواية مسند الطيالسي.
وقد أشار الحافظ في الفتح ١: ٨٩-٩٠ إلى كثير من الروايات في ذلك، وحاول الجمع بينهما أو الترجيح. وعندي أن مثل هذا لا يستطاع ضبطه إلا أن يكتبوه في حينه، أو تتجه همّتهم إلى العناية بحفظه.
وقال الحافظ ابن كثير ١: ٣٤٥-٣٤٦: "والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس، بعد مقدمه ﷺ المدينة. واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة. التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام. فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق". وانظر أيضًا تاريخ ابن كثير ٣: ٢٥٢-٢٥٤.
136
٢١٥٧- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي ﷺ بثلاث حجج، وأن النبي ﷺ صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد.
* * *
ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة.
* * *
اختلف أهلُ العلم في ذلك.
فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم
ذكرُ من قال ذلك:
137
٢١٥٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن عكرمة -وعن يزيد النحويّ، عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي ﷺ كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ، فاستقبلها النبيّ ﷺ سبعةَ عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: ١١٥].
٢١٥٩- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها"، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية: إنّ نبيّ الله ﷺ خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب، فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا، وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام.
* * *
وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك -من النبيّ ﷺ وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢١٦٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله ﷺ إلى المدينة، وكان [أكثرَ] أهلها اليهودُ، أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله ﷺ بضْعة عَشر شَهرًا، فكان رسول الله ﷺ يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
138
السَّمَاءِ) [سورة البقرة: ١٤٤] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا:"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ فأنزل الله عز وجل:"قُلْ لله المشرق والمغرب". (١)
٢١٦١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله ﷺ أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة، ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة.
* * *
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟
* * *
اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:-
٢١٦٢- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه. (٢)
والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل. (٣)
* * *
٢١٦٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها"؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي ﷺ المدينةَ وصلى نبي الله ﷺ بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت
(١) الأثر: ٢١٦٠- مضى برقم: ١٨٣٣ ويأتي برقم: ٢٢٣٦، والزيادة بين القوسين من الموضعين.
(٢) الأثر: ٢١٦٢- هو بعض الأثر السالف رقم: ٢١٤٩.
(٣) يعني الأثر رقم: ٢١٦٠.
139
المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس:"ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل:"قلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم".
* * *
وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
٢١٦٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما وُجِّه النبيُّ ﷺ قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنزل الله في المنافقين:"سَيقول السفهاءُ من الناس"، الآية كلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد -لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها، إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟ -: لله مُلك المشرق والمغرب = يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس، وقُطرَيْ مغربها، وما بينهما من العالم (١) = يَهدي من يشاء من خلقه، (٢) فيُسدده، ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو"الصراط
(١) انظر تفسير"المشرق والمغرب" فيما سلف ٢: ٥٢٦-٥٣٠.
(٢) انظر تفسير"هدى" فيما سلف١: ١٦٦- ١٦٩، وفي فهرس اللغة في الجزء الأول والثاني.
140
المستقيم" (١) -ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق.
* * *
وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله:"يَهدي من يَشاء إلى صراط مُستقيم"، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم -أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وسطًا"، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.
* * *
وقد بينا أن"الأمة"، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم. (٢)
* * *
وأما"الوسَط"، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه:"فلان وَسَطُ الحسب في قومه"، (٣) أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه، و"هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ"، (٤)
كما يقال:"شاة يابِسةُ اللبن ويَبَسةُ اللبن"، وكما قال جل ثناؤه:
(١) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف ١: ١٧٠-١٧٧.
(٢) انظر ما سلف١: ٢٢١ / ثم هذا الجزء ٣: ٧٤، ١٠٠، ١٢٨.
(٣) يقولون أيضًا: "هو وسيط الحسب في قومه"، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعم مجدًا.
(٤) شاهد قولهم"واسط" من شعرهم، قول جابر بن ثعلب الطائي:
141
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) [سورة طه: ٧٧]، وقال زُهير بن أبي سُلمى في"الوسط":
وَمَنْ يَفْتَقِرْ فِي قَوْمِهِ يَحْمَدِ الغِنَى وَإنْ كَانَ فِيهِمْ وَاسِطَ العَمِّ مُخْوِلَا
هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ إذَا نزلَتْ إحْدَى الليَالِي بِمُعْظَمِ (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأنا أرى أن"الوسط" في هذا الموضع، هو"الوسط" الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين، مثل"وسَط الدار" محرَّك الوَسط مثقَّله، غيرَ جائز في"سينه" التخفيف.
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم"وسَط"، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها.
* * *
وأما التأويل، فإنه جاء بأن"الوسط" العدلُ. وذلك معنى الخيار، لأن الخيارَ من الناس عُدولهم.
ذكر من قال:"الوسطُ" العدلُ.
٢١٦٥- حدثنا سَلْم بن جُنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله
(١) كأنه من قصيدته المعلقة، ديوانه ٢: ٢٧، ولكن رواية صدر البيت في الديوان: لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ النَّاسَ أَمْرُهُمْ
ولم أجد هذه الرواية فيما طبع من روايات ديوانه. ولكن البيت بهذه الرواية أنشده الجاحظ في البيان ٣: ٢٢٥ غير منسوب. وهو منسوب إلى زهير في أساس البلاغة"وسط". ورواية الديوان، والجاحظ: "إذا طرقت إحدى الليالي". وهما سواء.
142
عليه وسلم في قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" قال، عُدولا. (١)
٢١٦٦- حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا حدثنا جعفر بن عون، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ مثله.
٢١٦٧- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري:"وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا" قال،"عدولا.
٢١٦٨- حدثني علي بن عيسى قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن حفص بن غياث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ في قوله:"جعلناكم أمَّة وسطًا" قال، عدولا. (٢)
(١) الحديث: ٢١٦٥- سلم بن جنادة، شيخ الطبري، مضت ترجمته في: ٤٨، وكثرت رواية الطبري عنه، وهو أبو السائب. وفي المطبوعة هنا"سالم"، وهو خطأ تكرر فيها. ولا حاجة بنا إلى التنبيه عليه بعد ذلك.
يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى: ٢٣٧.
وهذا الإسناد والإسنادان بعده، لحديث واحد، مختصر من حديث سيأتي: ٢١٧٩.
ورواه مختصرًا أيضًا، أحمد في المسند: ١١٠٨٤، عن أبي معاوية، عن الأعمش، به. ورواه بنحوه أيضًا: ١١٢٩١، عن وكيع، عن الأعمش. (المسند ٣: ٩، ٣٢ حلبي). ونقله ابن كثير ١: ٣٤٨، عن المسند. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣١٦، وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
وقد وهم صاحب الزوائد في إدخاله فيها، لأنه مختصر من الحديث المطول الآتي، وقد أخرجه البخاري وغيره، فليس من الزوائد.
وهذه الروايات المختصرة عند الطبري - أشار إليها الحافظ في الفتح ٨: ١٣١، أثناء شرحه الرواية المطولة.
وكل الروايات التي رأينا، فيها"عدلا" بدل"عدولا". ولعل ما هنا من تحريف الناسخين، لأن الأجود صيغة الإفراد. على الوصف بالمصدر، يستوي فيه المذكر والمؤنث والمثنى والجمع. وفي اللسان: "فإن رأيته مجموعًا أو مثنى أو مؤنثًا - فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذي ليس بمصدر". والذي نقله الحافظ في الفتح، والسيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٤ - بلفظ"عدلا" أيضًا بل عبارة أبي جعفر نفسه، قبل هذا الحديث تدل على ذلك، إذ قال: "ذكر من قال: الوسط العدل".
(٢) الحديث: ٢١٦٨- علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي: ثقة، من شيوخ الترمذي وابن خزيمة، مترجم في التهذيب، بغداد ١٢: ١٢-١٣. قال الخطيب: "وما علمت من حاله إلا خيرًا". مات سنة ٢٤٧.
سعيد بن سليمان: هو أبو عثمان الواسطي البزاز، لقبه"سعدويه"، سبق توثيقه في شرح: ٦١١. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٤٠ وابن سعد ٧/٢/٨١، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٦، وتاريخ بغداد ٩: ٨٤-٨٧. مات سنة ٢٢٥، وله ١٠٠ سنة.
حفص بن غياث: مضى في: ١٠٣٧، ولكن روايته هنا عن أبي صالح ذكوان السمان، منقطعة يقينًا، فإن أبا صالح مات سنة ١٠١، وحفص ولد سنة ١١٧. وإنما يروي عن الأعمش وطبقته، عن أبي صالح، كما في الإسناد الماضي: ٢١٦٥.
ولعله سقط من نسخة الطبري في هذا الموضع بينهما: "عن الأعمش" - فيستقيم الإسناد، ويكون صحيححًا. ولم أستطع الجزم بشيء في ذلك، لأني لم أجد حديث أبي هريرة هذا في كتاب آخر ذي إسناد. وإنما ذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٤، ونسبه الطبري وحده.
وقد يرجح سقوط"الأعمش" من الإسناد في هذا الموضع: أن الحافظ حين أشار في الفتح ٨: ١٣١- إلى روايات الطبري المختصرة لحديث أبي سعيد، السابق، ذكر منها أن الطبري رواه"من طريق وكيع عن الأعمش، بلفظ: والوسط العدل، مختصر مرفوعا. ومن طريق أبي معاوية عن الأعمش، مثله". فهذان إسنادان لحديث أبي سعيد، نقلهما الحافظ ابن حجر - وهو من هو، دقة وتحريًا - عن هذا الموضع من الطبري، وليسا في النسخة بين أيدينا. فلا يبعد أن يكون في هذا الإسناد أيضًا نقص قوله"عن الأعمش" بين حفص بن غياث وأبي صالح.
143
٢١٦٩- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال، عدولا.
* * *
٢١٧٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال، عدولا.
٢١٧١- حدثنا المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢١٧٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أمة وسَطًا" قال، عُدولا.
٢١٧٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا.
٢١٧٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا.
144
٢١٧٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكذلك جعلناكم أمة وَسَطًا"، يقول: جعلكم أمةً عُدولا.
٢١٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن رِشْد بن سعد قال، أخبرنا ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا" قال، الوسطُ العدل. (١)
٢١٧٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير:"أمة وَسَطًا"، قالوا: عُدولا. قال مجاهد: عَدْلا. (٢)
٢١٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وكذلك جَعلناكم أمهً وسطًا" قال، هم وَسَطٌ بين النبي ﷺ وبين الأمم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾
قال أبو جعفر:"والشهداء" جمع"شَهيد". (٣)
فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا عُدولا [لتكونوا]
(١) الحديث: ٢١٧٦- هو قطعة من حديث مطول، سيأتي: ٢١٩٥. و"رشدين بن سعد" ثبت في المطبوعة هنا"راشد بن سعد". وهو خطأ، كما سنبين هناك إن شاء الله.
(٢) في المطبوعة: "وقال مجاهد: عدولا"، وكأن الصواب ما أثبت، وإلا كان كلاما زائدا، لا معنى له.
(٣) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف ١: ٣٧٦-٣٧٨ / وهذا الجزء ٣: ٩٧.
145
شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أممها بالبلاغ، (١) أنها قد بلغت ما أُمرَت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكونَ رسولي محمدٌ ﷺ شهيدًا عليكم، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي، كما:-
٢١٧٩- حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ ما أرسِلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقول: ما جاءنا ممن نذير! فيقال له: من يعلم ذاك؟ فيقول: محد وأمته. فهو قوله:"وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". (٢)
٢١٨٠- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه - إلا أنه زاد فيه: فيُدعون ويَشهدون أنه قد بلَّغ.
٢١٨١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد:"وكذلك جعلناكم أمة وسَطًا لتكونوا شُهداءَ عَلى الناس" -بأن الرسل قد بلَّغوا-"ويكونَ الرسول عليكم
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، بدلالة الآية، ودلالة ما سيأتي من قوله: "ويكون رسولي".
(٢) الحديث: ٢١٧٩- هو والإسنادان بعده، لحديث واحد، مضى بعضه بهذه الأسانيد: ٢١٦٥-٢١٦٧، إلا أن هناك زيادة شيخين للطبري في الإسنادين الأولين منا.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بنحوه: ١١٣٠، عن وكيع عن الأعمش، و ١١٥٧٩، عن أبي معاوية عن الأعمش. (٣: ٣٢، ٥٨ حلبي).
ورواه البخاري ٦: ٢٦٤، من طريق عبد الواحد بن زياد، و ٨: ١٣٠-١٣١، من طريق جرير وأبي أسامة، و ١٣: ٢٦٦، من طريق أبي أسامة وجعفر بن عون - كلهم عن الأعمش، بهذا الإسناد نحوه.
ونقله ابن كثير في التفسير ١: ٣٤٧-٣٤٨، من روايتي الإمام أحمد، وقال: "رواه البخاري والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طرق، عن الأعمش".
ونسبه السيوطي ١: ١٤٤ لهؤلاء ولغيرهم.
146
شهيدًا". بما عملتم، أو فعلتم.
٢١٨٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس: أن مُكاتبًا لهم حَدّثهم عن جابر بن عبد الله: أن النبي ﷺ قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة، (١) ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال:"ويكونَ الرسول عليكم شَهيدًا". (٢)
(١) في حديث كعب بن مالك: "فتخلفنا أيتها الثلاثة" - يريد تخلفهم عن غزوة تبوك، وتأخر توبتهم. وهذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب. تقول: "ما أنا فأفعل كذا أيها الرجل"، يعني نفسه. فمعنى قول كعب: "أيتها الثلاثة"، أي المخصوصين بالتخلف. (لسان العرب، مادة: أيا).
(٢) الحديث: ٢١٨٢- هذا إسناد ضعيف، لجهالة التابعي الذي رواه عن جابر، وفي اسم الراوي عن التابعي بحث يحتاج إلى تحقيق.
ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان، مضى: ١٨٤٠. أبو مالك الأشجعي: هو سعد بن طارق بن أشيم، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير ٢/٢/٥٩، وابن أبي حاتم ٢/١/٨٦-٨٧.
المغيرة بن عتيبة بن النهاس: ثبت في الطبري هنا"عيينة"، بدل"عتيبة". ولم يترجم في التهذيب ولا ذيوله. وترجمه ابن أبي حاتم ٤/١/٢٢٧ هكذا: "مغيرة بن عتيبة بن نهاس العجلي. وكان قاضيًا لأهل الكوفة. روى عن سعيد بن جبير، وموسى بن طلحة، وعن مكتب عن جابر"، إلخ، وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٣٢٢-٣٢٣ هكذا: "مغيرة بن عيينة بن عابس. قال ابن المبارك: ابن النحاس، عن... وعن مكتب بن جابر... ".
وحقق العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني، مصحح الكتابين - ترجيح ما يفي كتاب ابن أبي حاتم، لموافقته ما ثبت في الثقات لابن حبان، والإكمال لابن ماكولا. وهو الصحيح. وللمغيرة هذا روايات كثيرة في تاريخ الطبري، وثبت اسم أبيه في كثير منها على الصواب، وذكر اسمه ونسبه كاملا هناك ٤: ٨١"المغيرة بن عتيبة بن النهاس العجلي".
وأما قوله هنا"أن مكاتبًا لهم حدثهم عن جابر" - فيفهم منه أن التابعي المبهم الراوي عن جابر، هو من موالي آل المغيرة الراوي عنه، وأنه مكاتب لهم. ولكن الذي في كتابي البخاري وابن أبي حاتم - كما ترى: "وعن مكتب عن جابر". فقال العلامة عبد الرحمن في تعليقه على ابن أبي حاتم: " أراه سعيد بن زياد المكتب" ولكنه قبل ذلك في تعليقه على التاريخ الكبير، ذكر ذلك احتمالا فقط، بل كاد يرده بأن"سعيد بن زياد المكتب مولى زياد المكتب مولى بني زهرة" ترجمه البخاري - يعني في ٢/١/٤٣٣"ولكن لم يذكر روايته عن جابر ولا غيره من الصحابة". وهو كما قال، وكذلك ترجمه في التهذيب وغيره. فلذلك أنا أستبعد جدًا أن يكون هو المراد بقول البخاري وابن أبي حاتم في شيوخ المغيرة"عن مكتب عن جابر". بل أكاد أرجح ما هنا في الطبري: أنه عن"مكاتب"، وأن يكون ذكر في بعض الروايات هكذا، ولعل بعض الناسخين القدماء نقلها حين نسخها محذوفة الألف.
ولم أجد هذا الحديث في كتاب آخر ذي إسناد، حتى أستطيع أن أتجاوز هذا الحد في التحقيق. ولكن ذكره السيوطي ١: ١١٤ -دون إسناد طبعًا- ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، فقط.
وذكره ابن كثير ١: ٣٤٨، نقلا عن ابن مردويه وابن أبي حاتم، من طريق عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، بهذا الإسناد. وفيه"عن مغيرة بن عتيبة بن نياس"! وهو غلط واضح.
147
٢١٨٣- حدثني عصام بن روَّاد بن الجرّاح العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي الفضل، عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع النبي ﷺ في جنازة، فلما صلى على الميت قال الناس: نِعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت! ثم خرجت مَعه في جنازة أخرى، فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت. فقام إليه أبيّ بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولك وجبت؟ قال:" قول الله عز وجل:"لتكونوا شُهداء على الناس". (١)
٢١٨٤- حدثني عليّ بن سَهل الرملي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،
(١) ٢١٨٣- عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/٢٦، وقال: "روى عنه أبي، وكتبت أنا عنه"، ثم قال: "سئل أبي عنه؟ فقال: صدوق". وفي لسان الميزان: "لينه الحاكم أبو أحمد. وذكره ابن حبان في الثقات".
أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته: ١٢٦. ونزيد هنا: مترجم أيضًا في ميزان الاعتدال. ومجموع الكلام فيه يؤيد ضعفه. وقد روى له الطبري - فيما يأتي (٢٢: ٧٢-٧٣) حديثًا مكذوبًا لا أصل له. وروى ما يدل على أن هذا الشيخ أدخل عليه ذلك الحديث، فلئن كان ذاك إن فيه لغفلة شديدة ما يجوز معها أن يقبل شيء من روايته. أما هذا الحديث -الذي هنا- فإنه لم ينفرد بروايته، كما سيجيء في الإسناد التالي لهذا.
وقد وقع المطبوعة هنا"عصام بن وراد" بتقديم الواو على الراء؛ وهو خطأ ظاهر. عبد الله بن أبي الفضل المديني: ترجمه ابن أبي حاتم ٢/٢/١٣٧، وروى عن أبيه قال: "لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير، ولا نعرفه". وعن ذلك قال الذهبي في الميزان: "مجهول". وقال الحافظ في لسان الميزان: "ذكره ابن حبان في الثقات". وهذا - عندنا كاف في الاحتجاج بحديثه، إذ هو تابعي عرف شخصه، ووثقه ابن حبان. والتابعون -عندنا- على القبول، حتى يثبت في أحدهم جرح مقبول.
ووقع هنا في المطبوعة"عبد الله بن الفضل" بحذف كلمة"أبي"، وهو خطأ. وثبت على الصواب في الإسناد بعده.
148
حدثني أبو عمرو، عن يحيى قال، حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال، حدثني أبو هريرة قال: أُتي رَسول الله ﷺ بجنازة، فقال الناس: نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصَام عن أبيه. (١)
٢١٨٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: كنا مع النبي ﷺ فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها بثناء حَسن، فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى، فأثنِيَ عليها دون ذلك، فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) الآية [سورة التوبة: ١٠٥]. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٢١٨٤- هو إسناد آخر للحديث السابق. علي بن سهيل الرملي: مضى: ١٣٨٤. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشأم: ثقة متقن صحيح العلم صحيح الحديث، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما، مات سنة ١٩٥. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٥٢-١٥٣، وابن سعد ٧/٢/١٧٣، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٦-١٧، وروى عن مروان بن محمد قال، "كان الوليد بن مسلم عالمًا بحديث الأوزاعي".
وشيخه في هذا الإسناد"أبو عمرو"-: هو الأوزاعي.
والحديث -من هذا الوجه- صحيح، وذكره السيوطي، ١: ١٤٥، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.
وأصله ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: ٧٥٤٣. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، كما بينا هنا. ولكن لم يذكر فيه سؤال أبي بن كعب، ولا الاستشهاد بالآية. وفي مجمع الزوائد ٣: ٤ رواية أخرى له مطولة، وفيها أن السائل هو عمر. وذكر أنه"رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح".
(٢) الحديث: ٢١٨٥- وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.
زيد بن الحباب -بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحدة- العكلي: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما من الأئمة، وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٣٥٨، وابن سعد ٦: ٢٨١، وابن أبي حاتم ١/٢/٥٦١-٥٦٢.
عكرمة بن عمار العجلي: ثقة، روى عنه شعبة والثوري ووكيع وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤/١/٥٠، وابن سعد ٥: ٤٠٤، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٠-١١.
إياس بن سلمة بن الأكوع: تابعي ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو قد سمع من أبيه الصحابي، وروى له الشيخان وغيرهما أحاديث من روايته عنه. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/١/٤٣٩، وابن سعد ٥: ١٨٤، وابن أبي حاتم ١/١/٢٧٩-٢٨٠. ورجال الصحيحين، ص: ٤٧.
والحديث ذكره السيوطي ١: ١٤٥، باختصار في آخره. ونسبه لابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير والطبراني. ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٤-٥، عن إسنادين للطبراني في الكبير، في كل منهما رجل ضعيف. فيستفاد تصحح الحديث بهذا الإسناد الصحيح عند ابن جرير. وفي المطبوعة: "فما شهدتم عليه وجبت"، والصواب ما أثبت.
149
٢١٨٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لتكونوا شهداء على الناس"، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس.
٢١٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢١٨٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو] عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح قال: يأتي النبي ﷺ يوم القيامة نَادِيَهُ ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد ﷺ أنه قد بلغهم. (١)
٢١٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله.
٢١٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني ابن أبي نجيح، عن أبيه قال، يأتي النبي ﷺ يوم القيامة، فذكر مثله، ولم يذكر عبيد بن عمير، مثله.
٢١٩١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
(١) الأثر: ٢١٨٨- كان في المطبوعة"حدثنا عاصم"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه: ٢١٨٦. أما قوله: "ناديه" فهكذا جاءت في المطبوعة، وفي مطبوعات أخرى، وفي المخطوطات، وفي الدر المنثور ١: ١٤٦: "بإذنه"، وهذه الأخيرة لا معنى لها. أما قوله: "ناديه"، فكأنه أراد موقفه يوم القيامة. والنادي: مجتمع القوم وأهل المجلس. ولكني أرجح أن اللفظ محرف عن كلمة معناها"وحده - أو منفردًا"، فإن سياقه يقتضي ذلك. وقوله: "يأتي النبي ﷺ ناديه" أرجح أن قوله: "صلى الله عليه وسلم" زيادة ناسخ، والسياق يقتضي أن يكون: "يأتي النبي يوم القيامة ناديه ليس معه أحد".
150
قتادة"لتكونوا شُهداء على الناس"، أي أنّ رسلهم قد بلغت قومَها عن ربّها،"ويكون الرسول عليكم شَهيدًا"، على أنه قد بلغ رسالات ربِّه إلى أمته.
٢١٩٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ قوم نوح يَقولونَ يوم القيامة: لم يبلِّغنا نوحٌ! فيدعَى نوح عليه السلام فيسأل: هل بلغتهم؟ فيقول: نعم. فيقال: من شُهودك؟ فيقول: أحمد ﷺ وأمته. فتدعون فتُسألون فتقولون: نعم، قد بلّغهم. فتقول قوم نوح عليه السلام: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبيُّ الله ﷺ فأخبرنا أنه قد بلغكم، وأنزل عليه أنه قد بلغكم، فصدَّقناه. قال: فيصدّق نوح عليه السلام ويكذبونهم. قال:"لتكونوا شُهداء على الناس ويَكونَ الرسول عليكم شهيدًا"
٢١٩٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"لتكونوا شُهداء على الناس"، لتكون هذه الأمة شُهداء على الناس أنّ الرسل قد بلَّغتهم، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدًا، أن قد بلَّغ ما أرسل به.
٢١٩٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ الأمم يقولُون يوم القيامة: والله لقد كادت هذه الأمَّة أن تكون أنبياءَ كلهم! لما يرون الله أعطاهم.
٢١٩٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن رِشْدين بن سعد، قال أخبرني ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة يُسنده إلى رسول الله ﷺ قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة، كان أوَّلَ من يدعى إسرافيلُ، فيقول له ربه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رَبّ، قد بلغته جبريل عليهما السلام، فيدعى جبريل، فيقال له:
151
هل بَلغك إسرافيلُ عهدي! (١) فيقول: نعم ربّ، قد بلغني. فيخلَّى عن إسرافيلُ، ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، قد بلغتُ الرسل. فتُدعى الرسل فيقال لهم: هل بلَّغكم جبريلُ عهدي؟ فيقولون: نعم ربَّنا. فيخلَّى عن جبريل، ثم يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلَّغنا أممنا. فتدعى الأمم، فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم المصدِّق، فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهودًا يَشهدون أنْ قد بلَّغنا مع شَهادتك. فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمَّة محمد. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أتشهدون أنّ رسُلي هؤلاء قد بلَّغوا عهدي إلى من أرسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم ربَّنا شَهدنا أنْ قد بلَّغوا. فتقول تلك الأمم. كيف يشهد علينا من لم يُدركنا؟ فيقول لهم الرب تباركَ وتعالى: كيف تشهدون عَلى من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصَصَت علينا أنّهم قد بلَّغوا، فشهدنا بما عهدْتَ إلينا. فيقول الرب: صدَقوا. فذلك قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" -والوسطُ العَدْل-"لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من كان في قلبه حِنَةٌ على أخيه. (٢)
٢١٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني بذلك. الذين استقاموا على الهُدى، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله.
(١) في المطبوعة: "هل بلغت إسرافيل"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبت.
(٢) الحديث: ٢١٩٥- هذا حديث ضعيف، من ناحيتين: من ناحية أنه مرسل، رواه تابعي لم يسنده عن صحابي. ومن ناحية ضعف"رشدين بن سعد"، كما سيأتي.
وقد مضت قطعة منه بهذا الإسناد: ٢١٧٦. وأحلنا تخريجها على هذا الموضع.
رشدين بن سعد: ضعيف جدًا، سبق بيانه في: ١٩٣٨. ووقع في المطبوعة هنا، وفي: ٢١٧٦: "راشد"، كما كان ذلك في: ١٩٣٨. وهو خطأ.
ابن أنعم المعافري: هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -بفتح الهمزة وسكون النون وضم العين المهملة- المعافري الإفريقي القاضي. وهو ثقة، تكلم فيه كثير من العلماء بغير حجة، سمع من أجلة التابعين، وكان شجاعًا في الحق. وكان أحمد بن صالح يقول: هو ثقة، وينكر على من تكلم فيه. قاله أبو بكر المالكي في رياض النفوس: "كان من جلة المحدثين، منسوبًا إلى الزهد والورع، صلبًا في دينه، متفننًا في علوم شتى". وغلا فيه ابن حبان غلوًا فاحشًا، فقال في كتاب المجروحين، ص: ٢٨٣-٢٨٤: "كان يروي الموضوعات عن الثقات، ويأتي عن الأثبات ما ليس من أحاديثهم، وكان يدلس عن محمد بن سعيد بن أبي قيس المطلوب". ثم روى حديثًا من طريقه يستدل به على ما قال. وهو حديث موضوع، ولكن ابن أنعم بريء من عهدته، فإن الحمل فيه على أحد الكذابين، وهو يوسف بن زياد البصري. وقد تعقب الدارقطني على ابن حبان ذلك، فيما ثبت بهامش مخطوطة المجروحين.
والمشارقة أخطأوا معرفة ابن أنعم، فعن ذلك جاء ما جاء من جرحه، بل أخطأوا تاريخ وفاته، فأرخوه سنة ١٥٦. والمغاربة أعرف به، وأرخوه سنة ١٦١.
وله تراجم وافية: في التهذيب ٦: ١٧٣-١٧٦، والصغير للبخاري، ص: ١٨٠، وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٣٤-٣٣٥. والمجروحين لابن حبان: ٢٨٣-٢٨٤، والميزان للذهبي ٢: ١٠٤-١٠٥، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب: ٢٧-٣٢. ورياض النفوس لأبي بكر المالكي ١: ٩٦-١٠٣، وتاريخ بغداد ١٠: ٢١٤-٢١٨.
حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أبي جبلة المصري: تابعي ثقة. وهو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز، ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٨٣، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٦٩.
وهذا الحديث مرسل، إذ حكى راويه عن التابعي أنه"يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، لم يذكر من حدثه به.
وقوله"يسنده" - كتب في المطبوعة هنا وفي: ٢١٧٦"بسنده" بالباء الموحدة. وهو تصحيف. والحديث ذكره السيوطي ١: ١٤٥، ولم ينسبه لغير الطبري وابن المبارك في الزهد.
وكان في المطبوعة"حقد على أخيه". وفي الدر المنثور ١: ١٤٦"إحنة"، والذي أثبته من القرطبي، وبعض المخطوطات. والحنة: الحقد، من"وحن يحن حنة" مثل: "وعد يعد عدة" (بكسر الحاء وفتح النون). وقال الأزهري: ليست من كلام العرب، إنما هي إحنة: أي حقد. وأنكر الأصمعي"حنة"، وحكى عنه أبو نصر أنه قال: "كنا نظن الطرماح شيئًا حتى قال:
وَأَكرَهُ أنْ يَعِيبَ عَلَيَّ قَوْمِي ِجَائِي الأَرْذَلِينَ ذَوِي الحِنَاتِ
لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات" (ديوان الطرماح: ١٣٤). وقال الزمخشري في الفائق (أحن) :"أما ما حكى عن الأصمعى... فاسترذال منه! "وحن"، وقضاء على الهمزة بالأصالة، أو برفض الواو في الاستعمال".
152
٢١٩٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، يقول: لتكونوا شهداء على الأمم الذين خَلَوا من قبلكم، بما جاءتهم رسلهم، وبما كذّبوهم، فقالوا يوم القيامة وعَجِبوا: إنّ أمة لم يكونوا في زماننا، فآمنوا بما جاءتْ به رسلنا، وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب. قوله:"ويكُون الرسولُ عليكم شهيدًا"، يعني بإيمانهم به، وبما أنزل عليه.
٢١٩٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني: أنهم شَهدوا على القرون بما سمَّى الله عز وجل لَهم.
٢١٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"؟ قال: أمة محمد، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمانُ والهدى، ممن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثير. قال: وقال عطاء: شهداء على مَنْ ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين، جاء ذلك أمَّةَ محمد ﷺ في كتابهم،"ويكون الرسولُ عليكمْ شهيدًا" على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصَدَّقوا به.
٢٢٠٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"لتكونوا شُهداء عل الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا" قال، رسول الله ﷺ شاهدٌ على أمَّته، وهم شهداء على الأمم، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) [سورة غافر: ٥١] الأربعة: الملائكة الذين يُحصُون أعْمالنا، لنا وعلينا، وقرأ قوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [سورة ق: ٢١]، وقال: هذا يوم القيامة. قال: والنبيون شُهداء على أممهم. قال: وأمة محمد ﷺ شُهداء على الأمم. قال:
154
[والأطوار] الأجساد والجلود. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه.
* * *
والقبلة التي كان رسولُ الله ﷺ عليها، التي عناها الله بقوله:"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها"، هي القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة، كما:-
٢٢٠١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، يعني: بيت المقدس.
٢٢٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
(١) الأثر: ٢٢٠٠- ذكره السيوطي في الدر المنثور ٥: ٣٥٢ في تفسير [سورة غافر الآية: ٥١]، بغير هذا اللفظ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. ونصه:
"عن زيد بن أسلم: الأشهاد أربعة: الملائكة الذين يحصون علينا أعمالنا، وقرأ: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"، والنبيون، شهداء على أممهم، وقرأ: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، شهداء على الأمم، وقرأ: "لتكونوا شهداء على الناس"، والأجساد والجلود، وقرأ: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الذي أنطق كل شيء".
أما ما جاء في نص الطبري، ووضعته بين قوسين، فهو خطأ لا شك فيه، وأخشى أن يكون صوابه"الأطراف والأجساد والجلود"، ويعني بالأطراف، الجوارح، يريد بذلك الأيدي والأرجل، في قوله تعالى في [سورة يس: ٦٥] :(اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلّمنَا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
155
ابن جريج قال: قلت لعطاء:"وما جَعلنا القِبلة التي كنتَ عليها". قال: القِبلة بيتُ المقدس.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ترك ذكر"الصرف عنها"، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نَظائره. (١)
وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في القِبلة، إنما كانت -فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة، حتى ارتدَّ -فيما ذكر- رجالٌ ممن كان قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهرَ كثيرٌ من المنافقين =من أجل ذلك= نفاقَهم، وقالوا: ما بَالُ محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد [صلى الله عليه وسلم] في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا للمؤمنين.
فلذلك قال جل ثناؤه:"ومَا جَعلنا القِبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عَقبيه"، أي: ومَا جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها، وتحويلك إلى غيرها، كما قال جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [سورة الإسراء: ٦٠] بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنةٌ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنةٌ ولا محْنة.
* * *
ذكر الأخبار التي رُويت في ذلك بمعنى ما قلنا:
(١) انظر ما سلف ١: ١٣٩-١٤١، ١٧٩، وغيرها كثير، اطلبه في الفهارس.
156
٢٢٠٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قَال: كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتمحيصٌ. صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حوْلين قَبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وصلى نبي الله ﷺ بعدَ قُدومه المدينةَ مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعةَ عشر شهرًا، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام، فقال في ذلك قائلون من الناس:"مَا وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرجُل إلى مولده! قال الله عز وجل:"قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم". فقال أناسٌ -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله عز وجل:"ومَا كانَ الله ليُضيعَ إيمانكم". وقد يَبتلي الله العبادَ بما شَاءَ من أمره، الأمرَ بعدَ الأمر، ليعلم مَنْ يطيعه ممن يَعصيه، وكل ذلك مقبول، إذْ كان في [ذلك] إيمان بالله، وإخلاصٌ له، وتسليم لقضائه. (١)
٢٢٠٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النبي ﷺ يُصلي قِبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، (٢) اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال
(١) الأثر: ٢٢٠٣- في الدر المنثور ١: ١٤٣، وقد مضى شطره في رقم: ٢١٦٣. وكان في المطبوعة: "وكل ذلك مقبول، وإذا كان في إيمان بالله... "، عبارة ركيكة، فجعلت"إذا"، "إذ" وزدت"ذلك": لتستقيم العبارة. أما في الدر المنثور فعبارته أشد سقمًا ونصها: "وكل ذلك مقبول، في درجات في الإيمان بالله، والإخلاص، والتسليم لقضاء الله".
(٢) في المطبوعة: "فلما توجه قبل المسجد"، والصواب من رقم: ٢١٦٤، والدر المنثور.
157
المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أنْ يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين:"سَيقول السفهاء من الناس مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"وإنْ كانتْ كبيرةً إلا على الذين هَدى الله"، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها. (١)
٢٢٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلبُ على عَقبيه"؟ فقال عطاء: يبتليهم، ليعلم من يُسلم لأمره. قال ابن جريج: بلغني أنّ ناسًا ممن أسلم رَجعوا فقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا!
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، إلا بعد اتباع المتّبع، وانقلاب المنقلب على عقبيه، حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله ﷺ من المنقلب على عقبيه؟
قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها، وليس قوله:"وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه" يخبر [عن] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجُوده. (٢)
فإن قال: فما معنى ذلك؟
قيل له: أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه:"إلا لنعلم"، ومعناه: ليعلمَ رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) الأثر: ٢٢٠٤- مضى بعضه في رقم: ٢١٦٤، وهو في الدر المنثور ١: ١٤٢-١٤٣.
(٢) في المطبوعة: "يخبر أنه لم يعلم ذلك... "، والصواب ما أثبت، مع الزيادة بين القوسين.
158
وأولياؤهُ من حزبه، وكان من شَأن العرب إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس، ومَا فعل بهم إليه، نحو قولهم:"فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق، وجَبى خَرَاجها"، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك. وكالذي رُوي في نظيره عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي، واستقرضته فلم يقرضني، وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني.
٢٢٠٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله: استقرضتُ عَبدي فلم يُقرضني، وشتمني ولم يَنبغ له أن يشتُمني! يقول: وادَهراه! وأنا الدهر، أنا الدهر.
٢٢٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه. (١)
* * *
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه، وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.
وقد حكي عن العرب سماعًا:"أجوع في غَيْر بَطني، وأعرى في غير
(١) الحديثان: ٢٢٠٦، ٢٢٠٧- هما حديث واحد بإسنادين صحيحين.
خالد- في أولهما: هو خالد بن مخلد القطواني، بفتح القاف والطاء. وهو ثقة من شيوخ البخاري، أخرج له هو ومسلم في الصحيحين، تكلم فيه من جهة إفراطه في التشيع، ولكنه صدوق في الرواية. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/١٦٠، وابن سعد ٦: ٢٨٣، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٥٤. وشيخه محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ١: ٤١٨، من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، بالإسناد الثاني، بنحوه. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والنهي عن سب الدهر، في الحديث القدسي، من حديث أبي هريرة-: ثابت من أوجه، في الصحيحين وغيرهما. فانظر المسند: ٧٢٤٤، ٧٥٠٩. والبخاري ٨: ٤٤١، و ١٠: ٤٦٥، و ١٣: ٣٨٩. وصحيح مسلم ٢: ١٩٦-١٩٧.
159
ظهْري"، بمعنى: جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم،
فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه"، قال ابن عباس: لنميّز أهلَ اليقين من أهل الشرك والريبة.
* * *
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك، من أجل أن العرَب تَضع"العلم" مكان"الرؤية"، و"الرؤية" مكان"العلم"، كما قَال جلّ ذكره: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [سورة الفيل: ١]، فزعم أن معنى"ألم تر"، ألم تعلم؟ وزعم أن معنى قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أنّ قول القائل:"رأيتُ، وعَلمت، وشَهدت"، حروفٌ تتعاقب، فيوضَع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا وَعَمْرَو بن عَمْرٍو إذْ دَعَا يَالَ دَارِمِ (١)
بمعنى: كأنك لم تعلم لَقيطًا، لأنّ بين هُلْك لَقيط وحاجب وزمان جرير، ما لا يخفى بُعده من المدة. وذلك أنّ الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية، وجريرٌ كان بعد بُرْهة مَضَت من مجيء الإسلام.
* * *
(١) ديوانه: ٥٦٣، والنقائض: ٤٠٩، من قصيدته الفالقة، في نقض قصيدة الفرزدق. وقد عدد فيها أيام قومه. والخطاب في قوله: "كأنك" للفرزدق، ويذكر"يوم جبلة"، وهو من أعظم أيامهم، وكان قبل الإسلام بأربعين سنة، عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لعامر وعبس، على ذبيان وتميم. وقتل يومئذ لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، وهم من بني عبد الله بن دارم، وهم عمومة الفرزذق، وهو من بني مجاشع بن دارم.
ورواية الديوان والنقائض: "إذا دعوا"، وكلتاهما صحيحة المعنى.
160
قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيدٌ، من أجل أنّ"الرؤية"، وإن استعملت في موضع"العلم"، من أجل أنه مستحيلٌ أن يرى أحدٌ شيئًا، فلا توجب رؤيته إياه علمًا بأنه قد رآه، إذا كان صحيح الفطرة. فجاز من الوجه الذي أثبته رؤيةً، أن يُضَاف إليه إثباتُهُ إياه علمًا، (١) وصحّ أن يدلّ بذكر"الرؤية" على معنى"العلم" من أجل ذلك. فليس ذلك، وإن كان [جائزا] في الرؤية -لما وصفنا- بجائز في العلم، (٢) فيدلّ بذكر الخبر عن"العلم" على"الرؤية". لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يَرَى شيئًا إلا علمه، كما قد قدمنا البيان [عنه]. (٣) مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال:"علمت كذا"، بمعنى رأيته. وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد ﷺ منَ الكلام، إلى ما كان موجودًا مثله في كلام العرب، دون ما لم يكن موجودًا في كلامها. فموجود في كلامها"رأيت" بمعنى: علمت، وغير موجود في كلامها"علمت" بمعنى: رأيت، فيجوز توجيه:"إلا لنعلم" إلى معنى: إلا لنرى.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، من أجل أنّ المنافقين واليهودَ وأهلَ الكفر بالله، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يَعلم الشيءَ قبل كونه. وقالوا - إذ قيل لهم: إن قومَا من أهل القبلة سيرتدُّون على أعقابهم، إذا حُوِّلت قبلة محمد ﷺ إلى الكعبة-: ذلك غير كائن! أو قالوا: ذلك باطل! فلما فَعل الله ذلك، وحوَّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر، قال الله جل
(١) أثبت الشيء: عرفه حق المعرفة.
(٢) الزيادة بين القوسين، لا بد للسياق منها، وإلا اختل الكلام.
(٣) زيادة يقتضيها سياقه.
161
ثناؤه: ما فعلتُ إلا لنعلم ما علمه غَيركم- أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه-: أنّي عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد. (١)
فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله:"إلا لنعلم": إلا لنبيّن لكم أنّا نعلمُ من يَتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. وهذا وإن كان وَجهًا له مَخرج، فبعيدٌ من المفهوم.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال، على وجه الترفّق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته، (٢) كما قال جل ثناؤه: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣) [سورة سبأ: ٢٤]، وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رَفقَ بهم في الخطاب، فلم يقل: أنّا على هدى، وأنتم على ضلال. فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالا به قبل أن يكونَ. فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم.
* * *
وقد بيَّنا القول الذي هو أوْلى في ذلك بالحقّ.
* * *
وأما قوله:"مَنْ يتَّبع الرسول". فإنه يعني: الذي يتبع محمدًا ﷺ فيما يأمره الله به، فيوجِّه نحو الوَجه الذي يتوَجَّه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
(١) كان في المطبوعة: "إلا لنعلم ما عندكم... " وهذا يجعل الجملة غير مستقيمة، غير مفهومة المعنى. ورأيت أن سياق الكلام قبله يدل على أن ذلك كما أثبت، فإن المؤمنين علموا أن قومًا سيرتدون إذا حولت القبلة، وأنكر اليهود والمنافقون أن يكون ذلك كائنًا. فاقتضى السياق أن يكون التأويل جامعًا لهذا العلم من هؤلاء، وذلك الإنكار من أولئك. ثم جاء الطبري بعبارة تصحح ما ذهبت إليه في قوله: "إلا لنبين لكم أننا نعلم". فكأن معنى الآية عند قائل هذا القول: ما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وإلا للعلم بأننا نعلم من يتبع الرسول...
(٢) في المطبوعة: "على وجه الترفيق بعباده"، وهو خطأ.
(٣) كان في الأصل: "قل الله" أول الآية المستشهد بها، فآثرت إتمامها.
162
وأما قوله:"ممن يَنقلب على عَقبيه"، فإنه يعني: من الذي يرتدُّ عن دينه، فينافق، أو يكفر، أو مخالف محمدًا ﷺ في ذلك، ممن يظهر اتِّباعه، كما:-
٢٢٠٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" قال، مَنْ إذا دخلتْه شُبهة رجع عن الله، وانقلب كافرًا على عَقبيه.
* * *
وأصل"المرتد على عقبيه"، هو:"المنقلب على عقبيه"، الراجع مستدبرًا في الطريق الذي قد كان قطعه، منصرفًا عنه. فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه، من دين أو خير. ومن ذلك قوله: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: ٦٤]، بمعنى: رَجعا في الطريق الذي كانا سَلكاه، وإنما قيل للمرتد:"مرتد"، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها.
وإنما قيل:"رجع عَلى عقبيه"، لرجوعه دُبُرًا على عَقبه، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مَرْجعه عنه. فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرًا وآخذٍ آخرَ غيره، إذا انصرف عما كان فيه، إلى الذي كان له تاركًا فأخذه. فقيل:"ارتد فلان على عَقِبه، وانقلب على عَقبيه".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت"كبيرة إلا على الذين هَدى الله".
163
فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه ب"الكبيرة"، التوليةُ من بيت المقدس شطرَ المسجد الحرام والتحويلُ. وإنما أنَّث"الكبيرة"، لتأنيث"التولية".
* ذكر من قال ذلك:
٢٢١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال الله:"وإن كانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله"، يعني: تحويلَها.
٢٢١١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، ما أمِروا به من التحوُّل إلى الكعبة من بيت المقدس.
٢٢١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٢١٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لكبيرة إلا على الذين هَدى الله" قال، كبيرة، حين حُولت القبلة إلى المسجد الحرام، فكانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله.
* * *
وقال آخرون: بل"الكبيرة"، هي القبلة بعينها التي كان ﷺ يتوجَّه إليها من بيت المقدس قبلَ التحويل.
* ذكر من قال ذلك.
٢٢١٤- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"وإن كانت لكبيرة"، أي: قبلةُ بيت المقدس -"إلا على الذين هدى الله". (١)
(١) في المطبوعة: "عن أبيه عن أبي العالية"، بإسقاط"عن الربيع"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه رقم: ١٨٨٦.
164
وقال بعضهم: بل"الكبيرة" هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى.
* ذكر من قال ذلك.
٢٢١٥- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله" قال، صلاتكم حتى يهديَكم اللهُ عز وجل القِبلةَ. (١)
٢٢١٦- وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لَكبيرة" قال، صلاتك هاهنا -يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا- وانحرافُك هاهنا
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: أنِّثت"الكبيرة" لتأنيث القبلة، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله:"وإن كانت لكبيرة".
وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت"الكبيرة" لتأنيث التولية والتحويلة
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنتَ عليها وتوليتُناك عنها، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت تحويلتُنا إياك عنها وتوليتُناكَ"لكبيرة إلا على الذين هدى الله".
* * *
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب. لأن القوم إنما كبُر عليهم تحويل النبي ﷺ وَجْهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم. إلا أن يوجِّه موجِّه تأنيث"الكبيرة" إلى"القبلة"، ويقول: اجتُزئ بذكر"القبلة" من ذكر"التولية والتحويلة"، لدلالة الكلام على معنى ذلك، كما قد وصفنا لك في نظائره. (٢) فيكون ذلك وجهًا صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا.
* * *
(١) الأثر: ٢٢١٥- سيأتي تامًا برقم: ٢٢١٧، وفيه"يهديكم إلى القبلة"، وهما صواب.
(٢) انظر ما سلف في فهارس الأجزاء الماضية.
165
ومعنى قوله:"كبيرة"، عظيمة، (١). كما:-
٢٢١٧- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا عَلى الذين هدى الله" قال، كبيرة في صدور الناس، فيما يدخل الشيطانُ به ابنَ آدم. قال: ما لهم صلُّوا إلى هاهنا ستةَ عشر شهرًا ثم انحرفوا! فكبُر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا، فثبَّت الله جل ثناؤه ذلك قي قلوبهم، وقرأ قول الله"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، صَلاتكم حَتى يهديكم إلى القبلة. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"إلا على الذين هَدى الله"، فإنه يعني به:
وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنتَ عليها، لعظيمة إلا على من وّفَّقه الله جل ثناؤه، فهداهُ لتصديقك والإيمان بك وبذلك، واتباعِك فيه، وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك، كما:-
٢٢١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله"، يقول: إلا على الخاشعين، يعني المصدِّقين بما أنزل الله تبارك وتعالى. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"كبيرة" فيما سلف ٢: ١٥.
(٢) الأثر: ٢٢١٧- انظر ما سلف رقم: ٢١١٥، والتعليق عليه.
(٣) الأثر ٢٢١٨- أخشى أن يكون هذا الأثر، هو نفس الأثر السالف برقم: ٨٥٦.
166
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: قيل: عنى ب"الإيمان"، في هذا الموضع: الصلاةَ.
* * *
ذكر الأخبار التي رُويت بذلك، وذكر قول من قاله:
٢٢١٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وعبيد الله -وحدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا عبيد الله بن موسى- جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، لما وُجِّه رَسوله الله ﷺ إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم". (١)
٢٢٢٠- حدثني إسماعيل بن موسى قال، أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قول الله عز وجل:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحوَ بَيت المقدس.
٢٢٢١- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء نحوه. (٢)
٢٢٢٢- وحدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحرّاني قال، حدثنا زهير قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: مات على القبلة قبلَ أن تحوّل إلى البيت
(١) الحديث: ٢٢١٩- هو بإسنادين معًا: أولهما صحيح، وهو رواية أبي كريب، عن وكيع وعبيد الله بن موسى. وثانيهما ضعيف، وهو رواية سفيان بن وكيع عن عبيد الله بن موسى.
وعبيد الله بن موسى العبسي: مضى في ٢٠٩٢.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٣٢٤٩، عن وكيع، عن إسرائيل، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه أيضًا مطولا ومختصرًا، من طرق عن إسرائيل: ٢٦٩١، ٢٧٧٦، ٢٩٦٦. وخرجناه هناك في: ٢٦٩١.
(٢) الحديثان: ٢٢٢٠-٢٢٢١- هما حديث واحد بإسنادين.
وذكره السيوطي ١: ١٤٦، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
167
رجالٌ وقُتلوا، فلم ندر ما نَقول فيهم. فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم". (١)
٢٢٢٣- حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال أناسٌ من الناس -لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نَعملُ في قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليضيع إيمانكم".
٢٢٢٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما وُجِّه رسول الله ﷺ قبَل المسجد الحرام، (٢) قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك طاعة وهذه طاعة. (٣)
٢٢٢٥- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال ناسٌ -لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كانَ الله ليضيع إيمانكم" الآية.
٢٢٢٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم قال، لما صُرف رسولُ الله صلى الله
(١) الحديث: ٢٢٢٢- عبد الله بن محمد بن نفيل: هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، أبو جعفر النفيلي الحراني، الثقة المأمون الحافظ. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٢/٢/١٥٩.
زهير: هو ابن معاوية الجعفي أبو خيثمة. مضى: ٢١٤٤. وأبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني. والحديث هو باقي الحديث الماضي لهذا الإسناد: ٢١٥٣. وقد بينا تخريجه هناك.
(٢) في المطبوعة: "لما توجه... "، وانظر ما سلف رقم: ٢٢٠٤، والتعليق عليه.
(٣) الأثر: ٢٢٢٤- مضى برقم: ٢١٦٤، ثم: ٢٢٠٤، وفيه هنا زيادة.
168
عليه وسلم إلى الكعبة، قال المسلمون: هَلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس! فنزلت:"وما كان الله ليضيع إيمانكم".
٢٢٢٧- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة. فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ صلاتهم.
٢٢٢٨- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، صلاتكم.
٢٢٢٩- حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال، أخبرنا المؤمل قال، حدثنا سفيان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحو بيت المقدس.
* * *
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على أن"الإيمان" التصديق. وأن التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا. (١)
فمعنى قوله:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم" -على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة-: وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي، واتِّباعًا لأمْري، وطاعةً منكم لي.
* * *
قال:"وإضاعته إياه" جل ثناؤه -لو أضاعه-: تركُ إثابة أصْحابه وعامليه عليه، فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة"إضاعة الرجل ماله"، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا آجل.
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٢٣٤-٢٣٥، وغيره، فالتمسه في فهرس اللغة.
169
فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه، وإن نُسخ ذلك الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله.
* * *
فإن قال قائل: وكيفَ قال الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم"، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقومُ المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟
قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضًا قد كانوا مشفقين من حُبُوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة، وظنّوا أنّ عملهم ذلك قد بطلَ وذهب ضياعًا؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم. لأن من شأن العرب -إذا اجتمع في الخبر المخاطبُ والغائبُ- أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب. فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر:"فعلنا بكما وصنعنا بكما"، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران، ولا يستجيزون أن يقولوا:"فعلنا بهما"، وهم يخاطبون أحدهما، فيردّوا المخاطب إلى عِدَاد الغَيَب. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه:"إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ رحيمٌ": أن الله بجميع عباده ذُو رأفة.
* * *
(١) الغيب (بفتحتين) جمع غائب، مثل خادم وخدم.
170
و"الرأفة"، أعلى مَعاني الرحمة، وهي عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة.
* * *
وأما"الرحيم": فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينا فيما مضى قبل. (١)
* * *
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنّ الله عز وجل أرْحمُ بعباده منْ أن يُضيع لهم طاعةً أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها، وأرأفُ بهم من أن يُؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم -أيْ ولا تأسوا عَلى مَوْتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس-، فإني لهم =على طاعتهم إياي بصَلاتهم التي صلوها كذلك= مثيبٌ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي؛ ولا تحزنوا عليهم، فإني غيرُ مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله.
* * *
وفي"الرءوف" لغات. إحداها"رَؤُف" على مثال"فَعُل"، كما قال الوليد بن عقبة:
وَشرُّ الطالِبِينَ -وَلا تَكُنْه- بقَاتِلِ عَمِّه، الرَّؤُفُ الرَّحِيم (٢)
(١) انظر ما سلف ١: ١٢٦-١٣٤.
(٢) كان في المطبوعة: "الرءوف الرحيما". وجاء على الصواب في القرطبي ٢: ١٤٥، وأبي حيان ١: ٤٢٧، وفيهما خطأ آخر، الأول فيه"يقاتل"، والثاني"يقابل"، وكأن هذا البيت من شعر الوليد بن عقبة، الذي كتب به إلى معاوية يحض معاوية على قتال علي رضي الله عنهما. وهي في أنساب الأشراف: ١٤٠، وتاريخ الطبري ٥: ٢٣٦-٢٣٧، وحماسة البحتري: ٣٠، واللسان (حلم) وغيرها، وليس فيها هذا البيت، وكأنه قبل البيت الذي يقول فيه:
لَكَ الْوَيْلاتُ! أَقْحِمْهَا عَلَيْهِمْ فخيرُ الطَّالبي التِّرَةِ الغَشُومُ
وقوله: "لا تكنه"، دعاء له، واستنكار أن يكون كهذا الطالب الثائر الذي يطالب بدم عمه، وهو رؤوف رحيم بعدوه وقاتل عمه، وهو شر طالب ثأر.
171
وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة. والأخرى"رَؤوف" على مثال"فعول"، وهي قراءة عامة قراء المدينة، و"رَئِف"، وهي لغة غطفان، على مثال"فَعِل" مثل حَذِر. و"رَأْف" على مثال"فَعْل" بجزم العين، وهي لغة لبني أسد.
والقراءة على أحد الوجهين الأوَّلين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء.
* * *
ويعني: ب"التقلب"، التحوُّل والتصرُّف.
ويعني بقوله:"في السماء"، نحو السماء وقِبَلها.
* * *
وإنما قيل له ذلك ﷺ -فيما بلغنا- لأنه كان =قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة= يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:-
٢٢٣٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء" قال، كان ﷺ يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.
٢٢٣١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء"، فكان نبي الله ﷺ يُصلّي نحو بيتَ المقدس، يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام، فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها.
172
٢٢٣٢- حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء"، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي ﷺ يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام، فولاه الله قبلةً كان يهواها.
٢٢٣٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس، فلما قَدِم النبي ﷺ المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر، وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي ﷺ يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء" الآية.
* * *
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان ﷺ يهوى قبلة الكعبة.
قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا!
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٣٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويَستفرض للقبلة، (١) فنزلت:"قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام"، -وانقطع قول يهود:
(١) في المطبوعة: "يستعرض للقبلة"، وأثبت ما في الدر المنثور ١: ١٤٧ وقوله: "يستفرض" أي يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين. وهذا ما لم تشبه كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية. أما قوله: "يستعرض للقبلة"، فليست بشيء.
173
يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر، (١). فجعل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال.
٢٢٣٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته -يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"فأينما تولوا فثمَّ وجه الله". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله -لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي ﷺ ستة عشر شهرًا، فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! (٢) فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام" الآية. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله ﷺ ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل:"قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء" الآية. (٤)
* * *
(١) سياق عبارته: "فنزلت... في صلاة الظهر".
(٢) في المطبوعة: "ما درى محمد صلى الله عليه وسلم"، ولا تقوله يهود، فرفعته. وكذلك جاء في رقم: ١٨٣٨.
(٣) الأثر: ٢٢٣٥- مضى برقم: ١٨٣٨.
(٤) الأثر: ٢٢٣٦- مضى برقم: ١٨٣٣، ورقم: ٢١٦٠.
174
فأما قوله:"فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها"، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة"ترضاها": تَهواها وتُحبها. (١)
* * *
وأما قوله:"فوَلِّ وجهك"، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله.
* * *
وقوله:"شَطرَ المسجد الحَرَام"، يعني: ب"الشطر"، النحوَ والقصدَ والتّلقاء، كما قال الهذلي: (٢)
إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ (٣)
يعني بقوله:"شَطْرَها"، نحوها. وكما قال ابن أحمر:
تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ، قَدْ كَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا (٤)
* * *
(١) انظر معاني"ولى" فيما سلف ٢: ١٦٢، ٥٣٥، وهذا الجزء ٣: ١٣١.
(٢) هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه، واسمه قيس بن خويلد بن كاهل.
(٣) ديوانه في أشعار الهذليين للسكري: ٢٦١ (أوربة)، ورسالة الشافعي: ٣٥، ٤٨٧، وسيرة ابن هشام ٢: ٢٠٠، والكامل ١: ١٢، ٢: ٣ ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٦٠، واللسان (شطر) (حسر)، وغيرها. ورواية الشافعي في الرسالة: "إن العسيب" بالباء في آخره، ورواية ديوانه وابن هشام: "إن النعوس". والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، من شراستها. والنعوس: التي تغمض عينيها عند الحلب. والعسيب: جريد النخل إذا كشط عنه خوصه. وأرى أنه لم يرد صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما هو اسم ناقته. وكلها صالح أن يكون اسما للناقة. وقد قال ابن هشام: "النعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: "وهو حسير". ويروى: "داء يخامرها فنحوها... "، ورواية ديوانه"مخزور". ومحسور، هو الحسير: الذي قد أعيى وكل. ومخزور: من قولهم: "خزر بصره": إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه. وهو يصف ناقته، ويذكر حزنه وحبه لها، فهو من الداء الذي خامرها مشفق عليها، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل.
(٤) سيرة ابن هشام ٢: ١٩٩، والروض الأنف ٢: ٣٨، والخزانة ٣: ٣٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٦٠. وفي المطبوعة: "من إنفادها"، وهو خطأ. وقال: قبله: أَنْشَأتُ أَسْأَلُه عَنْ حَالِ رُفْقَتِهِ... فقال: حَيَّ، فَإِنَّ الرَّكْبَ قَدْ نَصَبَا
حي: اعجل. ونصب: جد في السير: وقوله: "جمع"، هي مزدلفة، يريد الحج. وقوله: عاقدة، أي: قد عطفت ذنبها بين فخذيها. وقوله: كارب، أي أوشك وكاد وقارب ودنا. وأوفدت الناقة إيفادًا: أسرعت. والحقب: الحزام يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا يؤذيه التصدير. يقول: قد أسرعوا إسراعًا إلى مزدلفة، فجعلت تعطف ذنبها تسد به فرجها حتى كاد عقد ذنبها يبلغ الحقب. والناقة تسد فرجها بذنبها في إسراعها، يقول المخبل السعدي:ويقول المثقب العبدي، يصف ناقته مسرعة:
175
ءوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٣٧- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية:"شَطْرَ المسجد الحَرَام"، يعني: تلقاءه.
٢٢٣٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"شطر المسجد الحرام"، نحوَه.
٢٢٣٩- حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، نَحوَه.
٢٢٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٢٤١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَ المسجد الحرام.
٢٢٤٢- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام" قال، نحو المسجد الحرام.
176
٢٢٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَه.
٢٢٤٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال:"شطرَه"، نحوَه.
٢٢٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء:"فولوا وجُوهكم شَطره" قال، قِبَله.
٢٢٤٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"شَطْره"، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه:"شُطوره". (١)
* * *
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه ﷺ أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام.
فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله:"فلنولينَّك قبلة تَرْضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٤٧- حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، عن عبد الله بن عمرو:"فلنولينَّك قبلة ترضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. (٢)
(١) الخبر: ٢٢٤٦- هو وما قبله من الأخبار، في تفسير (شطره) بأنه: قبله، أو: نحوه. وانظر مؤيدًا ذلك، ما قاله الشافعي في الرسالة، بتحقيقنا: ١٠٥-١١١، ١٣٧٨-١٣٨١.
(٢) الحديث: ٢٢٤٧- عبد الله بن أبي زياد، شيخ الطبري: نسب إلى جده. وهو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني"، واسم"أبي زياد": "سليمان". وعبد الله هذا: ثقة، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٨.
وشيخه"عثمان": ما أدري من هو؟ وأغلب الظن أنه محرف، وصوابه"عفان".
يحيى بن قمطة: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٢٢٩، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٨١، وذكر أنه حجازي، ولم يذكرا فيه جرحًا. وذكر البخاري أنه يروي"عن ابن عمر". وذكر ابن أبي حاتم أنه يروي"عن عبد الله بن عمرو". وذكره ابن حبان في الثقات، ص: ٣٧١، وقال: "يروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو". روى عنه يعلى بن عطاء.
واسم أبيه: "قمطة" بالقاف ثم الميم ثم الطاء المهملة. ولم أجد ما يدل على ضبط هذه الحروف. لكنه ثبت هكذا في الطبري وتفسير عبد الرزاق ومراجع الترجمة. ووقع في ابن كثير والمستدرك"قطة" بدون الميم. وهو خطأ، لمخالفته ما ذكرنا عن المراجع.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٩، من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بهذا الإسناد، مطولا بنحو الرواية التي بعد هذه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
177
٢٢٤٨- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب، وتلا هذه الآية:"فلنولينك قِبلة ترضاها" قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة.
٢٢٤٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم -بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه:"فلنولينك قبلة تَرضاها". (١)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ، وقبلةُ البيت الباب.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الحديثان: ٢٢٤٨، ٢٢٤٩- وهذان إسنادان آخران للحديث قبلهما. وأولهما من رواية عبد الرزاق، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء.
وهشيم- بالتصغير: هو ابن بشير، بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة. وهو أبو معاوية بن أبي خازم، وهو حافظ ثقة ثبت. مترجم في التهذيب. والكبير ٤/٢/٢٤٢، وابن سعد ٧/٢/٦١، ٧٠. وابن أبي حاتم ٤/٢/١١٥-١١٦. وتذكرة الحفاظ ١: ٢٢٩-٢٣٠.
والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: ١٣، بهذا الإسناد. وليس فيه كلمة"هي" المزادة هنا بعد قوله: "هذه القبلة". وأخشى أن تكون زيادتها غير جيدة ولا ثابتة.
وذكر ابن كثير ١: ٣٥٢، أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم"عن الحسن بن عرفة، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء". ووقع اسم"هشيم" فيه محرفًا، فيصحح من هذا الموضع.
والحديث في الدر المنثور أيضًا ١: ١٤٧، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن المنذر، والطبراني في الكبير. وهو في مجمع الزوائد ٦: ٣١٦، وقال: "رواه الطبراني من طريقين، ورجال إحداهما ثقات".
178
٢٢٥٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ، وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه، كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه، وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة، وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها، أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما:
٢٢٥١- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي، عن علي:"فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال، شطُره، قبله. (٢)
* * *
(١) الخبر: ٢٢٥٠- نقله السيوطي ١: ١٤٧، عن الطبري وحده، بلفظ: "البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب".
(٢) الحديث: ٢٢٥١- أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني.
عميرة -بفتح العين- بن زياد الكندي: تابعي ثقة، ترجمه ابن سعد في الطبقات ٦: ١٤١، وقال: "روى عن عبد الله". أراد بذلك عبد الله بن مسعود. وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٦٩. وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٤. ولم يذكرا فيه جرحًا، ولا رواية عن غير ابن مسعود. وذكرا أن الراوي عنه أبو إسحاق.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٩، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان -وهو الثوري- عن أبي إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ج ٢ ص ٣، عن الحاكم.
وذكره السيوطي ١: ١٤٧، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدينوري في المجالسة.
وذكره ابن كثير ١: ٢٦٨، نقلا عن الحاكم.
ولفظه عندهم جميعًا: "قال: شطره قبله"، كما أثبتنا. ووقع في المطبوعة هنا: "قال: شطره فينا قبلة"!! وهو خطأ سخيف، من ناسخ أو طابع.
ووقع في الإسناد في ابن كثير"محمد بن إسحاق" بدل"أبي إسحاق". وهو خطأ يخالف ما ثبت هنا، وما ثبت في سائر المراجع.
ووقع فيه في ابن كثير والمستدرك ومختصره للذهبي -المطبوع والمخطوط-"عمير بن زياد". وهو خطأ أيضًا. وثبت على الصواب في رواية البيهقي عن الحاكم.
179
قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:-
٢٢٥٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله ﷺ حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ، هذه القبلة. (١)
٢٢٥٣- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي صلى
(١) الحديث: ٢٢٥٢- الفضل بن الصباح البغدادي: ثقة، وثقه ابن معين. وقال أبو القاسم البغوي: "كان من خيار عباد الله". مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/٢/٦٣.
عبد الملك: هو ابن أبي سليمان العرزمي، مضى في: ١٤٥٥.
عطاء: هو ابن أبي رباح، التابعي الكبير، الإمام الحجة، القدوة العلم، مفتي أهل مكة ومحدثهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/١/٣٣٠-٣٣١. وتذكرة الحفاظ ١: ٩٢: ٩٣، وتاريخ الإسلام ٤: ٢٧٨-٢٨٠، وابن سعد ٢/٢/١٣٣-١٣٤، و ٥: ٣٤٤-٣٤٦.
أسامة بن زيد بن حارثة: هو حب رسول الله ﷺ وابن حبه.
وقد زعم أبو حاتم -فيما حكاه عنه ابنه في المراسيل: ص: ٥٧- أن عطاء لم يسمع من أسامة. ولكن الرواية التالية لهذه، فيها تصريح عطاء بالسماع منه. ثم المعاصرة كافية في ثبوت الاتصال، كما هو الراجح عند أهل العلم بالحديث.
وعطاء ولد سنة ٢٧ ومات سنة ١١٤. بل ذكر الذهبي أنه مات عن ٩٠ سنة. وأسامة بن زيد مات سنة ٥٤. بل أرخ مصعب الزبيري وفاته في آخر خلافة معاوية سنة ٥٨ أو ٥٩.
وهذا الحديث رواه أحمد في المسند (٥: ٢٠٩)، عن هشيم، بهذا الإسناد واللفظ. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه مطولا، بنحوه.
180
الله عليه وسلم من البيت، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة، فقال: هذه القبلةُ مرتين. (١)
٢٢٥٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله ﷺ نحوه. (٢)
٢٢٥٥- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله ﷺ لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة. (٣)
* * *
(١) الحديث: ٢٢٥٣- ابن حميد: هو محمد بن حميد بن حيان الرازي الحافظ. سبقت رواية الطبري عنه مرارًا كثيرة، ووثقناه في ٢٠٢٨. ونزيد هنا أنه وثقه ابن معين وغيره. وأنكروا عليه أحاديث، وأجاب عنه ابن معين بأن"هذه الأحاديث التي يحدث بها، ليس هو من قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم". وقال الخليلي: "كان حافظًا عالمًا بهذا الشأن، رضيه أحمد ويحيى". وعرض عبد الله بن أحمد على أبيه ما كتبه عنه، فقال: أما حديثه عن ابن المبارك وجرير، فصحيح، وأما حديثه عن أهل الري، فهو أعلم". مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٦٩-٧٠، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٣٢-٢٣٣، والخطيب ٢: ٢٥٩-٢٦٤، وتذكرة الحفاظ ٢: ٦٧-٦٩.
جرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط الرازي، وهو ثقة حجة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٢١٤، وابن سعد ٧/٢/١١٠. وابن أبي حاتم ١/١/٥٠٥-٥٠٧، والخطيب ٧: ٢٥٣-٢٦١، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٥٠.
فهذا إسناد صحيح، صرح فيه عطاء بالسماع من أسامة بن زيد، كما أشرفا في الإسناد السابق.
والحديث رواه أحمد في المسند (٥: ٢١٠ ح)، ضمن قصة، عن يحيى -وهو القطان- عن عبد الملك"حدثنا عطاء، عن أسامة بن زيد".
(٢) الحديث: ٢٢٥٤- عبد الرحيم بن سليمان: هو المروزي الأشل، مضت ترجمته: ٢٠٣٠. والحديث تكرار لسابقه، لكن لم يصرح في هذا الإسناد بسماع عطاء من أسامة.
(٣) الحديث ٢٢٥٥- سعيد بن يحيى بن سعيد، الأموي: ثقة ثبت، بل قال علي بن المديني: "جماعة من الأولاد أثبت عندنا من آبائهم... وهذا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: أثبت من أبيه". وهو من شيوخ البخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم، مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٧٧، وابن أبي حاتم ٢/١/٧٤، والخطيب ٩: ٩٠-٩١. أبوه، يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص: حافظ ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٧٧، وابن سعد ٦: ٢٧٧-٢٧٨، و ٧/٢/٨٠-٨١. وابن أبي حاتم ٤/٢/١٥١-١٥٢، والخطيب ١٤: ١٣٢-١٣٥، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٩٨.
والحديث رواه أحمد في المسند (٥: ٢٠٨ح)، عن عبد الرزاق، وروح - كلاهما عن ابن جريج، بهذا الإسناد نحوه.
رواه قبل ذلك (ص: ٢٠١ ح) عن عبد الرزاق وحده، مختصرًا، طوى القصة فلم يذكرها.
وليس في هذا الحديث ما ينفي أن يكون عطاء سمع الحديث من أسامة بن زيد، لأنه -هنا- إنما يجيب السائل عن قوا ابن عباس، وينفي أن يكون ابن عباس ينهى عن دخول البيت. فهو يذكر رواية ابن عباس عن أسامة، من أجل هذا. ولا يمنع هذا أن يكون الحديث عند عطاء عن أسامة مباشرة.
والحديث رواه أيضًا مسلم ١: ٣٧٦-٣٧٧، من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، نحو هذه القصة، أطول منها قليلا.
ورواه البخاري ١: ٤٢٠- ٤٢١ (فتح الباري)، من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، مختصرًا. لم يذكر القصة، ولم يذكر أنه عن أسامة، جعله من حديث ابن عباس. وذكر الحافظ أنه رواه الإسماعيلي وأبو نعيم، في مستخرجيهما، من طريق إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق، بإسناد هذا: "فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد". قال الحافظ: "وهو الأرجح".
والخلاف في أن رسول الله ﷺ صلى في الكعبة أو لم يصل - مذكور في الدواوين. والراجح صلاته فيها. المثبت مقدم على النافي. وانظر نصب الراية ٢: ٣١٩-٣٢٢.
181
قال أبو جعفر: فأخبر ﷺ أنّ البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه.
و"الهاء" التي في"شطرَه"، عائدة إلى المسجد الحرام.
فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام
182
في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى.
وأدخلت"الفاء" في قوله:"فولوا"، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله:"حيثما كنتم" جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾
يعني بقوله جل ثناؤه:"وإنّ الذين أوتُوا الكتاب" أحبارَ اليهود وعلماء النصارى.
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٥٦- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن الذين أوتوا الكتاب"، أنزل ذلك في اليهود.
* * *
وقوله:"ليعلمون أنه الحق من ربهم"، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده.
* * *
ويعني بقوله:"من رَبِّهم" أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم.
* * *
183
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، (١) ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي"الآية"- (٢) بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا -مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وأجيبت"لئن" بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ بالمستقبل تشبيهًا لها ب"لو"، فأجيبت بما تجاب به"لو"، لتقارب معنييهما.
(١) انظر تفسير"غافل" فيما سلف ٢: ٢٤٣-٢٤٤، ٣١٥، وهذا الجزء ٣: ١٢٧.
(٢) انظر تفسيره"آية" فيما سلف ١: ١٠٦/٢: ٥٥٣.
184
وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. (١) وأجيبت"لو" بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم أوّله إلا بآخره، ولا يتمُّ وحده، ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت"اللام" الأولى بمنزلة يَمين، والثانية بمنزلة جواب لها، كما قيل:"لعمرك لتقومَنَّ" إذ كثرت"اللام" من"لعمرك"، حتى صارت كحرف من حروفه، فأجيب بما يجاب به الأيمان، إذ كانت"اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. (٢) فشبهت"اللام" التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا، فأجيبت بأجوبَتها.
* * *
فكانَ مَعنى الكلام -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: لو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.
* * *
وأما قوله:"وما أنتَ بتابع قِبلتهم"، يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرقَ، فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها.
* * *
وأما قوله:"وما بعضهم بتابع قبلة بعض"، فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعةٍ
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٥٨، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٨٤.
(٢) قوله: "أجوبة الأيمان لنا على الأيمان" هذه عبارة غامضة، لم أظفر لها بوجه أرتضيه، وأنا لا أشك في تحريفها أو نقصها.
185
قبلةَ النصارى، ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:-
٢٢٥٧- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما بعضهم بتاع قبلة بعض"، يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي ﷺ لما حُوِّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم:"وإنّ الذين أوتوا الكتابَ ليعلمون أنه الحق من ربهم" إلى قوله:"ليكتمون الحق وهم يعلمون". (١)
٢٢٥٨- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض"، مثل ذلك.
* * *
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تُشعر نفسك رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى، وإن اتّبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعُهم إلى ما لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة، وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولئن اتبعت أهواءهم"، ولئن التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا أو نصارى تهتدوا"، فاتبعتَ قبلتهم - يعني: فرَجعت إلى قبلتهم.
(١) الأثر: ٢٢٥٧- انظر ما مضى رقم: ٢٢٠٤.
186
ويعني بقوله:"من بَعد مَا جَاءك من العلم"، من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق، ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها،"إنك إذًا لمن الظالمين"، يعني: إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي الظَّلمةِ أنفسَهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، وأحدُهم وفي عِدادِهم. (١)
* * *
(١) السياق: من عبادي الظلمة... وأحدهم، وفي عدادهم".
187
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه"، أحبارَ اليهود وعلماء النصارى: يقول: يعرف هؤلاء الأحبارُ من اليهود، والعلماءُ من النصارى: أن البيتَ الحرام قبلتُهم وقبلة إبراهيم وقبلةُ الأنبياء قبلك، كما يعرفون أبناءَهم، كما:-
٢٢٥٩- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يَعرفونه كما يَعرفون أبناءهم"، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلةُ.
٢٢٦٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قول الله عز وجل:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونهُ كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني: القبلةَ.
187
٢٢٦١- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، عرفوا أن قِبلة البيت الحرام هي قبلتُهم التي أمِروا بها، كما عرفوا أبناءهم.
٢٢٦٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني بذلك: الكعبةَ البيتَ الحرام.
٢٢٦٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء، كما يعرفون أبناءهم. (١)
٢٢٦٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال، اليهود يعرفون أنها هي القبلة، مكة.
٢٢٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال، القبلةُ والبيتُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وإنّ طائفةً من الذين أوتوا الكتاب -وهُمُ اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل الكتاب.
٢٢٦٦- حدثني محمد بن عمرو -يعني الباهلي- قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بذلك.
(١) في المطبوعة: "يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء".
188
٢٢٦٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.
٢٢٦٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله:"ليكتمون الحق"، - وذلك الحق هو القبلة =التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم. يقول: فَولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام= التي كانت الأنبياء من قبل محمدٍ ﷺ يتوجَّهون إليها. فكتمتها اليهودُ والنصارى، فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو بيتَ المقدس، ورفضُوا ما أمرهم الله به، وكتموا مَعَ ذلك أمرَ محمد ﷺ وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا ﷺ وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى، وخيانتهم عبادَه، وكتمانِهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيرُه، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافُه، فقال:"ليكتمونَ الحق وهم يعلمون"، أنْ لَيس لَهم كتمانه، فيتعمَّدون معصية الله تبارك وتعالى، كما:- (١)
٢٢٦٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهُمْ يعلمون"، فكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
٢٢٧٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليكتمون الحق وَهمْ يعلمون" قال، يكتمون محمدًا ﷺ وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
(١) من أول قوله: "كما حدثنا بشر بن معاذ"، إلى حيث نذكر في ص ٢٠٧ تعليق: ٢ موجود في ست عشرة صفحة بقيت من القسم المفقود من النسخة العتيقة.
189
٢٢٧١- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"، يعني القبلةَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (١) اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.
وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: (٢) عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.
يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين.
* * *
يعني بقوله:"فلا تكونن من الممترين"، أي: فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما:
٢٢٧٢- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام:"الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين"، يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك. (٣)
(١) في المطبوعة: "يقول الله جل ثناؤه"، وأثبت نص المخطوطة.
(٢) في المطبوعة"وهذا من الله تعالى ذكره خبر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "فلا تكن في شك أنها"، بإسقاط الفاء من"فإنها".
190
٢٢٧٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فلا تكونن من الممترين" قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما"الممتري" (١) "مفتعل"، من"المرْية"، و"المِرْية" هي الشك، ومنه قول الأعشى:
وإذَ رَفَعْتُ السَّوْطَ، أفْزَعَهَا تَحْتَ الضُّلُوعِ مُرَوِّعٌ شَهْمُ
وتَسُدُّ حَاذَيْهَا بِذِي خُصَلٍ عُقِمَتْ فناعَمَ، نَبْتَهُ العُقْمُ
تَسُدُّ بِدَائِمِ الخَطَرَانِ جَثْلٍ خَوايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ
تَدِرُّ عَلَى أَسْوُقِ المُمْتَرِينَ رَكْضًا، إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنّ (٢)
* * *
ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي ﷺ شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه، أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له:"فلا تكونن من الممترين"؟
قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره، كما قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) [سورة الأحزاب: ١]، ثم قال: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ
(١) في المطبوعة: "والممتري"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) ديوانه: ٢٠ واللسان (رجحن) من قصيدة سلف بيت منها في ١: ٣٤٥، ٣٤٦، يصف خيلا مغاوير لقيس بن معديكرب الكندي، أغارت على قوم مسرعة حثيثة، فبينا القوم يتمارون فيها إذا بها:
- تُبَارِي الزِّجَاجَ مَغَاوِيرُهَا شَمَاطِيط في رَهَجٍ كالدَّخَنْ
تَدِرُّ عَلَى أسوُق... ...................
در الفرس يدر دريرًا ودرة: عدا عدوًا شديدًا. لا يثنيه شيء. والأسوق جمع ساق، ويجمع أيضًا على سوق وسيقان. يقول: بيناهم يتمارون إذ غشيتهم الخيل فصرعتهم، فوطئتهم وطئًا شديدًا، ومرت على سيقانهم عدوًا. وارجحن السراب: ارتفع واتسع واهتز، وذلك في وقت ارتفاع الشمس.
191
مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة الأحزاب: ٢]. فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي ﷺ والنهيِ له، والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولكلّ"، ولكل أهل ملة، (٢) فحذف"أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه، كما:-
٢٢٧٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولكلِّ وِجْهة" قال، لكل صاحب ملة.
٢٢٧٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ولكلٍّ وجهة هو موليها"، فلليهوديّ وجهة هو موليها، وللنصارى وجهة هو موليها، وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة. (٣)
٢٢٧٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لكل أهل دين، اليهودَ والنصارَى. قال ابن جريج، قال مجاهد: لكل صاحب مِلة.
٢٢٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لليهود قبلة، وللنصارى قبلة، ولكم قبلة. يريد المسلمين.
٢٢٧٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٨٤- ٤٨٨.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "... تعالى ذكره ولكل أهل ملة"، والصواب ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: " فلليهود وجهة هو موليها"، و"وللنصارى قبلة هو موليها"، والصواب من المخطوطة. وفيها أيضًا: "التي هي قبلته" وأثبت ما في المخطوطة، وهو جبد.
192
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها"، يعني بذلك أهلَ الأديان: يقول: لكلٍّ قبلةٌ يرضَونها، ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه حيثُ تَوَجَّه المؤمنون. وذلك أن الله تعالى ذكره قال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: ١١٥]
٢٢٧٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكلٍّ وجْهة هو موليها"، يقول: لكل قوم قبلة قد ولَّوْها.
* * *
فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلةٌ هو مستقبلها، ومولٍّ وجهه إليها.
* * *
وقال آخرون بما:-
٢٢٨٠- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولكل وجهة هو موليها" قال، هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.
* * *
وتأويل قائل هذه المقالة: ولكلّ ناحية وجَّهك إليها ربّك يا محمد قبلة، اللهُ عز وجل مُولِّيها عبادَه.
* * *
وأما"الوِجهة"، فإنها مصدر مثل"القِعدة" و"المِشية"، من"التوجّه". وتأويلها: مُتوَجِّهٌ، يتوجَّه إليه بوَجهه في صلاته، (١) كما:-
٢٢٨١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجهة" قبلةٌ.
(١) في المطبوعة: "يتوجه إليها"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر معاني القرآن للفراء: ٩٠"وجهة".
193
٢٢٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٢٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ولكل وجهة" قال، وَجْه.
٢٢٨٤- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وِجْهه"، قِبلة.
٢٢٨٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، قلت لمنصور:"ولكل وجْهة هو مولِّيها" قال، نحن نقرؤها، ولكلٍّ جَعلنا قِبلة يرضَوْنها. (١)
* * *
وأما قوله:"هو مُولِّيها"، فإنه يعني هو مولٍّ وجهه إليها ومستقبلها، (٢) كما:-
٢٢٨٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هو موليها" قال، هو مستقبلها.
٢٢٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
ومعنى"التوْلية" هاهنا الإقبال، كما يقول القائل لغيره:"انصرِف إليّ" بمعنى: أقبل إليّ."والانصراف" المستعمل، إنما هو الانصراف عن الشيء، ثم يقال:"انصرفَ إلى الشيء"، بمعنى: أقبل إليه منصرفًا عن غيره. وكذلك يقال:"ولَّيت عنه"، إذا أدبرت عنه. ثم يقال:"ولَّيت إليه"، بمعنى أقبلت إليه مولِّيًا عن غيره. (٣)
* * *
(١) قوله: "نقرؤها"، لا يعني أنها قراءة في قراآت القرآن، وإنما يعني دراستها والتفقه في معانيها.
(٢) في المطبوعة: "مستقبلها" بحذف الواو، وهي جيدة.
(٣) انظر معنى"التولية" فيما سلف ٢: ٥٣٥، وهذا الجزء ٣: ١٧٥ وانظر أيضًا ٢: ١٦٢، ثم هذا الجزء ٣: ١١٥، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٨٥.
194
والفعل -أعني"التولية"- في قوله:"هو موليها" لل"كل". و"هو" التي مع"موليها"، هو"الكل"، وحُدَّت للفظ"الكل".
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولكل أهل مِلة وجهة، الكلُّ. منهم مولُّوها وجُوهَهم. (١)
* * *
وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها:"هو مُولاها"، بمعنى أنه مُوجَّهٌ نحوها. ويكون"الكل" حينئذ غير مسمًّى فاعله، (٢) ولو سُمي فاعله، لكان الكلام: ولكلّ ذي ملة وجهةٌ، اللهُ مولِّيه إياها، بمعنى: موجِّهه إليها.
* * *
وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك:"ولكُلٍّ وِجهةٍ" بترك التنوين والإضافة. وذلك لحنٌ، ولا تجوز القراءةُ به. لأن ذلك -إذا قرئ كذلك- كان الخبرُ غير تامٍّ، وكان كلامًا لا معنى لَه. وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه.
* * *
والصواب عندنا من القراءة في ذلك:"ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُولِّيها"، بمعنى: ولكلٍّ وجهةٌ وقبلةٌ، ذلك الكُلّ مُولّ وجهه نحوها. لإجماع الحجة من القرّاء على قراءة ذلك كذلك، وتصويبها إياها، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره. وما جاءَ به النقلُ مستفيضًا فحُجة، وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، (٣) فغيرُ جائز الاعتراضُ به على الحجة.
* * *
(١) في المطبوعة: "لكل منهم مولوها"، وهو كلام مختل، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "ويكون الكلام حينئذ"، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "السهو والخطأ"، وأثبت ما في المخطوطة.
195
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاستبقوا"، فبادروا وسَارعوا، من"الاستباق"، وهو المبادرة والإسراع، كما:-
٢٢٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: فسارعوا في الخيرات. (١)
* * *
وإنما يعني بقوله:"فاستبقوا الخيرات"، أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم، فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم، وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، (٢) فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، (٣) فلا عذر لكم في التفريط، وحافظوا على قبلتكم، فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، (٤) فتضلُّوا كما ضلت؛ كالذي:-
٢٢٨٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: لا تُغلَبُنَّ على قبلتكم.
٢٢٩٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فاستبقوا الخيرات" قال، الأعمال الصالحة.
* * *
(١) في المطبوعة: "يعني: فسارعوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "لأخراكم"، وهما سواء في المعنى.
(٣) في المطبوعة: "سبيل النجاة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "ولا تضيعوها كما ضيعها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهي أجود.
196
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا"، في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، (١) يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة، إن الله على كل شيء قدير، كما:-
٢٢٩١- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أينما تكونوا يَأت بكمُ الله جميعًا"، يقول: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة.
٢٢٩١م- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أينما تكونوا يَأت بكم الله جميعًا"، يعني: يومَ القيامة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما حضَّ الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزوُّد في الدنيا للآخرة، فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث كنتُم من بقاع الأرض، حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه، (٢) والمسيء عقابه بإساءته، أو يتفضّل فيصفح.
* * *
وأما قوله:"إنّ الله على كل شيء قدير"، فإنه تعالى ذكره يعني: إنّ الله تعالى على جَمْعكم -بعد مماتكم- من قبوركم إليه، من حيث كنتم وكانت قبوركم كمن وعلى غير ذلك مما يشاء، قديرٌ. (٣) فبادروا خروجَ أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليومَ بعثكم وَحشركم.
* * *
(١) انظر القول في تفسير"أينما" في معاني القرآن للفراء ١: ٨٥-٨٩.
(٢) في المخطوطة: "حتى يؤتي المحسن منكم جزاءه"، ولا بأس بها.
(٣) في المطبوعة: "من قبوركم من حيث كنتم وعلى غير ذلك"، أسقط منها الناسخ.
197
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن حيث خرجت"، ومن أيّ موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فولِّ يا محمد وَجهك - يقول: حوِّل وَجْهك. وقد دللنا على أن"التولية" في هذا الموضع شطر المسجد الحرام، إنما هي: الإقبالُ بالوجه نحوه. وقد بينا معنى"الشطر" فيما مضى. (١)
* * *
وأما قوله:"وإنه للحق من ربك"، فإنه يعني تعالى ذكره: وإنّ التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله.
* * *
وأما قوله:"ومَا الله بغافل عَما تَعملون"، فإنه يقول: فإن الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة. (٢)
* * *
(١) انظر ما سلف في"التولية" في هذا الجزء ٣: ١٩٤ تعليق: ٣، وما سلف في تفسير: "شطر" في هذا الجزء ٣: ١٧٥.
(٢) انظر معنى"غافل" فيما سلف من هذا الجزء ٣: ١٧٤ تعليق: ١، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ومن حَيثُ خرجت فول وَجهك شطر المسجد الحرام": من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا محمد، فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام، وهو شَطره.
ويعني بقوله:"وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم"، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم تُجاهه وقِبَله وقَصْدَه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾
قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى ب"الناس" في قوله:"لئلا يكون للناس"، أهلَ الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٩٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب. قالوا -حين صُرف نبيُّ الله ﷺ إلى الكعبة البيت الحرام-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!
٢٢٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
(١) في المخطوطة: "فولوا في صلاتكم"، أسقط"وجوهكم".
199
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب، قالوا -حين صُرف نبيُّ الله ﷺ إلى الكعبة-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!
* * *
فإن قال قائل: فأيّةُ حُجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله ﷺ وأصحابه نحوَ بيت المقدس، على رسول الله ﷺ وأصحابه؟
قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! (١) فهي الحجة التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله ﷺ وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على الجهالّ وأهل الغباء من المشركين. (٢)
وقد بينا فيما مضى أن معنى حِجاج القوم إيَّاه، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه، إنّما هي الخصومات والجدال. فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وَحسمه، بتحويل قبلة نبيّه ﷺ والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام. وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني ب"الناس"، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت.
* * *
وأما قوله:"إلا الذين ظَلموا منهم"، فإنهم مُشركو العرب من قريش، فيما تأوَّله أهلُ التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٢٩٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين ظَلموا منهم"، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم.
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء رقم: ٢٢٣٤، ٢٢٣٥.
(٢) في المطبوعة: "وأهل العناد من المشركين"، والصواب من المخطوطة.
200
٢٢٩٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هم المشركون من أهل مكة.
٢٢٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إلا الذين ظلموا منهم"، يعني مشركي قريش.
٢٢٩٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا الذين ظلموا منهم" قال، هم مشركو العرب.
٢٢٩٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركو قريش.
٢٢٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء: هم مشركو قريش - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقولُ مثل قول عطاء.
* * *
فإن قال قائل: وأيّةُ حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله ﷺ وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين -فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه- حُجة؟ (١)
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمتَ وذهبتَ إليه. وإنما"الحجة" في هذا الموضع، الخصومة والجدال. (٢) ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خُصُومةٌ ودعوى باطلٌ غيرَ مشركي قريش، فإن لهم عليكم دعوى بَاطلا وخصومةً بغير حق، (٣) بقيلهم لكم:"رَجَع محمدٌ إلى قبلتنا، وسيرجع إلى
(١) في المطبوعة: "... على المؤمنين حجة فيما أمرهم الله تعالى ذكره به، أو نهاهم عنه"، قدم"حجة" وزاد الثناء على الله.
(٢) انظر ما سلف في تفسير: "أتحاجوننا"، في هذا الجزء ٣: ١٢١.
(٣) في المطبوعة: "دعوى باطلة" في الموضعين، ولا بأس بها. يقال: "دعوى باطل وباطلة"
201
ديننا". فذلك من قولهم وأمانيّهم الباطلة، هي"الحجة" التي كانت لقريش على رسول الله ﷺ وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره"الذين ظلموا" من قريش من سائر الناس غيرهم، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجّههم إليها حُجة.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٠٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"لئلا يكون للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حُجتهم، قولهم: قد راجعتَ قبلتنا!
٢٣٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: قولهم: قد رَجَعت إلى قبلتنا!
٢٣٠٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قالا هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل:"فلا تَخشوْهم واخشوْني".
٢٣٠٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركُو قريش. يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبيّ الله ﷺ =انصرافَهُ إلى البيت الحرام= (١) أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله
(١) في المطبوعة والدر المنثور ١: ١٤٨"بانصرافه" وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير ١: ٣٥٨، وقوله: "انصرافه" منصوب على الظرفية أي عند انصرافه.
202
تعالى ذكره في ذلك كله. (١)
٢٣٠٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٢٣٠٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: لما صُرف نبيّ الله ﷺ نحوَ الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة: تحيّر على محمد دينه! فتوجّه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويُوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"لئلا يَكونَ للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني". (٢)
٢٣٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"لئلا يَكون للناس عَليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم" قال، قالت قريش - لما رَجَع إلى الكعبة وأمِر بها:- ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حُجتهم، وهم"الذين ظلموا" - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول مثل قول عطاء، فقال مجاهد: حُجتهم، قولهم: رجعت إلى قبلتنا!
* * *
(١) الأثر: ٢٣٠٣- في تفسير ابن كثير ١: ٣٥٨، والدر المنثور ١: ١٤٨. والذي في المخطوطة والمطبوعة سواء"فأنزل الله في ذلك كله". أما في الدر المنثور: "فأنزل الله في ذلك كله: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". والذي في الطبري يكاد لا يستقيم، والذي في الدر المنثور لا يستقيم، وكأن صواب العبارة: "فأنزل الله في ذلك، ذلك كله إلى قوله: "يا أيها الذين آمنوا... ".
(٢) الأثر: ٢٣٠٥- انظر الأثر السالف: ٢٢٠٤.
203
فقد أبان تأويلُ من ذكرنا تأويلَه من أهل التأويل قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، عن صحّة ما قلنا في تأويله، وأنه استثناءٌ على مَعنى الاستثناء المعروف، الذي ثبتَ فيهم لما بعدَ حرف الاستثناء ما كان منفيًّا عما قبله. (١) كما قولُ القائل (٢) "ما سَارَ من الناس أحدٌ إلا أخوك"، إثباتٌ للأخ من السير ما هو مَنفيٌّ عن كل أحد من الناس. فكذلك قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، نَفى عن أن يكون لأحد خُصومةٌ وجدلٌ قِبَلَ رسول الله ﷺ ودعوى باطلٍ عليه وعَلى أصحابه، بسبب توجُّههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش، فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى باطلا بأن يقولوا: (٣) إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل.
وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبيِّنٌ خطأُ قول من زعم أن معنى قوله:"إلا الذين ظلموا منهم": ولا الذين ظلموا منهم، وأن"إلا" بمعنى"الواو". (٤) لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفيُ الأول عن جميع الناس - أنْ يكون لهم حُجة على رسول الله ﷺ وأصحابه في تحوُّلهم نحو الكعبة بوجوههم - مبيِّنًا عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يُضافَ إليه أو يوصف به. (٥)
هذا مع خروج معنى الكلام =إذا وجّهت"وإلا" إلى معنى"الواو"، ومعنى
(١) في المطبوعة: "الذي يثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيًا عما قبلهم"، وهو خطأ صرف، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "كما أن قول القائل"، زادوا"أن" لتكون دارجة على نهجهم، والصواب ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "ودعوى باطلة" في الموضعين. وانظر ما سلف: ٢٠١ تعليق: ٣.
(٤) زاعم هذا القول هو أبو عبيدة في مجاز القرآن: ٦٠-٦١، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٨٩-٩٠.
(٥) رد الطبري على أبي عبيدة أمثل من رد الفراء وأقوم.
204
العطف= من كلام العرب. وذلك أنه غيرُ موجودة"إلا" في شيء من كلامها بمعنى"الواو"، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها. كقول القائل:"سار القوم إلا عمرًا إلا أخاك"، بمعنى: إلا عمرًا وأخاك، فتكون"إلا" حينئذ مؤدّية عما تؤدي عنه"الواو"، لتعلق"إلا" الثانية ب"إلا" الأولى. (١) ويجمع فيها أيضًا بين"إلا" و"الواو" فيقال:"سار القوم إلا عمرًا وإلا أخاك"، فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها، فيقال: (٢) "سار القوم إلا عمرًا وأخاك - أو إلا عمرًا إلا أخاك"، لما وصفنا قبل.
وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدَّعٍ من الناس أن يدَّعي أنّ"إلا" في هذا الموضع بمعنى"الواو" التي تأتي بمعنى العطف.
* * *
وواضحٌ فسادُ قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوْهم. كقول القائل في الكلام: (٣) "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [لك] المعتدي عليك"، فإن ذلك لا يعتدّ بعُداوَنه ولا بتركه الحمد، (٤) لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له، وقد سُمي ظالمًا = (٥) لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادَّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدًا على خطأ مقالته إجماعُهم على تخطئتها.
* * *
وظاهر بُطُول قول من زَعَم: (٦) أنّ"الذين ظلموا" هاهنا، ناسٌ من العرب
(١) في المخطوطة: "إلى الأول"، وكأنه غير صواب.
(٢) في المخطوطة: "ويجمع أيضًا فيها إلا والواو فيها فيقول: " ولم أستبن ما يقول، والذي في المطبوعة سياق صحيح.
(٣) في المطبوعة: "في كلامه"، والصواب من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء، فهو نص كلامه.
(٤) في المطبوعة، وفي معاني القرآن للفراء: "بعداوته"، والصواب ما في المخطوطة.
(٥) السياق: "وواضح فساد قول من زعم... لإجماع جميع أهل التأويل".
(٦) في المطبوعة: "بطلان" صحيحة المعنى، وفي المخطوطة: "دخول" تصحيف وتحريف لما أثبت. والبطول والبطلان مصدران من الباطل. وهما سواء في المعنى، وقد سلف أن استعملها الطبري مرارًا. انظر ما سلف ٢: ٤٢٦، تعليق: ١ / ٤٣٩ س: ١١/٤٧٩ س: ١٣.
205
كانوا يَهودًا ونصارَى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائرُ العرب، فلم تكن لهم حجة، وكانت حُجة من يحتجُّ منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تَكسِر عليه حجته:"إنّ لك عليّ حجة ولكنها منكسرة، وإنك لتحتج بلا حجة، وحجتك ضعيفة". ووَجَّه معنى:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلى معنى: إلا الذينَ ظلموا منهم، منْ أهل الكتاب، فإنّ لَهُم عليكم حُجة وَاهية أو حجة ضعيفة.
* * *
ووَهْيُ قَولِ من قال:"إلا" في هذا الموضع بمعنى"لكن".
وضَعْفُ قولِ من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم. (١)
لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأنّ ذلك من الله عز وجل خَبرٌ عن الذين ظلموا منهم: أنهم يحتجون على النبي ﷺ وأصحابه بما قد ذكرنا، ولم يقصِد في ذلك إلى الخبر عن صفة حُجتهم بالضعف ولا بالقوة -وإن كانت ضعيفةً لأنها باطلة- وإنما قصد فيه الإثباتَ للذين ظلموا، ما قد نَفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة.
٢٣٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال الربيع: إنّ يهوديًّا خاصم أبا العالية فقال: إن مُوسَى عليه السلام كان يصلِّي إلى صخرة بيت المقدس. فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجدُ صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقِبلتُه إلى البيت الحرام. قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين، وقِبلتُه إلى الكعبة.
* * *
وأما قوله:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يعني: فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لَكم أمرهم من الظَّلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون (٢) في أنّ محمدًا صلى
(١) قوله"ووهي قول... "، و"وضعف قول... " معطوف على قوله آنفًا: "وظاهر بطول قول من زعم... ".
(٢) في المطبوعة: "من الظلم في حجتهم"، والصواب من المخطوطة. ثم فيها: "وقولهم ما يقولون من أن محمدًا"، وصوابه من المخطوطة.
206
الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يَقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدِّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني، فخافوا عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه.
وذلك من الله جل ثناؤه تقدُّمٌ إلى عباده المؤمنين، (١) بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها، وبالنهي عن التوجُّه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوْني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شَطرَ المسجد الحرام.
وقد حكي عن السدي في ذلك ما:-
٢٣٠٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يقول: لا تخشوا أن أردَّكم في دينهم (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولأتمَّ نعمتي عليكم"، ومن حيث خرجتَ من البلاد والأرض، وإلى أيّ بقعة شخصت (٣) فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثُ كنت، يا محمد والمؤمنون، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم شَطرَه،
(١) تقدم إليه بكذا: أمره به.
(٢) إلى هنا انتهى ما عثرنا عليه من الأوراق التي ذكرناها في ص: ١٨٩ تعليق: ١، وفي آخره ما نصه:
"تَمَّ المجلد الثاني بعون الله تعالى، والصلاة على نبيّه محمد وآله وصحبه وسلم. يتلوهُ في الثالث إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله تعالى: (ولأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) إن شاء الله تعالى، وهو بقية الجزء السادس والعشرون؟؟ "
(٣) في المطبوعة: "إلى أي بقعة"، بحذف الواو، والصواب ما أثبت.
207
واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس -سوى مشركي قريش- حجةٌ، ولأتمّ بذلك =من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس= نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها على رسوله ﷺ والمؤمنين به من أصحابه.
* * *
وقوله:"ولعلكم تهتدون"، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. (١) و"لعلكم" عطف على قوله:"ولأتم نعمتي عليكم"،"ولأتم نعمتي عليكم" عطف على قوله:"لئلا يكون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كما أرسلنا فيكم رسولا"، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديَكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام، فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة: ١٢٨]، كما جعلت لكُم دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو
(١) انظر ما سلف في معنى"لعل" بمعنى"كي" ١: ٣٦٤ / ثم ٢: ٦٩، ٧٢، ١٦١.
208
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: ١٢٩]، فابتعثت منكم رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه من ذرّيتهما.
ف"كما" -إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل:"ولأتم نعمتي عليكم". ولا يكون قوله:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، متعلقًا بقوله:"فاذكروني أذكركم".
* * *
وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، (١) فأغرقوا النزع، (٢) وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم.
وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض:"كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن" - أن لا يَشترطوا للآخر، لأن"الكاف" في"كما" شرطٌ معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب:"اذكروني" بعده، وهو قوله:"أذكركم"، أوضحُ دليل على أن قوله:"كما أرسلنا" من صلة الفعل الذي قبله، وأن قوله:"اذكروني أذكركم" خبرٌ مبتدأ منقطعٌ عن الأول، وأنه =من سبب قوله:"كما أرْسلنا فيكم"= بمعزل.
* * *
وقد زعم بعض النحويين أن قوله:"فاذكروني" -إذا جُعل قوله:"كما أرسلنا فيكم" جوابًا له، مع قوله:"أذكركم"- نظيرُ الجزاء الذي يجاب بجوابين، كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه"، فيصير قوله:"فأته" و"ترضه" جوابين لقوله:"إذا أتاك"، وكقوله:"إن تأتني أحسِن إليك أكرمك". (٣)
(١) هو الفراء، انظر معاني القرآن ١: ٩٢.
(٢) أغرق النازع في القوس: إذا شدها، وجاوز الحد في مد القوس، وبلغ النصل كبد القوس، فربما قطع يد الرامي. ونزع الرامي في قوسه نزعًا: جذب السهم بالوتر. وقولهم: "أغرق في النزع"، مثل في الغلو والإفراظ.
(٣) هو من قول الفراء أيضًا، انظر معاني القرآن ١: ٩٢.
209
وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل.
* * *
ذكر من قَال: إنّ قوله:"كما أرسلنا"، جوابُ قوله:"فاذكروني".
٢٣٠٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، كما فعلتُ فاذكروني.
٢٣١٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قوله:"كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم"، فإنه يعني بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها، لتنقطع حُجة اليهود عنكم، فلا تكون لهم عليكم حجَة، ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا، كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
٢٣١١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأمّا قوله:"يتلو عليكم آياتنا"، فإنه يعني آيات القرآن، وبقوله:"ويزكيكم" ويطهّركم من دَنَس الذنوب، و"يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان، يعني: أنه
210
يعلمهم أحكامه. ويعني: ب"الحكمة" السننَ والفقهَ في الدين. وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده. (١)
* * *
وأمّا قوله:"ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون"، فإنه يعني: ويعلمكم من أخبار الأنبياء، وقَصَص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادثٌ وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلِموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكرْكم برحمتي إياكم ومغفرَتي لكم، كما:-
٢٣١٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير:"فاذكروني أذكركم" قال، اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي.
* * *
وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح.
* ذكر من قال ذلك:
١٣١٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون"، إن الله ذاكرُ من ذكره، وزَائدُ من شكره، ومعذِّبُ من كفَره.
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ٨٦-٨٨ والمراجع.
211
٢٣١٤- حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اذكروني أذكركم" قال، ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي،"ولا تكفرون"، يقول: ولا تجحدوا إحساني إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه من عبادي، فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته، ومن كفرني حَرمته وسلبته ما أعطيتُه.
* * *
والعرب تقول:"نَصحتُ لك وشكرتُ لك"، ولا تكاد تقول:"نصحتك"، وربما قالت:"شكرتك ونصحتك"، من ذلك قول الشاعر: (١)
هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ فَهَلا شَكَرْتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقَاتِلِ (٢)
وقال النابغة في"نصحتك":
نَصَحْتُ بَنِي عَوَفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا رَسُولِي ولَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وسَائِلِي (٣)
* * *
(١) نسبه أبو حيان في تفسيره ١: ٤٤٧ لعمر بن لجأ، ولم أجد الشعر في مكان.
(٢) معاني القرآن للفراء: ١: ٩٢. وكان في المطبوعة: "إن لم تقاتل"، وأثبت ما في الفراء والبؤسى والبأساء: البؤس. والنعمى والنعماء: النعمة.
(٣) ديوانه: ٨٩، ومعاني القرآن للفراء ١: ٩٢، وأمالي ابن الشجري ١: ٣٦٢، وهي في غزو عمرو بن الحارث الأصغر لبني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. ورواية ديوانه: "فلم يتقبلوا وصاتي". الوصاة: الوصية. وقوله: "رسولي". الرسول: الرسالة. والوسائل جمع وسيلة: وهي ما يتقرب به المرء إلى غيره من حرمة أو آصرة.
212
وقد دللنا على أن معنى"الشكر"، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة، وأن معنى"الكفر" تغطية الشيء، فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية حضٌّ من الله تعالى ذكره على طاعته، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، فقال:"يا أيها الذينَ آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة" على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عَما أنسخه منها إلى الذي أحدِثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه -وإن لحقكم في ذلك مكروهٌ من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل، أو مشقةٌ على أبدانكم في قيامكم به، أو نقصٌ في أموالكم- (٢) وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومَشقته عليكم، واحتمال عنائه وثقله، ثم بالفزع منكم فيما يَنوبكم من مُفظِعات الأمور إلى الصلاة لي، فإنكم بالصبر على المكاره تُدركون مرضاتي، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبَلي، وتدركون حاجاتكم عندي، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيَّ، أنصرهُم وأرعاهم وأكلَؤُهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأمَّلوا قِبَلي.
* * *
(١) معنى"الشكر" ١: ١٣٥-١٣٨ وتفسير معنى"الكفر" فيما سلف ١: ٢٥٥، ٣٨٢، ٥٢٢، ومواضع كثيرة. اطلبها في فهرس اللغة.
(٢) هذه جمل متداخلة، والعطف سياقه في هذه الجملة: استعينوا بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي.. والانصراف عما أنسخه.. والتسليم لأمري.. والتحول عنه.. وعلى جهاد أعدائكم.. بالصبر.. ".
213
وقد بينت معنى"الصبر" و"الصلاة" فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته، (١) كما:
٢٣١٥- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واستعينوا بالصبر والصلاة"، يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله.
٢٣١٦- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة"، اعلموا أنهما عَونٌ على طاعة الله.
* * *
وأما قوله:"إن الله مع الصابرين"، فإن تأويله: فإن الله نَاصرُه وظَهيرهُ وراضٍ بفعله، كقول القائل:"افعل يَا فلان كذا وأنا معك"، يعني: إني ناصرُك على فعلك ذلك ومُعينك عليه.
* * *
(١) انظر فيما سلف تفسير"الصلاة" ١: ٢٤٢-٢٤٣ / ثم ٢: ١١. وتفسير"الصبر" في ٢: ١١، ١٢٤، وانظر فهرس اللغة.
214
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوّكم، وترك معاصيَّ، وأداء سائر فرائضي عليكم، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت، فإن الميت من خَلقي مَنْ سلبته حياتَه وأعدمتُه حواسَّه، فلا يلتذّ لذة ولا يُدرك نعيما، فإنّ من قُتل منكم ومن سائر خَلقي في سبيلي، أحياءٌ عندي، في حياة ونعيم، وعيش هَنِيّ، ورزق سنيّ، فَرحين
214
بما آتيتهم من فضلي، وَحبوتهم به من كرامتي، كما:-
٢٣١٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بل أحياء" عند ربهم، يرزقون من ثمر الجنة، ويَجدون ريحها، وليسوا فيها.
٢٣١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٣١٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تقولوا لمن يقتل في سَبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون"، كنَّا نُحَدَّثَ (١) أن أرواح الشهداء تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سِدرة المنتهى، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاثُ خصال من الخير: مَن قُتل في سبيل الله منهم صار حيًّا مرزوقًا، ومن غُلب آتاه الله أجرًا عظيمًا، ومن مات رَزَقه الله رزقًا حسنًا.
٢٣٢٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء" قال، أرواحُ الشهداء في صُوَر طير بيضٍ.
٢٣٢١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، في صُوَر طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا.
٢٣٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث. قال، سمعت عكرمة يقول في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون" قال، أرواح الشهداء في طير خُضر في الجنة.
* * *
(١) في المطبوعة: "كما يحدث"، والصواب ما أثبت.
215
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعمَّ به غيره؟ وقد علمت تظاهُر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى الجنة يَشمون منها رَوْحها، ويستعجلون الله قيام الساعة، ليصيروا إلى مساكنهم منها، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها = وعن الكافرين أنهم يُفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى النار يَنظرون إليها، ويصيبهم من نَتنها ومكروهها، ويُسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يَقمَعُهم فيها، ويسألون الله فيها تأخيرَ قيام الساعة، حِذارًا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها، مع أشباه ذلك من الأخبار. وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الذي خُصَّ به القتيل في سبيل الله، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائرُ الكفار والمؤمنين غيرُه أحياءٌ في البرزخ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك، وأما المؤمنون فمنعَّمون بالروح والريحان ونَسيم الجنان؟
قيل: إنّ الذي خَصّ الله به الشهداء في ذلك، وأفادَ المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في بَرْزَخِهم قَبل بعثهم، ومنعَّمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها الذي لم يُطعمها الله أحدًا غيرَهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيلة التي فضَّلهم بها وخصهم بها من غيرهم، والفائدة التي أفادَ المؤمنين بالخبر عنهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة آل عمران: ١٦٩-١٧٠]، وبمثل الذي قُلنا جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٢٣٢٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وَعَبدة
216
بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشهداءُ على بَارق، نهر بباب الجنة، في قبة خضراء -وقال عبدة: في روضة خضراء- يخرُج عليهم رزقهم من الجنه بُكرة وَعشيًّا. (١)
٢٣٢٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي، عن ابن بشار السلمي -أو أبي بشار، شكّ أبو جعفر- قال: أرواح الشهداء في
(١) الحديث: ٢٣٢٣- عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٧٢، وابن أبي حاتم ٣/١/٨٩.
الحارث بن فضيل الأنصاري المدني: ثقة، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٢٧٧، وابن أبي حاتم ١/٢/٨٦.
محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأشهلي، الأوسي، الأنصاري: صحابي على الراجح الذي جزم به البخاري، مات سنة ٩٦ أو ٩٧. قال الواقدي: مات وهو ابن ٩٩ سنة. قال الحافظ في التهذيب: "على مقتضى قول الواقدي في سنة، يكون له يوم مات النبي ﷺ ١٣ سنة. وهذا يقوي قول من أثبت الصحبة". وروى البخاري في الكبير ٤/١/٤٠٢، بإسناد صحيح: "عن محمود بن لبيد قال، أسرع النبي ﷺ حتى تقطعت نعالنا، يوم مات سعد بن معاذ". وهذا حجة كافية في إثبات صحبته. فقال ابن أبي حاتم ٤/١/٢٨٩-٢٩٠: "قال البخاري: له صحبة. فخط أبي عليه، وقال لا يعرف له صحبة"! وهو نفي دون دليل، لا يقوم أمام إثبات عن دليل صحيح. ولذلك قال ابن عبد البر - كما في التهذيب: "قول البخاري أولى". وهو مترجم أيضًا في ابن سعد ٥: ٥٥-٥٦. والإصابة ٦: ٦٦-٦٧.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٣٩٠، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ٧: ٦٩ (من مخطوطة الإحسان)، من طريق يعقوب، به. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٧٤، من طريق يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير في التفسير ٢: ٢٩٢، عن رواية المسند. قال: "تفرد به أحمد". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه، وقال: "وهو إسناد جيد". وهو في مجمع الزوائد ٥: ٢٩٨، ونسبه لأحمد، والطبراني، وقال: "ورجال أحمد ثقات".
وذكره السيوطي ٢: ٩٦. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر والبيهقي في البعث.
وقوله: "وقال عبدة... "، يريد أن"عبدة بن سليمان" قال: "في روضة" بدل"في قبة". ووقع في المطبوعة"أو قال عبدة". ووضع"أو" هنا بدل واو العطف - خطأ غير مستساغ. ونرجح أنه من ناسخ أو طابع.
217
قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثَورٌ وحُوت، فأما الثور، ففيه طعم كلّ ثمرةٍ في الجنة، وأما الحوت ففيه طَعمُ كل شراب في الجنة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإنّ الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكرُه أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصّهم بها في البرزخ غيرُ موجود في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، وإنما فيه الخبرُ عن حَالهم، أمواتٌ هم أم أحياءٌ.
قيل: إنّ المقصود بذكر الخبر عن حياتهم، إنما هو الخبر عَمَّا هم فيه من النِّعمة، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عبادَه عما خَصّ به الشهداء في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران: ١٦٩]، وعلموا حالهم بخبره ذلك، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله:"ولا تقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، نَهْيُ خَلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى (٢) = تَرَك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم.
* * *
وأما قوله:"ولكنْ لا تَشعرُون"، فإنه يعني به: ولكنكم لا تَرونهم فتعلموا أنهم أحياءٌ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به.
* * *
وإنما رفع قوله:"أمواتٌ" بإضمار مكنيّ عن أسماء"من يُقتل في سبيل الله"، ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات. ولا يجوز النصب في
(١) الخبر: ٢٣٢٤- هذا خبر لا أدري ما هو؟! ورأسه"ابن بشار السلمي؛ أو أبو بشار" - الذي شك فيه ابن جرير: لم أهتد إلى شيء يدل عليه. وقد ذكره السيوطي ٢: ٩٦، عن هذا الموضع من الطبري، ثم لم يصنع شيئًا!
(٢) سياق الكلام: ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده... ترك أعادة ذكر... ".
218
"الأموات"، لأن القول لا يعمل فيهم، وكذلك قوله:"بل أحياء"، رفعٌ، بمعنى: هُمْ أحياء. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباعَ رَسوله صلى الله عليه وسلم، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءَه قَبلهم. ووَعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [سورة البقرة: ٢١٤]، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيرُه يقول.
٢٣٢٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع"، ونحو هذا، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال:"وبشر الصابرين"، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا).
* * *
(١) في المطبوعة: "إنهم أحياء"، والسياق يقتضي ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٩٣-٩٤، فقد استوفى ما اختصره الطبري.
219
ومعنى قوله:"وَلنبلونكم"، ولنختبرنكم. وقد أتينا على البيان عن أن معنى"الابتلاء" الاختبار، فيما مضى قبل. (١)
* * *
وقوله:"بشيء من الخوف"، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع -وهو القحط- يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسَنه تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، (٢) فتنقص لذلك أموالكم، وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموتُ ذراريكم وأولادكم، وجُدوب تحدُث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب.
كل ذلك خطابٌ منه لأتباع رَسول الله ﷺ وأصحابه، كما:
٢٣٢٦- حدثني هارون بن إدريس الكوفيّ الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال، هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. (٣)
* * *
وإنما قال تعالى ذكره:"بشيء من الخوف" ولم يقل بأشياء، لاختلاف أنواع ما أعلم عبادَه أنه مُمتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفًا - وكانت"مِن" تَدلّ على أنّ كل نوع منها مُضمر"شيء"، فإنّ معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر"الشيء" في أوله، من إعادته مع كل نوع منها.
ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم، وامتحنهم بضروب المحَن، كما:-
٢٣٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٨، ٤٩، ثم هذا الجزء ٣: ٧.
(٢) في المطبوعة: "وتعذر المطالب" والصواب ما أثبت.
(٣) الخبر: ٢٣٢٦- سبق هذا الإسناد: ١٤٥٥، ولما نعرف شيخ الطبري فيه.
220
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" قال، قد كان ذلك، وسيكونُ ما هو أشد من ذلك.
قال الله عند ذلك:"وبشر الصابرين الذين إذا أصَابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عَلمهم صَلواتٌ من رَبهم وَرَحمة وأولئك هُمُ المهتدون".
* * *
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، بشّر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، (١) والحافظين أنفسهم عن التقدم على نَهْيي عما أنهاهم عنه، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به، (٢) القائلين إذا أصابتهم مصيبة:"إنا لله وإنا إليه رَاجعون". فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ -بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد- أهلَ الصبر، الذين وصف الله صفتهم.
* * *
وأصل"التبشير": إخبار الرجل الرجلَ الخبرَ، يَسرّه أو يسوءه، لم يسبقه به إلى غيره (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي، فيُقرون بعبوديتي، ويوحِّدونني بالربوبية،
(١) في المطبوعة: "بما امتحنتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "بما ابتليتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) انظر ما سلف ١: ٣٨٣/٢: ٣٩٣.
ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي، ويقولون -عند امتحاني إياهم ببعض مِحَني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به من الخوف والجوع ونَقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنهم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون = تسليمًا لقضائي ورضًا بأحكامي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، هؤلاء الصابرون، الذين وصفهم ونَعتهم -"عليهم"، يعني: لَهم،"صلوات"، يعني: مغفرة."وصلوات الله" على عباده، غُفرانه لعباده، كالذي روي عن النبي ﷺ أنه قال:
٢٣٢٨-"اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى". (١)
* * *
يعني: اغفر لَهم. وقد بينا"الصلاة" وما أصلها في غير هذا الموضع. (٢)
وقوله:"ورحمة"، يعني: ولهُم مع المغفرة، التي بها صَفح عن ذنوبهم وتغمَّدها، رحمة من الله ورأفة.
(١) الحديث: ٢٣٢٨- هو جزء من حديث صحيح. رواه البخاري ٣: ٢٨٦ (من الفتح). ومسلم ١: ٢٩٧- كلاهما من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي أوفى قال، "كان رسول الله ﷺ إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى".
قال الحافظ: "يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء... وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر".
وهذه فائدة نفيسة، من الحافظ ابن حجر، رحمه الله.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٤٢ / ثم ٢: ٥٠٥ / ثم ٢: ٣٧، ٢١٣، ٢١٤.
222
ثم أخبر تعالى ذكره -مع الذي ذكر أنه مُعطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه، من المغفرة والرحمة- أنهم هم المهتدون، المصيبون طريق الحقّ، والقائلون مَا يُرْضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب.
وقد بينا معنى"الاهتداء"، فيما مضى، فإنه بمعنى الرشد للصواب. (١)
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"الذين إذا أصابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه رَاجعون أولئكَ عليهم صَلوات من ربهم وَرحمه وأولئك هم المهتلون" قال، أخبر الله أنّ المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى الله، ورَجع واسترْجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاةُ من الله، والرحمة، وتحقيق سَبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن استرْجع عند المصيبة، جبر الله مُصيبته، وأحسن عُقباه، وَجعل له خَلفًا صالحًا يرضاه. (٢)
٢٣٣٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
(١) انظر ما سلف ١: ١٦٦-١٧٠، ٢٣٠، ٢٤٩، ٥٤٩-٥٥١ / ثم ٢: ٢١١/ ثم هذا الجزء ٣: ١٠١، ١٤٠، ١٤١.
(٢) الحديث: ٢٣٢٩- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢: ٣٣٠-٣٣١، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه علي بن أبي طلحة، وهو ضعيف".
وذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ١٥٦، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان.
وعلي بن أبي طلحة: سبق في: ١٨٣٣ أنه ثقة، وأن علة هذا الإسناد -وهو كثير الدوران في تفسير الطبري-: انقطاعه، لأن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، ولم يره.
223
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة"، يقول: الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا.
٢٣٣١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان العُصفُريّ، عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة:"الذينَ إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صَلواتٌ من رَبهم وَرحمة"، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمعْ إلى قوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) [سورة يوسف: ٨٤]. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر:"والصفا" جمع"صَفاة"، وهي الصخرة الملساء، ومنه قول الطرمَّاح:
أَبَى لِي ذُو القُوَى وَالطَّوْلِ ألا يُؤَبِّسَ حَافِرٌ أَبَدًا صَفَاتِي (٢)
(١) الخبر: ٢٣٣١- سفيان العصفري: هو سفيان بن زياد العصفري، وهو ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة. مترجم في التهذيب ٤: ١١١، برقم: ١٩٨. وابن أبي حاتم ٢/١/٢٢١، برقم: ٩٦٦. والكبير للبخاري ٢/٢/٩٣، برقم: ٢٠٧٦، لكن لم يذكر نسبته"العصفري". وهو يشتبه على كثير من العلماء بآخر، هو"سفيان بن دينار، أبو الورقاء الأحمري". فقد ترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/٢٢٠-٢٢١، برقم: ٦٩٥، وثبت في بعض نسخه زيادة"العصفري" في نسبته. والبخاري ترجم"الأحمري" ٢/٢/٩٢، برقم: ٢٠٧٣. ولم يذكر فيه"العصفري" أيضًا. وترجم في التهذيب ٤: ١٠٩، برقم: ١٩٣- مع شيء من التخليط في الترجمتين، يظهر بالتأمل. ومع هذا التخليط فقد رجح الحافظ أنهما اثنان، وقال في ترجمة"سفيان بن دينار"-: "والتحقيق فيه: أن سفيان بن دينار التمار هذا، يقال له: العصفري، أيضًا، وأن سفيان بن زياد العصفري: آخر، بينه الباحي". وقال في ترجمة الآخر: "والصحيح أنهما اثنان، كما قال ابن معين وغيره". وأيا ما كان فالاثنان قتان.
(٢) ديوانه: ١٣٤، وكان في المطبوعة: "يونس حافر أبدي"، وهو خطأ، والطول: القدرة والغنى. وهو ذو الطول والقوة، هو الله سبحانه. وأبس الشيء يؤبسه: ذلله ولينه، أو كسره، ومثله قول عباس بن مرداس:
224
وقد قالوا إن"الصفا" واحد، وأنه يثنى"صَفَوان"، ويجمع"أصفاء" و"صُفِيًّا، وصِفِيًّا"، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز (١)
إنْ تَكُ جُلْمُودَ صَخْرٍ لاَ أُؤَبِّسُهُ أُوقِدْ عَلَيْهِ، فأْحمِيهِ، فينصَدِعُ
السَّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه وَالحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
كأنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (٢)
وقالوا: هو نظير"عَصَا وعُصِيّ [وعِصِيّ، وأَعْصاء]، ورَحَا ورُحِيّ [وَرِحِيّ] وأرْحاء". (٣)
* * *
وأما"المروة"، فإنها الحصاةُ الصغيرة، (٤) يجمع قليلها"مَرَوات"، وكثيرها"المرْو"، مثل"تمرة وتمَرات وتمر"، قال الأعشى ميمون بن قيس:
(١) هو الأخيل الطائي.
(٢) سيأتي في التفسير ٦: ١٤٢ والجمهرة ٣: ١٣٥، والمخصص ١٠: ٩٠، ومجالس ثعلب: ٢٤٩، والحيوان ٢: ٣٣٩، والقالي ٢: ٨، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده:
كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ
والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى"متني" فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى"متنيه"، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري: "هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه"من طول إشراف" بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة.
(٣) الزيادة بين الأقواس لا بد منها، ليستقيم تمثيل المتمثل بهذه الجموع، على نظيرها. وهو قوله آنفًا: صفا وأصفاء وصفى وصفى.
(٤) بيان الطبري عن معنى"المرو" ليس بجيد، والأجود ما قاله أصحاب اللغة: المرو، حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، وتقدح منها النار، ويتخذ أداة كالسكين يذبح بها، وهي صلبة.
225
وَتَرَى بالأرْضِ خُفًّا زائِلا فَإِذَا مَا صَادَفَ المَرْوَ رَضَح (١)
يعني ب"المرو": الصخرَ الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:
حَتَّى كأنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ بِصَفَا المُشَرِّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ (٢)
ويقال"المشقِّر".
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصفا والمروة"، في هذا الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه، دون سائر الصفا والمرو. ولذلك أدخل فيهما"الألف واللام"، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرْوِ.
* * *
وأما قوله:"منْ شَعائر الله"، فإنه يعني: من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها، إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها. ومنه قول الكميت:
نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فَجِيلا تَرَاهُمُ شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ (٣)
(١) ديوانه: ١٦١، وفي الشطر الأول تصحيف لم أتبين صوابه، ورواية الديوان: وَتُولِّي الأَرْضَ خُفًّا مُجْمَرًا
وهو يصف ناقته وشدتها ونشاطها، والخف المجمر: هو الوقاح الصلب الشديد المجتمع، نكبته الحجارة فصلب. رضح الحصا والنوى رضحًا: دقه فكسره. يعني من شدة الخف وصلابته، وذلك محمود في الإبل.
(٢) ديوانه: ٣، والمفضليات: ٥٨٧، من قصيدة البارعة في رثاء أولاده، يقول عن المصائب المتتابعة تركته كهذه الصخرة التي وصف. والمشرق: المصلي بمنى. قال ابن الأنباري: "وإنما خص المشرق، لكثرة مرور الناس به". ثم قال: "ورواها أبو عبيدة: "المشقر": يعني سوق الطائف. يقول: كأني مروة في السوق يمر الناس بها، يقرعها واحد بعد واحد".
(٣) الهاشميات: ٢١، واللسان (شعر)، وغيرهما. والضمير في قوله: "نقتلهم"، إلى الخوارج الذين عدد أسماءهم في بيتين قبل:
عَلاَمَ إذًا زُرْنَا الزُّبَيْر وَنَافِعًا بغارتنا، بَعْدَ المقَانِبِ مِقْنَبُ
وَشَاطَ عَلَى أَرْمَاحِنَا بِادِّعَائِهَا وَتَحْوِيلهَا عَنْكُمْ شَبِيبٌ وقَعْنَبُ
والجيل: الأمة، أو الصنف من الناس. وفي المطبوعة واللسان: "تراهم" بالتاء، وهو خطأ. والشعائر هنا جمع شعيرة: وهي البدنة المهداة إلى البيت، وسميت بذلك لأنه يؤثر فيها بالعلامات. وإشعار البدن: إدماؤها بطعن أو رمي أو حديدة حتى تدمي.
226
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما:-
٢٣٣٢- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله" قال، من الخبر الذي أخبركم عنه. (١)
٢٣٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
فكأن مجاهدًا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع"شعيرة"، من إشعار الله عباده أمرَ الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف بهما. فمعناه: إعلامُهم ذلك.
وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله:"إن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله" عبادَه المؤمنين أن السعي بينهما من مَشاعر الحج التي سنَّها لهم، وأمرَ بها خليله إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، إذ سَأله أن يُريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر، فإنه مرادٌ به الأمر. لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا ﷺ باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [سورة النحل: ١٢٣]، وجعل تعالى ذكره إبراهيمَ إمامًا لمنْ بَعده. فإذْ كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مَناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله
(١) في المطبوعة: "من الخير" بالياء المثناة التحتية، وليس يستقيم، والصواب ما أثبت، وكلام الطبري في تعليقه على قول مجاهد، دال على الصواب من ذلك أنها من الإشعار، وهو الإخبار.
227
عليه وسلم قد عَمل به وسنه لمن بعده، وقد أُمرَ نبينا ﷺ وأمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"فمن حج البيت"، فمن أتاه عائدًا إليه بَعدَ بدء. وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو"حَاجٌّ إليه"، ومنه قول الشاعر: (١)
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولا كثِيرَةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا (٢)
(١) هو المخبل السعدي، وهو مخضرم.
(٢) المعاني الكبير: ٤٧٨، والاشتقاق لابن دريد: ٧٧، ١٥٦، وتهذيب الألفاظ: ٥٦٣، وإصلاح المنطق: ٤١١، والبيان والتبيين ٣: ٩٧، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: ٣١٣، وللبطليوسي: ٤٠٥، واللسان (سبب) (حجج)، (قهر) (زبرق)، والجمرة لابن دريد: ١: ٣١، ٤٩/٣: ٤٣٤، وسمط اللآلي: ١٩١، والخزانة ٣: ٤٢٧. وفي المطبوعة: "بيت الزبرقان" والصواب ما أثبت.
وقد ذهب الطبري في تفسير البيت، كما ذهب ابن دريد وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم إلى أن"السب" هاهنا العمامة، وأن سادات العرب كانوا يصبغون عمائمهم بالزعفران، ومنهم حصين بن بدر، وهو الزبرقان، وسمي بذلك لصفرة عمامته وسيادته. وذهب أبو عبيدة وقطرب إلى أنه"السب" هنا هي الاست، وكان مقروفًا، وزعموا أن قول قطرب قول شاذ، والصواب عندي أن أبا عبيدة وقطرب قد أصابا، وأنهم أخطأوا في ردهم ما قالا. فقد كان المخبل بذيء اللسان، حتى نسب إلى رسول الله ﷺ أنه قال: "إنما هو عذاب يصبه الله على من يشاء من عباده" (النقائض: ١٠٤٨) قال أبو عبيدة في النقائض: "كان المخبل القريعي أهجى العرب... ثم كان بعده حسان بن ثابت، ثم الحطيئة، والفرزدق، وجرير، والأخطل. هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير". هذا وقد كان من أمر المخبل والزبرقان بن بدر ما كان في ضيافة الحطيئة (انظر طبقات فحول الشعراء: ٩٦-١٠٠)، وهجاؤه له، ثم ما استشرى من هجاء المخبل له، لما خطب إليه أخته خليدة، فأبى الزبرقان أن يزوجها له، وذمه. فهجاء وهجا أخته مقذعًا، وحط منه حتى قال له:وكل شعره في الزبرقان وأخته مقذع. وهذا البيت الذي استشهد به الطبري من قذعه. وقبل البيت:
يَا زِبْرِقَانُ أخَابَنِي خَلَفٍ مَا أنْتَ وَيبَ أبِيكَ والفَخْرُ
مَا أنْتَ إلاّ فِي بَنِي خَلَفٍ كالإسْكَتَينِ عَلاَهُمَا البَظْرُ
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أنَّنِي تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لأَكْبَرَا
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذَاعَهُ فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذِلَّ وأُقْهِرَا
وفي سيرة ابن هشام ٢: ٢٧٥-٢٧٦ قول عتبة بن ربيعة في أبي جهل: "سيعلم مصفراسته من انتفخ سحره، أنا أم هو! " فرماه بمثل ذلك من القبيح، الذي قاله المخبل السعدي. ومن زعم أن المخبل يقول إنه: "كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة بحيث يحج بنو عوف عصابته"، فقد أخطأ، وقد نقض عليه البيت الثالث ما زعم، فإنه يصفه بأنه تمنى السيادة، ولكن ذلك لم يزده إلا ذلا وقهرًا، فكيف يتأتى أن يقول ما زعم هذا أنه أراده؟ بل أراد المخبل أن يسخر به ويتهكم، كما فعل في سائر هجائه له.
وقوله: "وأشهد" منصوب، عطفًا على قوله: "لأكبرا".
228
يعني بقوله:"يحجون"، يكثرون التردد إليه لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج"حاجّ"، لأنه يَأتي البيت قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ. (١) فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له:"حاجٌّ".
* * *
وأما"المعتمر"، فإنما قيل له:"معتمر"، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله:"أو اعتمر"، أو اعتمرَ البيت، ويعني ب"الاعتمار" الزيارة. فكل قاصد لشيء فهو له"معتمر"، ومنه قول العجاج:
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ غْزًى بَعِيدًا من بَعِيدٍ وَضَبَرْ (٢)
يعني بقوله:"حين اعتمر"، حين قصده وأمَّه.
* * *
(١) عرف يعرف تعريفًا: وقف بعرفات. و"طواف الصدر" من قولهم: صدر الناس من حجهم، أي رجعوا بعد أن يقضوا نسكهم.
(٢) ديوانه: ١٩ من قصيدة مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، مضى منها في ١: ١٩٠، ٢: ١٥٧. وقوله"مغزى"، أي غزوًا. وضبر: جمع قوائمه ليثب ثم وثب. وهو يصف بعده جيش عمر بن عبيد الله، وكان فتح الفتوح الكثيرة، وعظم أمره في قتال الخوارج.
229
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، يقول: فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه بهما.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا، إن قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"، وإن كان ظاهرهُ ظاهرَ الخبر، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرًا بالطواف، ثم يقال: لا جُناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجُناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناحُ والحرجُ؟ والأمر بالطواف بهما، والترخيصُ في الطواف بهما، غيرُ جائز اجتماعهما في حال واحدة؟
قيل: إنّ ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ. (١) وإنما معنى ذلك عند أقوام: أنّ النبي ﷺ لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، (٢) لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!
فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"،
(١) في المطبوعة: "إليه ذهب"، والصواب ما أثبت، لأن الطبري ساق قول القائل، على أنه خطاب له إذ قال للطبري: "وقد قلت لنا". فالصواب أن يصرف الرد عليه خطابًا له كما خاطبه.
(٢) في المطبوعة: "أحد ذلك"، ولا معنى له، وفيه تحريف لا شك فيه. فإنهم لم يذكروا متعددًا من الآثام حتى يجعلوا له"أحدًا". وإنما أرادوا: أكبر الإثم والشرك. و"ذلك"، إشارة إلى الشرك. ولو قرئت أيضًا: "أخوف ذلك" لكاتب صوابًا، لأنه سيذكر أنهم كانوا يتخوفون الطواف بهما. ويعني: أخوف الشرك.
230
يعني: إن الطوافَ بهما، فترك ذكر"الطواف بهما"، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذْ كان معلومًا عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علَمًا لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر،"فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جُناح عليكم في الطواف بهما.
* * *
و"الجناح"، الإثم، كما:-
٢٣٣٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما"، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين.
ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
٢٣٣٥- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى"إسافًا"، (١) ووثنًا على المرْوة يسمى"نائلة"، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر،"فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف بهما".
٢٣٣٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر قال: كان صنم بالصفا يدعى"إسافًا"، (٢) ووثَن بالمروة يدعى"نائلة"،
(١) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف.
(٢) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف.
231
ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه، قال: فذكِّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنِّت المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثًا. (١)
٢٣٣٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد، وزاد فيه - قال: فجعله الله تطوُّعَ خير.
٢٣٣٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمرْوة حَتى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بَينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نزلت هذه الآية:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله". (٢)
٢٣٣٩- حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال، سألت أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كانتا من مَشاعر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما، فنزلت:"إن الصفا والمرْوَة من شَعائر الله". (٣)
(١) الأثر: ٢٣٣٦- هكذا جاء هذا الأثر في الدر المنثور ١: ١٦٠، وصواب عبارته فيما أرجح، أن يحذف"مؤنثًا"، أو أن يقال: "من أجل أن الوثن الذي كان عليه كان مذكرًا، وأنث المروة من أجل أن الوثن الذي كان عليه كان مؤنثًا".
(٢) الحديث: ٢٣٣٨- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي. ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي، وهو حافظ ثقة، يقرن بابن المبارك. يقولون: إنه أول من صنف الكتب بالكوفة، مات سنة ١٨٣. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٧٣-٢٧٤. والصغير، ص: ٢٠٦، وابن سعد: ٦: ٢٧٤، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٤٤-١٤٥، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٢٦-٢٤٧.
عاصم: هو ابن سليمان الأحول، مضى في: ١٨٤، وهو من صغار التابعين. وعده سفيان الثوري أحفظ ثلاثة في البصرة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/٢/٢٠-٦٥، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٤٣-٣٤٤.
والحديث رواه البخاري ٣: ٤٠٢ (فتح)، من طريق عبد الله، وهو ابن المبارك، عن عاصم الأحول، بنحوه. ورواه أيضًا مسلم، والترمذي، والنسائي. كما في القسطلاني ٣: ١٥٣-١٥٤.
(٣) الحديث: ٢٣٣٩- سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر ما قبله. ورواه البخاري مختصرًا ٨: ١٣٢ (فتح)، عن محمد بن يوسف، عن سفيان. ورواه الحاكم ٢: ٢٧٠، من طريق حسين بن حفص، عن سفيان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأخطأ الحاكم في استدراكه، فقد رواه البخاري. كما ذكرنا قبل.
وسيأتي بعض معناه مختصرًا: ٢٣٤٦، ٢٣٤٧، من رواية جرير، عن عاصم، عن أنس.
232
٢٣٤٠- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما" قال، انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ، فلما حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهما" (١).
(١) الحديث: ٢٣٤٠- عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري: ثقة، من شيوخ مسلم والترمذي والنسائي وأبي حاتم وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٧٦.
حسين المعلم: هو حسين بن محمد بن بهرام التميمي المروذي، المؤدب، كما لقب بذلك في التهذيب، وهو"المعلم" أيضًا، كما لقبه بذلك البخاري وابن أبي حاتم، وهو ثقة من شيوخ أحمد ويحيى والأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٣٨٦-٣٨٧، وابن سعد ٧/٢/٧٩، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٤. وتاريخ بغداد ٨: ٨٨-٩٠، وكان معروفًا برواية"تفسير شيبان النحوي". فروى ابن أبي حاتم عن أبيه قال، "أتيته مرارًا بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن يعيد على بعض المجلس، فقال: بكر، بكر. ولم أسمع منه شيئًا".
ومما يوقع في الوهم، الاشتباه بين"عبد الوارث بن عبد الصمد". وشيخه"حسين المعلم" هذا - وبين"عبد الوارث بن سعيد"، وشيخه"حسين المعلم" أيضًا.
ف"عبد الوارث" -شيخ الطبري- هو الذي ترجمنا له هنا. وشيخه"حسين بن محمد المروذي". و"عبد الوارث بن سعيد" - هو جد"عبد الوارث" هذا. و"حسين المعلم" هو"حسين بن ذكوان المعلم"، وهو قديم، يروي عن التابعين.
شيبان أبو معاوية: "هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛ وهو إمام حجة حافظ، حدث عند أبو حنيفة، وهو من أقرانه. وروى عنه الأئمة: الطيالسي، وابن مهدي، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير ٢/٢/٢٥٥، وابن سعد ٦: ٢٦٢، و ٧/٢/٦٧-٦٨ وابن أبي حاتم ١/١/٣٥٥-٣٥٦، وتاريخ بغداد ٩: ٢٧١-٢٧٤، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٠٢-٢٠٣.
ووقع في المطبوعة غلط في اسمه واسم الراوي عنه: فذكر"أبو الحسين المعلم"! وهو تخليط، وذكر"سنان أبو معاوية"! وهو فوق ذلك تصحيف.
جابر الجعفي، بضم الجيم وسكون العين المهملة: وهو جابر بن يزيد بن الحارث، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٢١٠، والضعفاء للبخاري، ص: ٧. والنسائي، ص: ٧، وابن أبي حاتم ١/١/٤٩٧-٤٩٨، والمجروحين لابن حبان، رقم: ١٧٥، ص ١٤٠-١٤١. والميزان ١: ١٧٦-١٧٨.
عمرو بن حبشي، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/١/٢٢٦.
وهذا الحديث -الضعيف الإسناد- لم أجده إلا في هذا الموضع. وذكره السيوطي ١: ١٥٩، ولم ينسبه إلا إلى الطبري.
233
٢٣٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"، وذلك أنّ ناسًا كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما من شعائره، والطواف بينهما أحبُّ إليه، فمضت السُّنة بالطَّواف بينهما.
٢٣٤٢- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما" قال، زعم أبو مالك، عن ابن عباس: أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله:"فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما". (١)
(١) الحديث: ٢٣٤٢- هذا الإسناد، هو من أسانيد تفسير السدي الثلاثة، وقد فصلنا القول فيها، في: ١٦٨.
والحديث رواه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، ص: ١٠٠-١٠١، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عامر بن الفرات، عن أسباط، بهذا الإسناد، نحوه.
وفي إسناد ابن أبي داود فائدة جديدة: أن هناك راويًا لتفسير السدي، غير"عمرو بن طلحة القناد" راويه عن أسباط بن نصر. فها هو ذا عامر بن الفرات يروي شيئًا منه عن أسباط أيضًا. و"عامر بن الفرات": لم أجد له ترجمة أصلا. ومن عجب أن يذكره ابن أبي حاتم، في ترجمة"الحسين بن علي بن مهران" ١/٢/٥٦ - شيخًا له، ثم لا يترجم له في بابه!
ورواه أيضًا الحاكم ٢: ٢٧١، من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط. بهذا الإسناد نحوه. وزاد في آخره: "يقول: عليه إثم ولكن له أجر". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ولنا على الحاكم والذهبي في هذا استدراك، هو: أن أبا مَالك -التابعي راويه عن ابن عباس - وهو"غزوان الغفاري": لم يرو له مسلم في صحيحه أصلا. فلا يكون الحديث على شرط مسلم، في اصطلاح الحاكم!
وفي رواية الحاكم -هذه- فائدة أيضًا: أنا ظننا عند الكلام على أسانيد تفسير السدي الثلاثة، أن الحاكم اختار منها إسنادين فقط، ولكن أظهرنا هذا الإسناد على أنه صحح الثلاثة الأسانيد.
والحديث ذكره السيوطي ١: ١٥٩، وزاد نسبته لابن أبي حاتم أيضًا.
234
٢٣٤٣- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله" قال، قالت الأنصار: إنّ السَّعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"
٢٣٤٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٢٣٤٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما" قال، كان أهل الجاهلية قد وَضَعوا على كل واحد منهما صَنمًا يعظمونهما، فلما أسلم المسلمون كرِهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين، فقال الله تعالى:"إن الصفا والمروةَ من شَعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، وقرأ: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [سورة الحج: ٣٢]، وسَن رسول الله ﷺ الطواف بهما.
٢٣٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال، قلت لأنس: الصفا والمروة، أكنتم تكرَهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نُهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
٢٣٤٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: إنّ الصفا والمروة من مَشاعر قُريش في الجاهلية،
235
فلما كان الإسلام تَركناهما. (١)
* * *
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سَبب قوم كانوا في الجاهلية لا يَسعوْن بينهما، فلما جاء الإسلام تخوَّفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوَّفونه في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٤٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله" الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما.
٢٣٤٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، كان ناس من أهل تِهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
٢٣٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيتِ قول الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"؟ وقلت لعائشة: وَالله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنّ هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها كانت: لا جُناح عليه أن لا يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار: كانوا قبل أن يُسلموا يُهلُّون لمَناةَ، الطاغيةَ التي كانوا يعبدون بالمشلَّلِ، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يَطُوف بين
(١) الحديثنان: ٢٣٤٦-٢٣٤٧- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، وهو ثقة حجة حافظ. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٢١٤، وابن سعد ٧/٢/١١٠، وابن أبي حاتم ١/١/٥٠٥-٥٠٧. وتاريخ بغداد ٧: ٢٥٣-٢٦١، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٥٠.
والحديثان مضى معناهما، من رواية عاصم عن أنس: ٢٣٣٨، ٢٣٣٩.
236
الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك - فقالوا: يا رسول الله إذا كنا نتحرج أن نَطُوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروَة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما". قالت عائشة: ثم قد سَن رَسول الله ﷺ الطواف بينهما، فليس لأحد أن يَترك الطواف بَينهما. (١)
٢٣٥١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجالٌ من الأنصار مِمَّن يُهلُّ لمناةَ في الجاهلية -و"مناةُ" صنمٌ بين مكة والمدينة- قالوا: يا نبيّ الله، إنا كنا لا نطوفُ بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حَرَج أن نَطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمرَ فلا جناح عليه أن يطوف بهما". قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة! قال الله:"فلا جُناح عليه". قالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول:"إن الصفا والمروة من شَعائر الله"! قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون: لما أنزل الله الطوافَ بالبيت ولم يُنزل الطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوفُ في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإنّ الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطوافَ بين الصفا والمروةَ، فهل علينا من حرج أن لا نَطوفَ بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله" الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمعُ أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف. (٢)
(١) الحديث: ٢٣٥٠- عقيل- بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وهو ثقة ثبت حجة، قال ابن معين: "أثبت من روى عن الزهري: مالك، ثم معمر، ثم عقيل". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٩٤، وابن أبي حاتم ٣/٢/٤٣.
عروة بن الزبير بن العوام: تابعي ثقة فقيه عالم ثبت مأمون، قال أبو الزناد: "كان فقهاء أهل المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". وأمه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وعائشة أم المؤمنين خالته، رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٣١-٣٢، وابن سعد ٢/٢/١٣٤-١٣٥، و ٥: ١٣٢-١٣٥، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٩٥-٣٩٦، وتذكرة الحفاظ ١: ٥٨-٥٩، وتاريخ الإسلام ٣: ٣١-٣٤.
والحديث -من هذا الوجه- رواه مسلم ١: ٣٦٢، من طريق عقيل، عن ابن شهاب، وهو الزهري ولم يذكر لفظه كله، إحالة على روايات قبله.
ورواه البخاري ٣: ٣٩٧-٤٠١، مطولا، من طريق شعيب، عن الزهري، باللفظ الذي هنا، إلا خلافًا في أحرف يسيرة: "فلما سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فقالوا... أنزل الله... " ففي البخاري: "فلما أسلموا سألوا... قالوا... فأنزل الله... ". ولكن زاد البخاري في آخره قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن - الذي سيأتي في الرواية التالية لهذه، بنحو معناه.
وثبت من أوجه كثيرة، عن الزهري، عن عروة، مطولا ومختصرًا:
فرواه مالك في الموطأ، ص: ٣٧٣، عن هشام بن عروة، عن أبيه. ورواه البخاري ٨: ١٣٢. وابن أبي داود في المصاحف، ص ١٠٠ -ولم يذكر لفظه- كلاهما من طريق مالك.
ورواه أحمد في المسند ٦: ١٤٤، ٢٢٧ (حلبي)، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري. وكذلك رواه ابن أبي داود، ص: ١٠٠ -ولم يذكر لفظه- من طريق إبراهيم بن سعد.
ورواه مسلم مطولا ١: ٣٦١-٣٦٢، من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري. وكذلك رواه البخاري ٨: ٤٧٢، من طريق سفيان. ولكنه اختصره جدًا.
ورواه مسلم وابن أبي داود - قبل ذلك وبعده: من أوجه كثيرة.
وذكره السيوطي ١: ١٥٩، وزاد نسبته إلى أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن الأنباري في المصاحف، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن.
وانظر الحديث التالي لهذا.
قوله"يهلون لمناة": أي يحجون. ومناة، بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها. والطاغية: صفة لها إسلامية. قاله الحافظ في الفتح.
"المشلل": بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولامين، الأولى مفتوحة مثقلة، هي الثنية المشرفة على قديد، وقديد، بضم القاف ودالين مهملتين، مصغرًا: قرية جامعة بين مكة والمدينة، كثيرة المياه. عن الفتح.
(٢) الحديث: ٢٣٥١- هو تكرار للحديث السابق بمعناه، من وجه آخر صحيح، عن الزهري. وفيه زيادة قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، إلخ. وهذه الزيادة ذكرها البخاري، في روايته من طريق شعيب عن الزهري، كما قلنا آنفًا.
ورواية معمر عن الزهري - هذه: ذكر البخاري بعضها تعليقًا ٨: ٤٧٢، فقال: "قال معمر عن الزهري... ". وقال الحافظ: "وصله الطبري، عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، مطولا". فهذه إشارة إلى الرواية التي هنا، وأشار إليها في الفتح ٣: ٣٩٩، وذكر أنه وصلها أحمد وغيره.
وقد رواها أيضًا ابن أبي داود في المصاحف، ص: ١٠٠، عن"خشيش بن أصرم، والحسن بن أبي الربيع، أن عبد الرزاق أخبرهم عن معمر... ". ولم يسق لفظ الحديث، إحالة على ما قبله. و"خشيش": بضم الخاء وفتح الشين وآخره شين، معجمات كلها. و"الحسن بن أبي الربيع": هو"الحسن بن يحيى" شيخ الطبري، كنية أبيه"أبو الربيع". وخلط المستشرق طابع كتاب المصاحف: فكتب"حشيش" بالحاء المهملة! وكتب"الحسن بن أبي الربيع بن عبد الرزاق"!!
و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" المخزومي القرشي المدني: من كبار التابعين الأئمة، ومن سادات قريش. وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري، رقم: ٥١، وابن سعد ٢/٢/١٣٣، و ٥: ١٥٣-١٥٤، وتذكرة الحفاظ ١: ٥٩-٦٠، وتاريخ الإسلام ٤: ٧٢-٧٣.
وقول أبي بكر بن عبد الرحمن"فأسمع أن هذه الآية نزلت... " - إلخ: هو في رواية البخاري أيضًا ٣: ٤٠١، وقال الحافظ: "كذا في معظم الروايات، بإثبات الهمزة وضم العين، بصيغة المضارعة للمتكلم. وضبطه الدمياطي في نسخته [يعني من صحيح البخاري] بالوصل وسكون العين. بصيغة الأمر، والأول أصوب، فقد وقع في رواية سفيان المذكورة: فأراها نزلت. وهو بضم الهمزة، أي أظنها".
وانظر كثيرًا من طرق هذا الحديث أيضًا، في السنن الكبرى للبيهقي ٥: ٩٦-٩٧.
237
٢٣٥٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانَ ناسٌ من أهل تهامة لا يَطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله". (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره.
فأما قوله:"فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما"، فجائزٌ أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبَعضُهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة.
(١) الأثر: ٢٣٥٢- كان في المطبوعة: "حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا معمر" بإسقاط"أخبرنا عبد الرزاق قال"، وهو إسناد دائر في التفسير، وهو مكرر رقم: ٢٣٤٩ بنصه، وأخشى أن يكون زيادة ناسخ سها.
239
وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره:"فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، الآية، دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما".
* * *
وإنما الاختلافُ في ذلك بين أهل العلم على أوجُهٍ. فرأى بعضُهم أن تارك الطواف بينهما تاركٌ من مَناسك حجه ما لا يُجزيه منه غيرُ قَضَائه بعينه، كما لا يُجزى تارك الطواف -الذي هو طَواف الإفاضة- إلا قضَاؤه بعينه. وقالوا: هما طَوافانَ: أمرَ الله بأحدهما بالبيت، والآخرُ بينَ الصفا والمروة.
* * *
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يُجزيه من تَركه فِدية، ورأوا أن حُكم الطواف بهما حُكمُ رَمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر، وطَواف الصَّدر وما أشبه ذلك، مما يُجزى تاركه من تَرْكه فِديةٌ، ولا يلزمه العَوْد لقضَائه بعينه.
* * *
ورأى آخرون أنّ الطواف بهما تطوع، إن فعله صاحبه كان مُحسنًا، وإن تَرَكه تاركٌ لم يلزمه بترْكه شيء. (١)
* * *
ذكر من قال: إن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ ولا يجزي منه فدية، ومن تركه فعليه العَوْد. (٢)
(١) في المطبوعة: "لم يلزمه بتركه شيء والله تعالى أعلم"، وهذه لا شك زيادة من ناسخ.
(٢) في المطبوعة: "فعليه العودة"، والأجود ما أثبت، وهو أشبه بعبارة الطبري وأقرانه من فقهاء عصره. وسيأتي كذلك بعد مرات في عبارته الآتية، وكأن هذه من تصرف ناسخ أو طابع.
240
٢٣٥٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لَعمري ما حَجّ من لم يَسع بين الصفا والمروة، لأن الله قال:"إن الصفا والمروة من شعائر الله".
٢٣٥٣م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: مَنْ نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع فَليسْع، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرَة والهدي. (١)
* * *
وكان الشافعي يقول: عَلى مَنْ تَرَك السعي بين الصفا والمروةَ حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يَطوف بينهما، لا يجزيه غير ذلك. (٢)
٢٣٥٤- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
ذكر من قال: يجزي منه دم، وليس عليه عودٌ لقضائه.
قال الثوري بما:-
٢٣٥٥- حدثني به علي بن سهل، عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عَاد تاركُ الطوافَ بينهما لقضائه فحسن، وإن لم يعُدْ فعليه دمٌ.
* * *
ذكر من قال: الطوافُ بينهما تطوّعٌ، ولا شيء على من تركه، ومنْ كان يقرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)
٢٣٥٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع، فأصابها -يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء، لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود:"فمنْ حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما". فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول:"فمن تَطوَّع خَيرًا"، فأبى أن يجعل عليه شيئًا؟
٢٣٥٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك،
(١) انظر لفظ مالك في الموطأ: ٣٧٤-٣٧٥.
(٢) انظر لفظ الشافعي في الأم ٢: ١٧٨.
241
عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"إن الصفا والمروَة منْ شعائر الله" الآية"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما".
٢٣٥٨- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال: سمعت أنسًا يقول: الطواف بينهما تطوع.
٢٣٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطُّوع.
٢٣٦٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٢٣٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوفَ بهما" قال، فلم يُحرِّج من لم يَطُفْ بهما.
٢٣٦٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد، عن عيسى بن قيس، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع. (١)
(١) الخبر: ٢٣٦٢- عيسى بن قيس، الراوي عن عطاء: لم أستطع اليقين به. ففي ابن أبي حاتم ٣/١/٢٨٤ ترجمتان: "عيسى بن قيس"، روى عن سعيد بن المسيب، وروى عنه الليث. و"عيسى بن قيس السلمي"، روى عنه هشيم. ولم يذكر عنهما شيئا آخر. إلا أن الأول مجهول. فمن المحتمل أن يكون الراوي هنا أحدهما. فإن عطاء بن أبي رباح مات سنة ١١٤، فالراوي عن سعيد بن المسيب -المتوفي سنة ٧٣- محتمل جدًا أن يروي عن عطاء. والليث وهشيم متقاربا الطبقة، مات الليث سنة ١٧٥، وهشيم سنة ١٨٣. وأما"أحمد" الراوي هنا عن"عيسى بن قيس" - فلم أستطع معرفته.
ثم ترجح عندي أن"حجاجًا" - في هذا الإسناد: هو"حجاج بن الشاعر". وهو: حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي البغدادي، عرف بابن الشاعر، لأن أباه يوسف كان شاعرًا صحب أبا نواس، وحجاج هذا: ثقة، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، قال ابن أبي حاتم: "كان من الحفاظ، ممن يحسن الحديث ويحفظه. مترجم في التهذيب، وابن أبي جاتم ١/٢/١٦٨، وتاريخ بغداد ٨: ٢٤٠-٢٤١، وتذكرة الحفاظ ٢: ١١٧-١١٨.
وأن شيخه"أحمد": هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة متقن حافظ، من شيوخ البخاري ومسلم، سماه الإمام أحمد"شيخ الإسلام". وقد مضت الإشارة إليه: ٢١٤٤.
فإن يكن الإسناد هكذا، على ما رجحنا، يكن"عيسى بن قيس" محرفًا، صوابه"عمر بن قيس"، وهو المكي المعروف بـ "سندل" - بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة. وهو ضعيف جدًا، منكر الحديث كما قال البخاري. وقال ابن عدي: "هو ضعيف بإجماع، لم يشك أحد فيه، وقد كذبه مالك". وهو مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: ١٩٠، والضعفاء له، ص: ٢٥، والنسائي ص: ٢٤، وابن سعد ٥: ٣٥٨، وابن أبي حاتم ٣/١/١٢٩-١٣٠.
وأنا أرجح أن يكون هذا الإسناد على هذا النحو، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، ولا تغيير اسم"عيسى بن قيس" - حتى أستبين بدليل آخر.
242
٢٣٦٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوُّع؟ قال: تطوعٌ.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندنا أنّ الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا يُجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ بهما.
* * *
ذكر الرواية عنه بذلك:
٢٣٦٥- حدثني يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما دنا رسول الله ﷺ من الصفا في حجه قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه. (١).
٢٣٦٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن، عن أبي بكر بن عياش، عن ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسَعى. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٢٣٦٥- هو قطعة من حديث جابر - الطويل، في صفة حجة الوداع. وقد مضت قطعة منه، بهذا الإسناد: ٢٠٠٣. وأخرى من رواية يحيى القطان، عن جعفر الصادق: ١٩٨٩.
(٢) الحديث: ٢٣٦٦- محمود بن ميمون أبو الحسن: لا أدري من هو، ولا ما شأنه. لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
ابن عطاء، عن أبيه: هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة، بينا ذلك في المسند: ١٨٠٩. مترجم في التهذيب والكبير ٤/٢/٢٩٨، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢١١.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من المراجع. وإن كان لابن عباس أحاديث أخر في شأن الصفا والمروة والسعي بينهما. من ذلك الحديث الماضي: ٢٣٤٢. وحديث في المستدرك ٢: ٢٧٠-٢٧١، وصححه الحاكم والذهبي.
243
فإذ كان صحيحًا بإجماع الجميع من الأمة - أنّ الطواف بهما على تعليم رسول الله ﷺ أمَّته في مناسكهم، وعمله في حَجَّه وعُمرته = وكان بيانه ﷺ لأمَّته جُمَلَ ما نَصّ الله في كتابه، وفَرَضه في تنزيله، وأمرَ به مما لم يُدْرَك علمه إلا ببيانه، لازمًا العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا"كتاب البيان عن أصول الأحكام" - إذا اختلفت الأمة في وُجُوبه، (١) ثم كان مُختلفًا في الطواف بينهما: هل هو واحبٌ أو غير واجب = كان بينًا وجُوب فرضه على مَنْ حجَّ أو اعتمر، (٢) لما وصفنا.
وكذلك وُجوب العوْد لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلَفًا فيما عَلى مَنْ تركه، مع إجماع جَميعهم على أنّ ذلك مما فَعله رسول الله ﷺ وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علَّمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم، إذ علَّمهم مناسك حجهم وعُمْرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تُجْزي منه فديةٌ ولا بَدلٌ، ولا يجزي تاركه إلا العودُ لقضائه = كان نظيرًا له الطوافُ بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية وَلا جزاءٌ، ولا يجزي تاركَه إلا العودُ لقضائه، إذ كانا كلاهما طَوافين: أحدهما بالبيت، والآخرُ بالصفا والمروة.
(١) كان في المطبوعة: "لما قد بينا"، وهو خطأ يختل به الكلام. وقوله: "وكان بيانه... " إلى قوله: "إذا اختلفت الأمة في وجوبه" جملة فاصلة معطوفة على التي قبلها وسياقها وسياق معناها: وكان بيانه لأمته جمل ما نص الله في كتابه.. -مما لا يدرك علمه إلا ببيانه- لازمًا العمل به أمته... إذا اختلفت الأمة في وجوبه.
(٢) وهذه الجملة من تمام قوله ومن سياقها: "وإذا كان صحيحًا بإجماع الأمة... كان بينًا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر".
244
ومن فَرَّق بين حكمهما عُكس عليه القولُ فيه، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما.
فإن اعتل بقراءة من قرأ:"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما".
قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين، غيرُ جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قَرَأ ذلك كذلك قارئ، أو قرأ قارئ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج: ٢٩]، "فَلا جناح عليهم أنْ لا يَطَّوَّفوا به". (١) فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، (٢) كانت الأخرى نظيرَتها، وإلا كان مُجيزُ إحداهما - إذا منع الأخرى - مُتحكمًا، والتحكم لا يعجِزُ عنه أحدٌ.
وقد رُوي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنزيل بها، عن عائشة.
٢٣٦٧- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السِّن: أرأيت قول الله عز وجل:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله فَمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما"، فما نرَى على أحد شَيئًا أنْ لا يَطَّوَّف بهما! فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول، كانت:"فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّف بهما"، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلّون لمناة -وكانت مَناة حَذوَ قَديد-، وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوةَ من شَعائر الله فمن حَجّ
(١) كان في المطبوعة: "فلا جناح عليه"، وهو خطأ بين. ويعني: أن يجعل القارئ قوله: "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا بهما" من تمام آية سورة الحج السالفة، فيزيد في القرآن ما ليس فيه.
(٢) في المطبوعة: "فإن جاءت إحدى الزيادتين" تصحيف، والصواب ما أثبت.
245
البيت أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوف بهما".
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ:"فلا جُناحَ عَليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما"، أن تكون"لا" التي مع"أن"، صلةً في الكلام، (١) إذْ كان قد تقدَّمها جَحْدٌ في الكلام قبلها، وهو قوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: ١٢]، بمعنى ما منعك أن تسجدَ، وكما قال الشاعر: (٢)
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا والطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (٣)
ولو كان رسمُ المُصحف كذلك، لم يكن فيه لمحتجّ حجة، مع احتمال الكلام ما وصفنا. لما بيَّنا أن ذلك مما عَلم رسول الله ﷺ أمَّته في مناسكهم، على ما ذكرنا، ولدلالة القياس على صحته، فكيف وهو خلافُ رُسوم مصاحف المسلمين، ومما لو قَرَأه اليوم قارئ كان مستحقًّا العقوبةَ لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه؟
* * *
(١) قوله: "صلة"، أي زيادة ملغاة، وانظر ما سلف ١: ١٩٠، ٤٠٥ وفهرس المصطلحات، وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ٩٥، فقد ذكر هذا الوجه.
(٢) هو جرير.
(٣) سلف تخريجه في ١: ١٩١-١٩٢.
246
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف القرَأء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قُراء أهل المدينة والبصرة:"ومن تَطوَّع خَيرًا" على لفظ المضيّ ب"التاء" وفتح"العين". وقرأته عامة قراء الكوفيين:"وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيرًا" ب"الياء" وجَزم"العين" وتشديد"الطاء"، بمعنى: ومن يَتطوع. وذُكر أنها في قراءة عبد الله:"ومَنْ يَتطوَّعْ"، فقرأ ذلك قُرّاء أهل الكوفة، على ما وصفنا، اعتبارًا بالذي ذكرنا من قراءَة عبد الله -سوى عَاصم، فإنه وافق المدنيين- فشددوا"الطاءَ" طلبًا لإدغام"التاء" في"الطاء". وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفقٌ معنياهما غيرُ مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ.
* * *
(١) [والصواب عندنا في ذلك، أن] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قَضَاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكرٌ له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاءَ وجهه، فمجازيه به، عليمٌ بما قصد وأراد بتطُّوعه بما تطوع به.
وَإنما قُلنا إنّ الصوابَ في معنى قوله:"فمن تطوَّع خيرًا" هو ما وصفنا، دون قول من زَعم أنه معنيٌّ به: فمن تَطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعًا بالسعي بينهما، إلا في حَج تطوع أو عُمرة تطوع، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنى بالتطوع بذلك، التطُّوعَ بما يعملُ ذلك فيه من حَجّ أو عمرة.
* * *
(١) زدت ما بين القوسين، استظهارًا من قوله بعد: "وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله... " والظاهر أنها مما سقط من ناسخ.
247
وأما الذين زعموا أنّ الطواف بهما تطوُّع لا واجب، فإنّ الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوَّع بالطواف بهما، فإنّ الله شاكر =لأن للحاج والمعتمِر على قولهم الطوافَ بهما إن شاء، وتركَ الطواف. فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة، فإنّ اللهَ شَاكرٌ تطوُّعَه ذلك= عليمٌ بما أراد ونَوَى الطائف بهما كذلك، كما:-
٢٣٦٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكرٌ عَليمٌ" قال، من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له، تطوَّع رسول الله ﷺ فكانت من السنن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خَيرًا فاعتمر.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٦٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكر عليم"، من تطوع خيرًا فاعتمر فإن الله شاكر عليمٌ. قال: فالحج فريضةٌ، والعمرةُ تطوع، ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس.
* * *
248
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (١) "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات"، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
* * *
و"البينات" التي أنزلها الله: (٢) ما بيّن من أمر نبوة محمد ﷺ ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما.
* * *
ويعني تعالى ذكره ب"الهدى" ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد ﷺ ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، (٣) في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم،"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا" الآية. كما:-
٢٣٧٠- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن
(١) في المطبوعة: يقول: "إن الذين يكتمون... "، وهو خطأ ناسخ، صوابه ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "من البينات"، كأنه متصل بالكلام قبله، وهو لا يستقيم، وكأن الصواب ما أثبت.
(٣) كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم"، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت، من جعل"يعلمون""يعلنونه"، وزيادة"بعد"، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه".
249
حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه، وأبوْا أن يُخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون". (١)
٢٣٧١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى" قال، هم أهل الكتاب.
٢٣٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٣٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع في قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، فكتموه حسدًا وبغيًا.
(١) الأثر رقم: ٢٣٧٠- في سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٠ كما في رواية ابن حميد.
250
٢٣٧٤- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
٢٣٧٤م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الذين يَكتمونَ ما أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، (١) قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد:"البينات". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾
[قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من بعد ما بيناه للناس"]، (٣) بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد ﷺ وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله:"للناس في الكتاب"، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل.
* * *
وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.
وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال
(١) في سيرة ابن هشام، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط باللفظ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة، وقال: "بفتح المهملة والنون"، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة.
(٢) قوله: "قال: محمد البينات" من تفسير السدي، ليس من الخطاب بين ثعلبة بن غنمة واليهودي. ويعني أن البينات التي يكتمونها هي محمد صلى الله عليه وسلم، أي صفته ونعته في كتابهم.
(٣) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وقد استظهرتها من نهج أبي جعفر في جميع تفسيره. وهذا سقط من الناسخ بلا ريب.
251
٢٣٧٥- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." (١)
* * *
وكان أبو هريرة يقول ما:-
٢٣٧٦- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا"إنّ الذين يكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون"، (٢)
٢٣٧٧- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى آخر الآية، والآية الأخرى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية [سورة آل عمران: ١٧٨]. (٣)
* * *
(١) الحديث: ٢٣٧٥- هذا حديث صحيح. ذكره الطبري هنا معلقًا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: ٧٥٦١، من حديث أبي هريرة. وخرجناه في شرح المسند، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا، رقم: ٩٥.
(٢) الحديث: ٢٣٧٦- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: ثقة، من شيوخ أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٠٦، وابن أبي حاتم ٤/١/٤٧١.
حاتم بن وردان السعدي: ثقة، روى له الشيخان. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٧٢، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٦٠.
أيوب السختياني: مضى في: ٢٠٣٩. ولكن روايته هنا عن أبي هريرة منقطعة، فإنه ولد سنة ٦٦، وأبو هريرة مات سنة ٥٩ أو نحوها. ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة، بروايات أخر متصلة، كما سنذكر في الحديث بعده.
(٣) الحديث: ٢٣٧٧- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: الإمام الحافظ المصري، فقيه عصره، قال ابن خزيمة: "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/٢/٣٠٠-٣٠١، وتذكرة الحفاظ ٢: ١١٥-١١٦.
أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري، مؤذن الفسطاط: ثقة، قال أبو حاتم: "محله الصدق". ترجمه ابن أبي حاتم ٤/٢/٢٧، وقال: "روى عنه عبد الرحمن، ومحمد، وسعد، بنو عبد الله بن عبد الحكم". وترجم أيضًا في لسان الميزان ٦: ٢٣٥، ونقل عن ابن يونس، أنه مات في ربيع الأول سنة ٢١١"وكانت القضاة تقبله"، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. في فتوح مصر مرارًا، منها في ص: ١٨٢ س ٣-٤: "حدثنا وهب الله بن راشد، أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب... ". وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر للكندي، ص ٣٣، عن علي بن قديد، عن عبد الرحمن: "حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد". وذكره الدولابي في الكنى والأسماء ١: ١٨٢، وروى: "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان الجيزى، قالا: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، إلخ". ورواية الربيع الجيزى عنه، ثابتة في كتاب الولاة، ص ٣١٣، أيضًا.
وهذا الاسم"وهب الله": من نادر الأسماء، لم أره -فيما رأيت- إلا لهذا الشيخ، ولم يذكره أصحاب المشتبه، بل لم يذكره الزبيدي في شرح القاموس، على سعة اطلاعه. واشتبه أمره على ناسخي الطبري أو طابعيه، فثبت في المطبوعة هكذا: "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين!
يونس: هو ابن يزيد الأيلي، وهو ثقة، عرف بالراوية عن الزهري وملازمته. قال أحمد بن صالح: "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على يونس"، وقال: "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٤٠٦، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٤٧-٢٤٩، وابن سعد ٧/٢/٢٠٦.
وهذا الحديث جزء من حديث مطول، رواه مسلم ٢: ٢٦١-٢٦٢، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم: "قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال... ".
ورواه عبد الرزاق في تفسيره، ص ١٤-١٥، عن معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بنحوه مطولا. ورواه أحمد في المسند: ٧٦٩١، عن عبد الرزاق.
ورواه البخاري ٥: ٢١ (فتح)، بنحوه، من رواية إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن الأعرج. ورواه البخاري أيضًا ١: ١٩٠-١٩١ (فتح) من رواية مالك، عن الزهري، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد ٢/٢/١١٨، وأحمد في المسند: ٧٢٧٤- كلاهما من طريق مالك.
وروى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٧١، نحوه مختصرًا، من طريق أبي أسامة، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
252
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (١٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك يَلعنهم الله"، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزلهُ الله من أمر محمد ﷺ وصفَته وأمر دينه، أنه
253
الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس.
* * *
و"اللعنة""الفَعْلة"، من"لعنه الله" بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل"اللعن": الطرْد، (١) كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماءً ورَد عليه:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ (٢)
يعني: مقامَ الذئب الطريد. و"اللعين" من نعت"الذئب"، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. (٣)
* * *
فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا:"اللهم العنه" إذْ كان معنى"اللعن" هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم، وقولهم:"لعنه الله" أو"عليه لعنة الله"، لأن:-
٢٣٧٨- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم، قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، (٤) قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم، لعنَ الله عُصَاة بني آدم!
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب"اللاعنين". فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.
(١) انظر ما سلف ٢: ٣٢٨.
(٢) سلف تخريجه وشرحه في ٢: ٣٢٨. وفي التعليق هناك خطأ صوابه"مجاز القرآن: ٤٦".
(٣) كان في المطبوعة: "الطريد واللعين"، والصواب طرح الواو.
(٤) أسنتت الأرض والسنة: أجدبت، وعام مسنت مجدب. والسنة: القحط والجدب. وكان في المطبوعة: "أسنت"، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور ١: ١٦٢: "إذا اشتدت السنة".
254
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٧٩- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم.
٢٣٨٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون" قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم.
٢٣٨١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم.
٢٣٨٢- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله:"أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون" قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. (١)
٢٣٨٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، اللاعنون: البهائم.
٢٣٨٣م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم.
٢٣٨٤- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله
(١) الخبر: ٢٣٨٢- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي: ثبت هنا على الصواب، كما ظهر في: ١٩٥١. وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان": ١٣٨٣.
255
ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم، فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض.
* * *
فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض، وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، (١) فإنما تجمعه بغير"الياء والنون" وغير"الواو والنون"، وإنما تجمعه ب"التاء"، وما خالفَ ما ذكرنا، فتقول:"اللاعنات" ونحو ذلك؟
قيل: الأمر وإن كان كذلك، فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب"التاء" وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالى ذكره: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) [سورة فصلت: ٢١]، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها، وكما قال: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) [سورة النمل: ١٨]، وكما قال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [سورة يوسف: ٤].
* * *
وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"ويَلعنهم اللاعنون"، الملائكة والمؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٨٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويَلعنهم اللاعنون"، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. (٢)
(١) الضمير في قوله: "أنها إذا جمعت"، للعرب، وإن لم يجر لها ذكر في الكلام.
(٢) في المطبوعة: "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا سعيد"، والصواب ما أثبته، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: ٢٣٧٤.
256
٢٣٨٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، الملائكة.
٢٣٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"اللاعنون"، من ملائكة الله والمؤمنين.
* * *
وقال آخرون: يعني ب"اللاعنين"، كل ما عدا بني آدم والجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٨٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويلعنهم اللاعنون" قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين الجن والإنس.
٢٣٨٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق (١) فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال:"اللاعنون"، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، (٢) فكذلك
(١) المطرق والمطرقة: وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد.
(٢) هي الآية رقم: ١٦١، تأتي بعد قليل.
257
اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، (١) هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، (٢) وهم"اللاعنون"، لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر.
* * *
وأما قول من قال إن"اللاعنين" هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، (٣) فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة، ولا خبرَ بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك.
وإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، (٤) وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد ﷺ ونعته ونبوّته، بعد علمهم به، وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب"اللاعنين" البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض، إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه. (٥)
* * *
(١) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو سهو ناسخ.
(٢) في المطبوعة: "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة... "، والصواب ما أثبت.
(٣) كل ماش على وجه الأرض يقال له: دابة ودبيب.
(٤) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ.
(٥) في المطبوعة: "وكتاب الله الذي ذكرناه"، وهو كلام لا يقال. والصواب ما أثبت. والذي ذكره آنفًا: "إن الدليل من ظاهر كتاب الله... ".
هذا، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه، مبين لك عن نهج الطبري وتفسيره، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن التابعين، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله ﷺ قاطع بالبيان عما ذكروه. والطبري قد يذكر مثل هذه الأخبار، ثم لا يذكر حجته في ردها، لأنه كره إعادة القول وتريده فيما جعله أصلا في التفسير، كما بين ذلك في"رسالة التفسير"، ثم في تفسيره بعد، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه. أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يدع ذكره، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك- خبرًا عن رسول الله، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي يرد به هذا القول.
258
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد ﷺ وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه ="فأولئك"، يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.
ثم قال تعالى ذكره:"وَأنا التواب الرحيم"، يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنّى إليَّ، والرادُّها بعد إدبارها عَن طاعتي إلى طلب محبتي، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إليَّ، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يُتاب على من تاب؟ وما وَجه قوله:"إلا الذينَ تابوا فأولئك أتوب عليهم"؟ وهل يكون تائبٌ إلا وهو مَتُوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟
قيل: ذلك مما لا يكون أحدُهما إلا والآخر معه، فسواء قيل: إلا الذين تِيبَ عليهم فتابوا - أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم. وقد بيَّنا وَجه ذلك
259
فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٩٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إلا الذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنوا"، يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبيَّنوا الذي جاءهم من الله، فلم يكتموه ولم يجحدوا به: أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.
٢٣٩١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين تَابوا وأصلحوا وبَينوا" قال، بيّنوا ما في كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله:"وبيَّنوا"، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، (٢) على كتمانهم ما أنزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد ﷺ ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمرَ محمد ﷺ ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله ويَلعنه اللاعنون (٣) = ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل.
والذين استثنى اللهُ من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد
(١) انظر ما سلف ٢: ٥٤٩.
(٢) في المطبوعة: "في مثل هذه الآية"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "فأخرجهم من عذاب من يلعنه الله"، وهو تصحيف، صوابه ما أثبت.
260
ما بيَّنه للناس في الكتاب، (١) عبدُ الله بن سلام وذَووه من أهل الكتاب، (٢) الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جَحدوا نبوة محمد ﷺ وكذبوا به = من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان ="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم،"أولئك عَليهم لَعنةُ الله والملائكة"، يعني: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته،"والملائكة"، يعني ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم:"عليهم لعنة الله".
* * *
وقد بينا معنى"اللعنة" فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
فإن قال قائل: وكيف تَكونُ على الذي يموت كافرًا بمحمد ﷺ [لعنةُ الناس أجمعين] من أصناف الأمم، (٤) وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه؟
(١) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو خطأ وسهو.
(٢) قوله: "وذووه"، أي أصحابه وأهل ملته، بإضافة"ذو" إلى الضمير، وللنحاة فيه قول كثير، وزعموا أن ذلك يكون في ضرورة الشعر، وليس كذلك، بل هو آت في النثر قديمًا، بمثل ما استعمله الطبري.
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ٢٥٤، والتعليق: ١، ومراجعه.
(٤) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام والسؤال، ولم يكن لهما معنى محدود مفهوم، واستظهرت الزيادة من جواب هذا السؤال.
261
قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى الله بقوله:"والناس أجمعين"، أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون سائر البشر.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٩٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والناس أجمعين"، يعني: ب"الناس أجمعين"، المؤمنين.
٢٣٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والناس أجمعين"، يعني بـ "الناس أجمعين"، المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٩٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: أن الكافر يُوقَف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنًا من كان:"لَعنَ الله الظالم"، فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٩٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أولئك عليهم لَعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، فإنه لا يتلاعن اثنان مُؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما:"لعن الله الظالم"، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه.
* * *
262
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قولُ من قال: عنى الله بذلك جَميعَ الناس، بمعنى لعنهم إياهم بقولهم:"لعن الله الظالم - أو الظالمين".
فإن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان، (١) ومن أي أهل ملة كان، فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا من كان. وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: ١٨]
وأما ما قاله قتادة، من أنه عنى به بعضَ الناس، فقولٌ ظاهرُ التنزيل بخلافه، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون أنفسهم ولا أولياءهم، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة، وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه، وجحوده نعمةَ ربه، ومخالفته أمرَه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) ﴾
* * *
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما الذي نصب"خالدين فيها"؟
قيل: نُصب على الحال من"الهاء والميم" اللتين في"عليهم". وذلك أنّ معنى قوله:"أولئكَ عَليهم لعنة الله"، أولئك يلعنهم الله والملائكةُ والناس أجمعون خالدين فيها. ولذلك قرأ ذلك:"أولئك عَليهم لعنة الله والملائكةُ والناس أجمعون"
(١) في المطبوعة: "لا يمنع من قيل ذلك"، والصواب ما أثبت.
263
مَنْ قرأَهُ كذلك، (١) توجيهًا منه إلى المعنى الذي وصفتُ. وذلك وإن كان جائزًا في العربية، فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به، لأنه خلافٌ لمصاحف المسلمين، وما جاء به المسلمون من القراءة مستفيضًا فيهم. فغير جائز الاعتراضُ بالشاذّ من القول، على ما قد ثبتت حُجته بالنقل المستفيض.
* * *
وأما"الهاء والألف" اللتان في قوله:"فيها"، فإنهما عائدتان على"اللعنة"، والمرادُ بالكلام: ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس. والذي صار إليه بها، نارُ جهنم. وأجرى الكلام على"اللعنة"، والمراد بها ما صار إليه الكافر، كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل، كما:-
٢٣٩٦- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"خالدين فيها"، يقول: خالدين في جهنم، في اللعنة.
* * *
وأما قوله:"لا يخفّف عنهم العذاب"، فإنه خبرٌ من الله تعالى ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) [سورة فاطر: ٣٦]، وكما قال: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [سورة النساء: ٥٦]
* * *
وأما قوله:"ولا هم يُنظرون"، فإنه يعني: ولا هُم يُنظرون بمعذرة يَعتذرون، كما:-
٢٣٩٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا هم ينظرون"، يقول: لا يُنظرون فيعتذرون،
(١) في المطبوعة: "والناس أجميعن"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت، برفع"الملائكة والناس أجمعون"، وهي قراءة الحسن. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٩٦-٩٧، وتفسير هذه الآية في سائر كتب التفسير.
264
كقوله: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ). [سورة المرسلات: ٣٥-٣٦]
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى"الألوهية"، وأنها اعتباد الخلق. (١)
فمعنى قوله:"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم": والذي يستحق عَليكم أيها الناس الطاعةَ له، ويستوجب منكم العبادة، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحد، فلا تعبدوا غيرَه، ولا تشركوا معه سواه، فإنّ من تُشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خَلقٌ من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثلَ لهُ وَلا نَظير.
* * *
واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره،
فقال بعضهم: معنى وحدانية الله، معنى نَفي الأشباه والأمثال عنه، كما يقال:"فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه"، يعني بذلك أنه ليسَ له في الناس مثل، ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ. فكذلك معنى قول:"اللهُ واحد"، يعني به: الله لا مثل له ولا نظير.
فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك، أنّ قول القائل:"واحد" يفهم لمعان أربعة. أحدها: أن يكون"واحدًا" من جنس، كالإنسان"الواحد" من الإنس. والآخر: أن يكون غير متفرِّق، كالجزء الذي لا ينقسم. (٢) والثالث:
(١) انظر ما سلف ١: ١٢٢-١٢٦.
(٢) في المطبوعة: "غير متصرف"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت.
265
أن يكون معنيًّا به: المِثلُ والاتفاق، كقول القائل:"هذان الشيئان واحد"، يراد بذلك: أنهما متشابهان، حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد.
والرابع: أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه.
قالوا: فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني"الواحد" منتفيةً عنه، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه.
* * *
وقال آخرون: معنى"وحدانيته" تعالى ذكره، معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنما كان منفردًا وحده، لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل:"واحد"، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون.
* * *
وأما قوله:"لا إله إلا هو"، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيرُه، ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه، وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه، والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام. لأنّ جميع ذلك خلقُه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تَنبغي الألوهة إلا له، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك؛ (١) وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفعُ في عاجل ولا في آجل، ولا في دنيا ولا في آخرة.
وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهلَ الشرك به على ضلالهم، ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم.
(١) الأشراك جمع شريك، كما يقال: شريف وأشراف، ونصير وأنصار، ويجمع أيضًا على"شركاء".
266
ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حُججي وفكروا فيها، فإن من حُججي خَلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثتُ فيها من كل دابة، والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ، وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه.
* * *
267
القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه ﷺ قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
267
فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هُو الرحمنُ الرحيم" فتلا ذلك عَلى أصحابه، وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك، ونحن نزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك:"إن في خَلق السموات والأرض"، احتجاجًا لنبيه ﷺ على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزل على النبي ﷺ بالمدينة:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار"، إلى قوله:"لآياتٍ لقوم يَعقلون"، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله ﷺ [آية]، (١) فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.
* ذكر من قال ذلك:
٢٣٩٩- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه،
(١) الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها، ويدل عليها ما سيأتي في الآثار بعد.
268
عن أبي الضحى قال: لما نزلت"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار"، الآية.
٢٤٠٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية.
٢٤٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال، حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ، فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنزل الله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية.
٢٤٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنزلت هذه الآية:"إنّ في خلق السموات والأرض".
٢٤٠٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنزداد يقينًا، ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي ﷺ ربه، فأوحى إليه:
269
إنّي مُعطيهم، فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا، ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنزل الله عليه:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، الآية: إن في ذَلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا، فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.
٢٤٠٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (١) غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نزلت فيما قاله عطاء، وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى، ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.
* * *
(١) في المطبوعة: "فقال المشركون للنبي... "، والصواب طرح هذه الفاء.
270
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.
* * *
ومعنى"خلق" الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.
وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل:"الأرض"، ولم تجمع كما جُمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال:"إنّ في خلق السموات والأرض"؟
قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة: الكهف: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف: ٥١] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله، والإرادة خلق لها.
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٤٣١-٤٣٧.
271
وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.
* * *
وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.
فمعنى قوله:"إن في خلق السموات والأرض": إنّ في السموات والأرض. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واختلاف الليل والنهار"، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.
* * *
وإنما"الاختلاف" في هذا الموضع"الافتعال" من"خُلوف" كل واحد منهما الآخر، (٢) كما قال تعالى ذكره: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [سورة الفرقان: ٦٢].
بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده، وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل:"خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء"، ومنه قول زهير:
بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم (٣)
* * *
(١) لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح القول الذي يختاره. وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه، أنه كان يختصر كلامه أحيانًا، مخافة الإطالة. هذا إذا لم يكن في المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب.
(٢) "خلوف" مصدر"خلف"، ولم أجده في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق في قياسه.
(٣) ديوانه: من معلقته العتيقة. والهاء في"بها" إلى"ديار أم أوفى" صاحبته. والعين جمع عيناء: وهي بقر الوحش، واسعة العيون جميلتها. والآرام جمع رئم: وهي الظباء الخوالص البياض، تسكن الرمل. "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه. يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة. والأطلاء جمع طلا: وهو ولد البقرة والظبية الصغير. ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه. يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة -، كما ذكر.
272
وأما"الليل". فإنه جَمْع"ليلة"، نظيرُ"التمر" الذي هو جمع"تمرة". وقد يجمع"ليالٍ"، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم"الياء" في ذلك نظير زيادتهم إياها في"ربَاعية وثَمانية وكرَاهية".
* * *
وأما"النهار"، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه"النُّهُر"، قال الشاعر:
لَوْلا الثّرِيدانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ (١)
ءولو قيل في جمع قليله"أنهِرَة" كان قياسًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.
* * *
و"الفلك" هو السُّفن، واحدُه وجمعه بلفظ واحد، ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [سورة يس: ٤١]، فذكَّره.
* * *
وقد قال في هذه الآية:"والفلك التي تجري في البحر"، وهي مُجْراة، لأنها
(١) تهذيب الألفاظ: ٤٢٢، والمخصص ٩: ٥١، واللسان (نهر)، والأزمنة والأمكنة ١: ٧٧، ١٥٥ وغيرها. ورواية اللسان والمخصص"لمتنا بالضمر". والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر والعسر: الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره. والثريد: خبز يهشم ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين.
273
إذا أجريت فهي"الجارية"، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها. (١)
* * *
وأما قوله:"بما ينفع الناس"، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما أنزل اللهُ من السماء من مَاء"، وفيما أنزلهُ الله من السماء من ماء، وهو المطر الذي يُنزله الله من السماء.
وقوله:"فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها"، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و"الهاء" التي في"به" عائدة على"الماء" و"الهاء والألف" في قوله:"بعد موتها" على الأرض.
و"موت الأرض"، خرابها، ودُثور عمارتها، وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾
قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله:"وبث فيها منْ كلّ دَابة"، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ١٩٦.
274
ومعنى قوله:"وبَث فيها"، وفرَّقَ فيها، من قول القائل:"بث الأميرُ سراياه"، يعنى: فرَّق.
و"الهاء والألف" في قوله:"فيها"، عائدتان على"الأرض".
* * *
"والدابة""الفاعلة"، من قول القائل:"دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة"."والدابة"، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وتصريف الرياح"، وفي تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول، كما تقول: (١) "يعجبني إكرام أخيك"، تريد: إكرامُك أخَاك.
* * *
"وتصريف" الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ، ومرة يجعلها عَقيما، ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-
٢٤٠٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخر" قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك، إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح، إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "كما قال: يعجبني.. يريد"، والصواب ما أثبت.
(٢) الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور ١: ١٦٤، من نص تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري.
275
وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله:"وتصريف الرياح"، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. (١) وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها، لأن"تصريفها" تصريفُ الله لها،"وتصرفها" اختلافُ هُبوبها.
وقد يجوز أن يكون معنى قوله:"وتصريف الرياح"، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والسحاب المسخر"، وفي السحاب، جمع"سحابة". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) [سورة الرعد: ١٢] فوحّد المسخر وذكره، كما قالوا:"هذه تَمرة وهذا تمر كثير". في جمعه،"وهذه نخلة وهذا نخل". (٢)
وإنما قيل للسحاب"سحاب" إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه، من قول القائل:"مرّ فلان يَجر ذَيله"، يعني:"يسحبه".
* * *
فأما معنى قوله:"لآيات"، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. (٣)
* * *
(١) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٩٧.
(٢) في المطبوعة: "كما قال: هذه ثمرة... "، والصواب ما أثبته.
(٣) انظر معنى"آية" فيما سلف ١: ١٠٦، وفهارس اللغة. وقد ترك الطبري تفسيره"المسخر"، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو كاتب، إن لم يكن من الطبري نفسه، كما أشرت إليه فيما مضى.
276
"لقوم يعقلون"، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم العقاب.
* * *
فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟
قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه، وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [شيء]، وبارئًا لا مِثْل له. (١) وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم، غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. (٢) فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا قوله:"وإلهكم إلهٌ واحد"، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر] (٣) وذلك هو معنى قوله:"والفلك التي تجري في البحر بما
(١) الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا.
(٢) انظر ما سلف في ١: ٣٧١، والرد على من ظن أن العرب كانت غير مقرة بالوحدانية.
(٣) هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير، فاختلت واضطربت، وكأن صوابها ما يأتي: [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض، فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم، وخلق السَّمَوات وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى: (واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله]-
277
ينفع الناس" - وأنزل إليكم الغيثَ من السماء، فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه، وأمرعه بعد دُثوره، فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم (١) -، وذلك هو معنى قوله:"وَمَا أنزل الله من السماء من مَاء فأحيا به الأرض بعد موتها" - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل، ومنها جمالٌ ومراكبُ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله:"وبث فيها من كل دابة" - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودَقْه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض".
فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم، وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء، ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.
* * *
والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة، المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.
(١) أمرع الأرض: صيرها خصبة بعد الجدب. والدثور: الدروس، يريد خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره. وكان في المطبوعة: "فينعثكم"، والصواب ما أثبت. ونعشه الله ينعشه: رفعه وتداركه برحمته.
278
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له =
وقد بينا فيما مضى أن"الندّ"، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته. (١)
* * *
= وأن الذين اتخذوا هذه"الأنداد" من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في"الأنداد" التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟
* * *
فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
* ذكر من قال ذلك.
٢٤٠٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم.
٢٤٠٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره:"يحبونهم كحب الله"، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد،"والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم.
٢٤٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
(١) انظر ما سلف ١: ٣٦٨-٣٧٠.
279
٢٤٠٩- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله،"والذين آمنوا أشد حبًا لله"، أي من الكفار لأوثانهم.
٢٤١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتُهم.
* * *
وقال آخرون: بل"الأنداد" في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤١١- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله. (١)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"كحب الله"؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال:"يُحيونهم كحب الله"؟
قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما ذلك نظير قول القائل: (٢) "بعت غُلامي كبيع غلامِك"، بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك
(١) الأثر: ٢٤١١- في المطبوعة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط"، أسقط منه"قال حدثنا عمرو"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به رقم: ٢٤٠٤. ثم انظر ص: ٢٨٨ س: ١١ فسيأتي تأويله وبيانه عن قول السدي.
(٢) في المطبوعة: "وإنما نظير ذلك"، وأثبت أولى العبارتين بالسياق والمعنى.
280
غُلامَك،"واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك"، بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في"الغلام" و"الحق"، كما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيَّا عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيم الأمِيرِ (١)
يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم:"ولوْ ترى الذين ظَلموا" بالتاء"إذ يَرون العذابَ" بالياء"أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب" بفتح"أنّ" و"أنّ" كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد
(١) لم أعرف قائله. وسيأتي في هذا الجزء ٣: ٣١١، وهو من أبيات أربعة في البيان والتبيين ٤: ٥١، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٠٠، وأمالي الشريف ١: ٢١٥. وبعد البيت:
أَميرٌ يأكُلُ الفَالُوذَ سِرًّا ويُطْعِمُ ضيفَهُ خُبْزَ الشَّعِير!
أتذكُرُ إذْ قَبَاؤك جلْدُ شاةٍ وَإِذْ نَعْلاَكَ من جِلْدِ البَعِيرِ؟
فسُبْحان الذي أعطاك مُلْكًا وعَلَّمك الجلوسَ على السَّرِير!!
(٢) في المطبوعة: "كحب الله"، وليس هذا تفسيرًا على سياق كلامه وتفسيره، بل هو نص الآية، والصواب ما أثبت.
281
الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه"أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب".
ثم في نصَبْ"أنّ" و"أنّ" في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا -ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا، وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ -إذا فتحت"أن" على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح"أن"، على قراءة من قرأ:"ولو ترى" ب"التاء".
والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ
282
يَرى الذين ظلموا عذابَ الله، لأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف"اللام"، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء:"ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب". بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال:"إن القوة لله جميعًا" في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة،"وإن الله شديد العذاب" لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.
* * *
وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر"إن" في"ترى" بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ"القول" وتَكتفي منه بالمقول.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء"إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب" بفتح"الألف" من"أنّ""وأنّ"، بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، إذ يرون العذاب. فتكون"أن" الأولى منصوبة لتعلقها بجواب"لو" المحذوف، ويكون الجواب متروكًا، وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب" بالياء في"يرى" وفتح"الألفين" في"أن""وأن"-: ولو يعلمون، (١) لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي ﷺ عَلم، فإذا قال:"ولو ترى"، فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كسر"إنّ" على الابتداء، إذا قال:"ولو يرى" جاز، لأن"لو يرى"، لو يعلم.
وقد تكون"لو" في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. (٢) تقول للرجل:"أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم" (٣) كما قال الشاعر: (٤)
إنْ يكُنْ طِبَّكِ الدّلالُ، فلَوْ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ والسِّنِينَ الخَوَالِي! (٥)
(١) يريد أن"يرى" بمعنى: يعلم. وقاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ٦٢.
(٢) في المطبوعة: "وقد تكون"لو يعلم" في معنى لا يحتاج... "، والصواب حذف"يعلم" فإنه أراد"لو" وحدها، وذلك ظاهر في استدلاله بعد.
(٣) في المطبوعة: "لو يعلم" في الموضعين، والصواب جعل إحداهما بالياء. والأخرى بالتاء.
(٤) هو عبيد بن الأبرص.
(٥) ديوانه: ٣٧، من قصيدة جيدة يعاتب امرأته وقد عزمت على فراقه، وقبله:والزيال: المفارقة. وقوله: "طبك"، أي شهوتك وإرادتك وبغيتك. يقول لها: إن كنت الدلال على تبغين وترومين، فقد مضى حين ذلك، أيام كنا شبابًا في سالف دهرنا وليالينا الخوالي! إذ-:
283
هذا ليس له جواب إلا في المعنى، وقال الشاعر (١)
تلكَ عِرْسِي تَرُومُ قِدْمًا زِيَالِي أَلِبَيْنٍ تُرِيد أَمْ لِدَلاَلِ؟
أنْت بَيْضَاءُ كالمهاة، وإِذْا آتِيكِ نَشْوَانَ مُرْخِيًا أَذْيالِي
وَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلا تَذْهَبْ بِكَ التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (٢)
فأضمر: فعيشي. (٣)
قال: وقرأ بعضهم:"ولو تَرى"، وفتح"أن" على"ترى". وليس بذلك، (٤) لأن النبي ﷺ يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: ٣]، ليخبر الناس عن جهلهم، وكما قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: ١٠٧]. (٥)
* * *
قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون"أنّ" عاملا فيها قوله:"ولو يرى". وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا، فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في"أن" جواب"لو" الذي هو بمعنى"العلم"، لتقدم"العلم" الأول. (٦)
* * *
(١) هو عبيد بن الأبرص أيضًا من قصيدته السالفة.
(٢) ديوانه: ٣٧، وسيأتي في التفسير ٧: ١١٧، وهو في الموضعين مصحف. كان هنا"وبحظ ما تعيش". قال لها ذلك بعد أن ذكر أنها زعمت أنه كبر وقل ماله، وضن عنه إخوانه وأنصاره. ثم أمرها أن ترفض مقالة العاذلين، ويعظها أن تعيش معه بما يعيش به. والترهات جمع ترهة: وهي أباطيل الأمور. والأهوال جمع هول: وهو الأمر المخيف. ثم ذكر لها أمر أهلها إذا فارقته إليهم وما تلقاه من أهوال، فقال:
مِنْهُمُ مُمْسِكٌ، ومِنْهم عَدِيمٌ، وبَخِيلُ عَلَيْكِ فِي بُخّالِ
(٣) في المطبوعة: "فأضمر: عش"، والصواب ما أثبت، وستأتي على الصواب في الجزء السابع.
(٤) قوله: "ليس بذلك"، أي قول ضعيف ليس بذلك القوي.
(٥) انظر ما سلف ٢: ٤٨٤-٤٨٨.
(٦) يعني بالعلم الأول"لو يرى" بمعنى"لو يعلم"، والآخر الجواب المحذوف: "لعلموا".
284
وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب:"أن القوة لله وأن الله شديد العذاب" ممن قرأ:"ولو يَرَى" بالياء، فإنما نصبها بإعمال"الرؤية" فيها، وجعل"الرؤية" واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ:"ولو ترى" بالتاء، فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا، ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.
* * *
وقال آخرون منهم: فتح"أنّ" في قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء، بإعمال"يرى"، وجوابُ الكلام حينئذ متروك، كما ترك جواب: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ) [سورة الرعد: ٣١]، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. (١) وقالوا: جائز كسر"إن"، في قراءة من قرأ ب"الياء"، وإيقاع"الرؤية" على"إذ" في المعنى، وأجازوا نصب"أن" على قراءة من قرأ ذلك ب"التاء"، لمعنى نية فعل آخر، وأن يكون تأويل الكلام:"ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب"، [يرَون] أنّ القوة لله جميعا، (٢) وزعموا أن كسر"إنّ" الوجهُ، إذا قرئت:"ولو تَرَى" ب"التاء" على الاستئناف، لأن قوله:"ولو ترى" قد وَقع على"الذين ظلموا". (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"ولو تَرَى الذين ظلموا" -بالتاء من"ترى"-"إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب" بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله:"لرأيت" الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله:"ولو ترى الذين ظلموا"، عن ذكره، وإن
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٩٧، وفيه"معاني الجنة... "، والصواب ما في الطبري وإحدى نسخ معاني القرآن.
(٢) الذي بين القوسين زيادة لا بد منها، وإلا اختل الكلام، واستدركتها من معاني القرآن للفراء ١: ٩٨.
(٣) هذا قول الفراء في معاني القراء ١: ٩٧-٩٨، مع بعض التصرف في اللفظ. وقوله: "وقع"، و"الوقوع" يعني به تعدي الفعل إليه. وانظر فهرس المصطلحات.
285
كان جوابًا ل"لو". (١)
ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله ﷺ - معنيًّا به غيره. لأن النبي ﷺ كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: ١٠٧] وقد بيناه في موضعه. (٢)
وإنما اخترنا ذلك على قراءة"الياء"، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال:"لو رأيت"، لمن لم يرَ، فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له:"لو رأيت".
* * *
ومعنى قوله:"إذ يَرون العذاب"، إذ يُعاينون العذاب، كما:-
٢٤١٢- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب"، يقول: لو عاينوا العذاب.
* * *
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"ولو تَرَى الذين ظلموا"، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي، حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم، لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة، وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا، ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم، وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.
* * *
(١) في المطبوعة: "وإن كان جوابًا... "، والصواب ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٤٨٤-٤٨٨.
286
القول في تأويل قوله تعالى ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب"، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، فقال بعضهم بما:-
٢٤١٣- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ تبرأ الذين اتُّبعوا"، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك،"من الذين اتَّبعوا"، وهم الأتباع الضعفاء،"ورأوا العذاب".
٢٤١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.
٢٤١٥- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء:"إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا" قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.
* * *
وقال آخرون بما:-
٢٤١٦- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "من الذين اتبعوا" مرة أخرى، والصواب"اتبعوهم" كما أثبت، وإلا لم يكن ذلك إلا تكرارًا بلا معنى.
287
أسباط، عن السدي:"إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا"، أما"الذين اتُّبعوا"، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض، بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.
* * *
وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا"، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله:"ومنَ الناس مَن يَتخذُ من دُون الله أندادًا"، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.
وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: (١) "ومن الناس مَنْ يَتخذ من دون الله أندادًا"، أن"الأنداد" في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر، ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم، كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره = وفسد تأويل قول من قال: (٢) "إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.
* * *
(١) انظر الأثر رقم: ٢٤١١.
(٢) قوله: "وفسد" معطوف على قوله: "صح".
288
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (١٦٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تَقطعت بهم الأسباب.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الأسباب". فقال بعضهم بما:-
٢٤١٧- حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير،- عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتَقطعت بهمُ الأسباب" قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا. (١)
٢٤١٨- حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتقطَّعت بهم الأسباب" قال، تواصلهم في الدنيا. (٢)
٢٤١٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد بمثله.
(١) الخبر: ٢٤١٧- فضيل بن عياض بن مسعود التميمي الزاهد الخراساني: ثقة، قال ابن سعد: "كان ثقة ثبتًا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث". مات في أول المحرم سنة ١٨٧ بمكة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/١٢٣، والصغير: ٢٠٩، وابن سعد ٥: ٣٦٦، وابن أبي حاتم ٣/٢/٧٣.
وهذا الخبر يرويه أبو جعفر بإسنادين: من طريقي الفضيل بن عياض، ثم من طريقي جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي - كلاهما عن عبيد المكتب. ثم سيرويه عقب ذلك، بإسنادين آخرين: ٢٤١٨، ٢٤١٩، من رواية سفيان، وهو الثوري، عن عبيد المكتب.
و"عبيد المكتب"، بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء المثناة، من"الإكتاب"، أي تعليم الكتابة: هو عبيد بن مهران الكوفي، وهو ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٣٧، وابن أبي حاتم ٣/١/٢.
(٢) الخبر: ٢٤١٨- إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، شيخ الطبري: ثقة مأمون. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/١/٢١١، وتاريخ بغداد ٦: ٣٧٠.
289
٢٤٢٠- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، المودّة.
٢٤٢١- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٤٢٢- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.
٢٤٢٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"وتقطّعت بهم الأسباب" قال، المودة.
٢٤٢٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وتقطعت بهم الأسباب"، أسبابُ الندامة يوم القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها، فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثم يوم القيامة يكفر بعضُكم ببعض، ويلعن بعضُكم بعضًا، ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) [سورة الزخرف: ٦٧]، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.
٢٤٢٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.
٢٤٢٦- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: الأسبابُ، الندامة.
* * *
وقال بعضهم: بل معنى"الأسباب"، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.
290
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٢٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.
٢٤٢٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، الأسباب المنازل.
* * *
وقال آخرون:"الأسباب"، الأرحام.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٢٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، وقال ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، الأرحام.
* * *
وقال آخرون:"الأسباب"، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٣٠- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"وتقطعت بهم الأسباب"، فالأعمال.
٢٤٣١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، أسباب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون، والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.
* * *
291
قال أبو جعفر: (١) "والأسباب"، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و"السبب" الحبل."والأسباب" جمع"سَبب"، وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل"سبب"، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق"سبب"، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة"سبب"، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة"سَبب"، للوصول بها إلى الحاجة، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو"سبب" لإدراكها.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: "وتقطعت بهم الأسباب" أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ = عند معاينتهم عذابَ الله = المتبوعُ من التابع، وتتقطع بهم الأسباب.
وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [سورة إبراهيم: ٢٢]، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا، فقال تعالى ذكره: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ) [سورة الصافات: ٢٤-٢٥] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه لله وليًّا، فقال تعالى ذكره في ذلك: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة: ١١٤] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.
وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة
(١) من أول هذه الفقرة، كلام أبي جعفر، وأخشى أن يكون سقط شيء قبله. وهذا الابتداء على كل حال، جار على غير النهج الذي سار عليه كتابه من قبل ومن بعد.
292
بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم، (١)
ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.
فلا مَعْنِىَّ أبلغُ -في تأويل قوله:"وتقطعت بهم الأسباب"- من صفة الله [ذلك] وذلك ما بيَّنا من [تقطّع] جَميع أسبابهم دون بَعضها، (٢) على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه، وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"وقَال الذين اتَّبعوا"، وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله، ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم، إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة-:"لو أن لنا كرة".
* * *
يعني"بالكرة"، الرجعةَ إلى الدنيا، من قول القائل:"كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا"، و"الكرَّة" المرة الواحدة، وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:
(١) في المطبوعة: "ينفعهم"، والصواب ما أثبت، فالأفعال قبله وبعده كلها ماضية. والخلال مصدر خاله (بشديد اللام) يخاله مخالة وخلالا: وهي الصداقة والمودة، يقول امرؤ القيس:
صَرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الخِلالِ وَلاَ قَالي
(٢) الزيادة التي بين الأقواس، لا بد منها حتى يستقم صدر الكلام وآخره، في الجملة التالية. ويعني بقوله"صفة الله": ما وصف الله سبحانه من تقطع أسباب الكافرين يوم القيامة، كالذي عدده آنفًا في الفقرة السالفة.
293
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً كَرَّ الْمَنِيحِ، وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالا (١)
وكما:-
٢٤٣٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا"، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.
٢٤٣٣- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة" قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.
* * *
وقوله:"فنتبرأ منهم" منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب"الفاء". لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، (٢) فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، و (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأنعام: ٢٧]
* * *
(١) ديوانه ٤٨، ونقائض جرير والأخطل: ٧٩. وفي المطبوعة: "كر المشيح"، وهو خطأ وفي الديوان"على قدارة"، وهو خطأ. وفزارة بن ذبيان بن بغيض. والمنيح: قدح لاحظ له في الميسر، وأقداح الميسر سبعة دوات أنصباء، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة، ولكنها تعاد معها في كل ضربة. وقوله: "عطفن" يعني الخيل، ذكرها في بيت قبله. وقد مضى من هذه القصيدة أبيات في ٢: ٣٨، ٣٩، ٤٩٢، ٤٩٦.
(٢) في المطبوعة: "إذا عاينوا"، وهو خطأ.
294
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"كذلك يُريهمُ الله أعمالهم"، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله:"ورأوا العذاب"، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله"حسرات عليهم" يعني: نَدامات.
* * *
"والحسرات" جَمع"حَسْرة". وكذلك كل اسم كان واحده على"فَعْلة" مفتوح الأول ساكن الثاني، فإن جمعه على"فَعَلات" مثل"شَهوة وتَمرة" تجمع"شَهوات وتَمرات" مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل"ضخمة"، تجمعها"ضخْمات" و"عَبْلة" تجمعها"عَبْلات"، وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر: (١)
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا... يُدِلْنَنَا اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِهَا... فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا (٢)
فسكنّ الثاني من"الزفرات"، وهي اسم. وقيل: إن"الحسرة" أشد الندامة.
* * *
(١) لم أعرف قائله.
(٢) سيأتي في التفسير ٢٤: ٤٣ / ٣٠: ٣٤ (بولاق) بزيادة بيت. والعيني ٤: ٣٩٦ واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها. والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال) : العقبة في المال والحرب وغيرهما، وهو الانتقال من حال إلى حال، هذا مرة وهذا مرة. ودالت الأيام: دارت بأصحابها. ويروي: "تديلنا" وأداله: جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى. واللمة: النازلة من نوازل الدهر، كالملمة. والبيت الرابع الذي زاده الطبري: وَتَنْقَعُ الغُلّة من غُلاّتِها
والغلة: شدة العطش وحرارته. ونقع الغلة: سكنها وأطفأها وأذهب ظمأها.
295
فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم، وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه، فيريهم الله قليلَه! (١) بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله، ولا حسرةَ عليهم في ذلك، وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟
قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون، فنذكر في ذلك ما قالوا، ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب =ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم= غيرُهمْ بطاعته ربَّه. (٢) فصار ما فاتهم من الثواب -الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه (٣) عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٣٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم"، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين، فيرثونهم. فذلك حين يندمون.
٢٤٣٥- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء، عن عبد الله -في
(١) قوله: "فيريهم الله قليله"، يعني به: فيريهم الله أنه قليل، فيتمنون أن لو كانوا ازدادوا من فعله حتى يكثر.
(٢) سياق هذه الجملة: حتى استوجب غيرهم بطاعته ربه، ما كان الله أعد لهم... " فقدم وأخر وفصل، كعادته.
(٣) في المطبوعة: "إذا عاينوه"، والصواب ما أثبت.
296
قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار، وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار، فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم! (١)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟
قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [له] قبل أن يعمله: (٢) هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله، كما يقال للرجل يَحضُر
(١) الحديث: ٢٤٣٥- سفيان: هو الثوري. سلمة بن كهيل الحضرمي. سبق توثيقه: ٤٣٩، ونزيد هنا أن الثوري قال: "كان ركنًا من الأركان". وقال أحمد: "سلمة متقن الحديث". وقال أبو زرعة: "كوفي ثقة مأمون ذكي". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٧٥، وابن سعد ٦: ٢٢١، وابن أبي حاتم ٢/١/١٧٠-١٧١، وتاريخ الإسلام ٥: ٨١-٨٢.
أبو الزعراء - بفتح الزاي والراء بينهما عين مهملة ساكنة؛ هو عبد الله بن هانئ أبو الزعراء الكبير، وهو خال سلمة بن كهيل. وهو ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ١١٩، وابن أبي حاتم ٢/٢/١٩٥.
وهذا الحديث قطعة من حديث طويل - كما قال الطبري هنا: "في قصة ذكرها" وستأتي قطعة أخرى منه في الطبري ١٥: ٩٧ (بولاق). وهو حديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه -عندنا- وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنه مرفوع حكمًا، لأنه في صفة آخر الزمان، وما يأتي من الفتن، ثم فناء الدنيا، ثم البعث والنشور والشفاعة، وما إلى ذلك، مما لا يعلم بالرأي.
وقد رواه -بطوله كاملا- الحاكم في المستدرك ٤: ٤٩٦-٤٩٨، من طريق الحسين بن حفص الإصبهاني، عن سفيان، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠: ٣٢٨-٣٣٠، بطوله، وقال: رواه الطبراني وهو موقوف، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع"! هكذا قال الهيثمي ولم يذكر شيئًا عن إسناده. وليس هذا موضع التعقب على تعليله.
وروى أبو داود الطيالسي: ٣٨٩- قطعة أخرى منه، عن يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه. و"يحيى بن سلمة". ضعيف جدًا. قال البخاري في الصغير، ص: ١٤٣"منكر الحديث" ولا يضر ضعف الإسناد عند الطيالسي، إذ جاء الحديث -كما ترى- بإسناد صحيح، من رواية سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل.
(٢) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام.
297
غَداؤه قبل أن يَتغدى به: (١) هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.
* * *
وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.
٢٤٣٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أعمالهم حسرات عليهم" قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [فجعلها] حسرات عليهم. (٢) قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم، وقرأ قول الله: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) [سورة الحاقة: ٢٤]
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم"، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، (٣) لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.
(١) في المطبوعة: "كما يقال للرجل"، وزيادة الواو لازمة.
(٢) الزيادة بين القوسين مما يستقيم به معنى الكلام، ليطابق القول الذي قاله هؤلاء. ويوافق الشطر الثاني من هذا الخبر في ذكر أعمال أهل الجنة.
(٣) في المطبوعة: "إذا رأوا جزاءها"، والصواب ما أثبت.
298
فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. (١) والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية، فإنه مَنزع بعيد. ولا أثر -بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، (٢) ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنزيل إلى باطن تأويل. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار =وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله، فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة، وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها، ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها = بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا، ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ، ولكنهم فيها مخلدون.
* * *
وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.
* * *
(١) انظر تفسير معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف ٢: ١٥، واطلبه في فهرس المصطلحات.
(٢) في المطبوعة: "تقوم له حجة"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "فإذا كان الأمر... "، والصواب ما أثبت. وقوله: "لم يحل" من أحال الشيء يحيله: إذا حوله من مكان إلى مكان، أو من وجه إلى وجه.
299
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد ﷺ فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم = دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها، إنه = يعني بقوله:"إنه" إنّ الشيطان، و"الهاء" في قوله:"إنه" عائدة على الشيطان = لكم أيها الناس"عدو مُبين"، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة، وأكل من الشجرة.
يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة، ودعوا ما يأمركم به، والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم، دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.
* * *
ومعنى قوله:"حَلالا"، طِلْقًا. (١) وهو مصدر من قول القائل:"قد حَلَّ لك هذا الشيء"، أي صار لك مُطلقًا، (٢) "فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا"، ومن
(١) الطلق (بكسر فسكون). الحلال. يقال: هو لك طلق، أي حلال. وفي الحديث: "الخيل طلق"، أي أن الرهان عليها حلال.
(٢) هكذا في المطبوعة، وأخشى أن يكون الصواب فيما كتب الطبري"طلقًا" كما سلف، وكما سيأتي في عبارته.
300
كلام العرب:"هو لك حِلٌّ"، أي: طِلْق. (١).
* * *
وأما قوله:"طيبًا" فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.
* * *
وأما"الخطوات" فإنه جمع"خُطوة"، و"الخطوة" بعد ما بين قدمي الماشي. و"الخطوة" بفتح"الخاء""الفعلة" الواحدة من قول القائل:"خَطوت خَطوة واحدةً". وقد تجمع"الخُطوة""خُطًا" و"الخَطْوة" تجمع"خَطوات"،"وخِطاء".
* * *
والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته، النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الخطوات". فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٣٨- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"خطوات الشيطان"، يقول: عمله.
* * *
وقال بعضهم:"خطوات الشيطان"، خَطاياه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٣٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"خُطُوات الشيطان" قال، خطيئته.
٢٤٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.
(١) في المطبوعة: "من كلام العرب... "، وأثبت الواو، وحذفها جيد أيضًا.
301
٢٤٤١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان" قال، خطاياه.
٢٤٤٢- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"خطوات الشيطان" قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.
* * *
وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، طاعته.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٤٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تتبعوا خطوات الشيطان"، يقول: طاعته.
* * *
وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، النذورُ في المعاصي.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٤٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله:"ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان" قال، هي النذور في المعاصي.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله:"خطوات الشيطان"، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها"بعد ما بين قَدميه"، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.
* * *
302
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما يأمرُكم"، الشيطانَ،"بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون".
* * *
"والسوء": الإثم، مثل"الضُّرّ"، من قول القائل:"ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا"، وهو ما يَسوء الفاعل.
* * *
وأما"الفحشاء"، فهي مصدر مثل"السراء والضراء"، (١) وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.
وقيل: إن"السوء" الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك، فإنما سَمَّاها الله"سوءًا" لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن"الفحشاء"، الزنا: فإن كان ذلك كذلك، فإنما يُسمى [كذلك]، (٢) لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٤٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنما يأمركم بالسوء والفحشاء"، أمّا"السوء"، فالمعصية، وأما"الفحشاء"، فالزنا.
* * *
وأما قوله:"وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون"، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي، ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى
(١) لعل الصواب، "فهي اسم مصدر".
(٢) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام.
303
ذكره لهم: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة: ١٠٣] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، (١) أنّ قيلهم:"إنّ الله حرم هذا! " من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه، ولم يحرم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا منهم خطواته، واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم، كما أنزل الله في كتابه على رسوله ﷺ فقال تعالى ذكره:"وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قَالوا بَلْ نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا".
* * *
(١) في المطبوعة، "وأخبرهم" بالواو، والصواب الجيد ما أثبت.
304
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.
أحدهما: أن تكون"الهاء والميم" من قوله:"وإذا قيلَ لهم" عائدة على"من" في قوله:"ومنَ الناس مَنْ يَتخذُ من دون الله أندادًا"، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا، وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.
والآخر: أن تكون"الهاء والميم" اللتان في قوله:"وإذا قيل لهم"، من ذكر"الناس" الذين في قوله:"يا أيها الناسُ كلوا مما في الأرض حَلالا طيبًا"، فيكون
304
ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: ٢٢]
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية (١) أن تكون"الهاء والميم" في قوله:"لهم"، من ذكر"الناس"، وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله:"يا أيها الناس كلوا مما في الأرض". فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم"مَنْ يَتخذ من دُون الله أندادًا"، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها = وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، (٢) إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-
٢٤٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله ﷺ اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما (٣) "وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه
(١) في المطبوعة: "وأشبه عندي وأولى بالآية"، وهو كلام مختل، ورددته إلى عبارة الطبري في تأويل أكثر الآيات السالفة.
(٢) في المطبوعة: "وإنما نزلت في قوم من اليهود"، وهو خطأ ناطق، واضطراب مفسد للكلام. والصواب ما أثبت. يقول أبو جعفر إن أولى الأقوال بالصواب أن تكون الآية نزلت في ذكر عرب الجاهلية الذين حرموا ما حرموا على أنفسهم، كما ذكر في تفسير الآيتين السالفتين (١٦٨، ١٦٩)، ويستبعد أن يكون المعنى بها من ورد ذكرهم في الآية (١٦٥)، كما يستبعد قول من قال إنها نزلت في اليهود، في الخبر الذي سيرويه بعد. فقوله: "وأنها نزلت" عطف على قوله"خبرًا" في قوله: "أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ... ".
(٣) في المطبوعة: "فأنزل الله من قولهم ذلك". وهو خطأ محض، ورددتها إلى نصها في سيرة ابن هشام، كما سيأتي مرجعه.
305
آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون". (١)
٢٤٤٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف. (٢)
* * *
وأما تأويل قوله:"اتبعوا ما أنزلَ الله"، فإنه: اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به، وقائدًا تَتبعون أحكامه.
* * *
وقوله:"ألفينا عَليه آباءنا"، يعني وَجدنا، كما قال الشاعر: (٣)
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ وَلا ذَاكِرِ اللهَ إلا قَلِيلا (٤)
(١) الأثر رقم: ٢٤٤٦- في سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٠-٢٠١، مع اختلاف يسير في لفظه.
(٢) الأثر رقم: ٢٤٤٧- انظر الأثر: ٢٤٤٦.
(٣) هو أبو الأسود الدؤلي.
(٤) ديوانه: ٤٩ (نفائس المخطوطات)، سيبوبه ١: ٨٥، والأغاني ١١: ١٠٧، وأمالي بن الشجرى ١: ٢٨٣ والصدقة والصديق: ١٥١، والخزانة ٤: ٥٥٤، وشرح شواهد المغني: ٣١٦، واللسان (عتب). وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة، وكانت برزة جميلة، فقالت له يومًا: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك؟ فإني امرأة صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور. قال: نعم. فجمعت أهلها وتزوجته. ثم إنه وجدها على خلاف ما قالت، فأسرعت في ماله، ومدت يدها في خيانته، وأفشت عليه سره، فغدا على من كان حضر تزويجه، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا. فقال لهم: أَرَيْتَ امْرءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُ... أتَانِي، فَقَالَ: اتّخِذْنِي خليلاَ
فخالَلْتَهُ، ثُمَّ صَافيْتُه فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ لَدُنْهُ فتيلاَ
وَأَلفَيْتُهُ حِينَ جَرَّبْتُه كَذُوبَ الحَدِيثِ سَرُوقًا بَخِيلاَ
فَذَكَّرْتُه، ثُمَّ عَاتبتُهُ عِتَابًا رَفِيقًا وَقَوْلاً جَمِيلاَ
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ وَلاَ ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاَ
أَلسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِ وَإتْبَاع ذلِكَ صَرْمًا طَوِيلاَ؟!
قالوا: بلى والله يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها. ثم صرفها معهم.
قال ابن الشجرى: "والذي حسن لقائل هذا البيت حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ونصب اسم الله تعالى، واختيار ذلك على حذف التنوين للإضافة وجر اسم الله - أنه لو أضاف لتعرف بإضافته إلى المعرفة، ولو فعل ذلك لم يوافق المعطوف المعطوف عليه في التنكير، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وأعمل اسم الفاعل".
واستعجب الرجل: رجع عن الإساءة وطلب الرضا، فهو مستعتب.
306
يعني: وجدته، وكما:-
٢٤٤٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا"، أي: ما وجدنا عليه آباءنا.
٢٤٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنزل الله على نبيه ﷺ في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.
* * *
قال الله تعالى ذكره:"أوَ لو كانَ آباؤهم" -يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم-"لا يعقلون شيئًا" من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه، فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم -"ولا يَهتدون" لرشد، فيهتدي بهم غيرهم، ويَقتدي بهم من طَلب الدين، وأراد الحق والصواب؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه
307
آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه -فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر =في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به= مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٥٠- حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله:"ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً" قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
٢٤٥١- حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع" قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. (١).
(١) الخبر: ٢٤٥١- هذا خبر منهار الإسناد. أما"محمد بن عبد الله بن زريع" شيخ الطبري فلم أجد ترجمته. والطبري يروي عن"محمد بن عبد الله بن بزيع"، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو، حرف اسم جده.
وأما"يوسف بن خالد السمتي": فهو ضعيف جدًا، قال فيه ابن معين: "كذاب، زنديق، لا يكتب حديثه". ولا يشتغل بمثله. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٨٨، وابن سعد ٧/٢/٤٧، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٢١-٢٢٢. و"السمتي": بفتح السين وسكون الميم، نسبة إلى السمت والهيئة. قال ابن سعد: "وقيل له: السمتي - للحيته وهيئته وسمته"!!
نافع بن مالك: هو الأصبحي، أبو سهيل، وهو عم الإمام مالك بن أنس، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٨٦، وابن أبي حاتم ٤/١/٤٥٣.
308
٢٤٥٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً"، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها"كُلْ" - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.
٢٤٥٣- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.
٢٤٥٤- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق بما لا يسمع" قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.
٢٤٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعِق"، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.
٢٤٥٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً"، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.
309
٢٤٥٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً" قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.
٢٤٥٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.
٢٤٥٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له: يقال: لا تعقل -يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها، فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد:"الذي ينعِق"، الراعي"بما لا يسمع" من البهائم.
٢٤٦٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق" الراعي"بما لا يسمع" من البهائم.
٢٤٦١- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط، عن السدي:"كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً"، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما"الذي ينعق"، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له، إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة: ١٨]
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم -: ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه
310
ونعيقِه بها. فأضيف"المثل" إلى الذين كفروا، وترك ذكر"الوعظ والواعظ"، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال:"إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان"، يراد به: كما تعظم السلطانَ، وكما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير (١)
يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.
وقد يحتمل أن يكون المعنى -على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء-: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له:"اعتلف، أورِدِ الماء"، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر، مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه -بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق، كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَدْ خِفْتُ، حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَة عَاقِلِ (٢)
والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي، وكما قال الآخر: (٣)
(١) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء: ٢٨١ تعليق: ١، وهذا القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن ١: ١٠٠.
(٢) ديوانه: ٩٠، وسيأتي في التفسير ٣٠: ١٤٦ (بولاق)، ومجاز القرآن: ٦٥، ومعاني القرآن للفراء ١: ٩٩، ومشكل القرآن: ١٥١، والإنصاف: ١٦٤، وأمالي بن الشجرى ١: ٥٢، ٣٢٤، وأمال الشريف ١: ٢٠٢، ٢١٦، ومعجم ما استعجم: ١٢٣٨. وهو من قصيدة مضى منها تخريج بيت في هذا الجزء: ٢١٣. وقوله: "ذي المطارة" (بفتح الميم)، وهو اسم جبل. وعاقل: قد عقل في رأس الجبل، لجأ إليه واعتصم به وامتنع. والوعل: تيس الجبل: يتحصن بوزره من الصياد. وقد ذكر البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم الميم) ناقته، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح. ويعني بذلك: ما عليها من الرحل والأداة. يقول: كأني على رحل هذه الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق.
(٣) النابغة الجعدي.
311
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ، كَمَا كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ (١)
والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه تَحْلَى بِهِ العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (٢)
والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. (٣) ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه، فتقول:"اعرِض الحوضَ على الناقة"، وإنما تعرض الناقة على الحوض، وما أشبه ذلك من كلامها. (٤)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً، وذلك الصدى الذي يسمع صوته، ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.
فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم -في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً، أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.
* ذكر من قال ذلك:
(١) سيأتي في التفسير ٢: ١٩٨، ٣٢٧ (بولاق)، ومعاني القرآن للفراء ١: ٩٩، ١٣١، ومشكل القرآن: ١٥٣، والإنصاف: ١٦٥، وأمالي الشريف ١: ٢١٦، والصاحبي: ١٧٢، وسمط اللآلي: ٣٦٨، واللسان (زنا). وقال الطبري في ٢: ٣٢٧، "يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا".
(٢) سيأتي في التفسير: (٢؛ ١٩٨ بولاق)، ومعاني القرآن للفراء ١: ٩٩، ١٣١، وأمالي الشريف ١: ٢١٦، واللسان (حلا). يقال: "ما في الحي أحد تجهره عيني"، أي تأخذه عيني فيعجبني. وفي حديث صفة رسول الله ﷺ يقول علي: "لم يكن قصيرًا ولا طويلا، وهو إلى الطول أقرب. من رآه جهره"، أي عظم في عينه.
(٣) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن ١: ٩٩.
(٤) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن: ٦٣-٦٤.
312
٢٤٦٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً" قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له"الصَّدى". فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.
* * *
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه، فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.
فأما وَجه جَواز حذف"وعظ" اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [سورة البقرة: ١٧]، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. (١).
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن هذه الآية نزلت في اليهود، وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه -إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من
(١) انظر ما سلف ١: ٣١٨-٣٢٨، واطلب ذلك في فهرس العربية من الجزاء السالفة.
313
تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.
* * *
فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟
قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها، فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم. (١) وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها
(١) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه، كان ينبغي أن يبينه فضل بيان. فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل هذه الآية نزلت في يهود، وليس كذلك. ثم عاد بعد قليل يقول: "هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم" -يعني في يهود. ولو كان الأمر كما يفهم من صدر عبارته، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي"قبل هذه الآية" نزلت فيهم، فيما روي عن ابن عباس- معنى مفهوم.
والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول: إن الآيات السالفة نزلت في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار" إلى قوله: "وإلهكم إله وحد" (١٦٣-١٧٠)، فهي قد نزلت في كفار العرب، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة: (١٧٠) نزلت في يهود أيضًا. ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود وأهل الكتاب، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود. فكأنه جعل الآيات من (١٦٣-١٦٩) اعتراضًا في سرد قصة واحدة، هي قصة يهود.
فإن لم يكن ذلك كذلك، فلست أدري كيف يتسق كلامه. فهو منذ بدأ في تفسير هذه الآيات من ١٦٣-١٦٩ لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم، وبين أن المقصود بقوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا" - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر والسوائب والوصائل (ص ٣٠٠)، ثم عاد في تأويل قوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" فقال: فهو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص ٣٠٣). واليهود، كما أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها، أو أصنام يعظمونها كما قال أبو جعفر، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما ذكر في تفسير الآيات السالفة. فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من البحائر والسوائب والوصائل.
والصواب من القول عندي، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة، وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله لهم: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا"، وأن العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" والآيات التي تليها. وانظر ما سيأتي: ٣١٧، فإنه قد عاد هناك، فجعل الآية خاصة بالمشركين من أهل الجاهلية، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم، وهو تناقض شديد.
314
اليهود، كان عطاء يقول:
٢٤٦٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى قوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [سورة البقرة: ١٧٤-١٧٥].
* * *
وأما قوله:"يَنعِق"، فإنه: يُصوِّت بالغنم،"النَّعيق، والنُّعاق"، ومنه قول الأخطل:
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ، فَإِنَّمَا مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الخَلاءِ ضَلالا (١)
يعني: صوِّت به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ"، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً"صُمٌ" عن الحق فهم لا يسمعون -"بُكمٌ" يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد ﷺ للناس، فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس -،"عُميٌّ"
(١) ديوانه: ٥٠، ونقائض جرير والأخطل: ٨١، وطبقات فحول الشعراء: ٤٢٩، ومجاز القرآن: ٦٤، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات منها في ٢: ٣٨: ٣٩، ٤٩٢، ٤٩٦، وهذا الجزء ٣: ٢٩٤، وقد ذكر قبله حروب رهطه بني تغلب، ثم قال لجرير: إنما أنت راعي غنم، فصوت بغنمك، ودع الحروب وذكرها. فلا علم لك ولا لأسلافك بها. وكل ما تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل.
315
عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، (١). كما:-
٢٤٦٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"صُمٌ بكم عمي"، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.
٢٤٦٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"صم بكم عمي" يقول: عن الحق.
٢٤٦٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
* * *
وأما الرفع في قوله:"صم بكم عمي"، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف، يدل على ذلك قوله:"فهم لا يعقلون"، كما يقال في الكلام:"هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا لله بالعبودية، وأذعنوا له بالطاعة، كما:-
٢٤٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
(١) انظر تفسير: "صم""بكم""عمي" فيما سلف ١: ٣٢٨-٣٣١. وقد حمل أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب. وانظر التعليق السالف ص: ٣١٤، رقم: ١.
(٢) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف ١: ٣٢٩-٣٣٠.
جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يقول: صدَّقوا.
* * *
"كلوا من طيبات ما رَزَقناكم"، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم والمشارب."واشكروا لله"، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم."إن كنتم إياه تعبدون"، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.
وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم، وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه، إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم، وفصَّله لهم مُفسَّرًا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك، بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير، ومَا أهلّ به لغيري.
* * *
ومعنى قوله:"إنما حَرَّم عليكم الميتة"، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.
(١) في المطبوعة: "وفصل لهم"، والصواب ما أثبت. وهذا الذي قاله هنا برهان آخر على أن أبا جعفر قد اضطرب في قصة هذه الآيات، فهو قد عاد وجعل بعض الآيات السالفة، في مشركي العرب في جاهليتهم، كما ترى، وهو بين أيضًا في تفسيرة الآية التالية. انظر ص: ٣١٤، تعليق: ١.
317
"وإنما": حرف واحدٌ، ولذلك نصبت"الميتة والدم"، وغير جائز في"الميتة" إذا جعلت"إنما" حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت"إنما" حرفين، وكانت منفصلة من"إنّ"، لكانت"الميتة" مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير، لا غير ذلك. (١)
وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا =وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.
* * *
ولو قرئ في"حرّم" بضم الحاء من"حرّم"، لكان في"الميتة" وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى،"وإنما" حرفٌ واحد.
والآخر:"إن" و"ما" في معنى حرفين، و"حرِّم" من صلة"ما"،"والميتة" خبر"الذي" مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت.
* * *
وأما"الميتة"، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في:"هو هيّن ليّن""الهيْن الليْن"، (٢) كما قال الشاعر: (٣)
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ (٤)
(١) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء ١: ١٠٢-١٠٣.
(٢) في المطبوعة: "القائلون وهو هين لين... "، وكأن الصواب ما أثبت.
(٣) هو عدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه.
(٤) الأصمعيات: ٥، ومعجم الشعراء: ٢٥٢، وتهذيب الألفاظ: ٤٤٨، واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى: ٥١، والخزانة ٤: ١٨٧، وشرح شواهد المغني: ١٣٨. من أبيات جيدة صادقة، يقول بعده:
إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرّجَاءِ
فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ فِي المَاء
الثماد الماء القليل يبقى في الحفر. وما أصدق ما قال هذا الأبي الحر.
318
فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد.
وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل، وقالوا: إنما هو"مَيْوِت"،"فيعل"، من الموت. ولكن"الياء" الساكنة و"الواو" المتحركة لما اجتمعتا،"والياء" مع سكونها متقدمة، قلبت"الواو""ياء" وشددت، فصارتا"ياء" مشددة، كما فعلوا ذلك في"سيد وجيد". قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في"ياء""الميتة" لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.
* * *
وأما قوله:"وَمَا أهِلَّ به لغير الله"، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.
وإنما قيل:"وما أهِلَّ به"، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، (١) جهر بالتسمية أو لم يجهر-:"مُهِلٌّ". فرفعهم أصواتهم بذلك هو"الإهلال" الذي ذكره الله تعالى فقال:"وما أهِلَّ به لغير الله". ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة"مُهِلّ"، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه"استهلال" الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه،"واستهلال" المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض، كما قال عمرو بن قميئة:
(١) في المطبوعة: "يسمي بذلك أو لم يسم"، والصواب ما أثبت، فعل ماض كالذي يليه.
319
ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (١)
واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما أهِلَّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٦٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله.
٢٤٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما أهلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.
٢٤٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما أهلّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.
٢٤٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما أهِلّ به للطواغيت.
٢٤٧٢- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"وما أُهلّ به لغير الله" قال، ما أهل به للطواغيت.
٢٤٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أهِلّ به لغير الله"، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى.
٢٤٧٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، هو ما ذبح لغير الله.
* * *
(١) سلف تخريج هذا البيت في ١: ٥٢٣-٥٢٤، وأن صواب نسبته إلى الحادرة الذبياني.
320
وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وما أهلّ به لغير الله"، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله.
٢٤٧٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد -وسألته عن قوله الله:"وما أهلّ به لغير الله"- قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون:"باسم فلان"، كما تقول أنت:"باسم الله" قال، فذلك قوله:"وما أهلّ به لغير الله".
٢٤٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله:"وما أهِلّ به لغير الله"؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اضطر"، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله -وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله.
* * *
321
وقوله: فمن"اضطر""افتعل" من"الضّرورة".
* * *
و"غيرَ بَاغ" نُصِب على الحال مِنْ"مَنْ"، فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله، فهو له حلال.
* * *
وقد قيل: إن معنى قوله:"فمن اضطر"، فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٧٨- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن مجاهد قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.
* * *
وأما قوله:"غيرَ بَاغ ولا عَاد"، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.
فقال بعضهم: يعني بقوله:"غير باغ"، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٧٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد" قال، غيرَ قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة.
٢٤٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد"، يقول: لا قاطعًا للسبيل، ولا مفارقًا للأئمة، ولا خارجًا في معصية الله، فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.
٢٤٨١- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"غير باغ ولا عاد" قال، هو الذي يقطع الطريق، فليس له رخصة
322
إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.
٢٤٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم -يعني الأفطس- عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة.
٢٤٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.
٢٤٨٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال:"غيرَ باغ" على الأئمة،"ولا عاد" قال، قاطع السبيل.
٢٤٨٥- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال، غير قاطع السبيل، ولا مفارق الأئمة، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.
٢٤٨٦- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مجاهد:"فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد" قال، غير باغ على الأئمة، ولا عاد على ابن السبيل.
* * *
وقال آخرون في تأويل قوله:"غيرَ باغ ولا عاد": غيرَ باغ الحرامَ في أكله، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.
* ذكر من قال ذلك.
٢٤٨٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد،
323
عن قتادة قوله:"فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد" قال، غير باغ في أكله، ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة.
٢٤٨٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.
٢٤٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن يقول ذلك.
٢٤٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، (١) عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قوله:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"،"غير باغ" يَبتغيه،"ولا عادٍ": يتعدى على ما يُمسك نفسه.
٢٤٩١- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [سورة المؤمنون: ٧ سورة المعارج: ٣١]
٢٤٩٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ" قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام، ويترك الحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين، ويقول: هذا وهذا واحد!
* * *
وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٩٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "أبو نميلة"، والصواب بالتاء. مضت ترجمته برقم: ٣٩٢، ٤٦١.
324
أسباط، عن السدي:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد". أمَّا"باغ"، فيبغي فيه شهوته. وأما"العادي"، فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله -بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى.
وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما =: من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض، = فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما -ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، (١) فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا]. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله، والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا، وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. (٢)
(١) في المطبوعة: "وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا". وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما يقول. و"المحارم": كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم الله. وانظر التعليق التالي.
(٢) هذه الفقرة رد على القول الأول، قول من ذهب إلى أن"الباغي" هو الخارج على الأئمة، وأن"العادي" هو قاطع الطريق، وأنهما لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل مما حرم الله عليه. ولكن العبارة في الأصل فاسدة، لا يكاد يكون لها معنى. ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه. وهكذا كانت في الأصل:
[بل ذلك من فعلهما، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما].
وهو كلام لا يستقيم، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه سطر كامل فيما أرجح، بين قوله: "من قتل أنفسهما" وقوله: "قبل ذلك من فعلهما" فبقيت"قبل" وحدها، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن معنى ما يكتب، فجعل"قبل""بل"، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على وجه من الوجوه. فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى شيء مفهوم. وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله: "وإن لم نر ردهما" بما كتب: "وإن لم يؤدهما"، فخلص إلى كلام ضرب عليه التخليط ضربًا!
وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي هو الخارج على الإمام، وإن العادي هو قاطع السبيل.
فالحجة الأولى: أن الباغي والعادي، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا محرمًا، فإن إتيان هذا الفعل المحرم، لا يجعل قتل أنفسهما مباحًا لهما، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم الله عليهما.
والحجة الأخرى: أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه، فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر. لا يعد عنده تحريمًا، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو العدوان. ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما، وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي والعدوان، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما، وهو حرام عليهما قبل البغي والعدوان.
وإذن، فالواجب عليهما أن يتوبا، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إثمًا إلى إثمهما، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي والعدوان أمر الله.
325
وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك -مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه مخالفًا.
فأما توجيه تأويل قوله:"ولا عاد"، ولا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه.
فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.
* * *
وأما تأويل قوله:"فلا إثم عليه"، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.
* * *
326
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إنّ الله غَفور رحيم"،"إنّ الله غَفورٌ" =إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم = لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافحٌ عنكم، وتارك عقوبتكم عليه،"رحيم" بكم إن أطعتموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذينَ يَكتمون ما أنزل الله من الكتاب"، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد ﷺ ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:-
٢٤٩٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد ﷺ وأمره.
٢٤٩٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويَشترون
327
به ثمنًا قليلا) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.
٢٤٩٦- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب"، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
٢٤٩٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من الكتاب"، والتي في"آل عمران" (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [سورة آل عمران: ٧٧] نزلتا جميعًا في يهود.
* * *
وأما تأويل قوله:"ويَشترون به ثمنًا قليلا"، فإنه يعني: يبتاعون به."والهاء" التي في"به"، من ذكر"الكتمان". فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد ﷺ وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن = على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك = اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:-
٢٤٩٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويشترون به ثمنًا قليلا" قال، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.
* * *
وقد بينت فيما مضى صفة"اشترائهم" ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
* * *
328
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد ﷺ بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها، فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها ="ما يأكلون في بطونهم" - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، (١) وما أخذوا عليه من الأجر ="إلا النار" - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها، كما قال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: ١٠] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو يدخلهم". وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٤٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار"، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.
* * *
فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال:"ما يأكلون في بطونهم"؟
قيل: قد تقول العرب:"جُعت في غير بطني، وشَبعتُ في غير بطني"، فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال:"فعل فُلان هذا نفسُه". وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى. (٢)
(١) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٢٧٢، وهذا الجزء ٣: ١٥٩-١٦٠.
وأما قوله:"ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة"، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) الآيتين [سورة المؤمنون: ١٠٧-١٠٨].
* * *
وأما قوله:"ولا يُزكِّيهم"، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، (١) "ولهم عذاب أليم"، يعني: مُوجع (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر"العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (٣) وكذلك بينا وجه"اشتروا الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. (٤)
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٥٧٣-٥٧٤، وهذا الجزء ٣: ٨٨.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٨٣. ثم ٢: ١٤٠، ٣٧٧، ٥٠٦، ٥٤٠.
(٣) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية.
(٤) انظر ما سلف ١: ٣١١-٣١٥.
330
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٠٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
٢٥٠١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم عليها.
٢٥٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار.
٢٥٠٣- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه:"فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم.
٢٥٠٤- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *
331
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٠٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، ما أعملهم بالباطل.
٢٥٠٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل"ما" التي في قوله:"فما أصبرهم على النار". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟ (١)
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٠٧- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما أصبرَهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟
٢٥٠٨- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء:"فما أصبرهم على النار" قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟
٢٥٠٩- حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال:"فما أصبرُهم"، رفعًا. قال: يقال للرجل:"ما أصبرك"، ما الذي فعل بك هذا؟
٢٥١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
* * *
(١) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: ٦٤.
332
وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك:
٢٥١١- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما أصبرهم على النار" قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. (١)
* * *
فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى:"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم -بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [سورة عبس: ١٧]، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار -والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب:"ما أصبرَ فلانًا على الله"، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! (٢) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد ﷺ ونبوَّته، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا
(١) انظر ما سلف رقم: ٢٥٠١، ٢٥٠٢.
(٢) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء ١: ١٠٣.
333
من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. (١) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.
وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر"النار" من ذكر"عذابها"، كما يقال:"ما أشبه سخاءك بحاتم"، بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم،"وما أشبه شَجاعتك بعنترة". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، فإنه اختلف في المعنيِّ ب"ذلك".
* * *
فقال بعضهم: معنيُّ"ذلك"، فعلُهم هذا الذي يفعلون = من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما أنزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد ﷺ وأمر دينه = من أجل أن الله تبارك تعالى"نزل الكتاب بالحق"، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة البقرة: ٦-٧] فهم -مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
(١) قدم، وتقدم، وأقدم، واستقدم، كلها بمعنى واحد، إذا كان جرئيًا فاقتحم.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٠٣، أيضًا.
334
وقال آخرون: معناه:"ذلك" معلومٌ لهم، بأن الله نزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم، والكتابُ حَق.
كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب = الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه = معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين، وتنزيله حق، فالخبر عن"ذلك" عندهم مُضمر.
* * *
وقال آخرون: معنى"ذلك"، أن الله وصف أهل النار، فقال:"فما أصبرهم على النار"، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و"هذا" هاهنا عندهم، هي التي يجوز مكانها"ذلك"، (١) كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون"ذلك" -إذا كان ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله:"ذلك"، إلى جميع ما حواه قوله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلَ الله من الكتاب"، إلى قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك، فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود = بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد ﷺ ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس -وبخلافهم أمري وطاعتي= وذلك -من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم، وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.
فيكون في"ذلك" حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع ب"الباء"، والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر"فكفروا به واختلفوا"، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٢٢٥-٢٢٧ في بيان"ذلك"، و"هذا".
335
وأما قوله:"وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه، وكفروا جميعًا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) [سورة البقرة: ١٣٧] كما:
٢٥١٢- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى"الشقاق"، فيما مضى. (١)
* * *
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ١١٥، ١١٦.
336
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.
٢٥١٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل
336
المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا، فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
٢٥١٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
٢٥١٥- حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٥١٦- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس قال: هذه الآية نزلت بالمدينة:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد:"ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب"، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.
٢٥١٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، (١) عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها، قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.
* * *
وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب، والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق، فأنزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "أبو نميلة" بالنون، والصواب ما أثبت. وانظر الأثر رقم: ٢٤٩٠ والتعليق عليه.
337
٢٥١٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب".
٢٥١٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر"، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله ﷺ عن البر فأنزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله ﷺ دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنزل الله:"ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب". وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق -"ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر" الآية.
٢٥٢٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس =: أن يكون عنى بقوله:"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها، إذْ كان الأمر كذلك، -"ليس البر"، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب،"ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب" الآية.
* * *
338
فإن قال قائل: فكيف قيل:"ولكن البر من آمن بالله"، وقد علمت أن"البر" فعل، و"مَنْ" اسم، فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟
قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته، وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، (١) فوضع"مَنْ" موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة، فتقول:"الجود حاتم، والشجاعة عنترة"، و"إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة"، ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر"حاتم" إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر"الجود" بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع"جوده"، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (٢) كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [سورة يوسف: ٨٢] والمعنى: أهل القرية، وكما قال الشاعر، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (٣)
يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [عناق]، (٤) كما يقال:"حسبت صياحي أخاك"، يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله، فيكون"البر" مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (٥)
* * *
(١) في المطبوعة: "ولكن البر كمن آمن بالله" وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف: ٢: ٦١، ٣٥٩ وهذا الجزء ٣: ٣٣٤.
(٣) سلف تخريجه في هذا الجزء ٣: ١٠٣ تعليق: ٣.
(٤) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(٥) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: ٦٥، وذكره الفراء في معاني القرآن ١: ١٠٤.
339
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وآتى المالَ على حُبه"، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، (١). كما:-
٢٥٢١- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البكيلي، عن عبد الله بن مسعود:"وآتَى المالَ على حُبه"، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (٢)
٢٥٢٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا، عن سفيان، عن زُبيد الياميّ،
(١) انظر معنى"الإيتاء" فيما سلف ١: ٥٧٤/٢: ١٦٠، ٣١٧.
(٢) الخبر: ٢٥٢١- ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي، مضى في: ٤٣٨، ٢٠٣٠.
ليث: هو ابن أبي سليم، مضى في شرح: ١٤٩٧.
زبيد- بالباء الموحدة مصغرًا: هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي، وهو ثقة ثبت. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤١١، وابن سعد ٦: ٢١٦، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٢٣.
مرة بن شراحيل: وهو الهمداني الكوفي، من كبار التابعين، كما مضى توثيقه: ١٦٨، وهو مترجم في التهذيب ١٠: ٨٨-٨٩، والكبير ٤/٢/٥، وابن سعد ٦: ٧٩، وابن أبي حاتم ٤/١/٣٦٦. و"البكيلي" - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف: نسبه إلى"بكيل"، وهم بطن من همدان. انظرالاشتقاق لابن دريد، ص: ٢٥٠، ٢٥٦، ٣١٢، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص: ٣٧٢-٣٧٣. وكذلك نسب مرة إلى"بكيل" في كتاب ابن أبي حاتم، وهو الصواب. ووقع في التهذيب بدلها"السكسكي"؛ وهو تصحيف لا شك فيه، فإن"السكسك": هو ابن أشرس بن كندة. وشتان بين همدان وكندة، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود، في"زيد بن كهلان بن سبأ". انظر جمهرة الأنساب، ص: ٤٠٥، وما قبلها.
340
عن مرة، عن عبد الله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. (١)
٢٥٢٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن زبيد اليامي، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية:"وآتى المال على حبه" قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.
٢٥٢٤- حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين، عن شعبة بن الحجاج، عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله:"وآتى المال على حبه ذوي القربى"، قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (٢)
(١) الخبر: ٢٥٢٢- عبد الرحمن: هو ابن مهدي الإمام. وسفيان هو الثوري. فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي. ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان.
والخبر في تفسير عبد الرزاق، ص: ١٥، وفيه: "وأنت صحيح شحيح"، بزيادة"شحيح".
(٢) الخبر: ٢٥٢٤- شيخ الطبري"أحمد بن نعمة المصري": لم أجد له ترجمة. أبو صالح: هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث. الليث: هو ابن سعد إمام أهل مصر.
إبراهيم بن أعين الشيباني البصري، نزل مصر: ضعيف: قال البخاري: "فيه نظر في إسناده". وقال أبو حاتم: "هذا شيخ بصري، ضعيف الحديث، منكر الحديث وقع إلى مصر". مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين"إبراهيم بن أعين" آخر ثقة. وترجم ابن أبي حاتم ١/١/٨٧ ثلاث تراجم. والبخاري ١/١/٢٧٢ ترجمة واحدة.
وهذه الأسانيد الثلاثة: ٢٥٢١-٢٥٢٣، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود. وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي. وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا: ٢٥٢٩، ٢٥٣١. وكذلك رواه الحاكم ٢: ٢٧٢، من رواية منصور، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونسبه السيوطي ١: ١٧٠-١٧١ لابن المبارك، ووكيع، وغيرهما. ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا"عن ابن مسعود، مرفوعًا". وكذلك نقل ابن كثير ١: ٣٨٨ أن الحاكم رواه مرفوعًا. ولم أجده مرفوعًا في المستدرك. ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة، وزعم أنها أصح.
وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ - وقد سئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ - فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان". رواه أحمد في المسند: ٧١٥٩، ٧٤٠١. ورواه البخاري ومسلم وأبو داود، كما بينا هناك.
341
٢٥٢٥- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية:"وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة".
٢٥٢٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية:"ليس البر أنْ تُولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب" إلى"وآتى المال على حُبه" إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك. (١)
٢٥٢٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (٢)
٢٥٢٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي حيان
(١) الحديث: ٢٥٢٦- سويد بن عمرو الكلبي: ثقة من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١٤٩، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٣٩.
أبو حمزة: هو ميمون الأعور القصاب، وهو ضعيف جدًا. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٣٤٣، وابن أبي حاتم ٤/١/٢٣٥-٢٣٦.
وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر. وقد روى قريب من معناه، بإسناد آخر أشد ضعفًا. فروى الدارقطني في سننه، ص: ٢٠٥، من طريق أبي بكر الهذلي، عن شعيب بن الحبحاب، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: "أتيت النبي ﷺ بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، خذ منه الفريضة، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال". وقال الدارقطني: "أبو بكر الهذلي: متروك، ولم يأت به غيره". وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا: ٥٩٧.
(٢) الحديث: ٢٥٢٧- شريك: هو ابن عبد الله بن أبي شريك، النخعي القاضي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٢٣٨، وابن أبي حاتم ٢/١/٣٦٥-٣٦٧.
وقوله: "عن فاطمة بنت قيس: أنها سمعت": يعني النبي صلى الله عليه وسلم. كما هو ظاهر من سياق القول، ومن الروايات الأخر. وسيأتي الحديث أيضًا: ٢٥٣٠- وتخريجه هناك، إن شاء الله.
342
قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو، وطُروق الفحل، والحلَب. (١)
٢٥٢٩- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، ذكره عن مرة الهمداني في:"وآتى المالَ على حُبه" قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.
٢٥٣٠- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ أنه قال:"في المال حق سوى الزكاة، وتلا هذه الآية:"ليس البر" إلى آخر الآية. (٢)
(١) في المطبوعة: "عارية الذلول"، وهو خطأ. في حديث عبد الله مسعود: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية الدلو والقدر"، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما حق الإبل؟ قال: تعطى الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقى اللبن". وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل -فذكره نحوه- زاد: "وإعارة دلوها". (سنن أبي داود ٢: ١٦٧، ١٦٨ باب حقوق المال).
وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا: قعا عليها وضربها. وإطراق الفحل: إعارته للضراب. والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب، سمي بمصدره من: حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا.
(٢) الحديث: ٢٥٣٠- أسد: هو ابن موسى، الذي يقال له"أسد السنة". مضى في: ٢٣. سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة. وعندي أنه خطأ، صواب"شريك بن عبد الله"، الذي مضى في الإسناد السابق: ٢٥٢٧. فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك. ثم ليس في الرواة -الذين رأينا تراجمهم- من يسمى"سويد بن عبد الله" إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر، وهو مترجم في لسان الميزان.
وهذا الحديث تكرار للحديث: ٢٥٢٧ بأطول منه قليلا. ورواه أيضًا الدارمي ١: ٣٨٥، عن محمد بن الطفيل. والترمذي ٢: ٢٢، من طريق الأسود بن عامر، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل. وابن ماجه: ١٧٨٩، من طريق يحيى بن آدم. والبيهقي في السنن الكبرى ٤: ٨٤، من طريق شاذان - كلهم عن شريك، بهذا الإسناد، مطولا ومختصرًا.
قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك. أبو ميمون الأعور يضعف".
وقال البيهقي: "فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور، كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث".
ونقل ابن كثير ١: ٣٨٩-٣٩٠ أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن يحيى بن عبد الحميد. ورواه ابن مردويه، من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه، والترمذي.
ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا، بنقيض معناه. بلفظ: "ليس في المال حق سوى الزكاة"!
وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه. وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر، ص ١٧٧، وشرح الجامع الصغير للمناوي: ٧٦٤١.
ولكن رواية الطبري الماضية: ٢٥٢٧- وهي من طريق يحيى بن آدم، التي رواه منها ابن ماجه: تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات.
ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه، معًا، ولم يفرق بين روايتهما، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث: ١١٦٩٩، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا.
ويؤيد أيضًا أن البيهقي، بعد أن رواه قال: "والذي يرويه أصحابنا في التعاليق: ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا. والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره". ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ، لما قال ذلك، إن شاء الله.
343
٢٥٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله في قوله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه، شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت عنى بقوله:"ذوي القرْبى"، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله ﷺ من أمره فاطمةُ بنت قيس=
٢٥٣٢- وقوله ﷺ حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (١)
* * *
(١) الحديث: ٢٥٣٢- معناه ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: ٨٦٨٧ (٢: ٣٥٨ حلبي) :"عن أبي هريرة: أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول".
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ٢: ٢٨، وقال: "رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم".
وروى الحاكم في المستدرك ١: ٤٠٦، عن أم كلثوم بنت عقبة، قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ١١٦، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه.
والكاشح: المبغض: قال ابن الأثير: "العدو الذي يضمر عداوته، ويطوي عليهما كشحه، أي باطنه".
والكاشح الذي يضمر لك العداوة، كأنه يطويها في كشحه. وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه.
344
وأما"اليتامى""والمساكين"، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (١)
* * *
وأما"ابن السبيل"، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٣٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابن السبيل" قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت. قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال، فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (٢)
* * *
(١) انظر ما سلف في معنى"مسكين" ٢: ١٣٧، ٢٩٣، ومعنى: "ذي القربى"، و"اليتامى" ٢: ٢٩٢.
(٢) الحديث: ٢٥٣٣- هو حديث مرسل، يقول قتادة -وهو تابعي-: "قد ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول.. "، فذكره.
و"سعيد" الذي يروي عن قتادة: هو سعيد بن أبي عروبة. و"يزيد" الراوي عنه: هو يزيد بن زريع.
والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم ٢: ٤٥، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". ورواه أيضًا أحمد، وسائر أصحاب الكتب الستة، كما في الفتح الكبير ٣: ٢٣١.
345
وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٣٤- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر:"وابن السبيل" قال، المجتاز من أرض إلى أرض.
٢٥٣٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة في قوله:"وابن السبيل" قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.
٢٥٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عمن ذكره، عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.
* * *
وإنما قيل للمسافر"ابن السبيل"، لملازمته الطريق -والطريق هو"السبيل"- فقيل لملازمته إياه في سفره:"ابنه"، كما يقال لطير الماء"ابن الماء" لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه الدهور"ابن الأيام والليالي والأزمنة"، ومنه قول ذي الرمة:
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (١)
* * *
(١) ديوابنه: ٤٠١، وهو متعلق ببيت قبله:الآجن المتغير. والدبى: صغار الجراد. والغضى: شجر. كأن الجراد رعته، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود. والاعتساف: الاقتحام والسير على غير هدى. والمحلق: العالي المرتفع. وابن الماء: هو طير الغرانيق، يعرف بالكركي، والإوز العراقي، وهو أبيض الصدر، أحمر المنقار، أصفر العين. يقول الأقيشر، يصف مجلس شراب:
وَمَاءٍ قَدِيمِ العَهْدِ بالناسِ جنٍ كَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا فِيهِ يَبْصُقُ
كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌ إِذَا تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِ
بَنَاتُ ماءِ، تُرى بيضًا جَاجِئُها حُمْرًا مَنَاقِرُهَا، صُفْرَ الحَمَالِيقِ
والثريا: نجوم كثيرة مجتمعة، سميت بالمفرد. جعلها"على قمة"، وذلك في جوف الليل، ترى بيضاء زاهرة.
346
وأما قوله:"والسائلين"، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-
٢٥٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن عكرمة في قوله:"والسائلين" قال، الذي يسألك.
* * *
وأما قوله:"وفي الرقاب"، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، (١) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأقامَ الصلاة"، أدام العمل بها بحدودها، وبقوله"وآتى الزكاة"، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (٢)
* * *
(١) العبودة والعبودية واحد، ولا فعل له عند أبي عبيد. وقال اللحياني فعله"عبد" على زنة"كرم".
(٢) انظر معنى"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" فيما سلف ١: ٥٧٢-٥٧٤، ومواضع أخرى، اطلبها في فهرس اللغة.
347
فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة = واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية، وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى:"وآتَى المالَ على حُبه ذَوي القربى"، ومن سمى الله معهم، ثم قال بعد:"وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة"، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى، ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له، علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة، ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده -بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك:"وآتى الزكاة"، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ =كانت= عليهم، إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
* * *
وأما قوله:"والموفون بَعهدهم إذا عاهدوا"، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-
٢٥٣٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه
348
وسلم ثم غَدر بها، فالنبي ﷺ خصمه يومَ القيامة.
* * *
وقد بينت"العهد" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾
قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل"الصبر" فيما مضى قبل. (٢)
فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم -في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى"البأساء والضراء" بما:-
٢٥٣٩- حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (٣) قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر، وأما الضراء فالسقم.
٢٥٤٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء الجوع، والضراء المرضُ.
٢٥٤١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة، والضراءُ المرضُ.
٢٥٤٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة قال:
(١) انظر ما سلف ١: ٤١٠-٤١٥، ٥٥٧ / ثم هذا الجزء ٣: ٢٠.
(٢) انظر ما سلف ٢: ١٠-١١، ١٢٤ / ثم هذا الجزء ٣: ٢١٤.
(٣) في المطبوعة"العبقري"، والصواب ما أثبته، وقد ترجم له فيما سلف رقم: ١٦٢٥.
349
كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر، وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب ﷺ (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة الأنبياء: ٨٣].
٢٥٤٣- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البؤس: الفاقة والفقر، والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.
٢٥٤٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد.
٢٥٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك قال:"البأساء والضراء"، المرض. (١)
٢٥٤٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم والوجع.
٢٥٤٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية:"والصابرين في البأساء والضراء"، أما البأساء: الفقر، والضراء: المرض. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم:
(١) الأثر: ٢٥٤٥- أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء. وهو تفسير"البأساء"، وذكر"الضراء" قبل قوله: "المرض"، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه.
(٢) الخبر: ٢٥٤٧- عبيد بن الطفيل: كنيته: "أبو سيدان"، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة، كما سيأتي باسمه وكنيته: ٢٥٥٥. وهو الغطفاني، يروي عنه أيضًا وكيع، وأبو نعيم الفضل بن دكين، قال أبو حاتم: "صالح، لا بأس به". وهو مترجم في التقريب، والخلاصة وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠٩.
350
"البأساء والضراء"، مصدر جاء على"فعلاء" ليس له"أفعل" لأنه اسم، كما قد جاء"أفعل" في الأسماء ليس له"فعلاء"، نحو"أحمد". وقد قالوا في الصفة"أفعل"، ولم يجيء له"فعلاء"، فقالوا:"أنت من ذلك أوْجل"، ولم يقولوا:"وجلاء".
وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن"البأساء"، البؤس،"والضراء" الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ، كُلُّهُمْ كَأَحْمَرِ عَادٍ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (١)
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.
وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء"أفعل" في النكرة، ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله:"لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ"، (٢) بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.
وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير، ولو وَقَع
(١) ديوانه: ٢٠، من معلقته الفريدة. وهي من أبياته في صفة الحرب، التي قال في بدئها، قبل هذا البيت:
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيث المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً، وتَضْرَ، إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَا وَتلْقَحْ كِشافًا، ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
يقول: إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة، فتأتي بتوأمين في بطن. وقوله: "أحمر عاد" يعني أحمر ثمود، فأخطأ ولم يبال أيهما قال. وأحمر ثمود، هو قدار، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا. يقول: إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر.
(٢) يقال"فلان غير أبعد"، أي لا خير فيه. ويقال: "ما عند فلان أبعد" أي لا طائل عنده. قال رجل لابنه: "إن غدوت على المربد ربحت عنا، أو رجعت بغير أبعد"، أي بغير منفعة.
351
بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب"أفعل" لم يصرف إلى"فُعلى"، ومن سُمي ب"فُعلى" لم يصرف إلى"أفعل"، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره، ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر"أشأم"، وإذا وقع"البأساء والضراء"، (١) وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على"الضراء"،"الأضر"، ولا على"الأشأم"،"الشأماء". لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث، كما قالوا:"امرأة حسناء"، ولم يقولوا:"رجل أحسن". وقالوا:"رجل أمرد"، ولم يقولوا:"امرأة مرداء". فإذا قيل:"الخصلة الضراء" و"الأمر الأشأم"، دل على المصدر، ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا، وإن كان قد كَفَى من المصدر.
وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل"البأساء والضراء"، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا"البأساء" بمعنى: البؤس،"والضراء" بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا"البأساءَ والضراء" إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب"البأساء والضراء"، على قول أهل التأويل، أن تكون"البأساء والضراء" أسماء أفعال، فتكون"البأساء" اسمًا"للبؤس"، و"الضراء" اسمًا"للضر".
* * *
وأما"الصابرين" فنصبٌ، وهو من نعت"مَن" على وجه المدح. (٢) لأن من شأن العرب -إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، (٣) كما قال الشاعر: (٤)
(١) يعني: إذا وقع بالتأنيث: وقع بمعنى: الخلة البأساء والخلة الضراء.
(٢) يريد"من" في قوله تعالى: "ولكن البر من آمن... "
(٣) انظر ما سلف ١: ٣٢٩.
(٤) لم أعرف قائله.
352
إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (١) وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ... بِذَاتِ الصَّلِيلِ وذَاتِ اللُّجُمْ (٢)
فنصب"ليث الكتيبة" وذا"الرأي" على المدح، والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر: (٣)
فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَت... عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (٤) غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ... أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ (٥)
* * *
وقد زعم بعضهم أن قوله: (٦) "والصابرين في البأساء"، نصبٌ عطفًا على"السائلين".
(١) معاني القرآن للفراء ١: ١٠٥، والإنصاف: ١٩٥، وأمالي الشريف ١: ٢٠٥، وخزانة الأدب ١: ٢١٦. والقرم. السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور. والمزدحم: حومة القتال حيث يزدحم الكماة. يمدحه بالجرأة في القتال.
(٢) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه. والصليل: صوت الحديد. يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها. وذات اللجم: كتيبة من الفرسان. يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت. فقوله: "بذات الصليل" متعلق بقوله: "تغم الأمور".
(٣) لم أعرف قائلهما.
(٤) معاني القرآن للفراء ١: ١٠٦، وأمالي الشريف ١: ٢٠٦. وقوله: "تواضعت"، هو عندي"تفاعل" من قولهم: وضع الباني الحجر توضيعًا: نضد بعضه على بعض. ومنه التوضع: وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن. ومنه أيضًا: وضعت النعامة بيضها: إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض، وهو بيض موضع: منضود بعضه على بعض. يقول: ليت السماء قد انضمت على جميعهم، فكانوا من نجومها. وقوله: "غث منهم وسمين"، مدح، يعني: ليس فيهم غث، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء.
(٥) المحل: الجدب والقحط. ورواية الفراء والشريف: "ولزبة". والأزمة والأزبة واللزبة، بمعنى واحد: وهي شدة السنة والقحط. وروايتهما أيضًا: "غيوث الحيا". والحيا: الخصب، ويسمى المطر حيا، لأنه سبب الخصب. والثرى: موضع تأوي إليه الأسود.
(٦) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن ١: ١٠٨، ورده.
353
كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول، وذلك أنّ"الصابرين في البأساء والضراء"، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء -مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله:"والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين"، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل"البأساء والضراء"، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء، وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة"المساكين" الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله:"والصابرين في البأساء". وإذا كان كذلك، ثم نصب"الصابرين في البأساء" بقوله"وآتى المال على حبه"، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء."والموفون" رفعٌ لأنه من صفة"مَنْ"، و"مَنْ" رفعٌ، فهو معرب بإعرابه."والصابرين" نصب -وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وحين البأس"، والصابرين في وقت البأس، وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-
٢٥٤٨- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال،
354
حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله في قول الله:"وحين البأس" قال، حين القتال. (١)
٢٥٤٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله مثله.
٢٥٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وحين البأس" القتال.
٢٥٥١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وحين البأس"، أي عندَ مواطن القتال.
٢٥٥٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وحين البأس"، القتال.
٢٥٥٣- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"وحين البأس"، عند لقاء العدو.
٢٥٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك:"وحين البأس"، القتال
٢٥٥٥- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"وحين البأس" قال، القتال. (٢)
* * *
(١) الأثر: ٢٥٤٨- في المطبوعة: "العبقري"، وقد مضى مرارا خطأ، وصححناه. وانظر ترجمته في رقم: ١٦٢٥.
(٢) الخبران: ٢٥٥٤-٢٥٥٥ أبو نعيم في أولهما؛ هو الفضل بن دكين. وأبو أحمد في ثانيهما: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير. وباقي الإسناد، مضى في: ٢٥٤٧.
355
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين صدقوا"، من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.
* * *
وأما قوله:"وأولئك هُم المتقون"، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه، فقاموا بأداء فرائضه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله:"أولئك الذين صَدقوا"، كان الربيع بن أنس يقول:
٢٥٥٦- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك الذين صدقوا" قال، فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.
* * *
356
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى"، فُرض عليكم.
* * *
فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟
قيل: لا ولكنه مباح له ذلك، والعفو، وأخذُ الدية.
فإن قال قائل: وكيف قال:"كتب عليكم القصاص"؟
قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ، فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل، والقصاصُ منه دون غيره من الناس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.
والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله:"فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء"، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال:"فمن عفي له من أخيه شيء".
* * *
وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا، فأُمِر النبيُّ ﷺ أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين، ودياتُ رجالهم
357
بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى"القصاص" في هذه الآية.
* * *
فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال:"كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟
قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [سورة الإسراء: ٣٣]، وبالنقل المستفيض عن رسول الله ﷺ أنه قال:
٢٥٥٧- المسلمون تتكافأ دماؤهم. (١)
* * *
فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟
قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٥٨- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد -وحدثني المثنى
(١) الحديث: ٢٥٥٧- رواه الطبري هنا معلقًا، دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: ٦٧٩٧، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص: "المسلمون تكافأ داؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه: ٢٦٨٥. ورواه أحمد، بألفاظ مختلفة، مطولا ومختصرًا: ٦٦٩٢، ٦٩٧٠، ٧٠١٢.
358
قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة، فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان، وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنزل الله:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى". (١)
٢٥٥٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان، فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة، فقيل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [سورة المائدة: ٤٥].
٢٥٦٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنزل الله:"الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى".
(١) العمية (بضم العين أو كسرها، وتشديد الميم وتشديد الياء) : الغواية والكبر واللجاجة في الباطل والفتنة والضلالة. وفي الحديث: "من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو ينصر عصبة، أو يدعو لعصبة، فقتل، قتل قتلة جاهلية". وقال أحمد بن حنبل: هو الأمر الأعمى للعصبية، لا تستبين ما وجهه.
359
٢٥٦١- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر في هذه الآية:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، إنما ذلك في قتال عُمية، (١) إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ، وفي المرأتين كذلك، وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.
٢٥٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره:"الحر بالحر"، الرجل بالمرأة، والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء، فأُمِر النبي ﷺ أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر، وديات الرجال بالرجال، وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى".
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٦٣- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبيُّ ﷺ -وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصَّهم بعضَهم من بعض.
٢٥٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله
(١) سلف شرح"عمية" في ص: ٣٥٩، تعليق: ١.
360
بن المبارك، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ (١) فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي ﷺ ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية:"الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فجعل النبي ﷺ الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.
٢٥٦٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، نزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا.
٢٥٦٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت في قتال عُمية"، (٢) قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٦٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه
(١) الطول: الفضل والعلو.
(٢) سلف شرح"عمية" في ص: ٣٥٩، تعليق: ١.
361
كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه، وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ، وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ، فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا.
٢٥٦٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته، قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.
٢٥٧٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية.
٢٥٧١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، عن الشعبي، قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا، فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه، ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في حال مَا نزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: ٤٥]، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٧٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والأنثى بالأنثى"،
362
وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى:"النفس بالنفس"، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤُهم.
* * *
قال أبو جعفر: (١) فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نزلت فيه هذه الآية، فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله ﷺ بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة -على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا (٢) فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه = وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه -مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. (٣) فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.
وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ، وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني، فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون
(١) قوله: "فإذا كان مختلف" هو تمام قوله في رد السؤال في ص: ٣٥٨ س: ١١. "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك.. ".
(٢) في المطبوعة: "وكان واضحًا"، والصواب حذف الواو.
(٣) سياق العبارة: "كان واضحًا فساد من قال بالقصاص... بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حرامًا على الرجل... وعلى أن حرامًا على غيره... ".
363
الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي ﷺ أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.
وقد أجمع الجميع -لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصَاص" ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.
* * *
فإن قال قائل: = إذْ ذكرتَ أن معنى قوله:"كتب عليكم القصاص" - بمعنى: فُرض عليكم القصاص =: لا يعرف (١) لقول القائل:"كتب" معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا، فما برهانك على أن معنى قوله:"كتب" فُرِض؟
قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ، وفي أشعارهم مستفيض، ومنه قول الشاعر: (٢)
كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا... وَعَلَى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ (٣)
(١) في المطبوعة: "ولا يعرف... " والصواب حذف الواو. والسياق: فإن قال قائل.. - لا يعرف" وما بينهما فصل. والذي ذكره في معنى"كتب" قد سلف في ص: ٣٥٧.
(٢) هو عمر بن أبي ربيعة، أو عبد الله بن الزبير الأسدي.
(٣) ديوان عمر: ٤٢١، والبيان والتبيين ٢: ٢٣٦، والكامل ٢: ١٥٤، وتاريخ الطبري ٧: ١٥٨، وأنساب الأشراف ٥: ٢٦٤، والأغاني ٩: ٢٢٩. ولهذا الشعر خبر. وذلك أن مصعب بن الزبير، لما خرج إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي المتنبئ فظفر به وقتله، كان فيمن أخذ امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير، فلما سألها عنه قالت: رحمة الله عليه، إن كان عبدًا من عباد الله الصالحين: فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله إنها تزعم أنه نبي! فأمر بقتلها. وقتلها الذي تولى قتلها قتلا فظيعًا، فاستنكره الناس، وقالوا فيه، وممن عمر: إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَائِبِ عِنْدي... قَتْلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ
قُتِلَتْ هكذا عَلَى غَيْرِ جُرْم... إِنَّ لِلهِ دَرَّهَا من قَتِيلِ
كُتِبَ القتل.........................
364
وقولُ نَابغةَ بني جعدة:
يَا بِنْتَ عَمِّي، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي عَنْكُم، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلا! (١)
وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض، فإنه عندي مأخوذ من"الكتاب" الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ، فقال تعالى ذكره في القرآن: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [سورة البروج: ٢١-٢٢] وقال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [سورة الواقعة: ٧٧-٧٨]. فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.
فمعنى قوله: -إذ كان ذلك كذلك-"كُتب عليكم القصاص"، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
* * *
وأما"القصاص" فإنه من قول القائل:"قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي، قصاصًا ومُقاصَّة". فقتل القاتل بالذي قتله"قصاص"، لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله، وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل
(١) اللسان (كتب) وأساس البلاغة (كتب)، والمقاييس ٥: ١٥٩، ويروي"يا ابنة عمي"، وفي الأساس: "أخرني"، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ.
365
الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا، إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله، فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه.
* * *
وأما"القتلى" فإنها جمع"قتيل" كما"الصرعى" جمع"صريع"، والجرحى جمع"جريح". وإنما يجمع"الفعيل" على"الفعلى"، إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، (١) نحو القتلى في معاركهم، والصرعى في مواضعهم، والجرحى، وما أشبه ذلك.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر"أن يقتص" اكتفاءً بدلالة قوله:"كُتب عليكم القصاص" = عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص -وهو الشيء الذي قال الله:"فمن عُفي له من أخيه شيء"- فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.
* ذكر من قال ذلك:
(١) انظر ما سلف في تفسير"أسرى" ٢: ٣١١.
366
٢٥٧٣- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فمن عفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان.
٢٥٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه قال في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب = وأداء إليه بإحسان من المطلوب.
٢٥٧٥- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي -وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان. (١)
٢٥٧٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان"، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ = وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.
٢٥٧٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف
(١) الخبر: ٢٥٧٥- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، شيخ الطبري، مضت الرواية عنه أيضًا: ١٥٩١. وسيأتي أيضًا: ٢٥٩٤. ووقع في المطبوعة هنا"سفيان" بدل"شقيق". وهو خطأ وتصحيف. فلا يوجد في الرواة من يسمى"محمد بن علي بن الحسن بن سفيان"، ولا باسم أبيه.
367
وأداء إليه بإحسان"، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.
٢٥٧٨- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء" قال، الدية.
٢٥٧٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد، عن إبراهيم، عن الحسن:"وأداء إليه بإحسان" قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.
٢٥٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف"، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية.
٢٥٨١- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية.
٢٥٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن داود، عن الشعبي مثله.
٢٥٨٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه، وقبلت منه الدية. يقول:"فاتباع بالمعروف"، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف، وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص، لا عَقل فيه، (١) إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. (٢) فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.
(١) العقل: الدية، سميت عقلا، لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا، لأنها كانت أموالهم. فكان القاتل يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه.
(٢) الخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) : الحامل من النوق. وليس لها جمع من لفظها، بل يقال هي"مخاض"، كما يقال: امرأة ونساء.
368
٢٥٨٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف، ويؤدي المطلوب بإحسان.
٢٥٨٥- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية، يقول:"فاتباع بالمعروف"، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف، وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.
٢٥٨٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ.
٢٥٨٧- حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص، فذلك قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك، وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف، وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.
٢٥٨٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن.
٢٥٨٩- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وأداء إليه بإحسان" قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.
٢٥٩٠- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع
369
بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، وهو الدية، أن يحسن الطالب = وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:"فمن عُفي"، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا: معنى قوله:"من أخيه شيء": من دية أخيه شيء، أو من أرْش جراحته، (١) فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء = من القاتل أو الجارح = إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.
وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عَليكم القصاص في القتلى" - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُمِر رسول الله ﷺ أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل"العفو" -في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: (حَتَّى عَفَوْا) [سورة الأعراف: ٩٥]. فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٥٩١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمنَ عُفي له من أخيه شيء"، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته، فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.
* * *
والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله:"كُتب عليكم القصاص" أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى، والعبد من الحر، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله:
(١) الأرش: دية الجنايات والجراحات كالشجة ونحوها.
370
"فمنْ عُفي له من أخيه شيء"، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول، فاتباع من الوليّ بالمعروف، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء": فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه، فاتباعٌ بالمعروف = من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه = وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصاص"، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك"العفو" أيضًا عن ذلك.
وأما معنى قَوله:"فاتباع بالمعروف"، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك (١) - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:-
٢٥٩٢- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله ﷺ أنه قال:"من زاد أو ازداد بعيرًا" - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية. (٢)
* * *
وأما إحسان الآخر في الأداء، فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على
(١) الفرائض جمع فريضة: وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة.
(٢) الحديث: ٢٥٩٢- هذا حديث مرسل، إذ يرويه"قتادة"، وهو تابعي. ولم أجده في مكان آخر ولا ذكره السيوطي.
371
ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [سورة محمد: ٤] ؟ قيل: لو كان التنزيل جاء بالنصب، وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر، كما يقال:"ضربًا ضَربًا = وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا"، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان، أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف.
وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [سورة المائدة: ٩٥]، وقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: ٢٢٩]. وأما قوله: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ)، فإن الصواب فيه النصب، وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال:"إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا"، على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام. (١)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٠٩-١١٠.
372
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا (١) الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم -أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة ="تخفيف من ربكم"، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم ="ورحمة"، مني لكم. كما:-
٢٥٩٣- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية، فقال الله في هذه الآية:"كُتب عليكم القصاصُ في القتلى الحر بالحر" إلى قوله:"فمَن عُفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد ="ذلك تخفيف من ربكم". يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان. (٢)
(١) انظر"ذلك" بمعنى"هذا"١: ٢٣٥-٢٣٧ / ثم هذا الجزء ٣: ٣٣٥.
(٢) الحديث: ٢٥٩٣- أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الدولابي: هو والد"أبي بشر محمد بن أحمد الدولابي" صاحب كتاب الكنى والأسماء. وقد رفعنا نسبه نقلا عن تذكرة الحفاظ ٢: ٢٩١في ترجمة ابنه الحافظ. وأحمد بن حماد هذا: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم١/١/٤٩، فلم يذكر فيه جرحًا، وذكر أن أباه أبا حاتم سمع منه.
سفيان: هو ابن عيينة.
والحديث رواه عبد الرزاق في تفسيره، ص: ١٦، بنحوه. بإسنادين: عن معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وعن ابن عيينة -كالإسناد هنا إلى مجاهد- عن ابن عباس.
ورواه البخاري ١٢: ١٨٣ (فتح)، عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان. بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي١: ١٧٣، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وغيرهم.
وذكره ابن كثير ١: ٣٩٤، من رواية سعيد بن منصور، عن سفيان. ثم قال: "وقد رواه غير واحد عن عمرو. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار". فقد سها -رحمه الله- عن أن البخاري رواه في صحيحه، فنسبه لصحيح ابن حبان، ولم يذكر البخاري.
373
٢٥٩٤- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر" إلى آخر الآية،"ذلك تخفيفٌ من ربكم"، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل، فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.
٢٥٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم.
٢٥٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح، وذلك قول الله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) الآية كلها [سورة المائدة: ٤٥]، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله تعالى:"ذلك تخفيفٌ من ربكم" بينكم.
٢٥٩٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة"، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية، وأحلَّها لهم، ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم.
٢٥٩٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
374
أبيه، عن الربيع بمثله سواء، غير أنه قال: ليس بينهما شيء.
٢٥٩٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا دية، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.
٢٦٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص، وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار:"ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة".
* * *
وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون = من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته = تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم.
375
وقد بينت معنى"الاعتداء" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (١) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٠١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فقتل،"فله عذابٌ أليم".
٢٦٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى"، بعد أخذ الدية،"فله عذاب أليم".
٢٦٠٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله ﷺ كان يقول:"لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية. (٢)
(١) انظر ما سلف ٢: ٣٠٧.
(٢) الحديث: ٢٦٠٣- وهذا رواه أيضًا قتادة -التابعي- مرفوعًا، فهو مرسل. وكذلك ذكره السيوطي ١: ١٧٣، عن قتادة، ونسبه للطبري وابن المنذر فقط.
وقد روى المرفوع منه - عبد الرزاق في تفسيره، ص: ١٦، عن معمر، عن قتادة مرسلا أيضًا.
ثم ذكر السيوطي اللفظ المرفوع، ونسبه لسمويه في فوائده، عن سمره. وقد قصر فيه جدًا، كما قصر في الجامع الصغير: ٩٧٠١، إذ ذكره أيضًا، ونسبه للطيالسي -فقط- عن جابر، يعني جابر بن عبد الله.
وحديث الطيالسي -عن جابر-: هو في مسنده: ١٧٦٣، عن حماد بن سلمة، عن مطر الوراق، عن رجل، عن جابر، فذكره مرفوعًا.
وقد رواه أحمد في المسند: ١٤٩٦٨، عن عفان، عن حماد بن سلمة: "أخبرنا مطر، عن رجل، أحسبه الحسن، عن جابر بن عبد الله". وكذلك رواه أبو داود في السنن: ٤٥٠٧، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به.
فتقصير السيوطي: أن نسبه للطيالسي وحده، وهو في أحد الكتب الستة ومسند أحمد.
وعلى كل حال، فحديث جابر ضعيف، لأن إسناده رجلا مبهمًا، أو رجل شك فيه مطر الوراق.
وحديث الحسن عن سمرة، ذكره أيضًا ابن كثير ١: ٣٩٥ قال، "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة... "، فذكره مرفوعًا.
فهذا إسناد يمكن أن يكون صحيحًا، لو علمنا إسناده إلى سعيد بن أبي عروبة، ومن الذي رواه من طريقه؟ إذا لم أجده بعد طول البحث. ولو وجدناه لكان وصلا لهذا المرسل الذي رواه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
376
٢٦٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك" قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية. (١)
٢٦٠٥- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم.
٢٦٠٦- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية، فذلك"الاعتداء".
٢٦٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية:"فمن عُفي لهُ من دم أخيه شيء" قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه، وأُخِذ من أوليائه الدية، ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ.
٢٦٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول:"فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم"؟
٢٦٠٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
(١) الخبر: ٢٦٠٤- رواه الطبري من طريق عبد الرزاق. وهو في تفسيره، ص ١٦، بهذا الإسناد.
377
عن السدي:"فمن اعتدى بعد ذلك"، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل"فلا عذابٌ أليم".
٢٦١٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن اعتدى بعد ذلك"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم.
٢٦١١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم.
* * *
واختلفوا في معنى"العذاب الأليم" الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.
فقال بعضهم: ذلك"العذابُ" هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦١٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" قال، يقتل، وهو العذاب الأليم = يقول: العذاب المُوجع.
٢٦١٣- حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.
٢٦١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان، عن عكرمة:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، القتلُ.
* * *
وقال بعضهم: ذلك"العذابُ" عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.
378
* ذكر من قال ذلك:
٢٦١٥- حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث = غير أنه لم ينسبه، وقال: ثقة =: أن النبي ﷺ أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي ﷺ قال، و"الاعتداء" الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح، ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [يعفو] (١) لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء: ٥٩]. (٢)
٢٦١٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس،
(١) الذي بين القوسين، هكذا في الأصل. وصوابه فيما أرجح"أن يقتله". ولم أجد الخبر، ولا كتاب عمر الذي ذكره.
(٢) الحديث: ٢٦١٥- هو في الحقيقة حديثان، رواهما ابن جريج، ولم أجدهما في مكان آخر. ولكني لا أسيغ لفظهما أن يكون من ألفاظ النبوة، ولا عليه شيء من نورها. وهو بألفاظ الفقهاء أشبه!
فأولهما: رواه ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل اسمه"الليث": "غير أنه لم ينسبه" - فلا أعرف من"الليث" هذا؟ وأما إسماعيل بن أمية: فإنه ثقة، يروي عن التابعين. مترجم في التهذيب. والكبير ١/٥١/٣٤، وابن أبي حاتم ١/١/١٥٩، ونسب قريش: ١٨٢، وجمهرة الأنساب لابن حزم: ٧٤.
وثانيهما: رواه ابن جريج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن"كتاب لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم". والظاهر أنه يريد كتابًا لعمر بن عبد العزيز. ومن المحتمل أن يكون كتابًا لعمر بن الخطاب.
وعبد العزيز بن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٨٩.
379
عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية، ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم"، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فَقتلَ قاتلَ وليه، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه، فقال تعالى ذكره (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [سورة الإسراء: ٣٣]. فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. (٢) وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه، لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٣)
(١) الخبر: ٢٦١٦- بشر بن معاذ، شيخ الطبري، مضى في: ٣٥٢. ونزيد هنا أنه ثقة معروف، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/١/٣٦٨، وذكر أن أباه كتب عنه، وأنه سئل عنه، فقال: "صالح الحديث صدوق". وهو يروي عن قدماء الشيوخ، مثل"حماد بن زيد" المتوفى سنة ١٧٩، وعبد الواحد بن زياد، شيخه هنا، المتوفى تلك السنة.
عبد الواحد بن زياد العبدي البصري: أحد الأعلام الثقات. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري: ٢٠٢، وذكر أنه مات سنة ١٧٩، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٠-٢١، وابن سعد ٧/٢/٤٤.
يونس: هو ابن عبيد بن دينار العبدي، وهو ثقة، من أوثق أصحاب الحسن وأثبتهم. مترجم في التهذيب. والكبير ٤/٢/٤٠٢، والصغير: ١٦٠، وابن سعد ٧/٢/٢٣-٢٤، وابن ابي حاتم ٤/٢/٢٤٢.
(٢) في هذه العبارة غموض، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء، ولكن المعنى العام ظاهر.
(٣) كالذي رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعت رسول الله ﷺ في رهط فقال: أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (البخاري: كتاب الحدود ٨: ١٦٢).
380
وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول، فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب"، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (١)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
(١) قدعه يقدعه قدعًا: كفه. ومنه: "اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة"، أي كفوها عما تشتهي وتريد.
381
٢٦١٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب" قال، نكالٌ، تَناهٍ.
٢٦١٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، نكالٌ، تَناهٍ.
٢٦١٩- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٦٢٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"ولكم في القصاص حياة"، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.
٢٦٢١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" قال، قد جعل الله في القصاص حياة، إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.
٢٦٢٢- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولكم في القصاص حياة" الآية، يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.
٢٦٢٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، نكالٌ، تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ.
382
٢٦٢٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، حياةٌ، بقية. (١) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني، لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي، فيذكر أن يُقْتَل في القصاص، فيخشى أن يقتل بي، فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.
٢٦٢٥- حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، بقاء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر، وبالعبد الحرّ.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٢٦- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكم في القصاص حياة"، يقول: بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
* * *
وأما تأويل قوله:"يا أولي الألباب"، فإنه: يا أولي العقول."والألباب" جمع"اللب"، و"اللب" العقل.
* * *
وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.
* * *
(١) بقية: أي إبقاء. وأخشى أن تكون"تقية" بالتاء، أي اتقاء، كما يدل عليه سائر الأثر. وكلتاهما صحيحة المعنى.
383
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"لعلكم تتقون"، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:-
٢٦٩- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعلكم تتقون" قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم"، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه، بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه، وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
* * *
فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصى لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟
قيل: نعم.
384
فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟
قيل: نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: قول الله تعالى ذكره:"كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين"، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه، كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [سورة البقرة: ١٨٣]، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه، مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟
قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٢٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
٢٦٢٩- حدثني سَلم بن جنادة. (١) قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش،
(١) في المطبوعة: "سالم بن جنادة". وهو خطأ. وقد مضى مرارًا، وانظر ترجمته في رقم: ٤٨.
385
عن مسلم، عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم، وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه، أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
٢٦٣٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.
٢٦٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
٢٦٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن رجل، عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال]، ولا كرامة. (١)
٢٦٣٣- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "لم يكن له حال ولا كرامة". وهو خطأ بلا شك عندي. فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية: أعتقته امرأة من بني رياح، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال: إن أبا العالية لا موالي له، ولا كرامة لأحد.
وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة، ثم ذهبت به إلى المسجد، فقبضت على يده. فقالت: اللهم اذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. قال أبو العالية: والسائبة يضع نفسه حيث شاء. (ابن سعد ٧/١/٨١).
والسائبة: العبد يعتق على أن لا ولاء له. واختلف الفقهاء في ميراث السائبة، إذا ترك ميراثًا: أيرثه معتقه، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا؟ قيل: لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه، فقال: هو سائبة! وأبى أن يأخذه. وفي حديث عمر: "السائبة والصدقة ليومهما" قال أبو عبيدة: أي ليوم القيامة، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه. يقول: فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا. وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد ٣/١/٦٠) فقد كان سائبة، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله، فجعله عمر في بيت المال.
فهذا ما أراد الشعبي أن يقول: إن أبا العالية سائبة، فهو لا موالي له، وماله يضعه حيث شاء، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي، لأن ذلك هو حكم السائبة.
هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة، ولم أجدها في مكان آخر، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق، وجنبت الزلل.
386
أيوب، عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.
٢٦٣٤- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير (١) قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.
٢٦٣٥- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير (٢) قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.
فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها، وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب، والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:
٢٦٣٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون، قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
٢٦٣٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي
(١) في المطبوعة: "عمران بن جرير"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري، صلى على جنازة خلف أنس. روى عن أبي مجلز، وأبي قلابة، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز، هو لاحق بن حميد، المذكور في الإسناد التالي.
(٢) في المطبوعة: "عمران بن جرير"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري، صلى على جنازة خلف أنس. روى عن أبي مجلز، وأبي قلابة، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز، هو لاحق بن حميد، المذكور في الإسناد التالي.
387
قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
٢٦٣٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد، عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث، وثلثا الثلث لقرابته.
٢٦٣٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.
* * *
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه، وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٤٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم، ولا تجوز وصية لوارث.
٢٦٤١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، نسخ الوالدان منها، وترك الأقربون ممن لا يرث.
٢٦٤٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين
388
والأقربين" قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
٢٦٤٣- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين، فلما نزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (١).
٢٦٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل المكي، عن الحسن في قوله:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
٢٦٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية:"الوصية للوالدين والأقربين" قال، للوالدين منسوخة، والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
٢٦٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين،
(١) الخبر: ٢٦٤٣- يحيى بن نصر، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري، وهو"يحيى" بن نصر بن حاجب القرسي"، مات سنة ٢١٥ قبل أن يولد أبو جعفر. وهو مترجم في ابن أبي حاتم ٤/٢/١٩٣، وتاريخ بغداد ١٤: ١٥٩-١٦٠، ولسان الميزان ٦: ٢٧٨-٢٧٩.
وفي تاريخ بغداد ١٤: ٢٢٥-٢٢٦ ترجمة"يحيى بن أبي نصر، أبو سعد الهروي"، واسم أبيه منصور بن الحسن". وهذا توفي سنة ٢٨٧. ولكن يبعد أن يسمع من"يحيى بن حسان" المتوفى سنة ٢٠٨.
وفي التهذيب ١١: ٢٩٢-٢٩٣ ترجمة ثالثة: "يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق"، يروي عن أبي داود الطيالسي، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني. وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان ٢: ٢٥٧-٢٥٨. فهذا من هذه الطبعة. ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا.
وأما شيخه"يحيى بن حسان": فهو التنيسي البكري، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٦٩، والصغير: ٢٢٩، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٣٥.
389
فأنزل الله بعد هذا: (وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ) [سورة النساء: ١١]، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين، وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
٢٦٤٧- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
٢٦٤٨- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف" قال، كان هذا من قبل أن تُنزل"سورة النساء"، فلما نزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين، فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
٢٦٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار، والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى:"إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، قالا في القرابة.
٢٦٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.
* * *
وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٥١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
390
"إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين" الآية، قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
٢٦٥٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا، فقرأ عليهم"سورة البقرة" ليبين لهم منها، فأتى على هذه الآية:"إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين" قال، نُسخت هذه.
٢٦٥٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
٢٦٥٤- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن جهضم، عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين" قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
٢٦٥٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
٢٦٥٦- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة، عن شريح في هذه الآية:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نزلت آية الميراث.
٢٦٥٧- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في"سُورة النساء"، الآيةَ في"سُورة البقرة" في شأن الوصية.
٢٦٥٨- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
391
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين" قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة.
٢٦٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في"سورة النساء": (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [سورة النساء: ١١]
٢٦٦٠- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، أما الوالدان والأقربون، فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ، إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها"النساء"، فقال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ).
٢٦٦١- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
٢٦٦٢- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: (١) أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: ٧٥].
٢٦٦٣- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد، عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية، فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي ﷺ ولم يُوصِ، وأوصَى أبو بكر، أيِّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
(١) في المطبوعة: "بن خثيم"، وأثبت ما في التهذيب، وانظر ترجمته.
392
٢٦٦٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.
* * *
وأما"الخير" الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-
٢٦٦٥- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرك خيرًا"، يعني مالا.
٢٦٦٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن ترك خيرًا"، مالا.
٢٦٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة (١) قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن تَرَك خيرًا"، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، (لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [سورة العاديات: ٨]، الخير: المال - (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [سورة ص: ٣٢]، المال - (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [سورة النور: ٣٣]، المال = و (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)، المالُ.
٢٦٦٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن ترك خيرًا الوصية"، أي: مالا. (٢)
٢٦٦٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "أبو جعفر" والصواب"أبو حذيفة"، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم: ٢٦٥٩.
(٢) الأثر: ٢٦٦٨- في المطبوعة: "حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد" أسقط"حدثنا يزيد"، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم: ٢٦٤٠.
393
أسباط عن السدي:"إن تَرك خيرًا الوصية"، أما"خيرًا"، فالمالُ.
٢٦٧٠- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إن ترك خيرًا" قال، إن ترك مالا.
٢٦٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:"إن ترك خيرًا" قال، الخيرُ المال.
٢٦٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله:"إن ترك خيرًا الوصية" قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) [سورة هود: ٨٤] يعني الغني.
٢٦٧٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، تلا"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا"، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.
* * *
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.
فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة في هذه الآية:"إن تَرَك خيرًا الوصية" قال، الخيرُ ألف فما فوقه.
٢٦٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة، عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده، فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.
قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.
394
٢٦٧٦- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (١) وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض، فذكر لهُ الوصية، فقال: لا تُوص، إنما قال الله:"إن تَرك خيرًا"، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.
٢٦٧٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور بن صفية، عن عبد الله بن عيينة -أو: عتبة، الشك مني-: أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير، وترك أربعمئة دينار، فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.
٢٦٧٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم، فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله:"إن ترك خيرًا"، وليس لك كثير مال.
* * *
وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٧٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله:"إن ترك خيرًا" قال، ألف درهم إلى خمسمئة.
* * *
وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.
* ذكر من قال ذلك:
(١) ضبطه في الخلاصة"بكسر المهملة" وفي التهذيب والميزان"الجذامي" بجيم مضمومة، ثم ذال معجمة.
395
٢٦٨٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية" ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه"خيرٌ"، ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي -من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت"الهاء" التي في قوله:"فمن بدّله"؟
قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.
ومعنى الكلام:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا عَلى المتقين"، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم، فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.
396
وإنما قلنا إن"الهاء" في قوله:"فمن بدله" عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية" من قول الله، وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون"الهاء" في قوله:"فمن بدله" عائده على"الوصية".
وأما"الهاء" في قوله:"بعد ما سمعه"، فعائدة على"الهاء" الأولى في قوله:"فمن بَدَّله".
وأما"الهاء" التي في قوله:"فإنما إثمه"، فإنها مكنيُّ"التبديل"، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٨١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن بدَّله بَعد ما سمعه" قال، الوصية.
٢٦٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٢٦٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه"، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه، وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته، كما قال الله: (غَيْرَ مُضَارٍّ) [سورة النساء: ١٢]
٢٦٨٤- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه"، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه.
397
٢٦٨٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه"، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف، فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.
٢٦٨٦- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه"، قال: يُمضَى كما قال.
٢٦٨٧- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"فمن بدّله بعد ما سمعه"، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها.
٢٦٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في هذه الآية:"فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه"، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها، فإنما إثمه على من بَدَّله.
٢٦٨٩- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به = إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى، وزاد ابن بشار في حديثه = قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته، وما يعجبني أن أنزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به، قال الله عز وجل:"فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه".
* * *
398
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن الله سميع" = لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها، أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف، أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ ="عليمٌ" بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل، أم الجور والحيْف.
* * *
399
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم: تأويلها: فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له، أو أن يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به، فلا حرج على من حَضره فسمع ذلك منه أنْ يصلح بينه وبين وَرَثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن مَنعه مما أذن الله له فيه وأباحه له.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٩٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو يموت، فإذا
399
أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصَّر قالوا: افعل كذا، أعطِ فلانًا كذا.
٢٦٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فمن خَافَ من مُوص جَنفا أو إثما"، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو في الموت، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل، (١) وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانًا كذا.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خافَ - من أولياء ميت، (٢) أو وَالِي أمر المسلمين - من مُوص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت، فأصلح بين وَرَثته وبين الموصى لهم بما أوصَى لهم به، فرد الوصية إلى العدل والحقّ، فلا حرج ولا إثم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٩٢- حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فمن خاف من مُوص جَنفًا" -يعني: إثْمًا- يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب.
٢٦٩٣- حدثنا الحسن بن يحيى، (٣) حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: هو الرجل يُوصي
(١) في المطبوعة: "فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل"، وهو لا يستقيم مع سياق الخبر، ولا مع الخبر الذي قبله عن مجاهد أيضًا. ورجحت أن يكون الناسخ صحف"الجور" فجعلها"الموت" أو سها أو سبق قلمه. أو لعله أخطأ وصحف وزاد، وأن أصل عبارته كالسياق قبله: "فإذا أسرف أمروه بالعدل". وكلاهما جائز، وصواب في المعنى.
(٢) في المطبوعة: "أوصياء ميت"، وهما سواء.
(٣) في المطبوعة: "الحسن بن عيسى" وهو خطأ صرف، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه إلينا رقم: ٢٦٨٤.
400
فيحيف في وصيته، فيردها الوليّ إلى الحقّ والعدل. (١)
٢٦٩٤- حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، وكان قتادة يقول: من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين، إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له.
٢٦٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، فمن أوصى بوصية بجور، فردَّه الوصيُّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه - قال عبد الرحمن في حديثه:"فاصلح بينهم"، يقول: رده الوصيّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه.
٢٦٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصْلح بينهم"، قال: رده إلى الحق.
٢٦٩٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم قال، سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث؟ قال: اردُدها. ثم قرأ:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا".
٢٦٩٨- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: رده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم على الوصي.
* * *
وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته
(١) في المطبوعة: "الوالي"، والصواب ما أثبت، أي ولي الميت.
401
عند حضور أجله بعضَ ورثته دون بعض، فلا إثم على من أصلح بينهم = يعني: بين الورثة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٦٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله:"فمن خاف من موص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الرجل يحيف أو يأثم عند موته، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض، يقول الله: فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء: أله أن يُعطي وارثه عند الموت، إنما هي وصية، ولا وصية لوارث؟ قال: ذلك فيما يَقسم بينهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من مُوص جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه، بما يرجع نفعه على من يَرثه، فأصلح بينَ وَرَثته، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يَقول: جَنفُه وإثمه، أنْ يوصي الرجل لبني ابنه ليكونَ المالُ لأبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها؛ وذو الوارث الكثير والمالُ قليل، فيوصي بثلث ماله كله، فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير. قلت: أفي حياته أم بعد موته؟ قال: ما سمعنا أحدًا يقول إلا بعد موته، وإنه ليوعظ عند ذلك.
٢٧٠١- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"فمن خافَ من موص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم"، قال: هو الرجل يوصي لولد ابنته.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جَنفًا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
402
٢٧٠٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه". أما"جنفًا": فخطأ في وصيته، وأما"إثمًا": فعمدًا يَعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظمُ لأجره أن لا يُنفذها، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق، ينقص بعضًا ويزيد بعضًا. قال: ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين.
٢٧٠٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال:"الجنَف" أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية،"والإثم" أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض،"فأصلح بينهم" الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هُم"الأقربون" - فلا إثم عليه. فهذا الموصَى الذي أوْصى إليه بذلك، وجعل إليه، فرأى هذا قد أجنفَ لهذا على هذا، فأصلح بينهم فلا إثم عليه، فعجز الموصِي أن يوصي كما أمره الله تعالى، وعجز الموصَى إليه أن يصلح، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم، ففرضَ الفرائض.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا = وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثمًا في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الوَرَثة كثرةٌ = فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم، وبين ورثة الميت، وبين الميت، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه:"كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، وذلك هو"الإصلاح" الذي
403
قال الله تعالى ذكره:"فأصلح بينهم فلا إثم عليه". وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول، لأن الله تعالى ذكره قال:"فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا"، يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم، ولوْ كان ذلك معناه لقيل: فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا -أو أيقن أو علم- ولم يقل: فمن خَافَ منه جَنفًا.
* * *
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟
قيل: إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين، (١) فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن"الإصلاح"، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل: فكيف قيل:"فأصلح بينهم"، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكرٌ؟
(١) في المطبوعة: "فمن الإصلاح بين الفريقين.. "، والصواب زيادة، "الإصلاح"، كما يدل عليه السياق.
404
قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا المُوصي وأقربوه، والذين أمروا بالوصية في قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، ثم قال تعالى ذكره:"فمن خافَ من مُوص" -لمن أمرته بالوصية له-"جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم" -وبين من أمرته بالوصية له-"فلا إثم عليه". والإصلاح بينه وبينهم، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قرئ قوله:"فمنْ خَافَ منْ مُوص" بالتخفيف في"الصاد" والتسكين في"الواو" - وبتحريك"الواو" وتشديد"الصاد".
فمن قرأ ذلك بتخفيف"الصاد" وتسكين"الواو"، فإنما قرأه بلغة من قال:"أوصيتُ فلانًا بكذا".
ومن قرأ بتحريك"الواو" وتشديد"الصاد"، قرأه بلغة من يقول:"وصَّيت فلانًا بكذا". وهما لغتان للعرب مشهورتان:"وصَّيتك، وأوصيتك" (١)
وأما"الجنف"، فهو الجورُ والعدول عن الحق في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: (٢)
هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ (٣)
يقال منه:"جَنف الرجل على صاحبه يَجنَف" -إذا مال عليه وجَار-"جَنفًا".
* * *
(١) انظر تفسير (وصى) فيما سلف من هذا الجزء ٣: ٩٣-٩٦.
(٢) هو عامر الخصفي، من بني خصفة بن قيس عيلان.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٦٦، ٦٧، ومشكل القرآن: ٢١٩، واللسان (جنف) (ولي). والمولى: ابن العم، وأقام المفرد مقام الجمع، وأراد"المولى"، قال أبو عبيدة هو كقوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) وزور جمع أزور: وهو المائل عن الشيء. يقول: هم أبناء عمنا، ونحن نكره أن نلاقيهم فنقاتلهم، لما لهم من حق الرحم.
405
فمعنى الكلام من خاف من موص جَنفًا له بموضع الوصية، وميلا عن الصواب فيها، وجورًا عن القصد أو إثمًا بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك، فأصلح بينهم، فلا إثم عليه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى"الجنف""والإثم"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٠٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"فمن خاف من موص جَنفًا"، يعني بالجنف: الخطأ.
٢٧٠٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء:"فمن خاف من موص جَنفًا"، قال: ميلا.
٢٧٠٦- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
٢٧٠٧- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هارون قالا حدثنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
٢٧٠٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الجنفُ الخطأ، والإثم العمد.
٢٧٠٩- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن عطاء مثله.
٢٧١٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، أما"جَنفًا" فخطأ في وصيته، وأما"إثمًا": فعمدًا، يعمد في وصيته الظلم. (١)
٢٧١١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(١) الأثر: ٢٧١٠- مضى رقم: ٢٧٠٢ مطولا.
406
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فمن خَافَ من مُوص جنفًا أو إثمًا"، قال: خطأً أو عمدًا. (١)
٢٧١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع:"فمن خَاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد.
٢٧١٣- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس مثله.
٢٧١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الجنف: الخطأ، والإثم العمد.
٢٧١٥- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"فمن خاف من مُوص جَنفًا"، قال: خطأ،"أو إثمًا" متعمدًا.
٢٧١٦- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا"، قال: ميلا.
٢٧١٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"جَنفًا" حَيْفًا،"والإثم" ميله لبعض على بعض. وكلّه يصير إلى واحد، كما يكون"عفوًّا غَفورًا" و"غَفورًا رَحيمًا".
٢٧١٨- حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
(١) الأثر: ٢٧١١- كان في المطبوعة: "فمن خاف من موص جنفًا" قال: جنفًا إثما"، وهي عبارة مضطربة فاسدة، فلم أستجز تركها على فسادها ونقلت قول مجاهد الذي أخرجه سفيان بن عيينة وعبد بن حميد فيما نقله السيوطي في الدر المنثور ١: ١٧٥.
407
جريج قال، قال ابن عباس: الجنف" الخطأ، والإثم: العمد.
٢٧١٩- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. (١)
* * *
وأما قوله:"إنّ الله غَفورٌ رَحيم"، فإنه يعني: والله غَفورٌ للموصي (٢) = فيما كان حدَّث به نفسه من الجنف والإثم، إذا تَرَك أن يأثم ويَجنف في وصيته، فتجاوزَ له عما كان حدَّث به نفسه من الجور، إذ لم يُمْضِ ذلك فيُغْفِل أن يؤاخذه به (٣) ="رحيمٌ" بالمصلح بينَ المُوصي وبين من أراد أن يَحيف عليه لغيره، أو يَأثَم فيه له.
* * *
(١) الخبر: ٢٧١٩- الحسين بن الفرج الخياط البغدادي: شيخ لا يعبأ بروايته، قال فيه ابن معين: "كذاب، صاحب سكر، شاطر"؛ مترجم في ابن أبي حاتم ١/٢/٦٢-٦٣، وتاريخ إصبهان ١: ٢٦٦-٢٦٧، وتاريخ بغداد ٨: ٨٤-٨٦، ولسان الميزان ٢: ٣٠٧. والطبري يروي عنه في التفسير كثيرًا بإسناد مجهول، يقول: "حدثت عن الحسين بن الفرج". ولعل ذلك من أجل ضعف حديثه، فلا يصل الإسناد إليه. وصرح في بعض مرات في التاريخ باسم من حدثه عنه، انظر التاريخ ١: ٣٠، ٤٢.
ويقع اسمه في المطبوعة على الصواب، كما في ٢٨٩٨. وكثيرًا ما يقع خطأ مصفحًا: "الحسن بن الفرج"، كما في هذا الموضع، وكما في: ٢٧٥٠. ومن ذلك ما مضى: ٦٩١، وقلت هناك: "لم أعرف من هو؟ ". فيصحح في ذاك الموضع، وحيثما جاء في التفسير.
الفضل بن خالد: مضت ترجمته: ٦٩١.
(٢) كان في المطبوعة: "غفور رحيم للموصى.. "، وليس صوابًا، وسياق عبارته دال على صواب ما أثبتنا.
(٣) في المطبوعة: "فيفعل أن يؤاخذه به"، ولعل الصواب ما أثبت.
408
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. (١)
ويعني بقوله:"كتب عليكم الصيام"، فرض عليكم الصيام. (٢)
و"الصيام" مصدر، من قول القائل:"صُمت عن كذا وكذا" -يعني: كففت عنه-"أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا". ومعنى"الصيام"، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل:"صَامت الخيل"، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
خَيْلٌ صِيَامٌ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ العَجَاجِ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (٣)
ومنه قول الله تعالى ذكره: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [سورة مريم: ٢٦] يعني: صمتًا عن الكلام.
* * *
وقوله:"كما كُتب على الذين من قبلكم"، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم.
* * *
(١) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف ١: ٢٣٤-٢٣٥، والمراجع في فهرس اللغة.
(٢) انظر تفسير"كتب" فيما سلف في هذا الجزء ٣: ٣٥٧، ٣٦٤، ٣٦٥.
(٣) ديوانه: ١٠٦ (زيادات) واللسان (علك) (صام). ولكنه من قصيدته التي أولها: بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى حَبْلُهَا انْجَذَمَا
وقد فسر"صامت الخليل" بأنها الإمساك عن السير، وعبارة اللغة، "صام الفرس" إذا قام في آريه لا يعتلف، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير، فهو صائم. والعجاج: الغبار الذي يثور، يعني أنها في المعركة لا تقر. وعلك الفرس لجامه: لاكه وحركه في فيه.
409
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا.
فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٢٠- حدثت عن يحيى بن زياد، عن محمد بن أبان [القرشي]، عن أبي أمية الطنافسي، عن الشعبي أنه قال: لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. (١) ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. (٢) فذلك قوله:"كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم"، (٣)
* * *
(١) في معاني القرآن للفراء: "فعدوه ثلاثين يومًا".
(٢) في معاني القرآن: "يستن سنة الأول حتى صارت.. ".
(٣) الخبر: ٢٧٢٠- يحيى بن زياد أبو زكرياء: هو الفراء الإمام النحوي، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد ١٤: ١٤٩-١٥٥. وفي دواوين كثيرة.
محمد بن ابان: نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب"معاني القرآن" للفراء رواه عن"محمد بن أبان القرشي". ومحمد بن أبان القرشي: هو"محمد بن أبان بن صالح بن عمير"، مولى لقريش. ترجمه البخاري في الكبير ١/١/٣٤، برقم ٥٠. وقال: "يتكلمون في حفظه" وذكر في الصغير مرتين، ص: ١٨٨، ٢١٤. وقال في أولاهما: "يتكلمون في حفظ محمد بن أبان، لا يعتمد عليه". وقال في الضعفاء، ص: ٣٠"ليس بالقوي".
وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/١٩٩، برقم: ١١١٩، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين.
والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي، وهو من طبقة الفراء.
وأما ترجمته في التهذيب ٩: ٢-٣ فإنها مختلة مضطربة، خلط فيها بين هذا وبين"محمد بن أبان الواسطي"، وشتان بينهما. والواسطي مترجم عند البخاري، برقم: ٤٨، وعند ابن ابي حاتم، برقم: ١١٢١. وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا.
"عن أبي أمية الطنافسي": كذا ثبت هنا. وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر، فيما رأينا من المراجع. وإنما المترجم ابنه"عبيد بن أبي أمية". وهو الذي يروي عن الشعبي. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠١.
وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء ١: ١١١، ونقله السيوطي ١: ١٧٦، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكنه اختصره جدًا. +كأنه تلخيص لا نقل.
410
وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ: أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، النصارى.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٢١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، (١) فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.
(١) سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم: ٢٩٣٥-٢٩٥٢.
411
٢٧٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة.
* * *
وقال آخرون: الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٢٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب.
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٢٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب شهرُ رمضان على الناس، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر.
٢٧٢٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية:
يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب،"أيامًا معدودات"، وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم
412
صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ، فأمر نبينا ﷺ بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء.
وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء.
* * *
وأما تأويل قوله:"لعلكم تَتقون"، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. (١) يقول: فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم.
* * *
وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٢٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"لعلكم تتقون"، يقول: فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره، كتب عليكم أيها الذين آمنوا - الصيامُ أيامًا معدودات.
ونصبَ"أيامًا" بمضمر من الفعل، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم، أن تصوموا أيامًا معدودات، كما يقال:"أعجبني الضربُ، زيدًا".
* * *
(١) انظرتفسير"لعل" بمعنى"لكي" ١: ٣٦٤، ٣٦٥ / ثم ٢: ٦٩، ١٦١، واطلبه في الفهرس أيضًا.
413
وقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم" من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم: أن تصوموا أيامًا معدودات.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عَنى الله جل وعز بقوله:"أيامًا معدودات".
فقال بعضهم:"الأيام المعدودات"، صومُ ثلاثة أيام من كل شهر. قال: وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٢٧- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان عليهم الصيامُ ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يُسمِّ الشهرَ أيامًا معدودات. قال: وكان هذا صيام الناس قبل، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهرَ رمصان.
٢٧٢٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وكان ثلاثةَ أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول، من العتمة.
٢٧٢٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة. عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله ﷺ قدم المدينة فصامَ يومَ عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل الله جل وعزّ فرضَ شهر رمضان، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم" حتى بلغ:"وَعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مِسكين". (١)
(١) الحديث: ٢٧٢٩- يونس بن بكير: مضت ترجمته، في: ١٦٠٥. ووقع في المطبوعة هنا"بشر بن بكير"، وهو خطأ واضح. وسيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد -بأطول مما هنا- على الصواب، برقم: ٢٧٣٣.
عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة: هو المسعودي، وهو ثقة، تكلموا فيه بأنه تغير في آخر حياته قبل موته بسنة أو سنتين. مات سنة ١٦٠. مترجم في التهذيب. وابن سعد ٦: ٢٥٤، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٥٠-٢٥٢.
وهذا الحديث قطعة من حديث مطول، في أحوال الصلاة، وفي أحوال الصيام. مضت قطعة صغيرة منه، في شأن الصلاة إلى بيت المقدس: ٢١٥٦، من طريق أبي داود الطيالسي، عن المسعودي.
ورواه أحمد في المسند بطوله ٥: ٢٤٦-٢٤٧ (حلبي)، عن أبي النضر، يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي. وكذلك رواه أبو داود السجستاني: ٥٠٧، من طريق أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون.
وروى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٧٤، شطره الذي في أحوال الصيام، من طريق أبي النضر، عن المسعودي. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ونقله ابن كثير ١: ٤٠٢-٤٠٤، كاملا، عن رواية المسند. بإسنادها. وذكره السيوطي، كاملا أيضًا ١: ١٧٥-١٧٦، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه.
414
٢٧٣٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قد كتب الله تعالى ذكره على الناس، قَبل أن ينزل رمضان، صومَ ثلاثة أيام من كل شهر.
* * *
وقال آخرون: بل الأيام الثلاثةُ التي كان رسول الله ﷺ يصومُها قبل أن يفرض رمضان، كان تَطوعًا صوْمهُنّ، وإنما عنى الله جل وعز بقوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم أيامًا معدودات"، أيامَ شَهر رمضان، لا الأيامَ التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صَوم شهر رمضان.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٣١- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال، حدثنا أصحابنا: أنّ رسول الله ﷺ لما قدم عليهم أمرَهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا لا فريضةً. قال: ثم نزل صيام رمضان - قال أبو موسى: قوله:"قال عمرو بن مرة: حدثنا أصحابنا"
415
يريد ابن أبي ليلى، كأنّ ابنَ أبي ليلى القائلُ:"حدثنا أصحابنا". (١)
٢٧٣٢- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى، فذكر نحوه.
* * *
(١) الحديث: ٢٧٣١- وهذه قطعة من الحديث السابق، الطويل، الذي أشرنا إليه في: ٢٧٢٩، ولكنه هنا مروي من طريق آخر، طريق شعبة عن عمرو بن مرة. ويقول هنا عمرو بن مرة"حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، إلخ. فلو أخذ هذا على ظاهره، لكان مرسلا. فلذلك فسره أبو موسى -وهو محمد بن المثنى شيخ الطبري- بأن الذي قال هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم تلاه المثنى بالرواية بعده: ٢٧٣٢، عن أبي داود -وهو الطيالسي- عن شعبة"قال: سمعت عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى". وهذا هو الإسناد الذي أشرنا آنفًا إلى رواية الطبري قطعة أخرى من الحديث، به، في: ٢١٥٦.
والظاهر أن ابن المثنى سمع الحديث من محمد بن جعفر مرتين أو أكثر، إحداها على هذا الوجه الذي هنا، وبعضها على الوجه الواضح الصريح، بذكر ابن أبي ليلى.
فقد روى الحديث -كله- أبو داود السجستاني في السنن: ٥٠٦، بإسنادين، أحدهما إسناد الطبري هذا، أعني عن محمد بن المثنى. فقال أبو داود: "حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى -ح- وحدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت ابن أبي ليلى، قال، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وحدثنا أصحابنا: أن رسول الله ﷺ قال... ".
فأعاد في الإسناد الثاني -في طريق شعبة- قول عمرو بن مرة: "سمعت ابن أبي ليلى". ولعله أراد بهذه الإعادة، التي فيها التصريح باسم ابن أبي ليلى، رفع التوهم أن يظن أن تلك الرواية التي لم يصرح فيها محمد بن جعفر باسم"ابن أبي ليلى" تعلل هذه الرواية الصريحة.
أو يؤيد هذا قول الطبري -عقب الحديث-: "قال أبو موسى: قوله"قال عمرو بن مرة حدثنا أصحابنا" - يريد ابن أبي ليلى، كأن ابن أبي ليلى القائل: حدثنا أصحابنا". وأبو موسى: هو محمد بن المثنى نفسه، شيخ الطبري وأبي داود. فحين حدث بالرواية المبهمة -التي في الطبري هنا- فسرها بالرواية الأخرى الموضحة، وصرح في تفسيره بأن القائل"حدثنا أصحابنا" هو ابن أبي ليلى، لا عمرو بن مرة. تحرزًا من إيهام أن الإسناد يكون مرسلا إذا كان القائل ذلك هو عمرو بن مرة.
وقد عقب الطبري على ذلك، بالإسناد من طريق أبي داود الطيالسي، الذي فيه التصريح بسماع عمرو بن مرة ذلك من ابن أبي ليلى: ٢٧٣٢.
وقول ابن أبي ليلى"حدثنا أصحابنا" - يريد به الصحابة، مثل معاذ وغيره. وابن أبي ليلى من كبار التابعين. ويؤيد هذا رواية البخاري ٤: ١٦٤ (فتح)، قطعة من الحديث نفسه المطول، رواية معلقة بصيغة الجزم. فقال: "وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم". وقال الحافظ: "وصله أبو نعيم في المستخرج، والبيهقي من طريقه... وهذا الحديث أخرجه أبو داود، من طريق شعبة والمسعودي، عن الأعمش مطولا، في الأذان، والقبلة، والصيام. واختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا. وطيق ابن نمير هذه أرجحها".
415
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من قال: عنى بقوله:"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، شهرَ رمضان.
* * *
وأولى ذلك بالصواب عندي قولُ من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله:" (أيامًا معدودات)، أيامَ شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قَد بيَّن في سياق الآية، (١) أنّ الصيامَ الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومَها بقوله:"شهرُ رَمضان الذي أنزلَ فيه القرآن". فمن ادعى أن صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه -ثم نسخ ذلك- سئل البرهانَ على ذلك من خبر تقوم به حُجة، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذرَ.
وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا، فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أيامًا معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضًا أن يكون معناه:"كتب عليكم الصيام"، كتب عليكم شهر رمضان.
* * *
وأما"المعدودات": فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله:"معدودات"، مُحْصَيَاتٍ.
* * *
(١) في المطبوعة: "وبأن الله تعالى... "، وهو خطأ. ليس معطوفًا على قوله: "بأن صومًا.. " بل هو عطف على قوله: "وذلك أنه لم يأت خبر... "
417
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن كان منكم مريضًا"، (١) من كان منكم مريضًا، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر،"فعدة من أيام أخر"، يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره،"من أيام أخر"، يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
* * *
والرفع في قوله:"فعدةٌ منْ أيام أخر"، نظير الرفع في قوله:"فاتباع بالمعروف". وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
وأما قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طَعامُ مسكين"، فإنّ قراءة كافة المسلمين:"وعلى الذين يُطيقونه"، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافُها، لنقل جميعهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرن.
وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه:"وعلى الذين يُطوَّقونه". (٣)
* * *
ثم اختلف قُرّاء ذلك:"وَعلى الذين يُطيقونه" في معناه.
فقال بعضهم: كان ذلك في أول ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامَه إن شاء، وإن شاء أفطره وَافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا، حتى نُسخ ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
(١) نص هذا الجزء من الآية لم يكن في المطبوعة، وأثبته على نهجه في التفسير.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ٣٧٣.
(٣) انظر رفض هذه القراءة فيما سيأتي: ٤٣٨.
418
٢٧٣٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال:"إن رسول الله ﷺ قدم المدينة فصامَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إنّ الله جل وعز فرض شهر رَمضان، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" حتى بلغ"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين"، فكان من شاء صامَ، ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عز وجل:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو عَلى سفر" إلى آخر الآية. (١)
٢٧٣٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال حَدثنا أصحابنا أن رسول الله ﷺ لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان. قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال: وكان يشتد عليهم الصوم. قال: فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية:"فمن شهد منكم فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله:"قال عمرو: حدثنا أصحابنا"، يريد ابنَ أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل:"حدثنا أصحابنا".
٢٧٣٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه. (٢)
(١) الحديث: ٢٧٣٣- هو قطعة من الحديث الذي خرجناه في: ٢٧٢٩- أطول من الرواية الماضية.
(٢) الحديثان: ٢٧٣٤، ٢٧٣٥- وهذان أيضًا قطعتان من الحديث الذي أشرنا إليه في: ٢٧٣١، ٢٧٣٢، وقد صرح الطبري في أولهما -هنا- باسم"محمد بن المثنى"، الذي ذكره هناك بكنيته"قال أبو موسى".
419
٢٧٣٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا، فنسخها:"شهرُ رَمَضَان" إلى قوله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه".
٢٧٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه - وزاد فيه، قال: فنسختها هذه الآية، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم، يتصدق مكانَ كل يوم على مسكين نصفَ صاع.
٢٧٣٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، فكان من شاء منهم أن يصومَ صَام، ومن شاء منهم أن يَفتدي بطعام مسكين افتدى وتَمَّ له صومه. ثم قال:"فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه"، ثم استثنى من ذلك فقال:"ومنْ كان مريضًا أوْ عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر".
٢٧٣٩- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن إدريس قال: سألت الأعمش عن قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، فحدثنا عن إبراهيم، عن علقمة. قال: نسختها:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه". (١)
٢٧٤٠- حدثنا عمر بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: نَسَخت هذه الآية - يعني:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين" - التي بَعدها:"فمن شَهد منكم الشهرَ فَليصمه ومن كان
(١) الأثر: ٢٧٣٩- أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة العجلي، قاضي بغداد، روى عن عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث، روى عنه مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف. وقال ابن أبي حاتم. سالت أبي عنه فقال: ضعيف يتكلمون فيه، وله كتاب في القراءات، مات سنة ٢٤٨.
420
مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر". (١)
٢٧٤١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، قال: نسختها:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه".
٢٧٤٢- حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مُسهر، عن عاصم، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، كان الرجل يُفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعامًا، ثم نزلت هذه الآية:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر"، فلم تنزل الرّخصةُ إلا للمريض والمسافر.
٢٧٤٣- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم،
(١) الحديث: ٢٧٤٠- عمر بن المثنى: هكذا في المطبوعة، وأنا أرجح أن يكون صوابه"محمد بن المثنى" شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرًا. ولم أجد من يسمى"عمر بن المثنى" إلا رجلا واحدًا، ذكر في التهذيب ولسان الميزان على أنه من التابعين. ثم لم أجترئ على تصحيحه هنا، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم.
عبد الوهاب: هو ابن عمر المجيد الثقفي، مضت ترجمته في: ٢٠٢٩.
عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب"العمري"، وهو ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/١٠٩-١١٠.
ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ، وأن يكون صوابه"عبيد الله" بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٢٦-٣٢٧. وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم"نافع مولى ابن عمر".
وإنما ظننت هذا الاحتمال، لأن الحديث مروي من حديث"عبيد الله"، كما سنذكر، إن شاء الله:
فرواه البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٢٠٠، من طريق عبد الوهاب الثقفي، "عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر".
ورواه البخاري مختصرا ٤: ١٦٤، و ٨: ١٣٦، من طريق عبد الأعلى، وهو ابن عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه البيهقي أيضًا من أحد طريقي البخاري.
والحديث صحيح بكل حال. وذكره السيوطي ١: ١٧٨، وزاد نسبته إلى وكيع، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر.
421
عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية للناس عامة:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين، ثم نزلت هذه الآية:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، قال: فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.
٢٧٤٤- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان، فقال: إني شيخ كبيرٌ، إن الصومَ نزل، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، حتى نزلت هذه الآية:" فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فوجب الصوم على كل أحد، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يَفتدي.
٢٧٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيامُ كما كتب عَلى الذين منْ قبلكم"، قال ابن شهاب: كتب الله الصيام علينا، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيامَ من صحيح أو مريض أو مسافر، ولم يكن عليه غير ذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهرَ الصيامَ، فمن كان صحيحًا يُطيقه وضع عنه الفدية، وكان من كان على سفر أو كان مريضًا فعدة من أيام أخر. قال: وبقيت الفديةُ التي كانت تُقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يُطيق الصيام، والذي يعرض له العطشُ أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام.
٢٧٤٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، جعل الله في الصوم الأوّل فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطر، كان ذلك رخصةً له. فأنزل الله في الصوم الآخِر:"فعدة من أيام أخر"، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين، فنُسِخت الفدية، وَثبت في الصوم الآخر:
422
"يُريد الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر"، وهو الإفطار في السفر، وجعله عدةً من أيام أخَر.
٢٧٤٧- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، بكَيْر بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع أنه قال: كنا في عهد رسول الله ﷺ من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه". (١)
٢٧٤٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"،
(١) الحديث: ٢٧٤٧- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، المصري، ابن أخي عبد الله بن وهب ثقة من شيوخ مسلم وابن خزيمة. تكلم فيه بعضهم فلم ينصفه. وأهل بلده أعرف به. فقال ابن أبي حاتم: "سألت محمد بن عبد الحكم عنه؟ فقال: ثقة، ما رأينا إلا خيرًا، قلت: سمع من عمه؟ قال: إي والله". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/١/٥٩-٦٠.
"بكير بن عبد الله بن الأشج" المدني نزيل مصر: تابعي ثقة، قال ابن وهب: "ما ذكر مالك بن أنس بكير بن الأشج إلا قال: كان من العلماء". مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/١١٣، وابن أبي حاتم ١/١/٤٠٣-٤٠٤.
"بكير": بالتصغير. ووقع في المطبوعة"بكر" بغير الياء، وهو خطأ. فليس لبكر بن عبد الله المزني رواية في هذا الحديث. والحديث حديث"بكير بن عبد الله".
يزيد مولى سلمة بن الأكوع: هو يزيد بن أبي عبيد الحجازي، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٤٨-٣٤٩، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٨٠.
وقال البخاري في الصحيح -بعد روايته هذا الحديث-: "مات بكير قبل يزيد". وهو كما قال، فإن بكير بن عبد الله مات سنة ١٢٧، وقيل غير ذلك، إلى سنة ١٢٧. وأما يزيد مولى سلمة فإنه مات سنة ١٤٦ أو ١٤٧. فسمع عمرو بن الحارث هذا الحديث من بكير عن يزيد - في حياة يزيد.
والحديث رواه مسلم ١: ٣١٥، عن عمرو بن سواد العامري، عن ابن وهب، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البيهقي ٤: ٢٠٠، من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب.
ورواه البخاري ٨: ١٣٦، ومسلم ١: ٣١٥، والبيهقي ٤: ٢٠٠ - كلهم من حديث قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير.
وذكره السيوطي ١: ١٧٧-١٧٨، وزاد نسبته للدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم.
423
قال: كانت للناس كلهم: فلما نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، أمِروا بالصوم والقضاء، فقال:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر".
٢٧٤٩- حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: نسختها الآية التي بعدها: وأن تصوموا خيرٌ لكم إنْ كنتم تعلمون.
٢٧٥٠- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن محمد بن سليمان، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: نسختها الآية التي تليها:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه".
٢٧٥١- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"كتب عليكم الصيام" الآية، فُرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة، فإذا صلى الرجل العتمة حَرُم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخِر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله، وهو قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، وأحل الجماع أيضًا فقال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، وكان في الصوم الأول الفدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطرَ فعل ذلك، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفديةَ، وقال:"فعدةٌ من أيام أخر"، فنسخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ. (١)
* * *
وقال آخرون: بل كان قوله:"وَعلى الذينَ يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"، حُكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز الذين يُطيقان الصوم، كان مرخصًا لهما
(١) الخبر: ٢٧٥١-"الحسين بن الفرج": ثبت في المطبوعة هنا"الحسن". وهو خطأ، كما بينا في: ٢٧١٩.
424
أن يَفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله:"فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه"، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبلَ النسخ ثابتًا لهما حينئذ بحاله.
* ذكر من قال ذلك.
٢٧٥٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا، ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر"، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا.
٢٧٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وَعلى الذين يُطيقونه"، قال: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد. (١)
(١) الحديثان: ٢٧٥٢-٢٧٥٣- سعيد: هو ابن أبي عروبة.
عزرة - بفتح العين والراء بينهما زاي ساكنة: هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٦٥، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢١-٢٢.
ووقع في المطبوعة هنا، وفي سنن أبي المطبوعة"عروة" بدل"عزرة"، وهو تصحيف. والتصويب من السنن مخطوطة الشيخ عابد السندي، ومن السنن الكبرى للبيهقي.
والحديث رواه أبو داود: ٢٣١٨ (٢: ٢٦٦ عون المعبود)، من طريق ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، بهذا الإسناد، نحوه.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٢٣٠، من طريق روح بن عبادة، ومن طريق مكي بن إبراهيم - كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، به.
ثم رواه من طريق أبي داود في السنن، قال: "عن سعيد، فذكره". يعني بهذا الإسناد. فلو كانت رواية أبي داود من طريق"عروة" لذكر ذلك، ولم يحل إسناد أبي داود على إسناده السابق الذي فيه"عن عزرة".
وذكره السيوطي ١: ١٧٧ - وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وروى البخاري ٨: ١٣٥، نحو معناه، من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس وكذلك رواه النسائي ١: ٣١٨-٣١٩، من طريق عمرو بن دينار.
425
٢٧٥٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويُطعما بقوله:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". قال: فكانت لهم الرخصة، ثم نسخت بهذه الآية:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم، وبقيت الحاملُ والمرضعُ أن يفطرَا ويُطعما.
٢٧٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصومَ أن يطعما مكانَ كل يوم مسكينًا ويفطرا، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال:"شهرُ رَمضَانَ" إلى قوله:"فعدةٌ من أيام أخر"، فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يُرَوْن ويرجُون الرخصةَ تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصومَ أن يفطرا ويُطعما عن كل يوم مسكينًا، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها.
٢٧٥٦- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان، فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك، وعليهما الفدية لكل يَوم يفطرانه طعامُ مسكين، فأنزل الله بعد ذلك:"شهرُ
426
رَمضانَ الذي أنزل فيه القرآن"، إلى قوله:"فعدةٌ من أيام أخر".
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك:"وَعلى الذين يُطيقونه"، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين = لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٥٧- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.
٢٧٥٨- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عَزْرَة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. (١)
(١) الخبر: ٢٧٥٨- هناد: هو ابن السري، مضت ترجمته: ٢٠٥٨. وعبدة: هو ابن سليمان الكلابي، مضت ترجمته: ٢٣٢٣. وهذا الخبر في معنى الحديثين الماضيين: ٢٧٥١، ٢٧٥٢، من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذانك حديثان، لأنهما إخبار من ابن عباس عن نسخ الفدية وجواز الإفطار عامة، وإثباتهما في حق الشيخ الكبير ومن ذكر معه هناك. وأما هذا فإنه فتوى من ابن عباس.
ووقع هنا في المطبوعة"عروة" بدل"عزرة"، كما كان في ذينك الحديثين. فأثبتنا الصواب هنا كما أثبتناه هناك.
427
٢٧٥٩- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة،... ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك. (١)
٢٧٦٠- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن نافع، عن علي بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع. (٢)
(١) الخبر: ٢٧٥٩- وهذا الخبر كسابقه، فتوى أخرى من ابن عباس لأم ولده، بمعنى التي قبلها. ولكن وقع هنا في المطبوعة سقط في الإسناد، بين"عبدة" و"سعيد بن جبير" نرجع أن صوابه كالإسناد السابق. ولكن لم نستجز أن نثبته عن غير ثبت، فوضعنا أصفارًا موضع السقط.
ويدل على صحة هذا السقط: أن الدارقطني روى هذا الخبر، في سننه، ص: ٢٥٠، من طريق روح، وهو ابن عبادة: "حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس قال لأم ولد له.. ". ثم قال الدارقطني عقبه: "إسناد صحيح".
وذكره السيوطي ١: ١٧٩، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
(٢) الخبر: ٢٧٦٠- وهذا إسناد صحيح، موقوف على ابن عمر.
علي بن ثابت بن عمرو بن أخطب البصري الأنصاري: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم ٣/١/١٧٧، ولم أجد ترجمته في موضع آخر. وملخص ما قال: روى عن نافع، ومحمد بن يزيد، ومحمد بن زياد. روى عنه سعيد بن أبي عروبة، وعمران القطان، وحماد بن سلمة، وسويد بن إبراهيم. ثم روى عن أحمد بن حنبل، قال: "علي بن ثابت بن أبي زيد الأنصاري: ثقة، حدث عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد زيد، وأخوه عزرة بن ثابت، وأخوه محمد بن ثابت". ثم ذكر ابن أبي حاتم، أنه سأل أباه"عن علي بن ثابت، أخي عزرة ومحمد ابني ثابت؟ فقال: لا بأس به".
ووجدت البخاري ذكره في الكبير ١/١/٥٠، والصغير، ص: ١٧١، في ترجمة أخيه محمد بن ثابت".
وجدهم"عمرو بن أخطب الأنصاري"، كنيته: أبو زيد، وقد اشتهر بكنيته. ترجمه ابن سعد ٧/١٧-١٨، قال: "وله مسجد ينسب إليه بالبصرة".
وبقية الإسناد -قبل علي بن ثابت وبعده- ثقات معروفون، كما هو ظاهر.
ولم يذكر الطبري لفظ خبر ابن عمر:
وذكره السيوطي ١: ١٧٩، عن نافع: "قال: أرسلت إحدى بنات ابن عمر تسأله عن صوم رمضان وهي حامل؟ قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا"، ونسبه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني.
والدارقطني رواه ص: ٢٥٠، بإسنادين: من طريق حماد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي حبلى؟ فقال: أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا، ولا تقضي".
ثم رواه من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملا، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا".
428
٢٧٦١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن ابن عباس قال، لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه، عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسها.
٢٧٦٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر.
٢٧٦٣- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس نحوه - غير أنه لم يقل: حين يُفطر وحين يَتسحر.
٢٧٦٤- حدثنا هناد قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره:"فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام. فعلى كل واحد منهما طعامُ مسكين: مُدٌّ من حنطة لكلّ يوم حتى يمضيَ رَمضان.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ"، وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
٢٧٦٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج،
429
عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"يُطوَّقونه".
٢٧٦٦- حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عصام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وَعلى الذين يُطوقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: فكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.
٢٧٦٧- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وَعلى الذين يُطوَّقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: وكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.
٢٧٦٨- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وعلى الذين يُطوَّقونه"، ويقول: هو الشيخ الكبير يُفطر ويُطعِم عنه.
٢٧٦٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية:"وعلى الذين يُطوَّقونه"، -وكذلك كان يقرؤها-: إنها ليست منسوخة، كلِّف الشيخُ الكبير أن يُفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا.
٢٧٧٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ:"وعلى الذين يُطوَّقونه".
٢٧٧١- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمران بن حدَير، عن عكرمة قال:"الذين يُطيقونه" يصومونه، ولكن الذين"يُطوَّقونه"، يعجزون عنه.
٢٧٧٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي عمرو مولى عائشة، أن عائشة كانت تقرأ:"يُطوَّقونه".
٢٧٧٣- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء أنه كان يقرؤها"يطوَّقونه". قال ابن جريج: وكان مجاهد يقرؤها كذلك.
430
٢٧٧٤- حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا خالد، عن عكرمة:"وعلى الذين يُطيقونه" قال، قال ابن عباس: هو الشيخُ الكبير. (١)
٢٧٧٥- حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وعلى الذين يُطوَّقونه" قال: يَتجشمونه يَتكلفونه. (٢)
٢٧٧٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مسلم الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يُطيق فيفطر ويُطعم كل يوم مسكينًا.
٢٧٧٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس في قول الله:"وَعلى الذين يُطيقونه"، قال: يُكلَّفونه، فديةٌ طعامُ مسكين واحد. قال: فهذه آية منسوخةٌ لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يُطيق الصيام، أو مريض يعلم أنه لا يُشفى.
٢٧٧٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"الذين يطيقونه"، يتكلَّفونه، فديةٌ طعام مسكين واحد، ولم يُرخَّص هذا إلا للشيخ الذي لا يُطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى - هذا عن مجاهد.
٢٧٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) الأثر: ٢٧٧٤- أخشى أن يكون الصواب هنا: "يطوقونه".
(٢) الأثر: ٢٧٧٥- إسماعيل بن موسى السدي الفزاري، قيل: هو ابن بنت السدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، مات سنة ٢٤٥.
431
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقول: ليست بمنسوخة.
٢٧٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، يقول: من لم يطق الصوم إلا على جَهد، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا، والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذي به سُقمٌ دائم.
٢٧٨١- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هو الشيخ الكبير، والمرء الذي كان يصومُ في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموتَ، فهو يطعم كل يوم مسكينًا - قال هناد: قال عبيدة: قيل لمنصور: الذي يطعم كل يوم نصف صاعٍ؟ قال: نعم. (١)
٢٧٨٢- حدثنا هناد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود قال: سألتُ مجاهدًا عن امرأة لي وافقَ تاسعها شهرَ رَمضان، ووافق حرًّا شديدًا، فأمرني أن تُفطر وتُطعم. قال: وقال مجاهد: وتلك الرخصة أيضًا في المسافر والمريض، فإن الله يقول:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين".
٢٧٨٣- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، يفطرون في رمضان، ويطعمون عن كل يوم مسكينًا، ثم قرأ:"وعلى الذينَ
(١) الخبر: ٢٧٨١- عبيدة، بفتح العين: هو ابن حميد، بضم الحاء، بن صهيب الحذاء، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له البخاري في الصحيح. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري، ص: ٢١٢، وابن سعد ٧/٢/٧٢-٧٣، وابن أبي حاتم ٣/١/٩٢-٩٣، وتاريخ بغداد ١١: ١٢٠-١٢٣.
432
يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". (١)
٢٧٨٤- حدثنا علي بن سَعيد الكندي قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوَم، يُفطر ويطعم مكانَ كل يوم مسكينًا. (٢)
٢٧٨٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه، الشيخُ والشيخة.
٢٧٨٦- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حَماد، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: هو الشيخُ والشيخة.
٢٧٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حُدير، عن عكرمة أنه كان يقرؤها:"وَعلى الذين يُطيقونه" فأفطروا.
٢٧٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم، عمن حدثه عن ابن عباس قال: هي مثبتةٌ للكبير والمرضع والحامل، وعلى الذين يُطيقونَ الصيام.
٢٧٨٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله:"وعلى الذين يطيقونه"؟ قال: بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت: الكبيرُ الذي
(١) الأثر ٢٧٨٣- أبو معاوية الضرير محمد بن خازم التميمي السعدي. قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث، يدلس، كان مرجئا. مات سنة ١٩٣.
(٢) الأثر ٢٧٨٤- في المطبوعة: "علي بن سعد". علي بن سعيد بن مسروق الكندي أبو الحسن الكوفي روى عن حفص بن غياث وابن المبارك وغيرهما. وروى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم، قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة ٢٤٩.
433
لا يستطيعُ الصوم، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد؟ قال: بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء، فأما مَن استطاع بجهد فليصمه، ولا عذر له في تركه.
٢٧٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن أبي يزيد:"وَعلى الذين يُطيقونه" الآية، كأنه يعني الشيخَ الكبير - قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: نزلت في الكبير الذي لا يَستطيع صيامَ رمضان، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له: كم طعامه؟ قال: لا أدري، غير أنه قال: طعام يوم.
٢٧٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله:"فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصومَ، يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره:"فمن شَهد منكم الشهر فَليصمه".
لأن"الهاء" التي في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه"، من ذكر"الصيام" ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ.
هذا، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله ﷺ - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه
434
وسُقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرضَ صومه، وبطل الخيار والفديةُ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف تدَّعي إجماعًا من أهل الإسلام = على أنّ من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت، فغير جائز له إلا صومُه = وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضعُ إذا خافتا على أولادهما، لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:
٢٧٩٢- حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: أتيتُ رسولَ الله ﷺ وهو يَتغدَّى، فقال:" تعالَ أحدِّثك، إن الله وَضع عن المسافر والحامل والمرضع الصومَ وشَطرَ الصلاة"؟ (١)
(١) الحديث: ٢٧٩٢- قبيصة: هو ابن عقبة السوائي، مضت ترجمته: ٤٨٩، وأشرنا هناك إلى الكلام في روايته عن سفيان الثوري، وأنه غير مقبول، ونزيد هنا أن الشيخين أخرجا له في الصحيحين من روايته عن الثوري، كما في كتاب رجال الصحيحين، ص: ٤٢٢.
أبو قلابة - بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد الجرمي -بفتح الجيم وسكون الراء- أحد الأعلام الحفاظ من التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/١/١٣٣-١٣٥. وابن أبي حاتم ٢/٢/٥٧-٥٨، ورجال الصحيحين: ٢٥١، وتذكرة الحفاظ ١: ٨٨-٨٩.
أنس - في هذا الحديث فقط: هو أنس بن مالك الكعبي، من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان. وهو صحابي ليس له رواية عن النبي ﷺ إلا هذا الحديث الواحد. وبعضهم يذكر في نسبته"القشيري" يذهبون إلى أن"قشيرًا" هو ابن كعب بن ربيعة. وهذا هو الثابت في بعض كتب الأنساب، مثل الاشتقاق لابن دريد، ص: ١٨١، وجمهرة الأنساب لابن حزم، ص: ٢٧١، ٢٧٢، وقلدهم الحافظ في التهذيب. ولكن البخاري قال في ترجمته في التاريخ الكبير ١/٢/٣٠: "وكعب إخوة قشير". وقال ابن أبي حاتم في ترجمته ١/٢/٢٨٦: "من بني عبد الله بن كعب، وكعب أخو قشير". وفي رواية أبي داود لهذا الحديث - كما سيأتي في التخريج إن شاء الله -: "عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد الله بن كعب، إخوة بني قشير". وقال الحافظ في الإصابة ١: ٧٣"وهذا هو الصواب، وبذلك جزم البخاري في ترجمته. وعلى هذا فهو كعبي، لا قشيري ولأن قشيرًا هو ابن كعب، ولكعب ابن اسمه عبد الله. فهو من إخوة قشير، لا من قشير نفسه".
و"أنس بن مالك"- في الرواة، خمسة نفر: "أنس بن مالك" بن النضر الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو المراد في أكثر الأحاديث عند إطلاق اسم"أنس". ثم"أنس بن مالك الكعبي" - هذا الذي هنا. وهذان صحابيان. و"أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي"، "والد الإمام"مالك بن أنس"، وهو تابعي. ثم"أنس بن مالك الصيرفي"، شيخ خلاد بن يحيى. و"أنس بن مالك" شيخ لأبي داود الطيالسي. وهذان متأخران، يرويان عن التابعين. وقد ترجم ابن أبي حاتم لهؤلاء الخمسة. وترجم البخاري في الكبير الثلاثة الأول فقط. وذكرهم كلهم ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر، ص: ٣٢٠. وقال في شأن"الكعبي" هذا، وأشار إلى حدجيثه الذي هنا-: روى هذا الحديث الثوري، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس [يعني الكعبي]. وعند الثوري بهذا الإسناد عن أنس الأنصاري أحاديث".
وهذا حق. ولذلك كان إطلاق اسم"أنس" هنا غير مستساغ ممن أطلقه، سواء أكان الطبري أم أحد شيوخ الإسناد، لما فيه من الإيهام.
والحديث رواه البخاري في الكبير ١/٢/٣٠، عن قبيصة -شيخ هناد في هذا الإسناد- وعن محمد بن يوسف، كلاهما عن الثوري، به. موجزًا كعادته. وصرح في الإسناد بأنه"عن أنس بن مالك الكعبي".
ورواه النسائي ١: ٣١٥-٣١٦، عن عمر بن محمد بن الحسن -هو ابن التل- عن أبيه، عن الثوري، به، بلفظ: "إن الله وضع عن المسافر، يعني نصف الصلاة، والصوم، وعن الحامل والمرضع".
ورواه أحمد في المسند ٥: ٢٩ (حلبي) عن ابن علية، عن أيوب، قال: "كان أبو قلابة حدثني بهذ الحديث، ثم قال لي: هل لك في الذي حدثنيه؟ قال: فدلني عليه، فأتيته، فقال: حدثني قريب لي يقال له أني بن مالك.. ". فذكره بقصة في أوله.
ففي هذه الرواية أن بين أبي قلابة وأنس الكعبي رجلا مبهمًا هو الذي حدثه به عنه.
وكذلك ذكر البخاري أن بينهما رجلا: فرواه عقب ذاك، عن يحيى بن موسى، عن عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة"عن رجل من بني عامر: أن رجلا يقال له أنس حدثه: أنه قدم المدينى - نحوه".
وأنا أرى ترجيح رواية قبيصة ومحمد بن يوسف، التي ليس فيها الرجل المبهم، وقد تابعهما عليها محمد بن الحسن التل. فإن الثوري أحفظ من معمر ومن ابن علية معًا، وهو المقدم على من خالفه في الحفظ والإتقان.
وللحديث إسناد آخر، من وجه آخر. رواه أبو هلال محمد بن سليم الراسبي، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس الكعبي، وهو إسناد جيد، بل صحيح، وأبو هلال الراسبي: ثقة لا بأس به. وعبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري: ثقة أيضًا.
فرواه أحمد في المسند ٤: ٣٤٧ (حلبي)، عن وكيع، وعن عفان. ورواه عقبة ابنه عبد الله عن شيبان. ورواه أحمد أيضًا ٥: ٢٩ (حلبي)، عن عبد الصمد. ورواه ابن سعد في الطبقات ٧/١/٣٠، عن وكيع وعفان. ورواه أبو داود: ٢٤٠٨، عن شيبان بن فروخ. ورواه الترمذي ٢: ٤٢، عن أبي كريب ويوسف بن عيسى، عن وكيع. ورواه ابن ماجه: ١٦٦٧، عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، عن وكيع. ورواه البيهقي ٤: ٢٣١، من طريق عبيد الله بن موسى، وأبي نعيم. كل هؤلاء وكيع، وعفان، وشيبان، وعبد الصمد، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم - رووه عن أبي هلال الراسبي، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس الكعبي، به مطولا، في قصة.
وهذا إسناد متصل بالسماع، لأن ابن سعد قال عقب روايته: "قال عفان في الحديث كله: حدثنا قال: حدثنا، إلى آخره". فهذا نص على سماع كل شيخ ممن قبله إلى الصحابي.
وقال الترمذي: "حديث أنس بن مالك الكعبي: حديث حسن. ولا نعرف لأنس بن مالك هذا، عن النبي ﷺ - غير هذا الحديث الواحد". ونقل الحافظ في التهذيب ١: ٣٧٩، عن الترمذي أنه"صححه". ولكن الذي في أيدينا من نسخ الترمذي قوله"حديث حسن" فقط. فتستفاد زيادة تصحيحه من نقل الحافظ.
435
قيل: إنّا لم ندَّع إجماعًا في الحامل والمرضع، وإنما ادعينا في الرجال الذين
436
وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع، فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله: (وعلى الذين يطيقونه) وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به، (١) لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال، لقيل: وعلى اللواتي يُطقنه فدية طعامُ مسكين، لأن ذلك كلام العرب، إذا أفرد الكلامُ بالخبر عنهنّ دُون الرجال. فلما قيل:"وعلى الذين يُطيقونه"، كان معلومًا أنّ المعنيَّ به الرجالُ دون النساء، أو الرجالُ والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع - على أنّ من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صومُ شهر رمضان، فغيرُ مرخص له في الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية، وعُلم أن النساء لم يُردن بها لما وصفنا: من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلامُ بالخبر عنهن:"وعلى اللواتي يطقنه"، والتنزيل بغير ذلك.
وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان صحيحًا، فإنما معناه: أنه وضَع عن الحامل والمرضع الصومَ ما دامتا عاجزتين عنه، حتى تُطيقا فتقضيا، كما وُضع عن المسافر في سفره، حتى يقيم فيقضيه - لا أنهما أُمِرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم"، دلالةٌ على أنه ﷺ إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله:"وعلى الذين يُطيقونه
(١) "خلا الرجال" أي خرجوا من قولهم: "أنا منك خلاء، وخلي"، أي بريء منك. ويقال: "هو خلو من هذا الأمر" أي خارج، أو خال منه.
437
فدية طعامُ مسكين"، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية، لأن النبي ﷺ قد جمع بين حُكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قولٌ، إن قاله قائلٌ، خلافٌ لظاهر كتاب الله، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله:"وعلى الذين يطيقونه"، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ.
* * *
وأما قراءة من قرأ ذلك:"وعلى الذين يُطوَّقونه" فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلافٌ، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وِرَاثة عن نبيهم ﷺ نقلا ظاهرًا قاطعًا للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين، هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله. ولا يُعترض على ما قد ثَبت وقامت به حُجة أنه من عند الله، بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
* * *
وأما معنى"الفدية" فإنه: الجزاء، من قولك:"فديت هذا بهذا"، أي جزيته به، وأعطيته بدلا منه.
* * *
ومعنى الكلام: وعلى الذين يُطيقون الصيام جزاءُ طعام مسكين، لكلّ يوم أفطرَه من أيام صيامه الذي كتب عليه.
* * *
وأما قوله:"فدية طعامُ مسكين"، فإنّ القرأة مختلفةٌ في قراءته. فبعضٌ يقرأ بإضافة"الفدية" إلى"الطعام"، وخفض"الطعام" - وذلك قراءة عُظْم قراء أهل المدينة (١) - بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعامَ مسكين.
(١) في المطبوعة: "معظم قراء"، وصواب لفظ الطبري ما أثبت، كما مضى مرارًا، وكما سيأتي بعد قليل على الصواب. ومعنى الحرفين سواء، على كل حال.
438
فلما جعل مكان"أن يفديه""الفدية" أضيف إلى"الطعام"، كما يقال"لزمني غَرامةُ درهم لك"، بمعنى: لزمني أن أغرَم لك درهمًا.
وآخرون يقرأونه بتنوين"الفدية"، ورفع"الطعام"، بمعنى الإبانة في"الطعام" عن معنى"الفدية" الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال:"لزمني غرامةٌ، درهمٌ لك"، فتبين"بالدرهم" عن معنى"الغرامة" ما هي؟ وما حدُّها؟ وذلك قراءةُ عُظْم قُراء أهل العراق.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ"فديةُ طعام" بإضافة"الفدية" إلى"الطعام"، لأن"الفدية" اسم للفعل، وهي غير"الطعام" المفديّ به الصوم.
وذلك أن"الفِدْية" مصدر من قول القائل:"فَديت صَوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية"، كما يقال:"جلست جِلْسة، ومَشيتُ مِشْية"."والفدية" فعل، و"الطعام" غيرها. فإذْ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أصَحّ القراءتين إضافة"الفدية" إلى"الطعام"، (١) وواضحٌ خطأ قول من قال: إن ترك إضافة"الفدية" إلى الطعام، أصح في المعنى، من أجل أن"الطعام" عنده هو"الفدية". فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن"الفدية" مقتضية مفديًّا، ومفديًّا به، وفدية. فإن كان"الطعام" هو"الفدية""والصوم" هو المفديّ به، فأين اسم فعل المفتدي الذي هو"فدية" إنّ هذا القول خطأ بين غير مشكل.
* * *
وأما"الطعام" فإنه مضاف إلى"المسكين". والقرأة في قراءة ذلك مختلفون.
فقرأه بعضهم بتوحيد"المسكين"، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
(١) في المطبوعة: "فتبين أن أصح القراءتين.. "، ومثل هذا التحريف كثير فيما مضى، والصواب ما أثبت، وقوله بعد: "وواضح خطأ قول القائل.. "، معطوف عليه. فهذا هو صواب السياق.
439
مسكين واحد لكل يوم أفطره، كما:-
٢٧٩٣- حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن أبي عمرو أنه قرأ:"فديةٌ" -رفع منون-"طعام" -رفع بغير تنوين-"مسكين"، وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قراء أهل العراق.
* * *
وقرأه آخرون بجمع"المساكين"،"فدية طعام مَساكين" بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر، إذا أفطر الشهر كله، كما:-
٢٧٩٤- حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي، عن يعقوب، عن بشار، عن عمرو، عن الحسن:"طعام مساكين"، عن الشهر كله.
* * *
قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"طعام مسكين" على الواحد، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حُكم المفطر يومًا واحدًا، وصُولا إلى معرفة حُكم المفطر جميع الشهر -وليس في إبانة حكم المفطر جميعَ الشهر، وصولٌ إلى إبانة حكم المفطر يومًا واحدًا، وأيامًا هي أقل من أيام جميع الشهر -، وأن كل"واحد" يُترجم عن"الجميع"، وأن"الجميع" لا يترجم به عن"الواحد". فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد. (١)
* * *
واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا.
فقال بعضهم: كان الواجبُ من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.
وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم، مدًّا من قمح ومن سائر أقواتهم.
(١) الترجمة: البدل، كما سلف مرارًا. انظر ٢: ٣٤٠، وفهرس المصطلحات.
440
وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح، أو صاعًا من تمر أو زبيب.
وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوَّته يومَه الذي أفطرَه.
وقال بعضهم: كان ذلك سحورًا وَعشاءً، يكون للمسكين إفطارًا.
وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل، فكرهنا إعادة ذكرها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-
٢٧٩٥- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس:"فمن تطوع خيرًا"، فزاد طعامَ مسكين آخر،"فهو خيرٌ له وأن تصومُوا خيرٌ لكم".
٢٧٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس مثله.
٢٧٩٧- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"فمن تطوع خيرًا"، قال: من أطعم المسكين صاعًا.
٢٧٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فمن تطَوع خيرًا فهو خيرٌ له"، قال: إطعامُ مَساكين عن كل يوم، فهو خير له.
٢٧٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس:"فمن تطوع خيرًا"، قال: طعامُ مسكين.
٢٨٠٠- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
441
حنظلة، عن طاوس نحوه.
٢٨٠١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس:"فمن تطوع خيرًا"، قال: طعام مسكين.
٢٨٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن ليث عن طاوس مثله.
٢٨٠٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن هارون قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء أنه قرأ:"فمن تطوع" -بالتاء خفيفة [الطاء]-"خيرًا"، قال: زاد على مسكين. (١)
٢٨٠٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن تَطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، فإن أطعم مسكينين فهو خير له.
٢٨٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه:"فمن تطوع خيرًا فهو خير له"، قال: من أطعم مسكينًا آخر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية.
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٠٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب:"فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرًا فزاد المسكين على قَدر طعامه.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام. والقراءة الأخرى في هذه الكلمة: "يَطَّوَّعْ" بياء الغيبة، وفتح الياء، وتشديد الطاء وفتحها، وتشد الواو وفتحها، وجزم العين.
442
٢٨٠٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد:"فمن تطوع خيرًا"، فزاد طعامًا،"فهو خير له".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله:"فمن تطوع خيرًا"، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله:"فمن تطوع خيرًا"، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأنْ تَصوموا"، ما كتب عليكم من شهر رمضان،"فهو خير لكم" من أن تفطروه وتفتدوا، كما:-
٢٨٠٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأنْ تَصوموا خيرٌ لكم"، ومن تكلف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له.
٢٨٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب:"وأن تَصُوموا خيرٌ لكم"، أي: إن الصيامَ خير لكم من الفدية.
٢٨١٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
443
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تصومُوا خيرٌ لكم".... (١)
* * *
وأما قوله:"إن كنتم تعلمون"، فإنه يعني: إن كنتم تعلمون خيرَ الأمرين لكم أيها الذين آمنوا، من الإفطار والفدية، أو الصوم على ما أمركم الله به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾
قال أبو جعفر:"والشهر"، فيما قيل، أصله من"الشهرة". يقال منه:"قد شَهر فلانٌ سَيْفه" -إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه-"يشهرُه شهرًا". وكذلك"شَهر الشهر"، إذا طلع هلاله،"وأشهرْنا نحن"، إذا دخلنا في الشهر.
* * *
وأما"رمضان"، فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمى بذلك لشدة الحرِّ الذي كان يكون فيه، حتى تَرْمَض فيه الفِصَال، (٢) كما يقال للشهر الذي يُحجّ فيه"ذو الحجة"، والذي يُرتبع فيه"ربيع الأول، وربيع الآخر".
* * *
وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال:"رمضان"، ويقول: لعله اسمٌ من أسماء الله.
٢٨١١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
(١) الأثر: ٢٨١٠- سقط آخره، ولم أجده في المراجع. ولكن صوابه كالذي قبله: من الإفطار والفدية، كما هو ظاهر.
(٢) الفصال جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه. ورمض الفصال: أن تحترق الرمضاء -وهو الرمل- فتبرك الفصال من شدة حرها، وإحراقها أخفافها وفراسنها. ورمضت قدمه من الرمضاء: احترقت.
444
مجاهد: أنه كره أن يقال:"رمضان"، ويقول: لعله اسم من أسماء الله لكن نقول كما قال الله:"شهر رمضان".
* * *
وقد بينت فيما مضى أن"شهر" مرفوع على قوله:"أيامًا معدودات"، هن شهر رمضان. (١) وجائز أن يكون رفعه بمعنى: ذلك شهر رمضان، وبمعنى: كتب عليكم شهرُ رمضان.
وقد قرأه بعض القراء"شهرَ رَمضان" نصبًا، بمعنى: كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهرَ رمضان. وقرأه بعضهم نصبًا بمعنى: أن تصوموا شهرَ رمضان خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضًا نصبه على وجه الأمر بصومه، كأنه قيل: شهرَ رمضان فصومُوه. وجائز نصبه على الوقت، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في شهر رمضان.
* * *
وأما قوله:"الذي أنزل فيه القرآن"، فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، في ليلة القدر من شهر رمضان. ثم أنزل إلى محمد ﷺ على ما أراد الله إنزاله إليه، كما:-
٢٨١٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حسان بن أبي الأشرَس عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان، فجُعل في بيت العزَّة - قال أبو كريب: حدثنا أبو بكر، وقال ذلك السدي.
٢٨١٣- حدثني عيس بن عثمان قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حسان، عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدنيا. (٢)
(١) انظر ما سلف آنفًا: ٤١٥، ٤١٧.
(٢) الأثر: ٢٨١٣- في المطبوعة: "يحيى عن عيسى"، وهو خطأ. وانظر التعليق على الأثر رقم: ٣٠٠.
445
٢٨١٤- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة، عن النبي ﷺ قال:"نزلت صُحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراةُ لست مَضَين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاثَ عَشرة خلت، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان. (١)
٢٨١٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن". أما"أنزل فيه القرآن"، فإن ابن عباس قال: شهر رمضان، والليلةُ المباركة ليلةُ القدر، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في رمضان، نزل القرآن جملةً واحدة من الزُّبُر إلى البيت المعمور، وهو"مواقع النجوم" في السماء الدنيا حيث وقع القرآن، ثم نزل محمد ﷺ بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلا رَسَلا. (٢)
٢٨١٦- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يُوحِيَ منه شيئًا أوحاه، فهو قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [سورة القدر: ١].
(١) الحديث: ٢٨١٤- عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني: ثقة من شيوخ البخاري. و"الغداني": بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة.
عمران القطان: هو عمران بن داور، مضى في: ١٢٦. وكنيته"أبو العوام".
أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ووقع في المطبوعة"عن ابن أبي المليح". وزيادة"ابن" خطأ واضح.
واثلة - بالثاء المثلثة: هو ابن الأسقع، صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: ١٧٠٥١ (٤: ١٠٧ حلبي)، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن عمران أبي العوام، بهذا الإسناد، وهو إسناد صحيح.
ونقله ابن كثير ١: ٤٠٦، عن المسند. وكذلك السيوطي ١: ١٨٩، وزاد نسبته إلى محمد بن نصر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب.
(٢) رسلا رسلا: أي قطعة قطعة، وفرقة فرقة.
446
٢٨١٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر نحوه - وزاد فيه: فكان من أوله وآخره عشرون سنة.
٢٨١٨- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآنُ كله جملةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان، إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شَيئًا أنزله منه، حتى جمعه.
٢٨١٩- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة، ثم فرَّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [سورة الواقعة: ٧٥]، قال: نزل مفرَّقًا.
٢٨٢٠- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
٢٨٢١- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، قرأه ابن جريج في قوله: (١) "شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن"، قال: قال ابن عباس: أنزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج: كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينزل من القرآن في تلك السنة. فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، فلا ينزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه. ومثل ذلك (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) و (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [سورة الدخان: ٣].
(١) هكذا في المطبوعة، ولم أدر ما هو، وأخشى أن يكون صوابه"قرأ ابن جريج قوله.. ".
447
٢٨٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال له رجل: إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله:"شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره! قال: إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدةً، ثم أنزل على مَواقع النجوم رَسَلا في الشهور والأيام.
* * *
وأما قوله:"هُدى للناس"، فإنه يعني رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ وقَصْد المنهج. (١)
* * *
وأما قوله:"وَبيِّنات"، فإنه يعني: وواضحات"من الهدى" - يعني: من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه. (٢)
* * *
وقوله:"والفرقان" يعني: والفصل بين الحق والباطل، (٣) كما:-
٢٨٢٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى: أما"وبينات من الهدى والفرقان"، فبينات من الحلال والحرام.
* * *
(١) انظر تفسير"هدى" فيما سلف في فهرس اللغة.
(٢) انظر تفسير"بينات" فيما سلف في فهرس اللغة.
(٣) انظر تفسير"فرقان" فيما سلف ١: ٩٨-٩٩.
448
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"شهود الشهر".
فقال بعضهم: هو مُقام المقيم في داره. قالوا: فمن دخل عليه شهرُ رمضان وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله، غابَ بعدُ فسافر، أو أقام فلم يبرح.
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٢٤- حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: هو إهلاله بالدار. يريد: إذا هلَّ وهو مُقيم.
٢٨٢٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال. في قوله:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سَفر، فإن شاء صامَ وإن شَاء أفطر.
٢٨٢٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة -في الرجل يُدركه رمضان ثم يُسافر - قال: إذا شهدتَ أوله فصُمْ آخره، ألا تراه يقول:"فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه"؟
٢٨٢٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام القردوسي، عن محمد بن سيرين قال، سألت عَبيدة: عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم؟ قال: من صام أول الشهر فليصم آخره، ألا تراه يقول: فَمنْ شهد منكم الشهرَ فليصمه". (١)
(١) الأثر: ٢٨٢٧- في المطبوعة: "الفردوسي"، والصواب بالقاف المضمومة، هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبو عبد الله البصري، روي عن حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد وأنس وحفص بني سيرين وغيرهم، وروى عنه عكرمة بن عمار وسعيد بن أبي عروبة وابن علية وغيرهم. يقال هو منسوب إلى درب بالبصرة يقال له"القراديس"، وهو جمع قردوس، وهو أبو حي من اليمن، سمى الدرب بهم. ويقال: هو مولى لهذ الحي. قال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. ومات سنة ١٤٦.
449
٢٨٢٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"منْ شَهد منكم الشهر فليصمه"، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصُمه، وإن خَرج فيه فليصُمه، فإنه دَخل عليه وهو في أهله.
٢٨٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا قتادة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي -فيما يحسب حماد- قال: من أدرك رَمضان وهو مقيم لم يَخرج، فقد لزمه الصوم، لأن الله يقول:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه".
٢٨٣٠- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبد الرحمن، عن إسماعيل بن مسلم، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: من كان مقيمًا فليصُمه، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه.
٢٨٣١- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: من شهد أول رمضان فليصم آخرَه.
٢٨٣٢- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن عليًّا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيمٌ ثم سافر، فعليه الصوم.
٢٨٣٣- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عُبيدة الضبي، عن إبراهيم قال: كان يقول: إذا أدركك رمضانُ فلا تسافر فيه، فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت، فلا تفطر، صُمه.
٢٨٣٤- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري. قال: كنا عند عُبيدة فقرأ هذه الآية:
450
"فَمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: من صام شيئًا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج. قال: وكان ابن عباس يقول: إن شاء صَام وإن شَاء أفطر.
٢٨٣٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- قالا جميعًا، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد، عن أم ذرة، قالت: أتيت عائشه في رمضان، قالت: من أين جئتِ؟ قلت: من عند أخي حنين. قالت: ما شأنه؟ قالت: ودَّعته يُريد يرتحل. قالت: فأقرئيه السلام ومُريه فليُقم، فلو أدركني رمضانُ وأنا ببعض الطريق لأقمت له. (١)
٢٨٣٦- حدثنا هناد قال، حدثنا إسحاق بن عيسى، عن أفلح، عن عبد الرحمن، قال: جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يُسلّم عليها، قالت: وأين تريد؟ قال: أردتُ العمرة. قالت: فجلستَ حتى إذا دخل عليك الشهر خرجتَ فيه! قال: قد خرج ثَقَلي! قالت: اجلس، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهرَ رمضان. (٢)
* * *
(١) الخبر: ٢٨٣٥- أبو زيد: هو المدني، يعد في أهل البصرة. وهو تابعي ثقة، وثقه ابن معين. وترجمه البخاري في الكنى، رقم: ٧٨٤، وقال: "سمع ابن عمر". وابن أبي حاتم ٤/٢/٤٥٨-٤٥٩. وفي التهذيب عن الآجري، عن أبي داود: "سألت أحمد عنه، فقال: تسأل عن رجل روى عنه أيوب؟ "
أم ذرة -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- مولاة عائشة: تابعية ثقة. مترجمة في التهذيب. وابن سعد ٨: ٣٥٧، وذكر لها روايتين أخريين عن عائشة، روى أحدهما مطولا قبل ذلك في ترجمة عائشة ٨: ٤٦.
أما أخوها"حنين": فإني لم أجد له ذكرًا في غير هذا الموضع.
والخبر ذكره السيوطي ١: ١٩١، بنحو معناه، ونسبه لعبد بن حميد فقط. ولم يسم فيه"حنين" أخو"أم ذرة"، بل ذكر أنه أخوها فقط.
(٢) الخبر: ٢٨٣٦- إسحاق بن عيسى: هو ابن الطباع البغدادي، ثقة من الرواة عن مالك وطبقته.
أفلح: هو ابن حميد بن نافع المدني، وهو ثقة معروف، روى له الشيخان.
عبد الرحمن هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ثقة إمام، من خيار المسلمين. ولد في حياة عائشة.
إبراهيم بن طلحة: هو إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، نسب هنا إلى جده. وهو تابعي ثقة رفيع الشأن.
وهذا الخبر نقله السيوطي ١: ١٩١، ونسبه لعبد بن حميد فقط. وفيه أنه"عن عبد الرحمن بن القاسم: أن إبراهيم بن محمد جاء إلى عائشة.. "، فذكر نحو مما هنا، بمعناه.
451
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن شهد منكم الشهر فليصُمْ ما شهد منه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٣٧- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق: أن أبا مَيسرة خرج في رمضان، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب.
٢٨٣٨- حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا، فمرّ بالفرات وهو صائم، فأخذ منه كفًّا فشربه وأفطر.
٢٨٣٩- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرثد: أن أبا مَيسرة سافرَ في رمضان، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد، عن مرثد، وإنما هو أبو مَرثد.
٢٨٤٠- حدثني محمد بن عمارة الأسديّ قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرثد: أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان، فلما انتهى إلى الجسر أفطر. (١)
(١) الخبران: ٢٨٣٩، ٢٨٤٠- هما من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن"مرثد"، عن"أبي ميسرة".
وقال الطبري في أولهما: "هكذا قال هناد: عن مرثد، وإنما هو: عن أبي مرثد"! يعني أن شيخه في أولهما، وهو"هناد"، أخطأ في ذلك، ومن عجب أنه يرويه عقبه في الرواية الثانية، عن شيخ آخر، بإسناد آخر إلى أبي إسحاق -كرواية هناد، التي زعم أنه أخطأ فيها!
وعندي أن أبا جعفر -رحمه الله- هو الذي وهم، أصاب الصواب فأخطأه:
أما أولا: فلاتفاق روايين حافظين ثقتين، هما سفيان الثوري في الإسناد الأول، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في الإسناد الثاني - كلاهما عن أبي إسحاق أنه"عن مرثد".
وأما ثانيًا: فلأنا لا نعرف في الرواة من كنيته"أبو مرثد"، إلا"أبا مرثد الغنوي كناز بن الحصين"، وهو صحابي قديم الوفاة، مات سنة ١٢. إلا أن يكون الطبري يعرف راويًا آخر بهذه الكنية لم يصل إلينا خبره. وما أظن.
وأبو ميسرة، صاحب الخبر في الروايتين: هو عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، وهو تابعي كبير ثقة، من شيوخ أبي إسحاق السبيعي. مات سنة ٦٣، وشهد السبيعي جنازته. ولو شاء أبو إسحاق أن يروي هذا الخبر عنه دون واسطة، لما دفع عن ذلك، إذ عرف بالرواية عنه. ولكنه لم يشأ أن يدلس في خبر لم يشهده بنفسه، فرواه عمن شهده. وهو"مرثد".
والراجح عندي: أنه"مرثد بن عبد الله اليزني"، وهو تابعي أقدم قليلا من السبيعي. مات مرثد سنة ٩٠. ومات السبعي -وهو تابعي أيضًا- سنة ١٢٦ أو بعدها بقليل.
فعن هذا كله رجحت -بل استيقنت- أن أبا جعفر رحمه الله، هو الذي وهم.
452
٢٨٤١- حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان، وعليٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ، قال: فصام - قال هناد: وأفطرت- قال أبو هشام: وأمرني فأفطرتُ.
٢٨٤٢- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عبد الرحمن بن عتبة، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب وهو جَاءٍ من أرض له، فصام، وأمرني فأفطرت، فدخل المدينة ليلا وكان راكبًا وأنا ماشٍ.
٢٨٤٣- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع -وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي- قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي: أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر.
٢٨٤٤- حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، قال لي سفيان: أحبُّ إليّ أن تُتمه.
٢٨٤٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة قال: سألت الحكمَ وحمادًا، وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي: اخرج. وقال حماد، قال إبراهيم: أما إذا كان العَشر، فأحبُّ إليَّ أن يقيم.
٢٨٤٦- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصومُ وهو مقيم رمضان ثم سافر، قالا إن شَاءَ أفطر.
* * *
453
وقال آخرون:"فَمن شهد منكم الشهر فليصمه"، يعني: فمن شهده عاقلا بالغًا مكلفًا فليصمه.
وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه، كانوا يقولون: من دخل عليه شهرُ رمضان وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صومه، فإن جُنّ بعد دُخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا، ثم أفاقَ بعد انقضائه، لزمه قضاءُ ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبًا على عقله، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فُرض.
قالوا: وكذلك لو دخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنونٌ، إلا أنه ممن لو كان صحيحَ العقل كان عليه صَوْمه، فلن ينقضي الشهر حتى صَح وَبرأ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك، فإنّ عليه قضاءُ صوْم الشهر كله، سوى اليوم الذي صامه بَعد إفاقته، لأنه ممن قد شَهد الشهر.
قالوا: ولو دَخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنون، فلم يفق حتى انقضى الشهرُ كله، ثم أفاق، لم يلزمه قضاء شيء منه، لأنه لم يكن ممن شَهده مكلَّفًا صَوْمَه.
قال أبو جعفر: وهذا تأويل لا معنى له، لأنّ الجنون إن كانَ يُسقط عمن كان به فَرْضَ الصومِ، من أجل فقد صاحبه عَقله جميع الشهر، فقد يجب أن يكونَ ذلك سبيلَ كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الجميعُ على أن من فقد عقله جميع شَهر الصوم بإغماء أو بِرْسام، (١) ثم أفاق بعد انقضاء الشهر، أن عليه قضاءُ الشهر كله. ولم يخالف ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأمة. وإذ كان إجماعًا، فالواجب أن يكون سبيلُ كل من كان زائلَ العقل جميع شهر الصوم، سبيلَ المغمى عليه. وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن تأويل الآية غير الذي تأوَّلها قائلو هذه المقالة: من أنه شُهود الشهر أو بعضه مكلفًا صومَه. وإذا بطل ذلك، فتأويل المتأوِّل الذي زعم أن معناه: فمن شهد أوله مقيما حاضرًا
(١) البرسام: علة يهذي فيها صاحبها. قالوا: هو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، ثم يتصل إلى الدماغ.
454
فعليه صَوْم جميعه، أبطلُ وأفسدُ، لتظاهر الأخبار عن رَسول الله ﷺ أنه خرج عَام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صَام بعضه، وأفطرَ وأمر أصحابه بالإفطار.
٢٨٤٧- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"سافرَ رسول الله ﷺ في رمضان من المدينة إلى مكة، حتى إذا أتى عُسْفان نزل به، فدعا بإناء فوضعه على يَده ليراه الناسُ، ثم شربه.
٢٨٤٨- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ بنحوه
٢٨٤٩- حدثنا هناد، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله ﷺ بنحوه. (١)
٢٨٥٠- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: مضى رسول الله ﷺ لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان، فصامَ رسول الله ﷺ وصامَ الناسُ معه، حتى إذا أتى الكُدَيْد -ما بين عُسْفان وأَمَج- أفطر.
٢٨٥١- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال خرج رسول الله
(١) الأحاديث: ٢٨٤٧-٢٨٤٩، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد.
فأولها فيه"عن مجاهد، عن ابن عباس"، وفي الآخرين بينها"طاوس".
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بأطول مما هنا: ٢٣٥٠، عن عبيدة، عن منصور، بالإسناد الثاني هنا، ورواه أيضًا: ٢٢٥١، عن حسين، عن شيبان، عن منصور.
ورواه أيضًا -مطولا- الشيخان، كما في المنتقى: ٢١٧٥. فهو حديث صحيح متفق عليه.
455
صلى الله عليه وسلم لعشرٍ -أو لعشرين- مضت من رَمضان عام الفتح، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر. (١)
٢٨٥٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا عمر بن عامر، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرجنا مع النبي ﷺ لثمان عشرَةَ مضتْ من رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يَعِب المفطرُ على الصائم، ولا الصائم على المفطر. (٢)
* * *
فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان، (٣) بما عليه دَللنا من فسادهما - فَبيِّنٌ أن الصحيح من التأويل هو الثالث، (٤) وهو قول من قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، جميعَ ما شهد منه مقيمًا، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر.
* * *
(١) الحديثان: ٢٨٥٠، ٢٨٥١- هما إسنادان آخران صحيحان، للحديث السابق، بلفظ أطول، ومن وجه آخر، من رواية ابن إسحاق، عن الزهري. وهو في سيرة ابن هشام، (ص ٨١٠ أوربة - ٤: ٤٢ طبعة الحلبي)، بلفظ أطول مما هنا. وكذلك رواه أحمد في المسند: ٢٣٩٢، من طريق ابن إسحاق.
ورواه أحمد أيضًا: ١٨٩٢، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، مختصرًا، ورواه بأطول منه: ٣٠٨٩، عن عبد الزاق، عن معمر، عن الزهري.
وانظر تاريخ ابن كثير ٤: ٢٨٥-٢٨٧.
(٢) الحديث: ٢٨٥٢- سالم بن نوح، أبو سعيد العطار: ثقة من شيوخ أحمد.
عمر بن عامر السلمي البصري القاضي: ثقة ثبت في الحديث، كما قال أحمد.
والحديث رواه مسلم في صحيحه ١: ٣٠٨، بأسانيد كثيرة، منها إسناد عن محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح، عن عمر بن عامر، عن قتادة، بهذا الإسناد.
ثم رواه بأسانيد أخر ١: ٣٠٨-٣٠٩، عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
ونسبه السيوطي ١: ١٩٠-١٩١ أيضًا للترمذي والنسائي.
(٣) في المطبوعة: "فإذا كان فاسدين... "، والصواب ما أثبته.
(٤) في المطبوعة: "فتبين"، وهو خطأ، والصواب ما أثبته.
456
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر في الشهر فأفطر، فعليه صيامُ عدة الأيام التي أفطرها، من أيام أخرَ غير أيام شهر رمضان.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في المرَض الذي أباح الله معه الإفطار، وأوجب معه عده من أيام أخر.
فقال بعضهم: هو المرض الذي لا يُطيق صاحبه معه القيام لصَلاته.
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٥٣- حدثنا معاذ بن شعبة البصري قال، حدثنا شريك، عن مغيره، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم، عن الحسن أنه قال: إذا لم يستطع المريضُ أن يُصَلِّي قائمًا أفطر. (١)
٢٨٥٤- حدثني يعقوب قال حدثنا هشيم، عن مغيرة -أو عبيدة- عن إبراهيم، في المريض إذا لم يستطع الصلاةَ قائمًا فليفطر. يعني: في رمضان.
٢٨٥٥- حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن إسماعيل قال: سألت الحسن: متى يُفطر الصائم؟ قال: إذا جَهده الصوم. قال: إذا لم
(١) الخبر: ٢٨٥٣- معاذ بن شعبة البصري، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ٤/١/٢٥١، قال: "معاذ بن شعبة أبو سهل البصري، روى عن عباد بن العوام، وعثمان بن مطر. روى عنه موسى بن إسحاق الأنصاري". ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهو شيخ قديم من شيوخ الطبري، لأنه يروي عن"عباد بن العوام" المتوفى سنة ١٨٥، و"شريك بن عبد الله النخعي" المتوفى سنة ١٨٨. وتلميذه الذي ذكره ابن أبي حاتم، وهو"موسى بن إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي، قاضي الري"، من شيوخ ابن أبي حاتم، كما في ترجمته عنده ٤/١/١٣٥.
457
يستطع أن يُصلي الفرائض كما أمِر. (١)
* * *
وقال بعضهم: وهو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةُ في علته زيادة غير مُحتملة. (٢) وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي، حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وقال آخرون: وهو [كلّ] مرض يسمى مرَضًا. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٥٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحسن بن خالد الربعي قال، حدثنا طريف بن شهاب العُطاردي: أنه دخل على محمد بن سيرين في رَمضان وهو يأكل، فلم يسأله. فلما فرغ قال: إنه وَجعتْ إصبعي هذه. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن"المرض" الذي أذن
(١) في المطبوعة: "كما مر"، وكأن الصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "زيادة غير المحتملة" وهو كلام ليس بعربي. ونص عبارة الشافعي في الأم ١: ٨٩"وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر، وإن كان زيادة محتملة لم يفطر".
(٣) في المطبوعة: "هو مرض يسمى مرضًا"، والصواب زيادة [كل].
(٤) الخبر: ٢٨٥٦- الحسن بن خالد الربعي: ترجمه ابن أبي حاتم ١/٢/١٠ قال: "الحسن بن خالد بن باب القريعي. روي عن طريف بن شهال العطاردي. روى عنه محمد بن المثنى". فهو الشيخ الذي هنا، ولم أجد له ترجمة غيرها. وقد علق العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني-مصحح الكتاب- عند قوله"القريعي"، بأن في بعض النسخ"القرايعي"، وأنه سيأتي في باب"خالد""خالد بن باب الربعي"، وأنه"يمكن أن يكون هو والد الحسن هذا". وهذا نظر دقيق منه -حفظه الله- يؤيده نسبته هنا في الطبري"الربعي". و"خالد بن باب الربعي": مترجم في الكبير ٢/١/١٣٠-١٣١، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٢٢، ولسان الميزان ٢: ٣٧٤.
طريف بن شهاب العطاردي: ذكر في المطبوعة اسم أبيه"تمام"، وهو خطأ. وطريف هذا: هو أبو سفيان الأشل. وهو ضعيف. وقيل في اسم أبيه"سعد". والذي جود اسمه ونسبته هو البخاري في ترجمته. وهو مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٣٥٨، وابن أبي حاتم ٢/١/٤٩٢-٤٩٣، والضعفاء للبخاري، ص: ١٨-١٩.
458
الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمرَ، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلِّف عُسرًا، ومُنع يُسرًا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله:"يُريد اللهُ بكم اليسرَ وَلا يُريد بكم العسر". وأما من كان الصوم غيرَ جَاهدِه، فهو بمعنى الصحيح الذي يُطيق الصوم، فعليه أداءُ فرضه.
* * *
وأما قوله:"فعدة من أيام أخر"، فإنّ معناها: أيامًا معدودة سوى هذه الأيام.
وأما"الأخَر"، فإنها جمع"أخرى" كجمعهم"الكبرى" على"الكُبَر" و"القُربى" على"القُرَب". (١)
* * *
فإن قال قائل: أوَليست"الأخر" من صفة الأيام؟
قيل: بلى.
فإن قال: أوَليس واحدُ"الأيام""يوم" وهو مذكر؟
قيل: بلى.
فإن قال: فكيف يكون واحدُ"الأخر""أخرى"، وهي صفة ل"اليوم"، ولم يكن"آخر"؟
قيل: إن واحد"الأيام" وإن كان إذا نُعت بواحد"الأخر" فهو"آخر"، فإن"الأيام" في الجمع تصير إلى التأنيث، فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث، كما يقال:"مضت الأيامُ جُمعَ"، ولا يقال: أجمعون، ولا أيام آخرون.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى قال:"فمن كانَ منكم مريضًا أو عَلى
(١) في المطبوعة: "بجمعهم الكبرى"، وكأن الصواب ما أثبت.
459
سفر فعدةٌ من أيام أخر"، ومعنى ذلك عندك: فعليه عدةٌ من أيام أخر، كما قد وصفت فيما مضى. فإن كان ذلك تأويله، فما قولك فيمن كان مريضًا أو عَلى سَفر فَصَام الشهر، وهو ممن له الإفطار، أُيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر، أو غيرُ مُجزيه ذلك، وفَرْضُ صوم عدة من أيام أخر ثابتٌ عليه بهيئته، وإن صام الشهر كله؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سَفر صيامُ شهر رمضان، أم ذلك محظور عليه، وغير جائز له صومه، والواجب عليه الإفطار فيه، حتى يقيم هذا ويبرأ هذا؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في كل ذلك، ونحن ذاكرُو اختلافهم في ذلك، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله.
فقال بعضهم: الإفطارُ في المرض عَزْمة من الله واجبةٌ، وليسَ بترخيص.
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٥٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- جميعًا، عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: الإفطارُ في السفر عَزْمة.
٢٨٥٨- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى، عن يوسف بن الحكم قال: سألتُ ابن عمر -أو: سئل- عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك، ألم تغضب؟ فإنها صَدقة من الله تصدق بها عليكم. (١)
(١) الخبر: ٢٨٥٨- شعبة: هو ابن الحجاج؛ إمام أهل الجرح والتعديل. وثبت في المطبوعة"سعيد". وهو خطأ ناسخ أو طابع في هذا الإسناد، كما يتبين مما سيأتي.
يعلى: هو ابن عطاء العامري، ثقة معروف.
يوسف بن الحكم أبو الحكم: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات. وترجمه ابن أبي حاتم ٤/٢/٢٢٠ قال: "روى عن ابن عمر. روى عنه يعلى بن عطاء". وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٣٧٦ باسم"يوسف أبو الحكم، سمع ابن عمر. روى عنه يعلى بن عطاء". وثبت عقب ذلك في بعض نسخ الكبير: "هذا هو الأول أظنه". يريد المترجم قبله"يوسف بن مهران". وهذا الظن من البخاري ليس في موضعه، ولعله ظن ذلك إذ لم يقع له منسوبًا لأبيه، بل وقع له باسم"يوسف" وكنية"أبي الحكم".
والذي يقطع في ذلك، ويرفع كل شبهة: أن الدولابي روى هذا الخبر، في الكنى والأسماء ١: ١٥٤-١٥٥"حدثنا محمد بن بشار. قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال، سمعت يوسف بن الحكم أبا الحكم يقول: سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الصوم في السفر... " فذكر نحوًا مما هنا.
ووهب بن جرير يروي عن شعبة. ويعلى بن عطاء يروي عنه شعبة. فلا موضع في هذا الإسناد لاسم"سعيد". إلى ثبوت الخبر من رواية شعبة عند الدولابي، كما ذكرنا.
وهذا الرأي لابن عمر -ثم لغيره من الصحابة- إنما هو فيمن أبى أن يقبل رخصة الله في الإفطار في السفر. قال ابن كثير ١: ٤١٠-٤١١"فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه - فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام والحالة هذه. لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر، وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة". يشير ابن كثير في ذلك إلى حديث ابن عمر في المسند: ٥٣٩٢. وانظر حديثين آخرين لابن عمر، في المسند: ٥٧٥٠، ٥٨٦٦.
460
٢٨٥٩- حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد قال، قال أبو جعفر: كان أبي لا يَصُوم في السفر، ويَنهى عنه. (١)
٢٨٦٠- وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك: أنه كره الصومَ في السفر.
* * *
وقال أهل هذه المقالة: من صام في السفر فعليه القضاءُ إذا قام.
* ذكر من قال ذلك:
٢٨٦١- حدثنا نصر بن علي الجهضميّ قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن رجل: أن عمرَ أمرَ الذي صام في السفر أن يُعيد. (٢).
٢٨٦٢- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سعيد
(١) الخبر: ٢٨٥٩- نصر بن عبد الرحمن الأزدي. مضى في: ٤٢٣، ٨٧٥. ووقع في المطبوعة هنا - كما وقع هناك: "الأودي". وهو خطأ.
(٢) الخبر: ٢٨٦١- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: مضى في: ٢٣٧٦. ووقع في المطبوعة هنا"الخثمعي". وهو تصحيف واضح.
وشيخه"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي": مضى في: ١٢١٩. وقد ثبت في ترجمتيهما رواية نصر عن مسلم.
ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري: ثقة، تكلم فيه بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/٢/٣٥، والكبير ٢/١/٢٦٦، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٧٧-٤٧٨.
أبوه"كلثوم بن جبر": ثقة من صغار التابعين، لم يدرك عمر بن الخطاب. ولذلك روى عنه هنا بواسطة رجل مبهم. فالإسناد لذلك ضعيف. وانظر الخبر الآتي: ٢٨٦٦.
461
بن عمرو بن دينار، عن رجل من بني تميم، عن أبيه قال: أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيدَ صَوْمه.
٢٨٦٣- حدثني ابن حميد الحمصي قال، حدثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال: كنت مع أبي في سفر في رمضان، فكنت أصوم ويُفطر. فقال لي أبي: أما إنك إذا أقمتَ قَضيت. (١)
٢٨٦٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة، عن عاصم مولى قريبة، قال: سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يَقضي.
٢٨٦٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عاصم مولى قريبة: أن رجلا صامَ في السفر، فأمرَهُ عروة أن يَقضي.
٢٨٦٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن صبيح قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه كلثوم: أنّ قومًا قدموا على عُمرَ بن الخطاب وقد صاموا رمضانَ في سفر، فقال لهم: والله لكأنكم كنتم تصُومون! فقالوا: والله يا أمير المؤمنين
(١) الخبر: ٢٨٦٣- المحرر- براءين مع فتح الأولى مشددة: هو ابن أبي هريرة. وهو تابعي معروف، يروي عن أبيه، وعن ابن عمر. وله في المسند أحاديث عن أبيه، منها: ٢١٢، ٩٥٦٢.
وهذا الخبر ذكر السيوطي ١: ١٩١، نحو معناه. ونسبه لعبد بن حميد فقط. وثبت فيه اسم"المحرر": "محرز" بالزاي في آخره، وهو تصحيف.
462
لقد صمنا! قال: فأطقتموه! قالوا: نعم. قال: فاقضوه، فاقضوه. (١)
* * *
وعلة مَنْ قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره فرَضَ بقوله:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه" صومَ شهر رمضان على من شهده مُقيمًا غير مسافر، وجعل على من كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله:"ومَنْ كان مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر". قالوا: فكما غيرُ جائز للمقيم إفطارُ أيام شهر رمضان وَصَوم عدة أيام أخر مكانها -لأن الذي فرضَه الله عليه بشهوده الشهرَ صومُ الشهر دون غيره- فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيمًا، صوْمُه. لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر. واعتلوا أيضًا من الخبر بما:-
٢٨٦٧- حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الصائم في السفر كالمفطر في الحضر." (٢)
٢٨٦٨- حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد قال، حدثنا يزيد بن عياض،
(١) الخبر: ٢٨٦٦- إسناده ضعيف، لانقطاعه، فإن كلثوم بن جبر لم يدرك عمر بن الخطاب، كما بينا ذلك في: ٢٨٦١.
(٢) الحديث: ٢٨٦٧- محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة. وسيأتي بهذا الاسم أيضًا في: ٢٨٨٨. ولكن سيأتي في الإسناد الذي عقب هذا باسم"محمد بن عبيد الله بن سعيد" - بجعل أبيه"عبيد الله" بدل"عبد الله". وأنا أرجح الذي في إسنادين على الذي في إسناد واحد، ترجيحًا بدائيًا غير محقق.
يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري: مختلف فيه، والظاهر أنه ثقة، وإنما أخذوا عليه الرواية عن رجال مجهولين غير معروفي العدالة - مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٩٨، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢١٤-٢١٥، وتاريخ بغداد ١٤: ٢٦٩-٢٧١.
عبد الله بن موسى بن إبراهيم - من ولد طلحة بن عبيد الله التيمي: مختلف فيه. وضعف أحمد جدًا. وقال ابن حبان: "يرفع الموقوف، ويسند المرسل، لا يجوز الاحتجاج به". ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله بن موسى". وهو خطأ، فإن الحديث معروف من رواية"عبد الله بن موسى التيمي". ثم هو الذي يروي عن أسامة بن زيد.
أسامة بن زيد: هو الليثي المدني، مختلف فيه. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: ١٠٩٨.
وهذا الحديث رواه ابن ماجه: ١٦٦٦، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن عبد الله بن موسى التيمي بهذا الإسناد.
وقد أطال الحافظ الزيلعي في نصب الرواية ٢: ٤٦١-٤٦٣ في تخريج رواياته. ورجح أنه موقوف من كلام عبد الرحمن بن عوف، إلى انقطاع إسناده بين أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيه. فقد رجح الحافظ أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وقد رجحنا في شرح المسند: ١٦٦٠ أنه سمع ذاك الحديث من أبيه - وكان صغيرًا حين مات عبد الرحمن. وليس معنى هذا أنه سمع منه كل ما يرويه عنه.
وذكر ابن أبي حاتم في كتاب العلل، رقم ٦٩٤، أنه سأل أباه عن هذا الحديث، فقال أبو زرعة: "رواه أبو أحمد الزبيري، ومعن بن عيسى، وحماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، قوله. ورواه عنبسة بن خالد، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن لهيهة، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه بقية، عن آخر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو زرعة: الصحيح عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه. موقوف".
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص، ص: ١٩٥ أن الدارقطني في العلل والبيهقي، صححا أيضًا أنه موقوف. وانظر السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٢٤٤، وتعقيب ابن التركماني عليه. والرواية الموقوفة على عبد الرحمن بن عوف رواها النسائي ١: ٣١٦، بثلاثة أسانيد. هذا وسيأتي قول الطبري في ص: ٤٧٤ عن هذا الخبر والذي يليه وأشباههما، أنها: "واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاج بها في الدين".
463
عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصائمُ في السفر كالمفطر في الحضر. (١)
* * *
وقال آخرون: إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره، رخصها لعباده، والفرضُ الصوم. فمن صام فرضَه أدَّى، ومن أفطر فبرُخصة الله له أفطر. قالوا: وإن صام في سفر فلا قَضاءَ عليه إذا أقام.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الحديث: ٢٨٦٨- هو إسناد آخر للحديث السابق.
وهذا إسناد مشكل:
فشيخ الطبري ذكر هنا باسم"محمد عبيد الله بن سعيد". وذكر في الإسناد السابق باسم"محمد بن عبد الله".
وثانيًا: قوله"حدثنا يزيد بن عياض" - غير معقول. يجب أن يكون بينهما راو على الأقل. فإن يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة الليثي قديم الوفاة، مات في خلافة المهدي. وذكره البخاري في التاريخ الصغير، ص: ١٧٢، في فصل (من مات بين سنتي: ١٤٠-١٥٠). فليس من المعقول أن يسمع منه أي شيخ للطبري المتوفى سنة ٣١٠. وأنا أرجح أن يكون بينهما"يزيد بن هارون"، لما سنذكر، إن شاء الله.
ويزيد بن عياض هذا: ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير ٤/٢/٣٥١-٣٥٢، والصغير: "منكر الحديث". ورماه مالك وابن معين والنسائي وغيرهم بالكذب. و"جعدبة" بضم الجيم والدال المهملة بينهما عين مهملة ساكنة.
ونقل الزيلعي في نصب الراية ٢: ٤٦٢، أن هذا الحديث"رواه ابن عدي في الكامل، من حديث يزيد بن هارون: حدثنا يزيد بن عياض، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، مرفوعًا. قال ابن عدي: وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري - غير يزيد بن عياض، وعقيل من رواية سلامة بن روح عنه، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه، وأسامة بن زيد من رواية عبد الله بن موسى التيمي عنه. والباقون من أصحاب الزهري - رووه عنه، عن أبي سلمة، عن أبيه، من قوله".
464
٢٨٦٩- حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب قال، حدثنا عروة وسالم: أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أميرٌ على المدينة، فتذاكروا الصومَ في السفر، قال سالم: كان ابن عمر لا يصُوم في السفر. وقال عروة. وكانت عائشة تصوم. فقال سالم: إنما أخذت عن ابن عمر. وقال عروة: إنما أخذتُ عن عائشة. حتى ارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم عفوً! اإذا كان يُسرًا فصوموا، وإذا كان عُسرًا فأفطروا.
٢٨٧٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال، حدثني رجل قال: ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار.
٢٨٧١- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق - عن الزهري، عن سالم بن عبد الله قال: خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان، فقال: إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه: أو: تَسعسع، ولم يشك يعقوب -فلو صمنا! فصام وصام الناس مَعه. ثم أقبل مرَّة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلالُ شهر رمضان، فقال: إن الله قد
465
قَضَى السفر، فلو صمنا ولم نَثْلم شهرنا! قال: فصام وصام الناس معه. (١).
٢٨٧٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير، قال، حدثني أبي - وحدثنا محمد بن بشار قال، أخبرنا عبيد الله قال، أخبرنا بشير بن سلمان -عن خيثمةَ قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر، قال: قد أمرتُ غلامي أن يَصوم فأبى. قلت: فأين هذه الآية:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"؟ قال: نزلت ونحن يومئذ نرتحلُ جياعًا وننزل على غير شِبَع، وإنا اليوم نرتحل شِباعًا وننزل على شِبَع (٢).
٢٨٧٣- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة، عن أنس نحوه.
٢٨٧٤- حدثنا هناد وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن عاصم،
(١) تسعسع الشهر: أدبر وفنى إلا أقله من قولهم: "تسعسع الرجل": إذا اضطرب من الكبر أو الهرم. وتشعشع الشهر: رق وتقضى وبقى أقله. ذهب به إلى رقة الشهر وقلة ما بقي، كما يشعشع اللبن بالماء أي يمزج ويخلط. وقوله"لم نثلم شهرنا" من ثلم الإناء أو السيف: كسر شفة الإناء أو حد السيف. أي لم ندخل الخلل على صومنا ونجرح شهرنا.
(٢) الخبر: ٢٨٧٢- الحكم بن بشير بن سلمان: مضى في: ١٤٩٧.
أبوه"بشير بن سلمان النهدي": ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وأبوه: "سلمان"، بفتح السين وسكون اللام. ووقع في كثير من المراجع المطبوعة"سليمان". وهو خطأ مطبعي. وفي التهذيب وفروعه"الكندي" بدل"النهدي". وهو خطأ، صوابه في الكبير للبخاري ١/٢/٩٩، وابن أبي حاتم ١/١/٣٧٤، وابن سعد ٦: ٢٥١، ورجال الصحيحين، ص: ٥٥.
خيثمة: هو ابن أبي خيثمة البصري، وهو تابعي ثقة. وقال ابن معين: "ليس بشيء". كما في ابن أبي حاتم ١/٢/٣٩٤، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير ٢/١/١٩٧، فلم يذكر فيه جرحًا، وأشار إلى هذا الحديث من روايته، كعادته في إشاراته الدقيقة -لله دره- فقال: "وقال أبو نعيم، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة. قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر". ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء. وهذا كاف في توثيقه والاحتجاج بروايته، دون الجرح المجمل من ابن معين.
وهذا الخبر ذكره السيوطي ١: ١٩١، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والنسائي. ولم أجده في النسائي، ولعله في السنن الكبرى.
466
عن أنس: أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من أفطر فبرُخصة الله، ومن صام فالصومُ أفضل.
٢٨٧٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن أشعث بن عبد الملك، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص قال: الفطر في السفر رخصة، والصوم أفضل.
٢٨٧٦- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو الفيض، قال: كان علي علينا أميرًا بالشام، فنهانا عن الصوم في السفر، فسألت أبا قِرْصافة - رجلا من أصحاب النبي ﷺ من بني ليث، قال عبد الصمد: سمعتُ رجلا من قومه يَقول: إنه واثلة بن الأسقع - قال: لو صمتَ في السفر ما قضيت. (١).
(١) الخبر: ٢٨٧٦- أبو الفيض: هو موسى بن أيوب المهري الحمصي، ويقال: ابن أبي أيوب، وهو شامي ثقة، وثقه ابن معين، والعجلي. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/١/١٣٤.
أبو قرصافة، بكسر القاف وسكون الراء بعدها صاد مهملة: هو"واثلة بن الأسقع" الصحابي، من بني ليث بن عبد مناة. يكنى"أبا الأسقع"، ويقال"أبو قرصافة"، كما في ترجمته في الإصابة والتهذيب وغيرهما. وهذا الخبر يؤيد هذه الكنية، لأن عبد الصمد بن عبد الوارث يذكر في أثنائه، أنه سمع رجلا من قومه يقول"إنه واثلة بن الأسقع".
وقد أوقعهم هذا الخبر -أو نحوه- في وهم عجيب؛ لأن هناك رجلا آخر له صحبة، يكنى"أبا قرصافة اسمه جندرة بن خيشنة" كنابي له صحبة، مترجم في التهذيب ٢: ١١٩، والكبير ١/٢/٢٤٩، وابن أبي حاتم ١/١/٥٤٥، وأسد الغابة ١: ٣٠٧. فانتقل نظر صاحب التهذيب، في ترجمة"أبي الفيض موسى بن أيوب" ١٠: ٣٣٧ فذكر أنه يروي عن"أبي قرصافة جندرة بن خيشنة". ثم ذكر صاحب أسد الغابة، في ترجمة"جندرة" هذا أنه"جعله ابن ماكولا ليثيًا، وليس بشيء!! ". ولم يذكر صاحب التهذيب في ترجمة"جندرة" أنه يروي عنه"أبو الفيض"!!
فالظاهر عندي أن ابن ماكولا حين ذكر أن"أبا قرصافة" من بني ليث، أراد به"واثلة بن الأسقع"، كما تدل عليه الرواية في هذا الخبر. وأن صاحب التهذيب وهم حين ذكر أن أبا الفيض يروي عن"أبي قرصافة جندرة بن خيشنة"، لأن روايته إنما هي عن"أبي قرصافة واثلة"، وهو ليثي بلا خلاف فيه.
وأما قول أبي الفيض هنا: "كان على علينا أميرا بالشأم" - فلا أدري ما هو؟ وإنما اليقين أنه لا يريه به"علي بن أبي طالب"، إذ لم يكن ذلك قط. ولعله كان لهم أمير بالشأم يدعي"عليا". ويحتمل أن يكون ما هنا فيه تحريف، وأن يكون صوابه"كان علينا أمير بالشأم، فنهانا.. " إلخ.
ثم وجدت ما يؤيد ذلك: ففي مجمع الزوائد ٣: ١٦١-١٦٢"عن أبي الفيض" قال: خطبنا مسلمة بن عبد الملك، فقال: لا تصوموا رمضان في السفر، فمن صام فليقضه. قال أبو الفيض: فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع، فسألته؟ فقال: لو ما صمت ثم صمت ما قضيته. رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات".
فهذه الرواية تماثل رواية الطبري هنا، وتدل على أن الأمير الذي نهاهم هو"مسلمة بن عبد الملك". فأكبر الرأي أن يكون الصواب في رواية الطبري"كان عليا أمير بالشأم"، كما ظننا من قبل. ولفظ آخر الحديث -في رواية الزوائد- أراه محرفًا، وأوضح منه وأصوب لفظ أبي جعفر. و"جندرة" و"خيشنة" - كلاهما بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه.
467
٢٨٧٧- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بسطام بن مسلم، عن عطاء قال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرُخصة.
٢٨٧٨- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن كهمس قال: سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر، فقال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرخصة.
٢٨٧٩- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: من صام فحقٌّ أدَّاه، ومن أفطر فرُخصة أخذ بها.
٢٨٨٠- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، قال: الفطر في السفر رُخصة، والصومُ أفضل.
٢٨٨١- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، قال: هو تَعليم، وليس بعَزم - يعني قول الله:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، إن شاء صام وإن شاء لم يصم.
٢٨٨٢- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: في الرجل يسافر في رمضان، قال: إن شاء صام وإن شاء أفطر.
٢٨٨٣- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا العوّام بن حوشب قال: قلت لمجاهد: الصوم في السفر قال: كان رسول الله ﷺ يصوم فيه ويفطر. قال: قلت: فأيهما أحب إليك؟ قال: إنما هي رُخصة، وأن تصوم رمضان أحب إليّ.
٢٨٨٤- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
468
عن حماد، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد، أنهم قالوا: الصومُ في السفر، إن شاء صَام وإن شاء أفطر، والصوم أحب إليهم.
٢٨٨٥- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال لي مجاهد في الصوم في السفر -يعني صوم رمضان-: والله ما منهما إلا حلال، الصومُ والإفطار، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده.
٢٨٨٦- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: صحبت أبا الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة، وكانوا يصومون رمضان وغيرَه في السفر.
٢٨٨٧- حدثنا علي بن حسن الأزدي قال، حدثنا معافى بن عمران، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير: الفطرُ في السفر رُخصة، والصوم أفضل.
٢٨٨٨- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا صالح بن محمد بن صالح، عن أبيه قال: قلت للقاسم بن محمد: إنا نسافر في الشتاء في رمضان، فإن صمتُ فيه كان أهوَنَ عليَّ من أن أقضيه في الحر! فقال: قال الله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ما كان أيسرَ عليك فافعلْ (١).
* * *
(١) الخبر: ٢٨٨٨- محمد بن عبد الله بن سعيد، شيخ الطبري: مضى في: ٢٨٦٧، ٢٨٦٨.
صالح بن محمد بن صالح بن دينار التمار المدني: ترجمه البخاري في الكبير ٢/٢/٢٩٢، ولم يذكر فيه جرحا، وذكر أنه يروي عن أبيه. ولم يترجم له ابن أبي حاتم، ولا التهذيب، ولا لسان الميزان ولكن ذكر في التهذيب في ترجمة أبيه، أنه يروي عنه.
أبوه محمد بن صالح بن دينار التمار: ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير ١/١/١١٧، وروى حدثنا آخر من رواية ابنه صالح، عنه، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٨٧.
469
قال أبو جعفر: وهذا القول عندنا أولى بالصواب، لإجماع الجميع على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضان -وهو ممن له الإفطار لمرضه- أنّ صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلومًا بذلك أن حكم المسافر حكمه في أنْ لا قضاءَ عليه إن صامه في سفره. لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمرَ به من قضاء عدة من أيام أخر، مثلُ الذي جعل من ذلك للمريض وأمرَ به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفايةٌ مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها. وذلك قول الله تعالى ذكره: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، ولا عُسرَ أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عدةً من أيام أخر، وقد تكلف أداءَ فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدَّاه.
فإن ظن ذو غَباوة أنّ الذي صامه لم يكن فرضَهُ الواجبَ، فإن في قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام""شهرُ رَمضَان الذي أنزل فيه القرآن"، ما ينبئ أن المكتوبَ صومُه من الشهور على كل مُؤمن، هو شهرُ رمضان مسافرًا كان أو مقيمًا، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكمُ الصيام""شهر رمضان" = وأن قوله:"ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر" معناه: ومن كان مريضًا أو على سفر فأفطرَ برُخصة الله، فعليه صوم عدة أيام أخر مكانَ الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه = ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ بقوله - إذْ سئل عن الصوم في السفر:"إن شئتَ فصم، وإن شئت فأفطر" - الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلال على صحة ما قُلنا في ذلك بغيره.
٢٨٨٩- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حَمزة سألَ رسول الله ﷺ عن الصوم في السفر -وكانَ يسرُد الصوم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن
470
شئتَ فصُمْ وإن شئت فأفطر. (١).
٢٨٩٠- حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهبّاري قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله ﷺ فذكر نحوه. (٢).
(١) الحديث: ٢٨٨٩- هو حديث صحيح. رواه الإمام أحمد، وأصحاب الكتب الستة، كما في المنتقى: ٢١٧١.
و"حمزة" هذا: هو حمزة بن عمرو الأسلمي، صحابي معروف. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٤٣، وابن سعد ٤/٢/٤٥، وابن أبي حاتم ١/٢/٢١٢، والاستيعاب، ص: ١٠٥، وأسد الغابة ٢: ٥٠-٥١، وتاريخ الإسلام للذهبي ٣: ١٤.
ومن عجب بعد هذا كله: أن يسهو الحافظ ابن حجر عن ترجمته في الإصابة، في حين أنه أشار إليه في ترجمة"حمزة بن عمر" بضم العين وفتح الميم. وهي ترجمة أخطأ فيها بعض من سبقه، وبين هو هذا الخطأ كما بينه ابن الأثير!! وانظر الإسنادين بعد هذا. سرد الصوم يسرده سردًا: إذا والاه وتابعه بعضه في إثر بعض.
(٢) الحديث: ٢٩٩٠- عبيد بن إسماعيل الهباري، شيخ الطبري: ثقة من شيوخ البخاري. ترجمه في الصغير، ص: ٢٤٧، وهو مترجم أيضًا في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠٢.
ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، مضى في: ٤٣٨، ٢٠٣٠. ووقع في التهذيب ٧: ٥٩، في شيوخ"عبيد بن إسماعيل" -" وأبي إدريس". وهو خطأ مطبعي.
وهذا الإسناد ظاهره أنه مرسل، لأن عروة بن الزبير تابعي، كما هو واضح. والظاهر أن هشام بن عروة، أو أباه عروة - كان أحدهما يصل هذا الحديث تارة ويرسله تارة. وعروة سمعه من خالته عائشة أم المؤمنين، كما في الإسناد السابق، وسمعه أيضًا من أبي مراوح عن حمزة الأسلمي نفسه، كما في الإسناد التالي لهذا.
ومالك قد روى هذا الحديث في الموطأ، ص: ٢٩٥، "عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن حمزة بن عمرو الأسلمي.. " - فذكره مرسلا، كرواية ابن إدريس هنا، عن هشام.
فقال ابن عبد البر في التقصي، رقم: ٦٤٣"هكذا رواه يحيى، لم يذكر عائشة. وخالفه أكثر رواة الموطأ، فذكروا فيه عائشة".
وقد رواه البخاري ٤: ١٥٧، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك - موصولا. وكذلك رواه غيره من الأئمة.
والظاهر عندي أن الذي كان يرسله ويصله - هو هشام أو أبوه، وأن مالكًا رواه عن هشام على الوجهين. بدلالة رواية عبد الله بن إدريس المرسلة -هنا- عن هشام.
ورواه البخاري أيضًا ٤: ١٥٦، ومسلم ١: ٣٠٩ - ٣١٠، بأسانيد، موصولا، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة.
471
٢٨٩١- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال: أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله ﷺ أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم، فأصومُ في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي رُخْصة من الله لعباده، فمن فعلها فحسنٌ جميل، ومن تركها فلا جُناح عليه. فكان حمزة يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر، حتى إنْ كان ليمرضُ فلا يُفطر. وكان أبو مُرَاوح يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. (١).
* * *
ففي هذا، مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا: من أن الإفطارَ رخصةٌ لا عزم، والبيانُ الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله:"وَمن كانَ مريضًا أو عَلى سَفر فعدةٌ من أيام أخر".
* * *
(١) الحديث: ٢٨٩١- أبو زرعة وهب الله بن راشد: مضى في: ٢٣٧٧. ووقع في المطبوعة هنا - كما كان هناك: "أبو زرعة وعبد الله بن راشد قالا.. ". وهو خطأ، كما بينا آنفًا.
حيوة -بفتح الحاء المهملة والواو بينهما ياء تحتية ساكنة- بن شريح التجيبي، أبو زرعة المصري: فقيه عالم ثقة ثقة.
أبو الأسود: هو"يتيم عروة"، واسمه"محمد بن عبد الرحمن بن نوفل"، وقيل له"يتيم عروة" لأن أباه كان أوصى إليه.
أبو مراوج الغفاري المدني: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث رواه مسلم ١: ٣١٠، والنسائي ١: ٢٤٣ - والبيهقي ٤: ٤٣، ثلاثتهم من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، بهذا الإسناد.
وقصر السيوطي جدًا، فذكره ١: ١٩٠، ونسبه للدارقطني"وصححه"، فقط. وهو في أحد الصحيحين وأحد السنن الأربعة.
فظهر من هذا الإسناد أن عروة بن الزبير له في هذا الحديث طريقان: فسمعه من خالته عائشة. وسمعه مطولا من أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي نفسه، صاحب السؤال. فليس هذا اختلافًا على عروة، إنما هو توكيد رواية صحيحة، بأخرى مثلها.
472
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرةً، فقد تظاهرت أيضًا بقوله:"ليس من البر الصيامُ في السفر"؟
قيل: إن ذلك إذا كان الصيامُ في مثل الحال التي جَاء الأثرُ عن رسول الله ﷺ أنه قالَ في ذلك لمن قال له.
٢٨٩٢- حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر: أن رسول الله ﷺ رأى رجُلا في سفره قد ظُلِّل عليه، وعليه جماعة، فقال:"من هذا؟ قالوا: صائم. قال: ليس من البر الصوم في السفر.
* * *
=قال أبو جعفر: أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط، وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن، شعبة. (١).
* * *
٢٨٩٢م- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله ﷺ رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه، فقالوا: هذا رجل صائم! فقال رسول الله صلى الله
(١) الحديث: ٢٨٩٢- الحسين بن يزيد السبيعي، شيخ الطبري: هكذا ثبت هنا. وأخشى أن يكون نسبته"السبيعي" سهوا أو خطأ من الناسخين. والذي في هذه الطبقة، ويروي عن عبد الله بن إدريس - هو"الحسين بن يزيد بن يحيى الطحان الأنصاري" وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٧. روى عنه أبو داود، والترمذي، وأبو زرعة، وذكر الحافظ أنه روى عنه مسلم خارج الصحيح. والذي يرجح عندي هذا: أن الطبري روى خبرًا آخر، في التاريخ ١: ١٣٥ - ١٣٦: "حدثنا الحسين بن يزيد الطحان قال: حدثنا ابن إدريس... ". إلا أن يكون هذا شيخًا آخر للطبري، لم تصل إلينا معرفته.
وقد نبه الطبري إلى غلط هذا الشيخ، في إسقاط"شبعة" بين"ابن إديس" و"محمد بن عبد الرحمن"، وهو كما قال. فإن عبد الله بن إدريس لم يدرك أن يروي عن محمد بن عبد الرحمن. وسيأتي تخريج هذا الحديث، في الإسناد التالي له.
473
عليه وسلم: ليس من البر أن تَصوموا في السفر. (١).
* * *
فمن بلغ منه الصوم ما بَلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك، فليس من البر صومه. لأن الله تعالى ذكره قد حرّم على كل أحد تعريضَ نفسه لما فيه هلاكها، وله إلى نجاتها سبيل. وإنما يُطلب البر بما نَدب الله إليه وَحضَّ عليه من الأعمال، لا بما نهى عنه.
وأما الأخبار التي رويت عنه ﷺ من قوله:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" (٢) فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظُلِّل عليه، إن كان قبل ذلك. وغيرُ جائز عليه أن يُضَاف إلى النبي ﷺ قيلُ ذلك، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى
(١) الحديث: ٢٨٩٢م - محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وبعضهم ينسبه لجده لأمه، فيقول: "محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة". و"سعد بن زرارة"، وأخوه"أسعد بن زرارة"- صحابيان معروفان، أنصاريان، من بني النجار.
ووقع في هذا الإسناد في المطبوعة"شعبة عن عبد الرحمن بن سعد.. "، وهو خطأ واضح من الناسخين سقط منهم"محمد بن" قبل"عهد الرحمن".
محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث رواه مسلم ١: ٣٠٨، بأسانيد، منها: عن محمد بن المثني، شيخ الطبري هنا، عن محمد بن جعفر، بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند: ١٤٢٤٢ (٣: ٢٩٩حلبي)، عن محمد بن جعفر، به. ورواه أبو داود الطيالسي: ١٧٢١، عن شعبة، به.
ورواه البخاري ٤: ١٦١-١٦٢ (فتح)، عن آدم، عن شعبة. ورواه أيضًا -مختصرًا- في الكبير ١/١/١٨٩-١٩٠، عن آدم.
ورواه أبو نعيم في الحلية ٧: ١٥٩، بأسانيد من طريق شعبة، ثم قال: "صحيح متفق عليه. واختلف في محمد بن عبد الرحمن: فأخرجه سليمان في ترجمة: شعبة عن أبي الرجال، وغيره أخرجه في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة".
وقد حقق الحافظ في الفتح أن الصحيح ما ذكرنا. وهو الثابت في صحيح مسلم، وسنن أبي داود: ٢٤٠٧، وغيرهما.
وقصر السيوطي جدًا، إذ نسبه في الدر المنثور ١: ١٩١ لابن أبي شيبة، وأبي داود، والنسائي، فقط؛ وهو في الصحيحين كما ترى.
(٢) انظر الأثرين رقم: ٢٨٦٧، ٢٨٦٨، والتعليق عليهما.
474
الله عليه وسلم واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاجُ بها في الدين.
* * *
فإن قال قائل: وكيف عطف على"المريض"، وهو اسم بقوله:"أوْ على سفر" و"على" صفة لا اسم. (١).
قيل: جاز أن ينسق ب"على" على"المريض"، لأنها في معنى الفعل. وتأويل ذلك: أو مسافرًا، كما قال تعالى ذكره: (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) [يونس: ١٢]، فعطف ب"القاعد، والقائم" على"اللام" التي في"لجنبه"، لأن معناها الفعل، كأنه قال: دعانا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يريد الله بكم، أيها المؤمنون -بترخيصه لكم في حال مرضكم وسَفركم في الإفطار، وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد بُرئكم من مرضكم- التخفيفَ عليكم، والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال (٢) ="ولا يُريد بكم العسر"، يقول: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه، كما:-
٢٨٩٣- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، قال: اليسر: الإفطار في السفر، والعسر الصيام في السفر.
٢٨٩٤- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
(١) قوله: "صفة" يعني حرف جر. وحروف الصفات هي حروف الجر. وقد مضى بيان ذلك في ١: ٢٩٩ تعليق: ١.
(٢) في المطبوعة: "بشقة ذلك عليكم"، والصواب ما أثبت.
475
شعبة، عن أبي حمزة، قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر، فقال: يُسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله.
٢٨٩٥- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر. قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يريد الله بكم اليسر" -قال: هو الإفطار في السفر، وَجعل عدةً من أيام أخر-"ولا يريد بكم العسر".
٢٨٩٦- حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يريد الله بكمُ اليسر ولا يُريد بكم العسر"، فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم.
٢٨٩٧- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس، عن ابن عباس قال: لا تَعِبْ على من صام ولا على من أفطر -يعنِي في السفر في رمضان-"يريد الله بكم اليسر ولا يُريد بكم العسر".
٢٨٩٨- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضيل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمانَ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله:"يريد الله بكمُ اليسر" -الإفطار في السفر-"ولا يريد بكم العسر"، الصيام في السفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (١) "ولتكملوا العدة"، عدةَ ما أفطرتم، من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاءَ عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم، كما:
(١) في المطبوعة: "بذلك" مكان"بقوله"، وسياق الكلام يدل على صواب ما أثبت.
476
٢٨٩٩- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولتكملوا العدة"، قال: عدة ما أفطر المريض والمسافر.
٢٩٠٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولتكملوا العدة"، قال: إكمالُ العدة: أنَ يصومَ ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض [إلى] أنْ يُتمه، فإذا أتمه فقد أكمل العدة. (١).
* * *
فإن قال قائل: ما الذي عليه = بهذه"الواو" التي في قوله:"ولتكملوا العدة" = عَطَفَتْ؟ (٢).
قيل: اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعضهم: هي عاطفة على ما قبلها، كأنه قيل: ويُريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله.
وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه"اللام" التي في قوله:"ولتكملوا" لام"كي" لو ألقيتْ كان صوابًا. قال: والعرب تُدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها، ولا تكون شرطًا للفعل الذي قبلها وفيها"الواو"، ألا ترى أنك تقول:"جئتك لتحسن إلي"، ولا تقول:"جئتك ولتحسن إليّ"، فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن جئتك. قال: وهذا في القرآن كثيرٌ، منه قوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) [سورة الأنعام: ١١٣]، وقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: ٧٥]، ولو لم تكن فيه"الواو" كان شرطًا على قولك: أريْناهُ ملكوت السموات والأرض
(١) الزيادة بين القوسين لا غنى عنها هنا.
(٢) السياق: وما الذي عليه عطفت.
477
ليكون. فإذا كانت"الواو" فيها فلها فعل"مضمر" بعدها، و"ليكون من الموقنين"، أريناه. (١).
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في العربية. لأن قوله:"ولتكملوا العدة"، ليس قبله"لام" بمعنى"اللام" التي في قوله:"ولتكملوا العدة" فتعطف بقوله:"ولتكملوا العدة" عليها - وإن دخول"الواو" معها، يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها، إذ كانت"الواو" لو حذفت كانت شرطًا لما قبلها من الفعل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولتعظِّموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصَّكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه، وتشكروه على ذلك بالعبادة لهُ.
* * *
والذكر الذي حضهم الله على تعظيمه به،"التكبير" يوم الفطر، فيما تأوله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٠١- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن داود بن قيس، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"ولتكبروا الله على
(١) هذا قول الفراء، وهو نص كلامه في معاني القرآن ١: ١١٣.
478
ما هداكم"، قال: إذا رأى الهلال، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره.
٢٩٠٢- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول:"ولتكبِّروا الله على ما هداكم"، قال: بلغنا أنه التكبير يوم الفطر.
٢٩٠٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان ابن عباس يقول: حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبرِّوا الله حتى يفرغوا من عيدهم، لأن الله تعالى ذكره يقول:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم". قال ابن زيد: يَنبغي لهم إذا غَدوا إلى المصلَّى كبروا، فإذا جلسوا كبروا، فإذا جاء الإمام صَمتوا، فإذا كبر الإمام كبروا، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس: قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: والجماعةُ عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلَّى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.
و"لعل" في هذا الموضع بمعنى"كي" (١) ولذلك عطف به على قوله:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله عَلى ما هَداكم ولَعلكم تَشكرون".
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٣٦٤، والمراجع في فهرس مباحث العربية.
479
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم.
* * *
وقد اختلف فيما أنزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في سائل سأل النبي ﷺ فقال: يا محمد، أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله:"وإذا سألك عبادي عَني فأني قريبٌ أجيبُ" الآية.
٢٩٠٤- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبدة السجستاني، عن الصُّلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. (١).
(١) الحديث: ٢٩٠٤- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، مضى في: ٢٠٢٨، ٢٣٤٦. عبدة السجستاني: هو عبدة بن أبي برزة، ترجمه ابن أبي حاتم ٣/١/٩٠، ولم يذكر فيه جرحًا. ولم أجد له ترجمة عند غيره.
"السجستاني": هذا هو الصحيح، الثابت هنا، وفي المصادر المعتمدة، كما سيأتي. ووقع في بعض المراجع"السختياني"، وهو خطأ مطبعي واضح.
الصلب بن حكيم: نص الحافظ عبد الغني الأزدي المصري، في كتاب المؤتلف والمختلف، ص ٧٩، على أنه"صلب": "بالياء معجمة من تحتها وضم الصاد". وترجم له فقال: "صلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. روى حديثه محمد بن حميد، عن جرير، عن عبدة بن أبي برزة السجستاني".
وكذلك قال الذهبي في المشتبه، ص: ٣١٦"وصلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. يشتبه بالصلت بن حكيم". وفي هامشه، نقلا عن هامش إحدى مخطوطاته: "قال الخطيب: قيل إنه أخ لبهز بن حكيم، ولا يصح ذلك. ويشتبه أيضًا بالصلت بن حكيم، بضم الحاء. ويقال: الحكيم بن الصلت" وكذلك قال الحافظ بن حجر، في"تبصير المنتبه" (مخطوط مصور عندي)، ونص على أنه"قيل: إن الصلب بن حكيم، المتقدم ذكره - أخو بهز بن حكيم، ولا يصح".
ولكنه -مع هذا- ترجم له في لسان الميزان ٣: ١٩٥، في باب"الصلت"، نقلا عن الميزان، وذكر هذا الحديث له. وذكر رواية الذهبي إياه بإسناده إلى"محمد بن حميد". ثم ذكر -نقلا عن الذهبي أيضًا- أنه رواه ابن أبي خثيمة، في جزء فيمن روي عن أبيه عن جده، وأنه"أخرجه العلائي في كتاب الوشي، عن إبراهيم بن محمد. وقال: لم أر للصلت ذكرًا في كتب الرجال". ثم عقب الحافظ على ذلك بقوله: "قلت: ذكره الدارقطني في المؤتلف، وحكى الاختلاف: هل آخره بالموحدة، أو بالمثناة؟ وقال إنه ابن حكيم بن معاوية بن حيدة، فهو أخو بهز بن حكيم، المحدث المشهور. وليس للصلت ولا لأبيه ولا لجده - ذكر في كتب الرواة، إلا ما قدمت من ذكر ابن أبي خيثمة، ولم يزد في التعريف به على ما ها هنا".
وهذا اضطراب شديد من الحافظ ابن حجر. ثم إن هذه التي نقلها عن ميزان الاعتدال للذهبي لم تذكر في النسخة المطبوعة منه. فالظاهر أنها سقطت من الأصول التي طبع عنها الميزان.
والراجح عندي ما ذهب إليه الذهبي وابن حجر وابن أبي خيثمة وعبد الغني الأزدي: أنه"صلب" بضم الصاد وبالوحدة في آخره. وأنه مجهول هو وأبوه وجده. أما"حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري-: فإنه تابعي معروف، وأبوه صحابي معروف. وقد روي عن حكيم بن معاوية بن حيدة - أبناؤه: بهز، وسعيد ومهران. فلا صلة للذي يسمى"الصلب" هذا - بهؤلاء.
وهذا الحديث ضعيف جدًا، منهار الإسناد بكل حال.
وقد وهم الحافظ ابن كثير، حين ذكره ١: ٤١٣-٤١٤، وجعله من حديث"معاوية بن حيدة القشيري".
وذكره السيوطي أيضًا ١: ١٩٤، وأخطأ فيه خطأ آخر: فجعله"من طريق الصلت بن حكيم، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده"!! وقد تكون زيادة" عن رجل من الأنصار" خطأ من الناسخين، لا من السيوطي.
480
٢٩٠٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي ﷺ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أين ربُّنا؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية (١).
* * *
(١) الحديث: ٢٩٠٥- جعفر بن سليمان: هو الضبعي، بضم الضاد المعجمة، وفتح الباء الموحدة. وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره.
عوف: هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وقد مضت له رواية في: ٦٤٥. وهو معروف بالرواية عن الحسن البصري.
وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن. ولكن الحديث ضعيف، لأنه مرسل، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة.
وقد رواه أبو جعفر هنا، من طريق عبد الرزاق، ولم أجده في تفسير عبد الرزاق. فلعله في موضع آخر من كتبه.
481
وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لمسألة قومٍ سَألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ ساعة يدعون الله فيها؟
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٠٦- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما نزلت: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر: ٦٠] قالوا: في أي ساعة؟ قال: فنزلت:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب" إلى قوله:"لعلهم يَرُشدون".
٢٩٠٧- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:"أجيب دَعوَة الداع إذا دعان"، قالوا: لو علمنا أيَّ ساعة نَدْعو! فنزلت:"وإذا سَأَلكَ عِبَادي عَنّي فإني قريب" الآية.
٢٩٠٨- حدثني القاسم. قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه: لما نزلت: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو! فنزلت:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون".
٢٩٠٩- حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا سَألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دَعان"، قال: ليس من عَبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروهًا.
٢٩١٠- حدثني المثني قال، حدثنا الليث بن سعد عن ابن صالح، عمن حدثه: أنه بلغه أنّ رسول الله ﷺ قال: ما أعطى أحدٌ الدعاءَ
482
ومُنع الإجابة، لأن الله يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
* * *
ومعنى متأوِّلي هذا التأويل: وإذا سألك عبادي عني: أي ساعة يدعونني؟ فإني منهم قريب في كل وقت، أجيب دعوة الداع إذا دعان.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لقول قوم قالوا - إذْ قالَ الله لهم: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) -: إلى أين ندعوه!
* ذكر من قال ذلك:
٢٩١١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: ١١٥].
* * *
وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لقوم قالوا: كيف ندعو؟
* ذكر من قال ذلك:
٢٩١٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما أنزل الله"ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، قال رجال: كيف ندعو يا نبي الله؟ فأنزل الله:"وإذا سَألك عبادي عَنّي فإنّي قريبٌ" إلى قوله:"يرشدون".
* * *
وأما قوله:"فليستجيبوا لي"، فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة. يقال منه:"استجبت له، واستجبته"، بمعنى أجبته، كما قال كعب بن سعد الغنويّ:
وَدَاعٍ دَعَا يَامَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيب (١)
(١) سلف هذا البيت في١: ٣٢٠، ونسيت هناك أن أشير إليه أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في ٤: ١٤٤ (بولاق).
483
يريد: فلم يجبه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعةٌ غيره.
٢٩١٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"فليستجيبوا لي"، قال: فليطيعوا لي، قال:"الاستجابة"، الطاعة.
٢٩١٤- حدثني المثني قال، حدثنا حبان بن موسى قال: سألت عبد الله بن المبارك عن قوله:"فليستجيبوا لي"، قال: طاعة الله.
* * *
وقال بعضهم: معنى"فليستجيبوا لي": فليدعوني
*ذكر من قال ذلك:
٢٩١٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني، قال"فليستجيبوا لي"، فليدعوني.
* * *
وأما قوله:"وليؤمنوا بي" فإنه يعني: وَليصدِّقوا. أي: وليؤمنوا بي، إذا همُ استجابوا لي بالطاعة، أني لهم من وَرَاء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها.
* * *
وأما الذي تأوَّل قوله:"فليستجيبوا لي"، أنه بمعنى: فليدعوني، فإنه كان يتأوّل قوله:"وليؤمنوا بي"، وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩١٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني:"وليؤمنوا بي"، يقول: أني أستجيب لهم.
* * *
وأما قوله:"لعلهم يَرشُدُون" فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة، وليؤمنوا بي
484
فيصدِّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم، وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا، كما:-
٢٩١٧- حدثني به المثني قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله:"لعلهم يَرشدون"، يقول: لعلهم يهتدون.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره؟ فأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله فلا يجابُ لهم دُعاء، وقد قال:"أجيبُ دَعوة الداع إذا دَعان"؟
قيل: إن لذلك وجهين من المعنى:
أحدهما: أن يكون معنيًّا"بالدعوة"، العملُ بما نَدب الله إليه وأمر به. فيكون تأويل الكلام. وإذا سألك عبادي عَني فإنى قريبٌ ممن أطاعني وعَمل بما أمرته به، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني. فيكون معنى"الدعاء": مسألة العبد ربَّه وما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى"الإجابة" من الله التي ضمنها له، الوفاءُ له بما وعد العاملين له بما أمرهم به، كما روي عن النبي ﷺ من قوله:"إنّ الدعاء هو العبادة".
٢٩١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جويبر، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدعاءَ هُوَ العبادة. ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [سورة غافر: ٦٠] (١).
* * *
(١) الحديث: ٢٩١٨- أما الحديث في ذاته - فإنه حديث صحيح. وأما هذا الإسناد بعينه، فلا أدري كيف يستقيم؟ مع ضعفه!
فإن ابن حميد - شيخ الطبري- هو: محمد بن حميد الرازي، سبق توثيقه: ٢٠٢٨، ٢٢٥٣.
ولكن من المحال أن يقول: "حدثنا جويبر"، لأن ابن حميد مات سنة ٢٤٨، وجويبر بن سعيد الأزدي مات قبل ذلك بنحو مائة سنة، فقد ذكره البخاري في الصغير، ص: ١٧٦، فيمن مات بين سنتي: ١٤٠ - ١٥٠. فلا بد أن يكون قد سقط بينها شيخ، خطأ من الناسخين. ثم إن "جويبرا" هذا: ضعيف جدًا، كما بينا في: ٢٨٤.
الأعمش: هو سليمان بن مهران، الإمام المعروف.
ذر، بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء: هو ابن عبد الله المرهبي، بضم الميم وسكون الراء وكسر الهاء بعدها ياء موحدة. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
يسيع - بضم الياء الأولى وسكون الثانية بينهما سين مهملة مفتوحة: هو ابن معدان الحضرمي، في التهذيب، والكبير ٤/٢/٤٢٥ - ٤٢٦، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣١٣. ووقع هنا في المطبوعة"سبيع"! وهو تصحيف.
والحديث سيأتي في الطبري ٢٤: ٥١ - ٥٢ (بولاق)، بستة أسانيد. ووقع اسم "ذر" هناك مصحفًا إلى "زر"، بالزاي بدل الذال.
وهو حديث صحيح. رواه أحمد في المسند ٤: ٢٧١ (الحلبي)، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد. فليس فيه "جويبر" الضعيف المذكور هنا.
ونقله ابن كثير ٧: ٣٠٩، عن ذلك الموضع من المسند، وقال: وهكذا رواه أصحاب السنن: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير - كلهم من حديث الأعمش، به. وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير أيضًا، من حديث شعبة، عن منصور الأعمش- كلاهما عن ذر، به، ثم ذكر أنه رواه ابن حبان والحاكم أيضا.
وهو عند الحاكم ١: ٤٩٠ - ٤٩١ بأسانيد، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي ٥: ٣٥٥، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.
485
فأخبر صَلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته، بالعمل له والطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسن كان يقول:
٢٩١٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني منصور بن هارون، عن عبد الله بن المبارك، عن الربيع بن أنس، عن الحسن أنه قال فيها: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حقٌّ على الله أنَ يستجيب
486
للذين آمنوا وعَملوا الصالحات ويزيدُهم من فضله.
* * *
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أجيب دعوة الداع إذا دَعان إن شئت. فيكون ذلك، وإن كان عامًّا مخرُجه في التلاوة، خاصًّا معناهُ.
* * *
487
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أحل لكم"، أطلق لكم وأبيح (١).
* * *
ويعني بقوله:"ليلة الصيام"، في ليلة الصيام.
* * *
فأما"الرفث" فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع، يقال:"هو الرفثُ والرُّفوث". (٢).
* * *
وقد روي أنها في قراءة عبد الله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفوثُ إلى نسائكم".
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الرفث" قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
٢٩٢٠- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر عن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الرفث، الجماعُ، ولكن الله كريم يَكني.
(١) انظر تفسير"الحلال" فيما سلف من هذا الجزء ٣: ٣٠٠، ٣٠١.
(٢) انظر ما سيأتي في معنى"الرفث" في هذا الجزء (٢: ١٥٣ - ١٥٥ بولاق).
487
٢٩٢١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، مثله.
٢٩٢٢- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث، النكاح.
٢٩٢٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الرفث: غِشيانُ النساء.
٢٩٢٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، قال: الجماع.
٢٩٢٥- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٩٢٦- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: الرفث: هو النكاح.
٢٩٢٧- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكبير البصري قال، حدثنا الضحاك بن عثمان قال، سألت سالم بن عبد الله عن قوله:"أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، قال: هو الجماع.
٢٩٢٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، يقول: الجماع.
* * *
"والرفث" في غير هذا الموضع، الإفحاشُ في المنطق، كما قال العجاج:
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (١)
* * *
(١) ديوانه: ٥٩، وسيأتي مع البيت قبله في التفسير ٢: ٢٤٦ (بولاق)، من رجز له طويل، حمد فيه الله ومجده بقوله:ثم عطف على قوله: "ورب كل كافر ومسلم" عطوفًا كثيرة، حتى انتهى إلى ما أنشده الطبري:
فَالحَمْد ِللهِ العَلِيِّ الأَعْظَمِ ذِي الجَبَرُوتِ والجَلاَلِ الأَفْخَمِ
وَعَالِمِ الإِعْلاَنِ والمُكَتَّمِ وربّ كُلِّ كَافِرٍ ومُسْلِمِ
وربِّ أسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّمِ عن اللَّغَا وَرفَثِ التَّكَلُّمِ
والأسراب جمع سرب: وهو القطيع أو الطائفة من القطار الظباء والشاء والبقر والنساء، وجعله هذا للحجاج. والحجيج: الحجاج. وكظم جمع كاظم: وهو الساكت الذي أمسك لسانه وأخبت، من الكظم (بفتحتين) وهو مخرج النفس. واللغا واللغو: السقط ومالا يعتد به من كلام أو يمين، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع.
هذا، ومما يدل على أن أبا جعفر كان يختصر القول اختصارًا في بعض المواضع، أنه لم يفسر تعدية"الرفث" بحرف الجر"إلى"، ولولا الاختصار لقال فيه مقالا على ما سلف من نهجه. وقد عدي"الرفث"بـ "إلى"، لأنه في معنى الإفضاء. يقال: "أفضيت إلى امرأتي"، فلما أراد هذا المعنى جاء بحرفه ليضمنه معناه، إيذانًا بأن ذلك ما أراد بهذه الكناية.
488
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم لباسٌ لكمُ وأنتم لباسٌ لهن.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا، ونحن لهن لباسًا و"اللباس" إنما هو ما لبس؟
قيل: لذلك وجهان من المعاني:
أحدهما: أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا، لتخرُّدهما عند النوم، (١) واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه،
(١) في المطبوعة: "لتخرجهما عند النوم"، وأخشى أن يكون تصحيفًا. جعل الجيم خاء، وألصق الدال بالهاء، فظنها الناسخ خاء، لتشابههما. ولم أجد في مادة"خرج""خرج" بتشديد الراء بمعنى التجرد من الثياب، وإن كانوا يقولون: "خرج فلان من ثيابه" ولكنه هنا لا يظهر معناه لسقوط ذكره اللباس في عبارته. وإن كنت أظنها بعيدة، ولو ذكر معها اللباس. ورجح هذا التصحيح عندي قوله بعد البيت الآتي: "متجردين في فراش واحد".
489
بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما: هو"لباس" لصاحبه، كما قال نابغة بني جعدة:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا تَدَاعَتْ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا (١)
ويروي:" تثنت" فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد ب"اللباس"، كما يكنى ب"الثياب" عن جسد الإنسان، كما قالت ليلى، وهي تصف إبلا ركبها قومٌ:يعني:
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ، فَلا تَرَى لَهَا شَبَهًا إلا النَّعَامَ المُنَفَّرَا (٢)
رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذليّ (٣) تَبَرَّأُ مِنْ دَمِ القَتيلِ وَوَتْرِهِ وَقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُهَا (٤)
(١) الشعر والشعراء: ٢٥٥ من أبيات جياد، ومجاز القرآن لأبي عبيدة:
٦٧، وتأويل مشكل القرآن ١٠٧، وغيرها، وقبله أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالفُؤَاءِ الْتِبَاسَا
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فِيه نُحَاسَا
بِآنسَةٍ غَيْرِ أنْسِ القِرَافِ وَتَخْلِطُ بالأُنْسِ مِنْها شِمَاسَا
وهو شعر كما ترى
(٢) المعاني الكبير ١: ٤٨٦، وتأويل مشكل القرآن: ١٠٧ وغيرهما. وقولهما: "رموها بأثواب" قالوا: تعني بأجسام خفاف (المعاني) والصواب في ذلك أن يقال: أن هؤلاء الركب قد لوحتهم البيد وأضتتهم، فلم يبق فيهم إلا عظام معروقة عليها الثياب، لا تكاد ترى إلا ثوبًا يلوح على كل ضار وضامر، ولذلك شبهت الإبل عليها ركبها بالنعام المنفر. والمنفر: الذي ذعر فانطلق هاربًا يخفق في الأرض.
(٣) هو أبو ذؤيب الهذلي.
(٤) ديوانه: ٢٦، والمعاني الكبير: ٤٨٣، ومشكل القرآن: ١٠٨ وغيرها. من قصيدة له عجيبة، يرثى بها صديقه وحميمه نشيبة بن محرث، استفتحها متغزلا مشببًا بصاحبته أم عمرو، واسمها فطيمة، وقال قبل هذا البيت، يلوم نفسه على هجرها ويقول: كَنَعْتِ الَّتِي ظَلَّت تُسَبِّع سُؤْرَهَا... وَقَالتْ: حَرَامٌ أنْ يرَجَّلَ جَارُهَا
فَإنَّكَ مِنْهَا والتَّعَذُّرَ، بَعْدَ مَا لَجِجْتَ، وشطَّتْ مِنْ فُطَيْمَةَ دَارُهَا
تبرَّأُ مِنْ دَم القَتِيل.... ...................
يقول أنت في انتفاءك من حبها بعد اللجاجة فيه، كهذه المرأة التي قتلت قتيلا وحازت بزه، أي سلاحه، وأخفته. قال الأصمعي في خبر هذه المرأة: هذه امرأة نزل بها رجل فتحرجت أن تدهنه وترجل شعره، ثم جاء كلب فولغ في إنائها فغسلته سبع مرات. وذلك بعين الرجل، فتعجب منها ومن ورعها. فبينا هو كذلك، أتاها قوم يطلبون عندها قتيلا، فانتفلت من ذلك -أي أنكرت- وحلفت. ثم فتشوا منزلها، فوجدوا القتيل وسلاحه في بيتها".
يقول أنت كهذه المرأة، تجحد حب صاحبتك، وتظهر أنك قد كبرت وانتهيت عن الجهل والصبا، ولو فتش قلبك. لرأوا حبك لها لا يزال يتأجج ويشتعل.
490
يعني ب"إزارها"، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول:
٢٩٢٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهنّ"، يقول: هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. (١).
* * *
والوجه الآخر: أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه"لباسًا"، لأنه سَكنٌ له، كما قال جل ثناؤه: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا) [سورة الفرقان: ٤٧]، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [سورة الأعراف: ١٨٩]
(١) الأثر: ٢٩٢٩- في المطبوعة: "عبد الرحمن بن سعيد"، وقد مضى برقم: ٢٩١٧، على الصواب كما أثبته. وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤدب، روي عن أبيه وعمه محمد وبني أعمامه. وجماعة من أهله، وأبي الزناد وصفوان بن سليم، وروي عنه إسحاق بن راهويه وإبراهيم بن المنذر وغيرهما. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: فيه نظر. وقال الحاكم أبو أحمد حديثه ليس بالقائم.
491
فيكون كل واحد منهما"لباسًا" لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.
وقد يقال لما سَتر الشيء وَواراه عَن أبصار الناظرين إليه:"هو لباسه، وغشاؤه"، فجائز أن يكونَ قيل:"هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن"، بمعنى: أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه -فيما يكون بينكم من الجماع- عن أبصار سائر الناس.
وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما:-
٢٩٣٠- حدثنا به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هن لباس لكم وأنتم لباسٌ لهن"، يقول: سكنٌ لهن.
٢٩٣١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال قتادة: هُنّ سكنٌ لكم، وأنتم سكنٌ لهنّ.
٢٩٣٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هن لباسٌ لكم" يقول: سكن لكم،"وأنتم لباس لهن"، يقول: سكن لهن.
٢٩٣٣- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال: المواقعة.
٢٩٣٤- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم، عن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قوله:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال: هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن.
* * *
492
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذه الخيانة التي كانَ القوم يختانونها أنفسهم، التي تابَ الله منها عليهم فعفا عنهم؟
قيل: كانت خيانتُهم أنفسَهم التي ذكرها الله في شيئين، أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشربُ في الوقت الذي كانَ حرامًا ذلك عليهم، كما:-
٢٩٣٥- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبه، عن عمرو بن مرة قال، حدثنا ابن أبي ليلى: أن الرجل كان إذا أفطرَ فنام لم يأتها، وإذا نام لم يطعم، حتى جاء عمر بن الخطاب يُريد امرأته، فقالت امرأته: قد كنتَ نمتَ! فظنّ أنها تعتلُّ فوقع بها. قال: وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالوا: نسخّن لك شيئًا؟...... (١) قال: ثم نزلت هذه الآية:"أحِلَ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" الآية.
(١) الأثر: ٢٩٣٥- موضع هذه النقط خرم في النسخ. وخبر عبد الرحمن بن أبي ليلى هذا أخرجه وكيع وعبد بن حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو في الدر المنثور ١: ١٩٨، بغير هذا اللفظ. ولو أريد إتمامه لكان:
[نسخن لك شيئًا تفطِرُ عليه؟ فغلبته عيناهُ فنام. فجاءوا وقد نام، فقالوا: كُلْ! فقال: قد كنتُ نمتُ! فترك الطعام وبات ليلته يتقلّبُ. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، إني أردتُ أهلي البارحة على ما يريدُ الرجلُ أهله، فقالت: إنها قد نامت! فظننتها تعتَلُُّ، فواقعتها، فأخبرتني أنّها كانت نامت].
هذا لفظ آخر، ولكنه دال على المعنى الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى، والذي استدل به الطبري. ثم انظر الآثار التالية ٢٩٣٦-٢٩٣٨ عن ابن أبي ليلى.
493
٢٩٣٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلما دخل رَمضان كانوا يصومون، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام، لم يأكل إلى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخٌ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئًا سخنًا! قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إني قد نمت! فلم يعذرها، وظن أنها تعتلّ، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرًا وبطنًا، فأنزل الله في ذلك:"وكلوا واشرَبوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر"، وقال:"فالآن بَاشروهن"، فعفا الله عن ذلك، وكانت سُنَّةً.
٢٩٣٧- حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له، قال: فلما كان عند فطره نام، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي ﷺ قال: ما لي أرى بكَ جهدًا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، إلى آخر الآية. (١).
(١) الحديث: ٢٩٣٧- هو قطعة من حديث طويل، سبق بعضه بهذا الإسناد: ٢٧٢٩، ٢٧٣٣. ووقع في المطبوعة هنا تحريف في الإسناد، هكذا: "حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله عن عتبة"! وصوابه: "عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة"، وهو المسعودي، كما بينا فيما مضى.
وقد أشرنا فيما مضى إلى أن أبا داود روى هذا الحديث المطول: ٥٠٧، من طريق يزيد بن هارون، عن المسعودي. ولكنه لم يذكر فيه القسم الذي هنا كاملا، بل أشار إليه، إحالة على الرواية قبله، فقال: "وجاء صرمة وقد عمل يومه. وساق الحديث".
والحديث مطول في مسند أحمد ٥: ٢٤٦-٢٤٧، من رواية أبي النضر ويزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، به. كما أشرنا إليه مفصلا، فيما مضى: ٢١٥٦. وفيه القسم الذي هنا. ولكن فيه أن الرجل الأنصاري"يقال له صرمة"، كما في رواية أبي داود.
وقد مضى في الرواية السابقة: ٢٩٣٦. أنه"صرمة بن مالك". وفي هذه الرواية -هنا-: "يدعى أبا صرمة".
والرواية السابقة مرسلة. وهذه الرواية منقطعة، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل. وسيأتي مزيد بيان عن اسم هذا الأنصاري، في الرواية الآتية: ٢٩٣٩.
494
٢٩٣٨- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حَدّث به عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدهم، لم يأكُل شيئًا حتى يكون من الغد. فجاء رجلٌ من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلَّ، فغلبته عينه فنام، وأصبح من الغد مجهودًا، فنزلت هذه الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (١).
٢٩٣٩- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، وكان توجَّه ذلك اليوم فعمِل في أرضه، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نمت! فلم ينتصف النهارُ حتى غُشي عليه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيه هذه الآية:"أحِلَ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" إلى"من الخيط الأسود" ففرحوا بها فرحًا شديدًا (٢).
(١) الحديث: ٢٩٣٨- هذا إسناد صحيح، لولا ضعف سفيان بن وكيع -كما قلنا مرارًا- ولكنه ثابت في تفسير وكيع، كما ذكره السيوطي. والطبري لم يذكر لفظه كاملا، أحال على الروايات قبله. وسيذكره كاملا عقب هذا.
(٢) الحديث: ٢٩٣٩- وهذا إسناد صحيح. عبد الله بن رجاء الغذائي: سبق توثيقه: ٢٨١٤.
والحديث ثابت من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب الأنصاري:
فرواه أحمد في المسند ٤: ٢٩٥ (حلبي)، عن أسود بن عامر، وأبي أحمد الزبيري. والبخاري ٤: ١١١-١١٢ (فتح)، عن عبيد الله بن موسى. وأبو داود: ٢٣١٤، من طريق أبي أحمد. والترمذي ٤: ٧١-٧٢، من طريق عبيد الله بن موسى - كلهم عن إسرائيل، عن جده أبي إسحاق. السبيعي. ورواه النسائي ١: ٣٠٥، من طريق زهير، عن أبي إسحاق. ورواه البخاري أيضًا ٨: ١٣٦، مختصرًا. عن عبيد الله بن موسى، وبإسناد آخر عن أبي إسحاق.
وذكره السيوطي ١: ١٩٧، وزاد نسبته إلى وكيع، وعبد بن حميد، والنحاس في ناسخه، وابن المنذر، والبيهقي في السنن.
وقد أطال الحافظ في الفتح ٤: ١١١-١١٢، في بيان الاختلاف في اسم الأنصاري، والروايات في ذلك. ورجح أنه"أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي... ". وأنه عن هذا جاء الاختلاف فيه: فبعضهم أخطأ اسمه وسماه بكنيته، وبعضهم نسبه لجده، وبعضهم قلب نسبه. وبعضهم صفحه"ضمرة بن أنس"، وأن صوابه"صرمة بن أبي أنس". وكذلك صنع في الإصابة بأطول من ذلك ٣: ٢٤١-٢٤٣، ٢٨٠. "صرمة": بكسر المهملة وسكون الراء وفتح الميم.
495
٢٩٤٠- حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشروهن" يعني انكحوهن،"وكلوا واشربوا حَتى يَتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (١)
٢٩٤١- حدثني المثني قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، قال: حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة: أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناسُ في رمضان إذا صامَ الرجل فأمسَى فنام، حُرِّم عليه الطعام والشراب والنساءُ حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن
(١) الحديث: ٢٩٤٠- ذكره ابن كثير ١: ٤١٨-٤١٩، من غير تخريج. والسيوطي ١: ١٩٧، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، فقط.
496
الخطاب من عند النبي ﷺ ذات ليلة وقد سَمَر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت: إني قد نمت! فقال: ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي ﷺ فأخبره، فأنزل الله تعالى ذكره:"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عَليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن"... الآية (١).
٢٩٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا ثابت: أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله: (أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (٢).
٢٩٤٣- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال،
(١) الحديث: ٢٩٤١- سويد: هو ابن نصر بن سويد المروزي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، ونص البخاري في الكبير ٢/٢/١٤٩ على أنه سمع ابن المبارك. وذكر أنه مات سنة ٢٤٠ عن ٩١ سنة.
ابن لهيعة - بفتح اللام وكسر الهاء: هو عبد الله، الفقيه القاضي المصري. مختلف فيه كثيرا، والتحقيق أنه ثقة صحيح الحديث. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: ٨٧، ٦٦١٣.
موسى بن جبير المدني الحذاء: ثقة، يخطئ في بعض حديثه. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٢٨١، وابن أبي حاتم ٤/١/١٣٩، ولم يذكرا فيه جرحا. وهو مولى"بني سلمة" بفتح السين وكسر اللام، من الأنصار. انظر المشتبه للذهبي، ص: ٢٧٠.
عبد الله كعب بن مالك الأنصاري السلمي -بفتح اللام، نسبة إلى"بني سلمة" بكسرها: تابعي ثقة، كان قائد أبيه حين عمي، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٥٨٦٠ (٣: ٤٦٠ حلبي)، عن عتاب بن زياد، عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير ١: ٤٢٠. عن الطبري، فقط.
وذكره السيوطي ١: ١٩٧، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم"بسند حسن". وإنما حسن إسناده، من أجل ابن لهيعة -فيما أرجح- وعندي أنه إسناد صحيح.
(٢) الحديث: ٢٩٤٢- ثابت: هو ابن أسلم البناني، بضم الباء الموحدة وتخفيف النون الأولى. وهو تابعي ثقة، ولكنه يروي عن صغار الصحابة، كأنس، وابن الزبير، وابن عمر لم يدرك أن يروي عن عمر بن الخطاب. فهذا إسناد منقطع، ضعيف لذلك. والحديث ذكره السيوطي ١: ١٩٧، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
497
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم هُنّ لباسٌ لَكم وأنتم لباسٌ لهن" إلى:"وعفا عَنكم". كان الناس أوّلَ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصوم يومه، حتى إذا أمسى طَعِم من الطعام فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صُليت حُرّم عليهم الطعامُ حتى يمسي من الليلة القابلة. وإنّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوّلت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته، فلما اغتسلَ أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيتَ من الملامة. ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسولَ الله، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، فانها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ قال: لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعُذره في آية من القرآن، وأمر الله رسوله أن يَضَعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال:"أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" إلى"علم الله أنكم كنتم تَختانون أنفسكم" يعني بذلك: الذي فعل عمر بن الخطاب فأنزل الله عفوه. فقال:"فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن بَاشرُوهن" إلى:"من الخيط الأسود" فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح (١).
٢٩٤٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال: كان الرجل من أصحاب محمد ﷺ يصوم الصيام بالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رَقَد حرَّم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يَختانون أنفسهم في ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل [ذلك] لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله (٢).
(١) الحديث: ٢٩٤٣- هذا الحديث بالإسناد المسلسل بالضعفاء، الذي شرحناه مفصلا في: ٣٠٥. وقد ذكره السيوطي ١: ١٩٧، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.
ولم تكن بنا حاجة للكلام عليه هنا، إلا أننا أردنا أن نمهد به لحديث لأبي هريرة في معناه. نقله السيوطي ١: ١٩٧، ونسبه للطبري فقط، قال: "وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة.. ".
وذكره ابن كثير ١: ٤١٩ مع أواخر إسناده، ولم يذكر من خرجه. والظاهر من تتبع صنيعه أنه نقله عن الطبري أيضًا.
ولم نجده في الطبري، فإما سقط من الناسخين، وإما هو في موضع آخر من الطبري لما تصل إلينا معرفته. فرأينا إثباته - تماما للفائدة، وحفظا لما ينسب لهذا التفسير العظيم.
قال ابن كثير: "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، في قول الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامُ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى قوله (ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية - إذا صلُّوا العشاءَ الآخِرَةَ حَرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفْطروا. وإن عمر بن الخطاب أصاب أهلَه بعد صلاة العشاء، وإن صِرْمَةَ بن قيس الأنصاري غَلَبَتْهُ عيناه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله ﷺ العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتَى رسولَ الله صلى الله عليه سلم، فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: (أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيَامَ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، يعني بالرفث مجامعةَ النساء، (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم)، يعني: تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء، (فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآنبَاشِرُوهُنَّ) يعني: جامعوهن، (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُم)، يعني: الولد، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ)، فكان ذلك عَفْوًا من الله ورَحْمَةً".
هذا لفظ رواية ابن كثير. والسيوطي اختصره قليلا.
فهذا إسناد صحيح من سعيد بن أبي عروبة إلى أبي هريرة. أما ما وراه سعيد بن أبي عروبة، فلا ندري ما حاله، حتى نعرف رواته.
وقيس بن سعد: هو المكي، أبو عبد الملك، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/١٥٤. وابن أبي حاتم ٣/٢/٩٩، وابن سعد ٥: ٣٥٥، ولكن ذكر أن كنيته"أبو عبيد الله". وقال: "كان قد خلف عطاء بن أبي رباح في مجلسه".
وكنية قيس عند البخاري"أبو عبد الله". والظاهر أن هذا هو الصحيح، لأن الدولابي ذكره في الكنى ٢: ٥٩، في باب"أبو عبد الله".
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الأثر الذي يليه ومن السياق.
498
٢٩٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أصحاب النبي ﷺ يصوم الصائم في رمضان، فإذا أمسى -ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه: وكان منهم رجال يختانون أنفسهم، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه، فعفا الله عنهم، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله، وفي الليل كله.
٢٩٤٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن شَرُوس، عن عكرمة مولى ابن عباس: أن رجلا -قد سَمَّاه [فنسيته]- من أصحاب رسول الله ﷺ من الأنصار، جاء ليلةً وهو صائم، فقالت له امرأته: لا تَنمْ حتى نصنعَ لك طعامًا! فنام، فجاءت فقالت: نمت والله! فقال: لا والله! قالت: بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة، وأصبح صائمًا فَغُشى عليه، فأنزلت الرخصة فيه (١).
(١) الحديث: ٢٩٤٦- إسماعيل بن شروس، أبو المقدام الصنعاني: ذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات، كما في لسان الميزان. وذكره ابن سعد في الطبقات ٥: ٣٩٧، ولم يذكر فيه أكثر من قوله"قد روى عنه". وترجمه ابن أبي حاتم ١/١/١٧٧، ولم يذكر فيه جرحا، والبخاري في الكبير ١/١/٣٥٩-٣٦٠، وذكر أنه يروي عن عكرمة، من قوله - يعني غير متصل، فهو إشارة إلى هذه الرواية، لأنها من قول عكرمة، مرسلة، لم يسندها عن أحد من الصحابة، ثم قال البخاري: "قال عبد الرزاق، عن معمر: كان يثبج الحديث". ونقل مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني، عن هامش إحدى نسخ التاريخ الكبير: "أي لا يأتي به على الوجه". وهذا هو الصواب في هذا الحرف، أنه"يثبج" من"التثبيج" بالثاء المثلثة والجيم، ففي شرح القاموس ٢: ١٣"يقال ثبج الكتاب والكلام تثبيجا: لم يبينه. وقيل: لم يأت به على وجهه. وقال الليث: التثبيج التخليط". ونقلت هذه الكلمة في لسان الميزان ١: ٤١١ محرفة إلى"يضع الحديث"! وهو تحريف قبيح. فما رمى هذا الرجل بالوضع قط. ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء.
و"شروس": من الأسماء النادرة، ولم أجد نصا على ضبطه، إلا أنه ضبط بالقلم في تفسير عبد الرزاق بفتحة فوق الشين المعجمة وضمة فوق الراء وكسرتين تحت السين المهملة في آخره. ونقل الشيخ عبد الرحمن اليماني هذا الضبط أيضًا عن إحدى نسخ التاريخ الكبير، وأن بهامشها نسخة أخرى مضبوطة بفتحة فوق الشين وأخرى فوق الواو مع سكون فوق الراء.
وهذا الحديث مرسل - كما ترى. وهو في تفسير عبد الرزاق، ص: ١٨. ولم أجده في غير هذين الموضعين.
وقد زدنا كلمة [فنسيته]، بعد كلمة"سماه" - من تفسير عبد الرزاق. وكان في المطبوعة"وأنزلت الرخصة"، بالواو بدل الفاء. وأثبتنا الفاء من تفسير عبد الرزاق، إذ هي أجود هنا.
500
٢٩٤٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"علم الله أنكم كُنتُم تَختانون أنفسكم" وكان بدءُ الصيام أمِروا بثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين غدوة، وركعتين عشية، فأحلّ الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا، وكان الطعام والشرابُ وغشيان النساءَ لهم حلالا ما لم يرقدوا، فإذا رَقَدوا حُرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يُصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، ثم أحل الله لهم [بعد] ذلك الطعام والشراب وغشيانَ النساء إلى طلوع الفجر (١).
٢٩٤٨- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال: كان الناس قبل هذه الآية إذا رَقَد أحدُهم من الليل رَقْدًة، لم يحلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة، فوقع بذلك بعض المسلمين، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب، ومنهم من وقع على امرأته، فرخص الله ذلك لهم.
٢٩٤٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: كُتب على النصارى رَمَضان، وكُتب عليهم أن لا
(١) الأثر: ٢٩٤٧- الذي بين القوسين زيادة لا بد منها. وسياق هذا الأثر فيه بعض الغرابة، ولم أجده بنصه هذا في مكان آخر. ولكن جاء في الدر المنثور ١: ١٩٨ أثر مثله، قال في صدره: "وأخرج عبد حميد وابن جرير عن قتادة"، وساق أثرا يخالفه كل المخالفة في أكثر لفظه، وإن وافقه في بعض المعنى: قال.
[كان هذا قبل صوم رمضان، أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوما. وأمروا بركعتين غدوة وركعتين عشية. فكان هذا بدء الصلاة والصوم. فكانوا في صومهم هذا، وبعد ما فرض الله رمضان، إذا رقدوا لم يمسوا النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. وكان أناس من المسلمين يصيبون من النساء والطعام بعد رقادهم، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، فأنزل الله في ذلك من القرآن: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، الآية].
501
يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم، فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة، وكان يَعمل في حيطان المدينة بالأجر (١) فأتى أهله بتمر فقال لامرأته: استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سَخينةً، لعليّ أن آكله، فإن التمر قد أحرق جَوْفي! فانطلقت فاستبدلت له، ثم صنعتْ فأبطأتْ عليه فنام، فأيقظته، فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، وأصبح صائما; فرآه رسول الله ﷺ بالعشيّ، فقال: ما لك يا أبا قيس! أمسيتَ طليحا؟ (٢) فقص عليه القصة.
وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية لهُ -في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم- فلما سمع عمر كلام أبي قيس، رَهبَ أن ينزل في أبي قيس شيء، فتذكّرُ هُو، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أعوذُ بالله إنّي وقعتُ على جاريتي، ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عُمر، تكلم أولئك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنتَ جديرًا بذلك يا ابن الخطاب! فنُسِخ ذلك عنهم، فقال:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفث إلى نسائكم هُن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن عَلم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، -يقول: إنكم تقعون عليهن خيانةً-"فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم" -يقول: جامعوهن، ورجع إلى أبي قيس فقال-:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".
٢٩٥٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال:
(١) الحيطان جمع حائط: وهو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، فإذا لم يكن عليه حائط فهو ضاحية، وجمعه الضواحي.
(٢) الطليح: الساقط من الإعياء والجهد والهزال.
502
كانوا في رمضان لا يمسُّون النساءَ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة، فإن مسُّوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام، فقال: قد اختنت نفسي! فنزل القرآن، فأحل لهم النساء والطعام والشرابَ حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال: وقال مجاهد: كان أصحاب محمد ﷺ يصوم الصائمُ منهم في رمضان، فإذا أمسى أكل وشرب وَجامع النساء، فإذا رَقد حرُم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة: وكان منهم رجال يختانون أنفسَهم في ذلك، فعفا عنهم وأحلَّ لهم بعد الرقاد وَقبله في الليل، فقال:"أحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"... الآية.
٢٩٥١- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" مثل قول مجاهد -وزاد فيه: أن عمر بن الخطاب قال لامرأته: لا ترقدي حتى أرْجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع، فقال لها: ما أنت براقدة! ثم أصابها، حتى جاء إلى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة: نزلت:"وكلوا واشربوا" الآية في أبي قيس بن صرْمة، من بني الخزرج، أكل بعد الرقاد.
٢٩٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخٌ كبيرٌ، وهو صائم فلم يُهيئوا له طعاما، فوضع رأسه فأغفى، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له: كل. فقال: إني قد نمتُ! قالت: إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا، فأنزل الله:"وكلوا واشربوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر".
* * *
503
فأما"المباشرة" في كلام العرب، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة، و"بشرة" الرجل: جلدته الظاهرة.
* * *
وإنما كنى الله بقوله:"فالآنَ باشروهن" عن الجماع. يقول: فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
* * *
وبالذي قلنا في"المباشرة" قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٥٣- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان= وحدثنا عبد الحميد بن سنان، قال، حدثنا إسحاق، عن سفيان= وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان =، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكنّ الله كريمٌ يكني.
٢٩٥٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس نحوه.
٢٩٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فالآن باشرُوهن" انكحُوهنّ.
٢٩٥٦- حدثني محمد بن سعد، قال حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: المباشرة النكاحُ.
٢٩٥٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله:"فالآن باشرُوهن" قال: الجماع.
504
وكل شيء في القرآن من ذكر"المباشرة" فهو الجماع نفسه، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء: في الطعام والشراب والنساء.
٢٩٥٨- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة= عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (١).
٢٩٥٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، قال أبو بشر، أخبرنا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
٢٩٦٠- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فالآن بَاشروهن" يقول: جامعوهن.
٢٩٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المباشرةُ الجماع.
٢٩٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء مثله.
٢٩٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: سمعت مجاهدا يقول: المباشرة، في كتاب الله، الجماع.
٢٩٦٤- حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، قال الأوزاعي: حدثنا من سمع مجاهدا يقول: المباشرة في كتاب الله، الجماع.
* * *
(١) الأثر: ٢٩٥٨- في المطبوعة: "محمد بن مسعدة"، والصواب ما أثبت، وقد سلف في رقم ٢٧٧٤، ٢٨٨٣، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك الباهلي البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وتوفي سنة ٢٤٤.
505
واختلفوا في تأويل قوله:"وابتغوا مَا كتب الله لكم" فقال بعضهم: الولد.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٦٥- حدثني عبدة بن عبد الله الصفَّار البصري قال، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد (١).
٢٩٦٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود، عن شعبة قال: سمعت الحكم:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.
٢٩٦٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد الله، عن عكرمة قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.
٢٩٦٨- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.
٢٩٦٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"وابتغوا ما كتب الله لكم" فهو الولد.
٢٩٧٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني: الولدَ.
٢٩٧١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثني
(١) الخبر: ٢٩٦٥- عبدة بن عبد الله بن عبدة الصفار: ثقة من شيوخ البخاري. وهو من نوادر الشيوخ الذين روى عنهم في صحيحه وهم أحياء. لأنه مات سنة ٢٥٨، أي بعد البخاري بسنتين. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٩٠، ورجال الصحيحين، ص: ٣٣٦.
إسماعيل بن زياد الكاتب: لم أعرف من هو يقينا، وفي هذه الترجمة بضع شيوخ في التهذيب ١: ٢٩٨-٣٠١، ولسان الميزان ١: ٤٠٥-٤٠٧، ولكني أكاد أرجح أنه هو الذي روى له ابن ماجه حديثا: ١٣١٤، عن ابن جريج، باسم"إسماعيل بن زياد" دون لقب أو وصف.
506
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد، فإنْ لم تلد هذه فهذه.
٢٩٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
٢٩٧٣- حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: هو الولد.
٢٩٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ما كتب لكم من الولد.
٢٩٧٥- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الجماع.
٢٩٧٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد (١).
* * *
وقال بعضهم: معنى ذلك ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٧٧- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلةُ القدر. قال أبو هشام: هكذا قرأها معاذ.
٢٩٧٨- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء، عن ابن
(١) الخبر: ٢٩٧٦-"الحسين بن الفرج": ثبت هنا في المطبوعة"الحسن بن الفرج"، وهو خطأ تكرر مرارا، منها: ٢٧١٩. ولا نرى داعيا لتكرار التنبيه عليه بعد.
507
عباس في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر (١).
وقال آخرون: بل معناه: ما أحله الله لكم ورخصه لكم.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٧٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابتغوا ما كتب الله لكم" يقول: ما أحله الله لكم.
٢٩٨٠- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة في ذلك: ابتغوا الرخصة التي كتبتُ لكم.
* * *
وقرأ ذلك بعضهم: (وَاتَّبِعُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٨١- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الآية:"وابتغوا" أو"اتبعوا"؟ قال: أيتهما شئت! قال: عليك بالقراءة الأولى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال:"وابتغوا" - بمعنى: اطلبوا-"ما كتب الله لكم" يعني" الذي قَضَى الله تعالى لَكم.
وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يُباح فيطلقُ لكم وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأةَ، مما كتب الله له
(١) الخبران: ٢٩٧٧-٢٩٧٨- عمرو بن مالك، في الإسنادين: هو النكري، بضم النون وسكون الكاف، نسبة إلى"بني نكرة" من عبد القيس. وهو ثقة.
أبو الجوزاء: هو أوس بن عبد الله الربعي، وهو تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان، وسائر أصحاب الكتب الستة. وقد بينا حاله وحال عمرو بن مالك الراوي عنه، في شرح المسند: ٢٦٢٣.
"الربعي": بفتح الراء والباء، نسبة إلى"ربعة الأزد"، كما في اللباب لابن الأثير ١: ٤٥٩.
508
في اللوح المحفوظ، وكذلك إن طلب ليلةَ القدر، فهو مما كتب الله له، وكذلك إن طلب ما أحلَّ الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ.
وقد يدخل في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" جميعُ معاني الخير المطلوبة، غيرَ أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال: معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد، لأنه عَقِيبُ قوله:"فالآن باشرُوهن" بمعنى: جامعوهنّ، فَلأنْ يكون قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل، أشبهُ بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل، ولا خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود من الفجر".
* * *
فقال بعضهم: يعني بقوله:"الخيط الأبيض"، ضوءَ النهار، وبقوله:"الخيطِ الأسود" سوادَ الليل.
فتأويله على قول قائلي هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صَوْمكم، واشربوا، وبَاشروا نساءكم مبتغينَ ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوءُ النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.
509
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٨٢- حدثني الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أشعث، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره:"حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال: الليل من النهار.
٢٩٨٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال: حتى يتبين لكم النهار من الليل،"ثم أتموا الصيام إلى الليل".
٢٩٨٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكلوا واشرَبوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" فهما عَلَمان وحدَّان بَيِّنان فلا يمنعكم أذانُ مُؤذِّن مُراءٍ أو قليل العقل من سَحُوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يُرى بياضٌ ما على السحر يقال له:"الصبح الكاذب" كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سَحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقةٌ مُعترِضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا (١).
٢٩٨٥- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود منَ الفجر" يعني الليل من النهار، فأحلَّ لكم المجامعة والأكل والشربَ حتى يتبين لكم الصبح، فإذا تبين الصبحُ حرِّم عليهم
(١) الأثر: ٢٩٨٤- الهجيع: الطائفة من الليل. يقال: مر هجيع -أو هزيع- من الليل، أي ساعة وطائفة منه. والسحر الثلث الآخر من الليل قبيل طلوع الفجر. والطريقة: الخط الممتد في الشيء يكون ظاهرا باختلاف لون، أو اختلاف ظاهر.
510
المجامعة والأكل والشربُ حتى يُتمُّوا الصيامَ إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل، وأمر بالإفطار بالليل.
٢٩٨٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، وقيل له: أرأيتَ قولَ الله تعالى:"الخيط الأبيضُ من الخيط الأسْود من الفجر"؟ قال: إنك لعريض القفا، قال: هذا ذهابُ الليل ومجيءُ النهار. قيل له: الشعبي عن عدي بن حاتم؟ قال: نعم، حدثنا حصين (١).
* * *
وعلَّة من قال هذه المقالة، وتأوَّل الآية هذا التأويل ما:
(١) الحديث: ٢٩٨٦- حصين: هو ابن عبد الرحمن السلمي، الثقة المأمون، من كبار أئمة الحديث. مضت له رواية في: ٥٧٩.
وهذا الحديث اختصره أبو بكر بن عياش جدا، وحذف إسناده حين حدث به، ثم سئل عنه، فبين أنه سمعه من حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم.
وسيأتي: ٢٩٨٧، ٢٩٨٩ مختصرا، و ٢٩٨٨ مطولا، ولكنه ثابت في الصحيحين وغيرهما، مطولا بسياق صحيح واضح:
فرواه أحمد في المسند ٤: ٣٧٧ (حلبي) عن هشيم: "أخبرنا حصين، عن الشعبي، أخبرنا عدي بن حاتم، قال: لما نزلت هذه الآية (فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)، قال: عمدت إلى عقالين، أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادي، قال: ثم جعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن كان وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل".
وقول عدي: "لما نزلت هذه الآية"، يريد: لما تليت عليه عند إسلامه، لأن فرض الصوم كان في أوائل الهجرة، وعدي أسلم بعد ذلك بدهر، في السنة التاسعة أو العاشرة.
ورواه البخاري ٤: ١١٣ (فتح)، من طريق هشيم، ورواه مسلم ١: ٣٠١، وأبو داود: ٢٣٤٩- كلاهما من طريق عبد الله بن إدريس، عن حصين. ورواه البخاري ٨: ١٣٧ (فتح) مختصرا، من طريق أبي عوانة، عن حصين.
وذكره ابن كثير ١: ٤٢١، من رواية أحمد، ثم قال: "أخرجاه في الصحيحين من غير وجه، عن عدي". وذكره السيوطي ١: ١٩٩، وزاد نسبته لسفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن المنذر، والبيهقي.
قوله: "عريض القفا"، كناية عن السمن وطول النوم. وذلك دليل على الغفلة والركود.
511
٢٩٨٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت يا رسول الله، قول الله:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر"؟ قال: هو بياض النهار وسوادُ الليل. (١).
٢٩٨٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله ﷺ فعلَّمني الإسلام، ونَعت ليَ الصلوات، كيفَ أصَلي كلَّ صلاة لوقتها، ثم قال: إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتم الصيامَ إلى الليل. ولم أدر ما هو، ففعلتُ خَيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواءً. فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظتُ، غير"الخيط الأبيض من الخيط الأسود"! قال: وما منعك يا ابن حاتم؟ وتبسَّم كأنه قد علم ما فعلت. قلتُ: فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرتُ فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله ﷺ حتى رُئي نَواجذُه، ثم قال: ألم أقلْ لك"من الفجر"؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل (٢).
٢٩٨٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن إسماعيل قال، حدثنا داود وابن علية جميعا، عن مطرِّف، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما"الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود" أهما
(١) الحديث: ٢٩٨٧- مجالد بن سعيد: مضت ترجمته في: ١٦١٤. والحديث تكرار للذي قبله في معناه.
(٢) الحديث: ٢٩٨٨- مجالد بن سعيد، ثبت في المطبوعة هنا محرفا: "مجالد عن سعيد"؛ وهذا السياق المطول ذكره السيوطي ١: ١٩٩، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، فقط.
ورواه أحمد في المسند ٤: ٣٧٧ (حلبي)، عن يحيى، وهو القطان، عن مجالد، عن عامر، وهو الشعبي. ولكنه مختصر قليلا عما هنا.
512
خيطان أبيض وأسود؟ فقال: وإنك لعَريضُ القفا إن أبصرْت الخيطين. ثم قال: لا ولكنه سوادُ الليل وبياضُ النهار. (١).
٢٩٩٠- حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: نزلت هذه الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود" فلم ينزل"من الفجر" قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبَّين له. فأنزل الله بعد ذلك:"من الفجر" فعلموا إنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ (٢).
* * *
وقال متأولو قول الله تعالى ذكره:"حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" أنه بياض النهار وسواد الليل-: صفة ذلك البياض أن يكون
(١) الحديث: ٢٩٨٩- مالك بن إسماعيل بن زياد بن درهم، أبو غسان النهدي: حافظ ثقة. من شيوخ البخاري وغيره من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٣١٥، وابن سعد ٦: ٢٨٢، وابن أبي حاتم ٤/١/٢٠٦-٢٠٧.
داود، شيخ مالك بن إسماعيل: لم أستطع معرفته، ففي هذه الطبقة ممن يسمى"داود" كثرة. وأيا ما كان فالحديث صحيح، من جهة رواية ابن علية معه عن مطرف.
مطرف: هو ابن طريف الحارثي، مضت ترجمته في: ٢٢٤.
والحديث مختصر - كما أشرنا آنفًا. وقد رواه البخاري ٨: ١٣٧، عن قتيبة بن سعيد، عن جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن مطرف، بهذا الإسناد، نحوه.
(٢) الحديث: ٢٩٩٠- أحمد بن عبد الرحيم البرقي: هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، مضى في: ٢٢، ١٦٠.
ابن أبي مريم: هو سعيد بن الحكم، ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة، مضى في: ٢٢.
أبو غسان: هو محمد بن مطرف -بكسر الراء المشددة- الليثي المدني، أحد العلماء الأثبات، روى له أصحاب الكتب الستة.
أبو حازم: هو سلمة بن دينار الأعرج التمار، المدني، تابعي ثقة، لم يكن في زمانه مثله.
والحديث رواه البخاري ٤: ١١٤-١١٥، و ٨: ١٣٧، عن ابن أبي مريم، بهذا الإسناد. ورواه مسلم ١: ٣٠١، عن شيخين، عن ابن أبي مريم.
ورواه أيضًا النسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، كما في الدر المنثور ١: ١٩٩.
513
منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءُهُ الطرق، فأما الضوء الساطع في السماء، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله:"الخيط الأبيض من الخيط الأسود".
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٩١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز: الضوء الساطعُ في السماء ليس بالصبح، ولكن ذاك"الصبح الكاذب"، إنما الصبح إذا انفضح الأفق (١).
٢٩٩٢- حدثني سَلْم بن جنادة السوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: لم يكونوا يعدُّون الفجر فجرَكم هذا، كانوا يعدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرُق (٢).
٢٩٩٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن مسلم: ما كانوا يرون إلا أنّ الفجر الذي يَستفيض في السماء.
٢٩٩٤- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطَع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرّم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرِّم الشراب.
٢٩٩٥- حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن محمد بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: [قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم] : الفجر فجران، فالذي كأنه ذنَب السِّرحان لا يحرّم شيئا، وأما
(١) فضحه الصبح: دهمته فضحة الصبح، وهي بياضه فكشفه وبينه للأعين بضوئه. والأفضح: الأبيض ليس شديد البياض.
(٢) الأثر: ٢٩٩٢- في المطبوعة: "مسلم بن جنادة" والصواب ما أثبت، وانظر ما سلف رقم: ٤٨، ومواضع أخرى كثيرة.
514
المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يُحل الصلاة ويُحرّم الصوم. (١).
٢٩٩٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة، عن أبي هلال، عن سَوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعكم من سَحُوركم أذانُ بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجرُ المستطيرُ في الأفق" (٢).
(١) الخبر: ٢٩٩٥- الحسن بن الزبرقان النخعي، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ١/٢/١٥، قال: "الحسن بن الزبرقان الكوفي، سكن قزوين، ويكنى بأبي الخزرج. روى عن مندل بن علي، وشريك، وفضيل بن عياض، والمطلب بن زياد، ومحمد بن صبيح السماك. روى عنه أبي، والفضل بن شاذان. سئل أبي عنه، فقال: هو شيخ". ولم أجد له ترجمة عند غيره.
أبو أسامة: هو حماد بن أسامة بن زيد الكوفي، ثقة حافظ ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
محمد بن أبي ذئب: هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، القرشي العامري المدني، نسب إلى جده الأعلى، وهو إمام ثقة حافظ، يقرن بمالك أو يفضل عليه. وثبت في المطبوعة هنا"محمد بن أبي ذؤيب"؛ وهو خطأ بين.
الحارث بن عبد الرحمن القرشي العامري -من أنفسهم- المدني: ثقة، وهو خال"ابن أبي ذئب"، وهو أيضًا ابن عم أبيه، كما في نسب قريش، ص: ٤٢٣.
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري -مولاهم- المدني: تابعي ثقة معروف، قال أبو حاتم"لا يسأل عن مثله".
وقد زدنا بين قوسين، عقب قوله"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال" - (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لأنه هكذا نقله ابن كثير ١: ٤٢٤، عن هذا الموضع من الطبري، بهذه الزيادة، فيكون حديثا مرسلا. وهكذا قال ابن كثير، عقب نقله: "وهذا مرسل جيد". يريد: جيد الإسناد إلى ابن ثوبان التابعي، ولكنه لا يكون صحيحا مرفوعا، لأن المرسل لا تقوم به حجة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٢١٥، من طريق ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد. من رواية ابن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرفوعا، مرسلا.
وكذلك ذكره السيوطي ١: ٢٠٠"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أنه بلغه أن رسول الله ﷺ قال.. ". ثم قال السيوطي: "وأخرجه الحاكم من طريقه، عن جابر، موصولا"، وكذلك ذكر البيهقي أنه"قد روى موصولا، بذكر جابر بن عبد الله فيه". وقد جهدت أن أجده في المستدرك، فخفي على موضعه.
ويكون ما وقع من الناسخين، في الطبري هنا، من حذف (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) - خطأ يقينا. إذ يكون حينئذ موقوفا على ابن ثوبان. وقد تضافرت الدلائل على أنه عن ابن ثوبان، مرفوعا مرسلا، في رواية الطبري ورواية غيره.
والسرحان: الذئب. وذلك كناية عن استطالته وامتداده.
(٢) الحديث: ٢٩٩٦- إسماعيل بن صبيح- بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة - اليثكري الكوفي: ثقة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/١/١٧٨.
أبو هلال: هو الراسبي محمد بن سليم، وهو ثقة.
سوادة بن حنظلة القشيري البصري: تابعي ثقة.
والحديث رواه أحمد في المسند ٥: ١٣-١٤ (حلبي)، عن وكيع، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه الترمذي ٢: ٣٩، من طريق وكيع..
وسيأتي مزيد تخريجه، في الحديث بعده.
515
٢٩٩٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال، حدثنا شعبة، عن سوادة قال: سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي ﷺ أنه سمعه وهو يقول:"لا يغرنّكم نداء بلال ولا هذا البياضُ حتى يبدوَ الفجرُ وَينفجر" (١).
* * *
(١) الحديث: ٢٩٩٧- معاوية بن هشام الأسدي القصار: ثقة، وثقه أبو داود وابن حبان. و"الأسدي" بفتح السين، لأنه"مولى بني أسد"، كما في ابن سعد ٦: ٢٨٢، والتقريب، وكذلك ثبت في الصحيحين: ٩٢. ووقع في التهذيب والخلاصة"الأزدي" بالزاي، هو خطأ.
وهذا الحديث في معنى الذي قبله.
وقد رواه أبو داود الطيالسي: ٨٩٧، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه النسائي ١: ٣٠٥، من طريق الطيالسي.
ورواه أحمد في المسند ٥: ٧ (حلبي) :"حدثنا محمد بن جعفر، وروح، قالا: حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قشير، قال روح: قال (يعني شعبة) : سمعت سوادة القشيري، وكان إمامهم" فذكر الحديث.
ورواه مسلم ١: ٣٠٢، من طريق معاذ، وهو العنبري، ومن طريق أبي داود، وهو الطيالسي - كلاهما عن شعبة.
وقد سقط في هذا الموضع إسنادان آخران لهذا الحديث، ذكرهما ابن كثير ١: ٤٢٣. فرأينا إثباتهما، تماما لنص أبي حعفر ما استطعنا:
قال ابن كثير: "وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنَّى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قُشَيْر سمعت سمُرة بن جَندُب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرنَّكم نداءُ بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر، أو يطلع الفجر".
"ثم رواه من حديث شعبة وغيره، عن سَوادَةَ بن حنظلة، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنعنَّكم من سَحُوركم أذانُ بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطيرُ في الأفق".
وهذا هو لفظ الحديث: ٢٩٩٦ هنا، ولكنه من غير طريق شعبة. ثم قال ابن كثير، نقلا عن أبي جعفر: "قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، [عن] ابن علية، عن عبد الله بن سَوَادَةَ القُشَيْرِي، عن أبيه، عن سَمُرة بن جُنْدَُب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، ولا هذا البياض، لِعَمُود الصبح، حتى يَسْتَطِيرَ".
فهذان الإسنادان اللذان لم يذكرا هنا، ثابتان في ابن كثير نقلا عن ابن جرير.
والأول منهما يوافق رواية أحمد في المسند -التي ذكرنا آنفًا- عن محمد بن جعفر عن شعبة، التي أبهم فيها"شيخ من بني قشير".
والثاني منهما: وقع فيه خطأ مطبعي في ابن كثير، لأن الطبري يرويه عن يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقي الحافظ، عن ابن علية، عن عبد الله بن سوادة، عن أبيه. فسقط في مطبوعة ابن كثير حرف [عن] فزدناه ضرورة. لأن الحديث ثابت من رواية ابن علية، وهو"إسماعيل بن إبراهيم" المعروف بابن علية.
والحديث ثابت من رواية ابن علية: فرواه مسلم ١: ٣٠٢، عن زهير بن حرب، "حدثنا إسماعيل ابن علية.. ".
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ١: ٤٢٥، من طريق مسدد، "حدثنا ابن علية".
وعبد الله بن سوادة القشيري -شيخ ابن علية في هذا الإسناد-: ثقة، كما بينا في تخريج حديث آخر مضى، برقم: ٢٧٩٢.
والحديث رواه أيضًا أحمد في المسند ٥: ١٨ (حلبي)، عن يزيد بن هارون، عن شعبة.
ورواه الطيالسي أيضًا: ٨٩٨، عن محمد بن مسلم، قال: "حدثنا سوادة بن حنظلة القشيري.. ".
ورواه أيضًا مسلم ١: ٣٠٢، وأبو داود: ٢٣٤٦، والبيهقي ٤: ٢١٥- ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد، عن عبد الله بن سوادة، عن أبيه.
516
وقال آخرون: الخيطُ الأبيض: هو ضوء الشمس، والخيط الأسود: هو سوادُ الليل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٩٩٨- حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش،
517
عن إبراهيم التيمي، قال: سافر أبي مع حُذيفة قال: فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجرُ قال: هل منكم من أحد آكلٍ أو شاربٍ؟ قال: قلت له: أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: بلى! قال: ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحَّر (١).
٢٩٩٩- حدثنا هناد وأبو السائب، قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان، فلما طلع الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أمَّا رجل يريدُ أن يصوم فلا. قال: لكنّي! قال: ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحَّر؟ قال: قلنا أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: لكنّي! ثم نزل فتسحَّر، ثم صلى (٢).
٣٠٠٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان -:"قد قامت الصلاة". قال: وما رأيت أحدًا كان أفعلَ له من الأعمش، وذلك لما سمع، قال: حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال: هل منكم متسحِّرٌ الساعة؟ قال: ثم
(١) الخبر: ٢٩٩٨- هذا موقوف على حذيفة بن اليمان، وإسناده صحيح. إلا أنه وقع في المطبوعة خطأ في موضعين. وسيأتي عقب هذا موقوفا بإسنادين آخرين. ثم يأتي معناه مرفوعا، من حديث حذيفة نفسه: ٣٠١١-٣٠١٤.
هناد بن السري - شيخ الطبري في هذا الإسناد: وقع في المطبوعة"هشام بن السري"؛ وهو خطأ يقينا، ليس من راو بهذا الاسم -فيما علمنا- وإنما هو"هناد". وقد ترجمنا له في: ٢٠٥٨.
عبيدة -بفتح العين- بن حميد، بضم الحاء المهملة: مضى في: ٢٧٨١، ووقع في المطبوعة"عبادة بن حميد"؛ وهو خطأ أيضًا.
إبراهيم التيمي: هو إبراهيم بن يزيد بن شريك، وهو وأبوه تابعان ثقتان، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة.
وظاهر هذا الإسناد الانقطاع، لأن إبراهيم التيمي لم يدرك حذيفة، ولم يشهد سفر أبيه معه. ولكن تبين من الإسنادين بعده أنه روى ذلك عن أبيه، فاتصل الإسناد.
(٢) الخبر: ٢٩٩٩- إسناده صحيح متصل.
وقوله: "لكني"، اختصار قوله: لكني أريد الصوم، مثل ذلك كثير في كلامهم.
518
سار، ثم قال حذيفة: هل منكم متسحِّر الساعة؟ قال: ثم سار حتى استبطأنا الصلاة، قال: فنزل فتسحّر (١).
٣٠٠١- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة، عن علي: أنه لما صلى الفجرَ قال: هذا حين يتبيّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (٢).
(١) الخبر: ٣٠٠٠- هذا إسناد صحيح متصل أيضًا.
أبو بكر: هو ابن عياش، وقد مضى مرارا، منها: ٢١٥٠. وهذا الإسناد صريح في سماعه من الأعمش، ورؤيته إياه يفعل ما حكى من سحوره بعد الأذان.
وقال الحافظ في الفتح ٤: ١١٧"وذهب جماعة من الصحابة، وبه قال الأعمش من التابعين، وصاحبه أبو بكر بن عياش -: إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر".
وقال أيضًا: "وقد روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق - ذلك عن حذيفة، من طرق صحيحة".
وانظر لهذه المسألة - المحلى لابن حزم، في المسألة: ٧٥٦ (ج ٧ ص ٢٢٩-٢٣٥). وسيأتي مزيد تخريج، عند حديثه المرفوع: ٣٠١١-٣٠١٣، إن شاء الله.
(٢) الخبر: ٣٠٠١- هارون بن إسحاق الهمداني، شيخ الطبري: كوفي حافظ ثقة، من شيوخ البخاري في غير الصحيح، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٨٩، وابن أبي حاتم ٤/٢/٨٧-٨٨. وهو من الشيوخ الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء، مات سنة ٢٥٨، بعد البخاري بسنتين.
مصعب بن المقدام: مضت ترجمته: ١٢٩١.
هبيرة - بضم الهاء: هو ابن يريم، بفتح الياء التحتية وكسر الراء، الشبامي، بكسر الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف ميم، نسبة إلى"شبام"، وهو"عبد الله بن أسعد بن جثم بن حاشد"، قال ابن سعد: "وسمي شبام، بجبل لهم".
ووقع في التهذيب والتقريب والخلاصة"الشيباني"، وهو تصحيف. وهبيرة: تابعي ثقة، تكلم فيه بعضهم، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي، وهو خال العالية امرأة أبي إسحاق. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٤١، وابن سعد ٦: ١١٨، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٠٩-١١٠.
وهذا الخبر سيأتي بإسناد آخر، بنحوه: ٣٠١٠.
وقد ذكره الحافظ في الفتح ٤: ١١٧، قال: "روى ابن المنذر بإسناد صحيح، عن علي: أنه صلى الصبح ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود". ولكن ذكره السيوطي ١: ١٩٩، بنحوه، بلفظ"أنه قال حين طلع الفجر.. "! ونسبه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير. وأنا أكاد أرجح أن قوله"طلع الفجر" تحريف من الناسخين، لأن روايتي الطبري، هذه والآتية، فيهما"صلى الفجر"، وأيده ما نقله الحافظ من رواية ابن المنذر.
519
٣٠٠٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن الصلت قال، حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار، عن أبيه، عن البراء، قال: تسحرت في شهر رمضان، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود، فقال: اشربْ. فقلت: إنّي قد تسحَّرت! فقال: اشرب! فشربنا، ثم خرجنا والناس في الصلاة (١).
٣٠٠٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني، عن جبله بن سحيم، عن عامر بن مطر، قال: أتيت عبد الله بن مسعود في داره، فأخرجَ فضلا من سَحُوره، فأكلنا معه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا (٢).
٣٠٠٤- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي
(١) الخبر: ٣٠٠٢- هذا إسناد مشكل، لا أدري ما هو؟
فابن الصلت: يدور بين اثنين في هذه الطبقة، "محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي"، و"محمد بن الصلت التوزي". فلا أدري أيهما هو؟ أم هو غيرهما.
وإسحاق بن حذيفة العطار، وأبوه: لم أجد لهما ترجمة، ولا ذكرا، في شيء مما بين يدي من المراجع. وأخشى أن يكون فيهما معا تحريف، فلئن تركوا ترجمة"إسحاق" ليبعدن أن يتركوا ترجمة أبيه، وهو في ظاهر هذا الإسناد تابعي، يروي عن صحابي، وهو البراء بن عازب. وانظر الخبر الذي بعده.
(٢) الخبر: ٣٠٠٣- أما هذا فإسناده صحيح. الشيباني: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان، مضت ترجمته: ١٠٣٧.
جبلة بن سحيم - بضم السين المهملة، التيمي الشيباني: تابعي ثقة، ينسب إلى"تيم بن شيبان"، فهو"تيمي"، و"شيباني".
عامر بن مطر الشيباني: تابعي ثقة. مترجم في ابن سعد ٦: ٨٢، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٢٨، ولسان الميزان ٣: ٢٢٥. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الحكم بن بشير، قال: "أبو مطر، الذي يروي عنه جبلة بن سحيم: هو عامر بن مطر، شيباني، رجل له شأن في المسلمين".
وهذا الخبر رواه ابن حزم في المحلى ٧: ٢٣٣، من طريق ابن أبي شيبة: "حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني - هو أبو إسحاق.. " فذكره، بهذا الإسناد، نحوه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ١٥٤ مختصرا، هكذا: "وعن مطر الشيباني، قال: تسحرنا مع عبد الله، ثم خرجنا فأقيمت الصلاة، رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". فسمى التابعي"مطر الشيباني". وهو تحريف -فيما أرجح- فليس في الرواة من هذا اسمه. وما أدري: التحريف من رواة الطبراني، أم من الهيثمي، أم من ناسخ أو طابع؟ ولكنه -عندي- تحريف على كل حال.
520
إسحاق، عن عبد الله بن معقل، عن سالم مولى أبي حذيفة قال، كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان، فأتيت ذات ليلة فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده: أنْ كُفَّ، ثم أتيته مرة أخرى، فقلت له: ألا تأكلُ يا خليفة رسول الله؟ فأومأ بيده: أنْ كُف. ثم أتيته مرة أخرى، فقلت: ألا تأكل يا خليفةَ رسول الله؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده: أنْ كُفّ. ثم أتيته فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ قال: هات غَداءك! قال: فأتيته به فأكل، ثم صلى ركعتين، ثم قام إلى الصلاة (١).
٣٠٠٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الوتر بالليل والسَّحور بالنهار.
وقد رُوي عن إبراهيم غير ذلك:
٣٠٠٦- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد، عن إبراهيم، قال: السحور بليل، والوتر بليل.
٣٠٠٧- حدثنا حكام، عن ابن أبي جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: السحور والوتر ما بين التَّثْويب والإقامة.
٣٠٠٨- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
(١) الخبر: ٣٠٠٤- هذا إسناد ضعيف، لانقطاعه.
خلاد بن أسلم، أبو بكر الصفار، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ عبد الله بن أحمد، والترمذي والنسائي، مات في جمادى الآخرة سنة ٢٤٩. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري ص: ٢٣٧، وتاريخ بغداد ٨: ٣٤٢-٣٤٣.
عبد الله بن معقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف - بن مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة- المزني: تابعي ثقة، يروي عن أبيه، وهو صحابي، وعن علي، وابن مسعود، وغيرهم. ولكنه لم يدرك أن يروي عن سالم مولى أبي حذيفة، لأنه مات سنة ٨٨، وسالم قتل باليمامة سنة ١٢ في خلافة أبي بكر. ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر في التهذيب، ما ذكره أصله، فقال: "وأطلق المؤلف روايته عن سالم مولى أبي حذيفة. والظاهر أنها مرسلة، لأنه قتل باليمامة". وابن معقل هذا مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: ٩٣-٩٤، وابن سعد ٦: ١٢١-١٢٢، والإصابة ٥: ١٤٤. ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله"، بالتصغير، وهو خطأ.
سالم مولى أبي حذيفة: صحابي قديم الموت، كما قلنا آنفًا. وهو الذي وردت في شأنه سنة إرضاع الكبير. وهو مولى ثبيتة بنت يعار الأنصارية زوج أبي حذيفة، هي التي أعتقته، فتولى أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي زوجها. قال ابن سعد: "فسالم يذكر في الأنصار في بني عبيد، لعتق ثبيتة بنت يعار إياه، ويذكر في المهاجرين، لموالاته لأبي حذيفة". وهو مترجم في الكبير ٢/٢/١٠٨، والصغير، ص: ٢١، ٢٢، وابن سعد ٣/١/٦٠-٦٢، وابن أبي حاتم ٢/١/١٨٩، والإصابة ٣: ٥٦-٥٧. وقال ابن أبي حاتم: "لا أعلم روى عنه". وتعقبه الحافظ في الإصابة، فذكر له رواية حديثين مرفوعين، ثم قال: "وفي السندين جميعا ضعف وانقطاع. فيحمل كلام ابن أبي حاتم على أنه لم يصح عنه شيء". ولم يذكر الحافظ رواية الطبري هذه، وهي منقطعة أيضًا.
وهذا الخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٤: ١٥٤، مختصرا قليلا، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". هكذا قال، فلم يشر إلى علته بالانقطاع، إلا أن يكون إسناد الطبراني متصلا براو آخر فوق عبد الله بن معقل، فلعل. ولكني لا أظن ذلك.
نعم ذكر الحافظ في الفتح ٤: ١١٧، أن ابن المنذر"روى بإسناد صحيح، عن سالم بن عبيد الأشجعي، وله صحبة: أن أبا بكر قال له: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم أتيته، فقلت: قد ابيض وسطع، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض، فقال: الآن أبلغني شرابي". فهذا سالم بن عبيد صحابي معروف من أهل الصفة. والرواية عنه تأتي من وجه آخر غير رواية سالم مولى أبي حذيفة. فإن كان الإسناد إليه صحيحا كما قال الحافظ، فهو ذلك، إلا أن يكون ذكر سالم بن عبيد" خطأ من بعض الرواة، فليس عندي بيان آخر عن إسناد ابن المنذر.
وقد روى ابن حزم في المحلى ٦: ٢٣٢، نحو هذا المعنى، بألفاظ أخر، عن أبي بكر:
فقال ابن حزم: "روينا من طريق معمر، عن أبان، عن أنس، عن أبي بكر الصديق، أنه قال: إذا نظر الرجلان إلى الفجر، فشك أحدهما، فليلأكلا حتى يتبين لهما".
"ومن طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عبيد، قال: كان أبو بكر الصديق يقول لي: قم بيني وبين الفجر حتى أتسحر".
ومن طريق ابن أبي شيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عبيد الأشجعي، قال: قم فاسترني من الفجر، ثم أكل".
وهذا اللفظ الأخير مختصر، يفهم مما قبله أنه حكاية عن أبي بكر أيضًا، ولعله سقط منه شيء من ناسخي المحلى.
ثم قال ابن حزم: "سالم بن عبيد هذا: أشجعي كوفي، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه أصح طريق يمكن أن تكون".
وأنا أرجح أن يكون طريق ابن المنذر -الذي نقله الحافظ في الفتح- مثل هذين الطريقين الأخيرين، اللذين نقلهما ابن حزم، فيكون من رواية هلال بن يساف عن سالم بن عبيد. واستبعد جدا أن يكون طريق الطبراني، الذي ذكره الهيثمي-: من هذا الوجه.
ثم روى ابن حزم ٦: ٢٣٣، نحو هذا المعنى، من رواية أبي السفر، ومن رواية أبي قلابة - كلاهما عن أبي بكر. وهما إسنادان منقطعان، فإن أبا السفر وأبا قلابة لم يدركا أبا بكر يقينا.
521
عن شبيب بن غرقدة، عن عروة، عن حبان، قال: تسحرنا مع عليّ، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة، فصلينا (١).
٣٠٠٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
(١) الخبر: ٣٠٠٨- شبيب بن غرقدة السلمي: تابعي ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٢٣٢، وابن أبي حاتم ٢/١/٣٥٧.
عروة: هو ابن أبي الجعد الأزدي البارقي: صحابي معروف. قال البخاري: "وبارق: جبل، نزله بعض الأزد".
حبان - بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: هو ابن الحارث، أبو عقيل، وهو تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ٢/١/٧٧، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٦٩، والدولابي في الكنى ٢: ٣٣.
وهكذا وقع في الطبري عن شيخه محمد بن المثنى -في هذا الإسناد- زيادة"عروة البارقي" بين"شبيب" و"حبان بن الحارث". وسيأتي الخبر عقب هذا: ٣٠٠٩، من رواية سفيان بن عيينة، عن شبيب، عن حبان، مباشرة دون واسطة، وهو الثابت المحفوظ عن شبيب. فلعل ابن المثنى -شيخ الطبري- وهم في هذه الزيادة، أو لعله كان من رواية شبيب، عن عروة وعن حبان، كلاهما عن علي، ثم اختلط في الإسناد على الناسخين.
فإن البخاري روى هذا الخبر، في ترجمة"حبان" في التاريخ الكبير، موجزا بالإشارة كعادته - على الصواب، من الوجه الذي رواه الطبري هنا:
فقال البخاري: "حدثنا محمد، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن شبيب، عن حبان: تسحرنا مع علي".
فحمد - شيخ البخاري: هو محمد بن بشار الحافظ. وغندر: هو هو محمد بن جعفر شيخ ابن المثنى في إسناد الطبري هذا. وهو قد رواه -كما ترى- دون واسطة بين شبيب وحبان.
وكذلك رواه البخاري بثلاثة أسانيد عن شبيب عن حبان، فقال: "قال ابن محبوب، عن عمر الأبار، عن منصور، عن شبيب، عن حبان بن الحارث: تسحرنا مع علي. وقال جرير، عن منصور، عن شبيب، عن أبي عقيل. قال حسين، عن زائدة، عن شبيب، عن طارق بن قرة، وحبان بن الحارث، بهذا". وقد زاد في الإسناد الأخير للبخاري: أن شبيبا رواه عن طارق بن طارق بن قرة، عن علي، كمثل روايته إياه عن حبان، عن علي. و"طارق بن قرة": تابعي، لم يترجمه البخاري في الكبير، ولكن ترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/٤٨٦، قال: "طارق بن قرة: روى عن علي، روى عنه شبيب بن غرقدة". وبذلك ترجمه أيضًا ابن حبان في الثقات، ص: ٢٢٩.
ورواية البخاري، من طريق جرير عن منصور - رواها ابن حزم في المحلى ٦: ٢٣٣ مفصلة، قال: "ومن طريق ابن أبي شيبة: حدثنا جرير، هو ابن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن شبيب بن غرقدة، عن أبي عقيل، قال: تسحرت مع علي بن أبي طالب، ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة".
فهذه أسانيد تدل على أن ذكر"عروة البارقي" في إسناد الطبري هنا - إما سهو من ابن المثنى، وإما إضافة في الرواية مع حبان -لا رواية عنه- ثم حرفت من الناسخين.
523
شبيب، عن حبان بن الحارث، قال: مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحَّر، فلما انتهيتُ إلى المسجد أقيمت الصلاة (١).
٣٠١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: صلى عليُّ بن أبي طالب الفجرَ، ثم قال: هذا حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (٢).
* * *
وعلة من قال هذا القول: أنَّ القول إنما هو النهارُ دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوعُ الشمس، كما أنّ آخرَه غروبُها. قالوا: ولو كان أوله طلوعُ الفجر، لوَجب أن يكون آخرَه غروبُ الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها. قالوا: وفي الخبر عن النبي ﷺ أنه تسحر بعد طُلوع الفجر، أوضحُ الدليل على صحة قولنا.
ذكر الأخبار التي رويت عن النبي ﷺ في ذلك:
٣٠١١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: قلت: تسحَّرتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لو أشاءُ لأقولُ هو النهارُ إلا أنّ الشمس لم تطلع (٣).
(١) الخبر: ٣٠٠٩- سفيان: هو ابن عيينة. والخبر تكرار في معناه للخبر قبله. ورواه أيضًا ابن حزم في المحلى ٦: ٢٣٣، قال: "وعن سفيان بن عيينة، عن شبيب بن غرقدة، عن حبان بن الحارث: أنه تسحر مع علي بن أبي طالب، وهما يريدان الصيام، فلما فرغ قال للمؤذن: أقم الصلاة".
(٢) الخبر: ٣٠١٠- أبو السفر -بفتح الفاء-: هو سعيد بن محمد، بضم الياء التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وهو تابعي ثقة، يروي عن متوسطي الصحابة، كابن عباس وابن عمر. وهذا الإسناد منقطع، لأن أبا السفر لم يدرك أن يروي عن علي بن أبي طالب. وقد مضى معناه عن علي، بإسناد آخر متصل: ٣٠٠١.
(٣) الحديث: ٣٠١١- عاصم: هو ابن بهدلة، وهو ابن أبي النجود -بفتح النون- الكوفي المقرئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتاب الستة. زر - بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، التابعي الثقة. مضى في: ٢٧٤. حذيفة: هو ابن اليمان العبسي، صحابي مشهور، مناقبه كثيرة معروفة.
وهذا الحديث رواه ابن ماجه: ١٦٩٥، عن علي بن محمد، هو الطنافسي، عن أبي بكر بن عياش، بهذا الإسناد نحوه، مختصرا. وسيأتي مزيد تخريج له في الثلاثة بعده.
524
٣٠١٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ما كذب عاصمٌ على زرّ، ولا زرّ على حذيفة، قال: قلتُ له: يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم هو النهارُ إلا أن الشمس لم تطلع (١).
٣٠١٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: كان النبي ﷺ يتسحَّر وأنا أرى مواقعَ النَّبل. قال: قلت أبعدَ الصبح؟ قال: هو الصبح، إلا أنه لم تطلع الشمس (٢).
٣٠١٤- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: أصبحت ذات يوم فغدوتُ إلى المسجد، فقلت: لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلتُ، فإذا هو يسخّن له طعامٌ، فقال: اجلس حتى تطعَم. فقلت: إنّي أريد الصوم. فقرّب طعامه فأكل وأكلت معه، ثم قام إلى لِقْحة في الدار، فأخذ يحلُب من جانب وأحلُب أنا من جانب، فناولني، فقلت: ألا ترى الصبح؟ فقال: اشرب! فشربتُ، ثم جئتُ إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة، فقلت له: أخبرني بآخر
(١) الحديث: ٣٠١٢- هو الحديث السابق بمعناه، بالإسناد نفسه. ولكن هذا جاء بصيغة في التوكيد موثقة، قصد بها أبو بكر بن عياش رفع شبهة الخطأ أو التزيد في الرواية.
(٢) الحديث: ٣٠١٣- سفيان: هو الثوري.
والحديث في معنى الحديثين قبله. وقد رواه أحمد في المسند ٥: ٤٠٠ (حلبي)، عن وكيع، عن سفيان، بهذا الإسناد نحوه. وكذلك رواه النسائي ١: ٣٠٣، وابن حزم في المحلى ٦: ٢٣٢ - كلاهما من طريق وكيع.
وفي الفتح ٤: ١١٧ أنه رواه"سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو والله النهار، غير أن الشمس لم تطلع"
525
سَحور تسحَّرته مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمسُ (١).
٣٠١٥- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال:"إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يضعه حتى يقضيَ حاجته منه" (٢).
(١) الحديث: ٣٠١٤- الحكم بن بشير النهدي: مضت ترجمته: ١٤٩٧. وعمرو بن قيس هو الملائي، مضت ترجمته: ٨٨٦.
خلاد الصفار: هو خلاد بن عيسى العبدي، ويقال: خلاد بن مسلم. وهو ثقة. مترجم في التهذيب والكبير ٢/١/١٧١، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٦٧.
وهذا الحديث تكرار للثلاثة قبله في معناها، إلا أنه مطول في قصة. وقد روى نحو هذه القصة - حماد بن سملة، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة:
فرواها أحمد ٥: ٣٩٦ (حلبي)، عن عفان، عن حماد بن سلمة.
وكذلك رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٣٢٤، وابن حزم في المحلى ٦: ٢٣١: ٢٣٢، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة.
ورواه أحمد أيضًا ٥: ٤٠٥ (حلبي)، من طريق شريك بن عبد الله -هو النخعي القاضي- عن عاصم، عن زر، قال: "قلت، يعني لحذيفة: يا أبا عبد الله، تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أكان الرجل يبصر مواقع نبله؟ قال: نعم، هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع".
وقد ذكر ابن كثير ١: ٤٢٢ رواية حماد بن سلمة عن عاصم - مختصرة، ونسبها لأحمد، والنسائي وابن ماجه، وقال: "وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود، قاله النسائي". ولم أجده في النسائي من رواية حماد ولم أجد كلمة النسائي أيضًا. فلعل ذلك في السنن الكبرى.
وقال الحافظ في الفتح ٤: ١١٧، بعد نقله رواية سعيد بن منصور وإشارته إلى رواية الطحاوي عن حذيفة: "روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة، من طرق صحيحة".
"اللقحة": الناقة القريبة العهد بالولادة، فهي من ذوات الألبان.
(٢) الحديث: ٣٠١٥- هذا إسناد صحيح.
روح بن عبادة القيسي، من بني قيس بن ثعلبة: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ووثقه ابن معين وغيره. تكلم فيه بعضهم بغير حجة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٢٨٢-٢٨٣، وابن سعد ٧/٢/٥٠، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٩٨-٤٩٩، وتاريخ بغداد ٨: ٤٠١-٤٠٦.
"عبادة": بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة. ووقع في المطبوعة، في هذا الإسناد والذي بعده"روح بن جنادة"! وهو تصحيف، ولا يوجد راو بهذا الاسم.
حماد: هو ابن سلمة.
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي: ثقة، أخرج له الجماعة أيضًا.
أبو سلمة: هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٠٦٣٧ (٢: ٥١٠ حلبي)، عن روح بن عبادة، بهذا الإسناد واللفظ.
ورواه أحمد أيضًا: ٩٤٦٨ (٢: ٤٢٣ حلبي)، عن غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وقرن إليه إسنادا آخر مرسلا، عن يونس، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه أبو داود: ٢٣٥٠، عن عبد الأعلى بن حماد النرسي. عن حماد بن سلمة، به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ١: ٤٢٦، من طريق عبد الأعلى، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وانظر تعليقنا على الحديث، فيما كتبنا على مختصر السنن للمنذري: ٢٢٤٩ (٣: ٢٣٣، ٢٣٤).
526
٣٠١٦- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ مثله- وزاد فيه: وكان المؤذن يؤذن إذا بَزَغ الفجر (١).
٣٠١٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين = وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد = قالا جميعا، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: أقيمت الصلاة والإناءُ في يد عمر، قال: أشرَبُها يا رسول الله؟ قال: نعم!، فشربها (٢).
(١) الحديث: ٣٠١٦- عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم: تابعي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٠٦٣٨، عن روح بن عبادة، بهذا الإسناد، عقب الحديث السابق، كما صنع الطبري تماما.
وذكره ابن حزم في المحلى ٦: ٢٣٢، من رواية حماد بن سلمة، به، وساق لفظه كاملا. وزاد في آخره: وقال حماد، عن هشام بن عروة: كان أبي يفتي بهذا".
(٢) الحديث: ٣٠١٧- رواه الطبري بإسنادين: فرواه عن بن حميد، عن يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد - ثم استأنف إسنادا آخر، فرواه عن محمد بن علي بن الحسن، عن أبيه، عن الحسين بن واقد، فاجتمع الطريقان في الحسين بن واقد، عن أبي غالب، إلخ.
ويحيى بن واضح: هو أبو تميلة، مضت ترجمته: ٣٩٢.
أبو غالب: هو صاحب أبي أمامة، وقد اختلف في اسمه: فقيل: "حزور"، بفتح الحاء المهملة والزاي والواو المشددة وآخره راء. وقيل: "سعيد بن الحزور"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد ٧/٢/٧. واختصر البخاري في الكبير ٢/١/١٢٤ على"حزور". وترجمه ابن أبي حاتم في الترجمتين ١/٢/٣١٥-٣١٦، ثم ٢/١/١٣، وقال في الموضع الثاني: "وحزور أصح". وهو ثقة، وتكلم فيه بعضهم. ووثقه الدارقطني، وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. مترجم في التهذيب ١٢: ١٩٧-١٩٨.
أبو أمامة: هو الباهلي، واسمه: "صدي" بضم الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء"بن عجلان". وهو صحابي معروف مات سنة ٨٦ وقد جاوز المئة، لأنه ثبت أنه كان ابن ٣٠ سنة أو ٣٣. ووقع في ابن سعد ٧/٢/١٣١-١٣٢ أنه مات وهو ابن ٦١ سنة! وهو خطأ فاحش.
وهذا الحديث صحيح الإسناد. ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري.
527
٣٠١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال بلال:"أتيتُ النبيّ ﷺ أُوذِنه بالصلاة وهو يريد الصوم، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرج إلى الصلاة (١).
٣٠١٩- حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل، عن بلال قال: أتيتُ النبي ﷺ أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرجنا إلى الصلاة (٢).
* * *
(١) الحديث: ٣٠١٨- يونس: هو ابن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٤٠٨، وابن سعد ٦: ٢٥٢، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٤٣-٢٤٤.
عبد الله: هو ابن معقل بن مقرن المزني، مضت ترجمته: ٣٠٠٤.
بلال: هو ابن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين الأولين، مات في طاعون عمواس، سنة: ١٧، أو ١٨. ولم يدركه عبد الله بن معقل المتوفى سنة: ٨٨. فالإسناد إليه ضعيف لانقطاعه.
وسيأتي تخريج الحديث في الإسناد التالي.
(٢) الحديث: ٣٠١٩- محمد بن أحمد الطوسي، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ "عبد الله بن معقل": بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف. وثبت في المطبوعة هنا"مغفل"، وهو تصحيف.
والحديث رواه أحمد في المسند ٦: ١٢ (حلبي) عن يحيى بن آدم، وأبي أحمد الزبيري - كلاهما عن إسرائيل، بهذا الإسناد، نحوه. ثم رواه ٦: ١٣، عن حسين بن محمد، عن إسرائيل، به. وهو حديث ضعيف، لانقطاعه بين ابن معقل بن مقرن وبلال، كما بينا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ١٥٢، من رواية أحمد الأولى، وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير". ثم ذكر رواية أحمد الثانية، ثم قال: "ورجالهما رجال الصحيح". ففاته أن يعلمه بالانقطاع.
وروى أحمد أيضًا ٦: ١٣، عن وكيع، عن جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال: "أنه جاء إلى النبي ﷺ يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته". وهذا ذكره الهيثمي أيضًا عن المسند، ثم قال: "وشداد مولى عياض: لم يدرك بلالا". وهو كما قال.
528
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، التأويلُ الذي رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال:"الخيط الأبيض" بياض النهار،"والخيط الأسود" سوادُ الليل. وهو المعروف في كلام العرب، قال أبو دُؤاد الإياديّ:
فَلَمَّا أضَاءت لَنَا سُدْفَةٌ وَلاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا (١)
* * *
وأما الأخبارُ التي رويتْ عن رسول الله ﷺ أنه شرب أو تسحَّر، ثم خرج إلى الصلاة، فإنه غير دافع صحةَ ما قلنا في ذلك؛ لأنه غير مستنكر أن يكون ﷺ شَرب قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة، إذ كانت الصلاةُ -صلاة الفجر- هي على عهده كانت تُصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبيَّن طلوعه ويؤذَّن لها قبل طلوعه.
وأما الخبر الذي رُوي عن حذيفة:"أنّ النبي ﷺ كان يتسحر وأنا أرى مَواقعَ النَّبل"، فإنه قد استُثبتَ فيه فقيل له: أبعد الصبح؟ فلم يجب
(١) الأصمعيات: ٢٨ من أبيات. يصف فرسا خرج عليه للصيد، واللسان (خيط). وفي الأصمعيات: "خير أنارا" ولا معنى لها. والسدفة: ظلمة الليل في لغة نجد، والضوء في لغة قيس، وهي أيضًا: اختلاط الضوء والظلمة جميعا، كوقت ما بين صلاة الفجر إلى أولى الإسفار. قال عمارة: ظلمة فيها ضوء من أول الليل وآخره، ما بين الظلمة إلى الشفق، وما بين الفجر إلى الصلاة. وأراد أبو دؤاد اختلاط الظلمة والضوء. ولاح: بدا وظهر من بعيد. والخيط: اللون هنا يكون ممتدا كالخيط.
529
في ذلك بأنه كان بعد الصبح، ولكنه قال:"هو الصبح". وذلك من قوله يُحتمل أن يكون معناهُ: هو الصبح لقربه منه، وإن لم يكن هو بعينه، كما تقول العرب:"هذا فلان" شبها، وهي تشير إلى غير الذي سمَّته، فتقول:"هو هو" تشبيها منها له به، فكذلك قول حذيفة:"هو الصبح"، معناه: هو الصبح شبها به وقربا منه.
* * *
وقال ابن زيد في معنى"الخيط الأبيض والأسود" ما:
٣٠٢٠- حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال:"الخيط الأبيض" الذي يكون من تحت الليل، يكشف الليل -"والأسود" ما فوقه.
* * *
وأما قوله:"من الفجر" فإنه تعالى ذكره يعني: حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود الذي هو من الفجر. وليس ذلك هوَ جميعَ الفجر، ولكنه إذا تبيَّن لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل، فمن حينئذ فصُوموا، ثم أتِمُّوا صيامكم من ذلك إلى الليل.
وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
٣٠٢١- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"منَ الفجر" قال: ذلك الخيط الأبيضُ هو من الفجر نسبةً إليه، وليس الفجر كله، فإذا جاء هذا الخيط، وهو أوله، فقد حلت الصلاةُ وحَرُم الطعام والشراب على الصائم.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيامَ إلى الليل" أوضحُ
530
الدلالة على خطأ قول من قال: حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزَمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة.
فمن زعم أنّ له أنْ يتجاوز ذلك الحدّ، قيل له: أرأيتَ إن أجازَ له آخَرُ ذلك ضحوةً أو نصف النهار؟
فإن قال: إنّ قائلَ ذلك مخالف للأمة.
قيل له: وأنتَ لما دلَّ عليه كتاب الله ونقلُ الأمة مخالفٌ، فما الفرق بينك وبينه من أصْل أو قياس؟
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل، والنهارُ من طلوع الشمس.
قيل له: كذلك يقول مخالفوك، والنهار عندهم أوَّله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداءُ طلوعها دون أن يتتامَّ طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداءُ غروبها دون أن يتتامَّ غروبها.
ويقال لقائلي ذلك (١) إن كان"النهار" عندكم كما وصفتم، هو ارتفاع الشمس، وتكامل طُلوعها وذهاب جميعُ سدْفة الليل وَغبَس سواده -فكذلك عندكم"الليل": هو تتامُّ غروب الشمس، وذهاب ضيائها، وتكامل سواد الليل وظلامه؟
فإن قالوا: ذلك كذلك!
قيل لهم: فقد يجبُ أن يكون الصوم إلى مَغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!
(١) جمع القائلين، بعد الإفراد.
531
فإن قالوا: ذلك كذلك! أوجبوا الصومَ إلى مغيب الشفق الذي هوَ بياضٌ. وذلك قولٌ إنْ قالوه مدفوعٌ بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مُجمعةً عليه -الخطأُ والسهوُ، [وكفى بذلك شاهدا] على تخطئته (١).
وإن قالوا:"بل أول الليل" ابتداء سُدْفته وظلامه ومَغيبُ عَين الشمس عنا.
قيل لهم: وكذلك"أول النهار": طلوع أوّل ضياء الشمس ومغيب أوَائل سُدفة الليل.
ثم يعكس عليه القول في ذلك، (٢) ويُسأل الفرقَ بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما"الفجر" فإنه مصدر من قول القائل:"تفجَّر الماءُ يتفجَّرُ فجرًا"، (٣) إذا انبعثَ وجرى، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس"فجر"، لانبعاث ضوئه عليهم، وتورُّده عليهم بطرُقهم ومحاجِّهم، تفجُّرَ الماء المتفجِّر من منبعه.
* * *
وأما قوله:"ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإنه تعالى ذكره حَدَّ الصوم بأن آخرَ وقته إقبالُ الليل - كما حدَّ الإفطارَ وإباحةَ الأكل والشرب والجماع وأوَّل الصوم بمجيء أول النهار وأوَّل إدبار آخر الليل، فدلّ بذلك على أن لا صومَ بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم = وعلى أنّ المواصل مجوِّعٌ نفسه في غير طاعة ربه. كما: -
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها لسياق الجملة.
(٢) عاد مرة أخرى فأفرد القائل بعد جمع القائلين. ولولا الضمائر الكثيرة التي تمنع ظن التحريف أو التصحيف في جمل متتابعة. لغيرتها. ولعل أبا جعفر كان يسهو أحيانا عن مثل ذلك. لجوازه في العربية.
(٣) هكذا جاء في المطبوعة، ولم أملك أن أغيره، لأن كلامه دال على أنه يجعله مصدرا، لقولهم: "تفجر" بالتاء وتشديد الجيم. وكأنه يحمله على أنه من المصادر التي جاءت على غير بناء أفعالها. كما مضى ذلك آنفًا في ١: ١١٦-١١٨. وانظر تفسير"التفجر" فيما سلف ٢: ٢٣٨.
532
٣٠٢٢- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم بن عمر، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل وأدبر النهارُ وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم. (١).
٣٠٢٣- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني = وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن الشيباني = وحدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو معاوية = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني = قالوا جميعا في حديثهم، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي ﷺ في مسير وهو صائم، فلما غَرَبت الشمسُ قال لرجل: انزل فاجدَحْ لي. قالوا: لو أمسيت يا رسول الله! فقال: انزل فاجدح. فقال الرجل: يا رسول الله لو أمسيت! قال: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله إن علينا نهارا! فقال له الثالثة، فنزل فجدح له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا - وضرب بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم (٢).
(١) الحديث: ٣٠٢٢- عبدة: هو ابن سليمان.
عاصم: هو ابن عمر بن الخطاب، وهو تابعي ثقة، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في المطبوعة هنا عاصم بن عمرو"، وهو خطأ.
والحديث رواه بنحوه، أحمد في المسند: ١٩٢، ٣٨٣، عن وكيع، عن هشام، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا: ٢٣١، عن ابن نمير، و ٣٣٨، عن سفيان بن عيينة - كلاهما عن هشام.
ورواه البخاري ٤: ١٧١ (فتح)، من طريق ابن عيينة.
ورواه مسلم ١: ٣٠٣، من طريق أبي معاوية، وابن نمير، وأبي أسامة - ثلاثتهم عن هشام.
ورواه أبو داود: ٢٣٥١، عن أحمد بن حنبل، عن وكيع، وعن مسدد. عن عبد الله بن داود - كلاهما عن هشام بن عروة.
(٢) الحديث: ٣٠٢٣- رواه الطبري بأسانيد، تجتمع كلها في أبي إسحاق الشيباني.
فرواه عن هناد بن السري، عن ثلاثة شيوخ: عن أبي بكر بن عياش، وأبي عبيدة، وأبي معاوية. ورواه عن محمد بن المثنى، عن أبي معاوية. ورواه عن أبي السائب سلم بن جنادة، عن عبد الله بن إدريس الأودي - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني، واسمه: سليمان بن أبي سليمان، عن عبد الله بن أبي أوفى.
أبو عبيدة: هو عبد الواحد بن واصل الحداد، وهو ثقة من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٤، وتاريخ بغداد ١١: ٣-٥.
ووقع في المطبوعة في هذا الجزء من الإسناد: "حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن شيبان". وهو خطأ واضح، ليس لشيبان صلة بهذا الإسناد. صوابه: "عن الشيباني"، كما أثبتناه.
والحديث رواه البخاري ٤: ١٥٦، من طريق سفيان بن عيينة، و ١٧١-١٧٢، من طريق خالد بن عبد الله الواسطي، و ١٧٢، من طريق عبد الواحد بن زياد العبدي، و ١٧٣، من طريق أبي بكر بن عياش. ورواه مسلم ١: ٣٠٣، من طريق هشيم، وعلي بن مسهر، وعباد بن العوم، وعبد الواحد بن زياد، وسفيان، وجرير، وشعبة. ورواه أبو داود: ٢٣٥٢، من طريق عبد الواحد بن زياد - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني، به، نحوه.
جدح السويق في اللبن أو الماء: إذا خاضه وحركه حتى يختلط ويستوي. وقوله: "ضرب بيده"، يعني أشار بيده مادا يده كفعل الضارب. و"ضرب" فعل من الأفعال التي تقع على كثير من الأعمال إلا قليلا. يقال: "ضرب في الأرض"، و"ضرب بيده إلى الشيء"، أهوى إليه، و"ضرب على يده"، و"ضرب يده إلى عمل كذا".
533
٣٠٢٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رفيع، قال: فرض الله الصيام إلى الليل، فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل، وإن شئت فلا تأكل (١).
٣٠٢٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية: أنه سُئل عن الوصال في الصوم فقال: افترض الله على هذه الأمَّة صومَ النهار، فإذا جاءَ الليل فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.
٣٠٢٦ - حدثني يعقوب، قال: حدثني ابن علية، عن داود بن أبي هند، قال: قال أبو العالية في الوصال في الصوم، قال: قال الله:"ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإذا جاء الليل فهو مفطر، فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.
٣٠٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين، عن مسعر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: أتموا الصيامَ إلى الليل - يعني: أنها كرهت الوصال.
* * *
(١) الأثر: ٣٠٢٤- رفيع، هو رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي، ذكر مئات من المرات بكنيته. أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي ﷺ بسنتين. مات سنة ٩٠. وداود هو ابن أبي هند. وانظر الإسنادين التاليين.
534
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه وصال مَنْ واصَل؟ فقد علمت بما:
٣٠٢٨- حدثكم به أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، قال: كان عبد الله بن الزبير يُواصل سبعة أيام، فلما كبِر جعلها خمسا، فلما كبِر جدًّا جعلها ثلاثا.
٣٠٢٩- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن عبد الملك، قال: كان ابن أبي يعمر يفطر كل شهر مرة.
٣٠٣٠ - حدثنا ابن أبي بكر المقدّمي قال، حدثنا الفروي، قال: سمعت مالكا يقول: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلةَ ستَّ عشرة وليلة سبعَ عشرة من رمضان لا يفطر بينهما، فلقيته فقلت له: يا أبا الحارث ماذا تجدُه يقوِّيك في وصَالك؟ قال: السمْن أشرُبه أجده يُبلّ عروقي، فأما الماء فإنه يخرج من جسدي (١).
= وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك، ممن يطولُ بذكرهم الكتاب؟
قيل: وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة (٢) لا على طلب البرّ لله بفعله. وفعلهم ذلك نظيرُ ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله:
"اخشَوشِنوا وَتمعْددوا، وانزوا على الخيل نزوًا، واقطعوا الرُّكُب وامشوا حُفاة" (٣).
(١) الخبر: ٣٠٣٠- ابن أبي بكر المقدمي: هو أبو عثمان أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي، شيخ الطبري. و"الفروي" بفتح الفاء وسكون الراء: هو إسحاق بن محمد بن أبي فروة، وقد سبق مثل هذا الإسناد إلى مالك: ٨٧٦. ولكن قال الطبري هناك: "حدثنا أبو عثمان المقدمي". وهنا لم يذكر اسمه ولا كنيته، بل نسبه إلى جده.
(٢) "الخموصة" مصدر خمص بطنه خمصا (بسكون الميم وفتحها) وخماصة. ولم يذكروا"الخموصة" في كتب اللغة، وهو عربي عريق كقولهم: الفسالة والفسولة، والرذالة والرذولة، وفارس بين الفراسة والفروسة، ورجل جلد بين الجلادة والجلودة، وبطل بين البطالة والبطولة، وأشباه ذلك.
(٣) اخشوشن الرجل: لبس الخشن وتعوده، وأكل الخشن، وعاش عيشا خشنا وبالغ في التخشن. وتمعدد الرجل: تشبه بعيش معد بن عدنان في التشظف وترك التزيي بزي العحم. يعني: اصبروا على عيش معد في الحضر والسفر، وتشبهوا بلباسه، ودعوا زي الأعاجم. النزو: الوثب، يأمرهم أن يثبوا على الخيل وثبا بلا استعانة بركاب. والركب جمع ركاب: وهو ما يكون في سرج الفرس يضع الراكب فيه رجله، فإذا كان مثله في رحل البعير سمي"الغرز".
535
يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم، لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خَفْض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبُنوا ويحتموا عن أعدائهم.
= وقد رَغِب - لمن واصل - عن الوصال كثيرٌ من أهل الفضل:
٣٠٣٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أنّ ابن أبي نُعم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقومَ، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرَك هذا أصحابُ محمد ﷺ رَجمُوه (١).
= ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله ﷺ بالنهي عن الوصال التي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مُكتفًى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره.
٣٠٣٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ رسول الله ﷺ نَهى عن الوصال، قالوا: إنك تُواصلُ يا رَسول الله! قال: إني لست كأحدٍ منكم، إني أبيت أُطعَم وأسقَى (٢).
وقد روي عن النبي ﷺ الإذنُ بالوصال من السحر إلى السَّحر.
٣٠٣٤ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا
(١) الأثر: ٣٠٣٢- ابن أبي نعم، هو"عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي" الكوفي العابد. قال بكير بن عامر: لو قيل لعبد الرحمن: "قد توجه ملك الموت إليك يريد قبض روحك! " ما كانت عنده زيادة على ما هو فيه. وكان صبورا على الجوع الدائم، وهو الذي دخل على الحجاج في أيام الجماجم فوعظه. وأخذه الحجاج ليقتله، وأدخله بيتا مظلما، وسد الباب خمسة عشر يوما، ثم أمر بالباب ففتح ليخرج فيدفن. فدخلوا عليه فإذا هو قائم يصلي. فقال له الحجاج: سر حيث شئت.
(٢) الحديث: ٣٠٣٣- يحيى بن سعيد: هو القطان.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم، مضت ترجمته: ٢٧٤٠. ووقع في المطبوعة هنا"عن عبد الله" - يعني بالتكبير. و"عبد الله": هو العمري، وهو أخو"عبيد الله". بالتصغير - في هذا الإسناد، لأن القطان رواه عن"عبيد الله"، ولأن القطان كان لا يحدث عن"عبد الله"، كما روي ذلك عند ابن أبي حاتم ٢/٢/١٠٩ في ترجمة"عبد الله"، وكذلك نقل في التهذيب في ترجمته.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٤٧٢١، عن يحيى القطان، عن عبيد الله، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: ٥٧٩٥، عن محمد بن عبيد، و ٦٢٩٩، عن ابن نمير - كلاهما عن عبيد الله. وكذلك رواه مسلم ١: ٣٠٣، من طريق ابن نمير.
ورواه مالك في الموطأ، ص: ٣٠٠، عن نافع، عن ابن عمر. وكذلك رواه أحمد: ٥٩١٧، ٦١٢٥. والبخاري ٤: ١٧٧ - كلاهما من طريق مالك.
ورواه أحمد أيضًا: ٦٤١٦، ومسلم ١: ٣٠٣- كلاهما من طريق عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع.
وأما رواية"عبد الله" العمري - فقد رواه أحمد: ٤٧٥٢، عن وكيع، عن العمري، عن نافع.
536
شعيب، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل حتى السَّحر. قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إنّي أبيت لي مُطعم يُطعمني، وَساقٍ يسقيني (١).
٣٠٣٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو إسرائيل
(١) الحديث: ٣٠٣٤- شعيب: هو ابن الليث بن سعد الإمام، وهو ثقة معروف، أخرج له مسلم وغيره. ووقع في المطبوعة"أبو شعيب"! وزيادة"أبو" خطأ، لا معنى لها ولا موضع.
يزيد بن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، مضت ترجمته في: ٢٠٣١.
عبد الله بن خباب -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة- مولى بني عدي بن النجار: تابعي ثقة، وثقه أبو حاتم والنسائي، وروى له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه البخاري ٤: ١٧٧، عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند: ١١٠٧٠ (٣: ٨ حلبي)، عن قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد - وكذلك رواه أبو داود: ٢٣٦١، عن قتيبة.
ورواه أحمد أيضًا: ١١٨٤٥ (٣: ٨٧ حلبي)، عن أبي سعيد، عن عبد الله بن جعفر عن ابن الهاد.
ورواه البخاري أيضًا ٤: ١٨١، من طريق ابن أبي حازم، عن ابن الهاد.
وذكره السيوطي ١: ٢٠٠، ونسبه للبخاري وأبي داود؟
وذكره أيضًا ابن كثير ١: ٤٢٦، وقال: "أخرجاه في الصحيحين" فوهم وهما شديدا، رحمه الله فإن مسلما لم يخرجه في صحيحه. وقد نص الحافظ في الفتح ٤: ٢١٧، في آخر كتاب الصيام، على أنه من أفراد البخاري.
537
العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن أمِّ وَلد حاطب بن أبي بَلتعة: أنها مرّت برسول الله ﷺ وهو يتسحَّر، فدعاها إلى الطعام فقالت: إنّي صَائمة، قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمد ﷺ من السَّحر إلى السَّحر. (١).
* * *
فتأويل الآية إذًا: ثم أتموا الكفَّ عما أمركم الله بالكفّ عنه، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل، ثم حَلّ لكم ذلك بعدَه إلى مثل ذلك الوقت. كما:
٣٠٣٦- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ثم أتمُّوا الصيامَ إلى الليل" قال: من هذه الحدود الأربعة، فقرأ:"أحِلّ لكم
(١) الحديث: ٣٠٣٥- أبو نعيم: هو الفضل بن دكين -بضم الدال المهملة وفتح الكاف- ثقة حافظ من شيوخ أحمد، قال أحمد: "هو على قلة روايته أثبت من وكيع"، وقال أيضًا: "كان يقظان في الحديث، عارفا به".
أبو إسرائيل العبسي: هو إسماعيل بن خليفة الملائي - بضم الميم وتخفيف اللام وهمزة بعد الألف. وهو ضعيف، بينا ضعفه في شرح المسند: ٩٧٤.
أبو بكر بن حفص: هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: لم أعرف من هي، ولا وجدت لها ترجمة ولا ذكرا. ولو صح الإسناد إليها لم يكن بذلك بأس، لأن جهالة الصحابي لا تضر. ولكن الإسناد ضعيف.
وهذا الحديث لم أجده عند أحد غير الطبري. وقد نقله عنه ابن كثير ١: ٤٢٦، بإسناده. ولم يزد شيئا في تخريجه. ولم يذكره السيوطي.
538
ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" فقرأ حتى بَلغ:"ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل" وكان أبي وغيره من مَشيختِنا يقولون هذا ويتلونه علينا (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره - بقوله:"ولا تباشرُوهن" لا تجامعوا نساءكم (٢).
* * *
= وبقوله:"وأنتم عَاكفونَ في المساجد" يقول: في حال عُكوفكم في المساجد، وتلك حال حَبْسهم أنفسَهم على عبادة الله في مساجدهم.
* * *
"والعكوف" أصله المقام، وحبسُ النفس على الشيء (٣) كما قال الطِّرِمَّاح بن حَكيم:
فَبَاتَ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكفًّا عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ (٤)
(١) الأثر: ٣٠٣٦- أبوه، هو زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة الفقيه مولى عمر. روى عن أبيه وابن عمر وأبي هريرة وعائشة وطائفة من أصحاب رسول الله، كان ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن. مات سنة ١٣٦.
(٢) انظر تفسير"المباشرة" فيما سلف قريبا: ٥٠٣-٥٠٥.
(٣) انظر تفسير"العكوف" فيما سلف من هذا الجزء ٣: ٤١، ٤٢.
(٤) ديوانه: ١٥٣، واللسان (بنو) غير منسوب عن ثعلب، ورواه: "بينهن قتيل". وقال الثعالبي في المضاف والمنسوب: ٢١٩: "بنات الليل": الأحلام، والنساء، وأهوال الليل، والمنى، وبكلها جاء الشعر". وأراد الطرماح: ما يعالج من ذكرى صاحبته، وما يخالط ذلك من منى وهموم وشقاء يشقى به من حسرة وشوق ولهفة. وهو بيت جميل المعنى، جيد التصوير. جعل ذكرياته قد استدارت حوله تبكي عليه، وهو بينهن صريع قد قضى نحبه.
539
يعني بقوله:"عكفا"، مقيمة، وكما قال الفرزدق:
تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كأنَّهُمْ عَلَى صَنَمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ (١)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى"المباشرة" التي عنى الله بقوله:"ولا تُباشروهن". فقال بعضهم: معنى ذلك الجماعُ دون غيره من معاني"المباشرة".
* ذكر من قال ذلك:
٣٠٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"ولا تُباشروهنّ وأنتم عَاكفون في المساجد" - في رمضان أو في غير رمضان، فحرَّم الله أن يَنكح النساء ليلا ونهارا حتى يَقضي اعتكافه.
٣٠٣٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: الجماع.
(١) ديوانه: ٥٦١، والنقائض: ٥٦٣، من أبيات جياد يصف فيها قدور أهله الكرام، يقول قبله:
وَقَدْ عَلِمَ الأَقْوامُ أنّ قُدُورنَا ضَوَامِنُ للأرْزَاقِ والرِّيحُ زَفْزَفُ
نَعَجِّلُ للضِّيفَانِ في المَحْلِ بالقِرَى قُدُروًا بمَعْبُوطٍ، تُمَدُّ وتُعْزَفُ
تُفَرَّغُ فِي شِيزَىَ كأنَّ جِفَانَهَا حِيَاضُ جِبًي، منها مِلاَءٌ ونُصَّفُ
الشيزى: خشب منه القدور تصنع. حياض جبي: حياض يجمع فيها الماء فهي ملأى أبدا. والمعتفون: الذين جاءوا يطلبون الرزق. يصفهم جياعا قد ثبتوا في أماكنهم ينتظرون، متلهفين وهم يكظمون أنفسهم، قد ماتت أصواتهم، كأنهم عباد قد خشعوا وخضعوا وأملوا.
540
٣٠٣٩- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك، قال: كانوا يُجامعون وهم مُعتكفون، حتى نزلت:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".
٣٠٤٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك في قوله:"ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد" قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" يقول: لا تقرَبوهن ما دمتم عاكفين في مسجد ولا غيره.
٣٠٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه.
٣٠٤٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كان أناس يُصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك.
٣٠٤٣ - وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأخبرهم أنّ ذلك لا يصلح حتى يَقضيَ اعتكافه.
٣٠٤٤ - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" يقول: من اعتكف فإنه يصوم، لا يَحل له النساء ما دام معتكفا.
٣٠٤٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: الجوارُ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء.
541
٣٠٤٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان ابن عباس يقول: من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرَب النساء.
٣٠٤٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرُج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك.
٣٠٤٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته، ثم اغتسل، ثم رجع إلى اعتكافه، فنُهوا عن ذلك = قال ابن جريج: قال مجاهد: نُهوا عن جماع النساء في المساجد، حيث كانت الأنصار تجامِع، فقال:"لا تباشروهن وأنتم عاكفون" قال:"عاكفون"، الجوارُ = قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجماعُ المباشرة؟ قال: الجماع نفسه! فقلت له: فالقُبلة في المسجد والمسَّة؟ فقال: أما ما حُرِّم فالجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد.
٣٠٤٩ - حدثت عن حسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"ولا تباشروهن" يعني الجماع.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني"المباشرة" من لَمْس وقُبلة وجماع.
* ذكر من قال ذلك:
٣٠٥٠ - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال مالك بن أنس: لا يمس المعتكف امرأته، ولا يباشرُها، ولا يتلذذ منها بشيء، قُبلةٍ ولا غيرها (١).
(١) في الموطأ: ٣١٨ بنصه.
542
٣٠٥١- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: المباشرة الجماعُ وغيرُ الجماع، كلُّه محرم عليه، قال:"المباشرة" بغير جماع، إلصاقُ الجلد بالجلد.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال هذا القول: أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة، ولم يخصص منها شيئا دون شيء. فذلك على ما عمَّه، حتى تأتي حُجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرةً دون مباشرةٍ.
* * *
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: الجماعُ، أو ما قام مقامَ الجماع، مما أوجبَ غسلا إيجابَه. وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين:
إما جعل حكم الآية عامًّا، أو جَعل حكمها في خاصٍّ من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نساءه كنّ يُرجِّلنه وهو معتكف، فلما صح ذلك عنه، عُلم أنّ الذي عنى به من معاني المباشرة، البعض دون الجميع.
٣٠٥٢ - حدثنا علي بن شعيب قال، حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال، أخبرنا مالك. عن الزهري، عن عروة وعن عمرة، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه فأرَجِّله (١).
(١) الحديث: ٣٠٥٢- هكذا رواه مالك في الموطأ، ص: ٣١٢، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة. فزاد في الإسناد"عمرة" بين عروة وعائشة.
وكذلك رواه مسلم ١: ٩٥، وأبو داود: ٢٤٦٧ - كلاهما من طريق مالك. وكذلك رواه الترمذي ٢: ٧٢، من طريقه، مع خطأ من الناسخين. وقال أبو داود: "لم يتابع أحد مالكا على"عروة عن عمرة". ورواه معمر وزياد بن سعد وغيرهما: عن الزهري: عن عروة، عن عائشة". وقال الترمذي: "هكذا رواه غير واحد: عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة. والصحيح: عن عروة وعمرة، عن عائشة. هكذا روى الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة".
وقال الحافظ في الفتح ٤: ٢٣٦"واتفقوا على أن الصواب قول الليث، وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواية مالك - من المزيد في متصل الأسانيد". وهذا من الحافظ -عندي- تكلف لا داعي له. ومالك، على إمامته وعلمه وحفظه. يخطئ كما يخطئ الناس، فالظاهر أنه نسي في بعض أحيانه، فجعل"عروة عن عمرة" بدل"عروة وعمرة". وقد ثبت عن مالك أنه كان يرويه أحيانا على الصواب، كما يظهر مما يأتي في: ٣٠٥٦.
543
٣٠٥٣- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة: أن عائشة قالت: أن رسول الله ﷺ لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يدخل عليّ رأسَه وهو في المسجد فأرجِّلُه (١).
٣٠٥٤- حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان النبي ﷺ يُدني إليَّ رأسه وهو مُجاورٌ في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض، فأغسله وأرَجِّله (٢).
٣٠٥٥- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم
(١) الحديث: ٣٠٥٣- يونس، شيخ الطبري: هو ابن عبد الأعلى الصدفي - بفتح الصاد والدال المهملتين. مضت ترجمته: ١٦٧٩.
ويونس - شيخ ابن وهب: هو ابن يزيد الأيلي. مضت ترجمته: ٢٣٧٧.
وهذا الحديث تكرار للذي قبله. وقد رواه يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن -معا- عن عائشة، على الصواب.
وقد تابعه على ذلك الليث بن سعد عن الزهري. فرواه البخاري ٤: ٢٣٦، ومسلم ١: ٩٥-٩٦. وأبو داود: ٢٤٦٨، والترمذي ٢: ٧٢ - كلهم من طريق الليث، عن الزهري، عن عروة وعمرة -معا- عن عائشة.
(٢) الحديث: ٣٠٥٤- سفيان بن وكيع: فيه ضعف، كما قدمنا مرارا. ولكنه لم ينفرد بروايته من هذا الوجه، كما سنذكر.
فقد رواه ابن ماجه: ١٧٧٨، عن علي بن محمد، عن وكيع، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري ٤: ٢٣٦، من طريق يحيى و ١٠: ٣١٠، من طريق مالك. ورواه مسلم ١: ٩٦، من طريق أبي خيثمة. ورواه أبو داود: ٢٤٦٩. من طريق حماد بن زيد. والنسائي ١: ٦٨، من طريق مالك أيضًا - كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والحديث مكرر ما قبله.
544
يعتكفُ فيخرجُ إليَّ رأسه من المسجد وهو عاكفٌ، فأغسِله وأنا حائض (١).
٣٠٥٦- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: أن النبي ﷺ كان يُخرج رَأسه فأرجّله وهو معتكف (٢).
* * *
فإذْ كان صحيحا عن رسول الله ﷺ ما ذكرنا من غَسل عائشة
(١) الحديث: ٣٠٥٥- سفيان: هو ابن وكيع. ابن فضيل: هو محمد.
تميم بن سلمة السلمي الكوفي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. والحديث رواه أيضًا النسائي ١: ٦٨، من طريق الفضيل بن عياض، عن الأعمش. بهذا الإسناد.
وهو مكرر ما قبله.
(٢) الحديث: ٣٠٥٦- محمد بن معمر، شيخ الطبري: مضت ترجمته: ٢٤١. حماد بن مسعدة البصري: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق، وثقه ابن سعد، وأبو حاتم. وغيرهما. والحديث مكرر ما قبله.
وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك - على الصواب: أنه من رواية مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة، وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، دون وساطة"عمرة" بين عروة وخالته عائشة. خلافا للرواية التي في الموطأ بإثبات الوساطة. والتي مضى مثلها: ٣٠٥٢ من رواية معن بن عيسى عن مالك. فكأن مالكا سها في تلك الرواية، حين جعل"عمرة" بين عروة وعائشة، وكان يذكر الصواب أحيانا، فيرويه من حديث عروة عن عائشة مباشرة. والحديث ثابت من رواية عروة عن عائشة، ومن رواية عمرة عن عائشة، سمعه الزهري كذلك من عروة، ومن عمرة، كما بينا في: ٣٠٥٣. وسمعه هشام بن عروة من أبيه عن عائشة، كما مضى في ٣٠٥٤، وفي طرقه التي خرجناها هناك.
وكذلك رواه البخاري من هذا الوجه، ولكنه فرقه حديثين بإسناد واحد: فرواه ١٠: ٣١٠، عن عبد الله بن يوسف: "أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة" - فذكره مختصرا. ثم قال: "حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - مثله".
وقد تابعه على ذلك معمر - في الزهري. فرواه البخاري ٤: ٢٤٦، من طريق هشام بن يوسف. ورواه النسائي ١: ٦٨، من طريق عبد الأعلى - كلاهما عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
ويؤيده هذه الرويات - في أن عروة رواه عن عائشة مباشرة: رواية مسلم إياه ١: ٩٦، من رواية عمرو بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، دون واسطة.
545
رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، غيرُ جميع ما لزمه اسم"المباشرة" = وأنه معنيٌّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مجمَعًا على أنّ الجماع مما عُني به، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كلُّ ما قام في الالتذاذ مقامه منَ المباشرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هذه الأشياء التي بيّنتها: من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد، يقول: هذه الأشياءَ حدّدتها لكم، وأمرْتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرَّمتها فيها عليكم، فلا تقرَبوها، وابعُدوا منها أن تركبوها، فتستحقُّوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدّى حُدودي، وخالف أمري وركب معاصيَّ.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول:"حدود الله": شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غيرَ أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة.
وذلك أن"حد" كل شيء: ما حَصره من المعاني وميَّز بينه وبين غيره، فقوله:"تلك حدود الله" من ذلك، يعني به المحارم التي ميّزها من الحلال المطلق فحدَّدها بنعوتها وصفاتها، وعرَّفها عبادَه.
* * *
ذكر من قال إنّ ذلك بمعنى الشُّروط:
546
٣٠٥٧ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أما"حدود الله" فشروطه.
* * *
وقال بعضهم:"حدود الله" معاصيه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٠٥٨ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"تلك حدود الله" يقول: معصية الله - يعني المباشرةَ في الاعتكاف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: كما بينت لكم أيها الناس واجبَ فرائضي عليكم من الصوم، وعرّفتكم حدودَه وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنُّبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميعَ ذلك لكم - فكذلك أبيِّن أحكامي، وحلالي وحرامي، وحدودي، وأمري ونهيي، في كتابي وتنزيلي، وعلى لسان رسولي ﷺ للناس.
* * *
ويعني بقوله:"لعلهم يتقون" يقول: أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.
* * *
547
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل.
ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة الحجرات: ١١] وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النساء: ٢٩] بمعنى: لا يلمزْ بعضكم بعضا، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا (١) لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزُه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول:"أخي وأخوك أيُّنا أبطش". يعني: أنا وأنت نصْطرع، فننظر أيُّنا أشدّ (٢) - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه، ومن ذلك قول الشاعر: (٣)
أخِي وَأَخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْرِ لَيْسَ بِهِ مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ (٤)
* * *
(١) انظر ما سلف مثل ذلك في ٢: ٣٠٠، ثم الآية: ٨٥ من سورة البقرة ٢: ٣٠٣ لم يذكر فيها شيئا من ذلك. ولم يبين هذا البيان فيما سلف. وهذا دليل على أنه كان أحيانا يختصر الكلام اختصارا، اعتمادا على ما مضى من كلامه، أو ما يستقبل منه. كما قلت في مقدمة التفسير.
(٢) انظر تأويل مشكل القرآن: ١١٤، هذا بنصه.
(٣) هو ثعلبة بن عمرو (حزن) العبدي، ابن أم حزنة. ويقال هو من بني شيبان حليف في عبد القيس. وكان من الفرسان (الاشتقاق لابن دريد: ١٩٧). وانظر التعليق التالي.
(٤) المفضليات: ٥١٣، وتأويل مشكل القرآن: ١١٤، معجم ما استعجم: ١٠٣٨. وفي المطبوعة: "ليس لنا"، وأثبت ما في المراجع، وكأنها الصواب. ويقال: ليس بالدار عريب، أي ليس بها أحدا. و"النسير"، تصغير"النسر"، وهو مكان بديار بني سليم. بيد أن ياقوت نقل عن الحازمي أنه بناحية نهاوند، واستشهد بهذا البيت. فإن يكن ذلك فابن أم حزنة هذا إسلامي: قال ياقوت، قال سيف: "سار المسلمون من مرج القلعة نحو نهاوند، حتى انتهوا إلى قلعة فيها قوم، ففتحوها، وخلفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة. وفتحها بعد فتح نهاوند، ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي، لأنهم أقاموا مع النسير على القلعة، فسميت به" (انظر تاريخ الطبري ٤: ٢٤٣، ٢٥١).
فإن صح أن ابن أم حزنة كان في بعث المسلمين، كان هذا البيت مؤيدا لهذا القول. فإنه يقول له: أنا وأنت ببطن النسير، ليس معنا فيه من أبناء معد (وهم العرب) أحد. وأما عن الحازمي إذا كان الموضع ببلاد العرب، فهو يقول: ليس به أحد، وقوله"من معد" فضول من القول. وقد ترجح عندي أنه شاعر إسلامي، من بعض شعره في المفضليات رقم ٧٤، وفي الوحشيات رقم: ٢١٧، (وانظر من نسب إلى أمه رقم: ٢٢، ٣٢)، وله شعر في حماسة البحتري: ٩٧، ١٠٣.
وإن صحت رواية الطبري: "ليس لنا من معد عريب". فعريب، في هذا البيت، هو صاحبه الذي ذكره في أول الشعر فقال:فيكون قوله: "معد" مصدر"عد يعد". يقول: أنا وأنت ببطن النسير وحدنا، لا يعد معنا أحد، يعني أنهما خاليين بالمكان، ليس لك من ينصرك ولا لي من ينصرني، فهناك يظهر صاحب للبأس منهما، وقال بعد البيت:
548
فتأويل الكلام: ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل.
"وأكله بالباطل": أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.
* * *
وأما قوله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" فإنه يعني: وتخاصموا بها - يعني: بأموالكم - إلى الحكام"لتأكلوا فريقا" = طائفة = (١) من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.
(١) انظر ما سلف في تفسير"فريق" ٢: ٢٢٤، ٤٠٢.
549
ويعني بقوله:"بالإثم" بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم (١) "وأنتم تعلمون"، أي: وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم. (٢). كما:
٣٠٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام" فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما.
٣٠٦٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تخاصم وأنت ظالم.
٣٠٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٣٠٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبُطل للمحق، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا (٣).
(١) انظر ما سلف في تفسير"الإثم" من هذا الجزء ٣: ٣٩٩-٤٠٨.
(٢) في المطبوعة: "معصية الله"، خطأ.
(٣) في المطبوعة: "ويأخذ مما قضي به.. "، والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير ١: ٤٣٠.
550
٣٠٦٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك.
٣٠٦٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" أما"الباطل" يقول: يظلم الرجل منكم صاحبَه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام".
٣٠٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني خالد الواسطي، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال: هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم.
٣٠٦٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" يقول: يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [سورة النساء: ٢٩] قال: هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية.
* * *
وأصل"الإدلاء": إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. (١) فقيل للمحتج لدعواه:"أدلَى بحجة كيت وكيت" إذا كان حجته التي يحتج بها سببا
(١) السبب: الحبل.
552
له، هو به متعلقٌ في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب:"أدلى فلان بحجته، فهو يُدلي بها إدلاء = وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء".
* * *
فأما قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام"، فإن فيه وَجهين من الإعراب:
أحدهما: أن يكون قوله:"وتُدْلوا" جزما عطفا على قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي:"وَلا تدلوا بها إلى الحكام".
والآخر منهما: النصب على الصرْف، (١) فيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام، كما قال الشاعر:
إِنَّ عَرِبيًا وَإِنْ سَاءَني أَحَبُّ حَبِيبٍ وَأَدْنَى قَرِيبْ
فأقْسَم بِاللهِ لاَ يَأتَلِي وأقْسَمْتُ إِنْ نلتُهُ لاَ يَؤُوبْ
فَأَقْبَلَ نَحْوِي عَلَى قُدْرةٍ فَلَمَّا دَنَا صَدَقَتْه الكَذُوبْ
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (٢)
يعني: لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله.
وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا.
* * *
(١) في المطبوعة: "على الظرف"، وهو محض خطأ. وقد مضى تفسير معنى"الصرف" في ١: ٥٦٩-٥٧٠، واالتعليق: ١.
(٢) سلف تخريج هذا البيت في ١: ٥٦٩، إلا أني سهوت فلم أذكر أنه آت في هذا الموضع من التفسير، وفي ٩: ١٤٦ (بولاق)، فقيده. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ١١٥.
552
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾
قال أبو جعفر: ذكر أن رسول الله ﷺ سُئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، جوابا لًهُم فيما سألوا عنه.
ذكر الأخبار بذلك:
٣٠٦٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قوله:"يَسألُونك عن الأهلة قُلْ هيَ مواقيت للناس"، قال قتادة: سألوا نبيَّ الله ﷺ عن ذلك: لم جُعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تَسمعون:"هي مَواقيتُ للناس"، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجّهم، ولعدة نسائهم وَمحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقه.
٣٠٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله تعالى:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج" جعلها الله مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وَحلّ ديونهم (١).
٣٠٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا
(١) هكذا جاء في هذه الآثار ٣٠٦٨، ٣٠٧٠، ٣٠٧٢، ٣٠٧٣"حل ديونهم". والذي في كتب اللغة: "حل الدين يحل حلولا ومحلا (بكسر الحاء) ": أي وجب. وأستظهر أن يكون هذا المصدر"حلا" بفتح الحاء كنظائرها من اللغة كقولهم: "صد يصد صدا وصدودا"، ولو كسرت الحاء لكان وجها. وهذه الرواية قاضية على صحة هذا المصدر.
553
معمر، عن قتادة في قوله:"مواقيتُ للناس والحج" قال: هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونُسكهم.
٣٠٧٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الناس: لم خلقت الأهلة؟ فنزلت:"يسألونك عن الأهلة قُل هي مواقيت للناس"، لصَومهم وإفطارهم وَحجهم وَمَناسكهم - قال: قال ابن عباس: ووقتَ حجهم، وعدة نسائهم، وَحلّ دَينهم.
٣٠٧١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس" فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج.
٣٠٧٢ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، يعني: حَلّ دينهم، ووقت حجهم، وعدة نسائهم.
٣٠٧٣- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: سأل الناسُ رسول الله ﷺ عن الأهلة، فنزلت هذه الآية:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حَلّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم.
٣٠٧٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي: أنه سئل عن قوله:"مواقيت للناس"، قال: هي مواقيتُ الشهر: هكذا وهكذا وهكذا - وقبض إبهامه - فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثَلاثين (١).
* * *
(١) الخبر: ٣٠٧٤- جابر: هو ابن يزيد الجعفي، بينا أنه ضعيف جدا، في: ٢٣٤٠. وأما شيخه"عبد الله بن يحيى": فما عرفت من هو؟ وأكبر ظني أن الاسم محرف، لم أستطع الوصول إلى صحته.
وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير، ولا السيوطي. وإنما أشار إليه ابن كثير إشارة ١: ٤٣٠.
وقد ورد معناه مرفوعا، في حديث صحيح، رواه الحاكم ١: ٤٢٣، من حديث عبد الله بن عمر. وصححه ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير ١: ٤٣٠، من رواية عبد الرزاق، ثم أشار إلى رواية الحاكم إياه. وذكره السيوطي ١: ٢٠٣-٢٠٤، ونسبه أيضًا للبيهقي.
554
قال أبو جعفر: فتأويل الآية - إذا كان الأمرُ على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنهُ قوله في ذلك-: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ - فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة = التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه = مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس.
* * *
وأما قوله"والحج"، فإنه يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها أيضًا ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) ﴾
قال أبو جعفر: قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قبل أبوابها.
555
* ذكر من قال ذلك:
٣٠٧٥- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حَجوا ورَجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظُهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية:"وليسَ البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها" (١).
٣٠٧٦ - حدثني سفيان بن وكيع، قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، أتُوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها، فنزلت:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها".. الآية (٢).
٣٠٧٧ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال، سمعت داود، عن قيس بن حبتر: أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، ولا دارا من بابها أو بيتا، فدخل رسول الله ﷺ وأصحابه دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له:"رفاعة بن تابوت" فجاء فتسوَّر الحائط، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرَج من باب الدار - أو قال: من باب البيت - خرج معه رفاعة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، رأيتُك خرجتَ منه، فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي رجلٌ أحْمس! فقال: إن تكن رَجلا أحْمس، فإنّ ديننا واحد! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليسَ البر بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورها ولكن
(١) الحديث: ٣٠٧٥- رواه أبو داود الطيالسي: ٧١٧، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه البخاري مطولا ٣: ٤٩٤، عن أبي الوليد، عن شعبة، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي ١: ٢٠٤، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي معناه بإسناد آخر، عقبه.
(٢) الحديث: ٣٠٧٦- هو مكرر ما قبله. وهو في تفسير وكيع، كما ذكر السيوطي ١: ٢٠٤.
ورواه البخاري ٨: ١٣٧، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، بهذا الإسناد.
556
البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" (١).
٣٠٧٨ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهورها" يقول: ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كُوَّات في ظهور البيوت، وأبواب في جنوبها، تجعلها أهل الجاهلية. فنُهوا أن يدخلوا منها، وأمِروا أن يدخلوا من أبوابها.
٣٠٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٠٨٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم،
(١) الحديث: ٣٠٧٧- داود: هو ابن أبي هند، مضت ترجمته: ١٦٠٨.
قيس بن حبتر النهشلي التميمي: تابعي ثقة، وثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما.
"حبتر": بفتح الحاء المهملة والتاء المثناة بينهما باء موحدة ساكنة. ووقع في المطبوعة هنا"جبير"، وهو تصحيف. ووقع أيضًا هكذا مصحفا في المواضع التي سنشير إليها من الفتح والإصابة والدر المنثور، في هذا الحديث.
وهذا إسناد مرسل، لأنه عن تابعي مرفوعا، فهو ضعيف.
والحديث ذكره السيوطي ١: ٢٠٤، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر.
وذكره الحافظ في الإصابة ٢: ٢٠٩، من تفسير عبد بن حميد. وذكره أيضًا في الفتح ٣: ٤٩٤، مختصرا، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، وصرح في الموضعين بأنه حديث مرسل.
الأحمس: هو المتشدد فيه دينه الصلب. ثم كانت الحمس (جمع أحمس) هم قريش. وخزاعة، لنزولها مكة ومجاورتها قريشا، وكل من ولدت قريش من العرب وكنانة، وجديلة قيس - وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. فكانت الحمس قد شددوا في دينهم على أنفسهم، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا، ولم يطبخوا أقطا، ولم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا، ولا يأكلون لحما، ولا يلبسون إلا جديدا، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمشون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات، يقولون: "نحن أهل الله"، ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة، ويسكنون في ظعنهم قباب الأدم الحمر (المحبر لابن حبيب: ١٧٨-١٨٠، ثم سيرة ابن هشام ١: ٢١١-٢١٦ / والطبري في التفسير رقم: ٣٨٤٠).
557
قال: كان ناسٌ من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها، فنزلت:"ولكن البر من اتقى" الآية.
٣٠٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نَقب كُوَّة في ظهر بيته فجعل سُلَّمًا، فجعل يدخل منها. قال: فجاء رسول الله ﷺ ذات يوم ومعه رجل من المشركين، قال: فأتى الباب ليدخل، فدخل منه. قال: فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إنّي أحمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أحمس.
٣٠٨٢- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلُّوا بالعمرة لم يَحل بينهم وبين السماء شيء يتحرَّجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سَقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من وَرَائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله ﷺ أهلَّ زمنَ الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره، من الأنصار من بني سَلِمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! قال الزهري: وكانت الحُمس لا يبالون ذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس! يقول: وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها".
٣٠٨٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت" الآية كلها. قال قتادة: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهلَّ أحدُهم بحجّ أو عمرة لا يدخلُ دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسوُّرًا، وأسلموا وهم كذلك. فأنزل الله تعالى ذكره
558
في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها.
٣٠٨٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" فإن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا يَنقبون في أدبارِها، فلما حجّ رسول الله ﷺ حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله ﷺ باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس! - يقول: إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون"الحُمس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أيضا أحمس! فادخل. فدخل الرجل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وأتوا البيوت من أبوابها".
٣٠٨٦ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، وأنّ رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئا أحرم فأمِن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نَقبا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة كان بها رجلٌ محرم كذلك - وأنّ أهل المدينة كانوا يُسمُّون البستان"الحُشّ" - وأن رسول الله ﷺ دَخل بُستانًا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجلٌ من ورائه: يا فلان، إنك محرم وقد دخلت! فقال: أنا أحمس! فقال: يا رسول الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمسَ فأنا أحمسُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها"، إلى آخر الآية، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها.
٣٠٨٧ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،
559
عن أبيه، عن الربيع قوله:"وليسَ البر بأنْ تأتوا البيوتَ من ظهورها ولكن البر مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال: كان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرمُوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوَّرُوها، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره. وأن النبي ﷺ دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرم، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجل فاجرٌ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وقد أحرمت؟ فقال: رأيتك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! - وقريش يومئذ تُدعى الحُمس - فلما أن قال ذلك النبي ﷺ قال الأنصاري: إن ديني دينك! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها" الآية.
٣٠٨٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" قال: كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرَوْنه برًّا، فقال:"البر"، ثم نعت"البر" وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها = قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: كانت هذه الآية في الأنصار، يأتون البيوت من ظهورها، يتبرَّرُون بذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيانُ البيوت من ظهورها فلا برَّ لله فيه، فأتوها من حيثُ شئتُم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه، لأنه مما لم أحرمه عليكم.
* * *
560
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واتقوا الله أيها الناس، فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاءَ في جَنَّاته والخلودَ في نعيمه.
* * *
وقد بينا معنى"الفلاح" فيما مضى قبلُ بما يدل عليه (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كفّ عنهم، ثم نُسخت ب"براءة".
* ذكر من قال ذلك:
٣٠٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله:"وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين" قال: هذه أوّل آية نزلت في القتال
(١) انظر ما سلف ١: ٢٤٩-٢٥٠.
561
بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت"براءة"- ولم يذكر عبد الرحمن:"المدينة".
٣٠٩٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: ٣٦]، وهذه الناسخة، وقرأ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) حتى بلغ: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: ١-٥].
* * *
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
٣٠٩١ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صَدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله:"وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين"، قال: فكتب إليّ:"إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم".
٣٠٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار.
٣٠٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
562
٣٠٩٤ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم.
٣٠٩٥- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة:"إني وَجَدتُ آية في كتاب الله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد.
* * *
وقد دَللنا على معنى"النسخ"، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع (١).
* * *
فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا -: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله = وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده = يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال (٢) من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله:"قاتلوا في سبيل الله الذين
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٧١-٤٨٣، وهذا الجزء ٣: ٣٨٥.
(٢) في المطبوعة في الموضعين: "فيه قتال"، وهو خطأ.
563
يقاتلونكم" لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا.
فمعنى قوله:"ولا تعتدوا": لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس،"إنّ الله لا يُحب المعتدين" الذين يجاوزون حدوده، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم (١).
* * *
(١) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف ٢: ٣٠٧، وهذا الجزء ٣: ٣٧٦ ثم: ٥٧٣.
564
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مَقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله:"حيث ثقفتموهم".
* * *
ومعنى"الثِّقْفَة" بالأمر (١) الحِذق به والبصر، يقال:"إنه لثَقِفَ لَقفٌ"، إذا كان جيد الحَذر في القتال، بصيرا بمواقع القتل. وأما"التَّثْقيف" فمعنى غير هذا، وهو التقويم.
* * *
فمعنى:"واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم، وأبصرتم مقاتلهم.
* * *
(١) هذا مصدر لم أجده في كتب اللغة، وكأنه كما ضبطته بكسر الثاء على وزن"حكمة ونشدة". والذي ذكروه: "ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة".
564
وأما قوله:"وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" فإنه يُعنى بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم - وقد أخرجوكم من دياركم - من مساكنهم وديارهم كما أخرجوكم منها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والفتنة أشد من القتل"، والشرك بالله أشدُّ من القتل.
* * *
وقد بينت فيما مضى أن أصل"الفتنة" الابتلاءُ والاختبار (١)
* * *
فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجعَ عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكا عليه، مُحقًّا فيه. كما:
٣٠٩٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: ارتداد المؤمن إلى الوَثن أشدُّ عليه من القتل.
٣٠٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٣٠٩٨ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والفتنة أشدُّ من القتل" يقول: الشرك أشدُّ من القتل.
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٤٤.
565
٣٠٩٩- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
٣١٠٠- حدثت عن عمار بن الحسن، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والفتنة أشدُّ من القتل" يقول: الشرك أشدُّ من القتل.
٣١٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الشرك.
٣١٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الفتنة الشركُ.
٣١٠٣- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الشرك أشدُّ من القتل.
٣١٠٤- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله جل ذكره:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: فتنة الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) ﴾
قال أبو جعفر: والقَرَأةُ مختلفة في قراءة ذلك.
فقرأته عامَّة قراء المدينة ومكة:"ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" بمعنى: ولا تبتدئوا - أيها المؤمنون -
566
المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدأوكم به، فإن بدأوكم به هناك عند المسجد الحرَام في الحرم، فاقتلوهم، فإن الله جعل ثَواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة، القتلُ في الدنيا، والخزي الطويل في الآخرة، كما:
٣١٠٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه" كانوا لا يُقاتلون فيه حتى يُبدأوا بالقتال، ثم نسخ بعدُ ذلك فقال:"وَقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" = حتى لا يكون شركٌ ="ويكون الدين لله" = أن يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل نبيُّ الله، وإليها دعا.
٣١٠٦- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم"، فأمر الله نبيَّه ﷺ أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدأوا فيه بقتال، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: ٥] فأمر الله نبيَّه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحِلِّ والحرَم وعند البيت، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسولُ الله.
٣١٠٧- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" فكانوا لا يقاتلونهم فيه، ثم نسخ ذلك بعدُ فقال:"قاتلوهم حتى لا تكون فتنة".
* * *
وقال بعضُهم: هذه آيةٌ محكمة غيرُ منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٠٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن قاتلوكم" في الحرم فَاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين، ل
567
اتقاتل أحدا فيه، فمن عَدا عليك فقاتلك فقاتِله كما يقاتلك.
* * *
وقرأ ذلك عُظْم قراء الكوفيين:"ولا تَقْتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يَقْتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم" بمعنى: ولا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٠٩ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أبي حماد، عن حمزة الزيات قال: قلت للأعمش: أرأيت قراءتك:"ولا تَقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم كذلك جَزاءُ الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رَحيم"، إذا قَتلوهم كيف يقتلونهم؟ قال: إن العرب إذا قُتل منهم رجل قالوا:"قُتلنا"، وإذا ضُرب منهم رجل قالوا:"ضربنا" (١).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هاتين القراءتين بالصواب، قراءةُ من قرأ:"ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيَّه ﷺ وأصحابه في حالٍ = إذا قاتلهم المشركون = بالاستسلام لهم حتى يَقتلوا منهم قتيلا بعد ما أذن لَهُ ولهم بقتالهم، فتكونَ القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يَقتلوا منهم، أولى من القراءة بما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه قد كان تعالى ذكره أذِن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قَبل أن يقتلوا منهم قتيلا وبعد أن يقتلوا منهم قتيلا.
وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"،
(١) الخبر: ٣١٠٩- عبد الرحمن بن أبي حماد سكين الكوفي: ترجمه ابن الجزري في طبقات القراء ١: ٣٦٩-٣٧٠، وذكر أنه أخذ القراءة عن حمزة الزيات، "وهو أحد الذين خلفوه في القيام بالقراءة".
وأما شيخه -في هذا الإسناد-"أبو حماد": فلا ندري من هو؟ والظن أنه زيادة خطأ من الناسخين. وهكذا ظن أخي السيد محمود، أيضًا.
568
وقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: ٥] ونحو ذلك من الآيات.
* * *
وقد ذكرنا بعضَ قول من قال هي منسوخة، وسنذكر قول من حضرنا ذكرُه ممن لم يُذكر.
٣١١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" قال: نسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
٣١١١- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه" قال: حتى يبدأوكم، كان هذا قد حُرِّم فأحل الله ذلك له، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعدُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) ﴾
قال أبوجعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا،"فإن الله غفور" لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وأيامه التي مَضت ="رحيم" به في آخرته بفضله عليه، وإعطائه ما يعطى أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته. كما:
٣١١٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن انتهوا" = فإن تابوا ="فإن الله غفورٌ رَحيم".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة = يعني: حتى لا يكون شركٌ بالله، وحتى لا يُعبد دونه أحدٌ، وتضمحلَّ عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكونَ العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، كما قال قتادة فيما:
٣١١٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون شرك.
٣١١٤- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وقاتلوهم حَتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون شرك.
٣١١٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: الشرك"ويكون الدِّين لله".
٣١١٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٣١١٧ - حدثني موسى بن هارون، قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: أما الفتنة فالشرك.
٣١١٨ - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة"، يقول: قاتلوا حتى لا يكون شِرك.
570
٣١١٩ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وقاتلوهم حَتى لا تكونَ فتنة" أي شركٌ.
٣١٢٠- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون كفر، وقرأ (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [سورة الفتح: ١٦].
٣١٢١- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" يقول: شركٌ.
* * *
وأما"الدين"، الذي ذكره الله في هذا الموضع (١) فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه، من ذلك قول الأعشى:
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ، إِذْ كَرِهُوا الدِّي نَ، دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (٢)
يعني بقوله:"إذ كرهوا الدين"، إذ كرهوا الطاعة وأبوْها.
* * *
(١) انظر معنى"الدين" فيما سلف ١: ١٥٥، ٢٢١.
(٢) ديوانه: ١٢ وسيأتي في التفسير ٣: ١٤١ (بولاق)، قالها في مدح الأسود بن المنذر اللخمي، أخي النعمان بن المنذر لأمه، وأم الأسود من تيم الرباب. هذا قول أبي عبيدة، والصواب ما قال غيره: أنه قالها في مدح المنذر بن الأسود، وكان غزا الحليفين أسدا وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعما وأسرى وسبيا من رهط الأعشى بني سعد بن ضبيعة بن ثعلبة، والأعشى غائب. فلما قدم وجد الحي مباحا. فأتاه فأنشده، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم، ففعل.
والرباب (بكسر الراء) هم بنو عبد مناة بن أد: تيم وعدي وعوف وثور، اجتمعوا فتحالفوا مع بني عمهم ضبة بن أد، على بني عمهم تميم بن أد. فجاؤوا برب (تمر مطبوخ) فغمسوا فيه أيديهم، فسموا"الرباب"، ثم خرجت ضبة عنهم، واكتفت بعددها.
وقوله: "دان الرباب" أي أذلهم واستعبدهم وحملهم على الطاعة. وقوله: "دراكا"، متتابعا يدرك بعضه بعضا. والصيال: السطرة. صال على عدوه: وثب عليه وسطا. يقول تابع غزوهم والسطو حتى دانو بالطاعة.
571
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٢٢- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكونَ الدِّينُ لله" يقول: حتى لا يُعبد إلا الله، وذلك"لا إله إلا الله"، عليه قاتل النبيُّ ﷺ وإليه دعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّي أمرتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله".
٣١٢٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكون الدِّينُ لله" أن يقال:"لا إله إلا الله". ذُكِر لنا أن نبيَّ الله ﷺ كان يقول:"إنّ الله أمرَني أن أقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله". ثم ذكر مثل حديث الربيع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن انتهوا" فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودَخلوا في ملّتكم، وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين -وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غيرَ خالقهم.
* * *
572
فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال:"فَلا عُدوان إلا على الظالمين"؟ (١).
قيل: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة، لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، كما يقال:"إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك"، والثاني ليس بظلم، كما قال عمرو بن شأس الأسديّ:
جَزَيْنَا ذَوِى العُدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ قِصَاصًا، سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (٢)
وإنما كان ذلك نظير قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: ١٥] و (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: ٧٩] وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مَضى قبلُ (٣).
* * *
وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٢٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فلا عُدوان إلا على الظالمين" والظالم الذي أبى أن يقول:"لا إله إلا الله".
٣١٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع."فلا عُدوان إلا على الظالمين" قال: هم المشركون.
٣١٢٦ - حدثني المثنى، قال، ثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث، قال، سمعت عكرمة في هذه الآية:"فلا عدوان إلا على الظالمين"،
(١) انظر معنى"العدوان" فيما سلف ٢: ٣٠٧، وهذا الجزء ٣: ٣٧٦، ٥٦٤.
(٢) لم أجد البيت، وشعر عمرو بن شأس على كثرته وجودته، قد ضاع أكثره.
(٣) انظر ما سلف ١: ٣٠١-٣٠٦.
573
قال: هُم من أبى أن يقول:"لا إله إلا الله".
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"فلا عدوان إلا على الظالمين" فلا تقاتل إلا من قاتل.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٢٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
٣١٢٨- حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣١٢٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" فإنّ الله لا يحب العُدوان على الظالمين ولا على غيرهم، ولكن يقول: اعتدُوا عليهم بمثل ما اعتدوْا عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله:"فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين" لا يجوز أن يقول:"فإن انتهوا" إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم، فأضمر كما قال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة: ١٩٦] يريد: فعليه ما استيسر من الهدي، وكما يقول:"إلى مَن تقصد أقصد" يعني: إليه.
وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله: فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيم لمن انتهى، ولا عُدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون.
* * *
574
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"الشهر الحرام بالشهر الحرام" ذا القعدة، وهو الشهر الذي كان رسولُ الله ﷺ اعتمر فيه عُمرة الحديبية، فصدّه مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة، سنة ست من هجرته، وصالح رسول الله ﷺ المشركين في تلك السنة، على أن يعود من العام المقبل، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا، فلما كان العامُ المقبل، وذلك سنة سبع من هجرته، خرج معتمرا وأصحابه في ذي القَعدة - وهو الشهر الذي كان المشركون صدُّوه عن البيت فيه في سنة ست- وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقضى حاجته منها، وأتم عمرته، وأقام بها ثلاثا، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة، فقال الله جل ثناؤه لنبيه ﷺ وللمسلمين مَعه"الشهرُ الحرام" = يعني ذا القَعدة، الذي أوصَلكم الله فيه إلى حَرمَه وبيته، على كراهة مشركي قُريش ذلك، حتى قضيتم منه وَطَركم ="بالشهر الحرام"، الذي صدكم مشركو قريش العامَ الماضيَ قَبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم، فلم تدخلوه، ولم تصلوا إلى بيت الله، فأقصَّكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصدّ والمنْع من الوصول إلى البيت. كما:
٣١٣٠ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف - يعني: ابن خالد السَّمْتيّ - قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"والحرمات قصاص" قال: هم المشركون، حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم
575
في ذي القَعدة، فَرَجَعه الله في ذي القَعدة فأدخله البيتَ الحرام، فاقتص له منهم (١).
٣١٣١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرماتُ قِصَاص" قال: فخرت قريش بردِّها رسولَ الله ﷺ يوم الحُديبية محرِما في ذي القَعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القَعدة، فقضى عُمرته، وأقصَّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية.
٣١٣٢- حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣١٣٣ - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قِصَاص" أقبل نبيّ الله ﷺ وأصحابه فاعتمروا في ذي القَعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون، فصالحهم نبيُّ الله ﷺ على أن يرجع من عامه ذلك، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنحروا الهدْي بالحديبية، وحلَّقوا وَقصَّروا. حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيُّ الله وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، فأقاموا بها ثلاث ليال، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فأقصَّه الله منهم، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القَعدة، فقال الله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص".
(١) الخبر: ٣١٣٠- محمد بن عبد الله بن بزيع -بفتح الباء الموحدة وكسر الزاي- شيخ الطبري: ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره، وروى عنه مسلم في صحيحه. وقد مضى مثل هذا الإسناد، ولكن حرف فيه اسم جده إلى"زريع"، وذكرنا أنه غير معروف، واحتمال أن يكون صوابه"بن بزيغ" في: ٢٤٥١- فقد تبين الصواب هنا.
يوسف بن خالد السمتي: ضعيف جدا كذاب، كما ذكرنا في ذاك الإسناد، ووقع في المطبوعة هنا"السهمي"، بدل"السمتي". وهو خطأ.
576
٣١٣٤ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن عثمان، عن مقسم في قوله:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص" قالا كان هذا في سَفر الحديبية، صدَّ المشركون النبي ﷺ وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام، فقاضوا المشركين يومئذ قضيّة: (١) أنّ لكم أن تعتمروا في العام المقبل - في هذا الشهر الذي صدُّوهم فيه، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرًا حرامًا يعتمرون فيه، مكانَ شهرهم الذي صُدُّوا، فلذلك قال:"والحُرمات قصَاص".
٣١٣٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاص" قال: لما اعتمر رسول الله ﷺ عُمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ من مُهاجَره، صدَّه المشركون وأبوا أن يتركوه، ثم إنهم صالحوه في صُلحهم على أن يُخْلوا له مكة من عام قابل ثلاثةَ أيام، يخرجون ويتركونه فيها، فأتاهم رسول الله ﷺ بعد فتح خَيْبر من السنة السابعة، فخَلَّوْا له مكة ثلاثة أيام، فنكح في عُمرته تلك مَيمونة بنت الحارث الهلالية.
٣١٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الشهرُ الحرَام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص"، أحصَرُوا النبي ﷺ في ذي القَعدة عن البيت الحرام (٢) فأدخله الله البيت الحرامَ العامَ المقبلَ، واقتصَّ له منهم، فقال:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصاص".
٣١٣٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
(١) قاضي الرجل يقاضيه قضاء وقضية. حاكمه في مخاصمة، وانتهى معه إلى قضاء فصل وحكم يتراضيانه. وفي صدر صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد" أي صالح. وبذلك سميت عمرة الحديبية هذه"عمرة القضية"، و"عمرة الصلح.
(٢) أحصره المرض وغيره: منعه وحبسه.
577
عن أبيه، عن الربيع، قال: أقبل نبي الله ﷺ وأصحابه فأحرَموا بالعمرة في ذي القَعدة ومعهم الهدْي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون، فصالحهم رسول الله ﷺ أن يرجع ذلك العامَ حتى يرجع العامَ المقبل، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنحروا الهديَ بالحديبية وحلَّقوا وقصَّروا. حتى إذا كانوا من العام المقبل، أقبل النبي ﷺ وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فقاصَّ الله له منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القعدة. قال الله جل ثناؤه:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص".
٣١٣٨- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والحُرمات قصاص" فهم المشركون، كانوا حبسوا محمدا ﷺ في ذي القعدة عن البيت، ففخروا عليه بذلك، فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله الله البيت الحرام واقتصَّ له منهم.
٣١٣٩ - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام" حتى فرغ من الآية، قال: هذا كله قد نُسخ، أمرَه أن يجاهد المشركين. وقرأ: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: ٣٦] وقرأ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [سورة التوبة: ١٢٣] العرب، فلما فرغ منهم، قال الله جل ثناؤه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) حتى بلغ قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: ٢٩] قال: وهم الروم. قال: فوَجَّه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٣١٤٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام
578
والحرماتُ قصاص" قال: أمركم الله بالقصاص، [ويأخذ] منكم العدوان (١).
٣١٤١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء، وسألته عن قوله:"الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصاص" قال: نزلت في الحديبية، مُنعوا في الشهر الحرام، فنزلت:"الشهر الحرام بالشهر الحرام": عمرة في شهر حرام، بعمرة في شهر حرام.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القَعدة"الشهرَ الحرام"، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرِّم فيه القتال والقتل، وتضع فيه السلاح، ولا يقتل فيه أحدٌ أحدًا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه. وإنما كانوا سموه"ذا القَعدة" لقعودهم فيه عن المغازي والحروب، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تُسمِّيه به.
* * *
وأما"الحرمات" فإنها جمع"حُرْمة"،"كالظلمات" جمع"ظلمة"،"والحجرات" جمع"حُجرة". وإنما قال جل ثناؤه:"والحرمات قصاص" فجمع، لأنه أراد: الشهرَ الحرام، والبلد الحرام وحُرمة الإحرام.
* * *
فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه: دخولكم الحرَم، بإحرامكم هذا، في شهركم هذا الحرام، قصاصُ مما مُنعتم من مثله عامَكم الماضي، وذلك هو"الحرمات" التي جعلها الله قصَاصًا.
* * *
وقد بينا أن"القصاص" هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البَدن، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل (٢).
* * *
(١) ما بين القوسين هكذا في الأصل. ولم أجد الخبر في مكان. وهو خطأ لا شك فيه، أو بين الكلامين خرم لم أتبينه. والمعنى على كل حال: أمركم الله بالقصاص، وكره منكم العدوان، أي أمرهم أن يقتصوا ولا يعتدوا. هذا ما أرجحه إن شاء الله.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ٣٥٧-٣٦٦.
579
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما نزل فيه قوله:"فمن اعتدَى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".
فقال بعضهم بما:
٣١٤٢- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل، وليس لهم سلطانٌ يقهرُ المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين، مَنْ يجازي منهم أن يجازِيَ بمثل ما أُتي إليه أو يصبر أو يعفوَ فَهو. أمثل فلما هاجر رسولُ الله ﷺ إلى المدينة، وأعزّ الله سلطانه أمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سُلطانهم، وأن لا يعدوَ بعضهم على بعض كأهل الجاهلية.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين، فقاتلوهم كما قاتلوكم. وقالوا: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ بالمدينة، وبعد عُمرة القضيَّة.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٤٣ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه التأويلين بما دلّ عليه ظاهر الآية، الذي حُكي عن
580
مجاهد، لأن الآيات قبلها إنما هي أمرٌ من الله للمؤمنين بجهاد عدوهم على صفة، وذلك قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" والآيات بعدها، وقوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" إنما هو في سياق الآيات التي فيها الأمرُ بالقتال والجهاد، واللهُ جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة.
فمعلوم بذلك أن قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" مدنيّ لا مكيّ، إذ كان فرضُ قتال المشركين لم يكن وَجَب على المؤمنين بمكة، وأنّ قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" نظيرُ قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" وأن معناه: فمن اعتدى عليكم في الحَرم فقاتَلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم، لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا، فمن استحلّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي، فاستحلوا منه مثله فيه.
وهذه الآية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرَم ابتداءً في الحرم وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة: ٣٦]
* * *
... (١) على نحو ما ذكرنا، من أنه بمعنى: المجازاة وإتباع لفظٍ لفظًا، وإن
(١) وضعت هذه النقط، وفصلت بين قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" وقوله: "على نحو ما ذكرنا" لوجود خرم لا شك فيه. فإنه سيقول بعد أسطر: "والآخر: أن يكون بمعنى العدو". فهو بصدد تفسير قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، من جهة اللغة. ولا صلة بين كلامه في الآية أهي منسوخة أم غير منسوخة. وقوله: "والآخر" دليل على أنه يذكر وجهين من تفسير"اعتدى" أهي من"العدوان"، أم من"العدو". وكأن كلام الطبري في موضع هذا الخرم كان:
[وأما قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ). ففي"الاعتداء" وجهان من التأويل:
أحدهما: أن يكون"الاعتداء" من"العُدْوَان"، وَهوَ مجاوزة الحدّ ظُلْمًا وَبغيًا. ويكون معنى الآية: فمن جاوز حدّه ظُلْمًا وَبغيًا، فقاتلكم في الشهر الحرام فكافِئُوه بمثل ما فعل بكم، على نحو ما ذكرنا من أنه..]
هذا ما استظهرته من تفسير الطبري فيما سلف ٢: ٣٠٧، وهذا الجزء ٣: ٣٧٥، ٣٧٦، ٥٦٤، ٥٧٣ ثم يبقى خرم قبل ذلك في كلامه عن الآية، منسوخة هي أم غير منسوخة.
581
اختلف معنياهما، كما قال: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) [سورة آل عمران: ٥٤] وقد قال: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: ٧٩] وما أشبه ذلك مما أتبع لفظٌ لفظًا واختلف المعنيان (١).
* * *
والآخر: أن يكون بمعنى"العدو" الذي هو شدٌّ ووثوب. من قول القائل:"عدا الأسد على فَريسته". فيكون معنى الكلام: فمن عَدا عليكم - أي فمن شد عليكم وَوثب - بظلم، فاعدوا عليه - أي فشُدُّوا عليه وثبُوا نحوَه - قصاصًا لما فعل عليكم لا ظلمًا. ثم تُدخل"التاء""في عدا"، فتقال:"افتعل" مكان"فعل"، كما يقال:"اقترب هذا الأمر" بمعنى"قرب"، و"اجتلب كذلك" بمعنى"جَلب" وما أشبه ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: واتقوا الله أيها المؤمنون في حُرُماته وحدوده أن تعتَدُوا فيها، فتتجاوزوا فيها ما بيَّنه وحدَّه لكم، واعلموا أن الله يُحب المتقين، الذين يتقونه بأداء فَرائضه وتجنب محارمه.
* * *
(١) انظر ما سلف ٢: ٣٠٧، وهذا الجزء ٣: ٣: ٣٧٥، ٣٧٦، ٥٦٤، ٥٧٣.
582
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، ومن عَنى بقوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
فقال بعضهم: عنى بذلك:"وأنفقوا في سبيل الله" - و"سبيل الله" (١) طريقه الذي أمر أن يُسلك فيه إلى عدوِّه من المشركين لجهادهم وَحرْبهم ="ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" - يقول: ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يُعوِّضكم منها أجرًا ويرزقكم عاجلا (٢).
* ذكر من قال ذلك:
٣١٤٤ - حدثني أبو السائب سلم بن جُنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سفيان، عن حذيفة:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: يعني في ترك النفقة.
٣١٤٥- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة = وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الأعمش = وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم = جميعا، عن شقيق، عن حذيفة، قال: هو ترك النفقة في سبيل الله.
(١) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف ٢: ٤٩٧، وهذا الجزء ٣: ٥٦٤.
(٢) هكذا في المطبوعة: "أجرًا" وأخشى أن تكون محرفة عن"آجلا"، ليكون السياق مطردا على وجهه، وذلك أحب إلي.
583
٣١٤٦- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: تنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ - أو: سَهمٌ - شعبة الذي يشك في ذلك (١).
٣١٤٧- حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن منصور، عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي، عن ابن عباس قال: إن لم يكن لَكَ إلا سَهم أو مشقصٌ أنفقته.
٣١٤٨- حدثني ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: في النفقة.
٣١٤٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله.
٣١٥٠ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عكرمة، قال: نزلت في النفقات في سبيل الله، يعني قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
٣١٥١- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب، قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة" قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزوَّد الرجل، فكان أفضل زادًا من الآخر. أنفقَ البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء، أحبَّ أن
(١) المشقص: نصل السهم، إذا كان طويلا غير عريض.
584
يواسيَ صاحبه، فأنزل الله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
٣١٥٢- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: لا يقولنَّ أحدكم إنّي لا أجد شيئًا، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهَّز به في سبيل الله.
٣١٥٣ - حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر، قال: سمعت داود - يعني: ابنَ أبي هند - عن عامر: أن الأنصارَ كان احتبس عليهم بعضُ الرزق، وكانوا قد أنفقوا نَفقاتٍ، قال: فَساءَ ظنُّهم (١) وأمسكوا. قال: فأنزل الله:"وأنفقوا في سَبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم.
٣١٥٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: تمنعكم نَفقةً في حقٍّ خيفةُ العَيْلة (٢).
٣١٥٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: وكان قتادة يحدِّث أن الحسن حَدَّثه -: أنهم كانوا يُسافرون ويَغزُون ولا ينفقون من أموالهم = أو قال: ولا ينفقون في ذلك = فأمرهم الله أن يُنفقوا في مَغازيهم في سبيل الله.
(١) قوله: "ساء ظنهم"، أي خامرتهم الظنون السيئة القبيحة، وشكوا. والعرب تستعمل"ساء ظنه" في مواضع كثيرة للدلالة على معاني مختلفة، وقد بينت ذلك في مجلة الرسالة، العدد: ٩١٠ (٢٠ صفر سنة ١٣٧٠، ديسمبر ١٩٥٠) وفي طبقات فحول الشعراء: ٥١٠، تعليق: ١.
(٢) عال الرجل يعيل عيلا وعيلة: افتقر. وفي كتاب الله: (وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) العائل: الفقير المحتاج.
585
٣١٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يقول: لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله.
٣١٥٧ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأنفقوا في سبيل الله" = أنفق في سبيل الله ولو عقالا ="ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" - تقول: ليس عندي شيء (١).
٣١٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة في قوله:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: لما أمر الله بالنفقة، فكانوا - أو بَعضُهم - يقولون: ننفق فيذهبُ مالنا ولا يبقى لما شيء! قال: فقال: أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: أنفقوا وأنا أرزقكم.
٣١٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: نزلت في النفقة.
٣١٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن همام الأهوازي، قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في"التهلكة" قال: أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله، وأخبرهم أن تَرك النفقة في سبيل الله التهلكة.
٣١٦١ - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: يقول: أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال: وقال لي عبد الله بن كثير: نزلت في النفقة في سبيل الله.
٣١٦٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي
(١) العقال: الحبل الذي يعقل به البعير، أي يشد به وظيفه مع ذراعه، حتى لا يقدر على الحركة.
586
صالح، عن ابن عباس، قال: لا يقولنّ الرجل لا أجد شيئا! قد هَلكتُ! فليتجهَّز ولو بمشقَص.
٣١٦٣- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثنى عمي، قال، حدثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يقول: أنفقوا مَا كان من قليل أو كثير. ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا.
٣١٦٤- حدثني المثنى، قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال:"التهلكة": أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله.
٣١٦٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، فتدعوا النفقة في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون ممن وجَّهوا تأويل ذَلك إلى أنه معنيَّة به النفقة: معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٦٦- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: إذا لم يكن عندك ما تنفق، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة: فتلقي بيدَيك إلى التهلكة.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة، فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رَحمته واعملوا الخيرات.
587
* ذكر من قال ذلك:
٣١٦٧ - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: هو الرجل يُصيبُ الذنوبَ فيُلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي.
٣١٦٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجل: أحْمل على المشركين وَحدي فيقتلوني، أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟ فقال: لا إنما التهلكة في النفقة. بعثَ الله رسوله، فقال: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ) [سورة النساء: ٨٤].
٣١٦٩- حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع، قالا حدثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب في قول الله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: هو الرجل يُذنب الذنبَ فيقول: لا يغفر الله لهُ.
٣١٧٠- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء = وسأله رجل فقال: يا أبا عُمارة، أرأيتَ قول الله:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حَتى يُقتل؟ = قال: لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي، ثم يلقي بيده ولا يتوب.
٣١٧١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رَجل فقال: الرجلُ يحمل على كتيبةٍ وحده فيقاتل، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال: لا ولكن التهلكة أن يُذنب الذنبَ فيلقي بيده، فيقول: لا تقبل لي توبة.
٣١٧٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة، الرجل يَلقى ألفًا من العدو فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، أيكون ممن قال:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"؟
588
فقال: لا ليقاتل حتى يُقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ).
٣١٧٣ - حدثنا مجاهد بن موسى، قال، أخبرنا يزيد، قال، أخبرنا هشام = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام = عن محمد قال: وسألت عبيدة عن قول الله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الآية. فقال عبيدة: كان الرجل يذنب الذنبَ - قال: حسبْته قال: العظيم - فيلقي بيده فيستهلك = زاد يعقوب في حديثه: فنُهوا عن ذلك، فقيل:"أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
٣١٧٤- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: هو الرجل يذنب الذنبَ فيستسلم، ويلقي بيده إلى التهلكة، ويقول: لا توبة له! يعني قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
٣١٧٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، أخبرنا أيوب، عن محمد، عن عبيدة في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده.
٣١٧٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: القُنوط.
٣١٧٧- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن يونس وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم، يقول: لا توبة لي! فيلقي بيده.
٣١٧٨- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، قال، حدثني أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: هي في الرجل يصيبُ الذنبَ العظيم فيلقي بيده، ويَرى أنه قد هلك.
* * *
589
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تتركوا الجهاد في سبيله.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٧٩ - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني حَيْوَة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: غَزونا المدينة، يريد بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفَّين لم أر صَفين قط أعرضَ ولا أطولَ منهما، والروم مُلصقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: مَهْ! لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلونَ هذه الآية هكذا، أنْ حَمل رجلٌ يُقاتل يلتمس الشهادة، أو يُبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار! إنا لما نَصرَ الله نبيه وأظهرَ الإسلام، قُلنا بَيننا معشرَ الأنصار خَفيًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبرَ من السماء:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها، وندعُ الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية (١).
٣١٨٠- حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، قال، أخبرني حيوة وابن لهيعة، قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال، حدثني أسلم أبو عمران مولى تُجِيب، قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله
(١) الحديث: ٣١٧٩- حيوة: هو ابن شريح. أسلم أبو عمران: نسبه التهذيب بأنه"أسلم بن يزيد" وهو تابعي ثقة، كان وجيها بمصر. وهو مولى تجيب. وسيأتي تخريج الحديث، في الرواية التالية.
590
عليه وسلم، وعلى أهل الشام فَضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صفٌّ عظيم من الروم، قال: وصففنا صفًّا عظيمًا من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صَفّ الروم حتى دخلَ فيهم، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار! إنا لما أعزّذ الله دينه وكثَّر ناصريه، قلنا فيما بيننا بعضُنا لبعض سرًّا من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضَاع منها! فأنزل الله في كتابه يرُدُّ علينا ما هممنا به، فقال:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيًا في سبيل الله حتى قبضَه الله (١).
* * *
(١) الحديث: ٣١٨٠- أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ: ثقة معروف، من شيوخ أحمد والبخاري، وكان إماما في الحديث، مشهورا في القراءات، أقرأ القرآن بالبصرة ٣٦ سنة، ثم بمكة ٣٥ سنة. وهو مولى آل عمر بن الخطاب. ووهم ابن حزم فيه وهمًا عجيبًا، فأخطأ خطأ طريفا: جعله عربيا حميريا، ثم من"بني سبيع"! ثم نسبه إلى حي زعم أن اسمه"مقر"، بضم الميم وسكون القاف! فقال في جمهرة الأنساب، ص: ٤٠٩"ومن ولد سبيع المذكور: مقر، حي ضخم، إليه ينسب عبد الله بن يزيد المقري (يعني بدون همزة)، ولم يكن مقرئا للقراءات، وإنما كان محدثا"!! وأخطأ ابن حزم وشبه له، فأتى بقبيلة لم يذكرها أحد قط - فيما نعلم. وإنما انتقل نظره إلى شيء آخر بعيد، إلى"عبد الرحمن بن عبد القاري" بتشديد الياء دون همزة، من ولد"القارة بن الديش". وهو تابعي، ولم يك مقرئا. فإلى هذا ذهب وهمه. ثم لا ندري كيف وضع القبيل الذي اخترعه، في"بني سبيع"!!
ووقع في المطبوعة هنا"ثنا أبو عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد". وهو خطأ في زيادة"عن". و"أبو عبد الرحمن" كنية"عبد الله بن يزيد"، ليس راويا آخر.
والحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ٥٩٩، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة.
ورواه أبو داود السجستاني: ٢٥١٢، من طريق ابن وهب، عن حيوة وابن لهيعة.
ورواه الترمذي ٤: ٧٢-٧٣، من طريق أبي عاصم النبيل، عن حيوة. وقال: "حديث حسن غريب صحيح".
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٧٥، من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة، وحده. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر: ٢٦٩-٢٧٠، بإسنادين: رواه عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد. ورواه عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة بن شريح - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، به.
وقوله في الرواية الماضية"غزونا المدينة، يريد القسطنطينية" - هكذا ثبت في المطبوعة هنا. ولفظ أبي داود السجستاني: "غزونا من المدينة، نريد القسطنطينية". ولعل ما هنا أجود وأصح، فإن أسلم أبا عمران مصري. والظاهر من السياق أن الجيش كان من مصر والشام.
وقوله في تلك الرواية: "وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد" يدل على أن هذه الغزوة كانت في سنة ٤٦ أو قبلها، لأن عبد الرحمن مات تلك السنة. وهذه الغزوة غير الغزوة المشهورة التي مات فيها أبو أيوب الأنصاري. وقد غزاها يزيد بن معاوية بعد ذلك سنة ٤٩، ومعه جماعات من سادات الصحابة. ثم غزاها يزيد سنة ٥٢، وهي التي مات فيها أبو أيوب رضي الله عنه، وأوصى إلى يزيد أن يحملوه إذا مات، ويدخلوه أرض العدو، ويدفنوه تحت أقدامهم حيث يلقون العدو. ففعل يزيد ما أوصى به أبو أيوب. وقبره هناك إلى الآن معروف. انظر طبقات ابن سعد ٣/٢/٤٩-٥٠، وتاريخ الطبري ٦: ١٢٨، ١٣٠، وتاريخ ابن كثير ٨: ٣٠-٣١، ٣٢، ٥٨-٥٩. وتاريخ الإسلام للذهبي ٢: ٢٣١، ٣٢٧-٣٢٨.
وقوله في هذه الرواية الثانية"وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد" - هذا هو الصواب الثابت في رواية الطيالسي، وابن عبد الحكم، والحاكم. ووقع في رواية الترمذي"وعلى الجماعة فضالة بن عبيد". وهو وهم، لعله من الترمذي أو من شيخه عبد بن حميد.
والحديث ذكره ابن كثير ١: ٤٣٧-٤٣٨، من رواية الليث بن سعد، ولم ينسبها. ثم خرجه من أبي داود، والترمذي، والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، وأبي يعلى، وابن حبان، والحاكم. ثم ذكر رواية منه، على أنها لفظ أبي داود - ولا توافق لفظه، وفيها تحريف كثير.
وذكره السيوطي ١: ٢٠٧-٢٠٨، وزاد نسبته للطبراني، والبيهقي في سننه.
591
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنْ يُقال: إنّ الله جل ثناؤه أمرَ بالإنفاق في سبيله بقوله:"وأنفقوا في سبيل الله" - وسبيلُه: طريقه الذي شَرَعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعتُه لكم، بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحربَ على الكفر بي، ونَهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
* * *
وذلك مثلٌ، والعرب تقول للمستسلم للأمر:"أعطَى فلان بيديه"، وكذلك
592
يقال للممكن من نفسه مما أريد به:"أعطى بيديه".
* * *
فمعنى قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ولا تستسلموا للهلكة، فتُعطوها أزمَّتكم فتهلكوا.
والتارك النفقةَ في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه، مستسلم للهلكة بتركه أداءَ فرضِ الله عليه في ماله. وذلك أن الله جل ثناؤه جَعل أحد سِهام الصدقات المفروضات الثمانية"في سبيله"، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) إلى قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) [سورة التوبة: ٦٠] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه، كان للهلكة مستسلما، وبيديه للتهلكة ملقيا.
وكذلك الآئسُ من رحمة الله لذنب سلف منه، مُلق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [سورة يوسف: ٨٧].
وكذلك التارك غزوَ المشركين وجهادَهم، في حال وجوب ذلك عليه، في حال حاجة المسلمين إليه، مُضيعٌ فرضا، مُلقٍ بيده إلى التهلكة.
فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك -عذابي. كما:
٣١٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن
593
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: التهلكة عذابُ الله.
* * *
قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله، منَ العقوبة في المعاد.
* * *
فإنْ قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله:"ولا تلقوا بأيديكم"، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب:"ألقيت إلى فلان درهما"، دون"ألقيتُ إلى فلان بدرهم"؟
قيل: قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل"الباء" في قوله:"جذبتُ بالثوب، وجذبت الثوب""وتعلَّقتُ به وتَعلَّقته"، و (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون: ٢٠] وإنما هو: تُنبت الدهنَ (١).
* * *
وقال آخرون:"الباء" في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم" أصلٌ للكنية (٢) لأن كل فعل وَاقع كُنِي عنه فهو مضطرٌّ إليها (٣) نحو قولك في رجل"كلَّمته" فأردت الكناية عن فعله، فإذا أردت ذلك قلت:"فعلت به" قالوا: فلما كان"الباء" هي الأصل، جاز إدخال"الباء" وإخراجها في كل"فعلٍ" سبيلُه سبيلُ كُنْيته (٤).
* * *
وأما"التهلكة" فإنها"التفعُلة" من"الهلاك".
* * *
(١) انظر الإنصاف لابن الأنباري: ١٢٨.
(٢) في المطبوعة: "أصل للكلمة"، وهو تحريف، وانظر التعليقات الآتية.
(٣) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، ضريع الفعل اللازم. ويقال له أيضًا "الفعل المجاوز" (انظر بغية الوعاة ٢: ٨١).
(٤) في المطبوعة: "سبيل كلمته"، وهو تحريف كأخيه السالف. وأراد الطبري بالكناية عن الفعل: أن تستبدل به لفظ"فعل". و"الفعل": كناية عن كل عمل. تقول: "ضربت الرجل" ثم تريد الكناية عن الفعل فتقول: "فعلت به"، وهذا الذي تقوله هو"الكنية".
594
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وأحسنوا" أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتجنُّب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيَّ، ومن الإنفاق في سبيلي، وَعَوْدِ القوي منكم على الضعيف ذي الخَلَّة (١) فإنّي أحبّ المحسنين في ذلك (٢) كما:
٣١٨٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب، قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله:"وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين" قال: أداء الفرائض.
* * *
وقال بعضهم: معناه: أحسنوا الظن بالله.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:"وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين": قال: أحسنوا الظن بالله، يبرَّكم.
* * *
وقال آخرون: أحسنوا بالعَوْد على المحتاج.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٨٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين" عودوا على من ليس في يده شيء.
* * *
(١) ذو الخلة: المحتاج والفقير، والمختل الحال بفساد أو وهن.
(٢) انظر ما سلف في معنى"الإحسان" ٢: ٢٩٢.
595

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك أتِمّوا الحج بمناسكه وسُننِه، وأتموا العُمْرة بحدودها وسُننِها.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٨٥ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاري، قال. ثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:" وأتِمّوا الحجّ والعمرة لله" قال: هو في قراءة عبد الله:"وَأَقِيمُوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إِلى الْبَيْتِ" قال: لا تجاوزُوا بالعمرة البيتَ= قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
٣١٨٦ - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ:" وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت".
٣١٨٧ - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ:" وأقِيموا الحجَّ والعمرة إلى البيت".
٣١٨٨- حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" وأتِمّوا الحج والعمرةَ لله"، يقول: من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يُتمَّها تَمامُ الحجِّّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصفَّا والمروة، فقد حَلّ.
7
٣١٨٩- حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى= وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل= جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله" قال: ما أمِروا فيهما.
٣١٩٠- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وأتموا الحَج والعمرة لله" قال: قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال:" الحجُّ": مناسك الحج، و" العمرة": لا يجاوز بها البيت.
٣١٩١- حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" وأتِموا الحجّ والعمرة لله" قال: قال تَقْضى مناسكَ الحجَّ عرفة والمزدلفة وَمواطنَها، والعمرةُ للبيت أنْ يطوف بالبيت وبين الصفَّا والمروة ثم يَحلُّ.
* * *
وقال آخرون: تمامُهما أن تُحرِم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلِك. (١)
*ذكر من قال ذلك:
٣١٩٣- حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي أنه قال: جاء رَجُل إلى عليّ فقال له في هذه الآية:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله" أن تحرم من دُوَيْرة أهلِك.
٣١٩٤- حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه، فقال: أرأيتَ قَول الله عز وجل:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله"؟ قال: أن تحرم من دُوَيْرة أهلك.
٣١٩٥- حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: من تَمام العُمرة أن تحرم من دُوَيرة أهلك.
(١) الدويرة تصغير"الدار": وهو كل موضع حل به قوم، فهو دارهم. هذا، وقد سقط من الترقيم هنا رقم: ٣١٩٢ن فلم أستطع أن أغير الترقيم كله، فتركته على حاله.
8
٣١٩٦- حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن طاوس، قال: تمامُهما إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك. (١)
٣١٩٧- حدثني المثنى، قال: ثنا سفيان، عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاوس:" وأتموا الحج والعمرة لله" قال: تفردهما مؤقتتين من أهلك، فذلك تمامهما. (٢)
* * *
وقال آخرون: تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، (٣) وتمامُ الحج أن يُؤتى بمناسكه كلِّها، حتى لا يلزم عَامِلَه دمٌ بسبب قِران ولا مُتعة.
* ذكر من قال ذلك:
٣١٩٨ - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرة لله" قال: وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج.
ومن كان في أشهر الحج، ثم أقام حتى يَحُجّ، (٤) فهي مُتعة. عليه فيها الهْدي إن وُجد، وإلا صَام ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رَجع.
٣١٩٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" قال: ما كان في غير أشهر الحج فهي عمرة تامة، وما كان في أشهر الحج فهي مُتعة وعليه الهدي.
٣٢٠٠ - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إنّ العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له:
(١) ائتنف الشيء ائتنافا: أخذه من أوله وابتدأه. ويعني: أفرادهما منذ ابتداء دخوله فيهما. وانظر الأثر الذي يليه والتعليق عليه.
(٢) هكذا جاء في هذا الأثر"موقتتين" من التوقيت، وهو التحديد، والميقات: وهو الوقت المضروب للفعل، أو الموضع. يقال: هذا ميقات أهل الشام أو مصر، للموضع الذي يحرمون منه. ويعني أن ميقاتها من عند دويرة أهله.
(٣) هكذا في الأصل: "أن تعمل" ولعل الصواب"أن تعتمر".
(٤) في المطبوعة: "وما كان في أشهر الحج"، والصواب ما أثبت.
9
العمرة في المحرَّم؟ قال: كانوا يَرَونها تامَّة.
* * *
وقال آخرون: إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرَهما.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٠١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني رجل، عن سفيان، قال: هو يعني تمامهما أن تخرُج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهلّ من الميقات. ليس أن تخرُج لتجارةٍ ولا لحاجةً، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت. وذلك يجزئ، ولكن التمَّام أن تخرُج له لا تخرُج لغيره.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجَّ والعمرةَ لله إذا دخلتم فيهما.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٠٢ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قولُ الله تعالى:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله"؟ قال: ليس من الخلقِ أحدٌ ينبغي له إذا دَخَل في أمر إلا أن يتمَّه، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يومًا أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يومًا لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار.
* * *
* وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا.
٣٢٠٣ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرَا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوَّع،" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله". وقال أبو بردة: هي واجبة" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله".
٣٢٠٤- حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن
10
عون، عن الشعبي أنه كان يقرأ:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةُ لله".
* * *
وقد روي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا. وذلك ما:-
٣٢٠٥ - حدثني به المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبي، قال: العمرةُ واجبةٌ.
* * *
فقراءة من قال: العمرة واجبة- نصبُها، بمعنى أقيموا فرضَ الحجّ والعمرةَ، كما:-
٣٢٠٦ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت مسروقًا يقول: أُمرتم في كتاب الله بأربع: بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والعمرة. قال: ثم تلا هذه الآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [سورة آل عمران: ٩٧] "وأتموا الحجَّ والعُمْرةَ لله إلى البيت".
٣٢٠٧ - حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يروي عن الحسن، عن مسروق، قال: أمرنا بإقامة أربعةٍ: الصلاةِ والزكاةِ، والعمرةِ والحجّ، فنزلت العُمْرة من الحج منزلةَ الزكاة من الصلاة.
٣٢٠٨ - حدثنا ابن بشار، قال: أنبأنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن حريج، قال: قال علي بن حسين وسعيد بن جبير، وسُئلا أواجبةٌ. العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله".
٣٢٠٩ - حدثنا سَوَّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضَةٌ هي أم تطوعٌ؟ قال: فريضةٌ. قال: فإن الشعبي يقول: هي تطوع. قال: كَذَب
11
الشعبي، وقرأ:" وأتموا الحجَّ والعمرةَ لله" (١)
٣٢١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله:" وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله"، قال: هما وَاجبان: الحج، والعمرة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله" أنهما فرضَان واجبان أمرَ الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، (٢) كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأوجب العمرة وجوبَ الحج. وهم عدد كثير من الصحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الخالفين، (٣) كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم.
وقالوا: معنى قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" وأقيموا الحج والعمرة.
* ذكر بعض من قال ذلك:
٣٢١١ - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" يقول: أقيموا الحج والعمرة.
٣٢١٢ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، عن أبيه، عن علي:" وأقيموا الحج والعمرة للبيت" ثم هي واجبةٌ مثل الحج. (٤)
(١) قوله: "كذب الشعبي"، أي أخطأ. وهو كثير جدا في الأخبار والأحاديث وأشعار العرب، بمعنى الخطأ، لا بمعنى الكذب الذي هو فقيض الصدق. ويعني: أخطأ الشعبي في اجتهاده.
(٢) في المطبوعة: "في أنهما" بزيادة"في" وهو خطأ ثم فيها"قرضان واجبان من الله"، والصواب ما أثبت.
(٣) يقال: خلف قوم بعد قوم، وسلطان بعد سلطان، يخلفون خلفا. فهم خالفون. تقول: أنا خالفه وخالفته: أي جئت بعده.
(٤) الخبر: ٣٢١٢- أحمد بن حازم بن محمد بن يونس بن قيس بن أبي غرزة الغفاري، شيخ الطبري: مضت الرواية عنه في: ٤٤، ١٦٤. ترجمه ابن أبي حاتم ١/١/٤٨، وذكر أنه كتب إليه. ثوبر بن أبي فاختة: ضعيف جدا، روى البخاري في الكبير ١/٢/١٨٣، والصغير: ١٢٨، عن الثوري، قال: "كان ثوير من أركان الكذب"، وهو بضم الثاء المثلثة مصغرا. أبوه أبو فاختة: اسمه سعيد بن علاقة، وهو مولى أم هانئ بنت أبي طالب. وهو تابعي ثقة، يروى عن علي، وعن ابن مسعود، وغيرهما.
12
٣٢١٣ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:"وأقِيمُوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيت" ثم قال عبد الله: والله لولا التحرُّجُ، وأنيّ لم أسمع من رسول الله ﷺ فيها شيئًا، لقلت إنّ العمرة واجبة مثل الحج. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وكأنهم عَنوا بقوله:" أقيمُوا الحج والعمرة": ائتوا بهما، بحدودهما وأحكامِهما، على ما فُرِض عليكم.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب"العُمْرة": العمرة تطوعٌ = ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نَصْبهم"العمرة" في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبدَ عمله وإتمامُه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداءُ الدخول فيه فرضًا عليه. وذلك كالحج التطوُّع، لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أنّ عليه المضيَّ فيه وإتمامه، ولم يكن فرضًا عليه ابتداء الدخولُ فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غيرُ فرضٍ واجب الدخولُ فيها ابتداءً، غير أن على من دخل فيها وأوجبَها على نفسه إتمامَها بعد الدخول فيها. قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحج والعمرة دلالةٌ على وجوب فرضها. قالوا: وإنما أوَجبنا فرضَ الحجّ بقوله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) [سورة آل عمران: ٩٧].
وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الخبر: ٣٢١٣- هو في معنى الذي قبله، بالإسناد نفسه. وزاد في هذا نسبة القراءة لابن مسعود. وهي من القراءات الشاذة المخالفة لرسم المصحف. ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٣٥١، من طريق عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، به. والإسناد في الخبر بن ضعيف، كما بينا آنفًا.
13
٣٢١٤ - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: الحجُّ فريضة، والعمرةُ تطوُّع.
٣٢١٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن ابن مسعود مثله.
٣٢١٦- وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، قال: العمرة ليست بواجبة.
٣٢١٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيره، عن سماك، قال: سألت إبراهيم عن العمرة فقال: سنة حسنة.
٣٢١٨ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
٣٢١٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
٣٢٢٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
٣٢٢١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن الشعبي، قال: العمرة تطوع.
* * *
قال أبو جعفر: فأما الذين قرءوا ذلك برفع"العمرة"، فإنهم قالوا: لا وجه لنَصْبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقًّا اسم معتمرٍ إلا وهو له زائر. قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته= وهو متَى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يَبقى بعده يؤمَر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاجُّ بعد بلوغِه والطوافِ به وبالصفا والمروة بإتيان عَرَفة والمزدلفة والوقوفِ بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، وعملِ سائرِ أعمال الحج الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت
14
= (١) لم يكن لقول القائل للمعتمر:" أتمَّ عمرتك" وجهٌ مفهوم. وإذا لم يكن له وجهٌ مفهوم. فالصواب من القراءة في" العمرة" الرفعُ على أنه من أعمال البِرِّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله:" لله".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب" العمرة" على العطف بها على" الحجّ"، بمعنى الأمر بإتمامهما له.
ولا معنى لاعتلال من اعتَلّ في رفعها بأن" العمرة" زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه. وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمامُ العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارَته البيت، وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنبُ ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عملٌ - وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه - غيرُ الزيارة. هذا، مع إجماع الحجة على قراءة" العمرة" بالنصب، ومخالفة جميع قرأة الأمصار قراءةَ من قرأ ذلك رفعًا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعًا.
* * *
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله:" والعمرةَ لله" على قراءة من قرأ ذلك نصبًا فقولُ عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أنّ معنى ذلك: وأتمّوا الحج والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما = لا أنَّ ذلك أمرٌ من الله عز وجل - بابتداء عَمَلهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه - بهذه الآية.
وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وَصَفْنا: من أن يكون أمرًا من الله عز وجل بإقامتهما ابتداءًا وإيجابًا منه على العبادِ فرضَهما، وأن يكون أمرًا منه بإتمامهما بعد
(١) سياق العبارة: "وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته... لم يكن لقول قائل... " وما بينهما فصل طويل
15
الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبِهما على نفسه، فإذ كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذ كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبرٌ عن الحجة للعذرِ قاطعًا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة - لم يكن لقول قائلٍ:" هي فرض" بغير برهان دالّ على صحة قوله - معنى (١)، إذ كانت الفرُوض لا تلزم العباد إلا بدلالةٍ على لزومها إياهم واضحةٍ.
فإن ظن ظانٌّ أنها واجبة وجوبَ الحج، وأن تأويلَ من تأوّلَ قوله:" وأتمّوا الحج والعمرةَ لله" بمعنى: أقيموا حدُودَهما وفروضهما أوْلى من تأويلنا، (٢) بما:-
٣٢٢٢ - حدثني به حاتم بن بكير الضبي، قال: ثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن جحادة، عن رجل، عن زميل له، عن أبيه- وكان أبوه يكنى أبا المُنْتَفِق- قال: أتيت النبي ﷺ بعرفة، فدنوتُ منه، حتى اختلفتْ عُنق راحلتي وعُنُق راحلته، فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يُنجيني من عذاب الله ويُدخلُني جَنتَه! قال:"اعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأدّ الزكاة المفروضة، وحُجّ واعتَمِر= قال أشهل: وأظنه قال:"وصُمْ رمضان= وانظر ماذا تحبُّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم، وما تكرهُ من الناس أن يأتوه إليك فذَرْهم منه". (٣)
وما:-
(١) السياق: "لم يكن لقول قائل... معنى "
(٢) سياق المعنى: "وأن تأويل من تأول... أولى من تأويلنا".
(٣) الحديث: ٣٢٢٢- هذا إسناد ضعيف، لإبهام بعض رواته الذين لم يسموا.
حاتم بن بكير الضبي، شيخ الطبري: هو أيضًا من شيوخ ابن ماجه وابن خزيمة، مترجم في التهذيب والخلاصة، دون بيان حاله، وفي التقريب: "مقبول" وثبت اسم أبيه "بكير" بالتصغير هنا وفي الخلاصة. وثبت بالتكبير "بكر" في التهذيب والخلاصة، ولم أجده في مصدر آخر حتى أستطيع الترجيح بينهما.
أشهل- بالشين المعجمة- بن حاتم، ـأبو حاتم البصري الجمحي: مختلف فيه، فضعفه ابن معين. وقال أبو زرعة: "محله الصدق، وليس بالقوي، رأيته يسند عن ابن عون حديثا، الناس يقفونه". وترجمه البخاري في الكبير ١ / ٢ / ٦٩ فلم يذكر فيه جرحا. ثم هو قد روى له في الصحيح حديثا متصلا وآخر معلقا. مقدمة الفتح، ص: ٣٨٩.
وأما نسبته هنا "الأرطبائي- فلا أدري ما هي؟ ولا أعرف لها توجيها. إلا أن يكون ممن أكثر الرواية عن شيخه " ابن عون" - وهو "عبد الله بن عون بن أرطبان" بالنون في آخره - فنسب إلى "أرطبان" لذلك، ثم حرفت "الأرطباني" إلى "الأرطبائي". وما وجدت ما يدل على ذلك، ولا ما يشير إلى أنه يكثر الرواية عن ابن عون - وإنما هو ظن ظننته.
محمد بن جحادة: مضت ترجمته: ٣٤.
أبو المنتفق: -ويقال ابن المنتفق- ترجمه ابن الأثير في أسد الغابة ٥: ٣٠٦ - وروى هذا الحديث، بإسناده إلى معاذ بن معاذ، عن ابن عون، بهذا الإسناد، ووقع فيه "ابن عوف" وهو خطأ مطبعي ظاهر.
وترجمه الحافظ في الإصابة ٧: ١٨١، وذكر له هذا الحديث من رواية الطبراني، ولكن فيه "محمد بن جحادة"، عن زميل له، بحذف "عن رجل" من بينهما.
وترجمه ابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٣٢٧ باسم "ابن المنتفق"، هكذا: "أنه وصف صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، عنه "
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٤٣ - ٤٤، من غير هذا الوجه قال: وعن حجير، عن أبيه، وكان يكنى أبا المنتفق" فذكر نحوه، وفيه -كما هنا- "وحج واعتمر". وذكره قبل ذلك ١: ٤٣، من وجهين آخرين، ليس فيهما هذا اللفظ.
وقال الحافظ في الإصابة - بعد أن أشار إلى رواية الطبراني من طريق ابن عون: "قال الطبراني: اضطرب ابن عون في إسناده، ولم يضبطه عن محمد بن جحادة، وضبطه همام. ثم أخرجه من طريق همام. عن محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، قال: قدمت الكوفة، فدخلت المسجد فإذا رجل من قيس، يقال له ابن المنتفق، فسمعته يقول "... وهذه الرواية هي التي ذكرها صاحب الزوائد أولا.
وطرق الحديث من أوجه، منها رواية همام، التي ذكرها الحافظ-: في المسند ١٥٩٤٨- ١٥٩٥٠، (٣: ٤٧٢ - ٤٧٣ حلبي)، و ١٦٧٧٤ (٤: ٧٦ - ٧٧ حلبي)، و (٥: ٣٧٢- ٣٧٣، و ٦: ٣٨٣ - ٣٨٤ حلبي). ولم أجد في روايات المسند هذه، ذكرا للعمرة.
16
٣٢٢٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال: قلت يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظَّعْن، وقد أدركه
17
الإسلام، أفأحج عنه؟ قال:"حُج عن أبيك واعتمر". (١)
=وما:-
٣٢٢٤ - حدثني به يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة أن رسول الله ﷺ خَطب فقال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحُجُّوا واعتمروا واستقيموا يَستقم لكم. (٢)
* * *
= وما أشبه ذلك من الأخبار، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لِوَهْي أسانيدها، وأنها - معَ وَهْيِ أسانيدها- لها في الأخبار أشكالٌ تنبئ عن أنّ العمرة تطوعٌ لا فرض واجب. وهو ما:-
(١) الحديث: ٣٢٢٣- يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى في: ٢٣٧، ٣٣٥. وهو يروى عن عبد الرحمن بن مهدي. ووقع في المطبوعة هنا بينهما زيادة "قال خدثنا ابن إبراهيم"، وهي زيادة خطأ من ناسخ أو طابع، ولا معنى لها، فحذفناها.
النعمان بن سالم الطائفي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له مسلم في الصحيح.
عمرو ابن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي: تابعي ثقة. أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أبو رزين العقيلي: هو لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر، وهو صحابي معروف، وغلط من جعله و "لقيط بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق" - واحدا. بل هما صحابيان، وقد فصل بينهما ابن سعد ٥: ٣٧٩، ٣٤٠.
وهذا الحديث صحيح، خلافا لما قاله الطبري فيما سيأتي بعد أسطر، إذ ضعف هذه الأحاديث كلها وفيما هذا الحديث.
وقد رواه الطيالسي: ١٠٩١، عن شعبة. ورواه أحمد في المسند: ١٦٢٥٣، عن وكيع عن شعبة، بهذا الإسناد (ج ٤ص ١٠، ١١، ١٢ حلبي).
ورواه أبو داود: ١٨١٠، عن حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم - كلاهما عن شعبة. وقال المنذري: ١٧٣٦، "وأخرجه الترمذي، والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا، ولا أصح منه"
ورواه البيهقي ٤: ٣٥٠، من طريق أبي داود. ثم روى كلمة أحمد بن حنبل في تصحيحه.
(٢) الحديث: ٣٢٢٤- أبو قلابة- بكسر الكاف وتخفيف اللام. وهو عبد الله بن زيد الجرمي، أحد الأعلام، من التابعين
18
٣٢٢٥ - حدثنا به محمد بن حميد، ومحمد بن عيسى الدامغاني، قالا ثنا عبد الله بن المبارك، عن الحجاج بن أرطأة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟، فقال:"لا وأن تعتمروا خيرٌ لكم". (١)
٣٢٢٦ - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير= وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك=، عن معاوية بن إِسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحجُّ جهادٌ، والعمرة تطوع. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٣٢٢٥- محمد بن عيسى الدامغاني، شيخ الطبري: روى عنه أبو حاتم، وقال: "يكتب حديثه". وروى عنه أيضًا النسائي، وابن خزيمة، وغيرهم.
والحديث رواه أحمد: ١٤٤٤٩ (٣: ٣١٦ حلبي)، عن ابن معاوية، عن الحجاج بن أرطاة، بهذا الإسناد، نحوه.
ورواه الترمذي ٢: ١١٣، من طريق عمر بن علي، والبيهقي ٤: ٣٤٩، من طريق عبد الواحد بن زياد -كلاهما عن الحجاج، به، نحوه.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ". رجح البيهقي أن المحفوظ روايته موقوفا من كلام جابر، وقد أطال الحافظ ابن حجر، في التلخيص، ص ٢٠٤، في إعلال المرفوع وترجيح الموقوف.
(٢) الحديث: ٣٢٢٦- شريك:: هو ابن عبد الله النخعي، مضت ترجمته: ٢٥٢٧.
معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله التيمي: تابعي ثقة.
أبو صالح الحنفي: هو عبد الرحمن بن قيس الكوفي، وهو تابعي ثقة. وأخطأ بعضهم فسماه "ماهان"، والصواب أن كنية "ماهان": "أبو سالم الحنفي". انظر الترجمتين في التهذيب. وعلى الرغم من أن الحافظ ابن حجر حقق ذلك في الموضعين من التهذيب - فإنه سها في التلخيص، ص: ٢٠٤، فقال: "وأبو صالح: ليس ليس هو ذكوان السمان، بل هو أبو صالح ماهان الحنفي"!
وهذا الحديث مرسل. ورواه الشافعي في الأم ٢: ١١٣، قال: " فاختلف الناس في العمرة، فقال بعض المشرقيين: العمرة تطوع. وقال سعيد بن سالم، (هو القداح، شيخ الشافعي) واختج بأن سفيان الثوري أخبره عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله ﷺ قال: الحج الجهاد، والعمرة تطوع. فقلت له: أتثبت مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو منقطع". ثم ذهب الشافعي يقيم عليه الحجة - أن تكون العمرة واجبة". إلى آخر ما قال.
وقد روى البيهقي ٤: ٣٤٨ هذا الحديث المرسل، من طريق الشافعي. ثم نقل عنه بعض ما نقلته.
19
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صحَّ عنده أن العمرة واجبةٌ، بأنه لم يجد تطوعًا، إلا وله إمامٌ من المكتوبة. فلما صح أنّ العمرة تطوُّع وجب أن يكون لها فَرْضٌ، لأن الفرض إمام التطوع في جميع الأعمال.
فيقال لقائل ذلك: فقد جُعِل الاعتكاف تطوُّعًا، فما الفرض منه الذي هو إمامُ مُتطوَّعه؟
ثم يسأل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب؟
فإن قال:" واجبٌ"، خرج من قول جميع الأمة.
وإن قال: تطوع.
قيل: فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعًا والعمرةُ فرضًا، من الوجه الذي يجب التسليم له؟
فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
=وبما استشهدنا من الأدلة، فإن أولى القراءتين بالصواب في" العمرة" قراءةُ من قرأها نصبًا- وأنّ أولى التأويلين في قوله" وأتموا الحج والعمرة لله"، تأويلُ ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمرٌ من الله بإتمام أعمالهما بعد الدُّخول فيهما وإيجابهما على ما أمِر به من حدودهما وسنَنِهما -وأنّ أولى القولين في" العمرة" بالصواب قول من قال:" هي تطوّع لا فرض" - وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم، على ما أمركم الله من حدودهما.
* * *
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن البيت، معرِّفَهُ المؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خُلِّي بينهم وبين البيت ومبيِّنًا لهم فيها ما المُخْرِجَ لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصُدوا عن البيت.
20
ولذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية، (١) وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتَتح بقوله:" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ ".
وقد دللنا فيما مضى على معنى" الحج"" والعمرة" بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في" الإحصار" الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي.
* * *
فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٢٧ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: "الحصر" الحبس كله. يقول: أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. قال: وقال مجاهد في قوله:" فإن أحصرتم " فإن أحْصِرتم: يَمرض إنسانٌ أو يُكْسر، أو يحبسه أمرٌ فغلبه كائنًا ما كان، فليرسل بما استيسَر من الهَدْي، ولا يحلِق رأسَه، ولا يحل، حتى يوم النحر.
(١) في المطبوعة: "وبذكر اللام... "، وكأن الصواب ما أثبت حتى يستقيم الكلام.
(٢) انظر ما سلف ٣: ٢٢٨- ٢٢٩.
21
٣٢٢٨ -حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٢٢٩ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الإحصار كل شيء يحبسه.
٣٢٣٠ - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن قتادة أنه قال: في المحصَر: هو الخوفُ والمرض والحابسُ. إذا أصابه ذلك بَعَث بِهَدْيه، فإذا بلغ الهدي مَحِله حَلّ.
٣٢٣١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدْي" قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حَبَسه عن البيت يبعث بهَديه، فإذا بلغ مَحِله صار حلالا.
٣٢٣٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كل شيء حَبَس المحرم فهو إحصارٌ.
٣٢٣٣ - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إبراهيم= قال أبو جعفر: أحسبه عن شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم=:" فإن أحصِرْتم" قال: مرض أو كسر أو خَوفٌ.
٣٢٣٤- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله:" فإن أحصرتُم فما استيسر من الهدي"، يقول: من أحرم بحج أو بعمرة، ثم حُبس عن البيت بمرض يُجْهده أو عذر يحبسه، فعليه قَضاؤها.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال بهذه المقالة: أن" الإحصار" معناه في كلام العَرب: مَنْع العلة من المرض وأشباهه، غيرِ القهرِ والغلبة من قاهر أو غالبٍ، إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما
22
منعُ العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالبٍ حائل بين المحرِم والوصول إلى البيت من سُلطان، أو إنسان قاهرٍ مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب" حصرا" لا" إحصارا".
قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) [الإسراء: ٨] يعني به: حاصرًا، أي حابسًا.
قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا، يسمى" إحصارًا" لوجب أن يقال:" قد أُحْصرَ العدوُّ".
قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على" حُوصر العدو، والعدوّ محاصر"، دون" أحصر العدو، وهم مُحْصَرون"، و" أحْصِر الرجل" بالعلة من المرض والخوف- أكبر الدلالة على أنّ الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله:" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ " بمرض أو خوف أو علة مانعة.
قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى" حصر المرض" قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" إذ كان حبس العدو والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" فإن حبسكم عدو عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله:" فإن أحصرتم ".
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٣٥ - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس أنه قال:" الحصْرُ":
23
حصرُ العدو، فيبعثُ الرجل بهديّتِه، فإن كان لا يستطيع أن يَصِل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويُحْرِم = قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال: يُحِرِم، أو يَحِل = من يومٍ يواعد فيه صاحبَ الهدْي إذا اشترى. فإذا أمن فعليه أن يحجَّ أو يعتمر. فإذا أصابه مَرَض يحبسه وليس معه هدْي، فإنه يَحِل حيث يُحبَس، فإن كان معه هدْي فلا يحل حتى يَبلغ الهدي مَحله، فإذا بعث به، فليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر إلا أن يشاء.
٣٢٣٦ - حدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حَبْس عدو.
٣٢٣٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= إلا أنه قال: فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعَد فيه صاحبَ الهدية إذا اشترى. ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
* * *
وقال مالك بن أنس: بلغني أنّ رسول الله ﷺ حَلَّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحَلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يَصِل إليه الهدي. ثم لم نَعْلم أنّ رسول الله ﷺ أمرَ أحدًا من أصحابه، ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئًا ولا أن يعودوا لشيء. (١)
(١) نص كلام مالك في الموطأ: ٣٦٠، وسيأتي برقم: ٣٢٨٧.
24
٣٢٣٨ - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه= قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يَحلّ من كل شيء، ويَنْحر هَدْيه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء، (١) إلا أن يكون لم يحج قَط، فعليه أن يحج حجة الإسلام.
قال: والأمر عندنا فيمن أحصِر بغير عدو بمرض أو ما أشبهه، أنْ يتداوَى بما لا بد منه، ويَفتدي، (٢) ثم يجعلها عُمرة، ويحج عامًا قابلا ويُهدِي.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة - أعني: من قال قولَ مالك - أنّ هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله ﷺ وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيّه ومن معه بنحْر هَداياهم والإحلال.
قالوا: فإنما أنزل الله هذه الآية في حَصْر العدو، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلتْ فيه.
قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يُطِق لمرضه السَّير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجلٌ فاته الحج، عليه الخروج من إحرامه بما يخرُج به من فَاته الحج - وليس من معنى" المحصر" الذي نزلت هذه الآية في شأنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في قوله:" فإذا أحصرتم"، تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحْصَرَكم خوفُ عَدٍّو أو مرضٌ أو علةٌ عن الوصول إلى البيت أي: صيَّركم خوفكم أو مرضكم تَحصُرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتُموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة. فلذا قيل:" أحصرتم"، لمَّا أسقط ذكِر الخوف والمرض. يقال منه:" أحصرني خوفي من فلان عن لقائك،
(١) إلى هنا نص ما في الموطأ: ٣٦٠، وما بعده زيادة ليست هناك. وسيأتي في آخر رقم: ٣٢٨٨.
(٢) في المطبوعة: "أن يبدأ بما لا بد منه" والصواب ما أثبته، عن الموطأ: ٣٦٢، فراجعه هناك. وانظر أيضًا ما سيأتي رقم: ٣٢٨٩.
25
ومَرَضي عن فلان"، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجلُ والإنسانُ، قيل:" حصرَني فلان عن لقائك"، بمعنى حبسني عنه.
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوِّل من قوله:" فإن أحصِرْتم" فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت- لوجب أن يكون: فإن حُصِرْتم.
ومما يُبَيِّن صحةَ ما قلناه من أن تأويل الآية مرادٌ بها إحصارُ غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدو، قولُه:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعُمْرة إلى الحج".
و" الأمنُ" إنما يكون بزوال الخوف. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية، هو الخوف الذي يكون بزواله الأمنُ.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن حَبسُ الحابس الذي ليس مع حَبْسه خوف على النفس من حبسه داخلا في حكم الآية بظاهرها المتْلوّ، وإن كان قد يُلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حَبْس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالدِ، وزوج المرأة، (١) إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنعٌ عن الشخوص لعمل الحج، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرامَ، (٢) غيرُ داخل في ظاهر قوله:" فإذ أحصرتم"، لما وصفنا من أن معناه: فإن أحصركم خوفُ عدوّ- بدلالة قوله:" فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ " وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدو.
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصده عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله:" فما استيسر من الهدي".
(١) في المطبوعة: "وإن كان... " والصواب حذف الواو.
(٢) قوله: "غير داخل" خبر قوله: "من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه".
26
فقال بعضهم: هو شاة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٣٩ - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي" شاة.
٣٢٤٠ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن= وحدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق= قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة.
٣٢٤١ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن ابن عباس، مثله.
٣٢٤٢ - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: تمتعت فسألت ابن عباس فقال:" ما استيسر من الهدي" قال: قلت شاة؟ قال: شاة.
٣٢٤٣ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عن" ما استيسر من الهدي"، قال: من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن.
٣٢٤٤ - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله جل ثناؤه:" فما استيسر من الهدي" - قال: كان ابن عباس يقول: من الغنم.
٣٢٤٥ -حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:" ما استيسر من الهدي"، من الأزواج الثمانية.
27
٣٢٤٦ - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: قيل للأشعث: ما قول الحسن:" فما استيسر من الهدي"؟ قال: شاة.
٢٦٤٧- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتاده. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة.
٣٢٤٨ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله = إلا أنه كان يقال: أعلاه بدنة، وذكر سائر الحديث مثله.
٣٢٤٩ - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس، قال:" فما استيسر من الهدي"، شاة.
٣٢٥٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، مثله.
٣٢٥١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن عطاء:" فما استيسر من الهدي" شاة.
٣٢٥٢ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا محمد بن نفيع، عن عطاء، مثله.
٣٢٥٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المحصر يبعث بهدي، شاة فما فوقها.
٣٢٥٤ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، بعث بما استيسر من الهدي شاة. قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
٣٢٥٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية
28
بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ما استيسر من الهدي"، شاة فما فوقها.
٣٢٥٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة = وحدثنا المثنى، قاله: حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة = قال: حدثنا أبو جمرة، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، جزور أو بقرة أو شاة، أو شرك في دم.
٣٢٥٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن ابن عباس كان يرى أن الشاة" ما استيسر من الهدي".
٣٢٥٨ -حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة.
٣٢٥٩ - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة.
٣٢٦٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سهل بن يوسف قال: حدثنا حميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي: شاة، فقيل له: أيكون دون بقرة؟ قال: فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة. ما في الظبي؟ قالوا: شاة، قال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: ٩٥].
٣٢٦١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: شاة.
٣٢٦٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن دلهم بن صالح، قال: سألت أبا جعفر، عن قوله:" ما استيسر من الهدي"، فقال: شاة.
٣٢٦٣ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك
29
بن أنس حدَّثه عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن علي بن أبي طالب كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، شاة. (١)
٣٢٦٤ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: حدثنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، مثله.
٣٢٦٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، شاة. (٢)
٣٢٦٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحب إلي. (٣)
٣٢٦٧ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:" فما استيسر من الهدي"، قال: عليه - يعني المحصر - هدي. إن كان موسرا فمن الإبل، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم.
٣٢٦٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة، وما عظمت شعائر الله، فهو أفضل.
٣٢٦٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة: أن عطاء بن أبي رباح حدثه: أن" ما استيسر من الهدي"، شاة.
* * *
وقال آخرون:" ما استيسر من الهدي": من الإبل والبقر، سن دون سن.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٧٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت
(١) الأثر: ٣٢٦٣ الموطأ: ٣٨٥.
(٢) الأثر: ٣٢٦٥- الموطأ: ٣٨٥.
(٣) الأثر: ٣٢٦٦- الموطأ: ٣٨٥ ونصه: "وذلك أحب ما سمعته إلي في ذلك"، ثم استدل بآية المائدة التي استدل بها ابن عباس في الأثر: ٣٢٦٠.
30
عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال:" ما استيسر من الهدي": البقرة دون البقرة، والبعير دون البعير.
٣٢٧١ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز، قال: سأل رجل ابن عمر:" ما استيسر من الهدي"؟ قال: أترضى شاة؟ = كأنه لا يرضاه.
٣٢٧٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن القاسم بن محمد ونافع، عن ابن عمر قال:" ما استيسر من الهدي"، ناقة أو بقرة، فقيل له:" ما استيسر من الهدي"؟ قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة.
٣٢٧٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال:" فما استيسر من الهدي"، قال: جزور، أو بقرة.
٣٢٧٤ - حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله:" فما استيسر من الهدي" - قال: قال ابن عمر: من الإبل والبقر.
٣٢٧٥ -حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه:" فما استيسر من الهدي" قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة.
٣٢٧٦ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن القاسم، عن ابن عمر في قوله:" فما استيسر من الهدي"، قال: الإبل والبقر.
٣٢٧٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان:" ما استيسر من الهدي": من الإبل والبقر.
31
٣٢٧٨ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا الوليد بن أبي هشام، عن زياد بن جبير، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي؟ فقال: ناقة، قلت: ما تقول في الشاة؟ قال: أكلكم شاة؟ أكلكم شاة؟ (١)
٣٢٧٩ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد وطاوس قالا" ما استيسر من الهدي"، بقرة.
٣٢٨٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة:" فما استيسر من الهدي"، قال في قول ابن عمر: بقرة فما فوقها.
٣٢٨١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:" ما استيسر من الهدي"، قال: بدنة أو بقرة، فأما شاة فإنما هي نسك.
٣٢٨٢ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: البدنة دون البدنة، والبقرة دون البقرة، وإنما الشاة نسك، قال: تكون البقرة بأربعين وبخمسين.
٣٢٨٣ - حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن نافع، عن ابن عمر، كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، بقرة.
٣٢٨٤ - وحدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه، قال: رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عن" ما استيسر
(١) الخبر: ٣٢٧٨- الوليد بن أبي هشام زياد، مولى عثمان: ثقة جدا، كما قال الإمام أحمد.
زياد بن جبير بن حية بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير ٢ / ١ / ٣٢١٧. وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٧، ٣١٠. وقال: "عبيد الله بن جبير بن حية، أخو زياد وغبيد الله ابني جبير بن حية الثقفي. وكانوا إخوة ثلاثة."
32
من الهدي" ويقولون: الشاة! الشاة! قال: فيرد عليهم:" الشاة! الشاة! يحضهم - إلا أن الجزور دون الجزور، والبقرة دون البقرة، ولكن ما" استيسر من الهدي"، بقرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب قول من قال:" ما استيسر من الهدي" شاة. لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خص من ذلك شيئا، فيكون ما خص من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحق اسم" هدي".
* * *
فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي، بأنه لا يستحق اسم" هدي" كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا.
قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف، نحو الذي في المهدي الشاة، لكان سبيلهما واحدة: في أن كل واحد منهما قد أدى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهديين مخرجه من أن يكون مؤديا (١) - بإهدائه ما أهدى من ذلك - مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن، والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان - من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته - بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا ﷺ وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله:" فما استيسر من الهدي" وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.
(١) في المطبوعة: "إذا لم يكن أحد المهديين يخرجه... " والصواب ما أثبت.
33
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثني من المعِز، كان مجزئًا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل، لأنه مما استيسر من الهدي.
* * *
فإن قال قائل: فما محل" ما" التي في قوله جل وعز:" فما استيسر من الهدي"؟ قيل: رفع.
فإن قال: بماذا؟
قيل: بمتروك. وذلك" فعليه" لأن تأويل الكلام: وأتموا الحج والعمرة أيها المؤمنون لله، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدو فعليكم - لإحلالكم، إن أردتم الإحلال من إحرامكم - ما استيسر من الهدي.
وإنما اخترنا الرفع في ذلك، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره، وذلك كقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) وكقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه.
ولو قيل موضع" ما" نصب، بمعنى: فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي، لكان غير مخطئ قائله. (١)
* * *
وأما" الهدي"، فإنه جمع، وأحدها"هديّه"، على تقدير" جديّه السرج" والجمع" الجَدْي" مخفف. (٢)
٣٢٨٥ - حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، عن يونس، قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه. (٣)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١١٨.
(٢) "هدية" و"جدية" بتشديد الياء، وقد ضبطها ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة بفتح فسكون، وهو خطأ والجدية: قطعة من الكساء محشوة تكون تحت دفتي السرج وظلفة الرحل، وهما جديتان.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٦٩.
34
وبتخفيف" الياء" وتسكين" الدال" من" الهدي" قرأه القرأة في كل مصر، إلا ما ذكر عن الأعرج، فإن:-
٣٢٨٦ - أبا هشام الرفاعي، حدثنا، قال: حدثنا يعقوب، عن بشار، عن أسد، عن الأعرج أنه قرأ: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [سورة المائدة: ٩٥] بكسر" الدال" مثقلا وقرأ:"حتى يبلغ الهدي محله"، بكسر" الدال" مثقلة. واختلف في ذلك عن عاصم، فروي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءه سائر القرأة.
* * *
و" الهدي" عندي إنما سمي" هديا" لأنه تقرب به إلى الله جل وعز مهديه، بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقربا بها إليه، يقال منه:" أهديت الهدي إلى بيت الله، فأنا أهديه إهداء". كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره:" أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها."، ويقال للبدنة" هدية"، ومنه قول زهير بن أبي سلمى، يذكر رجلا أسر، يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى:
فلم أر معشرا أسروا هديا ولم أر جار بيت يستباء! (١)
* * *
(١) ديوانه: ٧٩ من قصيدة كريمة، قالها في ذم بني عليم بن جناب من كلب. وكان رجل من بني عبد الله بن غطفان قد أتاهم فأكرموه وأحسنوا جواره، بيد أنه كان مولعا بالقمار فنهوه عنه، فأبى إلا المقامرة. فقمر مرة فردوا عليه، ثم قمر أخرى فردوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه، وأخذت منه امرأته في قماره. والهدي: الرجل ذو الحرمة المستجير بالقوم فسموه كما قال الطبري بما يهدي إلى البيت، فهو لا يرد عن البيت ولا يصاب، وقوله: "فستباء" أي تؤخذ امرأته وتنكح، ثم قال لهم بعد البيت:
وجار البيت والرجل المنادي أمام الحي، عهدهما سواء
والمنادي: المجالس في النادي أما بيوت الحي.
35
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم، فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي. ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي = الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه، قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه = محله. (١) وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه. فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، (٢) حتى يبلغ الهدي -الذي أباح الله جل ثناؤه له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه - محله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في" محل" الهدي الذي عناه الله جل اسمه، الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه.
فقال بعضهم: محل هدي المحصر الذي يحل به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه = إذا كان إحصاره من خوف عدو منعه ذبحه، إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحل ذبح أو نحر أو في الحرم = [حيث حبس] (٣)
(١) قال ابن كثير في تفسيره ١: ٤٤٦"وقوله: "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله" معطوف على قوله: "وأتموا الحج والعمرة لله" وليس معطوفا على قوله: "فإن احصرتم فما استيسر من الهدي" كما زعمه ابن جرير رحمه الله. لأن النبي ﷺ وأصحابه عام الحديبية، لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم. فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم، فلا يجوز الحلق"حتى يبلغ الهدي محله"، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة -وإن كان قارنا- أو من فعل أحدهما، إن كان مفردا أو متمتعا، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس؟ حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك! فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى انحر".
وفي تخطئة ابن كثير لأبي جعفر، نظر وتفصيل ليس هذا موضعه لأنه يطول.
(٢) الحلاق مصدر كالحلق والتحلاق، يقال: رأس جيد الحلاق (بكسر الحاء) وقد أكثر مالك من استعمال هذا المصدر في الموطأ (انظر: ٣٩٥، ٣٩٦).
(٣) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
36
وإن كان من غير خوف عدو فلا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدو دون غيره.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٨٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله ﷺ حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله ﷺ أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء. (١)
٣٢٨٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع: أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة، فقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل بعمرة من أجل أن النبي كان أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد. قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة. قال: ثم طاف طوافا واحدا، ورأى أن ذلك مجز عنه وأهدى=.
قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر نبي الله ﷺ وأصحابه.
فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت.
قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت، فقال: يحل من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء، إلا أن يكون لم يحج قط، فعليه أن يحج حجة الإسلام. (٢)
(١) الأثر: ٣٢٨٧- مضى في ص: ٢٤، بغير إسناد.
(٢) الأثر: ٣٢٨٨- في الموطأ: ٣٦٠- ٣٦١ مع خلاف يسير في بعض لفظه. ومن أول قوله: "قال: وسئل مالك"، في آخر هذا الأثر، قد مضى برقم: ٣٢٣٨، وهو في الموطأ: ٣٦٠، قبل النص السالف.
37
٣٢٨٩ - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي، (١) وصرع في الحج ببعض الطريق، أن يتداوى بما لا بد منه، (٢) ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحج عاما قابلا ويهدي.
قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو. (٣)
قال: وقال مالك: وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض، أو خطأ في العدد، أو خفي عليه الهلال، فهو محصر، عليه ما على المحصر - يعني من المقام على إحرامه - حتى يطوف أو يسعى، ثم الحج من قابل والهدي.
٣٢٩٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره: أنه حج مرة فاشتكى، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة. فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك، وأن عطاء كتب إليه: أن أهرق دما
* * *
وعلة من قال بقول مالك: في أن محل الهدي في الإحصار بالعدو نحره حيث حبس صاحبه، ما:-
٣٢٩١ - حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي، قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ، عن ابن عمر، قال: لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية،
(١) في الموطأ: "سعيد بن حزابة المخزومي".
(٢) في المطبوعة: "أن يبدأ بما لا بد منه" والصواب من الموطأ، وقد مضى ذلك كذلك أيضًا في ص: ٢٥، وانظر تعليق رقم: ٢.
(٣) الموطأ: ٣٦٢، ومضى بعض ذلك في ص: ٢٥.
38
عرض له المشركون فردوا وجهه، قال: فنحر النبي ﷺ الهدي حيث حبسوه- وهي الحديبية- وحلق، وتأسى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق، وتربص آخرون فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين! قال:"والمقصرين". (١)
٣٢٩٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا لما كتب رسول الله ﷺ القضية بينه وبين مشركي قريش-وذلك بالحديبية، عام الحديبية- قال لأصحابه:"قوموا فانحروا واحلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا نبي الله اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاقك فتحلق. فقام فخرج، فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٣٢٩١- إسناده ضعيف جدا، من أجل"موسى بن عبيدة". وقد مضى بيان حاله: ١٨٧٥، ١٨٧٦.
أبو مرة مولى أم هانئ: اسمه"يزيد" ويقال له أيضًا "مولى عقيل بن أبي طالب"، واشتهر بكنيته. وهو تابعي ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعنى الحديث ثابت معروف من أوجه كثيرة، في دواوين الحديث وكتب السيرة، بل إن نحو هذا المعنى ثابت عن ابن عمر بإسناد صحيح، في المسند: ٦٠٦٧، والبخاري ٥: ٢٢٤، و ٧: ٣٩١ (من الفتح). والدعاء للمحلقين والمقصرين ثابت من حديثه أيضًا، صحيح، في المسند: ٤٦٥٧ والموطأ والصحيحين، كما بينا هناك.
(٢) الحديث: ٣٢٩٢- هو جزء من حديث طويل، في شأن صلح الحديبية، وهو معروف مشهور.
رواه احمد في المسند ٤: ٣٢٨- ٢٣١ (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر بهذا الإسناد ثم رواه عقب ذلك، عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن المبارك. عن معمر ولم يذكر لفظه إحالة على الرواية قبله. وقد رواه الطبري هنا، من طريق يحيى القطان.
ورواه البخاري ٥: ٢٤١- ٢٦٠ (فتح الباري) عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق كرواية المسند وروي منه قطعة موجزة ٣: ٤٣٣ من طريق عبد الله بن المبارك، عن معمر.
39
قالوا: فنحر النبي ﷺ هديه حين صده المشركون عن البيت بالحديبية، وحل هو وأصحابه. قالوا: والحديبية ليست من الحرم. قالوا: ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله:" حتى يبلغ الهدي محله"، حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره.
٣٢٩٣ - كما روي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم - أتته بريرة - من صدقة كان تصدق به عليها، فقال: قربوه فقد بلغ محله. (١)
* * *
يعني: فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة.
* * *
(١) الحديث: ٣٢٩٣- هذه إشارة من الطبري إلى حديث مشهور معروف. وهو قصة"بريرة" التي اشترتها عائشة من مواليها الذين كاتبوها، وأعتقها فكانت مولاتها، وهي في الصحيحين وغيرهما. واللفظ الثابت في الصحيحين، في شأن اللحم الذي تصدق به على بريرة، وأهدته هي لعائشة وأن النبي ﷺ أكل منه-: أنه قال: "هو لها صدقة ولنا هدية" أو نحو هذا، من حديث عائشة ومن حديث أنس، ولم أجد لفظ"فقد بلغ محله"، الذي حكاه الطبري في قصة بريرة. ولعله وقع إليه من رواية خفيت علينا.
نعم، جاء نحو هذا اللفظ، في قصتين أخريين في هذا المعنى:
إحداهما: من حديث أم عطية الأنصارية أنها بعثت إلى عائشة من لحم جاءها من الصدقة، فدخل رسول الله ﷺ فسأل عن طعام، فأخبروه بذلك -لأن الصدقة لا تحل له- فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها قد بلغت محلها". رواه أحمد في المسند ٦: ٤٠٧- ٤٠٨ (حلبي) والبخاري ٣: ٢٤٥، ٢٨١- ٢٨٢، و ٥: ١٤٩- ١٥٠ (فتح) مسلم ١: ٢٩٧.
والأخرى: من حديث جويرية بنت الحارث أم المؤمنين قالت: "دخل على رسول الله ﷺ ذات يوم: فقال: هل من طعام؟ قلت: لا إلا أعظما أعطيته مولاة لنا من الصدقة. قال صلى الله عليه وسلم: فقربيه فقد بلغت محلها". رواه أحمد في المسند ٦: ٤٢٩ (حلبي). ومسلم ١: ٢٩٦.
40
وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محل له غيره.
* ذكر من قال ذلك:
٣٢٩٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عمرو بن سعيد النخعي أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له، فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. (١)
٣٢٩٥ - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن سليمان بن مهران، عن عمارة بن عمير وإبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: خرجنا مهلين بعمرة فينا الأسود بن يزيد، حتى نزلنا ذات الشقوق، فلدغ صاحب لنا، فشق ذلك عليه مشقة شديدة، فلم ندر كيف نصنع به، فخرج بعضنا إلى الطريق، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ، فكيف نصنع به؟ قال: يبعث معكم بثمن هدي، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة، فإذا نحر الهدي فليحل، وعليه عمرة في قابل. (٢)
٣٢٩٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن
(١) الخبر: ٣٢٩٤- عمارة بن عمير التيمي: ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عبد الرحمن بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي: تابعي ثقة كثير الحديث.
عمرو بن سعيد النخعي: لم أجد له ذكرا، وليس له شأن في رواية الخبر، بل هو المتحدث عنه، والذي أفتى ابن مسعود في شأنه. وسيأتي اسمه مرة أخرى في الخبر: ٣٢٩٩. وانظر التعليق على الأثر: ٣٢٩٧ وقد روى الطبري هذا الخبر مكررا بأسانيد، كما ترى وانظر التعليق على الأثر: ٣٢٩٧.
ذات الشقوق: منزل بطريق مكة، من الكوفة. وتشوف الشيء: تطاول ينظر إليه.
(٢) الخبر: ٣٢٩٥- سليمان بن مهران: هو الأعمش. وهو هنا يروي الخبر عن عمارة بن عمير، كالرواية السابقة، وعن إبراهيم: وهو ابن يزيد بن الأسود بن عمرو النخعي، وهو الفقيه المعروف الثقة، وهو ابن اخت"عبد الرحمن بن يزيد بن قيس". فالأعمش يرويه عنهما عن عبد الرحمن ابن يزيد.
* وسيأتي الخبر من روايته وحده أيضًا، عن خاله عبد الرحمن: ٣٢٩٧.
41
الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ، فمر علينا عبد الله فسألناه، فقال: اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فيبعث بثمن الهدي، فإذا نحر حل وعليه العمرة. (١)
٣٢٩٧ - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم النخعي يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: أهل رجل منا بعمرة، فلدغ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود، فسألوه، فقال: يبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا، فإذا كان ذلك اليوم فليحل = وقال عمارة بن عمير: فكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله = وعليه العمرة من قابل. (٢)
٣٢٩٨ - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: خرجنا عمارا، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب، فقلنا له: لدغ صاحب لنا؟ فقال: اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما، وليرسل بالهدي، فإذا نحر الهدي فليحلل، ثم عليه العمرة.
٣٢٩٩ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن الحجاج، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود: أن عمرو بن سعيد النخعي
(١) الأمار والأمارة: العلامة والوقت.
(٢) الخبر: ٣٢٩٧ -الحكم: هو ابن عتيبة- بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق، وبعد التحتية باء موحدة. وهو تابعي ثقة حجة فقيه مشهور. وجعله أحمد بن حنبل أثبت الناس في الرواية عن إبراهيم النخعي.
* وهذا الخبر رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٤٣٢، من طريق بشر بن عمر، عن شعبة بهذا الإسناد نحوه وقد سمى فيه الرجل الذي لدغ، فقال: "أهل رجل من النخع بعمرة، يقال له: عمير بن سعيد- إلخ. فإن يكن هذا صوابا يكن هو"عمير بن سعيد النخعي" التابعي وقد مضت ترجمته: ١٦٨٣. فيكون الاسم"عمرو بن سعيد" في الخبرين: ٣٢٩٤، ٣٢٩٩- محرفا عن هذا. ويرجحه أنه وقع اسمه أيضًا محرفا إلى"عمرو بن سعيد" في المطبوعة، هناك في: ١٦٨٣.
42
أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. (١)
٣٣٠٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، يقول: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه.
ثم قال:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" فإن كان أحرم بالحج فمحله يوم النحر، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت.
٣٣٠١ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، فهو الرجل من أصحاب محمد ﷺ كان يحبس عن البيت، فيهدي إلى البيت، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه، فأتم الله له حجه. والإحصار أيضا أن يحال بينه وبين الحج، فعليه هدي: إن كان موسرا من الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، ويجعل حجه عمرة، ويبعث بهديه إلى البيت. فإذا نحر الهدي فقد حل، وعليه الحج من قابل.
٣٣٠٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا بشر بن السري،
(١) الخبر: ، ٣٢٩٩ -الحجاج: هو ابن أرطاة بن ثور بن هيرة النخعي، وهو ثقة على الراجح عندنا. ثم انظر التعليق على الأثر: ٣٢٩٧.
* عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي: تابعي ثقة. أبوه الأسود بن يزيد النخعي: هو أخو"عبد الرحمن بن يزيد النخعي، الماضي في الروايات السابقة، وهو تابعي كبير، ثقة من أهل الخير، كما قال أحمد.
43
عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سأل علي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي، فإذا نحر عنه حل، ولا يحل حتى ينحر هديه.
٣٣٠٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت عطاء يقول: من حبس في عمرته، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدق بشيء أو يصوم، ومن اعترض لهديته، وهو حاج، فإن محل الهدي والإحرام يوم النحر، وليس عليه شيء.
٣٣٠٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، مثله.
٣٣٠٥ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله"، الرجل يحرم ثم يخرج فيحصر، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير، وإما تنكسر راحلته، فإنه يقيم، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها. فإن هو صح فسار فأدرك فليس عليه هدي، وإن فاته الحج فإنها تكون عمرة، وعليه من قابل حجة. وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر.
فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة، فتنحر عنه بمكة، ويحل، وعليه من قابل حجة وعمرة - ومن الناس من يقول: عمرتان. وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه، فعليه من قابل عمرتان. وأناس يقولون: لا بل ثلاث عمر، نحوا مما صنعوا في الحج حين صنعوا، عليه حجة وعمرتان.
٣٣٠٦ - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس، قال: إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو.
44
فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها مكانه، ويواعد صاحب الهدي. فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر. فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحل حيث يحبس. وإن كان معه هدي، فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به، وليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر، إلا أن يشاء.
* * *
وقال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة = أن محل الهدايا والبدن الحرم = أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: ٣٢-٣٣] فجعل محلها الحرم، ولا محل للهدي دونه.
قالوا: وأما ما ادعاه المحتجون بنحر النبي ﷺ هداياه بالحديبية حين صد عن البيت، فليس ذلك بالقول المجتمع عليه، وذلك أن:
٣٣٠٧ - الفضل بن سهل حدثني، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن أبيه، عن ناجية بن جندب الأسلمي، قال: أتيت النبي ﷺ حين صد عن الهدي، فقلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم! قال: كيف تصنع به؟ قلت: آخذ به أودية فلا يقدرون عليه! فانطلقت به حتى نحرته بالحرم. (١)
(١) الحديث: ٣٣٠٧ -الفضل بن سهل بن إبراهيم الأعرج، شيخ الطبري: أحد الثقات الحفاظ روى عنه الشيخان في الصحيحين. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٣/١/٦٣، وتاريخ بغداد ١٢: ٣٦٤-٣٦٥. وتذكرة الحفاظ ٢: ١٢٠.
مخول -بالخاء المعجمة بوزن"محمد"- بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الحناط؛ قال الذهبي في الميزان: "رافضي بغيض، صدوق في نفسه". وقال ابن أبي حاتم ٤/١/٣٩٩: "سئل أبي عنه فقال: "هو صدوق" وذكره ابن حبان في الثقات.
إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. و"مخول" أكثر روايته عن إسرائيل، وقد روى عنه ما لم يرو غيره"، كما قال ابن عدي.
مجزأة بن زاهر: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما.
أبوه، زاهر بن أسود بن حجاج بن قيس الأسلمي: صحابي معروف كان ممن بايع تحت الشجرة. ناجية بن جندب الأسلمي: صحابي معروف وكان صاحب بدن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وهناك أيضًا "ناجية بن كعب الخزاعي" كان صاحب بدن رسول الله ﷺ أيضًا. وقد خلط بينهما بعض الرواة. وحقق الحافظ في التهذيب والإصابة أن هذا غير ذاك.
والحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٤٢٧، عن إبراهيم بن أبي داود عن مخول ابن إبراهيم بهذا الإسناد إلا أنه جعله"عن مجزأة عن ناجية" مباشرة ليس بينهما"عن أبيه". و"مجزأة" يروى عن ناجية. لكن هذا الحديث بعينه ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة ناجية ٦: ٢٢٢- ٢٢٣ أنه رواه ابن مندة"من طريق مجزأة بن زاهر، عن أبيه عن ناجية بن جندب"، ثم ذكر أنه"أخرجه الطحاوي من طريق مخول". فلا أدري: أسقط قوله"عن أبيه" من نسخة الطحاوي؟ أم هو اختلاف رواية؟
وقال الحافظ بعد ذكره رواية ابن مندة: "قال اب مندة: تفرد به مخول بن إبراهيم عن إسرائيل عنه (يعني عن مجزأة) ورواه عنه (يعني عن مخول) أبو حاتم الرازي وغيره. كذا قال وقد أخرجه النسائي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مثله". ولم أجده في النسائي. فالظاهر أنه في السنن الكبرى.
45
قالوا: فقد بين هذا الخبر أن النبي ﷺ نحر هداياه في الحرم، فلا حجة لمحتج بنحره بالحديبية في غير الحرم.
* * *
وقال آخرون: معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا. وقالوا: إنما معنى ذلك: فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم - فمنعتم من المضي لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدو - وأداء اللازم لكم وحجكم، حتى فاتكم الوقوف بعرفة، فإن عليكم ما استيسر من الهدي، لما فاتكم من حجكم، مع قضاء الحج الذي فاتكم. فقال أهل هذه المقالة: ليس للمحصر في الحج - بالمرض والعلل غيره - الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحج. قالوا: فأما إن أطاق شهود المشاهد، فإنه غير محصر. قالوا: وأما العمرة فلا إحصار فيها، لأن وقتها موجود أبدا. قالوا: والمعتمر لا يحل إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه.
46
قالوا: ولم يدخل المعتمر في هذه الآية، وإنما عنى بها الحاج.
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة. فقال بعضهم: لا إحصار اليوم بعدو، كما لا إحصار بمرض يجوز لمن فاته أن يحل من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٠٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن طاوس، قال: قال ابن عباس: لا إحصار اليوم.
٣٣٠٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت.
٣٣١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حبسه عدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة.
* * *
وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم.
* ذكر من قال ذلك: وقال: معنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم:
٣٣١١ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، قال: كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما
47
قابلا ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا.
٣٣١٢ - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت، ويقيم على إحرامه كما هو، إلا أن تصيبه جراحة - أو جرح - فيتداوى بما يصلحه ويفتدي. فإذا وصل إلى البيت، فإن كانت عمرة قضاها، وإن كانت حجة فسخها بعمرة، وعليه الحج من قابل والهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
٣٣١٣ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا، فرأى به كسرا، فاستفتاه، فأمره أن يقف كما هو لا يحل من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي. وكان أهل بالحج. (١)
٣٣١٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر، قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه خوف أو مرض أو خلأ له ظهر يحمله، (٢) أو شيء من الأمور كلها، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل من النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيام أو صدقة أو نسك. فإن فاته الحج وهو بمحبسه ذلك، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة، فقد فاته الحج، وصارت حجته عمرة: يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من
(١) انظر ما سلف رقم: ٣٢٨٩.
(٢) خلأت الناقة تخلأ خلاه (بكسر الخاء) فهي خالي: إذا بركت وأبت أن تقوم وأبت أن تقوم وفي الحديث"أن ناقة النبي ﷺ خلأت به يوم الحديبية فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت! وما هو لها بخلق! ولكن حبسها حابس الفيل". والظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب عليها.
48
المسجد الحرام، ثم حلق رأسه، أو قصر، ثم حل من النساء والطيب وغير ذلك. ثم عليه أن يحج قابلا ويهدي ما تيسر من الهدي.
٣٣١٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه قال: المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة. وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى. (١)
* * *
فهذا ما روي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه، وأما في المحصر بالعدو فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله. (٢)
٣٣١٦ - حدثني تميم بن المنتصر، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر أراد الحج حين نزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله، فقالا لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت! قال: إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله ﷺ حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع.
* * *
وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم:" إنه لا إحصار فيها ولا حصر"، فإنه:-
٣٣١٧ - حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني هشيم، عن أبي بشر، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهل بعمرة فأحصر، قال: فكتب إلى ابن عباس وابن عمر، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي، ثم يقيم حتى يحل من عمرته. قال: فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر.
(١) الموطأ: ٣٦١، مع خلاف يسير في لفظه وفيه: "المحصر بمرض لا يحل... "
(٢) انظر ما سلف رقم: ٣٢٣٨، ٣٢٨٧، ٣٢٨٨.
49
٣٣١٨ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يعقوب، عن أبي العلاء بن الشخير، قال: خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري، فكسرت رجلي، فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما، فقالا إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحج، لا تحل حتى تطوف بالبيت. قال: فأقمت بالدثينة أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر. (١)
٣٣١٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال: خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس، فلم يرخص لي أحد أن أحل، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر، حتى أحللت بعمرة. (٢)
٣٣٢٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر، قال: يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة، ويحلق أو يقصر، وليس عليه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من
(١) الدثينة (بفتح أوله وكسر ثانيه) : منزل لبني سليم في طريق البصرة إلى مكة، وكانت تسمى"الدفينة" أيضًا. وقال البكري في معجم ما استعجم: "الدثينة" بفتح أوله وثانيه بعده نون وياء مشددة. ثم نقل عن أبي علي القالي: "الدفينة والدثينة: منزل لبني سليم نفلته من كتاب يعقوب في الإبدال" والصواب ما ذكره ياقوت في ضبطها، لقول النابغة الذبياني:
وعلى الرميثة من سكين حاضر وعلى الدثينة من بني سيار
(٢) الموطأ: ٣٦١، وفي بعض لفظه خلاف يسير، وفيه أيضًا: "فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر"، وكأنها الصواب.
50
قال: إن الله عز وجل عنى بقوله =:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" = كل محصر في إحرام، بعمرة كان إحرام المحصر أو بحج. وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله-. (١) وتأول بـ "المحل" المنحر أو المذبح، وذلك حين حل نحره أو ذبحه، في حرم كان أو في حل، وألزمه قضاء ما حل منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلا وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه صد عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة، فنحر هو وأصحابه بأمره الهدي، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده. ولم يدع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله ﷺ ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة، ولا تحفى وصول هديه إلى الحرم. (٢)
فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك = فمن متأول معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله ﷺ النقل = كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذ نزلت وفي حكم صد المشركين إياه عن البيت أوحيت. (٣)
(١) قوله: "وتأول.. " معطوف على قوله: "... قول من قال... "
(٢) في المطبوعة: "ولا يخفى وصول هديه إلى الحرم"، وهو لا معنى له. وتحفى: استقصى وبالغ وعنى في معرفة الشيء. من قولهم: "هو به حفى"، أي معنى شديد الاهتمام. هذا ما استظهرته من قراءة هذه الكلمة. والله المسدد للصواب.
(٣) في المطبوعة: "أنها يومئذ نزلت في حكم صد المشركين... " وزيادة الواو لا بد منها حتى يستقيم الكلام ويعتدل جانباه.
51
وقد روي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
٣٣٢١ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا صدق. (١)
٣٣٢٢ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا مروان، قال: حدثنا حجاج الصواف = وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، عن الحجاج الصواف = عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي ﷺ نحوه، وعن ابن عباس وأبي هريرة. (٢)
* * *
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حل منها، نظير فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.
* * *
(١) الحديث: ٣٣٢١ -حجاج بن أبي عثمان الصواف: ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٥٧٩٦ (٣: ٤٥٠ حلبي) عن يحيى القطان وعن ابن علية كلاهما عن حجاج الصواف بهذا الإسناد.
ورواه أبو داود: ١٩٦٢ من طريق يحيى عن حجاج قال المنذري: "وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه". وسيأتي عقب هذا بإسناد ثان.
(٢) الحديث: ٣٣٢٢ -مروان: هو ابن معاوية الفزاري مضت ترجمته: ١٢٢٢. والحديث مكرر ما قبله. وقد رواه الحاكم في المستدرك ١: ٤٧٠ من طريق مروان بن معاوية الفزاري بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
* ووقع في نسخة المستدرك المطبوعة"مروان حدثنا معاوية الفزاري"! وهو خطأ مطبعي، ينبغي تصحيحه.
52
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدو، إذا حل من إحرامه التطوع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء: ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء، وأسقطت عن الآخر، وكلاهما قد حل من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة؟
فإن قال: لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه
قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو، إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والآخر بمنع مانع؟ ثم يسأل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي ﷺ إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي ﷺ أنه سن في الإحصار في الحج سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبي ﷺ سن فيها ما سن، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بيّن من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحج هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
53
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله، (١) إلا أن يضطر إلى حلقه منكم مضطر، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوام أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محله، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك، فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٢٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما" أذى من رأسه"؟ قال: القمل وغيره، والصدع، وما كان في رأسه.
* * *
وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحج بالنسك، أو الإطعام، إلا بعد التكفير. وإن أراد أن يفتدي بالصوم، حلق ثم صام.
* ذكر من قال ذلك............................
٣٣٢٤ - حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن، قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة، أو يطعم المساكين،
(١) انظر ما سلف ص: ٣٦، والتعليق رقم: ١
54
وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك. (١)...........................
* * *
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٢٥ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيبا أو تداوى، كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
٣٣٢٦ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، قال: من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر. فمن كان مريضا، أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه، فحلق، ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
(١) الخبر: ٣٣٢٤ -عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري الحافظ: ثقة أخرج له الشيخان وغيرهما مات سنة ٢٣٧. وهو بصري وابن جرير ولد سنة ٢٢٤ فكانت سنة حين وفاة عبيد الله ١٣ سنة ولا يبعد سماعه منه، إلا أنه لم يرحل في طلب الحديث في هذه السن. ولم أجد ما يؤيد ظاهر هذا الإسناد: أنه سمع عبيد الله. وسيأتي هذا الإسناد في خبر آخر: ٣٣٧٤ بواسطة بين الطبري وعبيد الله، وليس يمتنع أن يروي الراوي عن شيخ مباشرة تارة وبواسطة تارة أخرى. ولني أشك في صحة مطبوعة الطبري في هذا الموضع خشية أن يكون سقط اسم شيخ بينهما.
وقد وضعت قبل هذا الأثر نقطا وبعده نقطا أخرى ليقيني أن في هذا الموضع خرم وخلط لم أستطع أن أهتدي إليه. ومع ذلك فأنا في شك من نص هذا الأثر، وأخشى أن يكون من كلام الطبري لا من كلام الحسن وسيأتي قول الحسن بهذا الإسناد في رقم: ٣٣٧٤.
هذا والإسناد هناك، "حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه... " وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره ١: ٤٤٨ فلا شك أن في هذا الإسناد نقصا أيضًا وصوابه"حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ... ".
55
٣٣٢٧ -حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٣٣٢٨ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" هذا إذا كان قد بعث بهديه، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض، وإلى طيب، وإلى ثوب يلبسه، قميص أو غير ذلك: فعليه الفدية.
٣٣٢٩ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: من أحصر عن الحج فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه، فحلق رأسه في محبسه ذلك، فعليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
٣٣٣٠ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه مرض أو خوف، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل له النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها: صيام، أو صدقة، أو نسك.
٣٣٣١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثني بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه:" فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: هذا قبل أن ينحر الهدي، إن أصابه شيء فعليه الكفارة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه،
56
فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحلاق إذا أراد حلاقه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٣٢ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فمن اشتد مرضه، أو آذاه رأسه وهو محرم، فعليه صيام، أو إطعام، أو نسك. ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ما: -
٣٣٣٣ - حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال: إن كعب بن عجرة مر بالنبي ﷺ وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبي عليه السلام:"هل عندك شاة"؟ فقال كعب: ما أجدها! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأطعم ستة مساكين، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، ثم احلق رأسك. (١)
* * *
(١) الحديث: ٣٣٣٣ -هذا الحديث إلى الحديث: ٣٣٥٨ ثم الحديث: ٣٣٦٤ كلها طرق لحديث كعب بن عجرة من أوجه مختلفة بألفاظ وسياقات ثم الحديث ٣٣٥٩ في قصة كعب أيضًا. فهو ٢٨ حديثا وجدت تخريج أكثرها. ومنها ١٠ أسانيد لم يقع إلى تخريجها فتستفاد من هذا التفسير العظيم ولعل بعضها موجود في مراجعنا ولكن لم أصل إليه.
وأرقام الأسانيد التي لم أجد تخريجها هي: ٣٣٣٣، ٣٣٣٩، ٣٣٤٣، ٣٣٤٤، ٣٣٤٩، ٣٣٥٠، ٣٣٥٥، ٣٣٥٧، ٣٣٥٨، ٣٣٥٩.
وهذا الإسناد: ٣٣٣٣ -أولها ولم أجده في موضع آخر
وعطاء في هذا الإسناد: الظاهر أنه عطاء بن أبي رباح. ويحتمل أن يكون"عطاء بن عبد الله الخراساني"، لأن الحديث سيأتي من روايته: ٣٣٥٣ عن شيخ مبهم عن كعب بن عجرة.
وأيا ما كان فهذا الإسناد ضعيف لإرساله لأن عطاء يحكي قصة في عهد رسول الله ﷺ لم يدركها، ثم لم يذكر من حدثه بها.
وسيأتي الحديث مرة أخرى ٣٣٥٧ من رواية ابن جريج عن عطاء مرسلا أيضًا.
ومعناه ثابت صحيح من الروايات الموصولة الصحيحة الآتية وفيها كثرة والحمد لله.
الصئبان جمع صاب (بضم بفتح) جمع صؤابة: وهو بيض القمل.
57
قال أبو جعفر: فأما "المرض" الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، (١) والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.
وأما" الأذى" الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، (٢) وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرة الحالة به، فيكون ذلك بعموم قول الله جل وعز:" أو به أذى من رأسه".
* * *
وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله ﷺ أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية.
* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
٣٣٣٤ - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله ﷺ بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان، فقال:"إن هذا لأذى"! قلت: أجل يا رسول الله، شديد! قال: أمعك دم؟ قلت: لا! قال: فإن شئت
(١) البرسام: ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء. ثم يتصل إلى الدماغ حتى يهذي صاحبه في علته هذه.
(٢) الشقيقة: صداع يأخذ في نصف الرأس والوجه، يداوى بالاحتجام.
58
فصمْ ثلاثة أيام، وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين، على كل مسكين نصف صاع. (١)
٣٣٣٥ - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عامر، عن كعب بن عجرة، عن النبي بنحوه.
٣٣٣٦ - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أسد بن عمرو، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة، قال: خرجت مع النبي ﷺ زمن الحديبية ولي وفرة من شعر، قد قملت وأكلني الصئبان. فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"احلق! " ففعلت، فقال:"هل لك هدي؟ " فقلت: ما أجد! فقال: إنه ما استيسر من الهدي، فقلت: ما أجد! فقال:"صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.
قال: ففي نزلت هذه الآية:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، إلى آخر الآية (٢)
(١) الحديثان: ٣٣٣٤، ٣٣٣٥ -داود: هو ابن أبي هند.
والحديث رواه احمد في المسند ٤: ٣٤٣ وأبو داود: ١٨٥٨ -كلاهما من طريق داود عن الشعبي.
الوفرة: أعظم من الجمة وهي ما جاوز شحمة الأذنين من الشعر ثم اللمة وهي ما ألم بالمنكبين والهوام واحدها هامة: وهي الحيات وأشباهها مما يهم أي يدب. والهميم الدبيب. وكنوا عن القمل بأنها هوام لأنها تهم في الرأس، أي تدب فيه وتؤذي. وآصع جمع صاع وأصلها"أصؤع" بالهمزة مضمومة (مثل جبل وأجبل) قلبت الهمزة مكان الصاد، كما قالوا في دار أدؤر وآدر (المغرب عن أبي علي الفارسي ومعيار اللغة للشيرازي) والصاع مكيال لأهل المدينة وللفقهاء اختلاف كثير في تقديره، وسيأتي (آصع) في رقم: ٣٣٤٦
(٢) الحديث: ٣٣٣٦ -أسد بن عمرو البجلي القاضي: فقيه من أصحاب أبي حنيفة وروى عنه الإمام أحمد وقال: "كان صدوقا". ووثقه ابن سعد ٧/٢/٧٤. وترجمته في التعجيل. وهو مختلف فيه جدا، بين التوثيق والتكذيب. والعدل ما قال أحمد. أشعث: هو ابن سوار الكندي. وهو ثقة. عامر: هو الشعبي.
عبد الله بن معقل بن مقرن المزني: تابعي ثقة من خيار التابعين. و"معقل": بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف. و"مقرن": بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وآخره نون.
والحديث رواه أحمد ٤: ٢٤٣ (حلبي) عن هشيم عن أشعث بهذا الإسناد. وسيأتي ٣٣٦٤، من طريق هشيم.
59
قال أبو جعفر: وهذا الخبر ينبئ عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق، وفساد قول من قال: يفتدي ثم يحلق; لأن كعبا يخبر أن النبي ﷺ أمره بالفدية، بعد ما أمره بالحلق فحلق.
* * *
٣٣٣٧ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال: أمرني رسول الله ﷺ بصيام ثلاثة أيام، أو فرق من طعام بين ستة مساكين. (١)
٣٣٣٨ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، قال: قعدت إلى كعب وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال كعب: نزلت في كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله ﷺ والقمل يتناثر على وجهي، فقال:"ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ " فقلت: لا فنزلت هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة. (٢)
(١) الحديث: ٣٣٣٧ -مؤمل: هو ابن إسماعيل. سفيان: هو الثوري.
* عبد الرحمن بن الأصبهاني: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه أحمد في المسند ٤: ٢٤٣ (حلبي) عن مؤمل بن إسماعيل، بهذا الإسناد بلفظ أطول مما هنا.
* الفرق (بفتح الراء وسكونها) : مكيال لأهل المدينة يسع ستة عشر رطلا. وفي تقديره أيضًا اختلاف كاختلافهم في الصاع. وانظر ما سيأتي رقم: ٣٣٤٦.
(٢) الحديث: ٣٣٣٨ -رواه الطيالسي في مسنده: ١٠٦٢، عن شعبة بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند ٤: ٢٤٢ (حلبي) عن محمد بن جعفر وعن عفان وعن بهز -ثلاثتهم عن شعبة.
* وكذلك رواه البخاري ٤: ١٤ (فتح) ومسلم ١: ٣٣٦- ٣٣٧، وابن ماجه: ٣٠٧٩- كلهم من طريق شعبة.
60
٣٣٣٩ - حدثني تميم، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، قال: سمعت عبد الله بن معقل المزني، يقول: سمعت كعب بن عجرة يقول: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فقال: ما كنت أرى هذا أصابك"، ثم قال: ادعوا لي حلاقا! فدعوه، فحلقني. ثم قال: أعندك شيء تنسكه عنك؟ قال: قلت لا. قال:"فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام. قال كعب: فنزلت هذه الآية في خاصة:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" ثم كانت للناس عامة. (١)
٣٣٤٠ - حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله ﷺ وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أتؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: قلت نعم! قال: احلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو اذبح شاة. (٢)
(١) الحديث: ٣٣٣٩ -تميم: هو ابن المنتصر الواسطي، شيخ الطبري. مضت ترجمته: ٨٩١.
* إسحاق الأزرق: هو إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي. ثقة معروف من شيوخ أحمد وابن معين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وشيوخه شريك: هو ابن عبد الله النخعي.
* عبد الله بن معقل المزني، كما بينا من قبل. ووقع هنا في المطبوعة"المرى" وهو تصحيف.
* وهذا الإسناد مما لم أجده -من طريق شريك- في موضع آخر.
* نسك ينسك (بضم السين) نسكا: ذبح، والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسك. والنسيكة الذبيحة.
(٢) الحديث: ٣٣٤٠ -رواه أحمد ٤: ٢٤٤ (حلبي) من طريق معمر. ورواه البخاري ٧: ٣٥١، ومسلم ١: ٣٣٦ من طريق حماد بن زيد- كلاهما عن أيوب بهذا الإسناد. وسيأتي عقب هذا، من رواية ابن علية عن أيوب وسيأتي: ٣٣٤٦، من رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح وأيوب.
61
٣٣٤١ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب بإسناده عن النبي ﷺ مثله = إلا أنه قال: والقمل يتناثر علي- أو قال: على حاجبي. وقال أيضا: أو انسك نسيكة. قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. (١)
٣٣٤٢ - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، قال: في أنزلت هذه الآية، قال: فقال لي: ادنه. فدنوت، فقال:"أيؤذيك هوامك؟ قال: أظنه قال نعم! قال: فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك، ما تيسر. (٢)
٣٣٤٣ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل عن مجاهد، عن كعب بن عجرة: أن النبي ﷺ أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوام رأسه تتناثر على وجهه، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: نعم! قال: احلق رأسك، وعليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك، تذبح ذبيحة، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تطعم ستة مساكين. (٣)
(١) الحديث: ٣٣٤١ -رواه أحمد في المسند ٤: ٢٤١ (حلبي) عن إسماعيل- وهو ابن عليه- بهذا الإسناد.
* ورواه مسلم ١: ٣٣٦، عن يعقوب بن إبراهيم -شيخ الطبري هنا- وعن علي بن حجر وزهير ابن حرب ثلاثتهم عن ابن علية.
(٢) الحديث: ٣٣٤٢- رواه مسلم ١: ٣٣٦ من طريق ابن أبي عدي عن ابن عون بهذا الإسناد.
(٣) الحديثان: ٣٣٤٣، ٣٣٤٤ -سعيد في الإسنادين: هو ابن أبي عروبة.
* صالح أبو الخليل -وفي الإسناد الثاني"عن أبي الخليل-: هو صالح بن أبي مريم وكنيته"أبو الخليل". مضت ترجمته: ١٨٩٩. ووقع في المطبوعة هنا في أولهما"عن صالح بن أبي الخليل" وفي ثانيهما"عن ابن أبي الخليل". وهو خطأ ناسخ أو طابع في زياة كلمة"بن".
* وهذان الإسنادان من طريق صالح بن أبي مريم عن مجاهد - مما لم أجده في موضع آخر.
62
٣٣٤٤ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: ذكر لنا أن النبي ﷺ أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية، ثم ذكر نحوه.
٣٣٤٥ - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني سيف، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله ﷺ وأنا بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال قلت: نعم! قال: فاحلق. قال: ففي نزلت هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". (١)
٣٣٤٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله ﷺ يوم الحديبية، وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتهافت علي، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: قلت: نعم! قال: فاحلق، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا بين ستة مساكين = قال أيوب: انسك نسيكة، وقال ابن أبي نجيح: اذبح شاة=
قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع. (٢)
(١) الحديث: ٣٣٤٥ -موسى بن عبد الرحمن المسروقي شيخ الطبري: مضت ترجمته في: ١٧٤.
* سيف: هو ابن سليمان -ويقال: ابن أبي سليمان- المخزومي المكي. وهو ثقة من شيوخ الثوري والقطان ووكيع، وأخرج له الشيخان وغيرهما.
* والحديث رواه أحمد في المسند ٤: ٢٤٣ (حلبي) عن يحيى القطان عن سيف بهذا الإسناد وكذلك رواه البخاري ٤: ١٣- ١٤، ومسلم ١: ٢٣٦ كلاهما من طريق سيف، به.
(٢) الحديث: ٣٣٤٦- رواه أحمد في المسند ٤: ٢٤٣ (حلبي) عن سفيان وهو ابن عيينة عن ابن أبي نجيح -وحده- عن مجاهد بهذا الإسناد مختصرا. ورواه أيضًا ٤: ٢٤٢ عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مطولا. وقد مضى في تخريج الحديثين: ٣٣٤٠، ٣٣٤١ رواية أحمد إياه من طريق أيوب. وأشرنا إلى هذا هناك.
ورواه مسلم ١: ٣٣٦ والترمذي ٢: ١٢٠- ١٢١ كلاهما عن ابن أبي عمر، عن سفيان ابن عيينة وابن أبي نجيح، وحميد الأعرج وعبد الكريم الأربعة عن مجاهد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
63
٣٣٤٧ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، أن رسول الله ﷺ رآه وقمله يسقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم! فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام. (١)
٣٣٤٨ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع النبي ﷺ بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون. قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيؤذيك هوام رأسك؟ " قال: قلت نعم! قال ونزلت هذه الآية:" فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". (٢)
(١) الحديث: ٣٣٤٧ -أبو عاصم: هو النبيل الضحاك بن مخلد عيسى: هو ابن ميمون المكي، مضت ترجمته في: ٢٧٨.
* والحديث رواه البخاري ٤: ١٦ (فتح) من طريق شبل، عن ابن أبي نجيح، ثم من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح، به.
* ورواه البخاري أيضًا ٧: ٣٤٣ من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح.
* وقد مضى في الذي قبله أسانيد أخر عن ابن أبي نجيح.
(٢) الحديث: ٣٣٤٨ -يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم: هو ابن بشير ابن القاسم أبو معاوية الواسطي.
* أبو بشر: هو جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه أحمد في المسند ٤: ٢٤١ (حلبي) عن هشيم، بهذا الإسناد. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ١٠٦٥ عن هشيم وأبي عوانة كلاهما عن أبي بشر، به.
64
٣٣٤٩ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، عن كعب بن عجرة، قال: لفي نزلت، وإياي عنى بها:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: قال النبي ﷺ = وهو بالحديبية، وهو عند الشجرة، وأنا محرم =: أيؤذيك هوامه؟ قلت: نعم! - أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك - فأنزل الله جل وعز:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، والنسك: شاة. (١)
٣٣٥٠ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن مجاهد، قال: قال كعب بن عجرة، والذي نفسي بيده، لفي نزلت هذه الآية، وإياي عنى بها، ثم ذكر نحوه، قال: وأمره أن يحلق رأسه.
٣٣٥١ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأك". (٢)
(١) الحديثان: ٣٣٤٩، ٣٣٥٠ -جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي.
* مغيرة: هو ابن مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين- الضبي الفقيه، ثقة أخرج له الستة.
* وهذان الإسنادان، مما لم أجده في موضع آخر. ومن البين أن فيهما انقطاعا بين مجاهد وكعب بن عجرة بينهما عبد الرحمن بن أبي ليل، كما يتبين من الأسانيد السابقة واللاحقة.
(٢) الحديث: ٣٣٥١ -هو في الموطأ ص: ٤١٧ن ولكن حذف فيه"عن مجاهد"- بين عبد الكريم الجزري وابن أبي ليلى. وكذلك هو في الموطأ رواية سويد بن سعيد، ص: ١٨٥ (من مصورة عن مخطوطة عتيقة نفيسة منه، عندي) وقال ابن عبد البر في التقصي، رقم: ٣٣٢"هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة، ليس فيه ذكر مجاهد. وسقوط مجاهد منه خطأ، لأن عبد الكريم إنما رواه عن مجاهد عن ابن أبي ليلى: وقد رواه ابن وهب وابن القاسم في الموطأ -عن مالك عن عبد الكريم، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى، عن كعب وهو الصواب". وقد أشار الحافظ في الفتح ٤: ١١ إلى رواية الموطأ هذه، وقال: "قال الدارقطني: رواه أصحاب الموطأ: عن مالك عن عبد الكريم عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدا، حتى قال الشافعي: إن مالكا وهم فيه" ثم أشار إلى روايات من رواه عن مالك على الصواب: ابن القاسم عند النسائي. وابن وهب عند الطبري - وهي هذه الرواية. وعبد الرحمن بن مهدي عند أحمد. ورواية ابن مهدي في المسند ٤: ٢٤١ (حلبي) ورواية ابن القاسم في النسائي ٢: ٢٨. وكلاهما على الصواب، كرواية الطبري -هذه- من طريق ابن وهب.
65
٣٣٥٢ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس، عن مجاهد، [عن ابن أبي ليلى]، عن كعب بن عجرة أن رسول الله ﷺ قال له: لعله آذاك هوامك؟ - يعني القمل - قال: فقلت: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة. (١)
٣٣٥٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدثه، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال: أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة، عن كعب بن عجرة أنه قال: جاءني رسول الله ﷺ وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي، ثم قال: احلق هذا، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين! وقد كان رسول الله صلى الله
(١) الحديث: ٣٣٥٢ -حميد بن قيس المكي القارئ، قارئ أهل مكة: ثقة من شيوخ مالك والثوري وأخرج له الستة.
* وقد سقط من إسناد الحديث هنا"ابن أبي ليلى" بين مجاهد وكعب بن عجرة وليس هذا من خطأ الناسخ أو الطابع، بل هو من رواة الموطأ.
* فالحديث في الموطأ ص: ٤١٧، على الصواب"مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب"- في رواية يحيى بن يحيى المعروفة وكذلك هو على الصواب في رواية سويد بن سعيد عن مالك ص: ١٨٥.
* وقال ابن عبد البر في التقصي رقم: ٤٣"هذا هو الصحيح في إسناد هذا الحديث. ومن أسقط من إسناده عن مالك، "ابن أبي ليلى"- فقد أفسد إسناده. وممن رواه كما رواه يحيى مجودا: القعنبي والشافعي وابن عبد الحكم وأبو مصعب وابن بكير والزبيري. وسقط لابن القاسم وابن وهب وابن عفير"ابن أبي ليلى" من إسناد هذا الحديث". ونحو ذلك قال الحافظ في الفتح ٤: ١١. وقد رواه البخاري ٤: ١٠- ١٢ عن عبد الله بن يوسف، عن مالك على الصواب.
66
عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (١)
٣٣٥٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن نافع، قال: حدثني أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة، قال كعب: أمرني رسول الله ﷺ حين آذاني القمل أن أحلق رأسي، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين; وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (٢)
٣٣٥٥ - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا روح، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب، قال: سمعت كعب بن عجرة يقول: أمرني - يعني رسول الله ﷺ - أن أحلق وأفتدي بشاة. (٣)
٣٣٥٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق، فسألته عن حلق رأسه؟ فقال: أحرمت فآذاني القمل. فبلغ ذلك
(١) الحديث: ٣٣٥٣ -عطاء بن عبد الله الخراساني: هو عطاء بن أي مسلم واسم أبي مسلم"عبد الله" وهو الراجح الثابت عند مالك والذي اقتصر عليه ابن أبي حاتم ٣/١/٣٣٤- ٣٣٥. وفي التهذيب قول آخر: أنه"ميسرة". وعطاء هذا: ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة.
* والحديث في الموطأ ص: ٤١٧- ٤١٨. وأشار إليه الحافظ في الفتح ولم ينسبه لغير الموطأ. ونقل عن ابن عبد البر لبيان الشيخ المبهم في الإسناد قال: "يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى، أو عبد الله بن معقل". أقول: ويحتمل أن يكون غيرهما. فالإسناد منقطع حتى نستيقن من هذا المبهم؟
(٢) الحديث: ٣٣٥٤ -يونس: هو ابن عبد الأعلى. ابن نافع: هو عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المدني، من أصحاب مالك، وهو ثقة أخرج له مسلم وتكلم بعضهم في حفظه. أسامة بن زيد الليثي المدني: ثقة أخطأ في بعض أحاديث ولكن ذلك لا يدفعه عن الاحتجاج بروايته.
* محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي: تابعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه ابن ماجه: ٣٠٨٠، عن عبد الرحمن بن إبراهيم عن عبد الله بن نافع بهذا الإسناد.
(٣) الحديث: ٣٣٥٥ -إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري البغدادي الحافظ: ثقة ثبت روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا البخاري مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد ٦: ٩٣- ٩٥ روح: هو ابن عبادة مضت ترجمته: ٣٠١٥.
* والحديث مختصر ما قبله، من هذا الوجه.
67
النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احلقه، وأطعم ستة مساكين. (١)
٣٣٥٧ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريح، قال: أخبرني عطاء أن النبي ﷺ كان بالحديبية عام حبسوا بها، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتؤذيك هذه الهوام؟ قال: نعم. قال: فاحلق واجزز، ثم صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين. قال: قلت أسمى النبي ﷺ مدين مدين؟ قال: نعم، كذلك بلغنا أن النبي ﷺ سمى ذلك لكعب، ولم يسم النسك، قال: وأخبرني أن النبي ﷺ أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبي ﷺ وأصحابه بالحلق والنحر، لا يدري عطاءكم بين الحلق والنحر. (٢)
٣٣٥٨ - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني الليث، عن ابن مسافر، عن ابن شهاب، عن فضالة بن محمد الأنصاري، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه: أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله، فأمره النبي ﷺ بصيام ثلاثة أيام. (٣)
(١) الحديث: ٣٣٥٦ -هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي: ثقة وثقه ابن معين وغيره. عنبسة: هو ابن سعيد بن الضريس -بضم الضاد المعجمة- الأسدي: ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما. الزبير بن عدي الهمداني اليامي: ثقة وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه النسائي ٢: ٢٨، من طريق عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي، بهذا الإسناد.
(٢) الحديث: ٣٣٥٧ -عطاء: الظاهر أنه ابن أبي رباح. ويحتمل أن يكون"ابن عبد الله الخراساني"، الماضي في الإسناد: ٣٣٥٣، كما بينا في: ٣٣٣٣.
(٣) الحديث: ٣٣٥٨ -ابن مسافر: هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي المصرين كان واليا على مصر سنة ١١٨، وهو ثقة ثبت أخرج له الشيخان وغيرهما.
* فضالة بن محمد الأنصاري: ثقة ترجمه البخاري في الكبير ٤/١/١٢٦، قال: "بعد في أهل المدينة. عمن حدثه عن كعب بن عجرة. روى عنه الزهري". وبنحو ذلك ترجمه بن أبي حاتم ٣/٢/٧٧.
* والحديث لم أجده في موضع آخر، إلا إشارة البخاري وابن أبي حاتم إليه، بما ذكرنا.
* ولحديث كعب عجرة أسانيد أخر، وزيادة على الأسانيد الكثيرة التي هنا:
* فمنها: رواية شعبة عن الحكم عن أبي ليلى، عن كعب -عند أحمد في المسند ٤: ٢٤١- ٢٤٢، ٢٤٣ (حلبي).
* ومنها: رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن كعب -في المسند ٤: ٢٤٢.
* ومنها: رواية وهيب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن أبي ليلى. في المسند ٤: ٢٤٢، وصحيح مسلم ١: ٣٣٦.
* ومنها: رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل المزني - في المسند ٤: ٢٤٣.
* ومنها: رواية الليث، عن نافع عن رجل من الأنصار عن كعب - عند أبي داود: ١٨٥٩.
* ومنها: رواية أبان، عن الحكم عن ابن أبي ليلى - عند أبي داود: ١٨٦٠.
* ومنها رواية ابن أبي زائدة، عن ابن الأصبهاني عن ابن معقل - عند مسلم ١: ٣٣٧.
* وانظر السنن الكبرى للبيهقي ٥: ٥٤- ٥٥، ١٦٩- ١٧٠، ١٨٥، ١٨٧، ٢١٤، ٢٤٢. ومجمع الزوائد ٣: ٢٣٤- ٢٣٥.
68
٣٣٥٩ - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو الأسود، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: سمعت شعيبا يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول الله ﷺ لكعب بن عجرة: أيؤذيك دواب رأسك؟ قال: نعم، قال: فاحلقه وافتد إما بصوم ثلاثة أيام، وإما أن تطعم ستة مساكين، أو نسك شاة" ففعل. (١)
* * *
(١) الحديث: ٣٣٥٩ - هذا إسناد صحيح. مخرمة هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج المدني: وهو ثقة تكلموا في سماعه من أبيه فجزم بعضهم بأنه لم يسمع منه، وإنما يحدث عن كتاب أبيه. وحكى ابن أبي أويس أنه وجد في ظهر كتاب مالك: أنه سأل مخرمة عن ذلك فحلف له أنه سمع من أبيه الأحاديث التي يحدث بها عنه. انظر ترجمته في التهذيب. والكبير ٤/٢/١٦؛ وابن أبي حاتم ٤/١/٣٦٣- ٣٦٤، والمراسيل لابن أبي حاتم، ص: ٨٠.
وهذا الحديث مما لم أجده في موضع آخر. إلا أن الحافظ أشار إليه في الفتح ٤: ١١، وذكر أنه رواه الطبري والطبراني. ولم أجده في مجمع الزوائد، مع أنه من شرطه، لروايته عند الطبراني.
69
قال أبو جعفر: وقد بينا قبل معنى" الفدية"، وأنها بمعنى الجزاء والبدل. (١)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه.
فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلوا بالأخبار التي ذكرناها قبل.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٦٠ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة.
٣٣٦١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، مثله.
٣٣٦٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، مثله.
٣٣٦٣ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قالا الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا.
٣٣٦٤ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا = إلا أنه قال في إطعام المساكين: ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين. (٢)
(١) انظر ما سلف ٣: ٤٣٨ - ٤٣٩
(٢) الحديث: ٣٣٦٤- مضى: ٣٣٣٦، من رواية أسد بن عمرو عن أشعث وقد أشرنا هناك إلى أنه رواه أحمد في المسند ٤: ٢٤٣، عن هشيم. فهذه رواية هشيم.
70
٣٣٦٥ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" إن صنع واحدا فعليه فدية، وإن صنع اثنين فعليه فديتان، وهو مخير أن يصنع أي الثلاثة شاء. أما الصيام فثلاثة أيام. وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأما النسك فشاة فما فوقها. نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه، فحلقه.
٣٣٦٦ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فمن كان مريضا أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق، ففدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة فرق بين ستة مساكين، أو نسك، والنسك: شاة.
٣٣٦٧ - حدثت عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق، ففدية من صيام أو صدقة، أو نسك. قال: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة: إطعام ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع. والنسك: شاة.
٣٣٦٨ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما، قال: مدا لطعامه، ومدا لإدامه.
٣٣٦٩ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة بإسناده مثله.
٣٣٧٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة.
71
٣٣٧١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب، وهو يذكر الرجل الذي نزل فيه:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه"، قال: فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الصيام: فثلاثة أيام، وأما المساكين فستة، وأما النسك فشاة.
٣٣٧٢ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة. فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله - حلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى- كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. والصيام: ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك: شاة.
٣٣٧٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قالا الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة.
* * *
وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم - من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٧٤ - حدثنا ابن أبي عمران، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء. فالصيام:
72
عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين، مكوكا من تمر، ومكوكا من بر، والنسك: شاة. (١)
٣٣٧٥ - حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: حدثنا بشر بن عمرو، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إطعام عشرة مساكين.
* * *
وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم، أو صدقة جزاء = من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله = بدلا من دم، على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده. قالوا: فكل صوم وجب مكان دم، فمثله.
قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره. فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.
* * *
وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده. فإن
(١) الخبر: ٣٣٧٤- أشرنا إلى هذا الإسناد في الخبر: ٣٣٢٤، وذكرنا هناك أنا نشك في صحة ذلك الموضع، لما فيه من رواية الطبري عن عبيد الله بن معاذ العنبري سماعا دون واسطة.
وها هو ذا يروي عنه هنا بواسطة"ابن أبي عمران". وابن أبي عمران هذا: لم نعرف من هو بعد طول البحث والتتبع. فعسى أن نجد في موضع آخر ما يدل على من هو"ابن أبي عمران" وما يكشف عن سماع الطبري من عبيد الله أو عدم سماعه منه.
والإسنادان يحتاجان إلى تحقيق.
انظر التعليق على رقم ٣٣٢٤= ص ٥٥
المكوك (بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة) مكيال لأهل العراق قدره صاع ونصف صاع.
73
لم تكن عنده قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٧٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، فأجابه بقوله: يحكم عليه إطعام، فإن كان عنده اشترى شاة، فإن لم تكن قومت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدق، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. فقال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر. قال: لما قال لي سعيد بن جبير: هذا ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم! قال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت"يجالسنا"، انتفض منها.
٣٣٧٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يحكم على الرجل في الصيد، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما، وكذلك الفدية.
* * *
وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث، يفتدي بأيها شاء.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٧٨ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فهو بالخيار، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود، فأيهما خرج أخذته.
٣٣٧٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو" فصاحبه بالخيار، يأخذ الأولى فالأولى.
74
٣٣٨٠ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: كل ما كان في القرآن:"كذا، فمن لم يجد فكذا"، فالأول فالأول. وكل ما كان في القرآن"أو كذا"" أو كذا"، فهو فيه بالخيار.
٣٣٨١ - حدثني نصير بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد - وسئل عن قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال مجاهد: إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء" أو"" أو"، فإن شئت فخذ بالأول، وإن شئت فخذ بالآخر.
٣٣٨٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال لي عطاء وعمرو بن دينار- في قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" - قالا له أيتهن شاء.
٣٣٨٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار أيّه شاء.
قال ابن جريج: قال لي عمرو بن دينار: كل شيء في القرآن" أو"" أو"، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء.
٣٣٨٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا ما كان في القرآن"أو كذا"،" أو كذا"، فصاحبه بالخيار، أي ذلك شاء فعل.
٣٣٨٥ - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا يزيد، عن سفيان، عن ليث ومجاهد، عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فهو مخير فيه، فإن كان"فمن"" فمن"، فالأول فالأول. (١)
٣٣٨٦ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أسباط بن محمد، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فليتخير أي الكفارات
(١) قوله: "فمن، فمن" أي فمن لم يجد، كما سلف في الأثر: ٣٣٨٠، ٣٣٨٦
75
شاء، فإذا كان:"فمن لم يجد"، فالأول فالأول.
٣٣٨٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال: حدثت عن عطاء، قال: كل شيء في القرآن"أو""أو" فهو خيار. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه، ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.
وللمفتدي الخيار بين أي ذلك شاء، لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أي الثلاث شاء.
ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير -إذا كان موسرا- في أن يكفر بأي الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال:"لا"، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال:"بلى"، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به. ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز.
قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة
(١) الأثر: ٣٣٨٧: أبو النعمان عارم هو محمد بن الفضل السدوسي عارم لقب له.
76
الحلق قبل الحلق، وهدي المتعة قبل التمتع، ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك - فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق - فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن اعتل في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة. قيل له: فرد الأخرى قياسا عليها، إذ كان فيها اختلاف. (١)
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى: من الصيام عشرة أيام، ومن الإطعام عشرة مساكين، فمخالفون نص الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سووا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية، وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية - من الإطعام والصيام. وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف.
وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام.
قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملا من الأعمال، وتركتم رد الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف،
(١) في المطبوعة: "إن كان فيها اختلاف"، والصواب ما أثبت.
77
ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك = وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك، لاختلاف أمرهما فيما وصفنا = فرق من أصل أو نظير؟
فلن يقولوا في ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟
* * *
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته.
فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٨٨ - حدثني يحيى بن طلحة، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء.
٣٣٨٩ - حدثني يحيى بن طلحة، حدثنا فضيل، عن ليث، عن طاوس، قال: كل شيء من الحج فبمكة، إلا الصوم.
٣٣٩٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سألت عطاء عن النسك، قال: النسك بمكة لا بد.
٣٣٩١ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: الصدقة والنسك في الفدية بمكة، والصيام حيث شئت.
٣٣٩٢ - حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا ليث، عن طاوس
78
أنه كان يقول: ما كان من دم أو إطعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء.
٣٣٩٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبل، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى.
٣٣٩٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى، والطعام بمكة.
* * *
وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي.
* ذكر من قال ذلك:
٣٣٩٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، قال: أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان ومعه علي والحسين بن علي رضوان الله عليهم، فارتحل عثمان = قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر = قال: فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلنا له: أيها النائم! فاستيقظ، فإذا الحسين بن علي. قال: فحمله ابن جعفر حتى أتى به السقيا. قال: فأرسل إلى علي، فجاء ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: فقال علي للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ إلى رأسه. قال: فأمر به علي فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنحرها. (١)
(١) الخبر: ٣٣٩٥ - يحيى بن سعيد: هو الأنصاري النجاري مضت ترجمته: ٢١٥٤.
يعقوب بن خالد: ترجم في الكبير ٤/٢/٣٩٤، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٠٧. والتعجيل ص: ٤٥٦ باسم"يعقوب بن خالد بن المسيب المخزومي"، ولكن سيأتي في الإسناد التالي، أنه: "يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب"، فيستفاد منه رفع نسبه، ويكون في تلك الكتب منسوبا لجده الأعلى. وهو ثقة، لم يذكر فيه البخاري ولا ابن أبي حاتم جرحا.
أبو أسماء مولى عبد الله بن جعفر: تابعي ثقة. مترجم في الكنى للبخاري، رقم: ٢٢، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣٣٣، والتعجيل.
وهذا الخبر نقله ابن كثير ١: ٤٤٩.
79
٣٣٩٦ - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر، يحدث: أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن علي، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس. قال أبو أسماء: فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع، فقال عبد الله بن جعفر: إن هذه لراحلة حسين. فلما دنا منه قال له: أيها النائم! وهو يظن أنه نائم; فلما دنا منه وجده يشتكي، فحمله إلى السقيا، ثم كتب إلى علي فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة. ثم إن عليا قيل له: هذا حسين يشير إلى رأسه، فدعا علي بجزور فنحرها، ثم حلق رأسه. (١)
٣٣٩٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: أقبل حسين بن علي مع عثمان حراما - حسبت أنه اشتكى بالسقيا = فذكر ذلك لعلي: فجاء هو وأسماء بنت عميس، فمرضوه عشرين ليلة، فأشار حسين إلى رأسه، فحلقه ونحر عنه جزورا. قلت: فرجع به؟ قال: لا أدري.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر علي عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه، ثم حلقه رأسه بعد النحر- إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد، كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن
(١) الخبر: ٣٣٩٦ -مجاهد بن موسى بن فروخ، شيخ الطبري: مضت ترجمته: ٥١٠ ووقع في المطبوعة هنا"مجاهد بن يونس" وهو خطأ يقينا، فليس في التراجم من يسمى بهذا. وشيخه"يزيد": هو يزيد بن هارون.
والخبر مكرر ما قبله، بنحوه.
80
الحج بالمرض الذي أصابه - وإن كان على ما رواه يعقوب، عن هشيم: من نحر علي عنه الناقة بعد حلقه رأسه: أن يكون على وجه الافتداء من الحلق، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزئ نحره دون مكة والحرم.
٣٣٩٨ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفدية حيث شئت.
٣٣٩٩ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن الحكم، عن إبراهيم - في الفدية، في الصدقة والصوم والدم-: حيث شاء.
٣٤٠٠ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن إبراهيم أنه كان يقول، فذكر مثله.
* * *
وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٠١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، وعبد الملك، وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال:" الدم والإطعام بمكة"، القياس على هدي جزاء الصيد. وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة، فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: ٩٥]. قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة
81
لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد.
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحق ذلك الاسم كان مؤديا ما كلفه الله. لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة، لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه، دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.
وأما علة من قال:" النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء"، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة. فليس لأحد أن يدعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه؛ كما ليس لأحد أن يدعي أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خص أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام، فيجزي عن المفتدي. وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يحب أن يكن مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها.
فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز رد حكمها على المفسرة قياسا.
82
ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل، إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله.
* * *
وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.
* * *
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟
فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدق بجميعه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٠٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك، عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهن: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين.
٣٤٠٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن سالم، عن عطاء قال: لا تأكل من فدية ولا من جزاء، ولا من نذر، وكل من المتعة، ومن الهدي والتطوع.
٣٤٠٤ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن سالم، عن مجاهد، قال: جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوع والتمتع.
٣٤٠٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن الحجاج، عن عطاء، قال: لا تأكل من جزاء، ولا من فدية، وتصدق به.
٣٤٠٦ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك.
83
٣٤٠٧ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ولا من الفدية، ويؤكل مما سوى ذلك.
٣٤٠٨ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا: لا يؤكل من الفدية = وقال مرة: من هدي الكفارة، ولا من جزاء الصيد.
* * *
وقال بعضهم: له أن يأكل منه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٠٩ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك.
٣٤١٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، قال: من الفدية وجزاء الصيد والنذر. (١)
٣٤١١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء، ويتصدق على ستة مساكين.
٣٤١٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني عبد الملك، قال: حدثني من سمع الحسن، يقول: كل من ذلك كله - يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية.
٣٤١٣ - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا الأشعث عن الحسن: أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين.
* * *
(١) يعني: يأكل من الفدية وجزاء الصيد والنذر، كما سيأتي قول الحسن في رقم: ٣٤١٢، ٣٤١٣.
84
قال أبو جعفر: وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره.
فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له.
= أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه. لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال:" وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة"، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه.
= أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك، غير جائز أن يكون عليه، لما وصفنا.
وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.
قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.
* * *
وعلة من قال:" له أن يأكل من ذلك"، أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي، وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية. قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحب منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته.
* * *
قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه
85
دون غيره، أو ذبحه والتصدق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به. فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدق به، كما لو لزمته زكاة في ماله، لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم - على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره - دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.
* * *
ومعنى" النسك"، الذبح لله، في لغة العرب، يقال:" نسك فلان لله نسيكة" = بمعنى: ذبح لله ذبيحة =" ينسكها نسكا"، (١) كما:-
٣٤١٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النسك: أن يذبح شاة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤١٥ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:" فإذا أمنتم" فإذا برأتم.
(١) وانظر أيضًا ما سلف في الجزء ٣: ٧٥- ٨٠، في معنى"المناسك".
86
٣٤١٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" يقول: فإذا أمنت حين تحصر، إذا أمنت من كسرك، ومن وجعك، فعليك أن تأتي البيت، فيكون لك متعة، فلا تحل حتى تأتي البيت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من خوفكم. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٣٤١٧ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإذا أمنتم" لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ.
٣٤١٨ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فإذا أمنتم" قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أشبه بتأويل الآية. لأن" الأمن" هو خلاف" الخوف"، لا خلاف" المرض"، (٢) إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد.
وإنما قلنا: إن معناه: الخوف من العدو، لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله ﷺ أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم.
* * *
(١) في المطبوعة: "فإذا أمنتم من وجع خوفكم" ولفظ"وجع" مقحمة ولا شك، وهي تفسد الكلام والتقسيم معا، فذلك طرحتها.
(٢) انظر ما سلف في الجزء ٣: ٢٩- ٣٠، تفسير معنى"الأمن".
87
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة" التمتع" الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج، أو مرض، أو عائق من العلل، حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأول إلى إحرامه الثاني من القابل.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤١٩ - حدثنا عمران بن موسى البصري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبير وهو يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحصره عدو أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحج ويهدي هديا، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج.
٣٤٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان ابن الزبير يقول: المتعة لمن أحصر، قال: وقال ابن عباس: هي لمن أحصر ومن خليت سبيله.
88
٣٤٢١ - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال عطاء: كان ابن الزبير يقول: إنما المتعة للمحصر وليست لمن خلي سبيله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم = وقد حللتم من إحرامكم، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج، ثم حللتم، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم = فعليكم ما استيسر من الهدي.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٢٢ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة: (١) " فإن أحصرتم"، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، قال: يبعث بما استيسر من الهدي، شاة. قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله وحلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك =" فإذا أمنتم"، فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت، حل من حجه بعمرة وكان عليه الحج من قابل. وإن هو رجع ولم يتم إلى البيت من وجهه ذلك، فإن عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة. فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج، فإن عليه ما استيسر من الهدي، شاة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس في ذلك كله.
٣٤٢٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، قال: هذا رجل أصابه خوف
(١) في المطبوعة: "عن إبراهيم بن علقمة" وهو خطأ والصواب ما أثبت وانظر ما سلف قريبا رقم: ٣٤١٥.
89
أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه، (١) فإذا بلغت محلها صار حلالا فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة، وأحل، وعليه الحج عاما قابلا. وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله، فعليه عمرة وحجة وهدي. قال قتادة: [وهي] والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا. (٢)
٣٤٢٤ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" إلى:" تلك عشرة كاملة"، قال: هذا المحصر إذا أمن، فعليه المتعة في الحج وهدي المتمتع، فإن لم يجد فالصيام، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحج، فعليه فيها هدي.
٣٤٢٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج، فعليه الهدي.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك المحصر وغير المحصر.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٢٦ - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول:
(١) مضى برقم: ٣٢٣١، بهذا الإسناد، وفي لفظه خلاف، وهو مختصر هذا وفيه: ".. أو حابس حبسه عن البيت، يبعث بهديه".
(٢) الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها. وقوله: "لا يتعاجم الناس... " أي لا يشك الناس ولا يتنازعون ولا يختلفون في بيانها وفي حديث ابن مسعود: "ما كنا نتعاجم أن ملكا ينطق على لسان عمر"، أي كنا نفصح بذلك إفصاحا، فلا نكنى ولا نورى وجاء في حديث على ما يفسره وهو قوله: "كنا أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر". وأصل هذا الحرف من قولهم: "استعجم عليه الأمر" أي: استبهم والتبس، فإذا التبس الأمر صار موضعا للشك والتنازع.
90
المتعة لمن أحصر، ولمن خُلِّي سبيله. وكان ابن عباس يقول: أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٢٧ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي"، أما المتعة فالرجل يحرم بحجة، ثم يهدمها بعمرة. وقد خرج رسول الله ﷺ في المسلمين حاجا، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب منكم أن يحل فليحل، قالوا: فما لك يا رسول الله! قال: أنا معي هدي.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك: الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلاله إلى إحرامه بالحج.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٢٨ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج"، من يوم الفطر إلى يوم عرفة، فعليه ما استيسر من الهدي.
٣٤٢٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٤٣٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب = وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب = عن نافع، قال: قدم ابن عمر مرة في شوال، فأقمنا حتى حججنا، فقال: إنكم قد
91
استمتعتم إلى حجكم بعمرة، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد، ومن لا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
٣٤٣١ - حدثنا ابن بشار، وعبد الحميد بن بيان = قال ابن بشار: حدثنا، وقال عبد الحميد: أخبرنا = يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن نافع، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال، فأدركهما الحج وهما بمكة، فقال ابن عمر: من اعتمر معنا في شوال ثم حج، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
٣٤٣٢ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحج، فساق هديا تطوعا، فقدم مكة في أشهر الحج، قال: إن لم يكن يريد الحج، فلينحر هديه، ثم ليرجع إن شاء، فإن هو نحر الهدي وحل، ثم بدا له أن يقيم حتى يحج، فلينحر هديا آخر لتمتعه، فإن لم يجد فليصم.
٣٤٣٣ - حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، مثل ذلك.
٣٤٣٤ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول: من اعتمر في شوال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحج، فهو متمتع، عليه ما على المتمتع.
٣٤٣٥ - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن عطاء مثل ذلك.
٣٤٣٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فما استيسر من الهدي.
٣٤٣٧ - حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع، قال:
92
أخبرني ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: المتعة لخلق الله أجمعين، الرجل، والمرأة، والحر، والعبد، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحج ثم أقام ولم يبرح حتى يحج، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت" المتعة"، من أجل أنه اعتمر في شهور الحج، فتمتع بعمرة إلى الحج، ولم تسم" المتعة" من أجل أنه يحل بتمتع النساء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حل من إحرامه بالحج - بسبب الإحصار، بعمرة اعتمرها لفوته الحج في السنة القابلة في أشهر الحج - إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج = فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحج وقضاها ثم حل من عمرته وأقام حلالا حتى يحج من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" هو ما وصفنا، من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحج والعمرة من الأحكام في إحصاره. فكان مما أخبر تعالى ذكره: أنه عليه - إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحج - ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وكان معلوما (١) بذلك أنه معني به اللازم له - عند أمنه من إحصاره - من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه، دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.
* * *
(١) في المطبوعة: "كان معلومًا بذلك" وزيادة الواو واجبة.
93
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فما استيسر من الهدي، فهديه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حل منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها، وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج في حجه، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهن في الحج: أي في أيام الحج هن.
فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أي أيام شاء، بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٣٨ - حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
٣٤٣٩ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (١)
(١) الخبر: ٣٤٣٩ -إبراهيم بن إسماعيل بن نصر: هو التبان. ترجمه ابن أبي حاتم ١/١/٨٥، وذكر أنه يروي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة. وستأتي رواية أخرى له، بهذا الإسناد: ٣٤٨٤. ورواية ثالثة: ٣٥٢١، وزاد في نسبته هناك"السلمي" ولم تذكر هذه في ابن أبي حاتم ولم أجد له ترجمة عند غيره.
ابن أبي حبيبة: هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري وهو ثقة تكلم فيه البخاري وغيره، ووثقه أحمد وغيره. ورجحنا في شرح المسند: ٢٧٢٧ أن حديثه حسن على الأقل.
94
٣٤٤٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فاته صامها أيام منى.
٣٤٤١ - حدثنا الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن عروة، قال: المتمتع يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
٣٤٤٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: آخرهن يوم عرفة.
٣٤٤٣ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج، قال: يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
٣٤٤٤ - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" أنه قال: آخرها يوم عرفة.
٣٤٤٥ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا هُشيم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي: صام يوما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة.
٣٤٤٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، وهارون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر
95
إلى يوم عرفة.
قال: وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه.
٣٤٤٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صوم ثلاثة أيام للمتمتع، إذا لم يجد ما يهدي، يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه، فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.
٣٤٤٨ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب بن عطاء، أن عطاء بن أبي رباح، كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم.
٣٤٤٩ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
٣٤٥٠ - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود = وحدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود = عن عامر في هذه الآية:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
٣٤٥١ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج" آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة.
٣٤٥٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٤٥٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر.
96
٣٤٥٤ - حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: فآخرها يوم عرفة.
٣٤٥٥ - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
٣٤٥٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن عطاء:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
٣٤٥٧ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: عرفة وما قبلها من العشر.
٣٤٥٨ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، قالا" صيام ثلاثة أيام في الحج"، في العشر، آخرهن عرفة.
٣٤٥٩ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، قال: سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: آخرهن يوم عرفة.
٣٤٦٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" إلى:" وسبعة إذا رجعتم"، وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
٣٤٦١ - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا زياد بن المنذر، عن أبي جعفر:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
* * *
97
وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٦٢ - حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.
٣٤٦٣ - حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى.
٣٤٦٤ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحج، فليصم أيام التشريق فإنهن من الحج.
٣٤٦٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن محمد أن نافعا حدثه: أن عبد الله بن عمر قال: من اعتمر في أشهر الحج فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق، فليصم أيام منى.
٣٤٦٦ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة = وعن سالم، عن عبد الله بن عمر = أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا.
٣٤٦٧ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا هشام، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق، فإنها من أيام الحج.
وذكر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال:
٣٤٦٨ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن هشام
98
بن عروة، عن أبيه في هذه الآية:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: هي أيام التشريق.
٣٤٦٩ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن وبرة، عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة =. قال: وقال عبيد بن عمير: يصوم أيام التشريق.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال:" آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهن في الحج على من لم يجد الهدي من المتمتعين - يوم عرفة"، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهن في الحج بقوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج". قالوا: وإذا انقضى يوم عرفة، فقد انقضى الحج، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام. قالوا: وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر. قالوا: فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه ليس من أيام الحج، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحج، لأن أيام الحج متى انقضت من سنة، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها. أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه يوم عيد، فأيام التشريق التي بعده في معناه، لأنها أيام عيد، وأن النبي ﷺ قد نهى عن صومهن، كما نهى عن صوم يوم النحر.
قالوا: وإذا كان يفوت صومهن بمضي يوم عرفة، لم يكن إلى صيامهن في الحج سبيل; لأن الله شرط صومهن في الحج، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته.
* * *
وعلة من قال:" آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى"، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلا. قالوا: وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر، ولو كان له واجدا قبل ذلك. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلا. قالوا: والوقت الذي يلزمه
99
فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره. قالوا: فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك، وإنما لزمه يوم النحر، فإنما لزمه الصوم يوم النحر، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده، فوجب عليه الصوم. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر. وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر. ومن ذلك الوقت إذا لم يجده، يكون له الصوم. قالوا: وإذا طلع فجر يوم لم يلزمه صومه قبل ذلك، إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق.
قالوا: ولا معنى لقول القائل: إن أيام منى ليست من أيام الحج; لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحج، كما ينسك غير ذلك من أعمال الحج في الأيام قبلها. قالوا: هذا مع شهادة الخبر الذي:-
٣٤٧٠ - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: رخص رسول الله ﷺ للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر، أن يصوم أيام التشريق مكانها. (١)
(١) الحديث: ٣٤٧٠ - يحيى بن سلام البصري نزيل مصر: ثقة، قال ابن أبي حاتم ٤/٢/١٥٥: "سألت أبي عنه؟ فقال: كان شيخا بصريا وقع إلى مصر، وهو صدوق". وله ترجمة جيدة في طبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: ٣٧- ٣٩ وقال أبو العرب: "كان ثقة ثبتا، لقى غير واحد من التابعين وأكثر من لقى الرجال والحمل عنهم. وله مصنفات كثيرة في فنون العلم، وكان من الحفاظ". وذكر أنه مات بمصر سنة ٢٠٠. وفي لسان الميزان أنه ضعفه الدارقطني. ولكن أهل المغرب أعلم بحال رواتهم وكانت مصر تعتبر من بلاد المغرب.
ابن أبي ليلى: هو عبد الله بن أبي ليلى، وهو ثقة ثبت أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٤٢٧، بهذا الإسناد نفسه: عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم مع شيء من الاختصار في اللفظ.
وأصل معناه ثابت في البخاري ٤: ٢١١، موقوفا. فرواه عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة: "سمعت عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي". وروى مالك في الموطأ ص: ٤٢٦ نحو معناه عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة - وعن ابن شهاب عن سالم عن أبيه.
وقول عائشة وابن عمر"لم يرخص": هو بضم الياء، كما رواه الحافظ من أصحاب شعبة - فيما ذكر الخافظ في الفتح: وهو عندنا مرفوع حكما، إن لم يكن مرفوعا لفظا. لأن الصحابي إذا قال ذلك فإنما يريد به من له حق الترخيص والمنع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بحث الحافظ في هذا الموضع بحثا جيدا في ذلك.
وذكر الحافظ رواية يحيى بن سلام هذه، نقلا عن الدارقطني والطحاوي.
100
= لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه.
٣٤٧١ - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة بن قيس، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكرٍ لله، إلا من كان عليه صوم من هدي. (١)
* * *
واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، والوقت الذي يجوز له فيه صومهن، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن.
فقال بعضهم: له أن يصومهن من أول أشهر الحج.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٧٢ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وطاوس: أنهما كانا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه. قال: وقال مجاهد: إذا لم يجد المتمتع ما يهدي، فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة، متى ما صام أجزأه. فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.
(١) الحديث: ٣٤٧١ - سفيان بن حسين الواسطي: ثقة، تكلموا في روايته عن الزهري خاصة"فإن فيها تخاليط يجب أن يجانب، وهو ثقة في غير الزهري"- كما قال ابن حبان.
وهذا الحديث مرسل، لم يذكر الزهري من رواه عنه.
101
٣٤٧٣ - حدثني أحمد بن المغيرة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: من صام يوما في شوال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة، أجزأه عنه من صوم التمتع. (١)
٣٤٧٤حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: إن شاء صام أول يوم من شوال.
٣٤٧٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قول الله جل وعز:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: إن شاء صامها في العشر، وإن شاء في ذي القعدة، وإن شاء في شوال.
* * *
وقال آخرون: يصومهن في عشر ذي الحجة دون غيرها.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٧٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء: يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة.
٣٤٧٧ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة، فليصم.
٣٤٧٨ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال.
٣٤٧٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الحجاج، عن أبي جعفر، قال: لا يصام إلا في العشر.
(١) الخبر: ٣٤٧٣ - أحمد بن المغيرة، شيخ الطبري: لم أعرف من هو، ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا.
102
٣٤٨٠ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا الربيع، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: في تسع من ذي الحجة أيها شئت، فمن صام قبل ذلك في شوال وفي ذي القعدة، فهو بمنزلة من لم يصم.
* * *
وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٨١ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين.
٣٤٨٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال.
* * *
وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهن إلا بعد ما يحرم بالحج.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٨٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يصومهن إلا وهو حرام.
٣٤٨٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (١)
٣٤٨٥ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو
(١) الأثر: ٣٤٨٤: انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ٣٤٣٩.
103
متمتع إلا أن يحرم. وقال مجاهد: يجزيه إذا صام في ذي القعدة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهن لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي، من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه، إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله، أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.
وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قبل، (١) فإن صامهن قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته. وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم" متمتع" بعمرته إلى حجه. وإنما يقال له قبل إحرامه" معتمر"، حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة. فإذا دخل في الحج محرما به - بعد قضاء عمرته في أشهر الحج، ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالا حتى حج من عامه - سمي"متمتعا". فإذا استحق اسم"متمتع" لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده.
فأما إن صامه قبل دخوله في الحج - وإن كان من نيته الحج- فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين، ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.
(١) في المطبوعة: "قيل" مكان"قبل" وهو خطأ وتصحيف بلا معنى.
104
فإن ظن ظان أن صوم المعتمر- بعد إحلاله من عمرته، أو قبله، وقبل دخوله في الحج - مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ. لأن الله جل ثناؤه جعل لليمين تحليلا هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها، محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم، تكفيرا لما يظن أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه.
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟
فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحج التي أوجب الله في تضييعه على المحرم، أو في فعله، كفارة، فإن سوى بين جميع ذلك قاد قوله، (١)
وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح، إذا كفر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسأل: عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن قاد قوله في ذلك، (٢) خرج من قول جميع الأمة.
(١) في المطبوعة في الموضعين: "قاد قوله" بالفاء وهو تصحيف غث جدا، وجاء بعض من علق على تفسير الطبري فقال: "لعله يريد اضطراب قولهن قال في اللسان: فاد يفيد فيدا: تبختر، وقيل: هو أن يحذر شيئا فيعدل عنه جانبا"!! فصار معنى الكلام أعرق في الغثاثة من تصحيف لفظه!
(٢) والصواب ما أثبت، يقال: "قاد قوله" أي استقام به على نهجه الذي نهجه، ولم يخالف منطقته فيه ولا سياقه. وذلك من قولهم: قاد الفرس قودا. وهذا المجاز قد استعمله قدماء الفقهاء والمتكلمين والمناطقة يقولون: "هذا لا يستقيم على قود كلامك" أي: على سياقه ونهجه.
105
وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحج، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.
فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحج إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟
قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهن بمكة، كان مؤديا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر.
وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٨٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق.
٣٤٨٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان،
106
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله.
٣٤٨٨ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، نحوه.
٣٤٨٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إن شاء صامها في الطريق، وإنما هي رخصة.
٣٤٩٠ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، قال: إن شئت صم السبعة في الطريق، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك.
٣٤٩١ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن فطر، عن عطاء، قال: يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحب إلي.
٣٤٩٢ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إن شئت في الطريق، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك.
* * *
فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله:" وسبعة إذا رجعتم" إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم = دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟
قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره.
* ذكر بعض من قال ذلك:
٣٤٩٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إذا رجعت إلى أهلك.
107
٣٤٩٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" وسبعة إذا رجعتم" إذا رجعتم إلى أمصاركم.
٣٤٩٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
٣٤٩٧ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير:" وسبعة إذا رجعتم" قال: إلى أهلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" كاملة".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي.
* ذكر من قال ذلك:
٣٤٩٨ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن في قوله:" تلك عشرة كاملة"، قال: كاملة من الهدي.
٣٤٩٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه، ولم يحل ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الأمر، وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله:" تلك عشرة كاملة" تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها.
* * *
108
وقال آخرون: بل قوله:" كاملة"، توكيد للكلام، كما يقول القائل:" سمعته بأذني، ورأيته بعيني"، وكما قال: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل: ٢٦] ولا يكون" الخر" إلا من فوق، فأما من موضع آخر، فإنما يجوز على سعة الكلام.
* * *
وقال آخرون: إنما قال:" تلك عشرة كاملة"، وقد ذكر"سبعة" و"ثلاثة"، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة، وليس يخبر عن عدتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله:"كاملة" إنما هو وافية؟.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي [بالصواب] قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله" ذلك"، أي التمتع بالعمرة إلى الحج، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما:-
٣٥٠٠ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، يعني المتعة أنها لأهل الآفاق، ولا تصلح لأهل مكة.
109
٣٥٠١ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم.
فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٠٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، قال: قال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم.
٣٥٠٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مجاهد:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: أهل الحرم.
٣٥٠٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا عن ابن عباس في قوله:" حاضري المسجد الحرام"، قال: هم أهل الحرم، والجماعة عليه.
٣٥٠٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة، إنه لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا = أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديا = ثم يهل بعمرة.
٣٥٠٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون، فيقدمون
110
في أشهر الحج ثم يحجون، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام، أرخص لهم في ذلك، لقول الله عز وجل:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام".
٣٥٠٧ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أهل الحرم.
٣٥٠٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: المتعة للناس، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم، وذلك قول الله عز وجل:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. (١) بالكلام
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٠٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: من كان دون المواقيت.
٣٥١٠ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله = إلا أنه قال: ما كان دون المواقيت إلى مكة.
٣٥١١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عطاء، قال: من كان أهله من دون المواقيت، فهو كأهل مكة لا يتمتع.
* * *
(١) الأثر: ٣٥٠٨ - في تفسير ابن كثير ١: ٤٥٣: "المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم" وفي الدر المنثور ١: ٢١٧: "المتعة للناس، إلا لأهل مكة هي لمن لم يكن أهله في الحرم". والصواب ما في نص الطبري.
111
وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منزله منه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥١٢ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، ونخلتان.
٣٥١٣ - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: عرفة ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع.
٣٥١٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في هذه الآية قال: اليوم واليومين.
٣٥١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع.
٣٥١٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء: أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام".
٣٥١٧ - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: أهل مكة وفج وذي طوي، وما يلي ذلك فهو من مكة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات. لأن"حاضر الشيء"، في كلام العرب، هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك = وكان لا يستحق أن يسمى"غائبا"، إلا من كان مسافرا
112
شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم"غائب" عن وطنه ومنزله = كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة، غير مستحق أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام، من أجل أن"التمتع" إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحج، مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحج. وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحج، ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حج من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا. لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع، من ترك العود إلى الميقات، والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم. وكان المكي من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك، من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.
* * *
113
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل اسمه:" واتقوا الله"، بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرم فيها عليكم."واعلموا": تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.
* * *
114
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وقت الحج أشهر معلومات.
* * *
"والأشهر" مرفوعات بـ "الحج"، وإن كان له وقتا، لا صفة ونعتا، إذ لم تكن محصورات بتعريف، بإضافة إلى معرفة أو معهود، فصار الرفع فيهن كالرفع في قول العرب في نظير ذلك من المحل:" المسلمون جانب، والكفار جانب"، برفع الجانب الذي لم يكن محصورا على حد معروف. ولو قيل:"جانب أرضهم، أو بلادهم"، لكان النصب هو الكلام. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" الحج أشهر معلومات".
(١) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن لفراء ١: ١١٩.
114
فقال بعضهم: يعني بـ "الأشهر المعلومات": شوالا وذا القعدة، وعشرا من ذي الحجة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥١٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
٣٥١٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وشريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
٣٥٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، مثله.
٣٥٢١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. (١)
٣٥٢٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الحج أشهر معلومات"، وهن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر.
٣٥٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:" الحج أشهر معلومات"، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
٣٥٢٥ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا
(١) سقط من ترقيمنا رقم: ٣٥٢٢.
115
حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = قال: أخبرنا الثوري عن المغيرة، عن إبراهيم مثله.
٣٥٢٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي مثله.
٣٥٢٧ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وإسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
٣٥٢٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، مثله.
٣٥٢٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، مثله.
٣٥٣٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٥٣١ - حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس = وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي = وأخبرنا يونس، عن الحسن = وأخبرنا جويبر، عن الضحاك = وأخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد، مثله. (١)
٣٥٣٢ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة في" الحج أشهر معلومات".
٣٥٣٣ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ورقاء،
(١) الأثر: ٣٥٣١ - القائل: "وأخبرنا مغيرة... = وأخبرنا جويبر... = إلخ" هو هشيم.
116
عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
٣٥٣٤ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
٣٥٣٥ - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.
* * *
وقال آخرون: بل يعني بذلك شوالا وذا القعدة، وذا الحجة كله.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٣٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أكان عبد الله يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
٣٥٣٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، كان يسمي شوالا وذا القعدة، وذا الحجة.
٣٥٣٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
٣٥٣٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء:" الحج أشهر معلومات"، قال عطاء: فهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
٣٥٤٠ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
٣٥٤١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
117
قوله:" الحج أشهر معلومات" أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة = وربما قال: وعشر ذي الحجة.
٣٥٤٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
٣٥٤٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، مثله.
٣٥٤٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما وجه قائلي هذه المقالة، وقد علمت أن عمل الحج لا يعمل بعد تقضي أيام منى؟
قيل: إن معنى ذلك غير الذي توهمته، وإنما عنوا بقيلهم: الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن أشهر الحج لا أشهر العمرة، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة. ومما يدل على أن ذلك معناهم في قيلهم ذلك ما:-
٣٥٤٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: أن تفصلوا بين أشهر الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته.
٣٥٤٦ - حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا شعبة، قال: ما لقيني - أيوب أو قال: ما لقيت أيوب - إلا سألني عن حديث قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قلت لعبد الله: امرأة منا قد حجت، أو هي تريد أن تحج، أفتجعل مع حجها عمرة؟ فقال: ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحج. قال: فيقول لي أيوب ومن عنده: مثل هذا الحديث حدثك قيس
118
بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد الله؟ !.
٣٥٤٧ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له: العمرة في المحرم؟ فقال: كانوا يرونها تامة.
٣٥٤٨ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن عون، قال: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج، قال: كانوا لا يرونها تامة.
٣٥٤٩ - حدثنا ابن بيان الواسطي، قال: أخبرنا إسحاق عن عبد الله بن عون، عن ابن سيرين أنه كان يستحب العمرة في المحرم، قال: تكون في أشهر الحج؟ قال: كانوا لا يرونها تامة.
٣٥٥٠ - حدثنا ابن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: قال ابن عمر للحكم بن الأعرج أو غيره: إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
٣٥٥١ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي يعقوب، قال: سمعت ابن عمر يقول: لأن أعتمر في عشر ذي الحجة أحب إلي من أن أعتمر في العشرين.
٣٥٥٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تجمع مع حجها عمرة، فقال: أسمع الله يقول:" الحج أشهر معلومات" ما أراها إلا أشهر الحج.
٣٥٥٣ - حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا حزام القطعي، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما أحد من أهل العلم شك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج.
119
= ونظائر ذلك مما يطول باستيعاب ذكره الكتاب، مما يدل على أن معنى قيل من قال: وقت الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن من غير شهور العمرة، وأنهن شهور لعمل الحج دون عمل العمرة، وإن كان عمل الحج إنما يعمل في بعضهن لا في جميعهن.
* * *
وأما الذين قالوا: تأويل ذلك: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، فإنهم قالوا: إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله:" الحج أشهر معلومات" إلى تعريف خلقه ميقات حجهم، لا الخبر عن وقت العمرة. قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه اعتمر في بعض شهور الحج، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الحج ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة، علم أن معنى قوله:" الحج أشهر معلومات" إنما هو ميقات الحج، شهران وبعض الثالث.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: إن معنى ذلك: الحج شهران وعشر من الثالث; لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحج، ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لم يكن معنيا به جميعه، صح قول من قال: وعشر ذي الحجة.
* * *
فإن قال قائل: فكيف قيل:" الحج أشهر معلومات" وهو شهران وبعض الثالث؟
قيل: إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول:" له اليوم يومان منذ لم أره"، وإنما تعني بذلك: يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: ٢٠٣] وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة، ثم يخرجه
120
عاما على السنة والشهر، فيقول:" زرته العام، وأتيته اليوم"، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك، وفي ذلك الحين، فكذلك" الحج أشهر"، والمراد منه: الحج شهران وبعض آخر. (١)
* * *
فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" فمن فرض فيهن الحج"، فمن أوجب الحج على نفسه وألزمها إياه فيهن - يعني: في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله، وترك جميع ما أمره الله بتركه.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحج، بعد إجماع جميعهم، على أن معنى" الفرض": الإيجاب والإلزام.
فقال بعضهم: فرض الحج الإهلال.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٥٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد الله المدني بن دينار، عن ابن عمر قوله:" فمن فرض فيهن الحج" قال: من أهل بحج.
٣٥٥٥ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال:
(١) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء ١: ١٥٢.
121
أخبرنا عبد الرزاق = قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن عطاء، قال: التلبية.
٣٥٥٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران = وحدثنا علي، قال: حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان الثوري:" فمن فرض فيهن الحج" قال: فالفريضة الإحرام، والإحرام التلبية.
٣٥٥٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم - يعني ابن مهاجر-، عن مجاهد:" فمن فرض فيهن الحج" قال: الفريضة: التلبية.
٣٥٥٨ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:" فمن فرض فيهن الحج" قال: أهل.
٣٥٥٩ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الفرض التلبية، ويرجع إن شاء ما لم يحرم.
٣٥٦٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فمن فرض فيهن الحج" قال: الفرض: الإهلال.
٣٥٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:" فمن فرض فيهن الحج" قال: التلبية.
٣٥٦٢ - حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن جبر بن حبيب، قال: سألت القاسم بن محمد عن:" من فرض فيهن الحج"، قال: إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت، فقد فرضت الحج. (١)
(١) الخر: ٣٥٦٢ - إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز، أبو مسلم الكجي الحافظ: ثقة نبيل، مدحه البحتري. له كتاب في السنن. مات سنة ٢٩٢ وقد قارب المئة. مترجم في تذكرة الحفاظ ٢: ١٧٦- ١٧٧ن وتاريخ بغداد ٦: ١٢٠- ١٢٤. "أبو عمر الضرير الأكبر": هو حفص بن عمر البصري، وهو ثقة كان غاية في السنة وكان من العلماء بالفرائض والحساب والشعر وأيام الناس والفقه. مات سنة ٢٢٠، عن بضع وسبعين سنة. ووقع في المطبوعة"أبو عمرو". وهو خطأ. "جبر بن حبيب": ثقة وكان إماما في اللغة. مترجم في التهذيب والكبير ١/٢/٢٤٢، وابن أبي حاتم ١/١/٥٣٣. ولم يذكروا له رواية إلا عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. فيستفاد من هذا الموضع روايته أيضًا عن ابن أخيها: القاسم بن محمد بن أبي بكر.
122
وقال آخرون: فرض الحج إحرامه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٦٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن فرض فيهن الحج" يقول: من أحرم بحج أو عمرة.
٣٥٦٤ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن = وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم = قالوا جميعا: حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:" فمن فرض فيهن الحج" قال: فمن أحرم - واللفظ لحديث ابن بشار.
٣٥٦٥ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك والحسن بن صالح، عن ليث، عن عطاء، قال: الفرض: الإحرام.
٣٥٦٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الحسن في قوله:" فمن فرض فيهن الحج" قالا فرض الحج الإحرام.
٣٥٦٧ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فمن فرض فيهن الحج" فهذا عند الإحرام.
٣٥٦٨ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الفرض الإحرام.
٣٥٦٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
123
حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.
٣٥٧٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم:" فمن فرض فيهن الحج" قال: من أحرم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام -كان عند قائله- الإيجاب بالعزم، ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية، كما قال القائلون القول الأول.
وإنما قلنا: إن فرض الحج الإحرام، لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه، على ما وصفنا آنفا، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة:
إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرد للإحرام، وأن يكون من لم يكن له متجردا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجردا من ثيابه، بإيجابه الإحرام = ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلب، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام، كما التجرد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه، ما يدل على أن حكم غيره من مشاعره حكمه.
أو يكون - إذ فسد هذا القول - قد يكون محرما وإن لم يلب ولم يتجرد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه، إذا كان من أهل التكليف، ما ينبئ عن فساد هذا القول.
وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث، وهو أن الرجل قد يكون
124
محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا، وإن لم يظهر ذلك بالتجرد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صح ذلك صح ما قلنا من أن فرض الحج، هو ما قرن إيجابه بالعزم، (١) على نحو ما بينا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا رَفَثَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى" الرفث" في هذا الموضع، (٢)
فقال بعضهم: هو الإفحاش للمرأة في الكلام، وذلك بأن يقول:" إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا"، لا يكني عنه، وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٧١ - حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ويونس قالا حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن الرفث في قول الله:" فلا رفث ولا فسوق" قال: هو التعريض بذكر الجماع، وهي"العرابة" من كلام العرب، وهو أدنى الرفث. (٣)
٣٥٧٢ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم،
(١) في المطبوعة: "هو ما مر إيجابه بالعزم" وهو تحريف فاسد لا معنى له. والدليل على صحة ما ذهبت إليه في قراءة هذا النص قوله في أول تفسير هذه الكلمة من الآية: "وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله... " ثم ما جاء بعد ذلك في تفصيل معنى"الفرض". فالسياق يقتضي ما أثبت من قراءتي للنص.
(٢) انظر ما سلف في معنى: "الرفث" من الجزء ٣: ٤٨٧، ٤٨٨
(٣) الخبر: ٣٥٧١- أحمد بن حماد الدولابي: مضت ترجمته في: ٢٥٩٣.
والعرابة (بفتح الهين وكسرها) والإعراب والتعريب والإعرابة: ما قبح من الكلام أو التصريح بالهجر من الكلام والفاحش منه. وأعرب الرجل وعرب: أفحش. والجيد هنا أن يقال إن"العرابة" هو التعريض بالنكاح. وأنظر الآثار الآتية من رقم: ٣٥٨١ وما بعده.
125
عن ابن طاوس في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: العرابة والتعريض للنساء بالجماع.
٣٥٧٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عون، قال: حدثنا زياد بن حصين، قال: حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصعدت مع ابن عباس في الحاج، وكنت له خليلا فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عباس، فأخذ بذنب بعيره، فجعل يلويه، وهو يرتجز ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا (١)
قال: فقلت: أترفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.
٣٥٧٤ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرياحي، عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم، ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا (٢)
قال: قلت: تتكلم بالرفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.
٣٥٧٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
٣٥٧٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، مثله.
(١) لم أعرف قائله، وسيأتي في هذا الجزء ١٢٧، ١٣٠ - ثم في ٥: ٦٨/ ثم ١٦: ١٥٧ (بولاق) وهو رجز كثير الدوران في الكتب. والهمس والهميس: الصوت الخفي الذي لا غور له في الكلام والوطء والأكل وغيرها. ولميس: اسم صاحبته. ويزيد بقوله: "إن تصدق الطير" أنه زجر الطير فتيامن بمرها ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله.
(٢) انظر التعليق السالف
126
٣٥٧٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيحل للمحرم أن يقول لامرأته:" إذا حللت أصبتك"؟ قال: لا ذاك الرفث. قال: وقال عطاء: الرفث ما دون الجماع.
٣٥٧٨ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش.
٣٥٧٩ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قول الرجل لامرأته:" إذا حللت أصبتك"، قال: ذاك الرفث!.
٣٥٨٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن زيادة بن حصين، عن أبي العالية، قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم، وهو يرتجز ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا (١)
قال: قلت: أترفث يا ابن عباس وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما روجع به النساء.
٣٥٨١ - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن الزبير السبائي وعطاء: أنه سمع طاوسا قال: سمعت ابن الزبير يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة. فذكرته لابن عباس، فقال: صدق! قلت لابن عباس: وما الإعراب؟ قال: التعريض. (٢)
٣٥٨٢ - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس أنه كان يقول: لا يحل للمحرم
(١) انظر التعليق السالف: ١٢٦ تعليق: ١
(٢) الخبر: ٣٥٨١ -ابن الزبير السبائي: هكذا ثبت في المطبوعة؛ ولا أدري ما هذا؟ ولا من هو؟ ولولا كلمة"السبائي" لظننا أنه"أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي المكي" التابعي المشهور، فإنه من هذه الطبقة. وانظر تفسير"الإعرابة" والإعراب" فيما سلف ص: ١٢٥، تعليق: ٣.
127
الإعرابة. قال طاوس: والإعرابة: أن يقول وهو محرم:" إذا حللت أصبتك".
٣٥٨٣ - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، قال: لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء. (١)
٣٥٨٤ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن عطاء قال: كانوا يكرهون الإعرابة - يعني التعريض بذكر الجماع - وهو محرم.
٣٥٨٥ - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس أنه سمع أباه أنه كان يقول: لا تحل الإعرابة."والإعرابة" التعريض.
٣٥٨٦ - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى:" فلا رفث" قال: الرفث الذي ذكر ههنا، ليس بالرفث الذي ذكر في: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: ١٨٧] ومن" الرفث"، التعريض بذكر الجماع، وهي الإعرابة بكلام العرب. (٢)
٣٥٨٧ - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية: قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء: أنه كره التعريب للمحرم.
٣٥٨٨ - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال:
(١) الأثر: ٣٥٨٣ - فطر، هو فطر بن خليفة القرشي المخزومي مولاهم. وكان في المطبوعة"قطر" بالقاف، ومضى مرارا، وظننته تصحيفا مع الطابع ولكنه تكرر فنبهت هنا عليه، وعلى تصويبه.
(٢) انظر ما سلف في الجزء ٣: ٤٨٧
128
أخبرني ابن طاوس أن أباه كان يقول: الرفث: الإعرابة مما وراه من شأن النساء، والإعرابة: الإيضاح بالجماع. (١)
٣٥٨٩ - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة.
٣٥٩٠ - حدثني علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فلا رفث" قال: الرفث: غشيان النساء والقبل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.
٣٥٩١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يقول للحادي: لا تعرض بذكر النساء.
٣٥٩٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر وابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الرفث في"الصيام": الجماع، والرفث في"الحج" الإعرابة. وكان يقول: الدخول والمسيس الجماع.
* * *
وقال آخرون:"الرفث" في هذا الموضع: الجماع نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٥٩٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، قال: الرفث: الجماع.
٣٥٩٤ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.
(١) في المطبوعة: "مما رواه من شأن النساء" والصواب ما أثبت ومعناه: مما كنى به من شأن النساء وما عرض به من ذكرهن.
129
٣٥٩٥ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الرفث: إتيان النساء.
٣٥٩٦ - حدثنا عبد الحميد قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن الرفث، فقال: الجماع.
٣٥٩٧ - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الرفث: هو الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء.
٣٥٩٨ - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية قال: سمعت ابن عباس يرتجز وهو محرم، يقول:
خرجن يسرين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا (١)
= قال شريك:"إلا أنه لم يكن عن الجماع" - لميسا. (٢) فقلت: أليس هذا الرفث؟ قال: لا إنما الرفث: إتيان النساء والمجامعة.
٣٥٩٩ - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن عون، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس بنحوه - إلا أن عونا صرح به.
٣٦٠٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، قال: الرفث الجماع.
٣٦٠١ - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله:" فلا رفث" قال: الرفث إتيان النساء.
(١) انظر تخريجه فيما سلف: ١٢٦ تعليق ١. وهذه رواية تخالف الماضية: "وهن يمشين".
(٢) يريد أن شريكا أنشد البيت: "إن تصدق الطير" ثم قطع الإنشاد وقال: "ألا إنه لم يكن الجماع" ثم عاد للإنشاد فقال: "لميسا"، ولم ينطق الكلمة.
130
٣٦٠٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" فلا رفث"، قال: الرفث: غشيان النساء.
٣٦٠٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الرفث: الجماع فما دونه من شأن النساء.
٣٦٠٤ - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار بنحوه.
٣٦٠٥ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث الجماع.
٣٦٠٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد:" فلا رفث"، قال: الرفث الجماع.
٣٦٠٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله:" فلا رفث" قال: كان قتادة يقول: الرفث: غشيان النساء.
٣٦٠٨ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة مثله.
٣٦٠٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع.
٣٦١٠ -حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع.
٣٦١١ -حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الرفث: الجماع.
٣٦١٢ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الرفث: المجامعة.
131
٣٦١٣ -حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فلا رفث" فلا جماع.
٣٦١٤ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع.
٣٦١٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فلا رفث" قال: جماع النساء.
٣٦١٦ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع.
٣٦١٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الرفث: الجماع.
٣٦١٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الرفث الجماع.
٣٦١٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الرفث: الجماع. (١)
٣٦٢٠ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الرفث: الجماع.
٣٦٢١ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن حسين بن عقيل = وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = قالا أخبرنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: الرفث: الجماع.
٣٦٢٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:
(١) الأثر: ٣٦١٩ - يحيى بن بشر الخراساني ترجم له البخاري في الكبير ٤/٢/٢٦٣، وذكر أنه سمع عكرمة عن ابن عباس.
132
أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، مثله - قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء، مثله.
٣٦٢٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن = وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم = قالا مثل ذلك.
٣٦٢٤ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين - وأخبرنا مغيرة، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
٣٦٢٥ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث: النكاح.
٣٦٢٦ - حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثني ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول الرفث: الجماع.
٣٦٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الرفث: غشيان النساء = قال معمر: وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة.
٣٦٢٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرفث: إتيان النساء، وقرأ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: ١٨٧]
٣٦٢٩ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع.
٣٦٣٠ - حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى -من فرض الحج في أشهر الحج- عن الرفث، فقال:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث". و"الرفث" في كلام العرب: أصله الإفحاش في المنطق على ما قد
133
بينا فيما مضى، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. (١) فإذ كان ذلك كذلك، (٢) وكان أهل العلم مختلفين في تأويله، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني"الرفث" أم عن جميع معانيه؟ - وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر = بخصوص"الرفث" الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني"الرفث" = (٣) يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة.
* * *
فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها، (٤) منقول بإجماع. وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن"الرفث" عند غير النساء غير محظور على محرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معني بها بعض"الرفث" دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرم من معاني"الرفث" على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها.
قيل: إن ما خص من الآية فأبيح، خارج من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى"الرفث" بالآية، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخص منه شيء، لأن ما خص من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية - بعد الذي خص منها- على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خص منها، نظير العلة فيه قبل أن يخص منها شيء.
* * *
(١) انظر ما سلف في الجزء ٣: ٤٨٧، ٤٨٨.
(٢) في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك" وهو خطأ والصواب ما أثبت.
(٣) السياق: "إذ لم يأت خبر يجب التسليم له".
(٤) في المطبوعة: "فإن قال قائل بأن حكمها... " والصواب ما أثبت وانظر مراجع"الظاهر والباطن" في فهارس الأجزاء السالفة، وهذا الجزء.
134
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا فُسُوقَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الفسوق"، التي نهى الله عنها في هذا الموضع، (١) فقال بعضهم: هي المعاصي كلها.
* ذكر من قال ذلك:
٣٦٣١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال الفسوق: المعاصي.
٣٦٣٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي.
٣٦٣٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الفسوق: المعاصي كلها، قال الله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة: ٢٨٢]
٣٦٣٤ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله.
٣٦٣٥ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي.
٣٦٣٦ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: الفسوق: المعصية.
٣٦٣٧ - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي كلها.
٣٦٣٨ - حدثني يعقوب قال: أخبرنا ابن عيينة، عن روح بن القاسم،
(١) انظر ما سلف في معنى"الفسق" ١: ٤٠٩-٤١٠/ ٢: ١١٨، ٣٩٩.
135
عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق: المعاصي.
٣٦٣٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق المعاصي كلها.
٣٦٤٠ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد = جميعا، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي.
٣٦٤١ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا فسوق" قال: المعاصي.
٣٦٤٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٦٤٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الفسوق المعاصي = قال: وقال مجاهد مثل قول سعيد.
٣٦٤٤ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الفسوق المعاصي.
٣٦٤٥ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق: عصيان الله.
٣٦٤٦ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق المعاصي.
٣٦٤٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الفسوق المعاصي.
٣٦٤٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
136
٣٦٤٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس:" ولا فسوق" قال: المعاصي = قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
٣٦٥٠ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
٣٦٥١ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، مثله.
٣٦٥٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الفسوق معصية الله، لا صغير من معصية الله.
٣٦٥٣ - حدثني علي بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" ولا فسوق" قال: الفسوق: معاصي الله كلها.
٣٦٥٤ - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي. وقال مثل ذلك الزهري وقتادة.
* * *
وقال آخرون: بل"الفسوق" في هذا الموضع: ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وما أشبه ذلك مما خص الله به الإحرام، وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام.
* ذكر من قال ذلك:
٣٦٥٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن
137
نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
٣٦٥٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي الله به، صيد أو غيره. (١)
* * *
وقال آخرون: بل"الفسوق" في هذا الموضع: السباب.
* ذكر من قال ذلك:
٣٦٥٧ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الفسوق: السباب.
٣٦٥٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب.
٣٦٥٩ - حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول: الفسوق: السباب.
٣٦٦٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد:" ولا فسوق"، قال: الفسوق السباب.
٣٦٦١ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" ولا فسوق"، قال: أما الفسوق: فهو السباب.
٣٦٦٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: الفسوق السباب.
٣٦٦٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.
٣٦٦٤ - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:
(١) قوله: "من معاصي الله به"، أي بالحرم.
138
أخبرنا يونس، عن الحسن = قال: وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم = قالا الفسوق السباب.
٣٦٦٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب.
٣٦٦٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق: السباب.
٣٦٦٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور عن إبراهيم، مثله.
* * *
وقال آخرون:"الفسوق": الذبح للأصنام.
* ذكر من قال ذلك:
٣٦٦٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في"الفسوق": الذبح للأنصاب، وقرأ: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [الأنعام: ١٤٥] فقطع ذلك أيضا، (١) قطع الذبح للأنصاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين حج فعلم أمته المناسك.
* * *
وقال آخرون:"الفسوق": التنابز بالألقاب.
*ذكر من قال ذلك:
٣٦٦٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك، قول من
(١) قوله: "قطع ذلك أيضًا " يشير إلى ما قطع من الرفث وحرم.
139
قال: معنى قوله:" ولا فسوق" النهي عن معصية الله في إصابة الصيد، وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه.
وذلك أن الله جل ثناؤه قال:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق"، يعني بذلك: فلا يرفث، ولا يفسق، أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد، محرما كان أو غير محرم، وكذلك حرم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) [الحجرات: ١١] وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال، فرض الحج أو لم يفرضه.
فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحج، هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه، كما أن"الرفث" الذي نهاه عنه في حال فرضه الحج، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه. لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال:"لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال". لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له، وقد عم به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.
فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من"الفسوق" فخص به حال إحرامه، وقيل له:" إذا فرضت الحج فلا تفعله"، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحج، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه: من الطيب، واللباس، والحلق، وقص الأظفار، وقتل الصيد، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه.
* * *
140
فتأويل الآية إذا: فمن فرض الحج في أشهر الحج فأحرم فيهن، فلا يرفث عند النساء فيصرح لهن بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وغير ذلك مما حرم الله عليه فعله وهو محرم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحدا.
ثم اختلف قائلو هذا القول.
فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٦٧٠ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله:" ولا جدال في الحج"، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٧١ - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الجدال"، فقال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٧٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٧٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن سليمان، عن عطاء، قال: الجدال: أن يماري الرجل أخاه حتى يغضبه.
141
٣٦٧٤ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:" ولا جدال في الحج" قال: أن تمحن صاحبك حتى تغضبه. (١)
٣٦٧٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن سلمة بن كهيل، قال: سألت مجاهدا عن قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٧٦ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: الجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٧٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن، قال: الجدال: المراء.
٣٦٧٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٧٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الجدال: أن تصخب [على] صاحبك. (٢)
٣٦٨٠ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: المراء.
(١) أنا في شك من هذه اللفظة: "تمحن"، وإن كان لها وجه في العربية، من قولهم: محنت الفضة: إذا أذبتها بالنار لتختبرها، ومحن الفرس بالعدو: جهده ومحنه بالسوط: ضربه. كل هذا صالح في مجاز المماراة والمخاصمة. ولكني أظن صوابها: "تمحك" من قولهم: محكه، إذا نازعه في الكلام وتمادى حتى يغضبه، منه حديث علي: "لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم". والمحك المشارة والمنازعة في الكلام، واللجاج والتمادي عند المساومة والغضب وغيرها.
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها، والصخب الصياح والجلبة، صخب يصخب صخبا، وهو فعل غير متعد. وسيأتي في الآثار الآتية: أن الجدال هو الصخب والمراء.
142
٣٦٨١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم = قالا حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٨٢ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا واقد الخلقاني، عن عطاء، قال: أما الجدال: فتماري صاحبك حتى تغضبه. (١)
٣٦٨٣ - حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الجدال: المراء، أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٨٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: الجدال المراء.
٣٦٨٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.
٣٦٨٦ - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.
٣٦٨٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الجدال: أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبوا.
٣٦٨٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن
(١) الخبر: ٣٦٨٢ - واقد الخلقاني: هو"واقد بن عبد الله الخلقاني الكوفي الحنظل". ترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/١٧٣ وقال: "سمع عطاء". وترجمه ابن أبي حاتم ٤/٢/٣٣، وزاد أنه"بياع الغنم" وأنه"روى عنه وكيع، ومروان الفزاري وأبو نعيم" وأنه سأل عنه أباه، فقال: "شيخ محله الصدق". وله رواية في المسند: ٥٣٩"عمن رأى عثمان بن عفان" ولكنه نسب فيه التميمي". و"الحنظلي": تميمي أيضًا. وقد وهم فيه الحسيني، وتعقبه الحافظ في التعجيل: ٤٣٥- ٤٣٦ فأحسن بيانه. و"الخلقاني" قال ابن الأثير في اللباب: "بضم الخاء [يعني المعجمة] وسكون اللام وفتح القاف وفي آخرها نون: هذه النسبة إلى بيع الخلق من الثياب وغيرها".
143
يحيى بن بشر، عن عكرمة:" ولا جدال " الجدال الغضب، أن تغضب عليك مسلما، إلا أن تستعتب مملوكا فتعظه من غير أن تغضبه، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى في ذلك. (١)
٣٦٨٩ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه.
٣٦٩٠ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا الجدال هو الصخب والمراء وأنت محرم.
٣٦٩١ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الجدال ما أغضب صاحبك من الجدل.
٣٦٩٢ - حدثني علي، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" ولا جدال في الحج"، قال: الجدال: المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.
٣٦٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
٣٦٩٤ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: الجدال: المراء.
٣٦٩٥ - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا هو الصخب والمراء وأنت محرم.
(١) الأثر: ٣٦٨٨ - في تفسير ابن كثير ١: ٤٦٠ وفيه"ولا بأس عليك إن شاء الله". وفي المطبوعة هنا"ولا أمر عليك"، ولعل الصواب ما أثبت. واستعبه: رده عن الإساءة يعني تأديبه.
144
٣٦٩٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا جدال في الحج"، كانوا يكرهون الجدال.
* * *
وقال آخرون منهم:"الجدال" في هذا الموضع، معناه: السباب.
* ذكر من قال ذلك:
٣٦٩٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الجدال في الحج: السباب والمراء والخصومات.
٣٦٩٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب والمنازعة.
٣٦٩٩ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجدال: السباب.
٣٧٠٠ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد = وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = جميعا، عن سعيد، عن قتادة، قال: الجدال: السباب.
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتم حجا من الحجاج.
* ذكر من قال ذلك:
٣٧٠١ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، قال:"الجدال"، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء:"حجنا أتم من حجكم! "، وقال هؤلاء:"حجنا أتم من حجكم! ".
* * *
145
وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحج، فنهوا عن ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
٣٧٠٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن جبر بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم:"الحج اليوم! "، ويقول بعضهم:"الحج غدا!.
* * *
وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحج أيهم المصيب موقف إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك:
٣٧٠٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم. فقطعه الله حين أعلم نبيه ﷺ بمناسكهم.
* * *
وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه:" ولا جدال في الحج"، خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٣٧٠٤ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد في قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: قد استقام الحج ولا جدال فيه.
(١) ستأتي صفة"النسيء" في الأثر: ٣٧٠٥، وقوله: "بطول" مصدر بطل الشيء بطولا وبطلانا. وقد أكثر الطبري من استعماله انظر ما سلف ٢: ٤٢٦ ثم الجزء ٣: ٢٠٥ن تعليق: ٦، والتعليق فيهما.
146
٣٧٠٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد" ولا جدال في الحج"، قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج، قد بين. كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون:"صفران" لصفر وشهر ربيع الأول، ثم يقولون:" شهرا ربيع" لشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم يقولون:"جماديان" لجمادى الآخرة ولرجب، ثم يقولون لشعبان:"رجب"، ثم يقولون لرمضان:"شعبان"، ثم يقولون لشوال:"رمضان"، ويقولون لذي القعدة:"شوال"، ثم يقولون لذي الحجة:"ذا القعدة"، ثم يقولون للمحرم:"ذا الحجة"، فيحجون في المحرم. ثم يأتنفون فيحسبون على ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا، (١) فيقولون:"المحرم وصفر وشهرا ربيع"، فيحجون في المحرم ليحجوا في كل سنة مرتين، فيسقطون شهرا آخر، فيعدون على العدة الأولى، فيقولون:"صفران، وشهرا ربيع" نحو عدتهم في أول ما أسقطوا.
٣٧٠٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٣٧٠٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بني كنانة.
٣٧٠٨ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: لا شبهة في الحج، قد بين الله أمر الحج.
٣٧٠٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ولا جدال في الحج"، قال: قد استقام أمر الحج فلا تجادلوا فيه.
٣٧١٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن
(١) استأنف الشيء وائتنفه: أخذ أوله وابتدأه. من قولهم: أنف الشيء أي أوله.
147
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج قد بين.
٣٧١١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: قد علم وقت الحج، فلا جدال فيه ولا شك.
٣٧١٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز والعلاء، عن مجاهد، قال: هو شهر معلوم لا تنازع فيه.
٣٧١٣ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: لا شك في الحج.
٣٧١٤ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس:" ولا جدال في الحج" قال: المراء بالحج.
٣٧١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،" ولا جدال في الحج"، فقد تبين الحج. قال: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين. وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي ﷺ بسنة، ثم حج النبي ﷺ من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
٣٧١٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" ولا جدال في الحج" قال: بين الله أمر الحج ومعالمه فليس فيه كلام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في قوله:" ولا جدال في الحج" بالصواب،
148
قولُ من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحج ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه.
وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك، ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه، لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله:" ولا فسوق"، أنه غير جائز أن يكون الذي خص بالنهي عنه في تلك الحال [إلا ما هو] مطلق مباح في الحال التي يخالفها، (١) وهي حال الإحلال. وذلك أن حكم ما خص به من ذلك حكم حال الإحرام، إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لخصوصه به حالا دون حال، وقد عم به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله:" ولا جدال في الحج"، أن تأويله: لا تمار صاحبك حتى تغضبه، إلا أحد معنيين:
إما أن يكون أراد: لا تماره بباطل حتى تغضبه، فذلك ما لا وجه له. لأن الله عز وجل، قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال، محرما كان المماري أو محلا فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي الله عنه.
أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك أيضا ما لا وجه له. لأن المحرم لو رأى رجلا يروم فاحشة، كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصبه عليه، كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه. والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الآخر غير جائز تركه بحال، فأي وجوهه التي خص بالنهي عنه حال الإحرام؟
(١) هذه الزيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. وكان في الأصل أيضًا: "أنه غير جائز أن يكون الله خص.. " واستقامة الكلام تقتضي ما أثبت.
149
وكذلك لا وجه لقول من تأوَّل ذلك أنه بمعنى السباب، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال، فقال صلى الله عليه وسلم:
٣٧١٧ -" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". (١)
= فإذا كان المسلم عن سب المسلم منهيا في كل حال من أحواله، محرما كان أو غير محرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه قي حال الإحرام إذا أحرمت = وفيما روي عن رسول الله ﷺ من الخبر الذي:-
٣٧١٨ - حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج مثل يوم ولدته أمه".
٣٧١٩ - حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. (٢)
(١) الحديث: ٣٧١٧ - رواه الطبري بغير إسناد. وهو حديث صحيح ثابت من روايات كثيرة. فرواه أحمد في المسند: ٣٦٤٧، من حديث عبد الله بن مسعود. وكذلك رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه. وانظر بقية أرقامه في المسند في الاستدراك: ٨٨٦. وثبت أيضًا من رواية صحابة آخرين، انظر الفتح الكبير ٢: ١٥٠- ١٥١.
(٢) الحديث: ٣٧١٨- ٣٧٢٠"سيار": بفتح السين وتشديد الياء: مضت ترجمته في: ٣٩.
أبو حازم: هو الأشجعي واسمه"سلمان" مولى عزة الأشجعية. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وليس"أبو حازم" هنا-"أبا حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد" فإن سلمة لم يسمع من أبي هريرة، كما نص عليه الحافظ في الفتح ٣: ٣٠٢.
والحديث رواه أبو داود الطيالسي: ٢٥١٩ عن سيار ومنصور- كلاهما عن أبي حازم.
ورواه أحمد في المسند: ٩٣٠٢ (٢: ٤١٠ حلبي) والبخاري ٣: ٣٠٢- ٣٠٣، كلاهما من طريق شعبة، عن سيار به.
وسيأتي مرة رابعة، من طريق شعبة عن سيار: ٣٧٢٥.
150
٣٧٢٠ - حدثنا أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث ابن المثنى، عن وهب بن جرير.
٣٧٢١ - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله أيضا.
٣٧٢٢ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني منصور، قال: سمعت أبا حازم يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (١)
٣٧٢٣ - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا محمد بن عبيد الله، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه". (٢)
٣٧٢٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
(١) الحديثان: ٣٧٢١، ٣٧٢٢ - منصور: هو ابن المعتمر. وقد سمع منصور هذا الحديث من أبي حازم، كما صرح بذلك في الإسناد الثاني. فانتفت بذلك شبهة عدم سماعه هذا الحديث منه. كما سيأتي بيانه في: ٣٧٢٦، ٣٧٢٧.
* والحديث من هذا الوجه -رواه الطيالسي: ٢٥١٩، عن شعبة- كما أشرنا من قبل.
* ورواه أيضًا أحمد في المسند: ٩٣٠٠ (٢: ٤١٠ حلبي) والبخاري ٤: ١٧ (فتح) كلاهما من طريق شعبة عن منصور.
(٢) الحديث: ٣٧٢٣ -هو في معنى الأحاديث قبله وبعده. وقد رواه الدارقطني في سننه ص: ٢٨٢، من طريق حجاج بن أرطأة عن الأعمش بهذا الإسناد بلفظ: "من حج أو اعتمر، فلم يرفث ولم يفسق، يرجع كهيئته يوم ولدته أمه". فزاد الحجاج بن أرطأة لفظ"أو اعتمر".
* وأشار الحافظ في الفتح ٣: ٣٠٢ -إلى رواية الدارقطني هذه، وقال: "لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف".
151
وسلم، فذكر مثله - إلا أنه قال: رجع كما ولدته أمه. (١)
٣٧٢٥ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه".
٣٧٢٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال، فذكر نحوه - إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه.
٣٧٢٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت - يعني الكعبة- فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه. (٢)
(١) الحديث: ٣٧٢٤ -سفيان: هو الثوري. والحديث -من هذا الوجه- رواه أحمد في المسند: ١٠٢٧٩ (٢: ٤٨٤ حلبي) عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان. وكذلك رواه البخاري ٤: ١٧ (فتح) عن محمد بن يوسف -وهو الفريابي- عن سفيان.
* وقد رواه أحمد أيضًا: ٧٣٧٥ (٢: ٢٤٨ حلبي) عن سفيان عن منصور. وسفيان هنا: هو ابن عيينة.
(٢) الحديثان: ٣٧٢٦، ٣٧٢٧ -هما إسناد واحد مكرر لحديث واحد. لم يذكر لفظه كاملا في أولهما، وذكره في ثانيهما. ولا أدري سبب هذا؟
* يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى مرارا، آخرها: ٣٢٢٣. يحيى بن أبي بكير- بضم الباء الموحدة وفتح الكاف- الأسدي القيسي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة مات سنة ٢٠٨ أو ٢٠٩. ووقع في المطبوعة هنا"يحيى بن أبي كثير". وهو خطأ فإن ابن أبي كثير قديم الوفاة مات سنة ١٢٩ أو ١٣٢. ويعقوب الدورقي ولد سنة ١٦٦، فلا يعقل أن يروى عنه.
* وإبراهيم بن طهمان الخراساني: ثقة صحيح الحديث، أخرج له الأئمة الستة. منصور: هو ابن المعتمر، كما مضى في بعض الأسانيد السابقة.
* هلال بن يساف -ويقال: إساف- الأشجعي الكوفي: تابعي ثقة كبير، لعله أقدم من أبي حازم. و"يساف": بكسر الياء التحتية وفتح السين المهملة مخففة. وكذلك"إساف" بالهمزة بدل الياء. ووقع في المطبوعة هنا في الإسنادين"هلال بن يسار". وهو خطأ صرف.
* والحديث -من هذا الوجه- رواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ٢٦٢ من طريق محمد بن إسماعيل الصائغ عن يحيى بن أبي بكير، بهذا الإسناد.
* ومنصور قد سمع هذا الحديث من أبي حازم مباشرة، كما صرح بذلك في الرواية الماضية: ٣٧٢٢. فقال الحافظ في الفتح ٤: ١٧"فانتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور. لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم زاد فيه رجلا. فإن كان إبراهيم حفظه، فلعله حمله منصور عن هلال، ثم لقى أبا حازم فسمعه منه، فحدث به على الوجهين".
* ونزيد هنا أن الحديث رواه أيضًا أحمد في المسند: ١٠٤١٤ (٢: ٤٩٤ حلبي) عن جرير عن منصور عن أبي حاتم وكذلك رواه مسلم ١: ٣٨٢ من طريق جرير.
* ورواه مسلم أيضًا من طريق أبي عوانة وأبي الأحوص ومسعر والثوري وشعبة -كلهم عن منصور عن أبي حازم. وكذلك رواه النسائي ٢: ٣- ٤ من طريق الفضيل بن عياض عن منصور به.
152
٣٧٢٨ - حدثنا الفضل بن الصباح، قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كهيئة يوم ولدته أمه. (١)
* * *
(٢)
=دلالة واضحة على أن قوله:" ولا جدال في الحج" بمعنى النفي عن الحج بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم.
وذلك أنه ﷺ أخبر أنه من حج فلم يرفث ولم يفسق، استحق من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه، تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاج عنهما في حجه، من غير أن يضم إليهما الجدال. فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله:" ولا جدال في الحج" مما نهاه الله عنه بهذه الآية - على نحو الذي تأول ذلك من تأوله: من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك - لما كان ﷺ ليخص باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج
(١) الحديث: ٣٧٢٨ -رواه أحمد في المسند: ٧١٣٦، عن هشيم بهذا الإسناد وكذلك رواه مسلم ١: ٣٨٢- ٣٨٣، عن سعيد بن منصور عن هشيم به، وانظر ما سيأتي رقم: +٣٠٥٩.
(٢) أول هذا الكلام في ص ١٥٠، قوله: "فيما روي عن رسول الله ﷺ من الخبر... دلالة" وفصلت بين الخبر والمبتدأ الأحاديث المتتابعة.
153
الذي وصف أمره، باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما.
ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها = في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبي ﷺ أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به - إذ كانتا بمعنى النهي- (١) وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما = ترك ذكر الثالثة، (٢) إذ لم تكن في معناهما، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما.
* * *
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب "الجدال" وإعراب "الرفث والفسوق"، ليعلم سامع ذلك - إذا كان من أهل الفهم باللغات- أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما.
وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضا بإعراب، مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام.
فأعجب القراءات إلي في ذلك - إذ كان الأمر على ما وصفت - قراءة من قرأ:" فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"، برفع"الرفث والفسوق" وتنوينهما، وفتح"الجدال" بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين، وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء. (٣)
* * *
وأما قول من قال: معناه: النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا،
(١) في المطبوعة: "إذا كانتا بمعنى النهي" وهو خطأ والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "وترك ذكر الثالثة" وهذه الواو مقحمة من النساخ بلا شك. وسياق هذه الجملة بطولها: "ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها... ، إذا كانتا بمعنى النهي، وكان المنتهى عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما... ترك ذكر الثالثة" وبهذا يتبين صواب التصحيح في لموضعين السالفين.
(٣) انظر تفصيل ذلك مستوعبا في معاني القرآن للفراء ١: ١٢٠- ١٢٢.
154
والقائلين: ، معناه النهي عن قول القائل:"غدا الحج" مخالفا به قول الآخر:"اليوم الحج"، فقول في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، (١) وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أوخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، (٢) فنزلت الآية بالنهي عنه؛ أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.
* * *
وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفي من الله جل وعز عن شهور الحج، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا. (٣)
وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، مع دلالة قول الله تقدس اسمه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) [التوبة: ٣٧]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم، من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم، لتستوجبوا به الثواب
(١) هكذا في الأصل"على وهائه" وهو خطأ قديم في كلام الفقهاء. قال المطرزي في المغرب ٢: ٢٦٥: "قوله: "فإن حاضت في حال وهاء الملك" لا يعتد به. الوهاء بالمد خطأ وإنما الوهي (بفتح فسكون) مصدر: "وهي الحبل يهى وهيا" إذا ضعف". وأخشى أن يكون ذلك من ناسخ التفسير، لا من أبي جعفر وأن أصله"على وهيه وضعفه" فهو قد استعمل كلمة"الوهي" مرارا فيما سلف من عباراته، ولكني لم أستطع أن أجدها في هذا البحر من الكلام، ثم وجدتها بعد ذلك في هذا الجزء ٤: ١٨، س: ٧.
(٢) في المطبوعة: "وخبر صادق" بالواو، وهو مخل بالكلام.
(٣) في المطبوعة: "الاختلاف" بذف الفاء، والصواب إثباتها وإلا تخلع الكلام.
155
الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم، ولجميعه محص، حتى أوفيكم أجره، وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى علي خافية، ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم، وعالم بضمائر نفوسكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، (١) فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به.
* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
٣٧٢٩ - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا عمرو بن عبد الغفار، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق.
٣٧٣٠ - حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كانوا يحجون ولا يتزودون، فنزلت:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" (٢)
(١) الأزودة: جمع زاد على غير قياس، وقياسه: أزواد.
(٢) الأثر: ٣٧٣٠ -محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي (بضم الميم وفتح الخاء، وراء مشددة مكسورة) أبو جعفر البغدادي المدائني الحافظ، قاضي حلوان. مات سنة ٢٥٤ ببغداد، كان أحد الثقات جليل القدر. وكان في المطبوعة: "المخزومي" هو خطأ كما ترى.
156
٣٧٣١ - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: الكعك والزيت.
٣٧٣٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: هو الكعك والسويق.
٣٧٣٣ - وحدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان أناس يحجون، ولا يتزودون، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
٣٧٣٤ - حدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الملك بن عطاء، كوفي لنا = (١)
٣٧٣٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الملك، عن الشعبي في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" قال: التمر والسويق.
٣٧٣٦ - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا حنظلة، قال: سئل سالم عن زاد الحاج، فقال: الخبز واللحم والتمر. قال عمرو: وسمعت أبا عاصم مرة يقول: حدثنا حنظلة سئل سالم عن زاد الحاج، فقال الخبز والتمر.
٣٧٣٧ - حدثنا عمرو، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشيم، عن المغيرة،
(١) الخبر: ٣٧٣٤ -عبد الملك بن عطاء: هو البكائي العامري، ختن الشعبي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره. و"البكائي": بفتح الباء وتشديد الكاف وبعد الألف همزة، نسبة إلى"البكاء" وهو"ربيعة بن عامر" من بني عامر بن صعصعة.
وقوله هنا"كوفي لنا"- لا أدري ما وجهه؟ ولعل أصله"كوفي جار لنا" أو نحو ذلك لأن سفيان ابن عيينة كوفي، ثم سكن مكة. فإني لم أجد لعبد الملك هذا ترجمة إلا عند ابن أبي حاتم ٢/٢/٣٦١ وروى فيها بإسناده إلى ابن نمير، قال: "عبد الملك بن عطاء، كان شيخا ثقة، روى عنه شيوخنا وهو كوفي له حديث أو حديثين".
157
عن إبراهيم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد، ويقولون:" نتوكل على الله! "، فأنزل الله جل ثناؤه:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
٣٧٣٨ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كان الحاج منهم لا يتزود، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
٣٧٣٩ - حدثنا عمرو، قال: حدثنا يحيى، عن عمر بن ذر = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن ذر = عن مجاهد قال: كانوا يسافرون ولا يتزودون، فنزلت:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وقال الحسن بن يحيى في حديثه: كانوا يحجون ولا يتزودون.
٣٧٤٠ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد نحوه.
٣٧٤١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث فذكر نحوه.
٣٧٤٢ - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج يتوصلون بالناس بغير زاد، يقولون:" نحن متكلون". فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
٣٧٤٣ - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" وتزودوا"، قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج، يتوصلون بالناس بغير زاد، فأمروا أن يتزودوا.
٣٧٤٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان أهل اليمن يتوصلون بالناس، فأمروا أن يتزودوا ولا يستمتعوا. قال: وخير الزاد التقوى.
٣٧٤٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث،
158
عن مجاهد:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كانوا لا يتزودون، فأمروا بالزاد، وخير الزاد التقوى.
٣٧٤٦ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فكان الحسن يقول: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون، ولا يتزودون، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى.
٣٧٤٧ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: قال قتادة: كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون - ثم ذكر نحو حديث بشر عن يزيد.
٣٧٤٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان ناس من أهل اليمن يخرجون بغير زاد إلى مكة، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى.
٣٧٤٩ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون:" نحج بيت الله ولا يطعمنا! ". فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.
٣٧٥٠ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فكان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأنبأ أن خير الزاد التقوى.
٣٧٥١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير:" وتزودوا" قال: السويق والدقيق والكعك.
٣٧٥٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد
159
بن سوقة، عن سعيد بن جبير:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: الخشكانج والسويق. (١)
٣٧٥٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الملك بن عطاء البكائي، قال: سمعت الشعبي يقول في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: هو الطعام، وكان يومئذ الطعام قليلا. قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التمر والسويق. (٢)
٣٧٥٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب.
٣٧٥٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان الناس يتزودون إلى عقبة، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا ولم يتزودوا. (٣)
٣٧٥٦ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، قال: قال سفيان في قوله:" وتزودوا"، قال: أمروا بالسويق والكعك.
٣٧٥٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرني أبي أنه سمع عكرمة يقول في قوله:" وتزودوا"، قال: هو السويق والدقيق.
٣٧٥٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
(١) في اللسان (كعك) وفي المغرب لجواليقي: ١٣٤"الخشكنان" قد تكلمت به العرب قال الراجز:
يا حبذا الكعك بلحم مثرود وخشكنان وسويق مقنود
والخشكنانج هو الخشكنان: وهو طعام من دقيق مصنوع.
(٢) الخبر: ٣٧٥٣ - مضت ترجمة"عبد الملك بن عطاء" في: ٣٧٣٤ وأنه"البكائي". ووقع في المطبوعة هنا"البكالي" باللام بدل الهمزة وهو خطأ وتصحيف.
(٣) العقبة (بضم فسكون) قدر ما يسير السائر حتى ينزل.
160
قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كانت قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس، فقال الله تبارك تعالى لهم:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
٣٧٥٩ - حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة قال: كان الناس يقدمون مكة بغير زاد، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". (١)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: فمن فرض في أشهر الحج الحج فأحرم فيهن، فلا يرفثن ولا يفسقن. فإن أمر الحج قد استقام لكم، وعرفكم ربكم ميقاته وحدوده، فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه، يعلمه. وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا بر لله جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزود، فمنه تزودوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن الضحاك بن مزاحم.
٣٧٦٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" فإن خير الزاد التقوى"، قال: والتقوى عمل بطاعة الله.
وقد بينا معنى"التقوى" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (١٩٧)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقون يا أهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم = وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي.
* * *
وخص جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب، لأنهم هم أهل التمييز بين الحق والباطل، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشباحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضل سبيلا.
و"الألباب": جمع"لب"، وهو العقل. (٣)
* * *
(١) الخبر: ٣٧٥٩ -عمرو بن عبد الحميد الآملي- شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة ولعله محرف عن شيء لا أعرفه.
(٢) انظر ما سلف ١: ٢٣٢، ٢٣٣، ٣٦٤.
(٣) انظر ما سلف في الجزء ٣: ٣٨٣.
161
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: ليس عليكم أيها المؤمنون جناح.
* * *
و"الجناح"، الحرج، (١) كما:-
٣٧٦١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن
(١) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" من الجزء ٣: ٢٣٠، ٢٣١.
162
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.
* * *
وقوله:" أن تبتغوا فضلا من ربكم"، يعني: أن تلتمسوا فضلا من عند ربكم.
يقال منه: ابتغيت فضلا من الله - ومن فضل الله- أبتغيه ابتغاء"، إذا طلبته والتمسته،" وبغيته أبغيه بغيا"، (١) كما قال عبد بني الحسحاس:
بغاك، وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا (٢)
يعني طلبك والتمسك.
* * *
وقيل: إن معنى" ابتغاء الفضل من الله"، التماس رزق الله بالتجارة، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البر بذلك، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء.
* ذكر من قال ذلك:
(١) انظر ما سلف في تفسير: "ابتغي" من الجزء ٣: ٥٠٨.
(٢) ديوانه: ٤١ وسيأتي في التفسير ٤: ١٥- ١٦/ ٥: ٤٥ (بولاق) وهذا البيت متعلق بثلاثة أبيات قبله، هو تمام معناها في ذكر الموت:
رأيت المنايا لم يهبن محمدا ولا أحدا ولم يدعن مخلدا
ألا لا أرى على المنون ممهلا ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
سيلقاك قرن لا تريد قتاله كمي إذا ما هم بالقرن أقصدا
بغاك وما تبغيه.......... ...................
وقوله: "حتى وجدته" رواية الديوان"إلا وجدته". ورواية الطبري عزيزة فهي شاهد قل أن نظفر به على أن"حتى" تأتي بمعنى"إلا" في الاستثناء وقد ذكر ذلك ابن هشام في المغني ١: ١١١ قال بعد ذكر وجوه"حتى": "وبمعنى إلا في لاستثناء، وهذا أقلها وقل من يذكره".
163
٣٧٦٢ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: في الموسم.
٣٧٦٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث قال: كان ناس لا يتجرون أيام الحج، فنزلت فيهم" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (١)
٣٧٦٤ - حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: إذا كنتم محرمين، أن تبيعوا وتشتروا.
٣٧٦٥ - حدثنا طليق بن محمد الواسطي، قال: أخبرنا أسباط، قال: أخبرنا الحسن ابن عمرو، عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكرى، فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا: بلى! قال: جاء رجل إلى النبي: ﷺ فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم حجاج. (٢)
(١) في المطبوعة: "فنزلت فيهم: لا جناح عليكم أن تبتغوا.. " وبين أنه خطأ وسهو.
(٢) الحديث: ٣٧٦٥ -طليق بن محمد بن السكن الواسطي شيخ الطبري: ثقة، قال ابن حبان في الثقات: "مستقيم الحديث كالأثبات". وهو من شيوخ النسائي وابن خزيمة وغيرهما. وهذا الباب باب"طليق": نص الذهبي في المشتبه على أنه بفتح الطاء وتبعه الحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه. ولم يذكرا غير هذا الضبط. ولكن الحافظ في التقريب ضبط أول اسم فيه"بالتصغير" بالنص على ذلك. وأنا أرجح أنه وهم منه، رحمه الله.
أسباط: هو ابن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة وهو ثقة من شيوخ أحمد وابن راهويه وغيرهما. الحسن بن عمرو الفقيمي -بضم الفاء- التميمي الكوفي: ثقة أخرج له البخاري في صحيحه ابو أمامة التيمي: تابعي ثقة. بينا ترجمته ومراجعها في شرح المسند: ٦٤٣٤.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٦٤٣٤ عن أسباط بن محمد بهذا الإسناد. وقد فصلنا القول في تخريجه هناك. ونقله ابن كثير ١: ٤٦٣ عن المسند و ٤٦٤ عن هذا الموضع من الطبري وسيأتي بإسناد آخر: ٣٧٨٩.
164
٣٧٦٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: كانت تقرأ هذه الآية:"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
٣٧٦٧ - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور بن المعتمر في قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: هو التجارة في البيع والشراء، والاشتراء لا بأس به.
٣٧٦٨ - حدثت عن أبي هشام الرفاعي، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
٣٧٦٩ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنزل الله جل ثناؤه:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".
٣٧٧٠ - حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة بن سوار، قال: حدثنا شعبة، عن أبي أميمة، قال: سمعت ابن عمر - وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة - فقرأ ابن عمر:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (١)
٣٧٧١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم = وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم = قال: أخبرنا يزيد بن أبي
(١) الخبر: ٣٧٧٠ -أبو أميمة: الراجح الظاهر أنه"أبو أمامة التيمي" الماضي في الحديث ٣٧٦٥، وأن هذا الخبر مختصر من ذاك الحديث ولكنه موقوف على ابن عمر.
وقد نقله ابن كثير ١: ٤٦٣، عن هذا الموضع من الطبري وقال: "وهذا موقوف، وهو قوي جيد".
165
زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يتجرون في أيام الحج، فنزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".
٣٧٧٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قرأ: (١) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
٣٧٧٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج"، هكذا قرأها ابن عباس.
٣٧٧٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة.
٣٧٧٥ - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة، أحلت لهم في المواسم. قال: فكانوا لا يبيعون، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة.
٣٧٧٦ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٧٧٧ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر، وكانوا يسمونها"ليلة الصدر"، ولا
(١) في المطبوعة: "قال" مكان"قرأ" وهو سهو من الناسخ، وانظر الأثر السالف: ٣٧٦٦، ٣٧٦٨، والآثار التي تلي هذا الأثر.
166
يطلبون فيها تجارة ولا بيعا، فأحل الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين، أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم.
٣٧٧٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن الزبير يقرأ: (١) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". (٢)
٣٧٧٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
٣٧٨٠ - حدثنا أحمد بن حازم والمثنى، قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: كان بعض الحاج يسمون"الداج"، فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون، حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فحجوا. (٣)
٣٧٨١ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان ناس يحجون ولا يتجرون، حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد.
٣٧٨٢ - حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
(١) في المطبوعة: "سمعت ابن الزبير يقول" والصواب من مخطوطة تفسير عبد الرزاق ص: ٢١.
(٢) الخبر: ٣٧٧٨ - أشار إليه الحافظ في الفتح ٣: ٤٧٣ وذكر أنه رواه ابن عيينة وابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد. ولم يذكر من خرجه وقد عرفنا من رواية الطبري أنه خرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة. وهو في تفسير عبد الرزاق ص: ٢١، بهذا الإسناد. وهو صحيح عبيد الله بن ألبي يزيد المكي: تابعي ثقة.
(٣) الداج: هم الذين مع الحجاج من الأجراء والمكارين والأعوان والخدم، وظاهر أنهم كانوا لا يحجون مع الناس.
167
أسباط عن السدي، قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، هي التجارة. قال: اتجروا في الموسم.
٣٧٨٣ - حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم.
٣٧٨٤ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم، يقولون:" أيام ذكر! " فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فحجوا.
٣٧٨٥ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
٣٧٨٦ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، قال: لا بأس بالتجارة في الحج، ثم قرأ:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".
٣٧٨٧ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة، وكانوا يسمونها" ليلة الصدر"، ولا يطلبون فيها تجارة. فأحل الله ذلك كله، أن يعرجوا على حاجتهم، وأن يطلبوا فضلا من ربهم.
٣٧٨٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت لعمر: يا أمير
168
المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج.
٣٧٨٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم نكرى فيزعمون أنه ليس لنا حج! قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى! قال: فأنت حاج! جاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (١)
٣٧٩٠ - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة، ولم يعرجوا على كسير، ولا على ضالة، فأحل الله ذلك، فقال:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية.
٣٧٩١ - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فكانوا يتجرون فيها. فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٣٧٨٩ -العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي: ثقة مأمون، كما قال ابن معين.
والديث رواه أحمد في المسند: ٦٤٣٥، عن عبد الله بن الوليد العدني، عن سفيان الثوري بهذا الإسناد. وقلنا في شرحه: إن إسناده صحيح، وأن إبهام الرجل من بني تيم الله- لا يضر، فقد عرف أنه"أبو أمامة التيمي". كما مضى في: ٣٧٦٥. وقد خرجناه مفصلا في المسند.
(٢) الحديث: ٣٧٩١ -سعيد بن الربيع الرازي- شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة. وقد ذكر في فهارس تاريخ الطبري بهذا الاسم، فانتفت شبهة التحريف فيه. و"سفيان" -شيخه: هو ابن عيينة. ويشتبه"سعيد بن الربيع" براو آخر، هو"سعيد بن الربيع الهروي الجرشي العامري" المترجم في التهذيب. ولكنه قديم الوفاة، مات سنة ٢١١ قبل ولادة الطبري. وهو من أقدم شيوخ البخاري.
والحديث رواه البخاري ٤: ٢٤٨، ٢٦٩، و ٨: ١٣٩ (فتح) من طريق سفيان ابن عيينة بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا ٣: ٤٧٣- ٤٧٤ من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار. وذكره ابن كثير ١: ٤٦٢، من رواية البخاري.
وهذا الحديث من أفراد البخاري -دون مسلم- كما نص على ذلك الحافظ في الفتح ٣: ٤٧٥. ولم أجده في مسند أحمد. وهو من الأحاديث الصحاح القليلة، التي في أحد الصحيحين وليست في المسند.
وقد مضى نحو معناه مختصرا: ٣٧٧٩، من رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة ومضى كذلك مختصرا: ٣٧٧١، ٣٧٨٤، من وجه آخر من رواية مجاهد عن ابن عباس. و ٣٧٧٢، ٣٧٨٥، من وجه ثالث، من رواية عطاء عن ابن عباس.
169
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فإذا أفضتم"، فإذا رجعتم من حيث بدأتم.
* * *
ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار:"مفيض"، لجمعه القداح، ثم إفاضته إياها بين الياسرين. (١) ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي: (٢)
فقلت لها ردي إليه جنانه فردت كما رد المنيح مفيض (٣)
* * *
ثم اختلف أهل العربية في"عرفات"، والعلة التي من أجلها صُرفت وهي
(١) القداح جمع قدح (بكسر فسكون) : هو السهم قبل أن ينصل ويراش، كانوا يستقسمون بها في الميسر، وهي الأزلام أيضًا. والأيسار جمع يس (بفتحين) وهم المجتمعون على الميسر من أشراف الحي. وفي المطبوعة: "المياسرين" والصواب ما أثبت. والياسر: الضارب بالقداح والمتقامر على الجزور اللاعب بالقداح.
(٢) في المطبوعة: "ابن أبي حازم" وهو خطأ.
(٣) لم أجد هذا البيت في مكان، ومن القصيدة ثلاثة أبيات في الحيوان ٦: ٣٤٣ من هذا الشعر، وهي أبيات جياد. والمنيح: أحد القداح الأربعة التي ليس لها غرم ولا غنم في قداح الميسر، ولكن قد يمنح صاحبه شيئا من الجزور. ولا أتبين معنى البيت حتى أعرف ما قبله، وأعرف الضمائر فيه إلى من تعود.
170
معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع؟
فقال بعض نحويي البصريين: هي اسم كان لجماعة مثل"مسلمات، ومؤمنات"، سميت به بقعة واحدة، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة، تركا منهم له على أصله. لأن"التاء" فيه صارت بمنزلة"الياء والواو" في"مسلمين ومسلمون"، لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنزلة"النون". فلما سمي به ترك على حاله، كما يترك" المسلمون" إذا سمي به على حاله. (١) قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به، ويشبه"التاء" بهاء التأنيث، وذلك قبيح ضعيف، واستشهدوا بقول الشاعر: (٢)
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي (٣)
ومنهم من لا ينون"أدرعات" وكذلك:"عانات"، وهو مكان.
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما انصرفت"عرفات"، لأنهن على جماع مؤنث"بالتاء". قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث"بالتاء"، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة، انصرفت. قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا، ثم تجعله بعد ذلك واحدا.
(١) هو قول الأخفش (اللسان: عرف) ومعجم البلدان (عرفات) وانظر سيبويه ٢: ١٧- ١٨.
(٢) هو امرؤ القيس بن حجر.
(٣) ديوانه: ١٤٠، وسيبويه ٢: ١٨ والخزانة ١: ٢٦ وهو من قصيدته الرائعة المشهورة والضمير في قوله: "تنورتها" للمرأة التي يذكرها (انظر طبقات فحول الشعراء: ٦٨ تعليق: ٣). وتنورالنار أبصرها من بعيد جعل المرأة تضيء له فيراها كالنار المشبوبة. وأذرعات: بلد بالشام. ويثرب: مدينة رسول الله ﷺ كان هذا اسمها في الجاهلية. يقول: لاح له نورها في الظلماء، وهو بالشام وأهلها بالمدينة. ثم يقول: أقرب ما يرى منها لا يرى إلا من مكان عال في جو السماء. يصف بعد ما بينه وبينها، ومع ذلك فقد لاحت له في الليل من هذا المكان البعيد، وأتم المعنى في البيت لتالي:
نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال
171
وقال آخرون منهم: ليست"عرفات" حكاية، ولا هي اسم منقول، (١) ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه"بعرفات"، ثم سميت بها البقعة. اسم للموضع، ولا ينفرد واحدها. قال: وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء. قال: ولذلك نصبت العرب"التاء" في ذلك، لأنه موضع. ولو كان محكيا، لم يكن ذلك فيه جائزا، لأن من سمى رجلا"مسلمات" أو"مسلمين" لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل، فلذلك خالف:"عانات، وأذرعات"، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات"عرفات". فقال بعضهم: قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سباسب، فتجمع بما حولها. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
٣٧٩٢ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج، فأجابوه بالتلبية، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها فخرج، فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية، فصده أيضا، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر.
(١) الحكاية: الإتيان باللفظ على ما كان عليه من قبل، وسيظهر معناها في الأسطر الآتية.
(٢) انظر ما سلف ١: ٤٣٣.
172
فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، (١) انطلق حتى أتى ذا المجاز، (٢) فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال:"قد عرفت! " فسمي:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت:"المزدلفة"، فوقف بجمع. (٣)
٣٧٩٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سليمان التيمي، عن نعيم بن أبي هند، قال: لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات، قال:"عرفت! "، فسميت عرفات لذلك.
٣٧٩٤ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال:"قد عرفت! "، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، ولذلك سميت"عرفة".
* * *
وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها.
* ذكر من قال ذلك:
٣٧٩٥ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن مسلم القرشي، عن أبي طهفة، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: إنما سميت عرفات، لأن جبريل عليه السلام، كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، هذا موضع كذا، فيقول:" قد عرفت! "، فلذلك سميت"عرفات". (٤)
(١) في المطبوعة: "فلما رأى أنه لا يطيعه، فلم يدر إبراهيم" والصواب ما أثبته عن نص الطبري آنفًا، كما سيأتي في المراجع بعد.
(٢) في المطبوعة: "فانطلق" والصواب ما أثبت.
(٣) الأثر: ٣٧٩٢ -قد سلف تاما برقم: ٢٠٦٥، والتصويب السالف منه.
(٤) الخبر: ٣٧٩٥ - هذا إسناد مشكل، لا أدري ما وجه صوابه. أما"وكيع بن مسلم القرشي": فما وجدت راويا بهذا الاسم ولا ما يشبهه. والذي أكاد أجزم به أنه"وكيع بن الجراح" الإمام المعروف. وأن كلمة"بن" محرفة عن كلمة"عن" ثم يزيد الإشكال أن لم أجد من اسمه"مسلم القرشي" وإشكال ثالث، أن"أبا طهفة" هذا لا ندري ما هو؟
واليقين -عندي- أن الإسناد محرف غير مستقيم.
173
٣٧٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك، فيقول:" عرفت، عرفت! " فسمي"عرفات".
٣٧٩٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف، حتى يأتي الجبل جبل عرفة.
وقال ابن أبي نجيح: عرفات:"النبعة" و"النبيعة" و"ذات النابت"، وذلك قول الله:" فإذا أفضتم من عرفات"، وهو الشعب الأوسط.
وقال زكريا: ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة، فهو من عرفة، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة.
* * *
وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا. وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف.
* * *
174
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة، إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه،" فاذكروا الله"، يعني بذلك: الصلاة، والدعاء عند المشعر الحرام.
* * *
وقد بينا قبل أن"المشاعر" هي المعالم، من قول القائل:"شعرت بهذا الأمر"، أي علمت، ف"المشعر"، هو المعلم، (١) سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده. وقد:-
٣٧٩٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، قال: يستحب للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم".
* * *
فأما"المشعر": فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر.
وليس مأزما عرفة من"المشعر". (٢)
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(١) انظر ما سلف في الجزء ٣: ٢٢٦، ٢٢٧ (بولاق) تفسير"شعائر".
(٢) المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين. ومأزما عرفة: مضيق ين جمع وعرفة.
175
٣٧٩٩ - حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر.
٣٨٠٠ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: هو الجبل وما حوله.
٣٨٠١ - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس قال: ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر.
٣٨٠٢ - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير، مثله.
٣٨٠٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري= وحدثني أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان= عن السدي، عن سعيد بن جبير، قال: سألته عن المشعر الحرام فقال: ما بين جبلي المزدلفة.
٣٨٠٤ - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال:"المشعر الحرام" المزدلفة كلها= قال معمر: وقاله قتادة.
٣٨٠٥ - حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، قال: أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام.
٣٨٠٦ - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا أبي، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام،
176
فقال: إذا انطلقت معي أعلمتكه. قال: فانطلقت معه، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه، حتى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه؟ قال: كلها مشاعر إلى أقصى الحرم.
٣٨٠٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل= عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن المشعر الحرام قال: إن تلزمني أركه. قال: فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك، قال: أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه! قال: حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة.
٣٨٠٨ - حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي، قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام؟ فقال: الزمني! فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
٣٨٠٩ - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: المشعر الحرام: المزدلفة كلها.
٣٨١٠ - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة، فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما.
قال: قف بينهما إن شئت، وأحب إلي أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس!.
٣٨١١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
177
عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح، فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر!.
٣٨١٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها.
٣٨١٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٨١٤ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وذلك ليلة جمع. قال قتادة: كان ابن عباس يقول: ما بين الجبلين مشعر.
٣٨١٥ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة = ويقال: هو قرن قزح. (١)
٣٨١٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، وهي المزدلفة، وهي جمع.
* * *
* وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما:-
٣٨١٧ - حدثنا به هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام.
٣٨١٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: المشعر الحرام: ما بين جبلي مزدلفة.
٣٨١٩ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المشعر الحرام فقال:
(١) القرن: الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير.
178
ما أدري؟ وسألت ابن عباس، فقال: ما بين الجبلين.
٣٨٢٠ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجبيل وما حوله مشاعر.
٣٨٢١ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ثوير، قال: وقفت مع مجاهد على الجبيل، فقال: هذا المشعر الحرام.
٣٨٢٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، الجبيل وما حوله مشاعر.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما جعلنا أول حد المشعر مما يلي منى، منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة، لأن:-
٣٨٢٣ - المثنى حدثني قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن النبي ﷺ قال:"عرفة كلها موقف إلا عرنة، وجمع كلها موقف إلا محسرا". (١)
٣٨٢٤ - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن حجاج، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، أنه قال: كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر.
٣٨٢٥ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، قال: أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك.
(١) الحديث: ٣٨٢٣ -هذا حديث مرسل كما قال ابن كثير ١: ٤٦٧ وقد رواه مالك في الموطأ ص: ٣٨٨"أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"- دون إسناد. وذكره ابن عبد البر في كتاب"التقصي" رقم: ٨٣٩. وقال: "وهذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب". وحديث جابر رواه مسلم ١: ٣٤٨ ولكن ليس فيه استثناء"عرنة" و"محسر" ورواه ابن ماجه: ٣٠١٢ من حديث جابر وفيه هذا الاستثناء. وإسناده ضعيف جدا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي ٥: ١١٥، والتلخيص الحبير ص: ٢١٦ ونصب الراية ٣: ٦٠- ٦٢.
179
٣٨٢٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن هشام بن عروة، قال: قال عبد الله بن الزبير في خطبته: تعلمن أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، تعلمن أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. (١)
* * *
قال أبو جعفر: غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله، لأن:-
٣٨٢٧ - أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن زيد بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي قال: لما أصبح رسول الله ﷺ بالمزدلفة، غدا فوقف على قزح، وأردف الفضل، ثم قال: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف.
٣٨٢٨ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن الحسين، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع، عن رسول الله ﷺ بنحوه. (٢)
(١) الخبر: ٣٨٢٦ -رواه مالك في الموطأ ص ٣٨٨، بنحوه عن هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير.
(٢) الحديثان: ٣٨٢٧، ٣٨٢٨ -إبراهيم بن إسمعيل بن مجمع الأنصاري المدني: ضعيف قال ابن معين: "ليس بشيء" وقال البخاري: "كثير الوهم". عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي: ثقة من أهل العلم. ين بن علي بن أبي طالب: ثقة معروف، لا يحتاج إلى تعريف. وهو الذي تنسب إليه الزيدية من الشيعة. وكان حربا على الرافضة. وهو يروى عن عبيد الله بن أبي رافع مباشرة، ولكنه روى هذا الحديث بعينه -كما سيأتي في التخريج- عن أبيه زين العابدين علي بن الحسين عن عبيد الله. عبيد الله بن أبي رافع المدني، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعي ثقة. وكان كاتبا لعلي بن أبي طالب رضي اله عنه.
وهذا الحديث مختصر من حديث مطول. وقد أخطأ فيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع: فحذف من الإسناد [عن أبيه] بين زيد بن علي وعبيد الله بن أبي رافع. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"أردف الفضل" -في هذا الحديث. وإنما"أردف أسامة بن زيد". وإرداف الفضل بن عباس كان في حادثة أخرى.
والحديث رواه احمد في المسند: ١٣٤٧، عن يحيى بن آدم عن سفيان -وهو الثوري-"عن عبد الرحمن بن عياش عن زيد بن علي، عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: وقف رسول الله ﷺ بعرفة فقال: هذا الموقف وعرفة كلها موقف ثم أردف أسامة فجعل يعتق على ناقته، والناس يضربون الإبل يمينا وشمالا، لا يلتفت إليهم". وهذا مختصر أيضًا. ورواه أبو داود: ١٩٢٢، عن أحمد بن حنبل بهذا الإسناد واختصره قليلا.
ورواه أحمد: ٥٦٢ عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان بهذا الإسناد مطولا. وفيه -بعد إرداف أسامة-"ثم أتى قزح فوقف على قزح، فقال: هذا الموقف وجمع كلها موقف... "- إلى آخره مطولا.
ورواه عبد الله بن أحمد، في زيادات المسند: ٥٦٤ من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي عن أبيه. و ٦١٣ من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الرحمن المخزومي - بهذا الإسناد مطولا أيضًا.
ورواه الترمذي ٢: ١٠٠- ١٠١، مطولا من طريق أبي أحمد الزبيري عن الثوري وقال: "حديث حسن صحيح، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه من حديث عبد الرحمن بن الحارث ابن عياش. وقد رواه غير واحد عن الثوري مثل هذا".
180
٣٨٢٩ - حدثنا هناد وأحمد الدولابي، قالا حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث، قال: رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا! أيها الناس أصبحوا! ثم دفع. (١)
(١) الخر: ٣٨٢٩ -سفيان: هو ابن عيينة. ابن المنكدر: هو محمد بن المنكدر التيمي: أحد الأئمة الأعلام من التابعين.
سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع: ترجمه الحافظ في التعجيل ص: ١٥٤ وذكر أنه مخزومي وأشار إلى هذا الخبر من روايته. وقال: "وقع عند غيره: عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع". ويريد: عند غير الشافعي، لأن هذا الخبر رواه الشافعي كما سيأتي. وقد رمز لهذه الترجمة في التعجيل بحرف الألف، وهو رمز"أحمد" في المسند. وهو خطأ مطبعي. وصحته"فع" رمز الشافعي. وعبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع: مترجم في التهذيب ٦: ١٨٧ وابن سعد ٥: ١١١ وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٣٩، ولكن جميع روايات هذا الخبر فيها"سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". وأنا أرجح بما يظهر لي من الترجمتين: أن الراوي هنا غير المترجم في التهذيب ومن المحتمل أن راوي هذا الخبر ابن +الذي في التهذيب. خصوصا وأن ابن أبي حاتم ذكره في ترجمة"ابن الحويرث" راويا عنه. وإن لم يترجم هو ولا البخاري في الكبير ل"سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع".
ابن الحويرث: هو جبير بن الحويرث. ترجمه ابن أبي حاتم ١/١/٥١٢ وقال: "روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. روى عنه سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". وكذلك ترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب رقم: ٣١٧ ثم قال: "في صحبته نظر". وترجمه ابن الأثير في أسد الغابة ١: ٢٧٠ وقال: "وقتل أبوه يوم فتح مكة قتله علي. وهذا يدل على أن لابنه جبير صحبة أو رؤية". وكذلك رجح صحبته - الحافظ في الإصابة ١: ٢٣٥ والتعجيل: ٦٦- ٦٧. وكلهم ذكر أباه باسم"الحويرث" إلا المصعب الزبيري في نسب قريش ص: ٢٥٧ فإنه ذكره باسم"الحارث" و"الحويرث" هو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام، ص: ٨١٩ (طبعة أوربة) وطبقات ابن سعد ١/٢/٩٠.
وهذا الخبر رواه الشافعي في الأم ٢: ١٨٠ عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد بزيادة في آخره ولكن فيه: "عن أبي الحويرث" وكذلك ثبت في مسنده بترتيب الشيخ عابد السندي ١: ٢٥٦. ووقع في مسند الشافعي المطبوع بهامش الجزء ٦ من الأم: "عن جوبير بن حويرث". وهذا الضطراب يدل على تحريف الاسم في بعض نسخ الأم ومسند الشافعي. خصوصا وأن الحافظ ابن حجر ذكر اسمه في التعجيل على الصواب ولم يذكر فيه خلافا، لو كان هذا اختلاف رواية مع أنه رمز له برمز الشافعي وحده. ولعل هذا الخطأ كان في بعض نسخ الأم. ومسند الشافعي القديمة وأن هذا حمل البيهقي على أن يروي الخبر من غير طريق الشافعي خلافا لعادته الغالبة.
فقد رواه البيهقي ٥: ١٢٥، من طريق سعدان بن نصر عن سفيان وهو ابن عيينة -بهذا الإسناد. ورواه ابن حزم في المحلى ٣: ٢١٥- ٢١٦ من طريق محمد بن المثنى عن سفيان به.
181
٣٨٣٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عبد الله بن عثمان، عن يوسف بن ماهك، قال: حججت مع ابن عمر، فلما أصبح بجمع صلى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته.
* * *
وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة:" هذا كله مشاعر إلى مكة"، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحج = لا أن كل ذلك"المشعر الحرام" الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع.
* * *
182
وأما قول عبد الرحمن بن الأسود:" لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام" فلأنه يحتمل أن يكون أراد: لم أجد أحدا يخبرني عن حد أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه. لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان، لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها. غير أن ذلك وإن لم يقف على حد أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم. وكذلك سائر مشاعر الحج، والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام= بالثناء عليه، والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق وبعد الضلالة= كذكره إياكم بالهدى، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله:" كما هداكم".
* * *
وأما قوله:" وإن كنتم من قبله لمن الضالين"، فإن من أهل العربية من يوجه تأويل" إن" إلى تأويل" ما"، وتأويل اللام التي في" لمن" إلى" إلا". (١)
(١) هذا توجيه الكوفيين انظر المعنى لابن هشام ١: ١٩١ وغيره.
183
فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم = من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه = إلا من الضالين.
* * *
ومنهم من يوجه تأويل"إن" إلى"قد".
فمعناه على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، ومن المعني بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس؟ ومن"الناس" الذين أمروا بالإفاضة من موضع إفاضتهم؟
فقال بعضهم: المعني بقوله:" ثم أفيضوا"، قريش ومن ولدته قريش، الذين كانوا يسمون في الجاهلية"الحمس"، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات، وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس. وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش، كانوا يقولون:"لا نخرج من الحرم". فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة معهم، فأمرهم الله بالوقوف معهم.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٣١ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة قالت: كانت
184
قريش ومن كان على دينها -وهم الحمس- يقفون بالمزدلفة يقولون:"نحن قطين الله! "، وكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (١)
٣٨٣٢ - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان كتبت إلي في قول النبي ﷺ لرجل من الأنصار:"إني أحمس" (٢) وإني لا أدري أقالها النبي أم لا؟ غير أني سمعتها تحدث عنه. والحمس: ملة قريش- وهم مشركون- ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة، إنما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو المشعر الحرام، وكانت بنو عامر حمسا، وذلك أن قريشا ولدتهم، ولهم قيل:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، وأن العرب كلها كانت تفيض من عرفة إلا الحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة. (٣)
(١) الحديث: ٣٨٣١ - محمد بن عبد الرحمن الطفاوي بضم الطاء المهملة: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما.
والحديث رواه البخاري ٨: ١٣٩ (فتح) عن ابن المديني عن محمد بن خازم عن هشام به، مطولا قليلا. وكذلك رواه مسلم ١: ٣٤٨ عن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية وهو محمد بن خازم به.
القطين اسم جماعة واحدهم قاطن والجمع قطان: وهم سكان الدار المقيمون بها لا يبرحونها وقولهم"نحن قطين الله" فيه محذوف أي: قطين بيت الله وحرمه. ولو حمل على قولهم: القطين هم الخدم لكان معناه: خدم الله والقائمون بأمر بيته، بلا حاجة إلى تقدير محذوف. وهو جيد أيضًا.
(٢) انظر الآثار السالفة من رقم: ٣٠٧٧- ٣٠٨٧ ففيها خبر الأنصاري ومقالة رسول الله له.
(٣) الحديث: ٣٨٣٢ -أبان: هو ابن يزيد العطار وهو ثقة وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وهذا الحديث بهذا السياق -لم أجده في موضع آخر. ومعناه ثابت في الحديث الذي قبله، وفي حديث مطول آخر، رواه البخاري ٣: ٤١١- ٤١٣ (فتح). من طريق علي بن مسهر. ومسلم: ٣٤٨ن من طريق أبي أسامة- كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه.
وانظر أيضًا ما مضى في الطبري: ٣٠٧٧- ٣٠٨٧.
وقول عروة -هنا-"غير أني سمعتها تحدث عنه": يريد به خالته"عائشة أم المؤمنين" وأنها تحدث ذلك عن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وهذا واضح من سياق القول ومن سائر الروايات الأخر. ولعله عبر عنهما بالضمير لسبق ذكرهما في سؤال عبد الملك بن مروان الذي يجيبه بهذا القول.
185
٣٨٣٣ - حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حسين بن عبيد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، فرفع النبي ﷺ الموقف إلى موقف العرب بعرفة. (١)
٣٨٣٤ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عبد الملك، عن عطاء:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" من حيث تفيض جماعة الناس.
٣٨٣٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن طلحة، عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى
(١) الحديث: ٣٨٣٣ - أحمد بن محمد الطوسي شيخ الطبري: روى عنه في لتاريخ ١: ٨، ١٧ باسم"أحمد بن محمد بن حبيب". ثم في ١: ٦٧ باسم"أحمد بن محمد الطوسي" كما هنا. ثم في ١: ٢٠٩ باسم"أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي". فتعين أنه هو وهو مترجم لتهذيب وتاريخ بغداد ٥: ١٠٨- ١٠٩، باسم"أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب أبو جعفر يعرف بالطوسي". وهو من شيوخ لترمذي وذكره ابن حبان في الثقات. و"نيزك": بكسر النون وفتح الزاي بينهما ياء تحتية، كما ضبط في التقريب والخلاصة.
أبو توبة: هو الربيع بن نافع الحلبي سكن طرسوس وهو ثقة صدوق حجة كما قال أبو حاتم وهو من شيوخه وشيوخ الإمام أحمد وأبي داود وغيرهم.
أبو إسحاق الفزاري: هو الحافظ الحجة شيخ الإسلام إراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن وهو الثقة المأمون الإمام. شيخه سفيان: هو الثوري.
حسين بن عبيد اله: هو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم. ولعله نسب هنا إلى جده بل لعل الأصل"بن عبد الله" فحرفها الناسخون. وإنما جزمت بأنه هو: لأنه هو الذي يروي عن عكرمة ويروي عنه الثوري كما في ترجمته عند ابن أبي حاتم ١/٢/٥٧. ثم ما في هذه الطبقة من الرواة من يسمى"حسين بن عبيد الله". بل ليس في التهذيب ولا في الكبير ولا عند ابن أبي حاتم من يدعي ذلك. نعم هناك رواة بهذا الاسم في لسان الميزان وكلهم متأخرون عن هذه الطبقة.
وهذا الحديث لم أجده في غير الطبري، ولم ينسبه السيوطي ١: ٢٢٧ لغيره.
186
السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي! فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم".
٣٨٣٦ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح = وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: عرفة. قال: كانت قريش تقول نحن:" الحمس أهل الحرم، ولا نخلف الحرم، ونفيض عن المزدلفة"، فأمروا أن يبلغوا عرفة.
٣٨٣٧ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال قتادة: وكانت قريش وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، ويقولون:"إنما نحن أهل الله، فلا نخرج من حرمه"، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات، وأخبرهم أن سنة إبراهيم وإسمعيل هكذا: الإفاضة من عرفات.
٣٨٣٨ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت العرب تقف بعرفات، فتعظم قريش أن تقف معهم، فتقف قريش بالمزدلفة، فأمرهم الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات.
٣٨٣٩ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه، يقولون:"إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه"؛
187
فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس; وكانت سنة إبراهيم وإسمعيل الإفاضة من عرفات.
٣٨٤٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: كانت قريش - لا أدري قبل الفيل أم بعده - ابتدعت أمر الحمس، رأيا رأوه بينهم، (١) قالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنو مكة وساكنوها، (٢) فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم" (٣) وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس: أهل الحرم.
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فيحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا:"لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلأوا السمن وهم حرم، (٤) ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما". ثم رفعوا في ذلك (٥) فقالوا:"لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل
(١) في سيرة ابن هشام: "رأيا رأوه وأداروه".
(٢) في سيرة ابن هشام: "وقطان مكة وساكنها".
(٣) في سيرة ابن هشام: "بحرمتكم".
(٤) في سيرة ابن هشام: "أن يأتقطوا" ائتقط الأقط: اتخذه والأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل وهو من ألبان الإبل خاصة. وسلأ السمن: طبخه وعالجه فأذاب زبده. والحرم (بضمتين) جمع حرام. رجل حرام: محرم.
(٥) رفعوا في ذلك: زادوا وغالوا.
188
في الحرم، (١) إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة". فحملوا على ذلك العرب فدانت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، (٢) فكانوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- حين أحكم له دينه وشرع له حجه: (٣) " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" - يعني قريشا، و"الناس" العرب- فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها، والإفاضة منها. فوضع الله أمر الحمس- وما كانت قريش ابتدعت منه- عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله. (٤)
٣٨٤١ - حدثنا بحر بن نصر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: كانت قريش تقف بقزح، وكان الناس يقفون بعرفة، قال: فأنزله الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس".
* * *
وقال آخرون: المخاطبون بقوله:" ثم أفيضوا"، المسلمون كلهم، والمعني بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من جمع، وبـ "الناس"، إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك.
٣٨٤٢ - حدثت عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا هارون بن معاوية الفزاري، عن أبي بسطام عن الضحاك، قال: هو إبراهيم. (٥)
(١) في سيرة ابن هشام: "من الحل إلى الحرم".
(٢) هذه الجملة غير موجودة بنصها في سيرة ابن هشام.
(٣) في المطبوعة: "حجته" وفي سيرة ابن هشام: "وشرع له سنن حجه".
(٤) الأثر: ٣٨٤٠ -في سيرة ابن هشام ١: ٢١١- ٢١٦ وفي السيرة زيادات وقد أثبتنا الاختلاف آنفًا.
(٥) الخبر: القاسم بن سلام بتشديد اللام: هو أبو عبيد الإمام الحجة صاحب كتاب الأموال وغيره من المؤلفات.
مروان بن معاوية الفزاري: مضت ترجمته: ١٢٢٢، ٣٣٢٢. ووقع في المطبوعة هنا"هارون""مروان". وهو خطأ واضح. و"مروان الفزاري" من شيوخ القاسم بن سلام كما في ترجمته الممتعة في تاريخ بغداد ١٢: ٤٠٣- ٤٠٦.
أبو بسطام: هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي وهو ثقة بينا ذلك في المسند: ٣١٠٧.
الضحاك: هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني وهو ثقة ما ذكرنا في المسند: ٢٢٦٢.
وهذا الخبر أشار إليه ابن كثير ١: ٤٦٩ أنه"حكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط". وهم السيوطي ١: ٢٢٧، فذكره من رواية الطبري عن ابن عباس؟ ولعله سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن عباس؟؟
189
قال أبو جعفر: والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متحمسا معها من سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، وما تفعلوا من خير يعلمه الله.
وهذا، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، على نحو ما تقدم بياننا في مثله، (١) ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله. لقلت: أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من حيث أفاض إبراهيم. لأن الإفاضة من عرفات لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك، وكان الله عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس، بعد انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات، وبعد أمره بذكره عند المشعر الحرام، ثم قال بعد ذلك:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"= كان معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم يفيضوا منه، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه، وكان الموضع الذي قد
(١) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين.
190
أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه، لا وجه لأن يقال:"أفض منه".
فإذ كان لا وجه لذلك، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك، وفساد ما خالفه، لولا الإجماع الذي وصفناه، وتظاهر الأخبار بالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه:"والناس" جماعة،"وإبراهيم" ﷺ واحد، والله تعالى ذكره يقول:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"؟
قيل: إن العرب تفعل ذلك كثيرا، فتدل بذكر الجماعة على الواحد. (١) ومن ذلك قول الله عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: ١٧٣] والذي قال ذلك واحد، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير- نعيم بن مسعود الأشجعي، (٢) ومنه قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: ٥١] قيل: عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم= ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. (٣)
* * *
(١) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين.
(٢) انظر الاستيعاب: ٣٠١ وابن سعد ٢/١/٤٢ وتاريخ الطبري ٣: ٤١- ٤٢ ولكن الطبري لم يذهب هذا المذهب في تفسير الآية من سورة آل عمران ٤: ١١٨- ١٢١ (بولاق).
(٣) سيعود الطبري بعد أسطر فيذكر تتمة تفسير هذا الشطر من الآية.
191
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم من عرفات منصرفين إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله إبراهيم، فهداه له من شريعة دينه، بعد أن كنتم ضلالا عنه.
* * *
وفي" ثم" في قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، من التأويل وجهان:
أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفيضوا فانصرفوا راجعين إلى منى من حيث أفاض إبراهيم خليلي من المشعر الحرام، وسلوني المغفرة لذنوبكم، فإني لها غفور، وبكم رحيم. كما:-
٣٨٤٣ - حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا ابن كنانة- ويكنى أبا كنانة-، عن أبيه، عن العباس بن مرداس السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني أن قد غفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي. فأعدت الدعاء يومئذ، فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته، وتغفر لهذا الظالم! فأجابني أن قد غفرت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه! قال:"ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور، ويضع التراب على رأسه" (١)
(١) الحديث: ٣٨٤٣ - إسماعيل بن سيف العجلي: لم أستطع التحقق من معرفته. فلم أجد في كتب التراجم إلا"إسماعيل بن سيف أبو إسحاق"- هكذا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ١/١/١٧٦ وأنه سأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وله ترجمة في لسان الميزان ١: ٤٠٩- ٤١٠ بل ثنتان ورجح الحافظ أنهما لشخص واحد. -فيما يظهر لي- من هذه الطبقة ولكني لا أجزم أنه هو شيخ الطبري هذا.
عبد القاهر بن السري السلمي البصري: قال ابن معين: "صالح" وذكره ابن شاهين في الثقات.
ابن كنانة: هو عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس، كما تبين اسمه من التخريج -فيما يأتي- وكما ذكر في التراجم. وهو مجهول كما في التقريب والخلاصة. والمراد أنه مجهول الحال. وفي التهذيب: "قال البخاري" لم يصح حديثه". ولم يترجم له ابن أبي حاتم في العبادلة ولا في الأبناء مع أنه ذكره في ترجمة أبيه، كما سيأتي ولم أجد كنيته" أبا كنانة" إلا في هذا الموضع فستفاد منه.
أبوه"كنانة بن العباس": ترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٢٣٦ قال: "كنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه. روى عنه ابنه". وبنحو ذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/١٦٩. ولم يذكرا فيه جرحا ولم يسميا ابنه. وبنحو هذا ذكره ابن حبان في الثقات ص: / ٣١٧ ولم يسم ابنه أيضًا. ثم ذكره في كتاب المجروحين في الورقة: ١٩٢ قال: "كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن أبيه روى عنه ابنه: منكر الحديث جدا فلا أدري: التخليط في حديثه منه، أو من ابنه؟ أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير"!! هكذا قال ابن حبان مهولا في غير موضع التهويل! فما ذكر العلماء الحفاظ لكنانة غير هذا الحديث الواحد. وما هو بمنكر المعنى وإن كان الإسناد إليه فيه ضعف بجهالة حال عبد الله ابن كنانة. وكنانة هذا قال فيه ابن مندة: "يقال إن لكنانة صحبة" ولذلك ذكره الحافظ في الإصابة ٥: ٣١٨ في القسم الثاني ممن لهم رؤية وأشار إلى خطأ ابن حبان بأنه ذكره في الثقات"ثم غفل فذره في الضعفاء".
والحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند: ١٦٢٧٦ (٤: ١٤- ١٥ حلبي) عن إبراهيم بن الحجاج الناجي. ورواه ابن ماجه: ٣٠١٣ عن أيوب بن محمد الهاشمي. ورواه البيهقي ٥: ١١٨ من طريق أبي داود الطيالسي -ثلاثتهم عن عبد القاهر بن السري"حدثنا عبد الله ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي" - إلخ، كما في رواية ابن ماجه. وفي روايتي عبد الله بن أحمد والبيهقي: "حدثني ابن كنانة بن العباس بن مرداس". وكذلك روى أبو داود في السنن: ٥٢٣٤- قطعة منه، عن عيسى بن إبراهيم البركي، وعن أبي الوليد الطيالسي كلاهما عن عبد القاهر بن السري. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ٢: ١٢٧- ١٢٨ من رواية ابن ماجه ثم من رواية البيهقي. ثم نقل عن البيهقي أنه قال: "وهذا الحديث له شواهد كثيرة، وقد ذكرناها في كتاب البعث. فإن صح بشواهده ففيه الحجة. وإن لم يصح، فقد قال الله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى". وذكره السيوطي ١: ٢٣٠ ونسبه أيضًا للطبراني. والضياء المقدسي في المختارة.
192
٣٨٤٤ - حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: حدثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله ﷺ عشية عرفة، فقال:"أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب
193
مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال:"أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي". (١)
* * *
فقد بين هذان الخبران أن غفران الله التبعات التي بين خلقه فيما بينهم، إنما هو غداة جمع، وذلك في الوقت الذي قال جل ثناؤه:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله"، لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذ، تفضلا منه عليكم، رحيم بكم.
* * *
(١) الحديث: ٣٨٤٤ - مسلم بن حاتم أبو حاتم الأنصاري: ثقة من شيوخ أبي داود والترمذي وثقه الترمذي والطبراني.
بشار بن بكير الحنفي: لم أجد له ترجمة بعد طول البحث والتتبع، حتى لقد ظننته محرفا لولا أن وجدته مذكورا أيضًا في إسناد هذا الحديث في الحلية لأبي نعيم.
عبد العزيز بن أبي رواد المكي: ثقة معروف بالورع والصلاح والعبادة. ومن تكلم فيه من أجل رأيه فلا حجة له.
والحديث رواه أبو نعيم في الحلية ٨: ١٩٩ بإسنادين: من طريق أبي هشام عبد الرحيم بن هارون الغساني ومن طريق بشار بن بكير الحنفي -كلاهما عن عبد العزيز بن أبي رواد. ثم قال: "السياق لبشار بن بكير وحديث أبي هاشم فيه اختصار... غريب تفرد به عبد العزيز عن نافع ولم يتابع عليه".
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب ٢: ١٢٧ نحو معناه من حديث عبادة بن الصامت ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم". وكذلك ذكره الهيثمي في الزوائد ٣: ٢٥٦- ٢٥٧. ثم ذكر كلاهما بعده حديثا بنحوه لأنس بن مالك ونسباه لأبي يعلى. وقال الهيثمي: "وفيه صالح المري وهو ضعيف" وكذلك ذكرهما السيوطي ١: ٢٣٠ دون بيان تعليلهما.
194
والآخر منهما:" ثم أفيضوا" من عرفة إلى المشعر الحرام، فإذا أفضتم إليه منها فاذكروا الله عنده كما هداكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقول جل ثناؤه:" فإذا قضيتم مناسككم "، فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم، فاذكروا الله (١)
* * *
يقال منه:"نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة ومَنْسَكًا"، إذا ذبح نُسُكه، و"المنسِك" اسم مثل"المشرق والمغرب"، فأما"النُّسْك" في الدين، فإنه يقال منه:" ما كان الرجل نَاسكًا، ولقد نَسَك، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة"، (٢) وذلك إذا تقرَّأ. (٣)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى"المناسك" في هذا الموضع قال مجاهد:
٣٨٤٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضَيتم مَناسككم"، قال: إهراقة الدماء. (٤)
(١) انظر تفسير"قضى" فيما سلف ٢: ٥٤٢، ٥٤٣.
(٢) انظر تفسير"نسك" فيما سلف من ٣: ٧٥- ٨٠/ ثم هذا الجزء وفي النسك الذي هو الذبح. مصادر لم تذكر في كتب اللغة.
(٣) تقرأ الرجل: تفقه وتنسك فهو قارئ ومتقرى وقراء (بضم القاف وتشديد الراء).
(٤) "إهراقة" مصدر هراق الدم يهريقه، هراقة وإهراقة وهو سفحه وصبه.
195
٣٨٤٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وأما قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا"، فإنّ أهل التأويل اختلفوا في صفة" ذكر القوم آباءهم"، الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا.
فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٤٧ - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية، قال: كانوا يذكرون آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم: كان أبي جزَّ نواصي بني فلان!.
٣٨٤٨ - حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان آباؤنا ينحرون الجُزُر، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية:" أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":
٣٨٤٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم.
٣٨٥٠ - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، قال: كان
196
أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم: كان أبي يُطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم"= قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.
٣٨٥١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قوله:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم، فنزلت هذه الآية.
٣٨٥٢ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم. قال: فنزلت هذه الآية.
٣٨٥٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك.
٣٨٥٤ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
٣٨٥٥ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به، يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا.
197
٣٨٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكرَ الله، يذكرونه كذكرهم آبائهم، أو أشد ذكرًا.
٣٨٥٧ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية.
٣٨٥٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر، حين ينحرون. قال: قال" فاذكروا الله كذكركم آبائكم" قال: كانت العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها، فأمروا بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك:
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٥٩ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء أنه قال في هذه الآية:" كذكركم آباءَكم" قال: هو قول الصبيّ: يا أباه!.
٣٨٦٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" يعني بالذكر، ذكر الأبناء الآباء.
٣٨٦١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:" كذكركم آباءكم": أبَهْ! أمَّهْ!.
198
٣٨٦٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كالصبي، يَلهج بأبيه وأمه.
٣٨٦٣ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا"، يقول: كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا.
٣٨٦٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، يقول: كما يذكر الأبناء الآباء.
٣٨٦٥ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" كذكركم آباءكم" يعني ذكر الأبناء الآباء.
* * *
وقال آخرون: بل قيل لهم:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٦٦ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كانت العرب إذا قَضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول:"اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيتَ أبي!! "، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يُعطى في الدنيا.
* * *
199
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [سورة البقرة: ٢٠٣] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه.
وإنما قلنا:"الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":"جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا"، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه= كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا.
* * *
200
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قَضيتم مناسككم أيها المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته، وقولوا:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرة حَسنة وقنا عذاب النار"، ولا تكونوا كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظَّ لهم في ثواب الله، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه، كما قال في ذلك أهل التأويل.
٣٨٦٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا"، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا! " وماله في الآخرة من خلاق".
٣٨٦٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: كانوا في الجاهلية يقولون:" هبْ لنا إبلا! "، ثم ذكر مثله.
٣٨٦٩ - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من خَلاق"، قال: كانوا = يَعني أهلَ الجاهلية = يقفون - يعني بعد قضاء مناسكهم - فيقولون:" اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنمًا! "، فأنزل الله هذه الآية:" فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" = قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.
201
٣٨٧٠ - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة فيدعون فيقولون:" اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين!.
٣٨٧١ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا" نَصرًا ورزقًا، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا.
٣٨٧٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٣٨٧٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عملَ، ولها نَصِب.
٣٨٧٤ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم، وإنما يذكر أباه، ويسأل أن يُعطَي في الدنيا.
٣٨٧٥ - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الكفر، وأهلُ النفاق. فمن الناس من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق" إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا يؤمنون بها= ومنهم من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، الآية= قال: والصنف الثالث:" ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" الآية.
202
وأما معنى"الخلاق" فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الحسنة" التي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم. يعني بذلك: ومن الناس مَن يقول: ربَّنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٧٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة"، قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرة عافية. قال قتادة: وقال رجل:" اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا"، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه، (٢) فذكر للنبي ﷺ شأنُه، فأتاه النبي عليه السلام، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله، ولكن قُل:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار". فقالها، فما لبث إلا أيامًا= أو: يسيرًا =حتى بَرَأ.
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٥٢- ٤٥٤.
(٢) أضنى الرجل: إذا لزم الفراش من الضنى وهو شدة المرض حتى ينحل الجسم.
203
٣٨٧٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سعيد بن الحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: عاد رَسول الله ﷺ رجلا قد صار مثل الفرْخ المنتوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء؟ - أو تسأل الله شيئًا؟ قال: قلت:"اللهم ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! ". قال:" سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه؟ فهلا قلت:" اللهم آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار؟ ". (١)
* * *
وقال آخرون: بل عَنى الله عز وجل بـ "الحسنة" - في هذا الموضع- في الدنيا، العلمَ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الحديث: ٣٨٧٧ -سعيد بن الحكم: هو"سعيد بن أبي مريم الجمحي" مضت الإشارة إليه في: ٢٢ وهو ثقة حجة. "يحيى بن أيوب" هو الغافقي أبو العباس المصري وهو ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
حميد: هو ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة، سمع من أنس بن مالك، وسمع من ثابت البناني عن أنس. وزعم بعضهم أنه لم يسمع من أنس إلا أحاديث قليلة وأن سائرها إنما هو"عن ثابت عن أنس". ورد الحافظ ذلك ردا شديدا، وقال: "قد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير. وفي صحيح البخاري من ذلك جملة".
وإنما فصلت هذا لأن رواية هذا الحديث هنا فيها تصريح حميد بسماعه من أنس. ولكنه رواه أحمد ومسلم من حديث حميد، عن ثابت عن أنس. فلعله سمعه من أنس ومن ثابت عن أنس:
فرواه أحمد في المسند: ١٢٠٧٤ (٣: ١٠٧ حلبي) عن ابن أبي عدي وعبد الله بن بكر السهمي - كلاهما عن حميد عن ثابت عن أنس. وكذلك رواه مسلم ٢: ٣٠٩ من طريق ابن أبي عدي عن حميد ثم من طريق خالد بن الحارث عن حميد.
وذكره ابن كثير ١: ٤٧٢- ٤٧٣ من رواية المسند. ثم قال: "انفرد بإخراجه مسلم" يعني انفرد به عن البخاري.
وذكره السيوطي ١: ٢٣٣ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. ولكنه وهم فنسبه أيضًا للبخاري ولم أجده فيه، مع جزم ابن كثير بانفراد مسلم بروايته.
204
٣٨٧٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا عباد، عن هشام بن حسان، عن الحسن:" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرة: الجنة.
٣٨٧٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة، وفي الآخرة حَسنةً، وقنا عذابَ النار"، قال: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
٣٨٨٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: الفهمُ في كتاب الله والعلم.
٣٨٨١ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان الثوري يقول [في] هذه الآية:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والرزق الطيب، وفي الآخرة حَسنة الجنة.
* * *
وقال آخرون:"الحسنة" في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٨٢ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي ﷺ والمؤمنون.
٣٨٨٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال، وأما حَسنة الآخرة فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حجَّ بَيته، يسألون ربهم
205
الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تجمع"الحسنةُ" من الله عز وجل العافيةَ في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة.
وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجَّنة، لأن من لم يَنلها يومئذ فقد حُرم جميع الحسنات، وفارق جميع مَعاني العافية.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله - مخبرًا عن قائل ذلك- من معاني"الحسنة" شيئًا، ولا نصب على خُصوصه دلالة دالَّةً على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فالواجب من القول فيه ما قلنا: من أنه لا يجوز أن يُخَصّ من معاني ذلك شيء، وأن يحكم له بعمومه على ما عَمَّه الله.
* * *
وأما قوله:" وقنا عذاب النار"، فإنه يعني بذلك: اصرف عنا عَذاب النار.
* * *
ويقال منه:"وقيته كذا أقيه وِقاية وَوَقاية ووِقاء"، ممدودًا، وربما قالوا:" وقاك الله وَقْيًا"، إذا دفعت عنه أذى أو مكروهًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أولئك" الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم:" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنا عذاب النار"، رغبةً منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده، وعلمًا منهم بأن الخيرَ كله من عنده، وأن الفضل بيده يؤتيه من يَشاء. فأعلم جل ثناؤه أنّ لهم نصيبًا وحظًّا من حجِّهم ومناسكهم، وثوابًا جزيلا على عملهم الذي كسبوه، وبَاشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم،
206
خاصًّا ذلك لهم دون الفريق الآخر، الذين عانوا ما عانوا من نَصَب أعمالهم وتعبها، وتكلَّفوا ما تكلفوا من أسفارهم، بغير رغبةٍ منهم فيما عند رَبهم من الأجر والثواب، ولكن رجاء خسيس من عَرض الدنيا، وابتغاء عَاجل حُطامها. كما:-
٣٨٨٤ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:" فمن الناسَ من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق"، قال: فهذا عبد نوى الدنيا، لها عمل ولها نَصِب،" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عذابَ النار. أولئك لَهم نصيب مما كسبوا"، أي حظٌّ من أعمالهم.
٣٨٨٥ - وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في:" فمن الناس مَن يَقول رَبنا آتنا في الدنيا ومَاله في الآخرة من خَلاق"، إنما حَجُّوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة ولا يؤمنون بها،" ومنهم مَن يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي ﷺ والمؤمنون=" أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب"، لهؤلاء الأجرُ بما عملوا في الدنيا.
* * *
وأما قوله:" والله سريع الحساب"، فإنه يعني جل ثناؤه: أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما:" رَبنا آتنا في الدنيا"، ومن مسألة الآخر:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، فَمُحْصٍ له بأسرع الحساب، (١) ثم إنه مجازٍ كلا الفريقين على عمله.
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب، لأنه جل ذكره يُحصى ما يُحصى من أعمال عباده بغير عَقد أصابع، ولا فكرٍ ولا رَوية، فِعلَ العَجَزة الضَّعَفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يَعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ثم هو مُجازٍ عبادَه على كل ذلك. فلذلك امتدح
(١) قوله: "فمحص" عطف على قوله: "أنه محيط... "
207
نفسه جل ذكره بسرعة الحساب، (١) وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمِثْلِ، فيحتاجَ في حسابه إلى عَقد كف أو وَعْي صَدر.
* * *
(١) في المطبوعة: "فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب"، والذي أثبت أشبه بالصواب إن شاء الله.
208
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جَلّ ذكره: أذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصَيات، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذ بالتكبير أدبارَ الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من حَصى الجمار يرمي بها جَمرةً من الجمار.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
٣٨٨٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: أيام التشريق.
٣٨٨٧ - حدثني محمد بن نافع البصري، قال: حدثنا غندر: قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. (١)
٣٨٨٨ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني الأيام المعدودات أيامَ التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.
(١) الأثر: ٣٨٨٧ -"محمد بن نافع البصري" هو محمد بن أحمد بن نافع العبدي القيسي أبو بكر بن نافع البصري مشهور بكنيته. مترجم في التهذيب"غندر" هو محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري. مترجم في التهذيب.
208
٣٨٨٩ - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق.
٣٨٩٠ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
٣٨٩١ - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مخلد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: سمعه يوم الصَّدَر يَقول بعد ما صدر يُكبر في المسجد ويتأول:" واذكروا الله في أيام مَعدودات".
٣٨٩٢ - حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق.
٣٨٩٣ - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق.
٣٨٩٤ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، مثله.
٣٨٩٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال أيام التشريق بمنى.
٣٨٩٦ - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد وعطاء قالا هي أيام التشريق.
٣٨٩٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
209
٣٨٩٨ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
٣٨٩٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق.
٣٩٠٠ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
٣٩٠١ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: الأيام المعدودات: الأيام بعد النحر.
٣٩٠٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت إسماعيل بن أبي خالد عن"الأيام المعدودات"، قال: أيام التشريق.
٣٩٠٣ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، فقال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، كنا نُحدَّث أنها أيام التشريق.
٣٩٠٤ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق.
٣٩٠٥ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" أما الأيام المعدوداتُ": فهي أيام التشريق.
٣٩٠٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
٣٩٠٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال:" الأيام المعدودات"، ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر.
٣٩٠٨ - حدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن
210
خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" في أيام معدودات" قال: أيام التشريق الثلاثة.
٣٩١٠ - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن زيد عن" الأيام المعدودات" و"الأيام المعلومات"، فقال:"الأيام المعدودات" أيام التشريق،"والأيام المعلومات"، يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.
* * *
وإنما قلنا: إنّ"الأيام المعدودات"، هي أيام منى وأيام رمي الجمار لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.
* ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
٣٩١١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم، قال: حدثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: أيام التشريق أيام طُعْمٍ وذِكْر". (١)
(١) الحديث: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ثقة وثقه أحمد وغيره وتكلم فيه آخرون من قبل حفظه.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٧١٣٤ عن هشيم بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: ٩٠٠٨ (٢: ٣٨٧ حلبي) عن عفان عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٤٢٨ من طريق سعيد بن منصور عن هشيم به.
ولم ينفرد عمر بن أبي سلمة بروايته. فرواه ابن ماجه: ١٧١٩ من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
وسيأتي عقب هذا من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
211
٣٩١٢ - حدثنا خلاد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا صالح، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ بَعثَ عبد الله بن حُذافة يطوف في منى:"لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل". (١)
٣٩١٢م - وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل= وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية= قالا جميعًا، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن عائشة: أن رسول الله ﷺ قال: إن هذ الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله.
٣٩١٣ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، قالت: نهى رسول الله ﷺ عن صوم أيام التشريق وقال: هي أيام أكل وشرب وذكر الله. (٢)
٣٩١٤ - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول الله ﷺ بَعث بشر بن سُحَيم، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. (٣)
(١) الحديث: ٣٩١٢ - روح: هو ابن عبادة. صالح: هو ابن أبي الأخضر اليمامي. وهو ثقةن تكلموا في روايته عن الزهري بما ليس بقادح. وهو كان خادما لزهري فالظاهر أن يكون عرف عن الزهري ما لم يعرف غيره.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٠٦٧٤، ١٠٩٣٠ (٢: ٥١٣، ٥٣٥ حلبي) عن روح ابن عبادة بهذا الإسناد. وكذلك رواه الطحاوي ١: ٤٢٨ ونسباه للطبري فقط.
وانظر ما مضى: ٣٤٧١ وما يأتي: ٣٩١٦.
(٢) الحديث: ٣٩١٣ - خالد: هو ابن مهران الحذاء. أبو قلابة: هو الجرمي عبد الله ابن زيد. أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي. وهذا إسناد صحيح ليست له علة.
ويشهد له ما روى البخاري ٤: ٢١١ (فتح) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى" وهو مرفوع حكما -على الراجح- وإن كان لفظه لفظ الموقوف.
وقد مضى معناه مرفوعا لفظا من وجه آخر، عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(٣) الحديث: ٣٩١٤ - ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن. عطاء: هو ابن أبي رباح وهذا إسناد حسن.
والحديث رواه الطحاوي ١: ٤٢٨ من طريق سعيد بن منصور عن هشيم بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير ١: ٤٧٥ ولم يذكر تخريجه. وذكره السيوطي ١: ٢٣٥ منسوبا للطبري فقط.
212
٣٩١٥ - حدثني يعقوب. قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة بن قيس فنادى في أيام التشريق فقال:"إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صومٌ من هَدْي". (١)
٣٩١٦ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى عليٍّ رضي الله عنه على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء حين وقف على شِعْب الأنصار وهو يقول:"أيها الناس إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر". (٢)
* * *
(١) الحديث: ٣٩١٥ - هذا إسناد مرسل لأن عمرو بن دينار تابعي. ولكن الحديث ورد من طريقه متصلا صحيحًا وكذلك من غير طريقه:
فرواه أحمد في المسند: ١٥٤٩٦ (٣: ٤١٥ حلبي) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن دينار"عن نافع بن جبير بن مطعم عن رجل من أصحاب النبي ﷺ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه بعث بشر بن سحيم فأمره أن ينادي: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمن وإنها أيام أكل وشرب يعني أيام التشريق".
ورواه أحمد أيضًا بنحوه (٤: ٢٣٥ حلبي) عن سريج عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن بشر بن سحيم. وكذلك رواه الطحاوي ١: ٤٢٩ عن ابن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن زيد به.
ورواه شعبة أيضًا عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في مسند الطيالسي ١٢٩٩ ومسند أحمد: ١٥٤٩٧ (٣: ٤١٥ حلبي) والطحاوي ١: ٤٢٩.
وكذلك رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في المسند: ١٥٤٩٥ (٣: ٤١٥ حلبي) وفيه أيضًا (٤: ٢٣٥ حلبي) وسنن ابن ماجه: ١٧٣٠ وقال البوصيري في زوائده: "رواه ابن خزيمة في صحيحه". وكذلك رواه البيهقي ٤: ٢٩٨.
(٢) الحديث: ٣٩١٦ - مضى بهذا الإسناد: ٣٤٧١.
حكيم بن حكيم بفتح الحاء فيهما بن عباد بن حنيف: ثقة وثقه ابن حبان والعجلي وغيرهما وصحح له الترمذي وابن خزيمة. وترجمه البخاري في الكبير ٢/١/١٧ وابن أبي حاتم ١/٢/٢٠٢ فلم يذكرا فيه جرحا.
مسعود بن الحكم بن الربيع الزرقي الأنصاري المدني: تابعي ثقة يعد في جلة التابعين وكبارهم. وأمه صحابية معروفة.
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات ٢/١/١٣٤ عن إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية- بهذا الإسناد.
ورواه الحاكم في المستدرك ١: ٤٣٤- ٤٣٥ من طريق أحمد بن حنبل عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وهذا الإسناد -من طريق الإمام احمد: ليس من طريق رواية المسند بل من طريق آخر عنه ولم يذكر هذا الإسناد في المسند. ولكنه رواه بإسناد آخر:
فرواه في المسند: ٧٠٨ عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق: "حدثني عبد اله بن أبي سلمة عن مسعود بن الحكم الأنصاري ثم الزرقي عن أمه أنها حدثته... " فذكر الحديث. وهذا إسناد صحيح أيضًا. فلابن إسحاق فيه شيخان سمعه منهما: حكيم بن حكيم وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون- كلاهما عن مسعود بن الحكم.
وانظر أيضًا في المسند: ٥٦٧، ٨٢١، ٨٢٤.
213
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن النبي ﷺ إذ قال في أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وذكر الله، لم يخبر أمَّته أنها"الأيام المعدودات" التي ذكرها الله في كتابه، فما تنكر أن يكون النبي ﷺ عنى بقوله:"وذكْر الله"،"الأيامَ المعلومات"؟
قيل: غير جائز أن يكون عنى ذلك. لأن الله لم يكن يُوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره فيها ما أوجبَ في"الأيام المعدودات". وإنما وصف"المعلومات" جل ذكره بأنها أيام يذكر فيها اسم الله على بهائم الأنعام، فقال: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) [الحج: ٢٨]، فلم يوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره كالذي أوجبه في"الأيام المعدودات" من ذكره، بل أخبر أنها أيام ذكره علىَ بهائم الأنعام. فكان معلومًا= إذ قال ﷺ لأيام التشريق:" إنها أيام أكل وشرب وذكر الله" فأخرج قوله:" وذكر الله" مطلقًا بغير شرط، ولا إضافة، إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام = أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقًا بغير شرط ولا إضافة إلى معنى في"الأيام المعدودات"، وأنه لو كان أراد بذلك صلى الله عليه وسلم
214
وصف"الأيام المعلومات" به، لوصل قوله:" وذكر"، إلى أنه ذكر الله على ما رزقهم من بهائم الأنعام، كالذي وصف الله به ذلك، ولكنه أطلق ذلك باسم الذكر من غير وصله بشيء، كالذي أطلقه تبارك وتعالى باسم الذكر، فقال:" واذكروا الله في أيام معدودات" فكان ذلك من أوضح الدليل على أنه عنى بذلك ما ذكره الله في كتابه وأوجبه في"الأيام المعدودات".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: معناه: فمن تعجل في يَومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نَفْره وتعجله في النفر، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره.
* ذكر من قال ذلك.
٣٩١٧ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن عطاء، قال: لا إثم عليه في تعجيله، ولا إثم عليه في تأخيره.
٣٩١٨ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال. حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، مثله.
٣٩١٩ - حدثنا أحمد، قال. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن مغيره، عن عكرمة، مثله.
٣٩٢٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال. حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
215
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يوم النَّفر،" فلا إثم عليه"، لا حرج عليه،" ومن تأخر فلا إثم عليه".
٣٩٢١ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"من تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"، يقول: من نَفَر في يومين فلا جُناح عليه، ومن تأخر فنفر في الثالث فلا جناح عليه.
٣٩٢٢ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يقول: فمن تعجَّل في يومين- أي: من أيام التشريق="فلا إثم عليه"، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قيل أن ينفر، فلا نَفْر له حتى تزول الشمس من الغد=" ومن تأخر فلا إثم عليه"، يقول: من تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.
٣٩٢٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال. أخبرنا عبد الرزاق، قال. أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"، قال: رخَّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاءوا، ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه.
٣٩٢٤ - حدثني محمد بن المثنى، قال. حدثنا محمد بن جعفر، قال. حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال في تعجيله.
٣٩٢٥ - حدثني هناد بن السريّ، قال: حدثنا ابن أبى زائدة، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم قال:" لا إثم عليه"، لا إثم على من تعجل، ولا إثم على من تأخر.
٣٩٢٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، قال: هذا في التعجيل.
٣٩٢٧ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك وإسرائيل، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: حلَّ النَّفر في يومين لمن اتقى.
216
٣٩٢٨ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:" فمن تجعل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره.
٣٩٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أللمكي أن ينفر في النفْر الأول؟ قال: نعم، قال الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، فهي للناس أجمعين.
٣٩٣٠ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال: ليس عليه إثم
٣٩٣١ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين" بعد يوم النحر،" فلا إثم عليه"، بقول: من نَفَر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم عليه،"ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره، فلا حرج عليه. (١)
٣٩٣٢ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه، ومن تأخر كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٣٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل،
(١) الأثر: ٣٩٣١ - كان في المطبوعة"حدثنا علي قال حدثنا أبو صالح... " و"علي" تصحيف"المثنى" وهعو إسناد دائر في الطبري أقربه رقم: ٢٨٩٣.
217
عن ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ليس عليه إثم.
٣٩٣٤ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، عن حماد. عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر له.
٣٩٣٥ - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له.
٣٩٣٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= جميعًا، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غُفر له.
٣٩٣٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قد غفر له.
٣٩٣٨ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال في هذه الآية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه" قال: برئ من الإثم.
٣٩٣٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن ابن عمر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: رجع مغفورًا له.
218
٣٩٤٠ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عَليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له.
٣٩٤١ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي عبد الله، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له، إنهم يتأولونها على غير تأويلها، إن العمرة لتكفِّر ما معها من الذنوب فكيف بالحج!.
٣٩٤٢ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن إبراهيم وعامر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قالا غفر له.
٣٩٤٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثني من أصدقه، عن ابن مسعود قوله:" فلا إثم عليه"، قال: خرج من الإثم كله" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: برئ من الإثم كله، وذلك في الصَّدَر عن الحج = قال ابن جريج: وسمعت رجلا يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:" فلا إثم عليه"، قال. غفر له،" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر له.
٣٩٤٤ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال. حدثنا أسود بن سوادة القطان، قال: سمعت معاوية بن قُرة قال: يَخرج من ذنوبه. (١)
* * *
(١) الأثر: ٣٩٤٤ - لم أجد"أسود بن سوادة القطان"، ولعله"سوادة بن أبي الأسود القطان" وهو الذي يروي عنه أبو نعيمن واسمه"عبد الله" ويقال مسلم بن مخارق القطان. ترجمه في التهذيب.
219
وقال آخرون: معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين فعلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، فيما بينه وبين السنة التي بَعدها.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٤٥ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحه، قال: سألت مجاهدًا عن قول الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: لمن في الحج، ليس عليه إثم حتى الحج من عام قابل.
* * *
وقال آخرون: بل معناه. فلا إثم عليه إن اتقى الله فيما بقي من عمره.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٤٦ - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي.
٣٩٤٧ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
٣٩٤٨ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
٣٩٤٩ - حدثني يونس، قاله: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: لمن اتقى بشرط.
٣٩٥٠ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، لا جُناح عليه ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث فلا جناح عليه لمن اتقى= وكان ابن عباس يقول: وددت أنّي من هؤلاء، ممن يُصيبه اسمُ التقوى.
٣٩٥١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال:
220
قال ابن جريج: هي في مصحف عبد الله:" لِمَنِ اتَّقَى اللهَ".
٣٩٥٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه، يقول: لمن اتقى معاصيَ الله عز وجل. (١)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق" فلا إثم عليه"، أي فلا حرج عليه في تعجيله النفْر، إن هو اتقى قَتْل الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فلم ينفر فلا حرج عليه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٥٣ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا محمد بن أبي صالح:" لمن اتقى" أن يصيب شيئًا من الصيد حتى يمضي اليوم الثالث.
٣٩٥٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، ولا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تخلو أيام التشريق.
* * *
وقال آخرون: بل معناه:"فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق فنفر"فلا إثم عليه"، أي مغفورٌ له-"ومن تأخر" فنفر في اليوم الثالث"فلا إثم عليه"، أي مغفور له إن اتقى على حجه أن يصيبَ فيه شيئًا نهاه الله عنه.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٥٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، فال: حدثنا سعيد، عن قتادة
(١) الأثر: ٣٩٥٢ - في المطبوعة: "حدثنا علي، قال حدثنا عبد الله". وقوله"علي" تصحيف والصواب ما أثبتنا، وانظر الأثر السالف رقم: ٣٩٣١ والتعليق عليه.
221
قوله:" لمن اتقى"، قال: يقول لمن اتقى على حجه = قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه - أو: ما سلف من ذنبه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك:"فمن تعجل في يومين" من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني"فلا إثم عليه"، لحطِّ الله ذنوبَه، إن كان قد اتقى الله في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول،"فلا إثم عليه"، لتكفير الله له ما سلف من آثامه وإجرامه، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته [بالصحة]، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال:"ومن حجّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه = وأنه قال صلى الله عليه وسلم:"تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة".
٣٩٥٦ - حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون الجنة". (١)
(١) الحديث: ٣٩٥٦ - عبد الله بن سعيد الكندي أبو سعيد الأشج: ثقة حافظ من شيوخ أصحاب الكتب الستة. أبو خالد الأحمر: هو سليمان بن حيان -بالياء التحتية- الأزدي وهو ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق أخرج له جماعة. عمرو بن قيس: هو الملائي. عاصم: هو ابن أبي النجود. شقيق: هو ابن سلمة أبو وائل الأسدي عبد الله: هو ابن مسعود.
والحديث رواه احمد في المسند: ٣٦٦٩ عن أبي خالد الأحمر بهذا الإسناد ورواه الترمذي ٢: ٧٨ والنسائي ٢: ٤- كلاهما من طريق أبي خالد الأحمر.
وذكره السيوطي ١: ٢١١ وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان.
الكير: زق أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد، ليؤرث النار. وخبث الحديد وغيره: هو ما ينفيه الكير والنار من الحديد إذا أذيب وهو ما لا خير فيه منه.
222
٣٩٥٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله عن النبي ﷺ بنحوه. (١)
٣٩٥٨ - حدثنا الفضل بن الصباح، قال:. حدثنا ابن عيينة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن عمر يبلغ به النبي ﷺ قال:"تابعوا بين الحج والعمرة، فإنّ متابعة ما بينهما تنفي الفقر والذنوبَ كما ينفي الكيرُ الخبَثَ= أو: خبَثَ الحديد". (٢)
٣٩٥٩ - حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا سعد بن عبد الحميد، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضيتَ حجَّك فأنت مثل ما ولدتك أمك. (٣)
* * *
(١) الحديث: ٣٩٥٧ - وهذا إسناد آخر صحيح لهذا الحديث لم أجده عند غير الطبري. وهو يدل على أن عاصم بن أبي النجود رواه عن شيخين، هما أبو وائل وزر بن حبيش-: كلاهما عن ابن مسعود.
(٢) الحديث: ٣٩٥٨ - عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: ضعيف وقد بينا ضعفه في شرح المسند: ١٢٨، ٥٢٢٩.
والحديث رواه ابن ماجه: ٢٨٨٧ بإسنادين من طريق ابن عيينة ومن طريق عبيد الله بن عمر- كلاهما عن عاصم بن عبيد الله. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الإسنادين على عاصم ابن عبيد الله، وهو ضعيف. والمتن صحيح من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي"، يريد الحديثين السابقين.
وذكره السيوطي ١: ٢١١ وزاد لابن أبي شيبة، والبيهقي.
(٣) الحديث: ٣٩٥٩ - إبراهيم بن سعيد هو الجوهري. مضى في: ٣٣٥٥. سعد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري المدني: ضعفه ابن حبان جدا وقال ابن معين: "ليس به بأس". والذي أرجحه أنه ثقة، فإن البخاري ترجمه في الكبير ٢/٢/٦٢ فلم يذكر فيه حرجا ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/٩٢ فلم يجرحه أيضًا.
صالح مولى التوأمة: هو صالح بن نبهان، مضى في ١٠٢٠ تصحيح رواية من سمع منه قديما قبل تغير حفظه. وموسى بن عقبة سمع منه قديما، كما بينا في شرح المسند: ٢٦٠٤.
وهذا الحديث. بهذا الإسناد - لم أجده في موضع آخر من المراجع من حديث ابن عباس. ومعناه ثابت في أحاديث أخر صحاح. انظر الترغيب والترهيب ٢: ١٠٥- ١١٣ ومجمع الزوائد ٣: ٢٠٧- ٢٠٩، ٢٧٤- ٢٧٧، وانظر ما سلف من رقم: ٣٧١٨- ٣٧٢٨.
223
= وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه:" فلا إثم عليه لمن اتقى" الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله ﷺ ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ:" فلا إثم عليه"، أنه خارجٌ من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورَةٌ له أجْرامه= وأنه لا معنى لقول من تأول قوله:" فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه في نفره في اليوم الثاني، ولا حرج عليه في مقامه إلى اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه ترْك عمله، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله؛ أو فيما كان عليه عمله، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه إن هو عَمله، وفرضُه عَملُه، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا عليه، حرجا بأدائه، (١) فيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فيه الحرَج.
وإذ كان ذلك كذلك= وكان الحاج لا يخلو عند من تأوّل قوله:" فلا إثم عليه" فلا حرج عليه، أو فلا جناح عليه، من أن يكون فرضه النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، فوضع عنه الحرَج في المقام، أو أن يكون فرضَه المقام،
(١) قوله: "حرجًا" على وزن"فرح" بمعنى آثم وقد مضى في الجزء ٢: ٤٢٣ استعمال هذه الصيغة وعلقت عليه أن أهل اللغة ينكرون ذلك ويقولون بل هو"حارج" ولقد أعاد الطبري استعمالها هنا مرة أخرى، ورأيت أيضًا القاضي الباقلاني قد استعملها في كتابه التمهيد ص: ٢٢١، فقال: "... لم يكن الإمام بذلك مأثومًا ولا حرجًا" وكأني رأيت الشافعي قد استعملها أيضًا في الأم، ولكن ذهب عني مكانها.
224
إلى اليوم الثالث، فوضع عنه الحرج في النفر في اليوم الثاني، فإن يكن فرضه في اليوم الثاني من أيام التشريق المقام إلى اليوم الثالث منها، فوضع عنه الحرج في نفره في اليوم الثاني منها - وذلك هو التعجُّل الذي قيل:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"- فلا معنى لقوله على تأويل من تأوّل ذلك:" فلا إثم عليه"، فلا جناح عليه،" ومن تأخر فلا إثمَ عليه". لأن المتأخر إلى اليوم الثالث إنما هو متأخّرٌ عن أداء فرض عليه، تاركٌ قبولَ رُخصة النفر، فلا وجه لأن يقال:"لا حرج عليك في مقامك على أداء الواجب عليك"، لما وصفنا قبل- أو يكون فرضُه في اليوم الثاني النفر، فرُخِّص له في المقام إلى اليوم الثالث، فلا معنى أن يقال:" لا حرج عليك في تعجُّلك النفر الذي هو فرضك وعليك فعله"، للذي قدمنا من العلة.
وكذلك لا معنى لقول من قال: معناه:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" ولا حرج عليه في نفره ذلك، إن اتقى قتل الصيد إلى انقضاء اليوم الثالث. لأن ذلك لو كان تأويلا مسلَّمًا لقائله لكان في قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، ما يُبطل دعواه، لأنه لا خلاف بين الأمة في أن الصيد للحاجّ بعد نفره من منى في اليوم الثالث حلال، فما الذي من أجله وَضَع عنه الحرج في قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، إذا هو تأخر إلى اليوم الثالث ثم نفر؟ هذا، مع إجماعِ الحجة على أن المحرم إذا رمى وذبح وحلق وطافَ بالبيت، فقد حلَّ له كل شيء، وتصريحِ الرواية المروية عن رسول الله ﷺ بنحو ذلك، (١) التي:-
٣٩٦٠ - حدثنا بها هناد بن السري الحنظلي، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة قالت: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها متى يحلّ المحرم؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رَميتم وذبحتم وحلقتم، حلّ لكم كل شيء إلا النساء=
(١) في المطبوعة: "الرواية المروية" ورددتها إلى عبارة الطبري التي يكثر استعمالها، انظر ما سلف ٤: ٣٣ن س: ١٩ وفي مواضع كثيرة لم استطع أن أجدها الآن.
225
قال: وذكر الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (١)
وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى:" لا إثم عليه إلى عام قابل"، فلا وجه لتحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة مستقبَلة، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنزيل، ولا على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، بل دلالةُ ظاهر التنزيل تُبين عن أن المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال.
والخبر عن الرسول ﷺ يصرِّح بأنه بانقضاء حجه على ما أمر به، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك = من دلالة ظاهر التنزيل، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم= دلالة واضحة على فساد قول من قال: معنى قوله:" فلا إثم عليه"، فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: ما الجالب"اللام" في قوله:" لمن أتقى"؟ وما معناها؟
قيل: الجالبُ لها معنى قوله:" فلا إثم عليه". لأن في قوله:" فلا إثم عليه" معنى: حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه، فترك ذكر" جعلنا تكفير الذنوب"، اكتفاء بدلالة قوله:" فلا إثم عليه".
وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر، فقال:" لمن اتقى" أي: هذا لمن اتقى. وأنكرَ بعضُهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، (٢) لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة" قول" متروك، فكان معنى الكلام عنده" قلنا": (٣) " ومن تأخر فلا
(١) الحديث: ٣٩٦٠ - هناد بن السري الدارمي: مضت ترجمته: ٢٠٥٨. وقد نسب هنا حنظليا كما نسبه البخاري في الكبير. وكلاهما صحيح فهو من بني"دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم". انظر جمهرة ابن حزم ص: ٢١١، ٢١٧.
حجاج: هو ابن أرطأة وهو ثقة على الراجح عندنا كما ذكرنا في: ٢٢٩٩.
وقد روى الحجاج هذا الحديث بإسنادين: فرواه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة، وهي بنت عبد الرحمن -وهي خالة أبي بكر بن حزم- عن عائشة وذكر لفظ الحديث. ثم رواه عن الزهري عن عمرة عن عائشة"مثله". فلم يذكر لفظه. وهذا من تحري الحجاج بن أرطأة ودققه كما سيبين مما يجيء.
فالحديث -من رواية أبي بكر بن حزم- رواه أحمد في المسند ٦: ١٤٣ (حلبي) عن يزيد ابن هارون عن الحجاج بهذا الإسناد نحوه. ولكن ليس فيه كلمة"وذبحتم". وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٣٦ من طريق مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون، ثم قال: "ورواه محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن هارون فزاد فيه: وذبحتم فقد حل لكم كل شيء، الطيب والثياب إلا النساء". ثم ذكر البيهقي إسناده به إلى محمد بن أبي بكر. ثم أعله البيهقي وسنذكر ما قال والجواب عنه، إن شاء الله.
وقد سها السيوطي، حين ذكر هذا الحديث في زوائد الجامع الصغير (١: ١١٧ من الفتح الكبير) فنسبه لصحيح مسلم -مع البيهقي) وهذا خطأ يقينا، فإنه ليس في صحيح مسلم.
وأما من رواية الحجاج عن الزهري: فرواه أبو داود في السنن: ١٩٧٨ عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء". ثم أعله أبو داود فقال: "هذا حديث ضعيف. والحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه". وهذا تعليل جيد من أبي داود فقد روى ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل ص: ١٨ بإسناده عن هشيم قال: "قال لي الحجاج بن أرطأة: سمعت من الزهري؟ قلت: نعم قال: لكني لم أسمع منه شيئًا".
وأما البيهقي فإنه أعلى رواية الحجاج عن أبي بكر بن حزم تعليلا لا أراه مستقيما. قال عقب روايته: "وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطأة وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة عن النبي ﷺ كما رواه سائر الناس عن عائشة". ثم ذكر حديثها قالت: "طيب رسول الله ﷺ لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يفيض -بأطيب ما وجدت من الطيب". وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وما نرى إعلال ذاك بهذا هذا حديث فعلي، من حكاية عائشة وذاك حديث قولي من روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما مؤيد لصحة الآخر، فأتى يستقيم التعليل؟
وقد ورد نحو هذا الحديث أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعا: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". رواه أحمد في المسند: ٢٠٩٠، ٣٢٠٤، ٣٤٩١. ولكنه بإسناد منقطع لأنه من رواية الحسن العرني عن ابن عباس. وهو لم يسمع من ابن عباس كما قال البخاري في الصغير ص ١٣٦. ولكنه يصلح على كل حال شاهدا لهذا الحديث.
(٢) الصفة: هي حرف الجر وهي حروف الصفات وانظر ما سلف ١: ٢٩٩ تعليق: ١ ثم ٣: ٤٧٥ تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة: "فكان معنى الكلام عنده"ما قلنا" بزيادة"ما" وهو خطأ بين بدل عليه سياق هذا التأويل.
226
إثم عليه لمن اتقى"، وقام قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، مقامَ"القول".
وزعم بعضُ أهل العربية أنّ موضع طرْح الإثم في المتعجِّل، فجُعل في المتأخر= وهو الذي أدَّى ولم يقصر= مثل ما جُعل على المقصِّر، كما يقال في الكلام:"إن تصدقت سرًّا فحسنٌ، وإن أظهرتَ فحسنٌ"، وهما مختلفان، لأن المتصدق علانية إذا لم يقصد الرياء فحسن، وإن كان الإسرار أحسن.
وليس في وصف حالتي المتصدقين بالحُسن وصف إحداهما بالإثم. وقد أخبر الله عز وجل عن النافرين بنفي الإثم عنهما، ومحال أن ينفي عنهما إلا ما كان في تركه الإثم على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة. وفي إجماع الجميع على أنهما جميعًا لو تركا النفر وأقاما بمنىً لم يكونا آثمين، ما يدل على فساد التأويل الذي تأوله من حكينا عنه هذا القول.
وقال أيضًا: فيه وجهٌ آخر، وهو معنى نهي الفريقين عن أن يُؤثِّم أحدُ الفريقين الآخر، كأنه أراد بقوله:" فلا إثم عليه"، لا يقل المتعجل للمتأخر:" أنت آثم"، ولا المتأخر للمتعجل:"أنت آثم"، بمعنى: فلا يؤثِّمنَّ أحدهما الآخر.
وهذا أيضًا تأويل لقول جميع أهل التأويل مخالفٌ، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون فيما فَرض عليكما من فرائضه، فخافوه في تضييعها والتفريط فيها، وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككما أن ترتكبوه أو تأتوه وفيما كلفكم في إحرامكم لحجكم أن تقصِّروا في
228
أدائه والقيام به،"واعلموا أنكم إليه تحشرون"، فمجازيكم هو بأعمالكم- المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته- وموفٍّ كل نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾
قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، بقوله جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهرُ قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قليه، وهو ألدُّ الخصام، جَدِلٌ بالباطل.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم. نزلت في الأخنس بن شرِيق، قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٦١ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام"، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي- وهو حليفٌ لبني زُهره- وأقبل إلى النبيّ ﷺ بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجبَ النبيّ ﷺ ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم أنّي صادق! = وذلك قوله:" ويشهد الله على ما في قلبه"= ثم خرج من عند النبي ﷺ فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وُحُمر، فأحرق الزرع،
229
وعقر الحُمُرُ، فأنزل الله عز وجل:" وإذا تولى سعَى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرْثَ والنسل". وأما"ألد الخصام" فأعوجُ الخصام، وفيه نزلت: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: ١] ونزلت فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) إلى (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم: ١٠-١٣] (١)
* * *
وقال آخرون: بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله ﷺ بالرَّجيع.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٦٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبى إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أصيبت هذه السرية أصحاب خُبَيْب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! (٢) لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنزل الله عز وجلّ في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" = أي: ما يُظهر بلسانه من الإسلام =" ويشهد الله على ما في قلبه" = أي من النفاق- (٣) " وهو ألد الخصام" أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك =" وإذا تولى"- أي: خرج من عندك=" سعىَ في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحَرثَ والنسل والله لا يحب الفساد"- أي:
(١) الأثر رقم: ٣٩٦١ - لم يذكر الطبري في تفسير"سورة الهمزة" و"سورة القلم" هذا الخبر من أن الآيتين نزلتا في الأخنس بن شريق. وهذا دليل آخر على صدق ما أخبروا به عنه أنه قد اختصر هذا التفسير اختصارًا كبيرًا، كما جاء في أخباره.
وسيأتي بعض هذا الاثر برقم: ٣٩٧٨.
(٢) في المطبوعة: "هؤلاء المقتولين". والصواب من سيرة ابن هشام. وبعد هذا في ابن هشام: "لا هم قعدوا في أهليهم".
(٣) مكان هذا التفسير في نص ابن هشام: "وهو مخالف لما يقول بلسانه".
230
لا يحبّ عمله ولا يرضاه=" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسْبُه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"= الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك- يعني هذه السرّية.
٣٩٦٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس- أو: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- قال: لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرْثد بالرَّجيع، قال رجال من المنافقين:- ثم ذكر نحو حديث أبي كريب. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك جميعَ المنافقين، وعنى بقوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة
(١) الأثر: ٣٩٦٢، ٣٩٦٣ - سيرة ابن هشام ٣: ١٨٣- ١٨٤ وسيأتي بعضه برقم ٣٩٧٣ن ثم رقم: ٣٩٨٠.
231
الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه"، اختلافَ سريرته وعلانيته.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٦٤ - حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبى أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد: إنّ في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر، لبسوا للناس مسوكَ الضأن من اللين، (١) يجترُّون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعليّ يجترءون، وبي يغترُّون!! وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليمَ منهم حيران!! فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل:" ومنَ الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرثَ والنسل والله لا يحبَ الفساد" فقال سعيد: قد عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية! فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعدُ.
٣٩٦٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نَوْفٍ- وكان يقرأ الكتب- قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل:" قومٌ يجتالون الدنيا بالدين، (٢) ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر، يلبسون للناس لباسَ مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعليّ يجترءون! وبي يغترُّون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيهم حيران". قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) (٣) [الحج: ١١]
٣٩٦٦ - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة قوله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه" قال: هو المنافق.
٣٩٦٧ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(١) الصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر مر. والمسوك جمع مسك (بفتح فسكون) : الجلد جلد الغنم وغيرها.
(٢) في الأصل: "يحتالون" والصواب ما أثبت. اجتال الرجل الشيء: إذا ذهب به وطرده وساقه. واجتال الجيش أموالهم: ذهب بها.
(٣) الأثر: ٣٩٦٥ - خالد بن يزيد الجمحي أبو عبد الرحيم المصري كان فقيها مفتيا. ثقة مات سنة ١٣٩. مترجم في التهذيب. و"نوف" هو نوف بن فضالة الحميري البكالي، كان ثقة رواية للقصص وهو ابن امرأة كعب الأحبار، مات ما بين التسعين إلى المئة. مترجم في التهذيب.
232
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ومن الناس من يُعجبك قوله"، قال: علانيته في الدنيا، ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.
٣٩٦٨ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، قال: هذا عبد كان حسن القول سيئ العمل، يأتي رسول الله ﷺ فيحسن له القول،" وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفسد فيها".
٣٩٦٩ - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه"، قال. يقول قولا في قلبه غيره، والله يعلم ذلك.
* * *
وفي قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، وجهان من القراءة: فقرأته عامة القرأة:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى أن المنافق الذي يُعجب رسول الله ﷺ قولُه، يستشهدُ الله على ما في قلبه، أن قوله موافقٌ اعتقادَه، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب. كما:-
٣٩٧٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى" والله لا يحب الفساد"، كان رجلٌ يأتي إلى النبي ﷺ فيقول: أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله! قال: حتى يُعجب النبي ﷺ بقوله. ثم يقول: أما والله يا رسولَ الله، إنّ الله ليعلم ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني! فذلك قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه". قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) حتى بلغ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: ١] بما يشهدون أنك رسول الله.
* * *
233
وقال السدي:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، يقول: الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام.
٣٩٧١ - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط.
* * *
وقال مجاهد: ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.
٣٩٧٢ - حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عنه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) بمعنى: والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق، وأنه مضمرٌ في قلبه غير الذي يُبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن مُحَيْصن، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفًا. (١)
* * *
والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ:" ويشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه، لإجماع الحجة من القرأةِ عليه.
* * *
(١) انظر رقم: ٣٩٦٢.
234
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤) ﴾
قال أبو جعفر:"الألد" من الرجال: الشديد الخصومة، يقال في" فعلت" منه:" قد لَدَدْتَ يا هذا، ولم تكن ألدَّ، فأنت تلُدُّ لَدَدًا ولَدَادةً". (١) فأما إذا غلب من خاصمه، فإنما يقال فيه:" لدَدْت يا فلانُ فلانًا فأنت تَلُدُّه لَدًّا، ومنه قول الشاعر:
ثُمَّ أُرَدِّي بِهِمُ من تُرْدِي تَلُدُّ أقْرَانَ الخُصُومِ اللُّدِّ (٢)
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: أنه ذو جدال.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٧٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:" وهو ألد الخصام"، أي: ذو جدال، إذا كلمك وراجعك. (٣)
٣٩٧٤ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وهو ألد الخصام"، يقول: شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل،
(١) قوله: "لدادة" مصدر لم أجده في كتب اللغة التي بين يدي.
(٢) لم أعرف قائله. والبيت الثاني في اللسان (لدد) روايته"ألد أقران". والبيتان جميعا في معاني القرآن للفراء ١: ١٢٣ بتقديم البيت الثاني على الأول، وروايته: "اللُّدّ أقران الرجال اللُّدِّ"
وكأنه تصحيف وخطأ وصوابه"ألد" كما في اللسان. وكان في الطبري"ثم أردى وبهم.. " بزيادة واو، والصواب ما في معاني القرآن.
(٣) هو بعض الأثر السالف رقم: ٣٩٦٢.
235
وإذا شئتَ رأيته عالم اللسان جاهلَ العمل، يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة.
٣٩٧٥ - حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وهو ألد الخصام"، قال: جَدِلٌ بالباطل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة، ولكنه معوَجُّها.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٧٦ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وهو ألد الخصام"، قال: ظالم لا يستقيم.
٣٩٧٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال:"الألدُّ الخصام"، الذي لا يستقيم على خصومة.
٣٩٧٨ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ألد الخصام"، أعوجُ الخصام. (١)
* * *
قال، أبو جعفر: وكلا هذين القولين متقاربُ المعنى، لأن الاعوجاجَ في الخصومة من الجدال واللدد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذبٌ في قوله.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٧٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا وكيع، عن بعض أصحابه، عن الحسن، قال:"الألد الخصام"، الكاذب القول.
* * *
وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به
(١) هو بعض الأثر السالف رقم: ٣٩٦١.
236
قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلا واعوجاجًا عن الحق.
* * *
وأما"الخصام" فهو مصدر من قول القائل:"خاصمت فلانًا خصامًا ومخاصمة".
* * *
وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدًا ﷺ أنه يُعجبه إذا تكلم قِيلُه ومنطقه، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك، لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" وإذا تولى"، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. (١) كما:-
٣٩٨٠ - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:" وإذا تولى"، قال: يعني: وإذا خرج من عندك"سعى". (٢)
* * *
وقال بعضهم: وإذا غضب.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٨١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال:
(١) انظر معنى"التولي" فيما سلف ٢: ١٦٢- ١٦٣، ٢٩٨، ٥٣٥/ ثم ٣: ١١٥، ١٣١.
(٢) الأثر: ٣٩٨٠ - هو بعض الأثر السالف رقم: ٣٩٦٢.
237
قال ابن جريج في قوله:" وإذا تولى"، قال: إذا غضب.
* * *
فمعنى الآية: وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان، عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه، وحاول فيها معصيةَ الله، وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم. (١)
* * *
و"السعي" في كلام العرب العمل، يقال منه:"فلان يسعى على أهله"، يعني به: يعمل فيما يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى:
وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غَيْرِ مُوَاكِلٍ قَيْسٌ فَضَرَّ عَدُوَّها وَبَنَى لَهَا (٢)
يعني بذلك: عمل لهم في المكارم.
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
٣٩٨٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله" وإذا تولى سعى"، قال: عمل.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الإفساد" الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق.
فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.
* * *
(١) انظر الأثر رقم: ٣٩٦١ السالف.
(٢) ديوانه: ٢٥، وكان في المطبوعة"ونبالها" وهو خطأ وقيس هو قيس بن معد يكرب الكندي، كان يكثر مدحه والثناء عليه.
238
وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٨٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:" سعَى في الأرض ليفسد فيها"، قطع الرحم، وسفك الدماء، دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تَفعل كذا وكذا؟ قال أتقرب به إلى الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول الله ﷺ عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في"الإفساد" جميع المعاصي، (١) وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني"الإفساد" دون بعض. وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصَفه في سياق الآية بأنه" سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل"، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع الرحم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه"إهلاك" هذا المنافق، الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة"إهلاك الحرث والنسل".
(١) انظر معنى"الإفساد في الأرض" فيما سلف ١: ٢٨٧- ٢٩٠، ٤١٦ ثم معنى"الفساد" فيما سيأتي: ٢٤٣، ٢٤٤.
239
فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم من المسلمين وعقرًا لحمُرهم.
٣٩٨٤ - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. (١)
* * *
وقال آخرون بما:-
٣٩٨٥ - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد:" وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل" الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطرَ، فيُهلك الحرثَ والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: ٤١] قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو"بحر". (٢)
* * *
والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنزيل من التأويل ما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه
* * *
وأما"الحرث" فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد.
* * *
"وإهلاكه الزرع" إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى:" إهلاكه النسل": أن يكون كانَ بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في
(١) يعني الأثر السالف رقم: ٣٩٦١.
(٢) الأثر: ٣٩٨٥ - سيأتي هذا الأثر في تفسير الآية من سورة الروم ج: ٢١: ٣٢ (بولاق).
240
قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حُمُرَ القوم من المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه، والمراد بها كلُّ من سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق، بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا دون شيء بل عمَّه.
وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٨٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي أنه سأل ابن عباس:" ويهلك الحرث والنسل"، قال: نسلَ كل دابة.
٣٩٨٧ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، أنه سأل ابن عباس: قال: قلت أرأيت قوله:" الحرث والنسل"؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل: نسل كل دابة.
٣٩٨٨ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الحرث والنسل"، فقال: الحرثُ: مما تحرثون، والنسلُ: نسل كلّ دابة.
٣٩٨٩ - حدثنا ابن حميد، قال. حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (١)
(١) الآثار: ٣٩٨٦- ٣٩٨٩. "التميمي"، قد مضى ما كتبه أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر رقم: ٢٠٩٥. ولكن ظهر من الأثر رقم. ٣٩٨٩، أنه رجل من بني تميم - مجهول الاسم فيما يظهر، كان يسأل ابن عباس كما كان يسأله أصحاب المسائل من الأمة وذلك بين في مسند أبي داود الطيالسي رقم: ٢٧٣٩ ص ٣٥٨.
241
٣٩٩٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويهلك الحرثَ والنسل"، فنسلَ كل دابة، والناس أيضًا.
٣٩٩١ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنى عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض،" والنسل" من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب.
٣٩٩٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض،" والنسل": نسل كل شيء.
٣٩٩٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الحرثُ النبات، والنسل: نسل كل دابة.
٣٩٩٤ - حدثني عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ويهلك الحرث"، قال:"الحرث" الذي يحرثه الناس: نباتُ الأرض،" والنسل" نسل كل دابة.
٣٩٩٥ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، قال: الحرث: الزرع، والنسل من الناس والأنعام، قال: يقتُل نسْل الناس والأنعام= قال: وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث- نباتَ الأرض- والنسل من كل شيء من الحيوان.
٣٩٩٦ - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ويهلك الحرثَ والنسل"، قال: الحرث: الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم. (١)
(١) قوله: "الحرث: الأصل" معنى قلما تصيبه في كتب اللغة بينا، ولكنه أتى فيها معترضا كقولهم: "الحرث أصل جردان الحمار" وهذا تخصيص، وهذا الأثر دال على عموم معنى"الحرث" أنه: الأصل وهو جيد في مجاز اللغة.
242
٣٩٩٧ - حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، (١) سئل سعيد بن عبد العزيز عن"فساد الحرث والنسل" وما هما: أيُّ حرث، وأيُّ نسل؟ قال سعيد: قال مكحول: الحرث: ما تحرثون، وأما النسل: فنسْل كل شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة:"ويهلكُ الحرث والنسل" برفع "يهلك"، = على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرثَ والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها، والله لا يجب الفساد= فيردُّ"ويُهلكُ" على"ويشهدُ الله" عطفًا به عليه.
وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك، قراءةَ" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه - فيما ذكر لنا: (٢) "ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل"، وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك" ويهلك" بالنصب، عطفًا به على:" ليفسدَ فيها".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ، وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق.
* * *
و"الفساد" مصدر من قول القائل:"فسد الشيء يفسُد"، نظير قولهم:
(١) في المطبوعة"عمر بن أبي سلمة" والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "فيما ذكرنا" وهو لا يستقيم.
243
"ذهب يذهب ذهابًا". ومن العرب من يجعل مصدر"فسد""فسودًا"، ومصدر"ذهب يذهب ذُهوبًا". (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا قيل = لهذا المنافق الذي نعَتَ نعتَه لنبيه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أنه يُعجبه قوله في الحياة الدنيا=: اتق الله وخَفْهُ في إفسادك في أرْض الله، وسعيكَ فيها بما حرَّم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم- استكبر ودخلته عِزة وحَمية بما حرّم الله عليه، وتمادى في غيِّه وضلاله. قال الله جل ثناؤه: فكفاه عقوبة من غيه وضلاله، صِلِيُّ نارِ جهنم، ولبئس المهاد لصاليها.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها كل فاسق ومنافق.
* ذكر من قال ذلك:
٣٩٩٨ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا بسطام بن مسلم، قال: حدثنا أبو رجاء العطارديّ قال: سمعت عليًّا في هذه الآية:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى:" والله رؤوف بالعباد"، قال علي:"اقتَتَلا وربِّ الكعبة".
(١) انظر معنى"الإفساد في الأرض" ١: ٢٨٧- ٢٩٠، ٤١٦ وما سلف قريبًا: ٢٣٩. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ١٢٤.
244
٣٩٩٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم" إلى قوله:" والله رؤوف بالعباد"، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبْحة وفرغ، دخل مربدًا له، (١) فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة، (٢) قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية:" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"،" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضَات الله والله رؤوفٌ بالعباد"= قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله= فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان؟ فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين! قال: ماذا قلت؟ اقتَتل الرجلان؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر: لله بلادك يا بن عباس. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى. (٤)
* * *
(١) السبحة: صلاة التطوع والنافلة وذكر الله، تقول: "قضيت سبحتي" والمريد: قضاء وراء البيوت برتفق بهن كالحجرة في الدار وهو أيضًا موضع التمر يجفف فيه لينشف يسميه أهل المدينة مريدا وهو المراد هنا.
(٢) ابن أخي عيينة، هو الحر بن قيس بن حصين الفزاري ويقال: الحارث بن قيس والأول أصح. وروى البخاري من طريق الزهري عن عبيد اله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - الحديث. ترجم في الإصابة وغيرها.
(٣) في المطبوعة: "لله تلادك" بالتاء في أوله ولا معنى له، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور ١: ٢٤١ -"لله درك". والعرب تقول: "لله در فلان، ولله بلاده".
(٤) انظر الأثر رقم: ٣٩٦١.
245
وأما قوله:" ولبئس المهاد"، فإنه يعني: ولبئس الفراشُ والوِطاء جهنمُ التي أوعدَ بها جل ثناؤه هذا المنافق، ووطَّأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرُّده على ربه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: ١١١].
* * *
وقد دللنا على أن معنى"شرى" باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وأما قوله:" ابتغاءَ مرضات الله" فإنه يعني أن هذا الشاري يشرى إذا اشترى طلبَ مرضاة الله.
ونصب"ابتغاء" بقوله:"يشري"، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك" من أجل" وعَمل فيه الفعل.
وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، (٢) على"يشرى"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نزع"اللام" عمل الفعل، قال: ومثله: (حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة: ١٩] (٣) وقال الشاعر وهو حاتم:
(١) انظر ما سلف ٢: ٣٤١- ٣٤٣ن ٤٥٥ وفهارس الغة.
(٢) قوله: "على الفعل" أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله"على التفسير للفعل" ١: ٣٥٤ تعليق: ٤.
(٣) انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف ١: ٣٥٤- ٣٥٥.
246
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ إدِّخَارَهُ وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ الَّلئِيمِ تَكَرُّمَا (١)
وقال: لما أذهب"اللام" أعمل فيه الفعل.
وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، (٢) وموضع"أن" فتحسن فيها"الباء" و"اللام"، فتقول:"أتيتك من خوف الشرّ -ولخوف الشر- وبأن خفتُ الشرَّ"، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. (٣) قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال:"فعلت هذا لك ولفلان" أن يسقط"اللام".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٠٠ - حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: المهاجرون والأنصار.
* * *
وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.
* ذكر من قال ذلك:
(١) ديوانه: ٢٤، من أبيات جياد كريمة وسيبويه ١: ١٨٤، ٤٦٤ ونوادر أبي زيد: ١١٠ن الخزانة ١: ٤٩١ والعيني ٣: ٧٥ وغيرها. وفي البيت اختلاف كثير في الرواية، والشاهد فيه نصب"ادخاره" على أنه مفعول له.
(٢) قوله: "الشرط" كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل.
(٣) "الصفة" هي حرف الجر. وانظر ما سلف آنفًا ١: ٢٩٩ وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
247
٤٠٠١ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:" ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: نزلت في صُهيب بن سنان، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله. (١)
٤٠٠٢ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي ﷺ ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا الرجل! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج; فأنزل الله عز وجل على النبي ﷺ بالمدينة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله، أو أمرٍ بمعروف.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر: ٤٠٠١ - في الدر المنثور ١: ٢٤٠، في المطبوعة: "منقذ بن عمير" وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير، أبو طالب في قصيدته المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر ١: ٢٩٥، ٣٠١). وقد أسلم قنفد بن عمير، وله صحبة، وولاه عمر مكة، ثم عزله.
(٢) الأثر: ٤٠٠٢ - في تفسير البغوي ١: ٤٨١- ٤٨٢، مع اختلاف في اللفظ.
248
٤٠٠٣ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده!! فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله". (١)
٤٠٠٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"؟
٤٠٠٥ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله".
٤٠٠٦ - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"، أتدرون فيم أنزلت؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له:"قل لا إله إلا الله"، فإذا قلتها عصمتَ دمك
(١) الأثر: ٤٠٠٣ - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن ابن عون وغيره، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم. كان من المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون. توفي سنة ١٨٨ن مترجم في التهذيب. و"أبو عون" كنية"ابن عون" - عبد الله بن عون المزني مولاهم. "ومحمد" هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية"شهابًا" فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة وغيرها. وقوله: "ألقى بيده" أي: ألقى بيده إلى التهلكة، كما هو مبين في الروايات الأخرى، وانظر ما سيأتي رقم: ٤٠٠٥، مختصرًا.
249
ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. (١)
٤٠٠٧ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عُنى بها الأمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر.
وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نزول آية من عند الله على رسوله ﷺ بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها.
(١) الأثر: ٤٠٠٦ -"حزم بن أبي حزم" القطعي أبو عبد الله البصري روى عن الحسن وغيره، قال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وهو من ثقات من بقى من أصحاب الحسن، مات سنة ٧٥. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "حزام بن أبي حزم" وهو خطأ.
(٢) الأثر: ٤٠٠٧ -"زياد بن أبي مسلم" أبو عمر الفراء البصري، روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن. مترجم في التهذيب. "وأبو الخليل": صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم تابعي، مترجم في التهذيب.
250
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، (١) فمعنيٌّ بقوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"- في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧) ﴾
قد دللنا فيما مضى على معنى"الرأفة"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة (٢)
* * *
فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "واستقتل" بواو العطف، وهو فاسد، والصواب ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف ٣: ١٧١، ١٧٢.
251
٤٠٠٨ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السِّلم"، قال: ادخلوا في الإسلام.
٤٠٠٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" ادخلوا في السلم"، قال: ادخلوا في الإسلام.
٤٠١٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: السلم: الإسلام.
٤٠١١ - حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ادخلوا في السلم"، يقول: في الإسلام.
٤٠١٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ادخلوا في الإسلام.
٤٠١٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ادخلوا في السلم". قال: السلم: الإسلام.
٤٠١٤ - حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول:" ادخلوا في السلم": في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠١٥ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ادخلوا في السلم"، يقول: ادخلوا في الطاعة.
* * *
وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز:"ادخلوا في السَّلم" بفتح السين، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين.
252
فأما الذين فتحوا"السين" من"السلم"، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية.
وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من"السين" فإنهم مختلفون في تأويله.
فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد على أن"السين" تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير ابن أبي سلمى:
وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلَمِ (١)
وأولى التأويلات بقوله:" ادخلوا في السلم"، قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة.
وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر "السين" لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا (٢)
(١) ديوانه: ١٦ من معلقته النبيلة. والضمير في"قلتما" للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان، وذلك في حرب عبس وذبيان. وقوله: "واسعًا" أي: قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب. وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما، ليصطلح الناس.
(٢) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره. المؤتلف والمختلف: ٩ والوحشيات: ٧٥ وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر، وأقام على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء، وقد قال الأبيات في زمن الردة وقبل البيت:
أَلاَ أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولاً وَأَبْلِغْهَا جَمِيعَ المُسْلِمِينَا
فَلَسْتُ مُجَاوِرًا أَبَدًا قَبِيلاً بِمَا قَالَ الرَّسُولُ مُكَذِّبِينَا
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا مُفْسِدينَا
253
بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث (١) بعد وَفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من ذكر"السلم" بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها.
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله:" ادخلوا في السلم" وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين:
إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان:"ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم"، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له:"صالح فلانا"، ولا حرب بينهما ولا عداوة.
= أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد ﷺ من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم:" ادخلوا في السلم"، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد ﷺ وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه ﷺ في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح (٢) فقال: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ
(١) هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله ﷺ في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد فيمن ارتد من العرب. وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر: ماذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث: تمن علي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت! فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق. ثم شهد الفتوح حتى مات سنة ٤٠، وله ثلاث وستون سنة.
(٢) في المطبوعة: ".. عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام" وهو خطأ لا شك فيه، سبق قلم الكاتب فوضع"الإسلام" مكان"الصلح" ومحال أن ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على الصواب كما ترى.
254
مَعَكُمْ) [محمد: ٣٥] وإنما أباحَ له ﷺ في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: ٦١] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله:" ادخلوا في السلم" إلى ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعى إلى الإسلام كافة؟
قيل قد اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: دعى إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.
* * *
وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد ﷺ من الأنبياء المكذبون بمحمد.
* * *
فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام؟
قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله" كافة" من صفة"السلم"، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به.
وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك.
٤٠١٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو (١)
(١) في المطبوعة: "شعبة" وفي الدر المنثور: "سعيد" والذي في أسماء يهود: "سعية" و"سعنة" وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود مما يصعب تحقيقها ويطول، لكثرة الاختلاف فيها.
255
وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل! فنزلت:" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان" (١)
* * *
فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.
* * *
وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم:"ادخلوا فيه" بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠١٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، يعني أهل الكتاب.
٤٠١٨ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: يعني أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع
(١) الأثر: ٤٠١٦ - في الدر المنثور ١: ٢٤١.
256
شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
٤٠١٩ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله (١) " كافة" عامة، جميعًا، كما:-
٤٠٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" في السلم كافة" قال: جميعًا.
٤٠٢١ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" في السلم كافة"، قال: جميعًا.
٤٠٢٢ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع" في السلم كافة"، قال: جميعًا= وعن أبيه، عن قتادة مثله.
٤٠٢٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، عن النضر، عن مجاهد، ادخلوا في الإسلام جميعًا.
٤٠٢٤ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس:" كافة"،: جميعًا.
(١) في المطبوعة: "جل ثناؤه: كافة" بإسقاط"بقوله" وهذا سياق الكلام.
257
٤٠٢٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" كافة" جميعًا، وقرأ. (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة: ٣٦] جميعًا.
٤٠٢٦ - حدثت عن الحسين، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. (١) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.
* * *
وقد بينت معنى"الخطوات" بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى، فكرهت إعادته في هذا المكان. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"عدو مبين" فيما سلف ٣: ٣٠٠.
(٢) انظر ما سلف ٣: ٣٠١، ٣٠٢.
258
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتم الحق، (١)
فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعد ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون = فاعلموا أن الله ذو عزة، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكما أمره ومعصيتكم إياه دافع ="حكيم" فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه، بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره.
* * *
وقد قال عدد من أهل التأويل إن"البينات" هي محمد ﷺ والقرآن. (٢)
وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدًا ﷺ والقرآن، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق، لأن الله جل ثناؤه، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد ﷺ وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
* ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" فإن زللتم": (٣)
٤٠٢٧ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فإن زللتم"، يقول: فإن ضللتم.
(١) انظر معنى"زل" فيما سلف ١: ٥٢٤- ٥٢٥.
(٢) انظر ما سلف في تفسير"البينات" ٢: ٣١٨، ٣٥٤/ ثم ٣: ٢٤٩- ١٥١.
(٣) انظر معنى"زل" فيما سلف ١: ٥٢٤- ٥٢٥.
٤٠٢٨ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإن زللتم" قال: الزلل: الشرك.
* * *
ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" من بعد ما جاءتكم البينات": (١)
٤٠٢٩ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" من بعد ما جاءتكم البينات"، يقول: من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم.
٤٠٣٠ - وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج:" فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات"، قال: الإسلام والقرآن.
* * *
٤٠٣١ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فاعلموا أن الله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: هل ينظرُ المكذِّبون بمحمد ﷺ وما جاء به، إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام والملائكة؟.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:" والملائكة".
(١) انظر ما سلف في تفسير"البينات" ٢: ٣١٨، ٣٥٤/ ثم ٣: ٢٤٩- ٢٥١.
(٢) انظر معنى"عزيز" و"حكيم" في فهرس اللغة.
260
فقرأ بعضهم:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"، بالرفع، عطفًا بـ "الملائكة" على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٣٢ - حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال- في قراءة أبيّ بن كعب:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام"، قال: تأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عزّ وجل فيما شاء.
٤٠٣٣ - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، وقال أبو جعفر الرازي: وهي في بعض القراءة:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام"، كقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنَزَّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان: ٢٥]
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكةِ" بالخفض عطفًا بـ "الملائكة" على"الظلل"، بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة.
* * *
وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"ظلل"، فقرأها بعضُهم:"في ظُلَل"، وبعضهم:"في ظلال".
فمن قرأها" في ظُلل"، فإنه وجهها إلى أنها جمع"ظُلَّة"، و"الظُلَّة"، تجمع"ظُلل وظِلال"، كما تجمع"الخُلَّة"،"خُلَل وخِلال"، و"الجلَّة"، جُلَلٌ وجلال".
261
وأما الذي قرأها"في ظلال"، فإنه جعلها جمع"ظُلَّة"، كما ذكرنا من جمعهم"الخلة""خلال".
وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك، وجَّهه إلى أنّ ذلك جمع"ظِلّ"، لأن"الظلُّة" و"الظِّل" قد يجمعان جميعًا"ظِلالا".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُللٍ من الغمام"، لخبر روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا. (١) فدل بقوله"طاقات"، على أنها ظلل لا ظلال، لأن واحد"الظلل""ظلة"، وهي الطاق= واتباعًا لخط المصحف. (٢) وكذلك الواجبُ في كل ما اتفقت معانيه واختلفتْ في قراءته القرأة، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خطّ المصحف، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رَسم المصحف.
* * *
وأما الذي هو أولى القراءتين في:" والملائكة"، فالصواب بالرفع، عطفًا بها على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وإلا أن تأتيهم الملائكة، على ما روي عن أبيّ بن كعب، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم، فقال جل ثناؤه: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: ٢٢]، وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: ١٥٨] فإن أشكلَ على امرئ قول الله جل ثناؤه: (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فظن أنه مخالفٌ معناه معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"،
(١) سيأتي في الأثر رقم: ٤٠٣٨.
(٢) قوله: "واتباعا... " معطوف على موضع قوله: "لخبر روي عن رسول الله... "
262
إذ كان قوله:"والملائكة" في هذه الآية بلفظ جمع، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظنّ، وذلك أن"الملك" في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) بمعنى الجميع، ومعنى"الملائكة". والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع، فتقول:"فلان كثير الدرهم والدينار"= يراد به: الدراهم والدنانير= و"هلك البعير والشاةُ"، بمعنى جماعة الإبل والشاء، فكذلك قوله:" والملك" بمعنى"الملائكة".
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" ظُلل من الغمام"، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه، أو من صلة فعل"الملائكة"، ومن الذي يأتي فيها؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل الله، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وأن تأتيهم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٣٤ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: هو غير السحاب (١) لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة.
٤٠٣٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت.
٤٠٣٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: طاقات من الغمام، والملائكة حوله= قال ابن جريج، وقال غيره: والملائكةُ بالموت
* * *
(١) انظر تفسير"الغمام" فيما سلف ٢: ٩٠، ٩١، وما سيأتي قريبا: ٢٦٦.
263
وقول عكرمة هذا، وإن كان موافقًا قولَ من قال: إن قوله: في ظُلل من الغمام" من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه، فإنه له مخالف في صفة الملائكة. وذلك أن الواجب من القراءة = على تأويل قول عكرمة هذا في"الملائكة" = الخفضُ، لأنه تأول الآية: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة، لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكةُ حوله.
هذا إن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله"، إلى أنهم حول الغمام، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر"الغمام". وإن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله" إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر الرب عز جل، فقوله نظيرُ قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم، غيرُ مخالفهم في ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل قوله:" في ظلل من الغمام" من صلة فعل"الملائكة"، وإنما تأتي الملائكة فيها، وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٣٧ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، قال: ذلك يوم القيامة، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام. قال: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والرب تعالى يجيء فيما شاء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجَّه قوله:" في ظُلل من الغمام" إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل، وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة، لما:-
٤٠٣٨ - حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا، وذلك
264
قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر". (١)
* * *
وأما معنى قوله:" هل ينظرون"، فإنه ما ينظرون، وقد بيّنا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل. (٢)
* * *
ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله".
فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول في صفات الله وأسمائه، فغيرُ جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا.
* * *
وقال آخرون: إتيانه عز وجل، نظيرُ ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع، وانتقاله من مكان إلى مكان.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله"، يعني به: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله، كما يقال:"قد خشينا أن يأتينا بنو أمية"، يراد به: حُكمهم.
* * *
(١) الحديث: ٤٠٣٨ -زمعة بن صالح الجندي- بفتح الجيم والنون- اليماني: ضعيف ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وفصلنا ذلك في شرح المسند: ٢٠٦١.
سلمة بن وهرام -بفتح الواو وسكون الهاء- اليماني: ثقة، وإنما تكلموا فيه من أجل أحاديث رواها عنه زمعة بن صالح، والحمل فيها على زمعة.
وهذا الحديث ضعيف، كما ترى وذكره السيوطي ١: ٢٤١- ٢٤٢ ونسبه لابن جرير والديلمي فقط.
ونقل قبله نحو معناه، موقوفًا على ابن عباس ونسبه لعبد بن حميد، وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولعله موقوفًا أشبه بالصواب.
وانظر الحديث بعده: ٤٠٣٩.
(٢) كأنه يريد ما سلف ٢: ٤٨٥، من أن حروف الاستفهام تدخل بمعنى الجحد. ولم أجد موضعًا مما يشير إليه غير هذا. وانظر اللسان مادة (هلل).
265
وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ: ٣٣] وكما يقالَ:"قطع الوالي اللص أو ضربه"، وإنما قطعه أعوانُه.
* * *
وقد بينا معنى"الغمام" فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره، (١) لأن معناه ههنا هو معناه هنالك.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة (٢) والمتبعون خُطوات الشيطان، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ.
٤٩٣٩ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المديني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توقفون موقفًا واحدًا يوم القيامة مقدار سَبعين عامًا، لا يُنظر إليكم ولا يُقضي بينكم، قد حُصر عليكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دمًا، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان، أو يلجمكم فتصيحون، ثم تقولون: من يشَفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون من أحقُّ بذلك من أبيكم آدم؟ جبل الله تُربته، وخلَقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلَّمه قِبَلا (٣) فيؤتى آدم، فيطلبَ ذلك إليه، فيأبى، ثم يستقرئون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلما جاءوا نبيًا أبى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفَحْص= قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الفَحْص؟ قال: قُدّام العرش= فأخرّ ساجدًا، فلا أزال ساجدًا
(١) انظر ما سلف ٢: ٩٠- ٩١، وما مضى قريبا: ٢٦٣.
(٢) في المطبوعة: "هل ينظرون التاركون.. " والصواب ما أثبت.
(٣) "كلمة قبلا" (بكسر القاف وفتح الباء) أي عيانا ومقابلة، لا من وراء حجاب ومن غير أن يولى أمره او كلامه أحدًا من الملائكة.
266
حتى يبعث الله إليَّ ملَكًا، فيأخذ بعضديّ فيرفعني، ثم يقول الله لي: يا محمد! فأقول: نعم! وهو أعلم. فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفِّعني في خلقك، فاقض بينهم. فيقول: قد شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينا نحن وقوفٌ سمعنا حِسًّا من السماء شديدًا، فهالنا، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقَت الأرضُ بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثانية بمثْليْ من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجنّ والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ، ثم نزل أهلُ السموات على عدد ذلك من التضعيف، حتى نزل الجبار في ظُلل من الغمام والملائكة، ولهم زجَلٌ من تسبيحهم يقولون:" سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ربّ العرش ذي الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يُميت الخلائق ولا يموت! سبوح قدوس، رب الملائكة والروح! قدّوس قدّوس! سبحان ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدًا أبدًا"! فينزل تبارك وتعالى، يحملُ عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعا، أقدامهم على تُخوم الأرض السفلى والسموات إلى حُجَزهم، والعرشُ على مناكبهم. فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي مناد نداءً يُسمع الخلائق، فيقول: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتُّ منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلىّ، فإنما هو صُحُفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه ليقتصُّ يومئذ للجمَّاءِ من ذات القَرْن". (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر يدلّ على خطأ قول قتادة في تأويله قوله:" والملائكة" أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت. لأنه ﷺ ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب، حين تشقَّقُ السماء، وبمثل ذلك روي الخبر
(١) الحديث: ٤٠٣٩ - هذا حدث ضعيف من جهتين: من جهة إسماعيل بن رافع ومن جهة الرجل المبهم من الأنصار ثم هذا السياق فيه نكارة.
فإسماعيل بن رافع بن عويمر المدني: ضعيف جدًا، ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وابن سعد وغيرهم وذكره ابن حبان في كتاب المجروحين رقم: ٤٢ (مخطوط مصور) وقال: "كان رجلا صالحا، إلا أنه يقلب الأخبار حتى صار الغالب على حديثه المناكير التي يسبق إلى القلب أنه كالمعتمد لها".
وهذا الحديث أشار إليه ابن كثير ١: ٤٧٤- ٤٧٥ وقال: "وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم"! وما وجدته في شيء مما بين يدي من المراجع فلا أدري كيف كان هذا؟.
ولإسماعيل بن رافع هذا حديث آخر، في معنى هذا الحديث أطول منه جدًا. ذكره ابن كثير في التفسير ٣: ٣٣٧- ٣٤٢ من رواية الطبراني في كتابه (المطولات) بإسناده من طريق أبي عاصم النبيل عن إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة مرفوعا. ثم قال ابن كثير بعد سياقه بطوله: "هذا حديث مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض أفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة وقد اختلف فيه: فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه. ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه: هو متروك وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا انه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت: [القائل ابن كثير] : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة وقد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه فغريب جدًا، ويقال أنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقًا واحدًا فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفًا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث. فاله أعلم".
ثم جاء صدر الدين بن أبي العز قاضي القضاة -تلميذ ابن كثير- فأشار إلى هذين الحديثين: حديث الطبري الذي هنا، وحديث الطبراني الذي ذكره شيخه ابن كثير إشارة واحدة في شرح الطحاوية ص: ١٧١- ١٧٢ بتحقيقنا كأنه اعتبرهما حديثًا واحدًا، فذكر بعض سياق الحديث المطول ثم قال: "رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي" فكان شأنه في ذلك موضع نظر، لأن رواية الطبراني إنما هي في كتاب آخر غير معاجمة الثلاثة كما نقل ابن كثير ثم لم أجده في كتاب الأسماء والصفات للبيهقي. ثم لم يذكره صاحب الزوائد. ولو كان في أحد معاجم الطبراني او في مسند أبي يعلى الموصلي كما يوهمه إطلاق ابن أبي العز- لذكره صاحب الزوائد بما التزم من ذلك في كتابه.
267
عن جماعة من الصحابة والتابعين، كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك،= ويوضحُ أيضًا صحة ما اخترنا في قراءة قوله:" والملائكة" بالرفع على معنى: وتأتيهم الملائكة = ويُبينُ عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض، لأنه أخبر ﷺ أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تَفَطَّر السماء، قبل أن يأتيهم ربُّهم، في ظلل من الغمام. إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وفي الملائكة الذين يأتون أهلَ الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيكون ذلك وجهًا من التأويل، وإن كان بعيدًا من قول أهل العلم، ودلالة الكتاب وآثار رسول الله ﷺ الثابتة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (٢١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وفُصِل القضاء بالعدل بين الخلق، (١) على ما ذكرناه قبلُ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أخْذ الحق لكلّ مظلوم من كل ظالم، حتى القصاص للجمّاء من القرناء من البهائم". (٢)
وأما قوله:" وإلى الله تُرجع الأمور"، فإنه يعني: وإلى الله يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة، والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا، من ظلم بعضهم بعضًا، واعتداءِ المعتدي منهم حدودَ الله، وخلافَ أمره، وإحسانِ المحسن منهم، وطاعته إياه فيما أمرَه به- فيفصلُ بين المتظالمين، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان،
(١) انظر معنى"قضى" و"القضاء" فيما سلف ٢: ٥٤٢، ٥٤٣.
(٢) انظر الأثر السالف رقم: ٤٠٣٩.
269
وأهل الإساءة بما رأى، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرًا فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه:" وإلى الله تُرجع الأمور"، وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرةِ، من عنده مبدؤها، وإليه مصيرها، إذْ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون، ويلي النظرَ بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقه، فيحكم بينهم بعضُ عبيده، فيجوزُ بعضٌ ويعدل بعضٌ، ويصيبُ واحد ويخطئ واحد، ويمكَّن من تنفيذ الحكم على بعض، ويتعذَّر ذلك على بعض، لمنعة جانبه وغلبته بالقوة. فأعلم عبادَه تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة، فينصف كُلا من كُلٍّ، ويجازي حق الجزاء كُلا حيثُ لا ظلمَ ولا مُمْتَنَعَ من نفوذ حكمه عليه، وحيث يستوي الضعيف والقويّ، والفقير والغني، ويضمحل الظلم وينزلُ سلطان العدل.
* * *
وإنما أدخل جل وعزّ" الألف واللام" في"الأمور"، لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور، ولم يعن بها بعضًا دون بعض، فكان ذلك بمعنى قول القائل:"يعجبني العسل- والبغل أقوى من الحمار"، فيدخل فيه"الألف واللام"، لأنه لم يُقصد به قصد بعض دون بعض، إنما يراد به العموم والجمع.
* * *
270
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل = الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنزلت إليك من كتبي، وفرضت
270
عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم = كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.
* * *
وأما"الآية"، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية (١) وهي ها هنا. ما:-
٤٠٤٠ - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود.
٤٠٤١ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، يقول: آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله:" ومن يُبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم،
(١) انظر ما سلف معنى"الآية" ١: ١٠٦/ ثم ٢: ٣٩٧- ٣٩٨، ٥٥٣/ ثم ٣: ١٨٤. ومعنى"بينة" في ٢: ٣١٨، ٣٩٧/ ثم ٣: ٢٤٩/ وهذا الجزء ٤: ٢٥٩، ٢٦٠.
271
مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودُ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [بذلك]، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني"بالنعم" جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من شرائع دينه.
ويعني بقوله:" ومن يُبدّل نعمة الله" ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، (٢) من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه.
* * *
فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة.
وبمثل الذي قلنا في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(١) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون لازمة حتى يستقيم الكلام.
(٢) انظر معنى"التبديل" فيما سلف ٣: ٣٩٦.
272
٤٠٤٢- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال: يكفر بها.
٤٠٤٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
٤٠٤٤ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن يبدِّل نعمة الله"، قال: يقول: من يبدِّلها كفرًا.
٤٠٤٥ - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، يقول: ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، (١) فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزيتها من الرياش والأموال،
(١) في المطبوعة: "العاجلة في الذنب" وهو كلام بلا معنى. وقد سمى الله الدنيا"العاجلة" لتعجيله الذين يحبونها ما يشاء من زينتها ولذتها، وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [سورة الإسراء: ١٨].
273
بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي= وأقبلوا على طاعتي، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي، واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ = فوق الذين كفروا يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٤٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:" زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا"، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها =" ويسخرون من الذين آمنوا"، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!
٤٠٤٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة"، قال:"فوقهم" في الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢) ﴾
قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما في قوله:" يرزق من يشاء بغير حساب" من المدح؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه،
274
فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله:" والله يرزق من يشاء بغير حساب"
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الأمة": في هذا الموضع، (١) وفي"الناس" الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة.
فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٤٨ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله"كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا". (٢)
(١) انظر معنى (الأمة) فيما سلف ١: ٢٢١/ ثم ٣: ٧٤ن ١٠٠، ١٢٨ن ١٤١.
(٢) الأثر: ٤٠٤٨ -رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٥٤٦- ٥٤٧ وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
275
٤٠٤٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل"الأمة" على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس"الدين"، كما قال النابغة الذبياني:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ؟ (١)
يعني ذا الدين.
* * *
فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
وأصل"الأمة"، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن"الأمة" من الخبر عن"الدين"، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [سورة المائدة: ٤٨ سورة النحل: ٩٣]، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله:" كان الناس أمة واحدة"، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى"الأمة" إلى طاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) [سورة النحل: ١٢٠]، يعني بقوله"أمة"، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه.
* ذكر من قال ذلك:
(١) ديوانه: ٤٠، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره للنعمان. يقول: أيتهجم على الإثم ذو دين، وقد أطاع الله واخبت له، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها، لأنفي عن قلبك الريبة في أمري.
276
٤٠٥٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم.
٤٠٥١ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
٤٠٥٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه، (١)
* * *
وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ "الأمة"، كما يقال:"فلان أمة وحده"، يقول مقام الأمة.
وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، (٢) فلما كان آدم ﷺ سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم (٣) سماه بذلك"أمة".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٥٣ - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
(١) في المطبوعة: "أمة واحدة" في الموضعين وهو خطأ والصواب ما أثبت. وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" ويقال أيضًا: "هو أمة على حدة" كالذي في الحديث: "يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة".
(٢) في لمطبوعة: "سبب لاجتماع الأسباب من الناس" وهو تصحيف. والأشتات المتفرقون، ومثله: شتى.
(٣) قوله: "إلى حال اختلافهم" أي: إلى ان صارت حالهم إلى الاختلاف والتفرق.
277
قوله:" كان الناس أمة واحدة"- وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم= فكان أبيّ يقرأ:"كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى"فيما اختلفوا فيه". وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
٤٠٥٤ - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم="فبعث الله النبيين"، قال: هذا حين تفرقت الأمم.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.
* * *
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله:" كان الناس أمة واحدة"، على دين واحد، فبعث الله النبيين.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٥٥ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" كان الناس أمة واحدة"، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:-
278
٤٠٥٦ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كان الناس أمة واحدة"، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
= وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:-
٤٠٥٧ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود:"اختلفوا عنه" عن الإسلام. (١)
* * *
= فاختلفوا في دينهم، (٢) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين،"وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة.
وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا
(١) الأثر: ٤٠٥٧ - سيأتي هذا الأثر برقم: ٤٠٦٣ وكان نصه هنا كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن، كما سيأتي. كان في المطبوعة"اختلفوا فيه - على الإسلام".
(٢) في المطبوعة: "واختلفوا في دينهم" بالواو والصواب بالفاء وهو من كلام الطبري، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل: "وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق... فاختلفوا.. "
279
الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً، (١)
غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها"يونس": (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: ١٩]. فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:" فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين"، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب= ويعني بقوله:" ومنذرين"، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار=" وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه"الحكم" إلى"الكتاب"، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.
* * *
(١) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل. بصير بمواضع الزلل في العقول وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على العلم بغيًا بالعلم. ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم قلما يفعلون.
280
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" وما اختلف فيه"، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة=" إلا الذين أوتوه"، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها= و"الهاء" في قوله:"أوتوه" عائدة على"الكتاب" الذي أنزله الله=" من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه.
فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، (١) وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم.
* * *
و"البغي" مصدر من قول القائل:"بغى فلانٌ على فلان بغيًا"، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: "بَغَى" كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. (٢)
* * *
فمعنى قوله جل ثناؤه:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان
(١) في المطبوعة: "تعمدهم الخطيئة التي أنزلها"، وهو تصحيف وكلام بلا معنى.
(٢) انظر معنى"البغي" فيما سلف ١: ٣٤٢.
281
اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-
٤٠٥٨ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه" يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم=" من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في"مِنْ" التي في قوله:" من بعد ما جاءتهم البينات" ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"؟
فقال بعضهم:"من"، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم"البغي" قبل"من"، لأن"من" إذا كان الجالب لها"البغي"، فخطأ أن تتقدمه لأن"البغي" مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن"الذين" مستثنى، وأنّ"من بعد ما جاءتهم البينات" مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات = فكأنه كرر الكلام توكيدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.
* * *
282
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فهدى الله"، فوفق [الله] الذي آمنوا (١) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد ﷺ المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.
وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد ﷺ فوفقتهم لإصابته:"الجمُعة"، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها"السبت"، فقال صلى الله عليه وسلم:"نحن الآخِرون السابقون"، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد".
٤٠٥٩ - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (٢)
٤٠٦٠- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة:" فهدى الله الذين آمنوا لما
(١) انظر معنى"هدى" فيما سلف ١: ١٦٦- ١٧٠، ٢٣٠، ٢٤٩، ٥٤٩- ٥٥١، وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة، في معنى هذه الكلمة وفي معنى"الإيمان".
(٢) الحديث: ٤٠٥٩ - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري: معروف مضت الرواية عنه كثيرا. ووقع في المطبوعة هنا"أحمد بن حميد" وهو غلط وتحريف.
عياض بن دينار الليثي: تابعي ثقة سمع من أبي هريرة. وقد وثقه ابن إسحاق في حديث آخر. رواه عنه في المسند: ٧٤٨١ وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٢٢ وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص: ٢٩٩ (من كتاب الثقات المخطوط المصور).
وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من غير وجه. ونظر الحديث الذي عقبه.
283
اختلفوا فيه من الحق بإذنه"، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا اليهود، وبعد غد للنصارى". (١)
* * *
* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-
٤٠٦١ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فهدى الله الذين آمنوا" للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. (٢) واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه".
* * *
قال أبو جعفر: (٣) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما
(١) الحديث: ٤٠٦٠ -هو في تفسير عبد الرزاق ص ٢٣ن بهذا الإسناد وكذلك رواه أحمد في المسند: ٧٦٩٢ن عن عبد الرزاق.
* ورواه الشيخان وغيرهما. فانظر المسند أيضًا: ٧٢١٣، ٧٣٠٨، ٧٣٩٣، ٧٣٩٥، ٧٦٩٣، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع متعددة.
(٢) في المطبوعة: "الذين يدعونه" والصواب ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: قال: فكانت هداية الله جل ثناؤه... " يتوهم القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن بل هو من كلام أبي جعفر، كما يدل عليه سياقه الآتي، وكما يتبين من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير ١: ٤٨٩: ٤٩٠ والدر المنثور ١: ٢٤٣. فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر الكلام: "قال أبو جعفر".
284
جاء به لما اختلف -هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه مَنْ الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-
٤٠٦٢- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: (وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
٤٠٦٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه"، عن الإسلام. (١)
* * *
(١) الأثر: ٤٠٦٣ - انظر الأثر السالف رقم: ٤٠٥٧ والتعليق عليه. وكان في المطبوعة هنا وهناك: "لما اختلفوا فيه على الإسلام"، وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي ٣: ٣٣ والدر المنثور ١: ٢٤٣.
285
قال أبو جعفر: وأمّا قوله:" بإذنه"، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى"الإذن" إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. (١)
* * *
وأما قوله:" والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل،" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و"مِنْ" إنما هي في كتاب الله في"الحق" و"اللام" في قوله:" لما اختلفوا فيه"، وأنت تحول"اللام" في"الحق"، و"من" في"الاختلاف"، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا؟
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٤٩- ٤٥٠.
286
قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر: (١)
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كما كَانَ الزِّنَاءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ (٢)
وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ تَحْلَى به العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (٣)
وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.
* * *
وقد قال بعضهم: إن معنى قوله" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق"، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.
وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤) ﴾
قال أبو جعفر: وأما قوله:" أم حسبتم"، كأنه استفهم بـ "أم" في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، (٤) ولو لم يكن قبله كلام
(١) هو النابغة الجعدي.
(٢) سلف تخريج البيت في ٣: ٣١١، ٣١٢.
(٣) سلف تخريج الشعر في ٣: ٣١٢.
(٤) في المطبوعة: "لمسبوق كلام" وهو فاسد المعنى وذلك أن أحد شروط"أم" في الاستفهام: أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام (انظر ما سلف ٢: ٤٩٣) وقوله"لسبوق" هذا مصدر لم يرد في كتب اللغة، ولكني رأيت الطبري وغيره يستعمله وسيأتي في نص الطبري بعد ٢: ٢٤٠، ٢٤٦ (بولاق).
287
يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر:"أم عندك أخوك"؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال:"أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ " كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.
* * *
فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من"البأساء"- وهو شدة الحاجة والفاقة ="والضراء" -وهي العلل والأوصاب (١) - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
* * *
وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نزلت يومَ الخندق، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله ﷺ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) إلى قوله: (وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) [الأحزاب: ٩-١١]
(١) انظر معنى"البأساء والضراء" فيما سلف ٣: ٣٤٩- ٣٥٢.
288
* ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب:
٤٠٦٤ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا"، قال: نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم:" ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" [الأحزاب: ١٢]
٤٠٦٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا"، قال: نزلت في يوم الأحزاب، أصاب رسولَ الله ﷺ وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)
* * *
وأما قوله:" ولما يأتكم"، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن"ما" صلة وحشو، وقد بينت القول في"ما" التي يسميها أهل العربية"صلة"، ما حكمها؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وأما معنى قوله:" مثل الذين خلوا من قبلكم"، فإنه يعني: شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم. (٢)
* * *
وقد دللت في غير هذا الموضع على أن"المثل"، الشبه. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(١) انظر ما سلف ١: ٤٠٥، ٤٠٦/ ثم ٢: ٢٣٠، ٣٣١. وقوله: "صلة" أي زيادة، كما سلف شرحها مرارا، فاطلبها في فهرس المصطلحات.
(٢) انظر تفسير"خلا" فيما سلف ٣: ١٠٠، ١٢٨، ١٢٩.
(٣) انظر ما سلف: ١: ٤٠٣.
289
٤٠٦٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا"... (١)
٤٠٦٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج، قال قوله:" حتى يقول الرسول والذين آمنوا"، قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله.
* * *
وفي قوله:" حتى يقول الرسول"، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه"فعَل" أبطل عمل"حتى" فيها، لأن"حتى" غير عاملة في"فعل"، وإنما تعمل في"يفعل"، وإذا تقدمها"فعل"، وكان الذي بعدها"يفعل"، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في"يفعل" وإبطال عمل"حتى" عنه، وذلك نحو قول القائل:" قمت إلى فلان حتى أضربُه"، والرفع هو الكلام الصحيح في"أضربه"، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل"حتى" من الفعل على لفظ"فعل" متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب"يفعل"، وإعمال"حتى"، وذلك نحو قول القائل:"ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك = وجعل ينظر إليك حتى يثبتك"، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ "حتى"، كما قال الشاعر: (٢)
مَطَوْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهمْ... وَحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ (٣)
(١) الأثر: ٤٠٦٦ - هذا أثر ناقص، ولم أجد تمامه في مكان آخر.
(٢) هو امرؤ القيس.
(٣) ديوانه: ١٨٦، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٣٣ وسيبويه ١: ٤١٧/ ٢: ٢٠٣، ورواية سيبويه: "سريت بهم" وفي الموضع الثاني منه روى: "حَتَّى تَكِلَّ غَزِيّهم"
مطا بالقوم يمطو مطوًا: مد بهم وجد في السير. يقول: جد بهم ورددهم في السير حتى كلت مطاياهم فصارت من الإعياء إلى حال لا تحتاج معها إلى أرسان تقاد بها، وصار راكبوها من الكلال إلى إلقاء الأرسان وطرحها على الخيل. لا يبالون من تبعهم وإعيائهم، كيف تسير، ولا إلى أين.
290
فنصب"تكل"، والفعل الذي بعد"حتى" ماض، لأن الذي قبلها من"المطو" متطاول.
والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك-:"وزلزلوا حتى يقولَ الرسول"، نصب"يقول"، إذ كانت"الزلزلة" فعلا متطاولا مثل"المطو بالإبل".
وإنما"الزلزلة" في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا"زلزلة الأرض"، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في"يقول" وإن كان بمعنى"فعل" أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم = على ما أطعتموه بإحسانكم = عليه.
* * *
(١) قد استوفى الكلام في"حتى" الفراء في معاني القرآن ١: ١٣٢- ١٣٨ واعتمد عليه الطبري في أكثر ما قاله في هذا الموضع.
291
و"الخير" الذي قال جل ثناؤه في قوله:" قل ما أنفقتم من خير"، هو المال الذي سأل رسولَ الله ﷺ أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.
* * *
وفي قوله:"ماذا"، وجهان من الإعراب.
أحدهما: أن يكون"ماذا" بمعنى: أيّ شيء؟، فيكون نصبًا بقوله:"ينفقون".
فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ "يسألونك". والآخر منهما الرفع. وللرفع في"ذلك" وجهان: أحدهما أن يكون"ذا" الذي مع"ما" بمعنى"الذي"، فيرفع"ما" ب"ذا" و"ذا" لِ"ما"، و"ينفقون" من صلة"ذا"، فإن العرب قد تصل"ذا" و"هذا"، كما قال الشاعر: (١)
عَدَسْ! مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ أمنْتِ وهذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ! (٢)
فـ "تحملين" من صلة"هذا".
فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون"ماذا" بمعنى أيّ شيء، فيرفع"ماذا"،
(١) هو يزيد بن مفرغ الحميري.
(٢) تاريخ الطبري ٦: ١٧٨ والأغاني ١٧: ٦٠ (ساسي) ومعاني القرآن للفراء ١: ١٣٨ والخزانة: ٢: ٢١٦، ٥١٤ واللسان (عدس) من أبيات في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب الترك. فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته، فبسط لسانه في لحية عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال:
ألاَ لَيْتَ اللِّحَى كانت حشيشًا فنَعْلِفَها خيولَ المسلمينَا
فعرف عباد ما أراد فطلبه منه، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد، فعذبه عذابًا قبيحًا، وأرسله إلى عباد، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق على بغلة البريد، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت.
وقوله: "عدس" زجر للبغلة، حتى صارت كل بغلة تسمى"عدس". والشعر شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة.
292
وإن كان قوله:" ينفقون" واقعًا عليه، (١) إذ كان العاملُ فيه، وهو"ينفقون"، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر: (٢)
ألا تَسْأَلانِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاِولُ أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضلالٌ وَبَاطِلُ (٣)
وكما قال الآخر: (٤)
وَقَالُوا (٥) تَعَرَّفْهَا المَنَازِلَ مِنْ مِنًى وَمَا كُلُّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (٦)
فرفع"كل" ولم ينصبه"بعارف"، إذ كان معنى قوله:"وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف" جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. (٧) وهذه الآية [نزلت] (٨) - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٦٨ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
(١) سلف أن"الوقوع" هو تعدي الفعل إلى المفعول، فانظر فهرس المصطلحات وما سلف ٢: ١٠٨، ١٩٨.
(٢) هو لبيد بن ربيعة.
(٣) ديوانه: ٢/٢٧ القصيدة: ٤١، وسيبويه ١: ٤٠٥ والخزانة ٢: ٥٥٦ ومعاني القرآن للفراء ١: ١٣٩ وغيرها. والشاهد فيه أنه رفع"نحب" وهو مردود على"ما" في"ماذا". فدل ذلك على أن"ذا" بمعنى"الذي" وما بعده من صلته، فلا يعمل فيما قبله. والنحب: النذر. يقول: أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه؟ والنحب: الحاجة وهي صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول: أهي حاجة لا بد منها يقضيها بسعيه، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها وطرحها لما خسر شيئًا، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى هذا الجهاد المتواصل، والاحتيال المتطاول؟
(٤) هو مزاحم العقيلي.
(٥) هو مزاحم العقيل
(٦) ديوانه: ٢٨، وسيبويه ١: ٣٦ن ٧٣، شاهدا على نصب"كل" ورفعها ومعاني القرآن للفراء ١: ١٣٩ وقال: لم"أسمع أحدًا نصب" كل وشرح شواهد المغني: ٣٢٨.
وقوله: "تعرفها المنازل" بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي تعرف صاحبتك بالمنازل من منى. فيقول: لا أعرف أحدًا يعرفها ممن يغشى مني فأسأله عنها.
(٧) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء ١٣٨- ١٤٠.
(٨) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، ليستقيم الكلام.
293
أسباط، عن السدي:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"، قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
٤٠٦٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله ﷺ أينَ يضعون أموالهم؟ فنزلت:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل"، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله= قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك:" ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" وما ذكر معهما.
٤٠٧٠ - حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله:" يسألونك ماذا ينفقون"، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك:" فللوالدين والأقربين" وما ذكر معهما.
٤٠٧١ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد = وسألته عن قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"= قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي =: من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة = قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من
294
الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [سورة البقرة: ١٧٧]. وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.
* * *
وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"المسكين" فيما سلف ٢: ١٣٧، ٢٩٣/ ثم ٣: ٣٤٥ = ومعنى"اليتامى" فيما سلف ٢: ٢٩٢/ ثم ٣: ٣٤٥ = ومعنى"ابن السبيل" فيما سلف ٣: ٣٤٥.
295
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: " كتب عليكم القتال"، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين=" وهو كُرْهٌ لكم".
* * *
واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.
فقال بعضهم: عنى بذلك أصحابُ رسول الله ﷺ خاصةً دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٧٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له:" كتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم"، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ.
٤٠٧٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا
295
خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، قال نسختها (قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [سورة البقرة: ٢٨٥]
* * *
قال أبو جعفر: وهذ اقول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله:" قالوا سمعنا وأطعنا"، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.
٤٠٧٤ - حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. (١)
* * *
وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [سورة النساء: ٩٥]، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.
* * *
(١) الأثر: ٤٠٧٤ - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات سنة ٢٧٠، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل المذيل: ١٠٤) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه البخاري، توفي ببغداد سنة ٢١٥. وكلاهما مترجم في التهذيب.
296
وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٧٥- حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي. (١)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله:"كتب" بما فيه الكفاية. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر"ذو" اكتفاء بدلالة قوله:"كره لكم"، عليه، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: ٨٣]
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٧٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وهو كره لكم" قال: كُرّه إليكم حينئذ.
* * *
"والكره" بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه،"والكَرْهُ" بفتح"الكاف"، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.
(١) الأثر: ٤٠٧٥ - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه، كان ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة ٢٥٨، مترجم في التهذيب وتاريخ بغداد. وكان في المطبوعة: "حسين بن ميسر" وليس في الرواة من يعرف بذلك.
(٢) انظر ما سلف ٣: ٣٥٧، ٣٦٤، ٣٦٥.
297
٤٠٧٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يقول:"الكُره والكَره" لغتان بمعنى واحد، مثل:"الغُسْل والغَسْل" و"الضُّعف والضَّعف"، و"الرُّهبْ والرَّهبْ". وقال بعضهم:"الكره" بضم"الكاف" اسم و"الكره" بفتحها مصدر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:-
٤٠٧٨ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم"، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال:"عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم" يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا.
٤٠٧٩ - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن! قال: في قوله:" وعسى
298
أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام = وذلك رَجبٌ = عن قتالٍ فيه.
(١) الحديث: ٤٠٧٩ - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد ترجمة"يحيى بن محمد بن مجاهد" ولا"عبيد الله بن أبي هاشم" ولا أدري ما هما. ولفظ الحديث لم أجده، ولا نقله أحد +من ينقل عن الطبري.
299
وخفضُ"القتال" على معنى تكرير"عن" عليه، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:-
٤٠٨٠ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها:"عن قتال فيه".
* * *
= قال أبو جعفر:"قل" يا محمد:"قتالٌ فيه"- يعني في الشهر الحرام"كبيرٌ"، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه.
ومعنى قوله:" قتال فيه"، قل القتال فيه كبير. وإنما قال:"قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له، وتسميه مضر"الأصمَّ" (١) لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد:-
٤٠٨١ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن جابر قال: لم يكن رسول الله ﷺ يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ.
* * *
وقوله جل ثناؤه:" وصَدٌّ عن سبيل الله". ومعنى"الصدّ" عن الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل:" صدّ فلان بوجهه عن فلان"، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.
* * *
وقوله:" وكفرٌ به"، يعني: وكفر بالله، و"الباء" في"به" عائدة على اسم الله الذي في"سبيل الله". وتأويل الكلام: وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.
(١) يعني شهر رجب، وهو رجب الأصم.
300
فـ "الصدُّ عن سييل الله" مرفوع بقوله:" أكبر عند الله". وقوله:" وإخراج أهله منه" عطف على"الصد". ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، يعني: الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، (١) يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله:" والمسجد الحرام" معطوف على"القتال" وأن معناه: يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من القتال في الشهر الحرام. (٢)
وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله ﷺ عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله ﷺ إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه (٣) كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله ﷺ قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.
ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت
(١) انظر معنى"الفتنة" فيما سلف ٣: ٥٦٥، ٥٦٦ ثم ٥٧٠ن ٥٧١ وفهرس اللغة في الأجزاء السالفة.
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ١٤١.
(٣) في المطبوعة: "وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن القوم سألوا رسول الله... " والصواب ما أثبت، وإلا اختل الكلام اختلالا شديدًا.
301
على رسول الله ﷺ في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك:
٤٠٨٢ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.
= وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة- (١) ومن بني أمية- بن عبد شمس، ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين (٢) بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.
= فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: "إذا نظرت إلى كتابي هذا، (٣) فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف،
(١) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ونص ابن هشام: "أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش" بإسقاط: "ومن بني أمية" فتركت ما في الطبري على حاله لأنه صحيح المعنى أيضًا.
(٢) في المطبوعة: "... عبد الله بن مناة بن عويم" وأثبت ما في نص ابن هشام وهو الموافق لما أجمعت عليه كتب السير والأنساب.
(٣) في المطبوعة: "إذا نظرت إلى كتابي... " وأثبت ما في هشام وتاريخ الطبري وهو الصواب.
302
فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال:" سمعا وطاعة"، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ﷺ فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه [منهم] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، (١) أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، (٢) فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش (٣) فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار! فلا بأس علينا منهم. (٤) وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، (٥) فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.
=وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله ﷺ بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله ﷺ مما غنمتم الخمُس.
وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله ﷺ خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله ﷺ ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [فيه الرجال] (٦) فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! (٧) وقالت يهود -تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! " عمرو"، عمرت الحرب! و"الحضرميّ"، حَضَرت الحربُ! " وواقد بن عبد الله"، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم.
= فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله:" يسألونك عن الشهر
(١) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ صرف.
(٢) "يتعقبانه": أي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة، أي هذا نوبة وهذا نوبة.
(٣) العير: القافلة من الإبل والحمير والبغال تخرج للميرة فيمتار عليها. والأدم جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ.
(٤) عمار: معتمرون. والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام وأداء حقه، في أي شهر كان. وهو غير الحج يقال عنه"اعتمر" ولم يسمع"عمر" ولكن جاء"عمار" جمع"عامر" على هذا الثلاثي المتروك.
(٥) هكذا في المطبوعة: "آخر يوم من جمادى" وفي نص ابن هشام وتاريخ الطبري"آخر يوم من رجب" وهو أصح النصين، ولم أغيرها، لأنه سيأتي بعد ما يدل على أن الرواية هنا هكذا.
(٦) الزيادة بين القوسين من نص ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(٧) انظر ص: ٣٠٣ التعليق: ٥ ونص ابن هشام والطبري"في شعبان".
303
الحرام قتال فيه"،
أي: عن قتالٍ فيه" قل قتال فيه كبيرٌ" إلى قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم،" والفتنة أكبر من القتل"، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل=" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، (١) قبض رسول الله ﷺ العيرَ والأسيرين. (٢)
٤٠٨٣ - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ"، وذلك أنّ رسول الله ﷺ بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص،
(١) الشفق (لفتح الشين والفاء) والإشقاق: الخوف والحذر.
(٢) الأثر: ٤٠٨٢ - هو نص ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق ٢: ٢٥٢- ٢٥٤ ورواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٦٢- ٢٦٣.
305
وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل [بطن] مَلَل، (١) فلما نزل ببطن ملل فتحَ الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة، (٢) فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران يطلبانها، (٣) وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
= فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جُمادى! - وقيل: في أول ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير" لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام، فذلك قوله:" وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل". (٤)
٤٠٨٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم
(١) الزيادة بين القوسين من رواية الطبري في تاريخه.
(٢) في تاريخه: "بطن نخل" في هذا الموضع منه، وفيما يليه"بطن نخلة".
(٣) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ مضى مثله ص: ٣٠٣ والصواب من التاريخ.
(٤) الأثر: ٤٠٨٣ - رواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٦٣- ٢٦٤.
306
أبا عبيدة. فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا:" ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك". فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم: أمن رَجب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام! فأتوا النبي ﷺ فحدّثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل"- والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال -: كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحد! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت! وإن يكن ذنبًا فقد عملت! (١)
٤٠٨٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه"، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي ﷺ في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله جل وعز:" قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به" وصد عن المسجد الحرام" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.
(١) الأثر: ٤٠٨٤ رواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٦٤- ٢٦٥- وسيأتي تمامه برقم: ٤١٠٢.
307
٤٠٨٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا: أتقتلون في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام" = يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله =" والمسجد الحرام" = وصد عن المسجد الحرام =" وإخراج أهله منه أكبر عند الله"، من قتل عمرو بن الحضرميّ =" والفتنة"، يقول: الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا = قال الزهري وكان النبي ﷺ فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم أحِلّ [له] بعدُ. (١)
٤٠٨٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير"، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله ﷺ وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله ﷺ القتالَ في شهر حرام،
(١) الحديث: ٤٠٨٦ - هذا حديث مرسل، مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين، هما: الزهري ومقسم مولى ابن عباس.
فرواه معمر عن الزهري ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم. وهو ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: ٢٦. وزدنا منه [الواو] في قوله: "وعن مقسم"، وكلمة [له] في آخر الحديث في قوله" ثم أحل [له] بعد".
وعثمان الجزري: هو"عثمان بن ساج" ترجم له ابن أبي حاتم ٣/١/١٥٣، وهو غير"عثمان ابن عمرو بن ساج" الذي ترجم له ابن أبي حاتم ٣/١/١٦٢. وقد خلط بينهما الحافظ المزي في التهذيب، وتعقبه الحافظ ابن حجر. وانظر ما كتبنا في ذلك، في شرح المسند: ٢٥٦٢.
مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين-: هو ابن بجرة، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. وإنما قيل له"مولى ابن عباس" للزومه له. وهو تابعي ثقة.
308
فقال الله جل وعز:" وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتل فيه = وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب = وأن أصحاب محمد ﷺ كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ = وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" وغير ذلك أكبر منه،" صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه" إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ.
٤٠٨٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نزلت:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" إلى قوله:" والفتنة أكبرُ من القتل"، استكبروه. فقال: والفتنة = الشرك الذي أنتم عليه مقيمون = أكبر مما استكبرتم.
٤٠٨٩ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه" إلى قوله" أكبر عند الله" من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و"الفتنة" - التي أنتم عليها مقيمون، يعني الشركَ -" أكبر من القتل".
٤٠٩٠ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال:
309
وكان يسميها (١) - يقول: لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله.
٤٠٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، فيمن نزلت؟ قال: لا أدري = قال ابن جريج: وقال عكرمة ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي حسين، عن الزهري ذلك أيضًا.
٤٠٩٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد:" قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام"، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد الحرام" وإخراج أهله منه" - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي -" والفتنة أكبر من القتل" - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ من هذا كله.
٤٠٩٣ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير"، كان أصحاب محمد ﷺ قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام.
قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع"الصد" و"الكفر به"، (٢) وأن رافعه"أكبر عند الله". وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على"الكبير"، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله،
(١) هكذا في المطبوعة، وأظن الصواب: "وكان يسميهما".
(٢) في المطبوعة"في رفع الصد به" والصواب ما أثبت.
310
وزعم أن قوله:"وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله"، خبر منقطع عما قبله مبتدأ.
* * *
٤٠٩٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، قال: يعني به الكفر.
٤٠٩٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، أي الشرك بالله أكبر من القتل.
* * *
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس:
٤٠٩٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله ﷺ عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله ﷺ يعيِّرونه بذلك، فقال:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وغيرُ ذلك أكبر منه:" صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر" من الذي أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله:" وصدٌّ عن سبيل الله".
فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما، أن يكون" الصدُّ" مردودًا على" الكبير"، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ
311
به. وإن شئت جعلت" الصد"" كبيرًا"، يريد به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به. (١)
* * *
قال أبو جعفر: قال فأخطأ -يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع" الصد" عطفًا به على" كبير"، يصير تأويل الكلام: قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا. لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله"؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله". وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول.
وأما إذا رفع" الصد"، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله" - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: (٢) من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله
(١) هو قول الفراء، كما سيأتي بعد في النص، وانظر معاني القرآن ١: ١٤١. وقد رد الطبري كلام الفراء ردًا حكيما، وأظهر الفساد الذي ينطوي عليه قول من يقول في القرآن، وهو لا يحكم النظر في أحكام الله، فيظن كل جائز في العربية والنحو، جائزا أن يحمل عليه كتاب الله. وردود الطبري تعلم المرء كيف يتخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، من الأناة والتوقف والصبر والورع، أن تزل قدم في هوة من الضلال والجهالة وسوء الرأي.
(٢) في المطبوعة: "داخل من الخطأ مثل... " سقطت"في" من ناسخ فيما أرجح.
312
من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه (١).
* * *
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع" الصد"، ويزعم أنه معطوف به على" الكبير"، ويجعل قوله:" وإخراج أهله" مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟
فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: ٣٦]، وبقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة: ٥]
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٩٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في" براءة" قوله: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة: ٣٦] : يقول: فيهن وفي غيرهن. (٢)
٤٠٩٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. (٣)
(١) أخال الشيء يخيل: اشتبه. يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد"، أي: لا يشكل على أحد. و"شيء مخيل"، أي مشكل.
(٢) الأثر: ٤٠٩٧ -"عطاء بن ميسرة" هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني يقال اسم أبيه"عبد الله"، ويقال"ميسرة". مات سنة ١٣٥، وانظر الاختلاف فيه، والإشكال في أمره وأمر عطاء بن أبي رباح في التهذيب في ترجمته.
(٣) الأثر: ٤٠٩٨ - هو بعض الأثر السالف: ٤٠٨٦. وانظر التعليق عليه.
313
وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ = لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا.
* ذكر من قال ذلك:
٤٠٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن ابن جريج، (١) قال: قلت لعطاء:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: ٣٦].
وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.
(١) في المطبوعة: "... عن ابن جريج، عن مجاهد، قال قلت لعطاء... "، فقوله: "عن مجاهد" خطأ وزيادة مفسدة، فحذفتها. وانظر الأثر السالف رقم: ٤٩٠١.
314
وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله ﷺ لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة، وأنه ﷺ إنما دعا أصحابه إليها يومئذ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع ﷺ على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان بالرسالة، جرى بين النبي ﷺ وقريش الصلح، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرُم.
فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وأنه منسوخ.
فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي ﷺ إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا. وذلك أن هذه الآية - أعني قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله ﷺ المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك، كما:-
315
٤١٠٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين ولا نازعين = يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردُّوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة. (١)
٤١٠١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، قال: كفار قريش.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" ومن يرتدد منكم عن دينه"، من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: ٦٤] يعني بقوله:" فارتدَّا"، رجعا. ومن ذلك قيل:" استردّ فلان حقه من فلان"، إذا استرجعه منه. (٢)
وإنما أظهر التضعيف في قوله:" يرتدد" لأن لام الفعل ساكنة بالجزم، وإذا
(١) الأثر: ٤١٠٠ - هو بعض الأثر السالف: ٤٠٨٢. والكلام من أول قوله: "يعني: على أن يفتنوا... " ليس في سيرة ابن هشام، ولا في تاريخ الطبري. فإما أن يكون من كلام الطبري، أو من كلام ابن حميد، أو بعض رواة الأثر.
(٢) انظر ما سلف ٣: ١٦٣، وفهارس اللغة فيما سلف، ردد"
316
سكِّنت فالقياس ترك التضعيف، وقد تضعَّف وتدغم وهي ساكنة، بناء على التثنية والجمع.
* * *
وقوله:" فيمت وهو كافر"، يقول: من يرجع عن دينه دين الإسلام،" فيمت وهو كافر"، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت أعمالهم.
* * *
يعني بقوله:" حبطت أعمالهم"، بطلت وذهبت. وبُطولها: ذهابُ ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله:" وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: الذين ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلَّدون فيها. (١)
* * *
وإنما جعلهم" أهلها" لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها، كما يقال:" هؤلاء أهل محلة كذا"، يعني: سكانها المقيمون فيها.
* * *
ويعني بقوله:" هم فيها خالدون"، هم فيها لابثون لَبْثًا، من غير أمَدٍ ولا نهاية. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به = وبقوله:" والذين هاجروا" الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم
(١) انظر معنى"أصحاب النار" فيما سلف ٢: ٢٨٦.
(٢) انظر معنى"خالد" فيما سلف ٢: ٢٨٦- ٢٨٧، وفهارس اللغة.
317
ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم، (١) إلى غيرها هجرة............................... (٢) لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة:" المفاعلة" من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" مهاجرين"، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.
* * *
وأما قوله:" وجاهدوا" فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا.
* * *
وأصل" المجاهدة"" المفاعلة" من قول الرجل:" قد جَهَد فلان فلانًا على كذا" -إذا كرَبَه وشقّ عليه-" يجهده جهدًا". فإذا كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة، قيل:" فلانٌ يجاهد فلانًا" - يعني: أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه -" فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا".
* * *
وأما" سبيل الله"، فطريقه ودينه. (٣)
* * *
(١) كان الكلام في المطبوعة متصلا بما بعده في موضع هذه النقط، ولكنه لا يستقيم ولا يطرد. ففصلت بين الكلامين. وظني أن سياق الكلام وتمامه: "فتحوَّلوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة، لما كرهوا من كفرهم وشركهم، وإيثارًا لجوار المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وسياق الكلام يدل على ذلك.
(٢) مكان هذه النقط خرم لا شك فيه، كأن ناسخًا أسقط سطرًا أو سطرين، وكان صدر الكلام فيما أتوهم. "هجر المكان يهجره هجرًا وهجرانًا وهجرة: كرهه فخرج منه، تاركًا لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه" - أو كلامًا هذا معناه.
(٣) انظر معنى"سبيل الله" فيما سلف، ٢: ٤٩٧/ ٣: ٥٦٤، ٥٨٣.
318
فمعنى قوله إذًا:" والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله"، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله =" أولئك يرجون رَحمه الله"، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.
=" والله غفور"، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة. (١)
* * *
وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٠٢ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم -أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنزل الله:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم". (٢)
٤١٠٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنزل الله عز وجل القرآنَ بما أنزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيهم:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ".
(١) انظر معنى"غفور" فيما سلف من مراجعه في فهارس اللغة (غفر).
(٢) الأثر: ٤١٠٢ - هو من تمام الأثر السالف رقم: ٤٠٨٤، وهو بتمامه في الدر المنثور ١: ٢٥٠
319
فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (١)
٤١٠٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد ﷺ أحسنَ الثناء فقال:" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمه الله والله غفورٌ رحيم"، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجَا طلب، ومن خاف هرب.
٤١٠٥ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشُربها.
* * *
و"الخمر" كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل:" خَمَرت الإناء" إذا غطيته، و"خَمِر الرجل"، إذا دخل في الخَمَر. ويقال:" هو في خُمار الناس وغُمارهم"، يراد به دخل في عُرْض الناس. ويقال للضبع:" خامري أم عامر"، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو"خمر".
(١) الأثر: ٣١٠٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٥٥، وهو تمام الأثر السالف: ٤٠٨٢. وكان في المطبوعة هنا: "فوفقهم الله من ذلك... "، والصواب ما أثبت من ابن هشام.
320
ومن ذلك أيضا"خِمار المرأة"، وذلك لأنها تستر [به] رأسها فتغطيه. ومنه يقال:" هو يمشي لك الخمَر"، أي مستخفيًا، كما قال العجاج:
فِي لامِعِ العِقْبَانِ لا يَأتي الْخَمَرْ يُوَجِّهُ الأرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ (١)
ويعني بقوله:" لا يأتي الخمر"، لا يأتي مستخفيًا ولا مُسارَقةً، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و"العقبان" جمع"عُقاب"، وهي الرايات.
* * *
وأما"الميسر" فإنها"المفعل" من قول القائل:" يسَرَ لي هذا الأمر"، إذا وجب لي" فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا" (٢) و"الياسر" الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك. (٣) ثم قيل للمقامر،" ياسرٌ ويَسَر"، كما قال الشاعر:
فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ يُقَلِّبُ، بَعْدَ مَا اخْتُلِعَ، القِدَاحَا (٤)
وكما قال النابغة: (٥)
(١) ديوانه: ١٧، من قصيدة يذكر فيها فتوح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، سلف منها بيتان في ٢: ١٥٧. واقرأ التعليق هناك رقم: ٢. ولمعت الرايات: خفقت. وقوله: "يوجه الأرض" يعني جيش عمر، أي يقشر وجهها من شدة وطئه وكثرته وسرعة سيره، يشبهه بالسيل. يقال: " وجه المطر الأرض"، قشر وجهها وأثر فيه. وقوله: "يستاق الشجر"، يقول: جيشه كالسيل المنفجر المتدافع يقشر الأرض، ويختلع شجرها، ويسوقه.
(٢) هذا المعنى لم أصبه في كتب اللغة، وأنا أظنه مجازًا من"الميسر"، لا أصلا في اشتقاق الميسر منه، لأن حظ صاحب الميسر واجب الأداء إذا خرج قدحه.
(٣) في المطبوعة: "أو مباحه"، ولا معنى لها، وكأن الصواب ما أثبت. والفتاحة (بضم الفاء) : الحكم بين الخصمين يختصمان إليك.
(٤) لم أعرف قائله. والغبين والمغبون: الخاسر. واختلع (بالبناء للمجهول) : أي قمر ماله وخسره، فاختلع منه، أي انتزع. والمخالع المقامر، والمخلوع: المقمور ماله. يقول: إنه بات ليلته حزينًا كاسفًا مطرقًا، إطراق المقامر الذي خسر كل شيء، فأخذ يقلب في كفيه قداحه مطرقًا متحسرا على ما أصابه ونكبه.
(٥) لم أجد البيت في شعر النابغة الذبياني، ولست أدري أهو لغيره من النوابغ، أم هو لغيرهم.
321
أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ القِدَاح بوَفْرِهِ أَسِفٌ تآكَلَهُ الصِّدِيقُ مُخَلَّعُ (١)
يعني"بالياسر": المقامر. وقيل للقمار"ميسر".
* * *
وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك.
٤١٠٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" قال: القمار، وإنما سمّي"الميسر" لقولهم:"أيْسِروا واجْزُرُوا"، كقولك: ضع كذا وكذا.
٤١٠٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.
٤١٠٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا، فإنهن من الميسر. (٢)
٤١٠٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله.
٤١١٠ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا، فإنها من الميسر.
(١) الوفر: المال الكثير الواسع. وأسف: حزين بالغ الحزن على ما فاته، يقال هو: أسف وآسف وأسفان وأسيف. وفي المطبوعة: "بآكله"، رجحت قراءتها"تآكله". والصديق، واحد وجمع. ومخلع: قد قمر مرة بعد مرة، فهلك ماله وفني. وقوله: " تآكله الصديق"، تناهبوه بينهم في الميسر وهم أصدقاؤه، وذلك أشد لحزنه لما يرى من سرورهم، ولما يؤسفه من ضياع ماله، ويحزنه من لؤم صديقه.
(٢) الكعاب والكعبات، جمع كعب وكعبة: وهي فصوص النرد وقوله: "تزجرونها زجرًا" من الزجر، وهو الحث والدفع، أو من زجر الطير، هو ضرب من العيافة والتكهن. يريد ما يكون معها من توقع الغيب وتطلبه. والموسومة: التي وسمت بسمة تميزها تكون علامة فيها.
322
٤١١١ - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار ميسرٌ.
٤١١٢ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خَطَرٌ = أو: في خَطَر، أبو عامر شك = فهو من الميسر. (١)
٤١١٣ - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.
٤١١٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر.
٤١١٥ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار.
٤١١٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز.
٤١١٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: الميسر القمار.
٤١١٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا، فإنهما من الميسر. (٢)
٤١١٩ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن عليه، عن ابن أبي
(١) الخطر: الرهن يخاطر عليه، ويقال له"السبق، والندب" (بالتحريك فيهما)، وهو كله الذي يوضع في الرهان، فمن سبق أو غلب أخذه.
(٢) انظر التعليق السالف ص: ٣٢٢، تعليق: ٢.
323
عروبة، عن قتادة قال: أما قوله:"والميسر"، فهو القمار كله.
٤١٢٠ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد" ميسر"، أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
٤١٢١ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. (١)
٤١٢٢ - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار.
٤١٢٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار.
٤١٢٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.
٤١٢٥ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله:" والميسر"، قال: القمار.
٤١٢٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الميسر القمار.
٤١٢٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو بدر شجاع
(١) المخاطرة: المراهنة، وقمر الرجل صاحبه يقمره (بكسر الميم) قمرًا: إذا لاعبه في القمار فغلبه.
324
بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر.
٤١٢٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسرُ، قداح العرب وكِعابُ فارس = قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار كله.
٤١٢٩ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار.
٤١٣٠ - حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر القمار.
* * *
وأما قوله:" قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهم:" فيهما"، يعني في الخمر والميسر" إثم كبير"، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:-
٤١٣١ - حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" فيهما إثمٌ كبير"، فإثم الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم.
٤١٣٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثم كبير"، قال: هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر.
٤١٣٣ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" قل فيهما إثم كبير"، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها.
* * *
325
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل" الإثم الكبير" الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر: (١) في"الخمر" ما قاله السدي: (٢) زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في"الميسر"، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [سورة المائدة: ٩١]
* * *
وأما قوله:" ومنافع للناس"، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في صفتها.
لَنَا مِنْ ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ... وذِكْرَى هُمُوم مَا تُغِبُّ أَذَاتُهَا... وَعِنْد العِشَاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ... وَمَالٌ كَثِير، عِزَّةٌ نَشَوَاتُهَا (٣)
وكما قال حسان:
(١) في المطبوعة: "والذي هو أولى بتأويل الآية الإثم الكبير" بزيادة"الآية" سبق بها قلم ناسخ، وصواب العبارة في حذفها.
(٢) في المطبوعة: "فالخمر ما قاله السدي... "، وسياق عبارته يقتضي ما أثبت.
(٣) ديوانه: ٦١، والأشربة لابن قتيبة: ٧٠ والبيتان مصحفان تصحيفًا قبيحًا في المطبوعة، في البيت الأول"صحاها" بالصاد المهملة، و"ما تفك أداتها". وفي البيت الثاني"عده نشواتها" وفي الأشربة"عدة"، وفي الديوان"غدوة نشواتها" (بضم الغين ونصب التاء بفتحتين). ونسخة الديوان أيضًا كثيرة التصحيف، فآثرت قراءة الكلمة"عزة". وذلك أن الأعشى يقول قبل البيتين:
لَعَمْرُكَ إنَّ الرَّاحَ إِنْ كُنْتَ شاربًا لَمُخْتَلِفٌ آصَالُها وَغَدَاتُها
ثم بين في البيت الثاني أنها في"الضحى" -وهو الغدوة- تعقب خبث النفس والكآبة والهموم المؤذية. ثم أتبع ذلك بما يكون عند العشي من طيب النفس واللذة - فلا معنى لإعادة ذكر"الغدوة" مرة أخرى، بل إنه لو فعل لنقض على نفسه البيت السالف، فصارت الخمر في الغدوة أو الضحى، مخبثة للنفس، ومبهجة لها في وقت واحد، وهذا باطل.
فالصواب عندي أن تقرأ"عزة لنشواتها"، كقوله أيضًا:
مِنْ قَهْوَةٍ بَاتَتْ بِبَابِلَ صَفْوَةٍ تَدَعَ الفَتَى مَلِكًا يَمِيلُ مُصَرَّعًا
ويؤيد ذلك أن ابن قتيبة قدم قبل الأبيات السالفة: "وقال في الخمر أنها تمد في الأمنية" ثم ذكر الأبيات، فمعنى ذلك أنها تريه أنه صار ملكًا عزيزًا يهب المال الكثير إذا انتشى.
وقوله: "ما تغب أذاتها" من قولهم: "غب الشيء" أي بعد وتأخر. تقول: "ما يغبك لطفي" أي ما يتأخر عنك يومًا، بل يأتيك كل يوم، تعني متتابعًا.
326
فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ (١)
وأما منافع الميسر، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح، (٢) وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إلَى النَّدَى وَنِيَاطِ مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلالَهَا (٣)
* * *
(١) ديوانه: ٤، والكامل ١: ٧٤، وغيرهما، ونهنهه عن الشيء: زجره عنه وكفه ومنعه. أي: لا نخاف لقاء العدو.
(٢) الأنصباء جمع نصيب. والمياسرة: المقامرة. وفلج سهم المقامر وأفلج: فاز. وأعشار الجزور: الأنصباء. وكانوا يقسمونه عشرة أجزاء.
(٣) ديوانه: ٢٣. الأيسار جمع يسر: وهو الذي يضرب القداح، واللاعب أيضًا، وهو المراد هنا. ورواية الديوان"دعوت لحتفها" والمقفرة: المفازة المقفرة. ونياط المفازة: بعد طريقها، كأنها نيطت -أي وصلت- بمفازة أخرى، لا تكاد تنقطع. وهو بيت من أبيات جياد يتمدح فيها الأعشى بفعله، يقول: وَغَرِيبَةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكِيمَةٍ... قَد قُلْتُهَا لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قالَهَا!!
وَسَبِيئَةٍ ممّا تُعَتِّقُ بَابِلٌ كَدَمِ الذَّبِيحِ، سَلَبْتُهَا جِرْيالَهَا
وجَزُورِ أيْسَارٍ..... ...................
وكان الميسر عندهم من كرم الفعال.
327
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٣٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون من الجَزور.
٤١٣٥ - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما منافعهُما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار.
٤١٣٦ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس"، قال: منافعهما قبل أن يحرَّما.
٤١٣٧ - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس:" ومنافع للناس"، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها.
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين:" قل فيهما إثم كبيرٌ" بالباء، بمعنى قل: في شرب هذه، والقمار هذا، كبيرٌ من الآثام.
وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة:"قل فيهما إثمٌ كثيرٌ"، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن"الإثم" بمعنى"الآثام"، وإن كان في اللفظ واحدًا، فوصفوه بمعناه من الكثرة. (١)
(١) انظر معنى"الإثم" فيما سلف ٣: ٤٠٦ وما بعدها / ثم ص ٥٥٠.
328
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه "بالباء":" قل فيهما إثم كبير"، لإجماع جميعهم على قوله:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، وقراءته بالباء. وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك، هو العظم والكبَر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [الخمر] هذه والقمار هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتَل بعضهم بعضًا، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه بسببه الشرُّ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.
* * *
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.
* * *
وقد قال عددٌ من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٣٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدَ ما حرِّما.
٤١٣٩ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"
329
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" ينزل المنافعَ قبل التحريم، والإثم بعد ما حرِّم.
٤١٤٠ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم.
٤١٤١ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم.
* * *
* ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر:
٤١٤٢ - حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثمٌ كبير ومنافع للناس" فكرهها قوم لقوله:" فيها إثم كبير"، وشربها قوم لقوله:" ومنافع للناس"، حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [سورة النساء: ٤٣]، قال: فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [سورة المائدة: ٩٠] فقال عمر: ضَيْعَةً لك! اليوم قُرِنْتِ بالميسر!
330
٤١٤٣ - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال، سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا، فكان أول ما أنزل:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير" الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال: ثم نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حُرِّمت الخمر". (١)
(١) الحديث: ٤١٤٣ - أبو عامر: هو العقدي -بفتح العين والقاف- عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة مأمون، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن المديني، وغيرهم.
محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي، واسم أبيه"إبراهيم": ضعيف منكر الحديث، اتفقوا على تضعيفه.
أبو توبة المصري: لا يوجد راو بهذا الاسم، وإنما هو من تخليط محمد بن أبي حميد. وصحته"أبو طعمة الأموي" بضم الطاء وسكون العين المهملة، وهو مولى عمر بن عبد العزيز، شامي سكن مصر، وكان قارئًا، يقرئ القرآن بمصر. وهو تابعي ثقة.
وهذا الحديث رواه الطيالسي في مسنده: ١٩٥٧، عن محمد بن أبي حميد"عن أبي توبة المصري"، عن ابن عمر. وزاد في آخره قصة شق روايا الخمر، شقها رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر وعمر. ثم لعن شاربها وعاصرها. إلخ.
ونقل ابن كثير في التفسير ٣: ٢٢٦، القسم الذي هنا فقط، عن مسند الطيالسي. ولكنه حين رأى الغلط في الإسناد"عن أبي توبة المصري" -تصرف تصرفًا سديدًا، فأثبته: "عن المصري"، ثم قال: "يعني أبا طعمة". فلم يغير في أصل الإسناد، وأشار إلى ما هو الصواب.
وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣١٤- ٣١٥، ونسبه للطيالسي، والطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
والحديث الصحيح من رواية أبي طعمة: ما رواه أحمد في المسند: ٥٣٩٠، في قصة شق زقاق الخمر، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها"- من طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة وقد فصلنا تخريجه في الاستدراك، رقم: ١٧٦٥ في المسند.
ورواه ابن عبد الحكم، في فتوح مصر، أطول قليلا من رواية المسند، ص ٢٦٤ بإسنادين من طريق أبي شريح عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل بن بكيل- ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة، كلاهما عن ابن عمر. وشراحيل بن بكيل: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ٢/٢/٢٥٦. وابن أبي حاتم ٢/١/٣٧٣. ولم يذكرا فيه جرحًا.
331
٤١٤٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) = و" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، فنسختها الآية التي في المائدة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ)، الآية.
٤١٤٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف، عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجلّ في الخمر ثلاثَ مرات. فأول ما أنزل قال الله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله عز وجل فيهما: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ، فجعل ينوح على قتلى بدر:
تُحَيِّي بِالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْروٍ وَهَلْ لَكِ بَعْدَ رَهْطِكِ مِنْ سَلامِ (١)
(١) سيأتي في تخريج هذا الأثر، أن رواية هذا الخبر تنسب هذا الشعر لأبي بكر الصديق، ونفي عائشة لذلك. وهذه الأبيات بعض أبيات من شعر لأبي بكر بن شعوب، اختلطت بشعر بحير بن عبد الله بن عامر القشيري. ومراجع الأبيات جميعًا هي: سيرة ابن هشام ٣: ٣٠ وتاريخ ابن كثير ٣: ٣٤١، والوحشيات لأبي تمام: ٤٢٥، والاشتقاق: ٦٣، ونسب قريش: ٣٠١، ومن نسب لأمه (نوادر) : ٨٢، وكنى الشعراء (نوادر) : ٢٨٢، والبخاري ٥: ٦٥، وفتح الباري ٧: ٢٠١، والإصابة (ترجمة أبي بكر بن شعوب)، وغيرها.
والبيت الأول والرابع والخامس، من أبيات رواها ابن هشام، والبخاري لأبي بكر بن شعوب، من الشعر الذي ذكر فيه قتلى بدر، والذي يقول في آخره:وكان أبو بكر قد أسلم فيما يقال. أما البيتان الثاني والثالث فهما من أبيات قالها بحير بن عبد الله القشيري، يرثي هشام بن المغيرة، وكان شريفًا مذكورًا، وكانت قريش تؤرخ بموته، ولما مات نادى مناد بمكة: "اشهدوا جنازة ربكم"! فقال بحير يرثيه أبياتًا أولها:
يُحَدِّثُنَا الرّسُولُ بأَنْ سَنَحْيَا وَكَيفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ!
ذَرِيني أَصْطَبحْ يَا بَكْرُ، إِنِّي رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ
وقد رواها لبحير بن عبد الله، الآمدي في المؤتلف والمختلف، وأبو تمام في الوحشيات، وابن دريد في الاشتقاق، ولكن المصعب في نسب قريش روى هذا البيت والذي يليه لأبي بكر بن شعوب في رثاء هشام. والصواب فيما أرجح مع من خالف المصعب. فإن البيتين الثاني والثالث، ظاهر أنهما مقحمان هنا، وهما ليسا في رواية الثقات، وفيهما ذكر هشام ورثاؤه، وهشام مات قبل الإسلام وقبل يوم بدر بدهر طويل. وشهد بدرًا ولداه الحارث بن هشام، وأبو جهل بن هشام = فلا معنى لذكره في رثاء قتلى بدر. هذا خلط في الرواية، حتى لو صح أن البيتين لأبي بكر بن شعوب.
332
ذَرِيني أَصْطَبِحْ بَكْرًا، فَإنِّي... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ (١) وَوَدَّ بَنُو المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ... كَأَيٍّ بالطَّو... مِنْ الشِّيزَى يُكَلَّلُ بالسَّنَامِ (٢) كَأَيٍّ بالطَّوِىِّ طَوِيِّ بَدْرٍ... مِنَ الفِتْيَانِ والحُلَلِ الكِرَامِ (٣)
قال: فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزِعًا يجرُّ رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع رسول الله ﷺ شيئًا كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله! والله لا أطعمُها
(١) يروى: "يا بكر إني" و"يا هند إني".
(٢) في المطبوعة: "كأني"، والصواب"كأي" أي: كم. ويروى"وكم لك بالطوى" و"ماذا بالطوى". والطوى: البئر المطوية. والشيزى: خشب أسود تعمل منه القصاع والجفان. والسنام سنام البعير من ظهره. يقول: كم ألقي في هذه البئر من كريم مطعم. فجعل جفانه هي التي ألقيت في القليب، كأن لا أحد بعده يخلفه في كرمه وفعاله وإطعامه الضيف والفقير.
(٣) في المطبوعة"كأني" وانظر التعليق السالف. ويروى: "من القينات" جمع قينة، يقول ذهب اللهو فلا لهو بعدهم ولا منادمة، ويروى، "والشرب الكرام".
هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بعد النصر في بدر أن تطرح القتلى في القليب (البئر). في خبر مذكور في السير.
333
أبدًا! فأنزل الله تحريمها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا!! (١)
٤١٤٦ - حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحق الأزرق، عن زكريا، عن سماك، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربعُ آيات:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فتركوها، ثم نزلت: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل: ٦٧]، فشربوها ثم نزلت الآيتان في"المائدة": (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
٤١٤٧ - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال نزلت هذه الآية:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي ﷺ فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، ولم يفهمها. فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون، (٢) ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي
(١) الحديث: ٤١٤٥ -عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، ترجمناه في: ٢٠٣٩. "عوف" هو ابن أبي جميلة الأعرابي، مضى في ٢٩٠٥. زيد بن علي أبو القموص، بفتح القاف وضم الميم: تابعي ثقة قليل الحديث.
وروايته هذه مرسلة، لا تقوم بها حجة. وقد أشار إليها الحافظ في الإصابة ٧: ٢١، وأنه رواها الفاكهي في تاريخ مكة، عن يحيى بن جعفر، عن علي بن عاصم، عن عوف بن أبي جميلة، عن أبي القموص. وأشار إليها أيضًا في الفتح ٧: ٢٠١ وجزم بتضعيفها، لمعارضتها بما رواه الفاكهي نفسه، من وجه صحيح، عن عائشة، قالت: "والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية". ثم قال الحافظ: "وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها. وأبو القموص لم يدرك أبا بكر، فالعهدة على الواسطة. فلعله كان من الروافض". وهذا هو الحق.
(٢) صحا السكران يصحو فهو صاح، وأصحى فهو مصح: ذهب سكره وأفاق.
334
العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي ﷺ فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لَحْي البعير فكسر أنف سعد، (١) فأنزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
٤١٤٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة - وعن رجل، عن مجاهد - في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر"، قال: لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعضٌ، حتى نزل تحريمها في"سورة المائدة".
٤١٤٩ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبير"، قال: هذا أول ما عِيبت به الخمر. (٢)
٤١٥٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنزل الله في"سورة النساء" أشد منها: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم
(١) اللحى (بفتح اللام وسكون الحاء) حائط الفم، وهما العظم الذي فيه الأسنان من داخل الفم، وللبعير والإنسان وغيرهما: لحيان، أعلى وأسفل.
(٢) الأثر: ٤١٤٩ - مضى بنصه هذا برقم: ٤١٣٢.
335
حرامًا. ثم أنزل الله جل وعز في"سورة المائدة" بعد غزوة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم منها. (١)
٤١٥١ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر، قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)، فحرّمت الخمر عند ذلك.
٤١٥٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية كلها، قال: نسخت ثلاثةً، (٢) في"سورة المائدة"، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبي ﷺ يضربهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ، وقرأ: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. (٣)
(١) قوله: "عيش" مجاز حسن، لم تقيده كتب اللغة، ويعني به: المتاع واللذة. وأصل"العيش": المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. فنقل إلى المتاع، ومثله ما جاء في الأثر: "لا عيش إلا عيش الآخرة"، فأولى أن يفسر بالمتاع واللذة.
(٢) يقال: "نسخت ثلاثًا"، أي ثلاث مرات من النسخ، ويجوز"نسخت ثلاثة" كما هنا، أي ثلاثة نسوخ، لتذكير"النسخ".
(٣) يعني أن آية البقرة هذه، نسختها آية المائدة نسخًا واحدًا، ثم جعل الله حدها الضرب غير مسمى العدد، فكان نسخًا ثانيًا، ثم اجتهد رسول الله ﷺ رأيه في عدد الضرب وصورته، فكان اجتهاده نسخًا ثالثًا.
336
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا منها العفوَ.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى:" العفو" في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الفضل.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٥٣ - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع = ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: العفوُ ما فضل عن أهلك.
٤١٥٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قل العفو"، أي الفضْل.
٤١٥٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل.
٤١٥٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"العفو"، قال: الفضل.
٤١٥٧ - حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"العفو"، يقول: الفضل.
٤١٥٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان القوم يعملون في كل
337
يوم بما فيه، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن العيال قدَّموه، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على الناس.
٤١٥٩ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو الفضل، فضل المال.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو تصدّق به.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٦٠ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما لا يتبيَّن في أموالكم.
٤١٦١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: اليسير من كل شيء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٦٢ - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس.
٤١٦٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس.
338
٤١٦٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم يَقتروا في الحق = قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظَهْر غنى.
٤١٦٥ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو أن لا تجهد مالك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:" قل العفو"، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرًا.
* ذكر ذلك من قال ذلك:
٤١٦٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما طابَ من أموالكم.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٦٧ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: يقول: الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيبَه.
٤١٦٨ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك.
* * *
339
وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٦٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد - شك أبو عاصم = قول الله جل وعز:" قل العفو"، قال: الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى"العفو": الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ بالإذن في الصدقة، وصَدقته في وجوه البر: (١)
* ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله ﷺ بذلك:
٤١٧٠ - حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار! قال:"أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال:"أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر؛ قال: فأنتَ أبْصَرُ! (٢)
(١) في المطبوعة: "وصدقة في وجوه البر". والصواب ما أثبت، يعني أن التصدق بالعفو في وجوه البر، أما الزكاة المفروضة، فلها شأن آخر، كما سيأتي بعد.
(٢) الحديث: ٤١٧٠ -علي بن مسلم بن سعيد أبو الحسن الطوسي، نزيل بغداد: ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، وابن معين، وأبو داود، وغيرهم، مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد ١٢ ١٠٨- ١٠٩. أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. ابن عجلان: هو محمد: مضت ترجمته: ٣٠٤. المقبري: هو سعيد بن أبي سعيد.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٧٤١٣، بزيادة في أوله، عن يحيى -وهو القطان- عن ابن عجلان، به، نحوه. وقد بينا هناك تخريجه في أبي داود، والنسائي، والمستدرك للحاكم، وابن حبان.
وذكره السيوطي ١: ٢٥٣، ونسبه لهؤلاء والطبري، عدا المسند. ونقله ابن كثير ١: ٥٠٣ عن الطبري، ثم قال: "وقد رواه مسلم في صحيحه". وقد وهم رحمه الله. فإن الحديث ليس في صحيح مسلم، على اليقين. بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود.
340
٤١٧١ - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج، قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم". (١)
٤١٧٢ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله ﷺ رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبًا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال:"يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن ظهر غِنًى. (٢)
(١) الحديث: ٤١٧١ -رواه أحمد في المسند: ١٤٣٢٣ (٣: ٣٠٥ حلبي)، بنحوه، مع قضة في أوله - من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر.
ورواه مسلم ١: ٢٧٤، نحو رواية المسند - من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير. ثم من طريق أيوب، عن أبي الزبير.
وذكره ابن كثير ١: ٥٠٣، ونسبه لمسلم. وذكره السيوطي ١: ٢٥٤، ونسبه لمسلم والنسائي.
(٢) الحديث: ٤١٧٢ - عاصم بن عمر بن قتادة: مضى في: ١٥١٩. ووقع في المطبوعة"عاصم عن عمر بن قتادة". وهو خطأ واضح.
والحديث رواه أبو داود: ١٦٧٣، عن موسى بن إسمعيل، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك ١: ٤١٣، من طريق موسى بن إسمعيل، به وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي ١: ٢٥٣- ٢٥٤، وزاد نسبته لابن سعد، وهو في طبقات ابن سعد ٤/٢/١٩، من وجه آخر، من رواية"عمر بن الحكم بن ثوبان"، عن جابر.
حذفه بالشيء رماه به. تكفف الناس: تعرض لمعروفهم باسطا يده، ليتلقى منهم ما يتصدقون به عليه. وقوله: "عن ظهر غني" أي عن غنى يستقيم به أمره ويقوى.
341
٤١٧٣ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرّمي قال: سمعت أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي ﷺ أنه قال: ارضَخْ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تُلام على كَفاف". (١)
* * *
= وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب.
فإذا كان الذي أذن ﷺ لأمته، الصدقةَ من أموالهم بالفضل
(١) الحديث: ٤١٧٣ - إبرهيم المخرمي: هكذا ثبت في المطبوعة، ولا يوجد راو -فيما أعلم- بهذا الاسم. والراجح عندي، بل الذي أكاد أوقن به، أنه محرف عن"إبراهيم الهجري"، فالحديث حديثه. والرسم مقارب. والهجري: هو إبرهيم بن مسلم العبدي الكوفي، وهو ضعيف. ضعفه ابن عيينة، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
وهذا الحديث جزء من حديث، ذكره السيوطي ١: ٢٥٤، قال: "أخرج أبو يعلى، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت، فإن أعطيت خيرًا فلير عليك، وابدأ بمن تعول، وارضخ من الفضل، ولا تلام على الكفاف".
وكذلك ذكره المنذري في الترغيب والترهيب ٢: ١٠، وقال: "رواه أبو يعلى، والغالب على روايته التوثيق. ورواه الحاكم، وصحح إسناده".
وهكذا حكى السيوطي والمنذري تصحيح الحاكم إياه. ولنا على ذلك تعقيب: أنه ليس في المستدرك تصحيحه -كما سيأتي. فإن لم يكن السيوطي نقل عن المنذري وقلده، يكن في نسخة المستدرك المطبوعة سقط التصحيح الذي حكياه.
وأول الحديث إلى قوله"ويد السائل السفلى" -رواه أحمد في المسند: ٤٢٦١، عن القاسم بن مالك، عن الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- مرفوعًا. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ٩٧ أوله عن المسند وأبي يعلى، وزيادة آخره عن أبي يعلى. وقال: "ورجاله موثقون".
ورواية الحاكم إياه - هي في المستدرك ١: ٤٠٨، بثلاثة أسانيد، لم يذكر لفظه فيها كاملا. بل ذكر في أولها أنه سقط عليه تمام الحديث، ثم ذكر في الآخرين بعض الحديث، ولم يذكره كله. ولم يذكر فيه تصحيحًا ولا تضعيفًا، ولا قال الذهبي شيئًا في ذلك في مختصره.
رضخ له من ماله يرضخ رضخًا، ورضخ له رضيخة: أعطاه القليل اليسير. والكفاف: هو الذي يكف المرء عن سؤال الناس: يقول: إذا لم يكن عندك فضل مال تبذله، لم تلم على أن لا تعطي أحدًا.
342
عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو"العفو" من مال الرجل، (١) إذْ كان"العفو"، في كلام العرب، في المال وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه:" حتى عَفَوْا" بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، (٢) ومنه قول الشاعر: (٣)
وَلكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ منا بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (٤)
يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل:"خذ ما عفا لك من فلان"، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده = (٥) كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله:" قل العفو" لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بيّن لأمته رسولُ الله ﷺ بقوله:"خير الصدقة ما أنفقت عن غنى"، وأذِنهم به.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك"العفو" هو الصدقة المفروضة؟ (٦)
(١) في المطبوعة: "الفضل من ذلك... " بحذف الفاء، والفاء لا بد منها ليستقيم الكلام.
(٢) انظر ما قاله في معنى"عفا" فيما سلف: ٣: ٣٧٠.
(٣) هو لبيد بن ربيعة.
(٤) ديوانه قصيدة ٢: ١٩، ثم يأتي في التفسير ٩: ٦ (بولاق)، وفي المطبوعة هنا"يعض السيف منا" وهو خطأ، والصواب ما في الموضع الآخر والديوان. وهذا البيت من أبيات يفخر فيها بإكرامهم الضيف، ولا سيما في الشتاء، يقول إذا جاء الشتاء ببرده وقحطه:
فَلاَ نَتَجَاوَزُ العَطِلاتِ مِنْها إلى البَكْرِ المُقَارِبِ والكَزُوم
ولكنّا نُعِضّ السَّيْف... ...................
والضمير في"منها" للإبل. يقول: لا نتجاوز عند الذبح فندع النوق الطوال الأعناق السمينات، إلى بكر دنيء أو بكر هرم، ولكننا نعض السيف، أي نضرب بالسيف حتى يعض في اللحم -بعراقيب السمينات العظام الأسنمة، وهي الكوم، جمع كوماء.
(٥) قوله: "كان بينا... " جواب قوله: "فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم... " كان بينا... "، وأذن هنا بمعنى: أعلم وأخبر.
(٦) "الصدقة المفروضة" يعني: الزكاة المفروضة.
343
قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. (١) وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم"عفوا"، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم"جهد" في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى"العفو" هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه:"ما لم يتبيّن في أموالكم"، (٢) لأن النبي ﷺ لما قال له أبو لبابة:"إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يكفيك من ذلك الثلث! "، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي ﷺ قال له نحوًا من ذلك. (٣) والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [سورة الفرقان: ٦٧]، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [سورة الإسراء: ٢٩]، وذلك هو ما حدَّه ﷺ فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٧٤ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.
٤١٧٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [سورة الأعراف: ١٩٩]، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً.
٤١٧٦ - حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، هذه نسختها الزكاة.
* * *
وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٧٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس = عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله:" قل العفو" ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه
(١) في المطبوعة: "الواجب كان لهم ما له إليهم"، وزيادة"في" واجبة لتمام المعنى واستقامته يعني:... أداء الواجب في ماله إليهم، وقوله: "كان لهم" صفة لقوله"الواجب".
(٢) انظر هذا القول فيما سلف قريبًا ص: ٣٣٨.
(٣) حديث توبة أبي لبابة بن المنذر، وانخلاعه من ماله في المسند ٣: ٤٥٢، ٥٠٢ قال، لما تاب الله عليه في أمر غزوة بني قريظة (انظر سيرة ابن هشام ٣: ٢٤٧، ٢٤٨) يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي، وأن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك الثلث.
وأما خبر كعب بن مالك، فهو خبر الثلاثة الذين خلفوا (رواه البخاري في غزوة بني قريظة ٦: ٧)، فلما تاب الله عليه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى رسوله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
344
محمدًا ﷺ عما فيه له رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما أدَّبهم به نبيه ﷺ بقوله:"إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده"، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو"القَوام" بين الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه = إن شاء الله تعالى.
* * *
ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع الجميعُ لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً وهِبهً ووصيةً، الثلثَ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟
فإن زعم أنه يعني بقوله:"إنه منسوخ"، أنّ إخراج العفو من المال غير لازم فرضًا، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال =
= قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه فرضُ الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم يكن أمرٌ من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟
ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى.
* * *
قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة"العفو". فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين:" قل العفو" نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين:"قل العفو" رفعًا.
فمن قرأه نصبًا جعل"ماذا" حرفًا واحدًا، ونصبه بقوله:" ينفقون"، على ما قد بيَّنت قبل
346
- (١) ثم نصب"العفو" على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟
ومن قرأ رفعًا جعل"ما" من صلة"ذا"، ورفعوا"العفو". فيكون معنى الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو.
ولو نصب"العفو"، ثم جعل"ماذا" حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: ينفقون العفو = ورفع الذين جعلوا"ماذا" حرفًا واحدًا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرًا = (٢) كان صوابًا صحيحًا في العربية.
وبأي القراءتين قرئ ذلك، فهو عندي صواب، (٣) لتقارب معنييهما، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين إليّ، وإن كان الأمر كذلك، قراءةُ من قرأه بالنصب، لأن من قرأ به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهرُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:" كذلك يُبين الله لكم الآيات"، هكذا يبين = أي: ما بينت لكم أعلامي وحُججي - وهي"آياته" - في هذه السورة، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبَّهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حُجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء: ٢٩٢، ٢٩٣.
(٢) يعني: ورفعوه على أنه خبر"الذي ينفقون".
(٣) في المطبوعة: "قرئ ذلك عندي صواب" والصواب زيادة"فهو"، أو يقول: "كان عندي صوابا"..
347
الهدى = فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيِّي محمد ﷺ آياتي وحُججي وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز بنعيم الأبد، (١) على القليل من اللذات واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده إليّ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٧٨ - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
٤١٧٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.
٤١٨٠ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قوله:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما = قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا.
٤١٨١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
(١) في المطبوعة: "فتجاوزوا طاعتي... " وهو خطأ، والصواب ما أثبت. يقال: "اخترت فلانًا على فلان"، بمعنى آثرته عليه. وعدي"الاختيار" بقوله"على" لتضمنها معنى: "فضلت".
348
قوله: " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة.
* * *
349
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾
اختلف أهل التأويل فيمَ نزلت هذه الآية. (١)
فقال بعضهم: نزلت [في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نزلت (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الأنعام: ١٥٢]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [سورة النساء: ١٠].
* ذكر من قال ذلك] :(٢)
٤١٨٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الأنعام: ١٥٢، والإسراء: ٣٤] عزلوا أموال اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح، ولو شاء الله لأعنتكم"، فخالطوهم. (٣)
(١) في المطبوعة: "فيما نزلت"، والأجود ما أثبت.
(٢) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق الكلام، واستجزت أن أزيدها بين الأقواس في متن الكتاب، حتى لا تنقطع على القارئ قراءته، وكان مكانها في المطبوعات والمخطوطات بياض.
(٣) الأثر: ٤١٨٢ - أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٧٨ مطولا، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وكان في المطبوعة. "فإخوانكم ولو شاء لأعنتكم"، فأتممت الآية على تنزيلها.
349
٤١٨٣ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: ١٠]، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:" ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم"، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. (١)
٤١٨٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، قال: كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء، فيتركونه حتى يَفسد، فأنزل الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم". (٢)
٤١٨٥- حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم قال: سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، اجتُنبت مخالطتهم، واتقوا كل شيء، حتى اتقوا الماء، فلما نزلت" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: فخالطوهم.
٤١٨٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ويسألونك عن اليتامى" الآية كلها، قال: كان الله أنزل قبل ذلك في
(١) الأثر: ٤١٨٣ - أخرجه أبو داود ٣: ١٥٥ رقم: ٢٨٧١، والنسائي ٦: ٢٥٦.
(٢) الأثر: ٤١٨٤ - قوله"عن سعيد قال" يعني قال ابن عباس، كما هو ظاهر الخبر.
350
"سورة بني إسرائيل" (١) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال:" وإن تخالطوهم فإخوانكم".
٤١٨٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:" ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم".
٤١٨٨ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم" الآية، قال: فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنزل في"بني إسرائيل": (٢) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم"، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
٤١٨٩ - حدثني عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" إنّ الذينَ يأكلون أموالَ اليتامى ظُلما إنما يأكلون في بطونهم" الآية، قال: كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنزل
(١) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء".
(٢) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء".
351
الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح"، فأحل خُلطتهم. (١)
٤١٩٠ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية:" إنّ الذين يأكلونَ أموالَ اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسَيصْلونَ سعيرًا"، قال: فاجتنب الناس الأيتامَ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فاشتد ذلك على الناس، فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح". قال الشعبي: فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل.
٤١٩١ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير"، وذلك أن الله لما أنزل:" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصْلون سعيرًا"، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم".
٤١٩٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: لما نزلت"سورة النساء"، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي ﷺ فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم" = قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، (٢) فشقّ ذلك عليهم، فنزلت:" وإن تخالطوهم
(١) الأثر: ٤١٨٩- أخرجه النسائي ٦: ٢٥٦- ٢٥٧. وفي المطبوعة: "فأحل لهم خلطم والهصوا من النسائي.
(٢) الأدم (بضم فسكون) والإدام: ما يؤتدم به، أي ما يؤكل بالخبر أي شيء كان، وفي الحديث: "نعم الإدام الخل".
352
فإخوانكم"، قال: مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم = قال ابن جريج، وقال ابن عباس: الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة = قال ابن جريج: وفي المساكن، قال: والمساكن يومئذ عزيزةٌ.
٤١٩٣ - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت:" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" و" إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا"، قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير" (١)
٤١٩٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس بن سعد، شك أبو عاصم - عن مجاهد:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه.
* ذكر من قال ذلك:
٤١٩٥ - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح"، قال: كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا،
(١) الأثر: ٤١٩٣- أخرجه النسائي ٦: ٢٥٦.
(٢) الرعي (بكسر الراء وسكون العين) : الكلأ نفسه، كالمرعى.
353
فجاءوا إلى النبي ﷺ فسألوه عنه، فقال:" قل إصلاح لهم خيرٌ"، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ" والله يعلم المفسدن من المصلح".
٤١٩٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ" إلى" إن الله عزيز حكيم"، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية، مخافة الوِزر، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى، فقال الله:" قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم" إلى آخر الآية.
٤١٩٧ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" ويسألونك عن الناس"، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى، فسألوا نبي الله ﷺ عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم، فأنزل الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، يعني"بالمخالطة": ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشربَ اللبن.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم، (١) وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ
(١) يقال: "رزأه في ماله رزءًا (بضم فسكون) ومرزئة (بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي) : أصاب منه خيرًا ما كان، فنقص من ماله.
354
لكم أجرًا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب = وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم ="وإنْ تخالطوهم" فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويكنُفُ بعضهم بعضًا، (١) فذو المال يعينُ ذا الفاقة، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك، إن خالطتموهم بأموالكم = فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه = فذلك لكم حلالٌ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض، كما:-
٤١٩٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: قد يخالط الرجل أخاه.
٤١٩٩ - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مسكين، عن إبراهيم قال: إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة. (٢)
٤٢٠٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. (٣)
* * *
(١) كنفه يكنفه: حاطه وصانه وكان إلى جنبه وعاونه، والمكانفة: المعاونة. وأصلها من"الكنف"، وهو حضن الرجل. ويقال: "هو في كنف الله"، أي في كلاءته وحفظه وحرزه ورعايته.
(٢) العرة: القذر وعذرة الناس، يريد: أن يتجنبه تجنب القذر.
(٣) الأثر: ٤٢٠٠- في تفسير ابن كثير ١: ٥٠٥، والدر المنثور ١: ٢٥٦، ولم أجده في مكان آخر. و"العرة"، سلف شرحها. وفي تفسير ابن كثير"عندي حدة"، ولعل صوابها ما في التفسير.
355
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال:" فإخوانُكم"، فرفع"الإخوان"؟ وقال في موضع آخر: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) [سورة البقرة: ٢٣٩]
قيل: لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و"الإخوان" مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره، وهو"هم" لدلالة الكلام عليه = وأنه لم يرد"بالإخوان" الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد، لكانت القراءة نصبًا، وكان معناه حينئذ: وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت: من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم، خالطوهم أو لم يخالطوهم.
وأما قوله: (فرجالا أو رُكبانًا)، فنصبٌ، لأنهما حالان للفعل، غير دائمين، (١) ولا يصلح معهما"هو". وذلك أنك لو أظهرت"هو" معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل:"إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب"، لبطل المعنى المرادُ بالكلام؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم، فصلوا رجالا أو ركبانًا. ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام، كما تقول في نحوه من الكلام:"إن لبست ثيابًا فالبياض" فتنصبه، لأنك تريد: إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت:"إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ" رفعًا، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ. لأنك تريد حينئذ: إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ. (٢)
(١) في المطبوعة"غير ذاتيين": ، وهو تصحيف فاحش لا معنى له، والصواب ما أثبت والحال غير الدائمة، هي الحال المشتقة المنتقلة، والدائم هو الجامد والثابت.
(٢) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا ١: ١٤١- ١٤٢.
356
فإن قال: فهل يجوز النصب في قوله:" فإخوانكم".
قيل: جائز في العربية. فأما في القراءة، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية، فإنما أجزناه، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما: وإن تخالطوهم، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب. (١)
* * *
(٢)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، (٣) فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه: إفسَاد ماله وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء، (٤) ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفسادَه. كما:-
(١) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا ١: ١٤١- ١٤٢.
(٢) من أول تفسير هذه الآية يبدأ الجزء الرابع من المخطوطة العتيقة التي اعتمدناها. وأولها:
﴿بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾
ربّ أَعِن برَحْمَتِك}
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "إن ربكم وإن أذن لكم... " وهو كلام مختل، وكأن الذي أثبت قريب من الصواب.
(٤) في المخطوطة"لا نها عليه منه شيء"، وفيها تصحيف لم أتبينه، والذي في المطبوعة جيد في سياق المعنى.
357
٤٢٠١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره:" والله يعلم المفسد من المصلح" قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله: أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق؟
٤٢٠٢ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي:" والله يعلم المفسد من المصلح"، قال الشعبي: فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم، رحمةً بكم ورأفةً.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" لأعنتكم". فقال بعضهم بما:-
٤٢٠٣ - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد - أو عيسى، عن قيس بن سعد - عن مجاهد = شك أبو عاصم = في قول الله تعالى ذكره:" ولو شاء الله لأعنتكم" لحرم عليكم المرعى والأدْم.
(١) الأثر: ٤٢٠٢- في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني أبو السائب، قال حدثنا أشعث... "، وهو إسناد ناقص، أسقط"قال حدثنا حفص بن غياث"، وقد مضى هذا الإسناد مرارًا، أقربه: ٤١٩٠، وهذا الأثر مختصره.
358
قال أبو جعفر: يعني بذلك مجاهد: رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم، والأكلَ من إدامه. لأنه كان يتأول في قوله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم. (١)
* * *
٤٢٠٤ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ولو شاء الله لأعنتكم"، يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء: ٦]
٤٢٠٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:" ولو شاء الله لأعنتكم"، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة.
٤٢٠٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع نحوه = إلا أنه قال: فلم تعملوا بحقّ.
٤٢٠٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولو شاء الله لأعنتكم"، لشدد عليكم.
٤٢٠٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال: لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ.
٤٢٠٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قوله:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال: ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا.
* * *
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك
(١) انظر الأثر السالف رقم: ٤١٩٤.
359
الشيء، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه: الشدة والمشقة.
ولذلك قيل:"عَنِت فلانٌ" = إذا شق عليه الأمر، وجهده، = (١) "فهو يعنَتُ عَنَتًا"، كما قال تعالى ذكره: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [سورة التوبة: ١٢٨]، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [سورة النساء: ٢٥]. فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك، قيل:"أعنته فلانٌ في كذا" = إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به ="يُعْنِته إعناتًا". فكذلك قوله:" لأعنتكم" معناه: لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم، مما لا تطيقون القيام باجتنابه، وأداء الواجب له عليكم فيه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢١٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قرأ علينا:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.
٤٢١١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل - وجرير، عن منصور = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور = عن الحكم،
(١) في المطبوعة: "عنت فلانًا" وهو خطأ، والفعل لازم، كما سيأتي. وفي المخطوطة والمطبوعة: "إذا شق عليه وجهده"، والصواب زيادة"الأمر".
360
عن مقسم، عن ابن عباس:" ولو شاء الله لأعنتكم" قال: لجعل ما أصبتم مُوبقًا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله"عزيز" في سلطانه، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله، (٢) ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك = وهو"حكيم" في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، (٣) لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً.
* * *
(١) الأثر: ٤٢١١- قد سلف بالإسناد الثاني برقم: ٤٢٠٩.
(٢) في المطبوعة: "لو فعله هو لكنه"، والصواب الجيد من المخطوطة.
(٣) في المخطوطة: "ولا وهاء ولا عيب". وقد سلف في هذا الجزء ٤: ١٨، ١٥٥، والتعليق رقم: ١، وما قيل في خطأ ذلك، واستعمال الفقهاء له.
361
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نزلت مرادًا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ (١) وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟
فقال بعضهم: نزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت، (٢) أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) إلى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة المائدة: ٤-٥]
* ذكر من قال ذلك:
٤٢١٢ - حدثني علي بن واقد قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) حِلٌّ لكم (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). (٣)
٤٢١٣ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين
(١) في المطبوعة: "أم مرادًا بحكمها"، بالنصب، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "عابدة وثن أو كانت يهودية... "، وفي المخطوطة: "عابدة وثن كانت يهودية... "، وكلاهما مضطرب، والصواب ما أثبت بزيادة"كانت".
(٣) الأثر: ٤٢١٢- في المخطوطة والمطبوعة"حدثني علي بن واقد، قال حدثني عبد الله ابن صالح"، والصواب ما أثبت. وهذا إسناد كثير الدوران فيما مضى وفيما سيأتي، وأقربه رقم: ٤٢٠٤. والآية في المطبوعة والمخطوطة كما أثبتها، بين جزئي الآية بقوله: "حل لكم"، وإسقاط قوله تعالى"من قبلكم"، وأخشى أن يكون ناسخ قد تصحف عليه فجعل هذه هذه. ولكني أثبت ما اتفقت عليه النسخ.
362
بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين.
٤٢١٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، قال: نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.
٤٢١٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
٤٢١٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ولا تنكحوا المشركات" إلى قوله:" لعلهم يتذكرون"، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنزل في"سورة المائدة"، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٤٢١٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، يعني: مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. (٢)
٤٢١٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(١) في المخطوطة، والمطبوعة: "بل هي آية عامة ظاهرها... "، والصواب ما أثبت.
(٢) في المخطوطة، "يقرأ به" وتلك أجود.
363
معمر، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: المشركات، مَنْ ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية. (١)
٤٢١٩ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه.
٤٢٢٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: مشركات أهل الأوثان.
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً، ولا نُسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٢١ - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله ﷺ عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله تعالى ذكره: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [سورة المائدة: ٥]، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين،
(١) يعني: حذيفة بن اليمان، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب سره ﷺ في المنافقين. لم يعلمهم أحد إلا حذفة، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر الأثر الآتي برقم: ٤٢٢١.
364
ولا تغضب! فقال: لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة: من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ" من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات = وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء = وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) - للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا (كتاب اللطيف من البيان) :(٢) أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود، أن قوله: (٣) (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ". فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك، (٤) فقول القائل:"هذه ناسخة هذه"، دعوى لا برهان له عليها، والمدعي دعوَى
(١) الأثر: ٤٢٢١-"عبد الحميد بن برهام الفزاري"، مترجم في التهذيب، وثقه أبو داود وابن معين وغيرهما، وقال شعبة: صدوق إلا أنه يروي عن شهر بن حوشب، وعابوا عليه كثرة روايته عن شهر، وشهر ضعيف. وقد سلف كلام أخي في توثيق شهر رقم: ١٣٨٩، وفي عبد الله بن بهرام: ١٦٠٥. وقال ابن كثير في التفسير ١: ٥٠٧ بعد روايته الخبر: "هو حديث غريب جدًا، وهذا الأثر غريب عن عمر". وكلام الطبري الآتي بعد قاض بضعفه.
والصغرة جمع صاغر: هو الراضي بالذل. وقماء جمع قميء: وهو الذليل الصاغر وإن لم يكن قصيرًا. والقميء: القصير. وفي المخطوطة وابن كثير"قمأة"، وليس جمعًا قياسيا، ولا هو وارد في كتب اللغة، ولكن إن صح الخبر، فهو إتباع لقوله: "صغرة" ومثله كثير في كلامهم.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٥٣٤- ٥٣٥/ ثم ٣: ٣٨٥، ٥٦٣.
(٣) في المطبوعة: "بأن قوله": وأثبت ما في المخطوطة، وهو أعرق في العربية.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن لم يكن ذلك"، وهو خطأ صرف، والصواب ما أثبت. وإلا تناقض كلام أبي جعفر.
365
لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ. (١)
* * *
وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك، بإسناد هو أصح منه، وهو ما:-
٤٢٢٢ - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال، قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. (٢)
* * *
وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما. كما:
٤٢٢٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر:" خلِّ سبيلها"، فكتب إليه:" أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ "، فقال:" لا أزعم
(١) حجج أبي جعفر في استدلاله، قاضية له على كل خصم خالفه، وهي حجج بصير بالمعاني، مؤيد بالعقل، قادر على البيان عن المعاني الخفية، والفصل بين المعاني المتداخلة.
(٢) الحديث: ٤٢٢٢- هذا إسناد صحيح متصل إلى عمر.
محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي الحافظ: ثقة باتفاقهم. سفيان بن سعيد: هو الثوري. زيد بن وهب الجهني. تابعي كبير مخضرم، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض وهو في الطريق. وهو ثقة كثير الحديث. له ترجمة في تاريخ بغداد ٨: ٤٤٠- ٤٤٢، والإصابة ٣: ٤٦- ٤٧.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ١٧٢، من طريق سفيان -وهو الثوري- بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير ١: ٥٠٧- ٥٠٨، عن رواية الطبري، وصحح إسناده.
366
أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". (١)
وقد:-
٤٢٢٤ - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا. (٢)
* * *
فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به، لإجماع الجميع على صحة القول به، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ، غير أهل الكتاب، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنزل عليه.
* * *
(١) الخبر: ٤٢٢٣- الصلت بن بهرام التيمي الكوفي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقد فصلنا القول في شأنه في صحيح ابن حبان، رقم: ٨١ بتحقيقنا.
شقيق: هو ابن سلمة الأسدي، التابعي الكبير المشهور. مضى في: ١٧٧.
والخبر رواه البيهقي أيضًا ٧: ١٧٢، من طريق سفيان، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير ١: ٥٠٧، عن رواية الطبري، وقال: "وهذا إسناد صحيح. وروى الخلال، عن محمد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصلت، نحوه". وذكره السيوطي ١: ٢٥٦، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.
وذكره الجصاص في أحكام القرآن ١: ٣٣٣، والقرطبي في تفسيره: ٣: ٦٨، بدون إسناد. ووقع في المطبوعة هنا، وفي ابن كثير، والسيوطي"المؤمنات"!! بدل"المومسات". وهو تحريف غريب، في ثلاثة كتب. وصوابه وتصححه من البيهقي والجصاص والقرطبي.
(٢) الحديث: ٤٢٢٤- إسحق الأزرق: هو إسحق بن يوسف، مضى في: ٣٣٢. شريك: هو ابن عبد الله النخعي القاضي، مضى في: ٢٥٢٧. الحسن: هو البصري.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من دواوين الحديث، غير هذا الموضع. ونقله عنه ابن كثير ١: ٥٠٨ ثم نقل كلام الطبري الذي عقبه، ثم قال: "كذا قال ابن جرير رحمه الله".
وتعقيب ابن جرير بأنه"وإن كان في إسناده ما فيه" - لعله يشير رحمه الله إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر. ففي المراسيل لابن أبي حاتم، ص: ١٣"حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال: قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئًا. سئل أبو زرعة: الحسن لقي جابر بن عبد الله؟ قال: لا. حدثنا محمد بن سعيد بن بلج، قال: سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول سمعت جريرًا يسأل بهزًا عن الحسن: من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يسمع من جابر بن عبد الله. سألت أبي: سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول: عن الحسن، حدثنا جابر بن عبد الله، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرًا".
وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر. فقد قال ابن عيينة: "كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن".
ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر، موقوفا عليه من كلامه. رواه الشافعي في الأم ج ٥ ص ٦، من رواية أبي الزبير، عن جابر، وكذلك رواه البيهقي ٧: ١٧٢، من طريق الشافعي.
والموقوف -عندنا- لا يعلل به المرفوع، بل هو يؤيده ويثبته، كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا. والحمد لله.
367
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولأمة مؤمنة" بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة، فعُذل في ذلك، وعُرضت عليه حرة مشركة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٢٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم"، قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداءُ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي ﷺ فأخبره بخبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال:
368
هذه مؤمنة! فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم:" ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة" و" عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك".
٤٢٢٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج قال، قال ابن جريج في قوله:" ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ"، قال: المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال، فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها.
* * *
وإنما وضعت"لو" موضع"إن" لتقارب مخرجيهما، ومعنييهما، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها، على ما قد بينا فيما مضى قبْل. (١)
* * *
(١) انظر ما سلف ٢: ٤٥٨ ومعاني القرآن للفراء ١: ١٤٣.
369
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، ولو شرُف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
* * *
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القولُ من الله تعالى ذكره، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
٤٢٢٧ - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال، أخبرنا حفص بن غياث، عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله، ثم قرأ:" ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" برفع التاء.
٤٢٢٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري في قوله:" ولا تنكحوا المشركين"، قال: لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.
٤٢٢٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج:" ولا تنكحوا المشركين" - لشرفهم -" حتى يؤمنوا".
٤٢٣٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري:" ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا"، قال: حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين.
* * *
370
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" أولئك"، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم، يدعونكم إلى النار = يعني: يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة = يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم، فيعفو عنها ويسترها عليكم.
* * *
وأما قوله:" بإذنه"، (١) فإنه يعني: أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.
* * *
ثم قال تعالى ذكره:" ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون"، يقول: ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده، ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [غَبين] الرأي مدخول العقل.
* * *
(١) انظر معنى"الإذن" فيما سلف ٢: ٤٤٩/ ثم هذا الجزء ٤: ٢٨٦
371
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ويسألونك عن المحيض"، ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض.
* * *
وقيل:"المحيض"، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل، وكسرها في الاستقبال، مثل قول القائل:" ضرَب يضرِب، وحبَس يحبِس، ونزل ينزل"، فإن العرب تبني مصدره على"المفعَل" والاسم على"المفعِل"، مثل"المضرَب، والمضرِب" من"ضربتُ"،"ونزلت منزلا ومنزلا". ومسموع في ذوات الياء والألف والياء،"المعيش والمعاش" و"المعيبُ والمعاب"، كما قال رؤبة في المعيش:
إلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعيشِ وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي (١)
* * *
وإنما كان القوم سألوا رسول الله ﷺ - فيما ذُكر لنا - عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضًا في بيت، ولا يؤاكلونهنَّ في إناء ولا يشاربونهن. فعرَّفهم الله بهذه الآية، أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم: أن يجتنَّبوا جماعهن فقط، دون ما عدا ذلك من
(١) ديوانه: ٧٨، من قصيدة يمدح فيها الحارث بن سليم الهجيمي، وبين البيتين في الديوان: * دَهْرًا تَنَفَّى المُخَّ بِالتَّمْشِيشِ *
ورواية الديوان، بعده:
372
مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن، كما:-
٤٢٣١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ:" حتى يطهرن" فكان أهلُ الجاهلية لا تساكنهم حائضٌ في بيت، ولا تؤاكلهم في إناءٍ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرَّم فرْجها ما دامت حائضًا، وأحل ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزارٌ محتجزةً به دونك. (١)
٤٢٣٢ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهنّ في أدبارهن، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم - إذا تطهَّرن من حيضهن - في إتيانهن من حيث أمرَهم باعتزالهنَّ، وحرم إتيانهن في أدبارهنَّ بكل حال.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٣٣ - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد قال، كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي ﷺ عن ذلك، فأنزل الله:" ويسألونك عن المحيض" إلى:" فإذا تطهرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله" - في الفرج لا تعدوه. (٢)
* * *
(١) احتجز بالإزار: إذا شده على وسطه. والحجزة (بضم الحاء وسكون الجيم) : موضع شد الإزار، ثم يسمى الإزار نفسه حجزة، وجمعه حجز.
(٢) في المطبوعة: "ولا تعدوه"، والصواب في المخطوطة بحذف الواو.
373
وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله ﷺ عن ذلك كان ثابتَ بن الدَّحداح الأنصاري.
٤٢٣٤ - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض:"هو أذى".
* * *
"والأذى" هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى"أذى" لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى، غير واحدة.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض.
فقال بعضهم: قوله:" قل هو أذى"، قل هو قَذَر.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٣٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" قل هو أذى"، قال: أما"أذى" فقذرٌ.
٤٢٣٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" قل هو أذى"، قال:"قل هو أذى"، قال: قذرٌ.
* * *
374
وقال آخرون: قل هو دمٌ.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٣٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ويسألونك عن المحيض قل هو أذى"، قال: الأذى الدم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فاعتزلوا النساء في المحيض"، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهنّ، كما:-
٤٢٣٨ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فاعتزلوا النساء في المحيض"، يقول: اعتزلوا نكاحَ فُروجهنّ.
* * *
واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض.
فقال بعضهم: الواجبُ على الرجل، اعتزالُ جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٣٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يحلُّ لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى. (١)
(١) الأثر: ٤٢٣٩- في المطبوعة والمخطوطة: "اللحاف واحد والفراش شتى". وهو باطل المعنى، وسيأتي على الصواب من طريق آخر برقم: ٤٢٤١.
375
٤٢٤٠ - حدثني تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا محمد، عن الزهري، عن عروة، عن ندبة مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث - أو: حفصة ابنة عمر - إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابةٌ من قبل النساء، فوجدت فراشَها معتزلا فراشَه، فظنت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشِه فراشَها، فقالت: إنيّ طامث، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونة - أو حفصة - فردَّتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لقد كان النبي ﷺ ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوبٌ ما يجاوز الركبتين. (١)
٤٢٤١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى، فإن لم يجد إلا أن يردَّ عليها من ثوبه، ردَّ عليها منه.
* * *
(١) الحديث: ٤٢٤٠- يزيد: هو ابن هرون. محمد: هو ابن إسحاق. ندبد مولاة آل عباس: هي مولاة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، خالة ابن عباس. فلعلها نسبت هنا"مولاة آل عباس" للقرابة بين ابن عباس وميمونة. وهي ثقة، ذكرها ابن حبان في الثقات ص: ٣٥٩، ولكنه وهم إذ ذكر أنه يروي عنها الزهري؛ والزهري روى عنها بالواسطة. وترجمها ابن سعد ٨: ٣٦٤. وذكرها ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة.
واختلف في ضبط اسمها، فقيل بضم النون أو فتحها مع سكون الدال ثم فتح الباء الموحدة. وقيل بدية" بضم الباء الموحدة ثم فتح الدال ثم فتح الياء التحتية المشددة.
والحديث رواه أحمد في المسند ٦: ٣٣٢ (حلبي) عن يزيد بن هرون، بهذا الإسناد، نحوه، مع بعض اختصار. وهو في روايته عن ميمونة جزمًا، ليس فيه الشك بينها وبين حفصة. وهو الصواب ولعل الشك هنا من الطبري، أو من شيخه تميم بن المنتصر.
ثم إن ابن إسحاق خطأ هنا في جعل الحديث"عن الزهري، عن عروة". ولعل الخطأ من يزيد بن هرون. والصواب أنه"عن الزهري، عن حبيب مولى عروة، عن ندبة". وبذلك تضافرت الروايات في هذا الإسناد، كما سيأتي. ويؤيده أن ابن سعد ذكر في ترجمتها أنها تروي عن عروة، وروى بإسناده خبرًا عنها عن عروة بن الزبير.
و"حبيب مولى عروة": هو حبيب الأعور، مولى عروة بن الزبير. وهو تابعي ثقة، قال ابن سعد: "مات قديمًا في آخر سلطان بني أمية". وأخرج له مسلم في صحيحه.
والحديث رواه -على الصواب- البيهقي في السنن الكبرى ١: ٣١٣، من طريق بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الزهري، قال: "أخبرني حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس... "، فذكره مطولا.
ثم إن الحديث معروف من هذا الوجه على الصواب، مختصرًا بدون ذكر قصة ابن عباس.
فرواه أحمد في المسند ٦: ٣٣٢ (حلبي)، عن حجاج وأبي كامل، عن الليث، عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة، ولم يذكر لفظه، وأحاله على الرواية السابقة. ثم رواه بعد ذلك، ص: ٣٣٥- ٣٣٦، عن حجاج وأبي كامل، بالإسناد نفسه. وذكر لفظه مختصرًا عن ميمونة، دون القصة.
وكذلك رواه أبو داود: ٢٦٧، وابن حبان في صحيحه ٢: ٥٦٩ (مخطوطة الإحسان). والبيهقي ١: ٣١٣ - كلهم من طريق الليث بن سعد، به. وكذلك رواه النسائي ١: ٥٤- ٥٥، ٦٧، من طريق يونس والليث- كلاهما عن ابن شهاب، به مختصرًا.
فعن هذه الروايات كلها استيقنت أن رواية ابن إسحاق -هنا وعند أحمد-"عن الزهري، عن عروة" خطأ.
376
واعتل قائلو هذه المقالة: بأنّ الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهنّ، ولم يخصصن منهن شيئًا دون شيء، وذلك عامٌّ على جميع أجسادهنّ، واجبٌ اعتزالُ كل شيء من أبدانهن في حيضهنّ.
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن، موضع الأذى، وذلك موضعُ مخرج الدم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٤٢ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال، حدثنا مروان الأصفر، عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. (١)
(١) الحديث: ٤٢٤٢- مروان الأصفر، أبو خلف: تابعي ثقة: و"الأصفر": بالفاء، ووقع في المطبوعة بالغين. وهو تحريف.
مسروق بن الأجدع الهمداني: تابعي كبير ثقة، من سادات التابعين وفقهائهم.
وهذا الحديث نقله ابن كثير ١: ٥١٠ عن هذا الموضع. وكذلك نقله السيوطي ١: ٢٦٠، ولم ينسباه لغير الطبري.
وهو عندنا حديث مرفوع بالمعنى، وإن كان لفظه موقوفًا على عائشة. لأن الصحابي إذا حكى عما يحل ويحرم فالثقة به أن لا يحكي ذلك إلا عمن يؤخذ عنه الحلال والحرام، وهو معلم الخير، صلى الله عليه وسلم. وهذا عند الإطلاق، إلا أن تدل دلائل على أنه يقول ذلك اجتهادًا واستنباطًا من دلائل الكتاب والسنة. وانظر الأحاديث التالية لهذا.
377
٤٢٤٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سعيد بن زريع قال، حدثنا سعيد = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد = عن قتادة قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشَين وذو اللحافين؟! (١)
٤٢٤٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: فرجها. (٢)
٤٢٤٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أنّ مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة! مرحبًا! فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك، وأنت ابني! فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها. (٣)
٤٢٤٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت: له ما فوق الإزار. (٤)
(١) في المخطوطة: "وأينا كان... ".
(٢) الحديث: ٤٢٤٤- سالم ابن أبي الجعد: تابعي ثقة معروف، أخرج له الأئمة الستة. وهذا الحديث في معنى الحديث السابق: ٤٢٤٢، من وجه آخر، وبلفظ آخر. وإسناده صحيح.
(٣) الحديث: ٤٢٤٥- وهذا في معنى الحديثين السابقين، مع تفصيل في قصة السؤال والجواب. وإسناده صحيح أيضًا.
(٤) الحديث: ٤٢٤٦- ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، مضى في: ٢٣٣٨. حجاج: هو ابن أرطأة.
وهذا في معنى ما قبله.
378
٤٢٤٧ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار.
٤٢٤٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي معشر قال: سألتُ عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. (١)
٤٢٤٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال، قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكفُّ الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها. (٢)
٤٢٥٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزار.
٤٢٥١ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتق من الدم مثل موضع النعل. (٣)
(١) الحديث: ٤٢٤٨- هكذا وقع هذا الإسناد هنا. وهو إسناد ناقص على اليقين. فإن"أبا معشر": هو زياد بن كليب التميمي الحنظلي، وهو يروي عن التابعين. وهو ثقة، ولكنه لم يدرك عائشة، فلا يمكن أن يقول: "سألت عائشة".
وصواب الإسناد، كما في المحلى لابن حزم ٢: ١٨٣"روينا عن أيوب السختياني، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق، قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلا الفرج". فسقط من الإسناد رجلان: إبراهيم النخعي، ومسروق، وهو الذي سأل عائشة. وهكذا ذكره ابن حزم، فلم يذكر إسناده إلى أيوب.
وقد رواه الطحاوي في معاني الآثار ٢: ٢٢، بإسناده، من طريق عمرو بن خالد، عن عبيد الله -وهو ابن عمرو الرقى الجزري-"عن أيوب، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة". ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية أخرى قبله، بمعناه.
(٢) الخبر: ٤٢٤٩ -هذا إسناد منقطع- محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: تابعي ثقة معروف. ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٣٢/١٨٤.
(٣) الخبر: ٤٢٥١- الحكم بن فضيل، أبو محمد الواسطي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في الكبير ١/٢/٣٣٧، وابن أبي حاتم ١/٢/١٢٦- ١٢٧، والتعجيل، والميزان، ولسان الميزان. وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد ٨: ٢٢١- ٢٢٣. والبخاري لم يذكر فيه حرجًا.
والخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ١: ٣١٤، من طريق الحسن بن مكرم. عن أبي النضر هاشم بن القاسم، بهذا الإسناد.
379
٤٢٥٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة. (١)
٤٢٥٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج - يعني وهي حائض.
٤٢٥٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن قال: يبيتان في لحاف واحد - يعني الحائض - إذا كان على الفرج ثوب.
٤٢٥٥ - حدثنا تميم قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن ليث قال: تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة، ما لم يكن في الدبر أو الحيض. (٢)
٤٢٥٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال: يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفَّت الأذى.
٤٢٥٧ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني
(١) الحديث: ٤٢٥٢ - هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا على أم سلمة، فإن معناه ثابت عنها مرفوعًا أيضًا:
فروى البيهقي ١: ٣١١، من طريق يزيد بن زريع، "حدثنا خالد، عن عكرمة، عن أم سلمة: أنها كانت مع رسول الله ﷺ في لحاف، فأصابها الحيض، فقال لها: قومي فاتزري ثم عودي".
وثبت نحو معناه عن أم سلمة أيضًا، بأطول من هذا، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، مرفوعًا. رواه مسلم ١: ٩٥، والبيهقي ١: ٣١١، وذكر أنه أخرجه البخاري ومسلم.
(٢) في المطبوعة: "حيثما شئت"، وأثبت ما في المخطوطة.
380
عمران بن حدير قال، سمعت عكرمة يقول، كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة قائل هذه المقالة، قيامُ الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله ﷺ أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعهنّ، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله:" فاعتزلوا النساءَ في المحيض"، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قُبُلها، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها.
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهنّ في حال حيضهن، ما بين السرّة إلى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٥٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح قال: له ما فوق السرة - وذكر الحائض.
٤٢٥٩ - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن الحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار.
٤٢٦٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قال شريح: له ما فوق سُرَّتها.
٤٢٦١ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن واقد
381
بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: سئل سعيد بن المسيب: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما فوق الإزار.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة، صحةُ الخبر عن رسول الله ﷺ بما:-
٤٢٦٢ - حدثني به ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الشيباني = قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال، سمعت ميمونة تقول: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها فأتزرت".
٤٢٦٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة: أن النبي ﷺ كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار. (١)
٤٢٦٤ - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها.
٤٢٦٥ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرَها النبي ﷺ أن تأتزر، ثم يباشرها. (٢)
(١) الحديثان: ٤٢٦٢، ٤٢٦٣ - حفص: هو ابن غياث، الشيباني سليمان: هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان. وسفيان في الحديث الثاني: هو الثوري.
والحديثان في معنى واحد. وقد ذكره ابن كثير ١: ٥١١، بلفظ أولهما عن الصحيحين، وكذلك ذكره السيوطي ١: ٢٥٩، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. وأبي داود، والبيهقي. وانظر البخاري ١: ٦٤، ومسلم ١: ٩٥، والسنن الكبرى ١: ٣١١.
(٢) الحديثان: ٤٢٦٤، ٤٢٦٥- هما حديث واحد بإسنادين. وذكره السيوطي ١: ٢٥٩، عن ابن أبي شيبة، والصحيحين، وأبي داود، وابن ماجه، بزيادة في آخره. وانظر البخاري ١: ٦٣. ومسلم ١: ٩٥، وأبا داود: ١١٢، ١١٣، والنسائي ١: ٥٤، ٦٧، والبيهقي ١: ٣١٠- ٣١١.
382
ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب (١)
قالوا: فما فعل النبي ﷺ من ذلك فجائز، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرة، وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجبٌ اعتزالُه، لعموم الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتَزَر ودونه، لما ذكرنا من العلة لهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (٣) فقرأه بعضهم:" حتى يطهرن" بضم"الهاء" وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديد"الهاء" وفتحها.
وأما الذين قرءوه بتخفيف"الهاء" وضمها، فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهنّ حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطهُرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٦٦ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: انقطاع الدم.
(١) في المخطوطة: "جميع ذكرها"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) في المخطوطة إسقاط قوله: "لهم".
(٣) في المطبوعة: "اختلف القراء"، وقد مضى مثل ذلك مرارًا، وتركناه في بعض المواضع كما هو في المطبوعة. ولكنا سنقيمه منذ الآن على المخطوطة دون الإشارة إليه بعد هذا الموضع إلى آخر الكتاب، إن شاء الله.
383
٤٢٦٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، - أو عثمان بن الأسود -:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، حتى ينقطع الدم عنهن.
٤٢٦٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: حتى ينقطع الدم. (١)
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد"الهاء" وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء. وشددوا"الطاء" لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهَّرْنَ، أدغمت"التاء" في"الطاء" لتقارب مخرجيهما.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن - لإجماع الجميع على أن حرامًا على الرجل أن يقرَب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر.
* * *
وإنما اختُلف في"التطهر" الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحل له جماعها.
فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها. (٢)
وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة.
وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها، فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانُها.
* * *
(١) الأثر: ٤٢٦٨-"عبيد الله العتكي" هو عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي، رأى أنسًا، وروى عن عكرمة وسعيد بن جبير وغيرهما من التابعين.
(٢) في المطبوعة: "ولا يحل... " بزيادة الواو.
384
فإذا كان إجماعٌ من الجميع أنها لا تحلُّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطَّهر، كان بيِّنًا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للَّبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف"الهاء" وضمها، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن لزوج الحائض غشيانَها بعد انقطاع دم حيضها عنها، (١) وقبل اغتسالها وتطهُّرها.
* * *
فتأويل الآية إذًا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهنّ، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإذا تطهَّرن فأتوهن"، فإذا اغتسلن فتطهَّرن بالماء فجامعوهن.
* * *
فإن قال قائل: أففرض جماعهن حينئذ؟
قيل: لا.
فإن قال: فما معنى قوله إذًا:" فأتوهن"؟
قيل: ذلك إباحة ما كان منَع قبل ذلك من جماعهن، وإطلاقٌ لما كان حَظَر في حال الحيض، وذلك كقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [سورة المائدة: ٢]، وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) [سورة الجمعة: ١٠]، وما أشبه ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فإذا تطهرن".
فقال بعضهم: معنى ذلك، فإذا اغتسلن.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "أن للزوج غشيانها"، وأثبت ما في المخطوطة.
385
٤٢٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاومة بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فإذا تطهَّرن" يقول: فإذا طهُرت من الدم وتطهَّرت بالماء.
٤٢٧٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن. (١)
٤٢٧١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله:" فإذا تطهرن"، يقول: اغتسلن.
٤٢٧٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو عثمان بن الأسود:-" فإذا تطهرن"، إذا اغتسلن.
٤٢٧٣ - حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الحسن: في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجُها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة. (٢)
٤٢٧٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيره، عن إبراهيم: أنه كره أن يطأها حتى تغتسل - يعني المرأة إذا طهُرت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا تطهَّرن للصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٧٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا إذا طهُرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرَها
(١) الأثر: ٤٢٧٠- كان في المطبوعة: "محمد بن مهدي"، وهو خطأ، وزيادة فاسدة والصواب من المخطوطة. و"ابن مهدي" هو عبد الرحمن بن مهدي. الإمام العلم، قال الشافعي: لا أعرف له نظيرًا في الدنيا. مات سنة ١٩٨ - مترجم في التهذيب وغيره.
(٢) سقط من الترقيم: ٤٢٧٤
386
بالوضوء قبل أن تغتسل - إذا أدركه الشَّبَق فليُصب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: معنى قوله:" فإذا تطهَّرن"، فإذا اغتسلن، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرًا الطُّهرَ الذي يحل لها به الصلاة. وإن القولَ لا يخلو في ذلك من أحد أمرين:
= إما أن يكون معناه: فإذا تطهَّرن من النجاسة فأتوهن.
فإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائزٌ لزوجها جماعُها، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا، إن كان قوله:" فإذا تطهَّرن" جائزًا استعماله في التطهُّر من النجاسة، ولا أعلمه جائزًا إلا على استكراه الكلام.
= أو يكون معناه: فإذا تطهَّرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، (١) إذا لم يكن هنالك نجاسة، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته = أدلُّ الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهرَ الذي يجزيهن به الصلاة.
وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا: من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله:" فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن فصرن طواهرَ الطهرَ الذي يجزيهنّ به الصلاة.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "في إجماع الجميع" بإسقاط الواو، والسياق يوجبها، وهذا سياقها؛"وفي إجماع الجميع... أدل الدليل... "
387
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهَّرن من الوجه الذي نهيتُكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك: الفرجُ الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٧٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهُنَّ.
٤٢٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدَى.
٤٢٧٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا.
٤٢٨٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو: يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ قال: بلى! فقرأ:" ويسألونك
(١) "الإتيان": كناية عن اسم"الجماع" وسيأتي تفسير ذلك في ص: ٣٩٨
388
عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، منْ ثَمَّ أمِرت أن تأتي. (١)
٤٢٨١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن عثمان، عن مجاهد قال: دبُر المرأة مثله من الرجل، ثم قرأ:" ويسألونك عن المحيض" إلى" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. (٢)
٤٢٨٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: أمِروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه.
٤٢٨٣ - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، في الفرج، ولا تعْدوه.
٤٢٨٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: إذا تطهرن فأتوهن من حيث نُهي عنه في المحيض.
٤٢٨٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو: عثمان بن الأسود-:" فأتوهن من حيث أمركم الله" باعتزالهنّ منه.
٤٢٨٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، أي: من الوجه الذي يأتي منه المحيض، طاهرًا غيرَ حائض، ولا تعدوا ذلك إلى غيره.
(١) في المطبوعة: "ثم أمرت" بحذف"من"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ومما سيأتي رقم: ٤٣٢٥. بمعنى: هناك. وسيأتي الخبر بتمامه في رقم: ٤٣٢٥. وسنذكر فيه ترجمة رجاله.
(٢) الأثر: ٤٢٨١ - في المطبوعة: "عمرة عن مجاهد"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. و"ابن أبي زائدة"، هو يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة. و"عثمان"، هو عثمان بن الأسود مولى بني جمح، وقد سلفت روايته عن مجاهد، أقربها رقم: ٢٧٨٢.
389
٤٢٨٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: طواهرَ من غير جماع ومن غير حيض، من الوجه الذي يأتي [منه] المحيض، ولا يتعدَّه إلى غيره = قال سعيد: ولا أعلمه إلا عن ابن عباس. (١)
٤٢٨٨ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله"، من حيث نُهِيتم عنه في المحيض = وعن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله"، من حيث نُهيتهم عنه، واتقوا الأدبار.
٤٢٨٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: في الفرج.
* * *
وقال آخرون: معناها: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتوهنّ من قُبْل طُهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
٤٢٩٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
(١) قوله: "طواهر" جمع امرأة"طاهر"، وليس في كتب اللغة بل فيه"طاهرات" ولكنه جمع قياسي، مثل حامل وحوامل، وسيأتي في رقم: ٤٢٩٥، ٤٢٩٦، وسيأتي جمعها على"طهر" رقم ٤٢٩٨، ٤٣٠٠. وفي المطبوعة: "ولا يتعدى إلى غيره" والصواب من المخطوطة.
(٢) "قبل" (بضم فسكون)، يقال: "كان ذلك في قبل الشتاء وقبل الصيف"، أي في أوله وعند إقباله. وفي الحديث: "طلقوا النساء لقبل عدتهن" - ويروى: "في قبل طهرهن" أي في إقباله وأوله، وحين يمكنها الدخول في العدة، والشروع فيها، فتكون لها محسوبة. وذلك في حالة الطهر. وكذلك قوله هنا: "من قبل الطهر"، أي: في حال الطهر.
390
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يعني أن يأتيها طاهرًا غيرَ حائض.
٤٢٩١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قُبْل الطهر. (١)
٤٢٩٢ - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بمثله.
٤٢٩٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: ائتوهنّ من عند الطهر.
٤٢٩٤ - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا علي بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبي رزين:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قُبْل الطهر، ولا تأتوهن من قُبْل الحيضة. (٢)
٤٢٩٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حُيَّض. (٣)
٤٢٩٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال يقول: طواهر غيرَ حُيَّض. (٤)
٤٢٩٧ - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
(١) انظر ص ٣٩٠، تعليق: ٢.
(٢) في المطبوعة: "الحيض" وأثبتنا ما في المخطوطة.
(٣) انظر ما سلف رقم: ٤٢٨٧، والتعليق عليه.
(٤) انظر ما سلف رقم: ٤٢٨٧، والتعليق عليه.
391
أسباط، عن السدي قوله:" من حيث أمركم الله"، من الطهر.
٤٢٩٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"فأتوهن"، طُهَّرًا غير حيَّض. (١)
٤٢٩٩ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: ائتوهن طاهرات غير حُيَّض.
٤٣٠٠ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: طهَّرًا غير حيَّض في القُبُل. (٢)
* * *
وقال آخرون: بلى معنى ذلك: فأتوا النساء من قِبل النكاح، لا من قِبل الفُجور.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٠١ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل الأزرق، عن أبي عمر الأسدي، عن ابن الحنفية:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قِبل الحلال، من قِبل التزويج.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قولُ من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى، فنهيٌ عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمرٌ بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، فأتوهن من قِبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهُرن"،
(١) قوله"طهر"، جمع امرأة"طاهر"، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف"طواهر" و"فاعل" الصفة، إذا كانت فيه"تاء" ظاهرة، مثل"ضاربة" - أو مقدرة مثل حائض فقياسه: "فواعل"، و"فعل" (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها).
(٢) قوله"طهر"، جمع امرأة"طاهر"، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف"طواهر" و"فاعل" الصفة، إذا كانت فيه"تاء" ظاهرة، مثل"ضاربة" - أو مقدرة مثل حائض فقياسه: "فواعل"، و"فعل" (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها).
392
تأويله: ولا تقربوهن في مخرج الدم، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن.
وفي إجماع الجميع =: على أن الله تعالى ذكره لم يُطْلِق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئًا حرَّمه في حال الطُّهر، ولا حرِّم من ذلك في حال الطهر شيئًا أحله في حال الحيض = ما يُعلم به فسادُ هذا القول.
وبعد، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة، لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله = (١) حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله، ويكون ذلك أمرًا بإتيانهن في فروجهن. لأنّ الكلام المعروفَ إذا أريد ذلك، أن يقال:" أتى فلان زَوجته من قِبَل فرجها" - ولا يقال: أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قِبَل فرجها في مكان غير الفرج.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإنَّ ذلك وإنْ كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه: فأتوهن من قِبَل قُبُلهن في فروجهن -، كما يقال:" أتيتُ هذا الأمرَ من مَأتاه".
قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم، ومن حيث أمِرتم باعتزالهن - ولكن الواجبُ أن يكون تأويلُه على ذلك: فأتوهن من قبل وُجوههنّ في أقبالهن، كما كان قول القائل:" ائت الأمر من مأتاه"، إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلبُ الأمر غيرُ الأمر المطلوب.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "من حيث أمركم الله"، وهو نص الآية، ولكنه أراد"في حيث"، كما يدل عليه سائر كلامه، فلذلك أثبتها على الصواب إن شاء الله.
وانظر ما يؤيد ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء ١: ١٤٣.
393
فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج. (١)
وإذا كان كذلك، وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرَّمًا إتيانهن في فروجهن من قِبل أدبارهن. وذلك إن قالوه، خرج من قاله من قِيل أهل الإسلام، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الله يقول: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، وأذن رسولُ الله ﷺ في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن.
فقد تبين إذًا إذْ كان الأمر على ما وصفنا، فسادُ تأويل من قال ذلك: فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهن = وصحةُ القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهنّ من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهْرهن وتطهُّرهن، دون حال حيضهن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" إن الله يحب التوابين"، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته، إليه وإلى طاعته. وقد بينا معنى"التوبة" قبل. (٢)
* * *
واختلف في معنى قوله:" ويحب المتطهِّرين".
فقال بعضهم: هم المتطهِّرون بالماء.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المخطوطة: "فكذلك يجب مأتى الفرج"، وفي المطبوعة: "فكذلك يجب أن مأتى الفرج" والذي أثبته أشبه بالسياق وبالصواب.
(٢) انظر ما سلف ١: ٥٤٧/ ٢: ٧٢- ٧٣/ ٣: ٨١، ٢٥٩- ٢٦١.
394
٤٣٠٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة، عن عطاء قوله:" إن الله يحب التوابين"، قال: التوابين من الذنوب =" ويحب المتطهرين" = قال: المتطهرين بالماء للصلاة.
٤٣٠٣ - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا طلحة، عن عطاء، مثله.
٤٣٠٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء:" إن الله يحب التوابين" من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين"، بالماء للصلوات. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:" إن الله يحب التوابين"، من الذنوب =" ويحب المتطهرين"، من أدبار النساء أن يأتوها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٠٥ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت سليمان مولى أم علي قال، سمعت مجاهدًا يقول: من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ويحب المتطهرين"، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "للصلاة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ٤٣٠٥-"إبراهيم بن نافع" المخزومي المكي، روى عن ابن أبي نجيح، وكثير بن كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعدة. روى عنه أبو عامر العقدي وأبو نعيم وغيرهما. كان حافظًا، وكا أوثق شيخ بمكة، وهو ثقة، وكان أحمد يطريه. و"سليمان مولى أم علي"، هو سليم المكي، أبو عبد الله، روى عن مجاهد. وعنه إبراهيم بن نافع وابن جريج وجماعة، صدوق من كبار أصحاب مجاهد. وكلاهما مترجم في التهذيب.
395
٤٣٠٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:" يحب التوابين"، من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين"، من الذنوب، لا يعودون فيها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال:" إنّ الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة". لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه.
وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمرَ المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم: من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحابُ رسولِ الله رسولَ الله ﷺ عن ذلك، (١) أوحى الله تعالى إليه في ذلك، فبيَّن لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبًا مما يكرهه.
وكان مما بيَّن لهم من ذلك، (٢) أنه قد حرّم عليهم إتيان نسائهم وإن طهُرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: ولا تقربوهن حتى يطهُرن، فإذا تطهَّرن فأتوهن، فإن الله يحب المتطهرين = يعني بذلك: المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء - من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث - من النساء.
* * *
وإنما قال:" ويحب المتطهرين" - ولم يقل" المتطهرات" - وإنما جرى قبل ذلك ذكرُ التطهر للنساء، لأن ذلك بذكر" المتطهرين" يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر" المتطهرات"، لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميعَ عباده المكلفين، إذ كان قد
(١) في المطبوعة: "أصحاب رسول الله ﷺ عن ذلك" بإسقاط"رسول الله" الثانية وأثبت الصواب من المخطوطة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "مع ذلك"، والذي أثبته هو الصواب الحق.
396
تعبَّد جميعَهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني، واتفقت في بعض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم مُزدَرَعُ أولادكم، فأتوا مُزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم.
* * *
وإنما عني بـ "الحرث" المزدَرَع، و"الحرث" هو الزرع، (١) ولكنهن لما كن من أسباب الحرث، جعلن"حرثًا"، إذ كان مفهومًا معنى الكلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٠٧ - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس:" فأتوا حرثكم"، قال: منبت الولد.
٤٣٠٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" نساؤكم حرث لكم"، أما"الحرث"، فهي مَزْرَعة يحرث فيها.
* * *
(١) انظر معنى"الحرث" فيما سلف من هذا الجزء ٤: ٢٣٩، ٢٤٠. هذا، وقد كان في المطبوعة: "وإنما عني بالحرث وهو الزرع المحترث والمزدرع"، وليست بشيء - وكان في المخطوطة مضطربًا، فلذلك اضطربت المطبوعة. كان هكذا: "وإنما عنى بالزرع، وهو الحرث المزرع والمزدرع"، وضرب على"بالزرع" وكتب"بالحرث" ثم وضع فوق"الحرث والمزدرع" ميمًا على كل كلمة من الكلمتين، يريد بذلك تقديم هذه على هذه، ولكن بقيت الجملة فاسدة أشد فساد، ولم يستطع الناسخ أو طابع المطبوعة أن يرده إلى سياق صحيح، فرددته إلى السياق الصحيح إن شاء الله.
397
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فانكحوا مزدرَع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى.
* * *
و"الإتيان" في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع. (١)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:" أنى شئتم".
فقال بعضهم: معنى"أنَّى"، كيف.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٠٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض.
٤٣١٠ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: ائتها أنى شئت، مقبلةً ومدبرةً، ما لم تأتها في الدُّبر والمحيض.
٤٣١١ - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يعني بالحرث الفرجَ. يقول: تأتيه كيف شئت، مستقبلهُ ومستدبرهُ (٢) وعلى أيّ ذلك أردت، بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره، وهو قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله".
(١) انظر ما مضى قريبًا ص: ٣٨٨ والتعليق: ١
(٢) الأثر: ٤٣١١ - في سنن البيهقي ٨: ١٩٦، وفيها وفي المطبوعة: "مستقبلة ومستدبرة". وأثبت ما في المخطوطة، فهو جيد.
398
٤٣١٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط.
٤٣١٣ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، واتَّق الدبر والحيض.
٤٣١٤ - حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي قال، حدثني يزيد: أن ابن كعب كان يقول: إنما قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: ائتها مضجعةً وقائمة ومنحرفةً ومقبلةً ومدبرةً كيف شئت، إذا كان في قُبُلها. (١)
(١) الأثر: ٤٣١٤- كان هذا الإسناد في المطبوعة: حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه قال، حدثني يزيد.. "، والصواب إسناد المخطوطة الذي أثبته كما سترى. ولكن يظهر أن الناسخ أو الطابع خلط بين هذا الإسناد الذي أثبتناه والإسناد الآخر الكثير الدوران في التفسير، وهو: "حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس" وقد مضى الكلام في هذا الإسناد برقم: ٣٠٥.
أما إسنادنا هذا، فإن"عبيد الله بن سعد" فهو: عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو الفضل البغدادي" روى عن أبيه وعمه يعقوب بن إبراهيم وغيرهما، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهما. قال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه مع أبي وهو صدوق" مات سنة ٢٦٠.
أما عمه، فهو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. روى عن أبيه وشعبة، وابن أخي الزهري والليث. وعنه ابن أخيه عبيد الله بن سعد، وأحمد وإسحاق وابن معين. كان ثقة مأمونًا، كتب عنه الناس علما جليلا. مات سنة ٢٠٨.
وأما أبوه، فهو إبراهيم بن سعد الزهري، وأبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. روى عن أبيه وعن الزهري وهشام بن عروة ومحمد بن إسحاق وشعبة ويزيد بن الهاد. روى عنه ابناه يعقوب وسعد وأبو داود والطيالسي وغيرهم.
قال أحمد: ثقة، أحاديثه مستقيمة. مات سنة ١٨٣.
وأما"يزيد"، فهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي. روى عن جماعة كثيرة، منهم محمد بن كعب القرظي، وروى عنه شيخه، يحيى بن سعد الأنصاري وإبراهيم بن سعد والليث بن سعد. ذكره ابن حبان في الثقات، وكان كثير الحديث. مات سنة ١٣٩. وأما"ابن كعب"، فهو"محمد بن كعب القرظي"، فهو تابعي، مضت ترجمته.
وسيأتي هذا الإسناد نفسه على الصواب، مع خطأ فيه برقم: ٤٣٢١.
399
٤٣١٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن مرة الهمداني قال: سمعته يحدث أن رجلا من اليهود لقي رجلا من المسلمين فقال له: أيأتي أحدكم أهلهُ باركًا؟ قال: نعم. قال: فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت هذه الآية:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، يقول: كيف شاء، بعد أن يكون في الفرج.
٤٣١٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئت قائمًا أو قاعدًا أو على جنب، إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيضُ، ولا يتعدَّى ذلك إلى غيره.
٤٣١٧ - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، ائت حرثك كيف شئتَ من قُبُلها، ولا تأتيها في دبرها." أنى شئتم"، قال: كيف شئتم.
٤٣١٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال: أن عبد الله بن علي حدثه: أنه بلغه أن ناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ جلسوا يومًا ورجل من اليهود قريبٌ منهم، فجعل بعضهم يقول: إنيّ لآتي امرأتي وهي مضطجعة. ويقول الآخر: إني لآتيها وهي قائمة. ويقول الآخر: إني لآتيها على جنبها وباركةً. فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم! ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة! فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرثٌ لكم"، فهو القُبُل. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى:" أنى شئتم"، من حيث شئتم، وأي وجه أحببتم.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر: ٤٣١٨- هو عبد الله بن علي بن السائب بن عبيد القرشي المطلبي، روى عن عثمان بن عفان، وحصين بن محصن الأنصاري وعمرو بن أحيحة بن الجلاح، وعنه سعيد بن أبي هلال. مترجم في التهذيب.
400
٤٣١٩ - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكره أن تُؤتى المرأة في دبرها، ويقول: إنما الحرث من القُبُل الذي يكون منه النسل والحيض = وينهى عن إتيان المرأة في دُبُرها ويقول: إنما نزلت هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: من أيّ وجه شئتم. (١)
٤٣٢٠ - حدثنا ابن حميد قال حدثنا ابن واضح قال، حدثنا العتكي، عن عكرمة:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: ظهرها لبطنها غير مُعاجَزة - يعني الدبر. (٢)
٤٣٢١ - حدثنا عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي،
(١) الأثر: ٤٣١٩ - مضى في رقم: ١٨٠"موسى بن سهل الرازي"، هكذا جاء في المطبوعة ولكنه في المخطوطة"سهل بن موسى الرازي"، فرجح أخي السيد أحمد أنه خطأ من الناسخ، وأنه لم يجد له ترجمة. ولكن أبا جعفر الطبري قد روى عنه في مواضع من تاريخه: "سهل بن موسى الرازي"، وهكذا هو في المخطوطة هناك، وجاء هنا على ذلك في المخطوطة والمطبوعة. فالصواب أن يكون في رقم: ١٨٠"سهل بن موسى الرازي"، كما في المخطوطة هناك.
و"سهل بن موسى الرازي"، لم يترجم بهذا الاسم في الكتب، ولكني رأيت الطبري يروي عنه في التاريخ ١: ١٦٩: "حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك... "، فالذي في التاريخ يؤيد ما في التفسير. ثم روى عنه في التاريخ ٢: ٢١٤"حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء... "، فرأيت في ترجمة"عبد الرحمن بن مغراء" في التهذيب أنه يروي عنه"سهل بن زنجلة". و"سهل بن زنجلة" هو: سهل بن أبي سهل الرازي"، روى عن جماعة كثيرة منهم يحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن ابن مغراء" وروى عنه ابن ماجه فأكثر، وأبو حاتم، وقد بغداد سنة ٢٣١. وترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٩: ١١٦- ١١٨، ولم يذكروا تاريخ وفاته. فأخشى أن يكون"سهل بن أبي سهل الرازي"، هو"سهل بن موسى الرازي" نفسه - لم يعرفوا اسم أبيه"موسى"، وعرفه الطبري، لأنه من ناحية بلاده، وأرجو أن يأتي بعد في أسانيد أبي جعفر ما يكشف عن الحق في ذلك.
وأما"ابن أبي فديك"، هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلي مولاهم. مترجم في التهذيب، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ٢٠٠.
(٢) الأثر: ٤٣٢٠- هو الإسناد السالف رقم: ٤٢٩٥.
401
عن يزيد، [عن الحارث بن كعب]، عن محمد بن كعب، قال: إن ابن عباس كان يقول: اسق نباتك من حيث نباته. (١)
٤٣٢٢ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، يقول: من أين شئتم. ذكر لنا - والله أعلم - أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قِبَل إعجازهن، فإذا فعلوا ذلك، جاء الولد أحول، فأكذب الله أحدوثتهم فقال:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
٤٣٢٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال يقول: ائتوا النساء في [غير] أدبارهن على كل نحو = (٢) قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: تذاكرنا هذا عند ابن عباس، فقال ابن عباس: ائتوهن من حيث شئتم، مُقبلة ومدبرةً. فقال رجل: كأنَّ هذا حلالٌ! (٣) فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا، وأنكره، كأنه إنما يريد الفرج، مقبلةً ومدبرة في الفرج.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:" أنى شئتم"، متى شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر: ٤٣٢١- قد سلف هذا الإسناد برقم: ٤٣١٤، ولكن وقع في المخطوطة هنا زيادة عن الحارث بن كعب- فوضعناها بين قوسين. ولم أجد في الرواة من يسمى"الحارث بن كعب"، مع أنه تابعي قل أن يغفلوا مثله. فلذلك أخشى أن يكون خطأ أو سبق قلم من ناسخ، ولعله كان"عن يزيد بن الهاد، عن ابن كعب- وهو محمد بن كعب" فصحف الناسخ وحرف. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، فراجعه هناك. وقد رواه البيهقي في السنن ١: ١٩٦ من طريق"عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس"، فهذا يؤيد ما رجحته من زيادة هذا الذي بين القوسين أو تصحيفه وتحريفه.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "ائتوا النساء في أدبارهن"، وهو لا يستقيم أبدًا، والزيادة بين القوسين لا بد منها للخروج من هذا الفساد. ومجاهد لا يقول بهذا، بل الثابت في الرواية عند إنكاره وإكفار فاعله (ابن كثير ١: ٥٢٢).
(٣) في المطبوعة: "كان هذا حلالا"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.
402
٤٣٢٤ - حدثت عن حسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: مَتى شئتم.
٤٣٢٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي - وهو عمار الدُّهني -، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس، أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو: يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ (١) فقال: بلى! فقرأ:" ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، من ثَمَّ أمرت أن تأتي. فقال له الرجل: يا أبا الفضل، كيف بالآية التي تتبعها:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"؟ فقال: إي! ويحك! وفي الدُّبُر من حَرْث!! لو كان ما تقول حقًّا، لكان المحيض منسوخًا! إذا اشتغل من ههنا، جئتَ من ههنا! ولكن: أنى شئتم من الليل والنهار. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتم، وحيث شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٢٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن عون، عن
(١) في المطبوعة: "من آية المحيض"، والصواب من المخطوطة، ومما مضى رقم: ٤٢٨٠.
(٢) الأثر: ٤٣٢٥ - سلف صدره في رقم: ٤٢٨٠، كما أشرنا إليه هناك، "أبو صخر" هو: حميد بن زياد الخراط المصري، مترجم في التهذيب، قال أحمد: "ليس به بأس". مات سنة ١٨٩. و"أبو معاوية البجلي"، قد صرح الطبري هنا أنه: عمار بن معاوية الدهني. ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة ١٣٣، وكلاهما مترجم في التهذيب.
هذا وفي المطبوعة والمخطوطة: "إي ويحك"، (بكسر الهمزة وسكون الياء) بمعنى"نعم" حرف جواب، يكون لتصديق المخبر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد: "قام زيد -وهل قام زيد- واضرب زيدًا" ونحوهن، كما تقع"نعم" بعدهن. وزعم ابن الحاجب أنها إنما تقع بعد الاستفهام، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم (شرح شواهد المغني لابن هشام). وأنا أرجح أن تكون الكلمة محرفة، وصوابه"أنى ويحك" (بفتح الهمزة وتشديد النون وفتحها) : أي: أين ذهبت -أو: كيف قلت- ويحك؟
403
نافع قال، كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم. قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية:" نساؤكم حرثٌ لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال: أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا! قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. (١)
٤٣٢٦ م - حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا ابن عون، عن نافع، قال: قرأتُ ذاتَ يوم:" نساؤكم حرْثٌ لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال ابن عمر: أتدري فيمَ نزلتْ
؟ قلتُ: لا! قال: نزلتْ في إتيان النساء في أدْبارهنّ). (٢)
٤٣٢٧ - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس، عن ابن عون، عن نافع قال: كنت أمسك على ابن عُمر المصحف، إذ تلا هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال: أن يأتيها في دبرها. (٣)
(١) الحديث: ٤٣٢٦ - يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. ابن علية: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي.
وهذا الإسناد صحيح جدًا. وانظر التخريج في: ٤٣٢٧.
(٢) الحديث: ٤٣٢٦ مكرر -هذا الحديث زدناه من ابن كثير ١: ٥١٦- ٥١٧، حيث نقله عن الطبري بهذا النص، إسنادًا ومتنًا. ويؤيد ثبوته في هذا الموضع، أن الحافظ ابن حجر ذكره في الفتح ٨: ١٤١، عن الطبري، حيث ذكر رواية من مسند إسحاق بن راهويه وتفسيره، ثم قال: "هكذا أورده ابن جرير، من طريق إسماعيل بن علية، عن ابن عون مثله، ثم أشار إلى الحديث التالي لهذا: ٤٣٢٧، فقال: "ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، عن ابن عون، نحوه". وذكره الحافظ في التلخيص أيضًا، ص: ٣٠٧، قال: "وكذا رواه الطبري، من طريق ابن علية، عن ابن عون". فثبت وجود هذا الحديث في تفسير الطبري، وتعين موضعه في هذا الموضع واضحًا. والحمد لله.
(٣) الحديث: ٤٣٢٧ - أبو عمر الضرير: هو حفص بن عمر الأكبر، مضى في: ٣٥٦٢، ووقع هناك في المطبوعة"أبو عمرو"، وبينا أنه خطأ. وقد ثبت فيها هنا على الصواب.
إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ١/١/٣٤٢، فلم يذكر فيه حرجًا. وذكره ابن حبان في الثقات. وهو"صاحب الكرابيس" يعني الثياب. ولذلك يقال له"الكرابيسي" بالياء، نسبة إلى بيعها. ووقع في المطبوعة، (صاحب الكرابيسي) بلفظ النسبة مع كلمة"صاحب". وهو خطأ.
وهذه الأحاديث الثلاثة صحيحة ثابتة عن ابن عمر. وهي حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وسيأتي أيضًا نحو معناها: ٤٣٣١.
وقد روى البخاري ٨: ١٤٠- ١٤١ معناه عن نافع، عن ابن عمر، بثلاثة أسانيد. ولكنه كنى عن ذلك الفعل ولم يصرح بلفظه. وأطال الحافظ في الإشارة إلى كثير من أسانيده.
وذكره السيوطي ١: ٢٦٥، ونسبه لمن ذكرنا.
ونقل الحافظ في الفتح ٨: ١٤١، عن ابن عبد البر، قال: "ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه". ونحو هذا نقل السيوطي ١: ٢٦٦ عن ابن عبد البر.
404
٤٣٢٨ - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال، حدثنا الدراوردي قال، قيل لزيد بن أسلم: إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد: أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله. (١)
٤٣٢٩ - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبد الله، إن الناس يروون عن سالم:" كذب العبد، أو: العلجُ، على أبي"! فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له: فإنَّ الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار: أنه سأل ابن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نشتري الجواري فنُحمِّض لهن؟ فقال: وما التحميض؟ قال: الدُّبُر. فقال ابن عمر: أفْ! أفْ! يفعل ذلك مؤمن! - أو قال: مسلم! - فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب، عن ابن عمر، مثل ما قال نافع. (٢)
(١) الخبر: ٤٣٢٨ -عبد الملك بن مسلمة المصري: روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر- كثيرًا. وهو ضعيف، ترجمه ابن أبي حاتم ٢/٢/٣٧١، وذكر أن أباه روى عنه، وأنه قال: "هو مضطرب الحديث، ليس بقوي"، وأنه حدثه بحديث موضوع، وأن أبا زرعة قال: "ليس بالقوي، هو منكر الحديث". وله ترجمة في الميزان ولسان الميزان.
(٢) الخبر: ٤٣٢٩ -أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر المصري الفقيه: مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٧٤- ٢٧٥، باسم"عبد الرحمن بن أبي الغمر"، دون ذكر اسم أبيه"أحمد". وهو من شيوخ البخاري، روى عنه خارج الصحيح.
عبد الرحمن بن القاسم بن خالد، الفقيه المصري، راوي الفقه عن مالك، ثقة مأمون، من أوثق أصحاب مالك.
وهذا الخبر نقله ابن كثير ١: ٥٢١- ٥٢٢، عن هذا الموضع. ولكن وقع فيه خطأ في اسم ابن أبي الغمر، هكذا: "أبو زيد أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر".
ونقله الحافظ في الفتح ٨: ١٤٢، والتلخيص، ص: ٣٠٨، مختصرًا، ونسبه أيضًا للنسائي والطحاوي، وقال في الفتح: "وأخرجه الدارقطني، من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح".
ونقله السيوطي ١: ٢٦٦، مطولا، ونقل كلام الدارقطني.
405
٤٣٣٠ - حدثني محمد بن إسحاق قال، أخبرنا عمرو بن طارق قال، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن موسى بن أيوب الغافقي قال: قلت لأبي ماجد الزيادي: إنّ نافعًا يحدث عن ابن عمر في دُبر المرأة. فقال: كذب نافع! صحبت ابن عمر ونافعٌ مملوكٌ، فسمعته يقول: ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا. (١)
٤٣٣١ - حدثني أبو قلابة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: في الدبر. (٢)
(١) الخبر: ٤٣٣٠ -عمرو بن طارق: هو عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي المصري، وهو ثقة. نسب هنا إلى جده. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٣٣. يحيى بن أيوب: هو الغافقي المصري. مضى في: ٣٨٧٧.
موسى بن أيوب بن عامر الغافقي الهباري المصري: ثقة، روى عنه الليث بن سعد، وابن المبارك، ووثقه ابن معين.
أبو ماجد الزيادي: تابعي، ترجمه البخاري في الكنى، رقم: ٦٨٨، وابن أبي حاتم ٤/٢/٤٥٥ ورويا عنه هذا الخبر، بلفظين مختلفين، مخالفين لما هنا.
فقال البخاري: "أبو ماجد الزيادي، سمع ابن عمر، قال: ما نظرت إلى فرج امرأة منذ أسلمت. قاله يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، سمع موسى بن أيوب، عن أبي ماجد".
وقال ابن أبي حاتم: "أبو ماجد الزيادي، سمع عبد الله بن عمرو، قال: ما نظرت إلى فرجي منذ أسلمت. روى عنه موسى بن أيوب الغافقي. سمعت أبي يقول ذلك".
والظاهر أن"عبد الله بن عمرو"، عند ابن أبي حاتم -تحريف ناسخ أو طابع. ولكن لا يزال الاختلاف قائمًا في المعنى بين هاتين الروايتين، وبينهما وبين رواية الطبري هذه. ولم أجد ما يرجح إحداها على غيرها.
(٢) الخبر: ٤٣٣١ -أبو قلابة، شيخ الطبري: هو الرقاشي الضرير الحافظ، واسمه: عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد، وهو ثقة، روى عنه الأئمة، منهم ابن خزيمة، وابن جرير، وأبو العباس الأصم. وقال أبو داود سليمان بن الأشعث: "رجل صدوق، أمين مأمون، كتبت عنه بالبصرة". وقال الطبري: "ما رأيت أحفظ منه". مترجم في التهذيب. ابن أبي حاتم ٢/٢/٣٦٩- ٣٧٠، وتاريخ بغداد ١٠: ٤٢٥- ٤٢٧، وتذكرة الحفاظ ٢: ١٤٣- ١٤٤. عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث.
وهذا الخبر رواه البخاري ٨: ١٤٠- ١٤١، عن إسحاق، هو ابن راهويه، عن عبد الصمد. ولكنه حذف المكان بعد حرف"في"، فلم يذكر لفظه. وذكر الحفاظ في الفتح أنه صريح في رواية الطبري هذه.
ونقله ابن كثير ١: ٥١٧، عن الطبري بإسناده. ونقله السيوطي ١: ٢٦٥، ونسبه للبخاري وابن جرير.
406
٤٣٣٢ - حدثني أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر! قال روح: فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك فقال: قد أردته من جارية لي البارحةَ فاعتاص عليّ، فاستعنت بدهن أو بشحم. قال: فقلت له، سبحان الله!! أخبرنا قتادة أنّ أبا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر! فقال: لعنك الله ولعن قتادة! فقلت: لا أحدث عنك شيئًا أبدًا! ثم ندمت بعد ذلك. (١)
* * *
قال أبو جعفر (٢) واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم، بما:-
٤٣٣٣ - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك، فأنزل الله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (٣)
(١) الخبر: ٤٣٣٢ - هو في الحقيقة خبران، أولهما عن أبي الدرداء، وثانيهما أثر عن ابن أبي مليكة لا يصلح للاستدلال. فكلامنا عن خبر أبي الدرداء.
وقد رواه الطبري هنا بإسناده إلى قتادة، "قال: سئل أبو الدرداء... "، وهو منقطع. فقد رواه أحمد في المسند: ٦٩٦٨ م بإسناده إلى قتادة، قال: "وحدثني عقبة بن وساج، عن أبي الدرداء، قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر"؟!. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ١٩٩. وقد خرجناه في شرح المسند.
(٢) من هنا ابتداء جزء من التقسيم القديم للتفسير فيما يظهر، فإنه قد كتب بعد ما سلف.
"يتلُوه: واعتل قائلو هذه المقالة
وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه كثيرًا"
ثم بدأ صفحة جديدة أولها:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
ربّ أعن يا كريم
(٣) الحديث: ٤٣٣٣ - أبو بكر بن أبي أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس المدني الأعشى، وهو ثقة.
سليمان بن بلال أبو أيوب المدني: ثقة معروف، أخرج له الأئمة الستة.
وهذا الحديث نقله ابن كثير ١: ٥١٧، من رواية النسائي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، كمثل رواية الطبري وإسناده سواء. ونقله الحافظ في التلخيص: ٣٠٧- ٣٠٨، والسيوطي ١: ٢٦٥- ٢٦٦، ونسباه للنسائي والطبري فقط.
407
٤٣٣٤ - حدثني يونس قال، أخبرني ابن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر الناس ذلك وقالوا: أثْفَرها! فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" الآية. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتم - إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٣٥ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن عيسى بن سنان، عن سعيد بن المسيب:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.
٤٣٣٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن زائدة بن عمير، عن ابن عباس قال: إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قالوا: معنى قوله:" أنى شئتم"، كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرْج والقُبُل، فإنهم قالوا: إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود، استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبل أدبارهن. قالوا: وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا،
(١) الحديث: ٤٣٣٤- هذا حديث مرسل، لأن عطاء بن يسار تابعي. وقوله"أثفرها": من"الثفر"، بفتح الثاء المثلثة والفاء، وهو ما يوضع للدابة تحت ذنبها يشد به السرج. شبه ذلك الفعل بوضع الثفر على دبر الدابة.
(٢) الخبر: ٤٣٣٦- أبو إسحاق: هو السبيعي. زائدة بن عمير الطائي الكوفي: تابعي ثقة وثقه ابن معين وغيره. قال البخاري في الكبير ٢/١/٣٩٤: "سمع ابن عباس". وترجمه ابن أبي حاتم ١/٢/٦١٢، وذكره ابن سعد في الطبقات ٦: ٢١٨.
408
من أن معنى ذلك على ما قلنا. واعتلوا لقيلهم ذلك بما:-
٤٣٣٧ - حدثني به أبو كريب قال، حدثنا المحاربي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأساله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، (١) ويتلذذون بهن مقبلاتٍ ومدبراتٍ. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نُؤْتَى عليه! فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث. يقول: ائت الحرث من حيث شئت.
٤٣٣٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه. (٢)
٤٣٣٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرًا يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول. فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
(١) شرح الرجل امرأته شرحًا: إذا سلقها فوطئها نائمة على قفاها.
(٢) الحديثان: ٤٣٣٧- ٤٣٣٨- هما حديث واحد، بإسنادين. وأبان بن صالح بن عمير بن عبيد: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
والحديث رواه أبو داود: ٢١٦٤، والحاكم في المستدرك ٢: ١٩٥، ٢٧٩، والبيهقي ٧: ١٩٥- ١٩٦، مطولا ومختصرًا، من طريق محمد بن إسحاق. وقال الحاكم في الموضع الأول: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم. ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي.
ونقله ابن كثير ١: ٥١٦، عن رواية أبي داود. وكذلك الحافظ في التلخيص، ص: ٣٠٨.
ونقله السيوطي ١: ٢٦٣، وزاد نسبته لابن راهويه، والدارمي، وابن المنذر، والطبراني.
409
٤٣٤٠- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دُبُرها، وكان بينهما ولد، كان أحول. فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (١)
٤٣٤١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن
(١) الحديثان: ٤٣٣٩- ٤٣٤٠- هما حديث واحد، بإسنادين، ولفظين متقاربين. وهو حديث صحيح مشهور. رواه البخاري ٨: ١٤١- ١٤٣، من طريق سفيان، وهو الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر.
ونقله ابن كثير ١: ٥١٤، من رواية البخاري، ثم من رواية ابن أبي حاتم. وذكره السيوطي ١: ٢٦١، وزاد نسبته إلى أصحاب السنن الأربعة، والبيهقي، وغيرهم.
وهو في سنن البيهقي ١٩٤٧-: ١٩٥، من ثلاثة طرق، عن ابن المنكدر، عن جابر. وذكره أنه رواه مسلم في صحيحه من تلك الطرق الثلاث.
وسيأتي بنحوه: ٤٣٤٦، من رواية شعبة، عن ابن المنكدر، عن جابر.
وانظر المنتقى: ٣٦٥٢، ٣٦٥٣.
410
عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة زوح النبي ﷺ قالت: تزوج رجل امرأةً فأراد أن يجبِّيَها، فأبت عليه، (١) وقالت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت أم سلمة: فذكرتْ ذلك لي، فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرسلي إليها. فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نساؤكم حرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، صِمامًا واحدًا، صِمامًا واحدًا. (٢)
٤٣٤٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن ابن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة قالت: قدِم المهاجرون فتزوجوا في الأنصار، وكانوا يُجَبُّون، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك، فقالت امرأة لزوجها: حتى آتي النبي ﷺ فأسأله عن ذلك! فأتت النبيَّ ﷺ فاستحيت أن تسأله، فسألتُ أنا، فدعاها رسول الله ﷺ فقرأ عليها:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"،"صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا". (٣)
٤٣٤٣ - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي ﷺ بنحوه. (٤)
٤٣٤٤ - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله:"
(١) جبى الرجل أو المرأة يجبى تجبية: أن ينكب على وجهه باركًا، وهو السجود. شبه هذا بهيئة السجود.
(٢) الحديث: ٤٣٤١- عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري المكي: تابعي، ثقة حجة، كما قال ابن معين. و"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة، مصغرًا. ووقع في المطبوعة، هنا، وفي: ٤٣٤٤"جشم"، وهو تصحيف. عبد الرحمن بن سابط: تابعي معروف، مضت ترجمته: ٥٩٩.
حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: تابعية ثقة.
والحديث رواه أحمد في المسند ٦: ٣٠٥ (حلبي)، عن عفان، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم، بهذا الإسناد، نحوه، مطولا. ونقله ابن كثير ١: ٥١٥ عن رواية المسند. وواقع في مطبوعته تحريف وتصحيف.
ورواه البيهقي ٧: ١٩٥، بنحوه مختصرًا، من طريق سفيان، ومن طريق روح بن القاسم - كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم.
وذكره السيوطي ١: ٢٦٢، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والدارمي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
وسيأتي عقب هذا، مطولا ومختصرًا: ٤٣٤٢- ٤٣٤٥.
الصمام ما أدخل في فم القارورة تسد به. فسمى الفرج به، لأنه موضع صمام، على التشبيه وحذف المضاف. ومعناه: في مسلك واحد.
(٣) الحديث: ٤٣٤٢- سفيان: هو الثوري، روى الحديث عن عبد الله بن عثمان. ولكن وقع في المطبوعة"سفيان بن عبد الله بن عثمان"! وهو خطأ سخيف. ووقع في المخطوطة"عن ابن سليط" بدل"ابن سابط". وهو خطأ. والحديث مكرر ما قبله بنحوه.
(٤) الحديث: ٤٣٤٣- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. والحديث مكرر ما قبله.
411
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا". (١)
٤٣٤٥ - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثني وهيب قال، حدثني عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لحفصة، إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحيي منك أن أسألك؟ قالت: سل يا بنيّ عما بدا لك! قلت: أسألك عن غِشيان النساء في أدبارهن؟ قالت: حدثتني أم سلمة قالت: كانت الأنصار لا تُجَبِّي، وكان المهاجرون يُجَبُّون، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار = ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن معاوية بن هشام. (٢)
٤٣٤٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول. فنزلت" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (٣)
٤٣٤٧ - حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي قال، حدثنا الحسن بن موسى قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، هلكتُ!! قال: وما الذي أهلكك؟ قال: حوَّلتُ رحلي الليلة! قال: فلم يردّ
(١) الحديث: ٤٣٤٤- هو مكرر ما قبله مختصرًا. وهكذا رواه الترمذي ٤: ٧٥، مختصرًا عن ابن أبي عمر عن سفيان، وهو الثوري به.
(٢) الحديث: ٤٣٤٥- يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي، المقرئ النحوي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه.
وهيب -بالتصغير-: هو ابن خالد بن عجلان وهو ثقة ثبت حجة.
والحديث مكرر: ٤٣٤٢، بنحوه حيث أحال الطبري لفظ هذا على لفظ ذلك.
(٣) الحديث: ٤٣٤٦- هو مكرر: ٤٣٣٩، ٤٣٤٠. ووقع في المخطوطة"باركًا" بدل"باركة" وهو خطأ.
412
عليه شيئًا، قال: فأوحى الله إلى رسول الله ﷺ هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، أقبِل وأدبِر، واتق الدُّبر والحيْضة". (١)
٤٣٤٨ - حدثنا زكريا بن يحيى المصري قال، حدثنا أبو صالح الحراني قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عامر بن يحيى أخبره، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس: أن ناسًا من حميرَ أتوا إلى رسول الله ﷺ يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول الله، إنّي رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى ذكره في"سورة البقرة" بيان ما سألوا عنه، وأنزل فيما سأل عنه الرجل:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتها مُقبلةً ومُدبرةً، إذا كان ذلك في الفرج". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا قولُ من قال: معنى قوله" أنى شئتم"، من أيّ وجه شئتم. وذلك أن"أنَّى" في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام - على المسألة عن الوجوه والمذاهب. فكأن القائل
(١) الحديث: ٤٣٤٧- محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي: لم أعرفه ولا وجدت له ترجمة الحسن بن موسى الأشيب: ثقة حافظ متثبت، من شيوخ أحمد، يكثر الرواية عنه في المسند.
يعقوب القمي: مضت ترجمته في: ٦١٧. جعفر: هو ابن أبي مغيرة. مضى أيضًا في: ٦١٧. والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٧٠٣ عن شيخه حسن بن موسى الأشيب بهذا الإسناد وقد خرجناه هناك. ونزيد أنه رواه أيضًا ابن حبان في صحيحه ٦: ٣٦٤- ٣٦٥ (مخطوطة الإحسان) والبيهقي ٧: ١٩٨.
(٢) الحديث: ٤٣٤٨- زكريا بن يحيى بن صالح القضاعي المصري: ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه.
أبو صالح الحراني: هو عبد الغفار بن داود بن مهران، وهو ثقة من شيوخ البخاري في صحيحه.
يزيد بن أبي حبيب المصري: ثقة أخرج له الجماعة، قال الليث بن سعد: "يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا". وقال ابن سعد: "كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلا". حنش الصنعاني: مضى في: ١٩١٤.
والحديث ذكره ابن كثير ١: ٥١٤- ٥١٥ من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة. بهذا الإسناد. وذكره السيوطي ١: ٢٦٢- ٢٦٣، وزاد نسبته للطبراني والخرائطي. وروى أحمد في المسند: ٢٤١٤- نحوه ولكن فيه أن السائلين كانوا من الأنصار. وإسناده ضعيف، من أجل رشدين بن سعد في إسناده.
413
إذا قال لرجل:"أنى لك هذا المال"؟ يريد: من أيّ الوجوه لك. ولذلك يجيب المجيبُ فيه بأن يقول:"من كذا وكذا"، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم: (أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [سورة آل عمران: ٣٧]. وهي مقاربة"أين" و"كيف" في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت"أنَّى" على سامعيها ومتأوِّليها، (١) حتى تأوَّلها بعضهم بمعنى:"أين"، وبعضهم بمعنى"كيف"، وآخرون بمعنى:"متى" - وهي مخالفة جميع ذلك في معناها، وهن لها مخالفات.
وذلك أن"أين" إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال - وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال:"أين مالك"؟ لقال:"بمكان كذا"، ولو قال له:"أين أخوك"؟ لكان الجواب أن يقول:"ببلدة كذا أو بموضع كذا"، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله. فيعلم أن"أين" مسألة عن المحل.
ولو قال قائل لآخر:"كيف أنت"؟ لقال:"صالح، أو بخير، أو في عافية"، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن"كيف" مسألةٌ عن حال المسؤول عن حاله.
ولو قال له:"أنَّى يحيي الله هذا الميت؟ "، لكان الجواب أن يقال:"من وجه كذا ووجه كذا"، فيصف قولا نظيرَ ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) [سورة البقرة: ٢٥٩] فعلا (٢) حين بعثه من بعد مماته.
(١) في المخطوطة: "على سامعيها ومتاولها" بالجمع مرة والإفراد أخرى. وفي المطبوعة: "على سامعها ومتأولها" بالإفراد.
(٢) قوله"فعلا" مفعول قوله: "نظير ما وصف الله... فعلا" يعني أن الله تعالى وصف بعد ذلك"فعلا" وهذا الفعل هو بعثه من بعد مماته، وذلك قول الله تعالى في عقب ذلك} :
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ {
414
وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد:
وَجَهْدَ أَعْوَامٍ بَرَيْنَ رِيشِي نَتْفَ الحُبَارى عَنْ قَرًى رَهِيشِ
تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ (١)
وقال أيضًا:
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ (٢)
فيجاء بـ "أنى" للمسألة عن الوجه، وبـ "أين" للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟
والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم = أو بمعنى: متى شئتم = أو بمعنى: أين شئتم = أن قائلا لو قال لآخر:"أنى تأتي أهلك؟ "، لكان الجواب
(١) اللسان (أبل) آمره يؤامره: شاوره. وقوله: "نفيسه" جعل النفس نفسين، لأن النفس تأمر. المرء بالشيء وتنهى عنه، وذلك في كل مكروه أو مخوف فجعلوا ما يأمره"نفسًا" وما ينهاه"نفسًا" وقد بينها الممزق العبدي في قوله:
أَلاَ مَنْ لِعَيْنٍ قَدْ نَآهَا حَمِيمُهَا وَأَرَّقَنِي بَعْدَ المَنَامِ هُمُومُها
فَبَاتَتْ له نَفْسَانِ شَتَّى هُمُومُها فنَفْسٌ تُعَزِّيهَا ونفْسٌ تَلُومُها
و"الهجمة": القطعة الضخمة من الإبل من السبعين إلى المئة. ويقال: "رجل أبل" إذا كان حاذقا بمصلحة الإبل والقيام عليها. ولم أجد شعر الكميت، ولكني أرجح أن هذا البيت من أبيات في حمار وحش، قد أخذ أتنه (وهي إناثه) ليرد بها ماء، فوقف بها في موضع عين قديمة كان شرب منها، فهو متردد في موقفه، فشبهه يراعى الإبل الكثيرة، إذا كان خبيرًا برعيتها فوقف بها ينظر أين يسلك إلى الماء والمرعى.
(٢) الهاشميات: ٣١. قوله: "آبك" معترضة بين كلامين كما تقول: "ويحك" بين كلامين وسياقه"أنى ومن أين الطرب"؟ و"آبك" بمعنى"ويلك" يقال لمن تنصحه ولا يقبل ثم يقع فيما حذرته منه، كأنه بمعنى: أبعدك الله! دعاء عليه؟ من ذلك قول رجل من بني عقيل:
أَخَبَّرْتَنِي يَا قَلْبُ أَنَّكَ ذُو غَرًى بَليْلَي؟ فَذُقْ مَا كُنْتَ قبلُ تَقُولُ!
فآبَكَ! هلاَّ وَاللَّيَالِي بِغِرَّةٍ تُلِمُّ وَفِي الأَيَّامِ عَنْكَ غُفُولُ!!
بيد أن أبا جعفر فسر"آبك" بمعنى: "راجعك الطرب" من الأوبة، وهو وجه في التأويل، ولكن الأجود ما فسرت والشعر بعده دال على صواب ما ذهبت إليه.
415
أن يقول:"من قُبُلها، أو: من دُبُرها"، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم = إذْ سئلت: (أَنَّى لَكِ هَذَا) = أنها قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل.
وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، (١) وإنما قال تعالى ذكره:" حرث لكم"، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، (٢) صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين:"إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول". (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الخيرَ.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "لا يخترث فيه" وكلاهما قريب، والذي في المخطوطة جود.
(٢) في المطبوعة: "وتبين بما بينا" والصواب من المخطوطة، وهو عطف على قوله آنفًا: "فبين خطأ من زعم".
(٣) حجة أبي جعفر في هذا الفصل من أحسن البيان عن معاني القرآن وعن معاني ألفاظه وحروفه وهي دليل على أن معرفة العربية، وحذقها والتوغل في شعرها وبيانها وأساليبها أصل من الأصول، لا يحل لمن يتكلم في القرآن أن يتكلم فيه حتى يحسنه ويحذقه. ورحم الله ابن إدريس الشافعي حيث قال- فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب"الفقيه والمتفقه".
"لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يُفْتِي في دِينِ اللهِ إلّا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكيِّه ومدنيِّه، وما أريدَ به= ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله ﷺ وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن= ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف = ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار= وتكون له قريحةٌ بعد هذا. فإذا كانَ هكذا فله أنْ يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكنْ هكذا، فليس له أن يفتي".
فليت من يتكلم في القرآن والدين من أهل زماننا يتورع من مخافة ربه، ومن هول عذابه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
416
٤٣٤٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" وقدموا لأنفسكم"، فالخيرَ.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدموا لأنفسكم ذكرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٥٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن عطاء - قال: أراه عن ابن عباس:-" وقدموا لأنفسكم"، قال: يقول:"بسم الله"، التسمية عند الجماع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية ما روينا عن السدي، وهو أن قوله:" وقدموا لأنفسكم"، أمرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه بتقديم الخير والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم، عُدّةً منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب، فإنه قال تعالى ذكره: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) [سورة البقرة: ١١٠ وسورة المزمل: ٢٠].
(١) في المطبوعة: "قال: التسمية عند الجماع يقول: بسم الله" على التقديم والتأخير.
417
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره عقَّب قوله:" وقدموا لأنفسكم" بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه. فكان الذي هو أولى بأن يكون قبلَ التهدُّد على المعصية - إذ كان التهدُّد على المعصية عامًّا - الأمرُ بالطاعة عامًّا. (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بالطاعة بقوله:" وقدِّموا لأنفسكم"، من قوله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"؟
قيل: إن ذلك لم يقصد به ما توهمتَه: وإنما عنى به: وقدموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين"، وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله ﷺ فأجيبوا عنه، مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات. ثم قال تعالى ذكره: قد بيّنا لكم ما فيه رَشَدكم وهدايتكم إلى ما يُرضي ربكم عنكم، فقدِّموا لأنفسكم الخيرَ الذي أمركم به، واتخذوا عنده به عهدًا، لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم = واتقوه في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تُضِيعوها، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم، فَمُجازٍ المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. (٢)
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "الذي هو أولى بأن يكون قبل التهدد عامًا" وفي المطبوعة: "التهديد"، وهي جملة غير مستقيمة، فحذفت"الذي" وزدت: "إذ كان التهدد على المعصية"، ليستقيم معنى الكلام وسياقه.
(٢) في المطبوعة: "فمجازي" بالياء في آخره. والصواب ما أثبت.
418
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا تحذيرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه: أن يأتوا شيئًا مما نهاهم عنه من معاصيه = وتخويفٌ لهم عقابَه عند لقائه، كما قد بيَّنا قبل = وأمرٌ لنبيه محمد ﷺ أن يبشر من عباده، بالفوز يوم القيامة وبكرامة الآخرة وبالخلود في الجنة، من كان منهم محسنًا مؤمنًا بكتبه ورسله، وبلقائه، مصدِّقًا إيمانَه قولا بعمله ما أمره به ربُّه، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه، وبتجنُّبه ما أمره بتجنُّبه من معاصيه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم".
فقال بعضهم: معناه: ولا تجعلوه عِلَّة لأيمانكم، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس قال:"عليّ يمين بالله ألا أفعل ذلك" - أو"قد حلفت بالله أن لا أفعله"، فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله.
* ذكر من قال ذلك:
(١) انظر ما سلف، مقالة الطبري في"ملاقو ربهم" ٢: ٢٠- ٢٢.
419
٤٣٥١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:" ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يعتلّ بيمينه، يقول الله:" أن تبرُّوا وتتقوا" هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح، وإن حلفت كفَّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خيرٌ لك.
٤٣٥٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله = إلا أنه قال: وإن حلفت فكفِّر عن يمينك، وافعل الذي هو خير.
٤٣٥٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول:"قد حلفت". قال: يكفّر عن يمينه:" ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم".
٤٣٥٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا"، يقول: لا تعتلُّوا بالله، أن يقول أحدكم إنه تألَّى أن لا يصل رَحمًا، (١) ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدَّق من ماله. مهلا مهلا بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيء من نذروكم ولا أيمانكم.
٤٣٥٥ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبر، فإذا قيل له، قال:"قد حلفتُ".
(١) تألى الرجل: أقسم بالله، ومثله"آل".
420
٤٣٥٦ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله:" ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير، الأمرَ الحسن، يقول:"حلفت"! قال الله: افعل الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضةً.
٤٣٥٧ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية: هو الرجل يحرّم ما أحل الله له على نفسه، فيقول:"قد حلفت! فلا يصلح إلا أن أبرَّ يميني"، فأمرهم الله أن يكفّروا أيمانهم ويأتوا الحلال. (١)
٤٣٥٨ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، أما" عُرضة"، فيعرض بينك وبين الرجل الأمرُ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله. وأما" تبرُّوا"، فالرجل يحلف لا يبرُّ ذا رحمه فيقول:"قد حلفت! "، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبَرَّه، ولا يبالي بيمينه. وأما" تصلحوا"، فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه، فيحلف أن لا يصلح بينهما، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه. وهذا قبل أن تنزل الكفَّارات. (٢)
٤٣٥٩ - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين، فلا يمنعه يمينُه.
* * *
(١) الأثر: ٤٣٥٧- في المطبوعة: "حدثت عن عمار بن الحسن، قال سمعت أبا معاذ" وهو خطأ صرف والصواب من المخطوطة، وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: ٤٣٢٤. و"الحسين" هو"الحسين بن الفرج".
(٢) انظر كلام أبي جعفر في هذا الأثر فيما بعد ص: ٤٢٦.
421
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير.
* ذكر من مال ذلك:
٤٣٦٠ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير.
٤٣٦١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا".
٤٣٦٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. يقول: فليفعل، وليكفِّر عن يمينه.
٤٣٦٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن إبراهيم النخعي في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: لا تحلف أن لا تتقي الله، ولا تحلف أن لا تبرَّ ولا تعمل خيرًا، ولا تحلف أن لا تصل، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطَع.
٤٣٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن سعيد بن جبير = ومغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله
422
عرضة" الآية، قالا هو الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يتقي، ولا يصلح بين الناس. وأمِر أن يتقي الله، ويصلحَ بين الناس، ويكفّر عن يمينه.
٤٣٦٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله، وليدع يمينه. (١)
٤٣٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية، قال: ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه، ويصل رحمه، ويأمر بالمعروف، ويصلح بين الناس.
٤٣٦٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم.
٤٣٦٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: حُدثت أن قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، الآية، نزلت في أبي بكر، في شأن مِسْطَح.
٤٣٦٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية، قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يصل رحمه.
(١) الأثر: ٤٣٦٥- هو في المخطوطة إسناد واحد جاء هكذا: "حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح... " والذي في المطبوعة هو الصحيح، وهما إسنادان دائران في التفسير. الأول منهما أقربه رقم: ٤١٣٢ والثاني منهما أقربه رقم: ٣٨٧٢
423
٤٣٧٠ - حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. فلا يمنعه يمينه. (١)
٤٣٧١ - حدثني ابن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبى سلمة، عن سعيد، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرًا، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. نهاهم الله عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، تأويلُ من قال: معنى ذلك:"لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس".
* * *
وذلك أن"العُرْضة"، في كلام العرب، القوة والشدة. يقال منه:"هذا الأمر عُرْضة لك" (٢) يعني بذلك: قوة لك على أسبابك، ويقال:"فلانة عُرْضة للنكاح"، أي قوة، (٣) ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ، عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُولُ (٤)
يعني بـ "عرضتها": قوتها وشدتها.
* * *
(١) الأثر: ٤٣٧٠- هذا الأثر ليس في المخطوطة في هذا المكان، وهو الصواب. وهو مكرر الذي مضى برقم: ٤٣٥٩- وفي المطبوعة هنا"فلا ينفعه يمينه" وهو خطأ ظاهر. وكأن أولى أن يحذف ولكني أبقيته للدلالة على اختلاف النسخ.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "عرضة له" وأثبت ما هو أولى بالصواب.
(٣) أخشى أن يكون الصواب الجيد: "أي قرية".
(٤) ديوانه: ٩، وسيأتي في التفسير ٥: ٧٩/١١: ١٠٨/٢٧: ٦٢ (بولاق) من قصيدته المشهورة. نضح الرجل بالعرق نضحا، فض به حتى سال سيلانًا. ونضاحة: شديدة النضح. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن، وهو من الناس والحيوان جميعا: العظم الشاخص خلف الأذن. وسيلان عرقها هناك، ممدوح في الإبل. والطامس: الدارس الذي أمحى أثره. والأعلام: أعلام الطريق، تبنى في جادة الطريق ليستدل بها عليه إذا ضل الضال. وأرض مجهولة: إذا كان لا أعلام فيها ولا جبال، فلا يهتدي فيها السائر. يقول: إذا نزلت هذه المجاهل، عرفت حينئذ قوتها وشدتها وصبرها على العطش والسير في الفلوات.
424
فمعنى قوله تعالى ذكره:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" إذًا: لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس، فليحنث في يمينه، وليبرَّ، وليتق الله، وليصلح بين الناس، وليكفّر عن يمينه.
* * *
وترك ذكر"لا" من الكلام، لدلالة الكلام عليها، واكتفاءً بما ذُكر عما تُرِك، كما قال أمرؤ القيس:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيكَ وَأَوْصَالِي (١)
بمعنى: فقلت: يمين الله لا أبرح، فحذف"لا"، اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
وأما قوله:" أن تبروا"، فإنه اختلف في تأويل"البر"، الذي عناه الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم: هو فعل الخير كله. وقال آخرون: هو البر بذي رحمه، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى. (٢)
* * *
وأولى ذلك بالصواب قول من قال:"عني به فعل الخير كله". وذلك أن أفعال الخير كلها من"البر"، ولم يخصص الله في قوله:" أن تبرُّوا" معنى دون معنى من معاني"البر"، فهو على عمومه، والبر بذوي القرابة أحد معاني"البر".
* * *
وأما قوله:" وتتقوا"، فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في
(١) ديوانه: ١٤١ وسيأتي في التفسير ١٣: ٢٨ (بولاق) وهو من قصيدته التي لا تبارى وهي مشهورة وما قبل البيت وما بعده مشهور.
(٢) انظر ما سلف في معاني"البر" ٢: ٨/ ثم ٣: ٣٣٦- ٣٣٨، ٥٥٦.
425
فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدَّوْها. وقد ذكرنا تأويل من تأوَّل ذلك أنه بمعنى"التقوى" قبل. (١)
* * *
وقال آخرون في تأويله بما:-
٤٣٧٢ - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:" أن تبروا وتتقوا" قال: كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس" الآية. قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضًا بي، تحلفون بي وأنتم كاذبون، ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم، فذلك قوله:" أن تبروا وتتقوا"، الآية. (٢)
* * *
وأما قوله:" وتصلحوا بين الناس"، فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مَأثَم فيه، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه.
* * *
وأما الذي ذكرنا عن السدي: من أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول كفارات الأيمان، (٣) فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة. والخبر عما كان، لا تدرك صحته إلا بخبر صادق، وإلا كان دعوى لا يتعذر مِثلها وخلافها على أحد. (٤)
وغير محال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بيان كفارات الأيمان في"سوره المائدة"، واكتفى بذكرها هناك عن إعادتها ههنا، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجبَ من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف.
* * *
(١) انظر الآثار رقم: ٤٣٦١، ٤٣٦٣، ٤٣٦٤.
(٢) الأثر: ٤٣٧٢- هو الأثر السالف رقم: ٤٣٦١ وتتمته.
(٣) يعني الأثر السالف رقم: ٤٣٥٨.
(٤) في المخطوطة"لا يبعد مثلها... " غير منقوطة كأنها"لا سعد"، والذي في المطبوعة أجود.
426
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله سميع" لما يقوله الحالفُ منكم بالله إذا حلف فقال:"والله لا أبر ولا أتقي ولا أصلح بين الناس"، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم ="عليم" بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، ألخير تريدون أم غيره؟ لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور، لا تخفى عليّ خافية، ولا ينكتم عني أمر عَلَن فطهر، أو خَفي فبَطَن.
وهذا من الله تعالى ذكره تهدُّد ووعيدٌ. يقول تعالى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه - أو تضمروا في أنفسكم وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات بفعل ما زجرتكم عنه، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفتكموها، فإنّي مطَّلع على جميع ما تعلنونه أو تُسرُّونه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، وفي معنى"اللغو".
فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين. وذلك كقول القائل:"فعلت هذا والله، أو: أفعله والله، أو: لا أفعله والله"، على سبوق المتكلم بذلك لسانُه، بما وصل به كلامه من اليمين. (١)
(١) قوله: "سبوق مصدر"سبق" لم يرد في كتب اللغة، ولكن أبا جعفر قد كرر استعماله. وانظر ما سلف في هذا الجزء ٤: ٢٨٧ والتعليق: ٤، وما سيأتي: ٤٥٦، تعليق: ٤
427
* ذكر من قال ذلك:
٤٣٧٣ - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هي"بلى والله"، و"لا والله".
٤٣٧٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله"، و"بلى والله".
٤٣٧٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة نحوه.
٤٣٧٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لغو اليمين، قالت: هو"لا والله" و"بلى والله"، ما يتراجع به الناس. (١)
٤٣٧٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله" و"بلى والله".
٤٣٧٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله" و"بلى والله"، يصل بها كلامه.
٤٣٧٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين،
(١) راجعه الكلام مراجعة، وتراجعا القول: هو معاودة الكلام وجوابه أو التلازم في الأمور، كقوله تعالى: ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾ أي يتلاومون.
428
قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"؟ قالت: هو"لا والله"، و"بلى والله"، ليس مما عقَّدتم الأيمان.
٤٣٨٠ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: أتيت عائشة مع عبيد بن عمير، فسألها عبيد عن قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فقالت عائشة: هو قول الرجل:"لا والله" و"بلى والله"، ما لم يعقد عليه قلبه.
٤٣٨١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثَبِير، فسألها عبيد عن لغو اليمين، قالت:"لا والله" و"بلى والله".
٤٣٨٢ - حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال، حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو قول الرجل في بيته:"كلا والله" و"بلى والله". (١)
٤٣٨٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(١) الأثر: ٤٣٨٢- محمد بن موسى بن نفيع الحرشي البصري روى عنه الترمذي والنسائي وقال النسائي"صالح" وذكره ابن حبان في الثقات، ووهاه أبو داود وضعفه. مات سنة ٢٤٨. وكان في المطبوعة: "الحرسي" وهو تصحيف. وحسان بن إبراهيم الكرماني العنزي قاضي كرمان. روى عن سعيد بن مسروق وسفيان بن سعيد الثوري، وعنه حميد بن مسعدة وغيره. قال أحمد: "حديثه حديث أهل الصدق". وقال النسائي"ليس بالقوي" مات سنة ١٨٦. و"إبراهيم الصائغ" هو: إبراهيم بن ميمون الصائغ، روى عن عطاء وغيره. قال أبو حاتم: "لا بأس به، يكتب حديثه". قتله أبو مسلم الخراساني سنة ١٣١ يعرندس، قال أبو داود: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء سيبها.
هذا وقد روى هذا الحديث أبو داود في سننه ٣: ٣٠٤ رقم: ٣٢٥٤ عن حميد بن مسعدة، عن حسان بن إبراهيم.. " ثم قال: "روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات عن إبراهيم الصائغ موقوفا على عائشة وكذلك رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول وكلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا". ورواه مالك في الموطأ: ٢: ٤٧٧ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا، كما سيأتي في روايات الطبري. ورواه البخاري موقوفًا أيضًا (١١: ٤٧٦ فتح الباري) واستقصى الحافظ القول فيه. وانظر سنن البيهقي ١٠: ٤٨ وما بعدها.
429
معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت: هم القوم يتدارءون في الأمر، فيقول هذا:"لا والله، وبلى والله، وكلا والله"، يتدارءون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم. (١)
٤٣٨٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، يصل به كلامه، ليس فيه كفارة.
٤٣٨٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن الشعبي قال: هو الرجل يقول:"لا والله، وبلى والله"، يصلُ حديثه.
٤٣٨٦ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال، سألت عامرًا عن قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو"لا والله، وبلى والله".
٤٣٨٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = جميعًا، عن ابن عون، عن الشعبي مثله.
٤٣٨٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب قال، قال أبو قلابة في:"لا والله، وبلى والله"، أرجو أن يكون لغة = وقال يعقوب في حديثه: أرجو أن يكون لغوًا = وقال ابن وكيع في حديثه: أرجو أن يكون لغة، ولم يشك. (٢)
٤٣٨٩ - حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد قالوا، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: لا والله، وبلى والله.
(١) تدارأ القوم في الأمر: اختلفوا فيه، فتخاصموا وتدافعوا وتراجعوا القول بينهم.
(٢) يعني بقوله هنا: "لغة" أي لغة من لغات العرب، وأسلوبا من أساليبهم في القول كقولهم: "قالك الله""ويحك" لا يريدون الدعاء عليه، فهذا أيضًا لا يريد اليمين، إنما يريد التوثيق في كلامه.
430
٤٣٩٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن مالك، عن عطاء، قال: سمعت عائشة تقول في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله، وبلى والله".
٤٣٩١ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عطاء مثله.
٤٣٩٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو قول الناس:"لا والله، وبلى والله".
٤٣٩٣ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي وعكرمة قالا"لا والله وبلى والله".
٤٣٩٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فسألها، فقالت:"لا والله، وبلى والله".
٤٣٩٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، وأشعث، عن عطاء، عن عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت:"لا والله، وبلى والله".
٤٣٩٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:"لا والله، وبلى والله".
٤٣٩٧ - حدثنا ابن وكيع وهناد قالا حدثنا يعلى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: قالت عائشة في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت: هو قولك:"لا والله، وبلى والله"، ليس لها عَقد الأيمان.
٤٣٩٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، يصل به كلامه، ما لم يشك شيئًا يعقِد عليه قلبه.
٤٣٩٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو، أن
431
سعيد بن أبي هلال حدثه: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عائشة تقول: لغو اليمين قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، فيما لم يعقد عليه قلبه.
٤٤٠٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عمرو = وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي، عن عطاء، عن عائشة بذلك.
٤٤٠١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما:"والله لا أبيعك بكذا وكذا"، ويقول الآخر:"والله لا أشتريه بكذا وكذا"، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به.
* * *
وقال آخرون: بل اللغو في اليمين، اليمينُ التي يحلفُ بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك، وأنه بخلاف الذي حلف عليه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٠٢ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني ابن نافع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين، حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك.
٤٤٠٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، واللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًا، وليس بحق.
٤٤٠٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، هذا في الرجل يحلف على أمرِ إضرارٍ أن يفعله فلا يفعله، (١) فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. ومن اللغو أيضًا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق، وقد أخطأ في يمينه، (٢) فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه
(١) في المخطوطة"إصرارًا" وفي الدر المنثور ١: ٢٦٩"أو لا يفعله" وسيأتي برقم: ٤٤٦٣ مختصرًا.
(٢) في الدر المنثور: "وقد أخطأ في ظنه"، وهي أشبه بالصواب والمخطوطة والمطبوعة مجتمعان على"في يمينه" وانظر تعليق الطبري فيما سيأتي على هذا الأثرن وقوله في تفسيره وبيانه: ص: ٤٤٥ وما بعدها.
432
٤٤٠٥ - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: خطأ غير عَمد.
٤٤٠٦ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية،" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء، وأنت يُخيَّل إليك أنه كما حلفت، وليس كذلك. فلا يؤاخذه الله ولا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم.
٤٤٠٧ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن قال: هو الرجل يحلف على اليمين، لا يرى إلا أنه كما حلف.
٤٤٠٨ - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك، وليست كذلك.
٤٤٠٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشي، وهو يرى أنه كذلك، فلا يكون كما قال، فلا كفارة عليه.
٤٤١٠ - حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع قالوا، حدثنا وكيع، عن سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري =، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشيء لا يرى إلا أنها كما حلف عليه، وليست كذلك.
433
٤٤١١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف.
٤٤١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، حلِف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه، فلا يكون كما حلف، كقوله:"إن هذا البيت لفلان"، وليس له = و"إن هذا الثوب لفلان"، وليس له.
٤٤١٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق.
٤٤١٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. قال: فلا يؤاخذكم بذلك. قال: وكان يحبّ أن يُكفّر.
٤٤١٥ - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو، لا يؤاخذ به. (١)
٤٤١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور،
(١) الأثر: ٤٤١٥-"الجعفي" هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي. قال أحمد: "ما رأيت أفضل من حسين وسعيد بن عامر". قال العجلي: "ثقة، وكان صالحًا لم أر رجلا قط أفضل منه، وكان صحيح الكتاب. يقال إنه لم يطأ أنثى قط، وكان جميلا. وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه، فكان أروى الناس عنه. وكان الثوري إذا رآه عانقه وقال: هذا راهب جعفي". مات سنة ٢٠٣ (التهذيب).
434
عن إبراهيم نحوه = إلا أنه قال: إن حلفت على الشيء، وأنت ترى أنك صادق، وليس كذلك.
٤٤١٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك أنه قال: اللغو، الرجل يحلف على الأيمان، وهو يرى أنه كما حلف. (١)
٤٤١٨ - حدثني إسحاق بن [إبراهيم بن] حبيب بن الشهيد قال، (٢) حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن زياد قال: هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق.
٤٤١٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثنا بكير بن أبي السميط، عن قتادة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الخطأ غير العمد، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك.
٤٤٢٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، ويونس، عن الحسن قال: اللغو، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، فليس عليه فيه كفارة.
٤٤٢١ - حدثنا هناد وابن وكيع = قال هناد: حدثنا وكيع، وقال ابن وكيع: حدثني أبي = عن عمران بن حدير قال: سمعت زرارة بن أوفى قال: هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف.
٤٤٢٢ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عمر بن بشير قال: سئل عامر عن هذه الآية:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"،
(١) في المطبوعة: "أبو إدريس"، والصواب من المخطوطة، وهو: عبد الله بن إدريس الأودي سلفت ترجمته فراجعه في الفهرست.
(٢) الزيادة بين القوسين للبيان، واتفقت المخطوطة والمطبوعة على إسقاط"إبراهيم بن" ولكنه مضى دائما بتمامه، وأقربه رقم: ٤٣٧٣. فلذلك أتممته.
435
قال: اللغو أن يحلف الرجل لا يألو عن الحق، فيكون غير ذلك. فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به. (١)
٤٤٢٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فاللغو اليمين الخطأ غير العمد، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه، ثم لا يكون كذلك. فهذا لا كفارة عليه ولا مأثم فيه.
٤٤٢٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، أما اللغو: فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنها كذلك، فلا تكون كذلك. فليس عليه كفارة.
٤٤٢٥ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو اليمين الخطأ في غير عمد: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه. وهذا ما ليس عليه فيه كفارة.
٤٤٢٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق، فذلك اللغو.
٤٤٢٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك مثله = إلا أنه قال: الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو.
٤٤٢٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح،
(١) الأثر: ٤٤٢٢- عمر بن بشير الهمداني أبو هانئ روى عن الشعبي. روى عنه وكيع وأبو نعيم قال أحمد: "صالح الحديث" وقال ابن معين: "ضعيف" وقال أبو حاتم: "ليس بقوي يكتب حديثه". مترجم في الجرح والتعديل. و"عامر" هو عامر الشعبي مضى مرارًا.
436
عن يحيى بن سعيد، وعن ابن أبي طلحة - كذا قال ابن أبي جعفر - (١) قالا من قال:"والله لقد فعلت كذا وكذا" وهو يظن أن قد فعله، ثم تبيَّن له أنه لم يفعله، فهذا لغو اليمين، وليس عليه فيه كفارة.
٤٤٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الخطأ غيرُ العمد، كقول الرجل:"والله إن هذا لكذا وكذا"، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك = قال معمر: وقاله قتادة أيضًا.
٤٤٣٠ - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال: سئل سعيد عن اللغو في اليمين، قال سعيد، وقال مكحول: الخطأ غيرُ العمد، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم.
٤٤٣١ - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه.
٤٤٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، (٢) فلا يؤاخذ به، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب، فذاك، الذي يؤاخذ به.
* * *
وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب،
(١) هكذا جاء هذا الإسناد في المخطوطة والمطبوعة، ولم أستطع أن أتبين صوابه، فأبقيته كما هو حتى يتبين مما يأتي كيف كان صوابه. وأخشى أن يكون قد سقط بين الكلامين إسناد آخر.
(٢) في المخطوطة: "أنه صادق" بحذف"فيه".
437
على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلةً للكلام.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٣٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن خالد، عن عطاء، عن وَسيم، [عن طاوس]، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. (١)
٤٤٣٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاوس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان، فلا كفَّارة عليه فيها، قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" (٢)
* * *
(١) الأثر: ٤٤٣٣- مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، روى عنه البخاري وهو متقن ثقة، مات سنة ٢١٩، مترجم في التهذيب. و"خالد" هو: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي. قال البخاري في الكبير ٢/١/١٤٧: "قال علي: سماع خالد عن عطاء بن السائب أخيرًا، وسماع حماد بن زيد من عطاء صحيح". مات سنة ١٨٢ ومترجم في التهذيب. و"عطاء" هو عطاء ابن السائب. و"وسيم" مترجم في الجرح والتعديل ٤/٢/٤٦، والكبير للبخاري ٤/٢/١٨١ وقال: "وسيم" عن طاوس عن ابن عباس، في يمين اللغو. قاله خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب". وفي المطبوعة: "رستم" وهو خطأ. وفي المطبوعة والمخطوطة إسقاط"عن طاوس" والصواب ما أثبته بين القوسين. كما نص عليه البخاري، وكما رواه البيهقي.
وهذا الخبر أشار إليه البخاري في الكبير كما نقلنا عنه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ٤٩، من طريق سعيد بن منصور"عن خالد عن عطاء بن السائب، عن وسيم عن طاوس، عن ابن عباس". فالظاهر من هذا كله -ومما سيأتي- أنه سقط من نسخ الطبري هنا"عن طاوس" بين"وسيم" و"ابن عباس".
وذكره ابن كثير ١: ٥٢٧، من تفسير ابن أبي حاتم بإسناده من طريق مسدد"حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس". فالظاهر أنه وقع سقط في مطبوعة ابن كثير، بحذف"عن وسيم" بين عطاء وطاوس.
وذكره أيضًا السيوطي ١: ٢٦٩ ونسبه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي"من طريق طاوس عن ابن عباس".
وهذا الخبر شاهد جيد للحديث المرفوع من حديث ابن عباس الآتي: ٤٤٣٥.
(٢) الأثر: ٤٤٣٤-"أبو حمزة" هو: محمد بن ميمون المرزوي، أبو حمزة السكري مات سنة: ١٦٦.
وهذا الخبر من كلام طاوس يؤيد روايته السابقة عن ابن عباس. وهو شاهد آخر للحديث المرفوع التالي له.
438
وعلة من قال هذه المقالة، ما:-
٤٤٣٥ - حدثني به أحمد بن منصور المروزي قال، حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال، حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمين في غضب". (١)
* * *
وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: الحلفُ على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٣٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: هو الذي يحلف على المعصية، فلا يفي ويكفِّر يمينه، قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".
(١) الحديث: ٤٤٣٥- هذا إسناد صحيح. أحمد بن منصور بن راشد، أبو صالح الحنظلي المرزوي شيخ الطبري: ثقة.
عمر بن يونس بن القاسم اليمامي: ثقة ثبت، وثقه أحمد وابن معين.
سليمان بن أبي سليمان الزهري اليمامي: ثقة ترجمه البخاري في الكبير ٢/٢/٢٠، وذكر أنه روى عن يحيى بن أبي كثير وأنه سمع منه عمر بن يونس. ثم لم يذكر فيه حرجًا. وترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/١٢٢ بنحو ترجمة البخاري، ثم روى عن أبيه أبي حاتم أنه قال: "هو شيخ ضعيف". وذكره ابن حبان في الثقاتوقال: "ربما خالف". كما نقل عنه الحافظ في لسان الميزان ٣: ٩٥. وقد خلط بعضهم بينه وبين راو آخر ضعيف جدًا، هو"سليمان بن داود اليمامي" لأنه يكثر الرواية عن يحيى بن أبي كثير. ولكن هذا غير ذاك كما فرق بينهما البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وحقق ذلك الحافظ في لسان الميزان. ولكن كلام الحافظ يوهم أن البخاري ضعف الراوي هنا، لأنه زعم أن أبا حاتم تبع البخاري في ذلك. والبخاري لم يذكر جرحًا في الكبير ولا ترجمه في الصغير ولا ذكره في الضعفاء. فالحق أنه ثقة.
وهذا الحديث لم أجده في مكان آخر، إلا أنه ذكره الحافظ في الفتح ١١: ٤٩٠ ونسبه للطبراني في الأوسط، ثم قال: "وسنده ضعيف". ولم أجده في مجمع الزوائد. وإنما ضعفه الحافظ فيما أرى والله أعلم- بأنه ذهب إلى تضعيف سليمان بن أبي سليمان. وأنا أخالفه في ذلك، كما بينت من قبل.
439
٤٤٣٧ - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير قال: لغو اليمين: أنْ يحلِف الرجل على المعصية لله، لا يؤاخذه الله بإلغائها. (١)
٤٤٣٨ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن جبير بنحوه = وزاد فيه، قال: وعليه كفارة. (٢)
٤٤٣٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون، عن داود، عن سعيد بنحوه.
٤٤٤٠ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله أن يكفِّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير.
٤٤٤١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة = عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها.
٤٤٤٢ - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا إسحاق، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند قال، حدثنا خالد بن إلياس، عن أم أبيه: أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها - ابنة أبي الجهم - فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير فقالوا: لا يمين في معصية، ولا كفارة عليها. (٣)
٤٤٤٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "بإيفائها" والصواب ما أثبت. وانظر ص: ٤٤١ تعليق: ١
(٢) في المطبوعة: "وعليه كفارة" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ٤٤٤٢- الحسن بن الصباح البزار الواسطي روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي كان ثقة صاحب سنة، مات سنة ٢٤٩. وخالد بن إلياس بن صخر أبو الهيثم العدوي قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه.
440
الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: فكيف يصنع؟ قال: يكفر عن يمينه ويترك المعصية.
٤٤٤٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الحرام، فلا يؤاخذه الله بتركه.
٤٤٤٥ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال في لغو اليمين قال: هي اليمين في المعصية، قال: أو لا تقرأ فتفهم؟ قال الله: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) [سورة المائدة: ٨٩]، قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. (١) قال: وقال:" لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" إلى قوله:" فإنّ الله غفور حليم". (٢)
٤٤٤٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها، ويكفِّر.
٤٤٤٧ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن مسروق، في الرجل يحلف على المعصية، فقال: أيكفِّر خُطوات الشيطان؟ ليس عليه كفارة.
٤٤٤٨ - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل ذلك.
(١) في المطبوعة: "بالإيفاء" وفي المخطوطة: "بالإيفاد" والصواب"بالإلغاء" ألغى الشيء: أبطله وأسقطه. وتم على الأمر تمامًا: استمر عليه وأنفذه.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "والله غفور حليم" سها الكاتب، وهذا صواب القراءة.
441
٤٤٤٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، في الرجل يحلف على المعصية، قال: كفارتها أن يتوب منها.
٤٤٥٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي أنه كان يقول: يترك المعصية ولا يكفر، ولو أمرتُه بالكفارة لأمرته أن يَتِمّ على قوله.
٤٤٥١ - حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر، عن مسروق قال: كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها، فليس فيها كفارة.
* * *
وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-
٤٤٥٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله ﷺ قال: من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية لله فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رَحِمٍ فلا يمينَ له". (١)
٤٤٥٣ - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينِ قطيعةِ رحم أو معصية لله، فبِرُّه أن يحنَث بها ويرجع عن يمينه. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٤٤٥٢- رواه الحاكم في المستدرك ٤: ٣٠٠ من طريق الحسن بن علي بن عفان العامري. والبيهقي في السنن الكبرى ١٠: ٢٣ من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي- كلاهما عن أبي أسامة، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "عبد الرحمن: متروك" وقال أبو حاتم: "شيخ" و"عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة": ثقة كما مضى في: ٣٨٢٧.
ومعنى الحديث ثابت من أوجه كثيرة، مجموعًا ومفرقًا في المسند: ٦٧٣٢، ٦٧٨٠، ٦٧٨١، ٦٩٣٢، ٦٩٩٠.
(٢) الحديث: ٤٤٥٣- هذا حديث ضعيف جدًا.
علي بن مسهر القرشي الكوفي الحافظ: ثقة ثبت، ممن جمع الحديث والفقه أخرج له. الأئمة الستة.
حارثة بن محمد: هو حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن يروي عن جدته أم أبيه عمرة بنت عبد الرحمن وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير ٢/١/٨٧، والصغير: ١٧٤، والضعفاء: ١١-"منكر الحديث" وقال أحمد: "ضعيف ليس بشيء". وقال البخاري في الصغير: "لم يعتد أحمد بحارثة بن أبي الرجال".
والحديث لم أجده في شيء من المراجع.
442
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصَل الرجل بها كلامه، على غير قصدٍ منه إيجابَها على نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٥٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: لغو اليمين، أن يصل الرجل كلامه بالحلف:"والله ليأكلن، والله ليشربن" ونحو هذا، لا يتعمد به اليمين، ولا يريد به حلفًا. ليس عليه كفارة.
٤٤٥٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم: لغو اليمين، ما يصل به كلامه:"والله لتأكلن، والله لتشربن".
٤٤٥٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم"، قال: هما الرجلان يتساومان بالشيء، فيقول أحدهما:"والله لا أشتريه منك بكذا"، ويقول الآخر:"والله لا أبيعك بكذا وكذا".
٤٤٥٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدثه: أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: أيمان اللغو، ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب. (١)
* * *
(١) أخشى أن يكون الصواب: "لا يعقد عليه... ".
443
وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-
٤٤٥٨ - حدثنا به محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي قال، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال: مرَّ رسول الله ﷺ بقوم ينتضلون - يعني: يرمون - ومع النبي ﷺ رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت! فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله! قال: كلا أيمان الرُّماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة. (١)
* * *
وقال آخرون: اللغو من الأيمان، ما كان من يمينٍ بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه: إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٥٩ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو كقول الرجل:"أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا - أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدًا"، فهو هذا، ولا يترك الله له مالا ولا ولدًا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئًا.
(١) الحديث: ٤٤٥٨- محمد بن موسى بن نفيع الحرشي شيخ الطبري: ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وقال النسائي: "صالح".
عبيد الله بن ميمون المرادي: لا أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. وفي ابن كثير - عن هذا الموضع: "عبد الله" بدل"عبيد الله" فلا أدري أيهما الصحيح. والحسن بن أبي الحسن: هو الحسن البصري.
وهذا الحديث نقله ابن كثير ١: ٥٢٧ عن هذا الموضع. وقال: "هذا مرسل حسن، عن الحسن" ولعله أعجبه الجناس والسجع أما المرسل فإنه ضعيف، لجهالة الواسطة بعد التابعي كما هو معروف.
ونقله السيوطي أيضًا ١: ٢٦٩ ولم ينسبه لغير الطبري.
444
٤٤٦٠ - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن زيد بن أسلم بمثله.
٤٤٦١ - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، مثل قول الرجل:"هو كافر، وهو مشرك". قال: لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه.
٤٤٦٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو في هذا: الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول:"هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا"، فهذا اللغو الذي قال الله في"سورة البقرة".
* * *
وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه، ويأتي الذي هو خير. (١)
٤٤٦٤ - حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفرة.
* * *
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيًا.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر: ٤٤٦٣- هو مختصر الأثر السالف رقم: ٤٤٠٤ وانظر التعليق هناك.
445
٤٤٦٥ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرني مغيرة، عن إبراهيم قال: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه، يعني في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".
* * *
قال أبو جعفر: و"اللغو" من الكلام في كلام العرب، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا، (١) يقال منه:"لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا" إذا قال قبيحًا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [سورة القصص: ٥٥]، وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان: ٧٢]. ومسموع من العرب:"لَغَيْتُ باسم فلان"، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح. فمن قال:"لَغَيْت"، قال:"ألْغَى لَغًا"، وهي لغة لبعض العرب، ومنه قول الراجز: (٢)
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّم عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (٣)
فإذا كان"اللغو" ما وصفت، وكان الحالفُ بالله:"ما فعلت كذا" وقد فعل،"ولقد فعلتُ كذا" وما فعل - واصلا بذلك كلامه على سبيل سُبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، (٤) ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام = والقائلُ:"والله إنّ هذا لَفُلان" وهو يراه كما قال، أو:"والله ما هذا فلان! " وهو يراه ليس به = والقائلُ:"ليفعلنّ كذا والله - أو: لا يفعل كذا والله" على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام وسبوق اللسان للعادة، (٥) على غير تعمد
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وفعلا" وهي كلمة محرفة بلا شك، والصواب فيما أرجح وسقطا" لم يجد الناسخ قراءتها فحرفها. و"السقط": الخطأ، وما تسقطه فلا تعتد به. وهجر يهجر هجرًا: إذا خلط في كلامه وهذي وأفحش. والكلام مهجور.
(٢) هو رؤية بن العجاج.
(٣) مضى تخريج هذا الرجز في ٣: ٤٨٨- ٤٨٩.
(٤) انظر التعليق على قوله"سبوق" فيما سلف من هذا الجزء: ٢٨٧، تعليق: ٤/ وص: ٤٢٧
(٥) انظر التعليق على قوله"سبوق" فيما سلف من هذا الجزء: ٢٨٧، تعليق: ٤/ وص: ٤٢٧
446
حلف على باطل = والقائل:"هو مشرك، أو هو يهودي أو نصراني، إن لم يفعل كذا - أو إن فعل كذا" من غير عزم على كفر أو يهودية أو نصرانية = (١) جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق، (٢) وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثمَ قلوبهم = (٣) كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيمانهم، لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الآجل، لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عبادَه، بما لغوا من أيمانهم، وأنّ الذي هو مؤاخذهم به، ما تعمدت فيه الإثمَ قلوبُهم.
وإذ كان ذلك كذلك = وكان صحيحًا عن رسول الله ﷺ أنه قال:"من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه"، فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه، مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامةُ في المال - أو إلزام الجزاء من المجزيِّ أبْدالَ الجازين = (٤) لا شك عقوبةً كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالا لخلقه فيما تعدَّوا من حدوده، وإن كان
(١) سياق هذه الجمل التي وضعت قبلها الخطوط: فإذا كان اللغو ما وصفت، وكان الحالف... والقائل... والقائل... والقائل... جميعهم قائلون... "
(٢) الهجر من الكلام (بضم الهاء وسكون الجيم) : القول السيء القبيح والتخليط والفحش.
(٣) قوله: "كان معلومًا... " جواب قوله: "وإذا كان اللغو ما وصفت وكان الحالف بالله... " وقوله: "لغاة" جمع"لاغ" مثل"قاض وقضاة".
(٤) في المطبوعة: "أبدان الجارين" وفي المخطوطة"أبدان الجازين" زكأن الصواب ما أثبت فإنه يعني بهذا، ما فرضه الله تعالى في قوله في سورة المائدة: ٩٥
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾
وقد فسر الطبري الجزاء هناك (٧: ٢٨) فقال: "وعليه كفارة بدل". فقوله هنا: "المجزي" يعني الصيد المقتول الذي يكون جزاؤه مثله من النعم، وقوله"من المجزي" يعني"بدلا منه". والأبدال هنا هي الكفارات. والجازي: المكفر عن قتله الصيد بمثله من النعم.
447
يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه = (١) كان بينًا أنّ من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنِث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه، فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجَّل من عقوبته إياه على ذلك، مُسْقطًا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغيرُ جائز لقائل أن يقول وقد وأخذه بها: هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله.
فإذ كان ذلك غيرَ جائز، فبيِّنٌ فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال:"اللغو الحلف على المعصية"، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن على الحالف على معصية الله كفارة بحِنْثه في يمينه. وفي إيجاب سعيدٍ عليه الكفارة، دليلٌ واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ، لما وصفنا من أن من لزمه الكفارة في يمينه، فليس ممن لم يؤاخذ بها.
فإذا كان"اللغو" هو ما وصفنا = مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به - وكلُّ يمين لزمت صاحبَها بحنثه فيها الكفارةُ في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبةَ عليها في الآجل، وإن كان وَضَع عنه كفارتها في العاجل - فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين. وما عدا ذلك فهو"اللغو"، وقد بينا وجوهه = (٢) فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون قوةً لأيمانكم، (٣) وحجة لأنفسكم في إقسامكم، في أن لا تبرُّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لَغَتْه ألسنتكم من أيمانكم فنطقت به من قبيح
(١) سياق هذه الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا عن رسول الله... وكانت الغرامة في المال... كان بينًا أن... "
(٢) سياق هذه الجملة: فإذ كان اللغو هو ما وصفنا... وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه... فهي مما كسبته قلوب الحالفين... فتأويل الكلام إذا... "
(٣) في المطبوعة: "عرضة لأيمانكم" والصواب ما أثبت من المخطوطة.
448
الأيمان وذميمها، على غير تعمُّدكم الإثم، وقصدِكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عَقْد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمان على ما حلفتم عليه بقصدٍ منكم وإرادة، (١) فيلزمكم حينئذ إمّا كفارة في العاجل، وإمّا عقوبة في الآجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" عبادَه أنه مؤاخذهم به، (٢) بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله:" بما كسبت قلوبكم"، ما تعمدت. (٣)
فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به: هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٦٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ بها. وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.
(١) "الإتمام على ما حلفتم" يعني الاستمرار عليه وإمضاءه. وقد سلف آنفًا في كلامه"التمام عليها" ص ٤٤١ و"تم على قوله" في الأثر: ٤٤٥٠ ولكنه استعمل هنا"الإتمام" من"أتم على الأمر" وليست في كتب اللغة ولكنها جائزة في العربية، صحيحة في قياسها.
(٢) "عباده" مفعول: "أوعد الله تعالى... "
(٣) انظر تفسير"الكسب" فيما سلف ٢: ٢٧٣-٢٧٤/ ثم ٣: ١٠٠، ١٠١، ١٢٨، ١٢٩.
449
٤٤٦٧ - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، قال: أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.
٤٤٦٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، أن تحلف وأنت كاذب.
٤٤٦٩ - حدثني المثنى قال، [حدثنا عبد الله بن صالح] حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) [سورة المائدة: ٨٩]، وذلك اليمين الصبر الكاذبة، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم، أو يرد ذلك المال إلى أهله، وهو قوله تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران: ٧٧]. (١)
٤٤٧٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، ما عَقَدتْ عليه.
٤٤٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٤٤٧٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال:
(١) الأثر: ٤٤٦٩- الآية التي في صدر هذا الأثر، هي آية المائدة وأخشى أن يكون الصواب ما تن فيه من آية البقرة ولكن المطبوعة والمخطوطة اتفقتا جميعا على ذلك. بيد أني أرجح ما قلت، لأن أبا جعفر روى في تفسير آية المائدة (٧: ١١ بولاق) عن"المثنى قال حدثنا عبد الله بن صالح... " إلى آخر إسناده إلى ابن عباس ثم ذكر آية المائدة ولم يأت فيها بنص هذا الأثر. وقد أسقط في المخطوطة والمطبوعة ما وضعته بين القوسين، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ٤٤٦٣.
وقوله: "اليمين الصبر" الأجود أن تكون"يمين الصبر" بحذف التعريف، وإن كانت هذه جائزة حسنة. ويمين الصبر: هي اليمين التي يمسكك الحاكم عليها حتى تحلف وإن حلف إنسان بغير إحلافن لم تكن"يمين صبر".
450
لا تؤاخذ حتى تُصْعِد للأمر، (١) ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فتعقد عليه يمينك.
* * *
= قال أبو جعفر: والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوًا، فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجبُ فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل. (٢)
وإذ كان ذلك تأويلَ الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: (٣) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، (٤) واحفظوا أيمانكم.
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفًا. (٥)
* * *
(٦)
(١) في المطبوعة: "تقصد لأمر" والإصعاد: الإقبال على الشيء والتوجه له، ومنه قول حسان بن ثابت في خيل:
[يُبَارِينَ الأَْعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ عَلَى أَكتَافِهَا الأَسَلُ الظَّمَاءُ]
يعني مقبلات متوجهات نحوكم.
(٢) انظر ما سلف الأثر رقم: ٤٤٠٤.
(٣) سورة المائدة: ٨٩.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم واحفظوا" فأثبت الكلمة التي أغفلها الناسخ من الآية. ويعني الطبري أن قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" من المقدم الذي يراد به التأخير، ولذلك ساق الآية بنصها إلا هذه الجملة، فأخرها إلى مكانها على معنى تأويلهم هذا.
(٥) هي الآثار السالفة من: ٤٤٣٦.
وإلى هذا الموضع انتهى تقسيم قديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا وجاء فيها ما نصه.
"يتلوه: وَقال آخَرُونَ: المَعْنَى الذِي أَوْعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤَاخذةَ.
وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِي وَآلِهِ كَثِيرًا * * *
على الأصل المنقول منه
بَلَغْتُ بِالسمَاعِ مِنْ أوله بِقرَاءَتي عَلَى القَاضِي أبي الحَسَن الخِصيبي، عنْْ أبي محمد الفرغَاني، عَنْ أبي جعفر الطبريّ - وَأخِي عليّ حرسه الله، ومحمد بن علي ألا... ونَصر بن الحسين الطبري ومحمد بن محمد بن أحمد بن عيسى السعدي- في شعبام سنة ثمان وَأَربع مئة".
(٦) أوله في المخطوطة:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحِيمِ
رَبّ يَسِّرْ"
451
وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عبادَه المؤاخذةَ بهذه الآية، (١) هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا. وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف، وليس ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٧٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، يقول: بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة.
٤٤٧٣ م - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله سواء.
* * *
(١) في المطبوعة: "المؤاخذة به بهذه الآية" والذي في المخطوطة أجود.
452
وكأنَّ قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل مؤاخذة الله عبدَه على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذةٌ منه له بها بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمينَ الفاجرةَ، منهم عطاءٌ والحكم.
٤٤٧٤ - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء والحكم، أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبًا متعمدًا: يكفِّر.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارةَ منه، والآخر منهما مؤاخذٌ به في الآخرة إلا أن يعفو.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٧٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" أمَّا،" ما كسبت قلوبكم" فما عقدت قلوبكم، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادةَ أن يقضي أمرَه. والأيمان ثلاثة:"اللغو، والعمد، والغَموس". والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل، ثم يرى خيرًا من ذلك، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان"، فهذه لها كفارة.
* * *
وكأنَّ قائل هذه المقالة، وجَّه تأويل قوله:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، إلى غير ما وجَّه إليه تأويل قوله:" ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، وجعل قوله:" بما كسبت قلوبكم"، الغموسَ من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله:" بما عقدتم الأيمان"، اليمينَ التي يستأنف فيها الحِنث أو البرَّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرَّ فيها.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك: هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.
* ذكر من قال ذلك:
453
٤٤٧٦ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد - يعني ابن عجلان -: أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، مثل قول الرجل:"هو كافر، هو مشرك"، قال: لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه. (١)
٤٤٧٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو في هذا، الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول:"هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا"، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في"سورة البقرة":" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، قال: بما كان في قلوبكم صدقًا، واخذك به. فإن لم يكن في قلبك صدقًا لم يؤاخذك به، وإن أثمتَ. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده، وذلك يكون منها على وجهين:
أحدهما: على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثمًا، وبفعله مستحقًا المؤاخذةَ من الله عليها. وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله، قاصدًا قِيلَ الكذب، (٣) وذاكرًا أنه قد فعل ما حلف
(١) الأثر: ٤٤٧٦- هو الأثر السالف رقم: ٤٤٦١.
(٢) الأثر: ٤٤٧٧- هو تمام الأثر السالف رقم: ٤٤٦٢.
(٣) في المخطوطة"أصل الكذب" خطأ من ناسخ لم يحسن قراءة الأصل، وفي المطبوعة: "القيل الكذب" والصواب الجيد ما أثبت.
454
عليه أنه لم يفعله، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء واخذه به في الآخرة، وإن شاء عفا عنه بتفضله، ولا كفارة عليه فيها في العاجل، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث، فتلزم فيه الكفارة. (١)
والوجه الآخر منهما: على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله غفورٌ" لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء وَاخذهم بها = ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، (٢) ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، (٣) وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها، وغير ذلك من ذنوبهم ="حليمٌ" في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وإنما الكفارة تجب" ولكن المخطوطة قد وضعت بين الكلمتين علامة هكذا"~" هي التي تدل على تقديم آخر الكلمتين على الأولى.
(٢) في المطبوعة"ولما واخذهم بها" والصواب من المخطوطة. والسياق. "والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم.. ولما واخذهم به.
(٣) قوله: "فساتر" عطف عليه قوله: "والله غفور".
455
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" للذين يؤلون"، للذين يقسمون أليَّة،"والألية" الحلف، كما:-
٤٤٧٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله:" للذين يؤلون"، يحلفون.
* * *
يقال:"آلى فلان يُؤْلي إيلاء وأليَّة"، كما قال الشاعر:
كَفَيْنَا مَنْ تَغَيَّبَ في تُرَابٍ وَأَحْنَثْنَا أَليَّةَ مُقْسِمِينَا (١)
ويقال:"أَلْوة وأُلْوة"، كما قال الراجز:
* يَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَتِي * (٢)
وقد حكي عنهم أيضًا أنهم يقولون:"إلوة" مكسورة الألف.
* * *
"والتربص": النظر والتوقف.
* * *
ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر"أن يعتزلوا"، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته.
(١) لم أجد البيت ولم أعرف قائله. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "من تراب" وصواب معناه يقتضي ما أثبت.
(٢) لم أجد هذا الرجز. وفي المطبوعة: "ما ألوى" والصواب من المخطوطة.
456
فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته: أن يحلف عليها في - حال غضب على وجه الضِّرار - أن لا يجامعها في فرجها، (١) فأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير غضب، فليس هو موليًا منها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٧٩ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن حريث بن عميرة، عن أم عطية قالت، قال جبير: أرضعي ابن أخي مع ابنك! فقالت: ما أستطيع أن أرضع اثنين! فحلف أن لا يقرَبها حتى تفطِمه. فلما فطمته مرّ به على المجلس، فقال له القوم: حسنًا ما غَذَوْتموه! قال جبير: إنيّ حلفت ألا أقربها حتى تفطمه! فقال له القوم: هذا إيلاءٌ!! فأتى عليًا فاستفتاه، فقال: إن كنتَ فعلت ذلك غضبًا فلا تصلح لك امرأتك، وإلا فهي امرأتك. (٢)
٤٤٨٠ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، أنه سمع عطية بن جبير قال: توفيت أمُّ صبيٍّ نسيبةٌ لي،
(١) في المطبوعة: "على وجه الإضرار لها". والضرار: إلحاق الضرر بها، وفي الموضع التالي: "الإضرار" في المطبوعة والمخطوطة.
(٢) الآثار: ٤٤٧٩- ٤٤٨٥- خبر سماك ذكره البخاري في الكبير ٤/١/١٢"عطية بن جبير العنزي قاله شعبة عن سماك. وقال سفيان عن سماك عن أبي عطية بن جبير. وقال أبو الأحوص عن حريث بن عميرة عن أم عطية: أن جبيرا حلف فأتى عليًا". وفي الجرح والتعديل ١/٢/٢٦٢: "حريث بن عميرة روى عن أم عطية. روى عنه سماك بن حرب في رواية أبي الأحوص عن سماك عنه. وروى إبراهيم بن طهمان عن سماك عن حريث عن عطية بن جبير عن أبيه قال: قلت لعلي - سمعت أبي يقول ذلك". وذكره ابن أبي حاتم أيضًا في الجرح والتعديل ٣/١٣٨١- ٣٨٢: "عطية بن جبير العنزي" واختلف فيه الرواة من سماك بن حرب. فقال شعبة عن سماك عن عطية بن جبير، قال قلت لعلي رضي الله عنه. وروى أبو الأحوص عن سماك عن حريث بن عمير عن عطية عن علي. وروى حماد بن سلمة عن سماك، عن أم عطية عن علي. وروى سفيان الثوري عن سماك عن أبي عطية بن جبير، عن علي - سمعت أبي يقول بعض ذلك وبعضه من قبلي"
ورواه البيهقي في السنن ٧: ٣٨١- ٣٨٢ من طريق داود بن أبي هند عن سماك عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية أنه تزوج امرأة أخيه وهي ترضع بابن أخيه" ورواه من طريق عبيد الله بن معاذ، عن أبيه عن شعبة عن سماك عن عطية بن جبير قال: كانت أمي ترضع صبيًا... "
457
فكانت امرأة أبي تُرضعه، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه. فلما مضت أربعة أشهر قيل له: قد بانت منك! - وأحسب، شك أبو جعفر، قال -: فأتى عليًا يستفتيه فقال: إن كنت قلت ذلك غضبًا فلا امرأة لك، وإلا فهي امرأتك.
٤٤٨١ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني سماك قال، سمعت عطية بن جبير - يذكر نحوه عن علي.
٤٤٨٢ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال، حدثنا داود، عن سماك، عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية: أنه توفي أخوه وترك ابنًا له صغيرًا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه! فقالت: إنى أخشى أن تُغِيلهما، (١) فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا: لَحُسْنَ ما غذا أبو عطية ابن أخيه! (٢) قال: كلا! زعمت أم عطية أنيّ أغيلهما، فحلفتُ أن لا أقربها حتى تفطمهما. فقالوا له: قد حرُمت عليك امرأتك! فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه، فقال علي: إنما أردتَ الخيرَ، وإنما الإيلاء في الغضب.
٤٤٨٣ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك، عن أبي عطية: أن أخاه توفي - فذكر نحوه.
٤٤٨٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب: أن رجلا هلك أخوه فقال لامرأته: أرضعي
(١) أغالت المرأة ولدها، وأغال فلان ولده: إذ غشى أمه وهو ترضعه. واسم لبنها ذاك"الغيل" كانوا يقولون: إذا شربه الولد ضوى واعتل منه، واسم الفعل"الغيلة" (بكسر الغين) وفي سني البيهقي: "إني أخشى أن تغتاله" وهي اشتقاق منها، لم يرد في كتب اللغة.
(٢) في المطبوعة: "غذي" وما في المخطوطة أجود وقوله: "لحسن" أصلها"حسن" فعل (بفتح الحاء وضم السين) فنقل إلى معنى المدح فخففت السين وسكنت ونقلت حركتها إلى الحاء قال سهم بن حنظلة الغنوي:
لم يمْنِعْ النَّاسُ مِنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا أُعْطِيهِمُ مَا أَرَادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا
فهي بمنزلة"نعم وبئس".
458
ابن أخي. فقالت: أخاف أن تقع عليّ! فحلف أن لا يمسَّها حتى تفطِم. فأمسك عنها، حتى إذا فطمته أخرج الغلامَ إلى قومه، فقالوا: لقد أحسنت غذاءه! فذكر لهم شأنه، فذكروا امرأته، قال: فذهب إلى علي - فاستحلفه بالله:"ما أردت بذلك؟ "، يعني إيلاءً، قال: فردَّها عليه.
٤٤٨٥ - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، (١) حدثنا المحاربي، عن أشعث بن سوار، عن سماك، عن عطية بن أبي عطية قال، توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعًا، وكنت رجلا معسرًا، لم يكن بيدي ما أسترضع له. قال: فقالت لي امرأتي، وكان لي منها ابن ترضعه - إن كفيتني نفسَك كفيتكهما! فقلت: وكيف أكفيك نفسي؟ قالت: لا تقربني. فقلت: والله لا أقربك حتى تفطميهما. قال: ففطمتهما وخرجا على القوم، فقالوا: ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما! قال: فقصصت عليهم القصة، فقالوا: ما نراك إلا آليت منها وبانت منك! قال: فأتيت عليًا فقصصت عليه القصة، فقال: إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء.
٤٤٨٦ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.
٤٤٨٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.
٤٤٨٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن وكيع، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب. (٢)
(١) هكذا في المخطوطة والمطبوعة. وأظن الصواب"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني" شيخ الطبري. ولم أجد في شيوخه: "علي بن عبد الأعلى". وانظر ما سيأتي رقم: ٤٦٦٩.
(٢) الأثر: ٤٤٨٨-"عبد الرحمن" هو عبد الرحمن بن مهدي. "أبو وكيع" هو: الجراح ابن مليح الرؤاسي. قال أبو داود: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وسئل الدارقطني عنه فقال: ليس بشيء هو كثير الوهم. قيل: يعتبر به؟ قال: لا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "ابن وكيع" وهو خطأ. وانظر المحل لابن حزم ١٠: ٤٥ و"أبو فزارة" هو: راشد بن كيسان العبسي. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن حبان: مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة. وله عند مسلم حديث واحد.
459
٤٤٨٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن عليّ قال: لا إيلاء إلا بغضب. (١)
٤٤٩٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، أن عليا قال: إذا قال الرجل لامرأته وهي تُرضع:"والله لا قرَبتُك حتى تفطمي ولدي"، يريد به صلاحَ ولده، قال: ليس عليه إيلاء.
٤٤٩١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ فقال: إني قلت لامرأتي لا أقرَبُها سنتين. قال: قد آليت منها. قال: إنما قلت لأنها ترضع! قال: فلا إذًا.
٤٤٩٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن علي أنه كان يقول: إنما الإيلاء ما كان في غضب، يقول الرجل:"والله لا أقربك، والله لا أمسُّك! ". فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره، فإنه لا يكون إيلاء، ولا تَبِين منه. (٢)
٤٤٩٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حفص، عن الحسن: أنه سئل عنها فقال: لا والله، ما هو بإيلاء.
(١) الأثر: ٤٤٨٩- مختصر رقم: ٤٤٨٢ من طريق آخر، وانظر التعليق السالف على الأثر رقم: ٤٤٧٩.
(٢) الأثر: ٤٤٩٢- طريق آخر لحديث أبي عطية السالف رقم: ٤٤٨٢ وانظر التعليق على الأثر: ٤٤٧٩.
460
٤٤٩٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا بشر بن منصور، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إذا حلف من أجل الرَّضاع فليس بإيلاء.
٤٤٩٥ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: سألت ابن شهاب عن الرجل يقول: والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي! قال: لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله، فيما يريد المرء أن يضارَّ به امرأتَه من اعتزالها، ولا نعلم فريضةَ الإيلاء إلا على أولئك، فلا ترى أنّ هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده، أقسم إلا على أمر يتحرَّى به فيه الخير، فلا نرى وَجبَ على هذا ما وجب على المولي الذي يُولِي في الغضب.
* * *
وقال آخرون: سواءٌ إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها، كان حلفه في غضب أو غير غضب، كلّ ذلك إيلاء.
* ذكر من قال ذلك:
٤٤٩٦ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم - في رجل قال لامرأته:"إن غَشِيتُك حتى تفطمي ولدَك فأنت طالق"، فتركها أربعة أشهر. قال: هو إيلاء.
٤٤٩٧ - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي قال: كل شيء يحول بينه وبين غشيانها، فتركها حتى تمضي أربعة أشهر، فهو داخلٌ عليه.
٤٤٩٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيًا، فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها، فقال: ما أرى هذا بغضب، وإنما الإيلاء في الغضب = قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا
461
الذي يحدِّثون؟! إنما قال الله:" للذين يؤلون من نسائهم" إلى" فإن الله سميع عليم"، إذا مضت أربعة أشهر، فليخطبها إن رغب فيها. (١)
٤٤٩٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم - في رجل حلفَ أن لا يكلم امرأته - قال: كانوا يرون الإيلاء في الجماع.
٤٥٠٠ - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، قال: كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعه أشهر، فهي إيلاء.
٤٥٠١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل وأشعث، عن الشعبي مثله.
٤٥٠٢ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء.
* * *
وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مَسَاءة امرأته، فهي إيلاء منه منها، على الجماع حلف أو غيره، في رضًا حلف أو سخط.
* ذكر من قال ذلك:
٤٥٠٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن خصيف، عن الشعبي قال: كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، إذا قال:"والله لأغضبنَّك، والله لأسوأنَّك، والله لأضربنَّك"، وأشباه هذا.
(١) الأثر: ٤٤٨٩- حبان بن موسى بن سوار السلمي، أبو محمد المرزوي روى عن ابن المبارك وأبي حمزة السكري وغيرهما، وعنه البخاري ومسلم. ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة ٢٣٣. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة والمطبوعة: "حسان بن موسى" وقد مضى على الصواب في رقم: ٢٩١٤ وسيأتي على الصواب في رقم: ٤٥٢٨. و"أبو عوانة" هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة. وسئل ابن المبارك: من أروى الناس -أو أصح الناس- حديثًا عن مغيرة؟ قال: أبو عوانة. مترجم في التهذيب.
462
٤٥٠٤ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن أبي ذئب العامريّ: أن رجلا من أهله قال لامرأته:"إن كلمتك سنة فأنت طالق"، واستفتى القاسم وسالمًا فقالا إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمها فهي طالقٌ إذا مضت أربعة أشهر.
٤٥٠٥ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، سمعت حمادًا قال، قلت لإبراهيم: الإيلاء: أن يحلفَ أن لا يجامعها ولا يكلمها ولا يجمع رأسه برأسها، أو ليغضبنَّها، أو ليحرِمنَّها، أو ليسوأنَّها؟ قال: نعم.
٤٥٠٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم عن رجل قال لامرأته:"والله لأغيظنك"! فتركها أربعة أشهر، قال: هو إيلاء.
٤٥٠٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، سمعت شعبة قال: سألت، الحكم فذكر مثله.
٤٥٠٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنا يونس قال، قال ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب: (١) أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يومًا أو شهرًا، قال: فإنا نرى ذلك يكون إيلاءً. وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها، فكان يمسُّها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفَيْءُ، أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها. فمن فعل ذلك، قبل أن تمضي الأربعة أشهر، (٢) فقد فاء. ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عِدَّتها، فقد فاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطليقة.
* * *
(١) في المطبوعة: "حدثني سعيد بن المسيب أنه قال إن حلف... " والصواب من المخطوطة بحذف"قال".
(٢) في المطبوعة: "الأربعة الأشهر" والذي في المخطوطة صواب في العربية لا بأس به.
463
قال أبو جعفر: وعلة من قال:"إنما الإيلاء في الغضب والضَرار": أنّ الله تعالى ذكره إنما جعل الأجلَ الذي أجَّل في الإيلاء مخرجًا للمرأة من عَضْل الرجل وضراره إياها، (١) فيما لها عليه من حُسن الصحبة والعِشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلا ولا مُضارًا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبًا بذلك رضاها، وقاضيًا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك مُوليًا، لأنه لا معنى هنالك لَحِق المرأةَ به من قِبَل بعلها مساءةٌ وسوء عشرة، (٢) فيجعل الأجل - الذي جُعل للمولي - لها مخرجًا منه. (٣)
* * *
وأما علة من قال:"الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء"، عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" بعضًا دون بعض، بل عمّ به كلَّ مُولٍ ومُقسِم. فكل مقسِم على امرأته أن لا يغشاها مدةً هي أكثر من الأجل الذي جَعل الله له تربُّصه، فمُولٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مُولٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جُعل له تربُّصه.
* * *
وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم: أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدَّه للمُولي مخرجًا للمرأة مِن سوء عشرتها بعلها إياها وضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقرَبها، بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضِّرار، من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءَها أو يغيظها. لأن كل ذلك ضررٌ عليها وسوء عشرة لها.
* * *
(١) العضل من الزوج لامرأته: أن يضارها ولا يحسن عشرتها، فهو لا يعاملها معاملة الأزواج ولا يتركها تتصرف في نفسها.
(٢) في المطبوعة: "يلحق المرأة" والصواب من المخطوطة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "الذي جعل المولى" وصواب السياق يقتضي ما أثبت. والضمير في"منه" راجع إلى"لا معنى هنالك".
464
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب، قولُ من قال: كل يمين منَعت المقسم الجماعَ أكثر من المدة التي جعل الله للمولي تربُّصَها، قائلا في غضب كان ذلك أو رضًا. وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.
وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا (كتاب اللطيف) بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن رجعوا إلى ترك ما حلَفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن، فجامعوهن وحنِثوا في أيمانهم ="فإن الله غفورٌ"، لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهُن، ولما سلف منهم إليهن، (١) من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه ="رحيم" بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين.
* * *
وأصل"الفيء"، الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [سورة الحجرات: ٩]، يعني: حتى ترجع إلى أمر الله. ومنه قول الشاعر: (٢)
فَفاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ وَمِنْ حَاجَةِ الإنْسَانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا (٣)
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وبما سلف" والسياق يتطلب ما أثبت.
(٢) هو سحيم عبد بني الحسحاس.
(٣) ديوانه: ١٩ وحماسة ابن الشجري: ١٦٠ وغيرهما من قصيدته الغراء العجيبة وقد مضى منها بيت فيما سلف ١: ١٠٦ن ٤٤٧. والضمير في قوله: "ففاءت" إلى صاحبته التي ذكرها وذكر ما بينه وبينها. ورواية الطبري وابن الشجري أحب إي من رواية الديوان: "ولم تقض الذي هو أهله". يقول: عادت إلى أهلها وقد أضاعت ما كانت مزمعة أن تفعله، أنساها حبه وغزله ما كانت نوته وإرادته. فيعزيها بأن المرء ربما طلب قضاء شيء ويشاء الله غيره فإذا هو لا يقتضيه.
465
يقال منه:"فاء فلان يفيء فَيْئة" - مثل"الجيئة" و"فَيْأ". و"الفَيْئة" المرة. (١) فأما في الظلّ فإنه يقال:"فاء الظلّ يفيء فُيُوءًا وفَيْأ"، وقد يقال:"فيوءًا" أيضًا في المعنى الأول، (٢) لأن"الفيء" في كل الأشياء بمعنى الرجوع.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيًا.
فقال بعضهم: لا يكون فائيًا إلا بالجماع.
* ذكر من قال ذلك:
٤٥٠٩ - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع.
٤٥١٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع. (٣)
٤٥١١ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.
٤٥١٢ - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.
(١) يريد أنه بناء المرة الواحدة إلا أنه وضع موضع المصدر مثل: "الرجفة والرحمة" والاسم من ذلك"الفيئة والجئة" (بكسر الفاء والجيم منهما).
(٢) أكثر كتب اللغة تجعل"الفيوء" مصدرًا في المعنى الأول ولا تجعله مصدرًا في معنى الظل. وما قاله الطبري حسن وثيق.
(٣) الأثر: ٤٥١٠- يزيد بن زياد بن أبي الجعد الأشجعي الغطفاني مولى لهم، روى عن الحكم بن عتيبة وعاصم الجحدري وعمه عبيد بن أبي الجعد، وأخيه سلمة بن زياد وغيرهم. وعنه وكيع وابن نمير وأبو نعيم وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان في المطبوعة"يزيد بن أبي زياد عن أبي الجعد" والصواب من المخطوطة.
466
٤٥١٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق قال: الفيءُ الجماع.
٤٥١٤ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق مثله.
٤٥١٥ - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع.
٤٥١٦ - حدثنا تميم بن المنتصر قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر بمثله.
٤٥١٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: الفيء الجماع.
٤٥١٨ - حدثنا أبو عبد الله النشائي قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير مثله. (١)
٤٥١٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: الفيءُ الجماع، لا عذرَ له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيدٌ القائل.
٤٥٢٠ - حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن جبير أنه قال: لا عذرَ له حتى يغشى.
٤٥٢١ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حماد وإياس، عن الشعبي = قال أحدهما: عن مسروق = قال: الفيء الجماع = وقال الآخر: عن الشعبي: الفيء الجماع.
(١) الأثر: ٤٥١٨-"أبو عبد الله النشائي" هو محمد بن حرب بن حرمان النشائي، ويقال النشاستجي، أبو عبد الله الواسطي. روى عن إسماعيل بن علية ومحمد بن يزيد الواسطي وإسحاق بن يوسف الأزرق وغيرهم. مات سنة ٢٥٥. مترجم في التهذيب.
467
٤٥٢٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته، ثم شغله مرض - قال: لا عذر له حتى يغشى.
٤٥٢٣ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها، فيعرض له عارضٌ يحبسه، أو لا يجد ما يَسُوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر، أنها أحق بنفسها.
٤٥٢٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته، ثم أراد أن يفيء، فلا فيء إلا الجماع.
* * *
وقال آخرون:"الفيء": المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع.
* ذكر من قال ذلك:
٤٥٢٥ - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذرٌ فأشهد، فذاك له = يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرضٌ أو طريق، فأشهد على مراجعة امرأته.
٤٥٢٦ - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم قال: تذاكرنا أنا والنخعي ذاك، (١) فقال النخعي: إذا كان له عذر فأشهد، فقد فاء. وقلت أنا: لا عذر له حتى يغشى. فانطلقنا إلى أبي وائل، فقال: إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد، جاز. (٢)
(١) في المطبوعة: "ذلك" وأثبت ما في المخطوطة وهما سواء.
(٢) الأثر: ٤٥٢٦-"أبو وائل" وهو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي أدرك رسول الله ﷺ ولم يره. وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وغيرهم من الصحابة والتابعين.
قال الأعمش قال لي أبو وائل: يا سليمان لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد فوقعت من البعير فكادت تندق عنقي! فلو مت يومئذ كانت النار! قال: وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. ومات بعد الجماجم سنة ٨٣. مترجم في التهذيب.
468
٤٥٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إنْ آلى، ثم مرض أو سُجن أو سافر فراجع، فإنّ له عذرًا أن لا يجامع = قال: وسمعت الزهري يقول مثل ذلك.
٤٥٢٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النفساء يُولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارِب، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا: إذا لم يستطع كفَّر عن يمينه، وأشهد على الفيء. (١)
٤٥٢٩ - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: نزل به ضيفٌ فآلى من امرأته فنفست، (٢) فأراد أن يفيء، فلم يستطع أن يقرَبها من أجل نفاسها، فأتى علقمة فذكر ذلك له، فقال: أليس قد فئتَ بقلبك ورَضيت؟ قال: بلى! قال: فقد فئت! هي امرأتك!
٤٥٣٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم: أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال: أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال: بلى! قال: فهي امرأتك.
٤٥٣١ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، أخبرنا عامر،
(١) الأثر: ٤٥٢٨- انظر"حبان بن موسى" فيما سلف الأثر رقم: ٤٤٩٨. وقوله: "هذه في محارب" يعني قبيلة محارب الذين منهم أبو الشعثاء المحاربي: "سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي" سيظهر في الآثار التالية، ولا سيما الأثر رقم: ٤٥٣٥ فقد ذكر صاحب الإيلاء هناك.
(٢) نفست المرأة (بالبناء للمجهول) ونفست (بفتح فكسر) نفسًا (بفتحتين) ونفاسًا: ولدت. وأصله من"النفس" (بفتح فسكون) وهو: الدم وسميت بذلك لما يكون مع الولد وبعده من الدم.
469
عن الحسن قال: إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر، قال: يُشهد أنه قد فاء، وهي امرأته.
٤٥٣٢ - حدثنا عمران قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا عامر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بمثله.
٤٥٣٣ - حدثنا ابن بشار = قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنى أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: وحدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة قال: إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع، فله أن يُشهد على رَجْعتها.
٤٥٣٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته، فشغله أمر، فأشهد على مراجعة امرأته، قالا إذا كان له عذرٌ فذاك له.
٤٥٣٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء، فحدَّث أن رجلا من بني سعد بن همّام آلى من امرأته فنُفِست، فلم يستطع أن يقرَبها، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال: إذا أشهد فهي امرأته.
٤٥٣٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: إن كان له عذرٌ فأشهد، فذلك له - يعني المُولي من امرأته.
٤٥٣٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء، عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنُفِست - قالوا: إذا أشهد فهي امرأته.
٤٥٣٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال:
470
إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء، فليشهد على فَيْئه. وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته، فليشهد على فيئه. فإن أشهدَ وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها، فهي امرأته. وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر، فقد بانتْ منه.
٤٥٣٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب: أنه إذا آلى الرجل من امرأته، قال: فإن كان به مرضٌ ولا يستطيع أن يمسَّها، أو كان مسافرًا فحبس، قال: فإذا فاء وكفَّر عن يمينه، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر، فلا نراه إلا قد صلح له أن يُمسك امرأته، ولم يذهب من طلاقها شيء. قال، وقال ابن شهاب - في رجل يُولي من امرأته، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال: نرى، والله أعلم، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته، بعد أن يشهد على ذلك، ويكفِّر عن يمينه، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقًا.
٤٥٤٠ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفيء الجماع. فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبًا أو كان محرمًا أو شيء له فيه عذر، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا، فإنّ ذلك له فيءٌ إن شاء الله.
* * *
وقال آخرون:"الفيء" المراجعة باللسان بكلّ حال.
* ذكر من قال ذلك:
471
٤٥٤١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيم قال: الفيء أن يفيء بلسانه.
٤٥٤٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن قال: الفيء الإشهاد. (١)
٤٥٤٣ - حدثنا المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن مثله.
٤٥٤٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن فاء في نفسه أجزأه، يقول: قد فاء.
٤٥٤٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن رجاء قال: ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال: أرأيت إن لم ينتشر ذكره؟ إذا أشهدَ فهي امرأته.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اختلف المختلفون في تأويل"الفيء" على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون"إيلاءً".
فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون موليًا من امرأته الإيلاءَ الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيءَ الرجوعَ إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماعُ في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه = وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداثَ النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه، (٢)
(١) الأثر: ٤٥٤٢-"زياد الأعلم" هو زياد بن حسان بن قرة الباهلي روى عن أنس والحسن وابن سيرين. وعنه عون والحمادان. وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم. وقال أحمد: "ثقة ثقة" قال أبو حاتم: "هو من قدماء أصحاب الحسن". وقال الدارقطني: "هو قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
(٢) في المطبوعة: "بإحداث النية" وهو خطأ صرف صوابه من المخطوطة. وقوله"فإحداث" منصوب عطفًا على قوله: "جعل الفيء الرجوع... " بمعنى أنه إذا لم يقد عليه ولم يمكنه، جعل الفيء إحداث النية.
472
وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون، (١) في قول من قال ذلك.
* * *
وأما قولُ من رأى أنّ الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائقَ له عذرًا، ولم يجعل له مخرجًا من يمينه غيرَ الرجوع إلى ما حلف على تركه، وهو الجماع.
* * *
وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليًا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءَها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوعُ إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه، وإبداء ذلك بلسانه، (٢) في كل حال عزم فيها على الفيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا، قولُ من قال:"الفيء هو الجماع"، لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء، (٣) فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا. (٤) لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه، كان الفيء إلى ذلك، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه، (٥) وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي
(١) في المطبوعة: "وأبدى" وهو خطأ مخل بالكلام، لم يحسن قراءة الخط القديم، وهو"وابدا" وظنه فعلا كالذي سبقه قوله: "وإبداء" منصوب عطفًا على قوله: "فإحداث" كما بينته في التعليق الآنف.
(٢) في المطبوعة: "وأبدى ذلك بلسانه" خطأ فاسد، وانظر التعليق السالف. وقوله: "وإبداء مرفوع معطوف على"الرجوع" في قوله: "فإن الفيء عنده الرجوع... "
(٣) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك" خطأ وضعف والصواب الجيد من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "إلا ما كان الذي آلى... " وهو فساد والصواب من المخطوطة وقوله: "خلافًا" أي مخالفًا، كما سلف مئات من المرات.
(٥) في المطبوعة: "معلومًا أنه... " والذي في المخطوطة جيد صحيح.
473
هو جماعٌ - (١) بعذر، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة (٢). لأن المرء إنما يكون تاركًا = ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائنٍ تاركَهُ.
وإذ كان ذلك كذلك، فإحداث العزم في نفسه على جماعها، مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء، كان أعجبَ إليّ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"فإن الله غفورٌ" لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ ="رحيم" بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن، ثم حنِثتم فيه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٥٤٦ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:" فإن فاءوا فإن الله غفور رحيمٌ"، قال: لا كفارة عليه.
٤٥٤٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا فاء فلا كفَّارة عليه.
٤٥٤٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "هو الجماع" والصواب من المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "فغير جائز تاركًا جماعها" ثم غير في المطبوعة إلى: "فغير كائن تاركًا جماعها" والجيد الذي يدل عليه السياق، زيادة"أن يكون" كما فعلت. وإن كان آخر كلام أبي جعفر قد حسن هذا التغيير الذي جاء في المطبوعة.
474
أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في قول الله:" فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم": أن كفارته فيؤه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجبُ على قول من زعم أنّ كل حانث في يمين هو في المُقام عليها حَرِجٌ، (٢) فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وأن كفارته الحنث فيها.
* * *
وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها [كفارة]، (٣) برًّا كان الحنِث فيها أو غير بِرّ، فإن تأويله:"فإن الله غفور" للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة ="رحيم" بهم، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة، (٤) فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة، كما:-
٤٥٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق" - قال: وتلك رحمة الله! مَلَّكه أمرَها الأربعة الأشهر إلا من معذرة. لأن الله قال: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [سورة النساء: ٣٤]. (٥)
* * *
* ذكر بعض من قال: إذا فاء المولي فعليه الكفارة.
(١) الأثر: ٤٥٤٨-"حبان بن موسى" سلف في هذا الإسناد برقم: ٤٥٢٨، وانظر أيضًا رقم: ٤٤٩٨ والتعليق عليه، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حماد بن موسى" وهو خطأ وتحريف. وانظر ما سيأتي رقم: ٤٥٤٩.
(٢) "حرج": آثم. وقد أسلفنا قول أهل اللغة في هذا الحرف، في الجزء ٢: ٤٢٣ تعليق: ١، ثم في هذا الجزء ٤: ٢٢٤، تعليق: ١
(٣) الزيادة بين القوسين لا بد منها، ويدل عليها سياق التفسير الآتي.
(٤) المهل (بفتح فسكون، وبفتحتين) مصدر"مهلته" وهي كأمهلته: أي أنظرته ولم أعاجله.
(٥) الأثر: ٤٥٤٩- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ٤٥٤٨. و"يحيى بن بشر الخراساني أبو وهب روى عن عكرمة وروى عنه ابن المبارك. قال ابن المبارك: "إذا حدثك يحيى ابن بشر عن إنسان فلا تبالي أن لا تسمعه منه". مترجم في الكبير ٤/٢/٢٦٣ والجرح والتعديل ٤/١٢/١٣. وقد سلف في إسناد الطبري رقم: ٣٦١٩، ٣٦٥٢ ويأتي في رقم: ٤٧٤٩.
475
٤٥٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر"، وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربَّص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
٤٥٥١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال: حدثني يونس قال، حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب بنحوه.
٤٥٥٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم قال: إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر، كفَّر عن يمينه.
٤٥٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النُّفَساء يولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارب، سئل عنها أصحاب عبد الله، فقالوا: إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء. (١)
٤٥٥٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إن فاء فيها كفَّر يمينه، وهي امرأته.
٤٥٥٥ - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٤٥٥٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم
(١) الأثر: ٤٥٥٣- انظر الأثر السالف ٤٥٢٨، ثم الآثار التي تليه والتعليق عليها.
476
في الإيلاء قال: يوقَف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته، وعليه يمين: يكفِّرها إذا حنِث.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك، لما قد بينا من العلل في كتابنا (كتاب الأيمان)، من أن الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف، على معصية كانت اليمين أو على طاعة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره:" وإن عزموا الطلاق".
فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهنّ من العِشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربُّصهم عنهن وعن جماعهن، وعشرتهن في ذلك بالواجب"فإن الله لهم غفور رحيم". وإن تركوا الفيء إليهن، (١) في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهنّ حتى ينقضين، طُلِّق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهن بمضيهن. (٢) ومضيُّهن عند قائلي ذلك: هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي إلى منها.
* * *
(١) في المطبوعة: "فإن تركوا الفيء لليمين... " وهو خطأ غريب فاسد، لم يحسنوا قراءة ما في المخطوطة.
(٢) الضمير في قوله: "بمضيهن" إلى الأشهر الأربعة.
477
ثم اختلف متأوِّلو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة.
فقال بعضهم: هو تطليقة بائنة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٥٥٧ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن خِلاس أو الحسن، عن علي قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. (١)
٤٥٥٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة: أن عليًا وابن مسعود كانا يجعلانها تطليقة، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها = قال قتادة: وقولُ عليّ وعبد الله أعجبُ إليّ في الإيلاء. (٢)
٤٥٥٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنّ عليًا قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة.
٤٥٦٠ - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة: أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي واحدة بائنة.
(١) الأثر: ٤٥٥٧-"أبو هشام" هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي قاضي بغداد يتكلمون فيه. مترجم في التهذيب. ومحمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي روى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر العمري وسعيد بن أبي عروبة. مترجم في التهذيب. و"خلاس" بكسر الخاء وفتح اللام المخففة هو: خلاس بن عمر الهجري البصري. روى عن علي وعمار بن ياسر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه قتادة وعوف الأعرابي وداود بن أبي هند. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(٢) أقوال الصحابة والتابعين في الإيلاء تجدها مستوفاة في نصب الراية ٣: ٢٤١- ٢٤٣، والمحلى لابن حزم ١٠: ٤٢- ٤٩ وسنن البيهقي ٧: ٣٧٦- ٣٨٢ وفتح الباري ٩: ٣٧٥- ٣٧٩ وابن كثير والدر المنثور في تفسير الآية. هذا ولم يستوف أحد ذكر هذه الآثار كما استوفاها أبو جعفر رحمه الله.
478
٤٥٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا عطاء الخراساني قال: سمعني أبو سلمة بن عبد الرحمن أسأل ابن المسيب عن الإيلاء، فمررت به فقال: ما قال لك ابن المسيب؟ فحدثته بقوله، فقال: أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولان؟ قلت: بلى! قال: كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة، وهي أحق بنفسها.
٤٥٦٢ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء الخراساني قال، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عثمان بن عفان قال: إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلى، فتطليقة بائنة.
٤٥٦٣ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن معمر = أو حُدثت عنه = عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد: أنهما كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
٤٥٦٤ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، فمكثت ستة أشهر، فأتى ابن مسعود فسأله، فقال: أعلمها أنها قد مُلِّكت أمرَها. فأتاها فأخبرها، وأصْدقها رطلا من وَرِقٍ.
٤٥٦٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: أنه كان يقول في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي تطليقة بائنة.
٤٥٦٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثل ذلك.
٤٥٦٧ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، قال: فخرج فغاب عنها ستة أشهر، ثم جاء فدخل عليها، فقيل: إنها قد بانت منك! فأتى عبد الله، فذكر
479
ذلك له، فقال له عبد الله: قد بانت منك، فَأتها فأعلمها واخطبها إلى نفسها. (١) فأتاها فأعلمها أنها قد بانت منه، وخطبها إلى نفسها، وأصدقها رِطلا من وَرِق. (٢)
٤٥٦٨ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، عن عطاء قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال، في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.
٤٥٦٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من بني هلال يقال له فلان ابن أنيس = أو: عبد الله بن أنيس = أراد من أهله ما يريد الرجلُ من أهله، فأبت، فحلف أن لا يقرَبها. فطرأ على الناس بعثٌ من الغد، فخرج فغاب ستة أشهر ثم قدم، فأتى أهله ما يرى أن عليه بأسًا! فخرج إلى القوم فحدثهم بسَخَطه على أهله حيث خرج، وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم: فإنها قد حرُمت عليك! فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك، فقال ابن مسعود: أما علمت أنها حرُمت عليك؟ قال لا! قال: فانطلق فاستأذن عليها، فإنها ستنكر ذلك، ثم أخبرها أنّ يمينك التي كنت حلفتَ عليها صارت طلاقًا، وأخبرها أنها واحدة، وأنها أملك بنفسها، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك على ثنتين، وإلا فهي أملكُ بنفسها.
٤٥٧٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال، في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدّ ثلاثة قروء. (٣)
٤٥٧١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان،
(١) في المطبوعة: "وأعلمها واخطبها" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الورق (بفتح الواو، وكسر الراء، أو سكونها- وبكسر الواو وسكون الراء) : هي الفضة والدراهم المضروبة.
(٣) "أبو عبيدة" هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ويقال اسمه"عامر بن عبد الله" ويقال اسمه كنيته. روى عن أبيه ولم يسمع منه. مترجم في التهذيب وغيره.
480
عن منصور والأعمش ومغيرة، عن إبراهيم: أن عبد الله بن أنيس آلى من امرأته، فمضت أربعةُ أشهر، ثم جامعها وهو ناسٍ، فأتى علقمة، فذهب به إلى عبد الله، فقال عبد الله: بانت منك فاخطبها إلى نفسها، فأصدقها رطلا من فضة.
٤٥٧٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب= عن أبي قلابة: أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فضرب ابنُ مسعود فخذَه وقال: إذا مضت أربعة أشهر فاعترفْ بتطليقة. (١)
٤٥٧٣ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر: أن ابن مسعود قال في المُولي: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فقد بانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب.
٤٥٧٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: عَزْم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر.
٤٥٧٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.
٤٥٧٦- حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة. (٢)
٤٥٧٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن جعفر بن برقان، عن
(١) اعترف بالشيء: أقر به.
(٢) في المطبوعة: "حدثنا محمد بن جعفر" أول الإسناد أسقط منه"حدثنا محمد بن المثنى قال" وصوابه من المخطوطة، وهو بين من الإسناد قبله.
481
عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن عكرمة أنه قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة= فذكر ذلك عن ابن عباس. (١)
٤٥٧٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة. (٢)
٤٥٧٩- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.
٤٥٨٠- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير: أن أمير مكة سأله عن المُولي، فقال: كان ابن عمر يقول: إذا مضت أربعة أشهر مُلِّكت أمرها= وكان ابن عباس يقول ذلك.
٤٥٨١- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
٤٥٨٢- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، مثله.
٤٥٨٣ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبى وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبان بن صالح، عن ابن شهاب:
(١) الأثر: ٤٥٧٧-"خالد بن مخلد القطواني". أبو الهيثم البجلي. روى عنه البخاري ومسلم وأبو كريب قال ابن معين: لا بأس بهن مات سنة ٢١٣. مترجم في التهذيب. و"جعفر بن برقان الكلابي". روى عن يزيد الأصم والزهري وعطاء وميمون بن مهران وعبد الأعلى بن ميمون وهو ثقة: وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولكن كانت له رواية وفقه وفتوى مات سنة ١٥٠. مترجم في التهذيب. و"عبد الأعلى بن ميمون" سمع أباه وعكرمة وعطاء، وسمع منه جعفر بن برقان مترجم في الجرح والتعديل ٣/١/٢٧.
(٢) الأثر: ٤٥٧٨- في المطبوعة والمخطوطة"يزيد بن زياد عن أبي الجعد" وقد سلف مثل هذا الخطأ وصححناه فهو"يزيد بن زياد بن أبي الجعد" فيما سلف رقم: ٥١٠: ٠
482
أن قبيصة بن ذؤيب قال في الإيلاء: هي تطليقة بائنة وتأتنف العدة (١) وهي أملكُ بأمرها.
٤٥٨٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن شريح: أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيء؟ فقال شريح:" وإذ عزموا الطلاقَ فإن الله سميع عليم"- لم يزده عليها. فأتى مسروقًا فذكر ذلك له، فقال: يرحم الله أبا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرِّج أحد عنه! وإنما أتاه ليفرِّج عنه! ثم قال: هي تطليقة بائنة، وأنت خاطبٌ من الخطَّاب.
٤٥٨٥- حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة أنه سمع الشعبي، يحدث: أنه شهد شُرَيحًا - وسأله رجل عن الإيلاء - فقال:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" الآية قال: فقمت من عنده، فأتيتُ مسروقًا، فقلت: يا أبا عائشة= وأخبرته بقول شريح، فقال: يرحم الله أبا أمية، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا، منْ كان يفرج عنا مثل هذا! ثم قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.
٤٥٨٦ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم قال، قرأت في كتاب أبي قلابة عند أيوب: سألت سالم بن عبد الله وأبا سلمة بن عبد الرحمن فقالا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه بائنة.
٨٥٨٧ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال، إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة، ويخطبها في العِدَّة.
٤٥٨٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه-
(١) ائتنف الأمر ائتنافًا واستأنفه: أخذ أوله وابتدأه أو استقبله. من"الأنف" (بفتح فسكون) وأنف كل شيء أوله.
483
في الرجل يقول لامرأته:"والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدًا! "، ويحلف أن لا يقربها أبدًا= فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ، كانت تطليقة بائنة، وهو خاطب- قول علي وابن مسعود وابن عباس والحسن.
٤٥٨٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنه سئل عن رجل قال لامرأته:"إن قرَبتُك فأنت طالق ثلاثًا"، قال، فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وسقط ذلك.
٤٥٩٠ - حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل= وحدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع = جميعًا، عن يزيد بن إبراهيم، قال، سمعت الحسن ومحمدًا في الإيلاء، قالا إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت بتطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب.
٤٥٩١- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال، كنا نتحدث في الأليَّة أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
٤٥٩٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: إن مضت= يعني: أربعة أشهر= بانت منه.
٤٥٩٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النخعي قال: إن قرَبها قبل الأربعة الأشهر فقد بانت منه بثلاث، وإن تركها حتى تمضي الأربعة الأشهر بانت منه بالإيلاء = في رجل قال لامرأته:"أنت طالق ثلاثًا إن قربتك سنة".
٤٥٩٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: أعتم عبيد الله بن زياد عند هندٍ في ليلة أم عثمان ابنة عمر بن عبيد الله، فلما أتاها أمرت جواريها، فأغلقنَ الأبواب دونه، فحلف أن لا يأتيها
484
حتى تأتيه، فقيل له: إن مضت أربعة أشهر ذهبتْ منك. (١)
٤٥٩٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف قال: بلغني أن الرجل إذا آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ويخطبها إن شاء.
٤٥٩٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"- في الذي يُقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرُمت عليه، فتعتدُّ عدّة المطلقة وهو أحد الخطاب.
٤٥٩٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب قال، إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. (٢)
٤٥٩٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإنّ فاءوا فإنّ الله غفورٌ رحيم"- وهذا في الرجل يولي من امرأته ويقول:"والله لا يجتمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك! "، فكان أهل الجاهلية يعدُّونه طلاقًا، فحدّ الله لهما أربعة أشهر، فإن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته، وإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ فهي تطليقة بائنة، وهي أحق بنفسها، وهو أحد الخطاب.
٤٥٩٩- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
(١) الأثر: ٤٥٩٤-"هند" هي: هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري و"أم عثمان بنت عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي" وهما زوجتاه. وقوله: "أعتم" أي تأخر وأبطأ في الليل وقد مرت قطعة منه، والعتمة: ظلام الليل.
(٢) الأثر: ٤٥٩٧- انظر الأثر السالف رقم: ٤٥٨٣.
485
٤٦٠٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"، قال: كان ابن مسعود وعمر بن الخطاب يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة، وهي أحقُّ بنفسها.
٤٦٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو وهب، عن جويبر، عن الضحاك:" للذين يؤلون" الآية، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ولم يطلِّق، بانت منه بالإيلاء. فإن رجعت إليه فمهرٌ جديد، ونكاح ببيِّنة، ورضًا من الوليّ. (١)
* * *
وقال آخرون: بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر: تطليقةٌ، يملك فيها الزوجُ الرحعةَ.
* ذكر من قال ذلك:
٤٦٠٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر، فواحدة وهو أملك برجعتها. (٢)
٤٦٠٣ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة يملك الرَّجعة. (٣)
٤٦٠٤ - حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول قال، إذا مضت أربعة اشهر فهي تطليقة، يملك الرجعة.
(١) في المطبوعة: "ورضا من المولى" وهو خطأ والصواب من المخطوطة.
(٢) الأثر: ٤٦٠٢- في الموطأ: ٥٥٧، بغير هذا اللفظ وفي المطبوعة: "لرجعتها" والصواب من المخطوطة.
(٣) الأثر ٤٦٠٣- لم أجده بلفظه في الموطأ، وكأنه مختصر الذي سلف.
486
٤٦٠٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال، هي واحدة وهو أحق بها= يعني إذا مضت الأربعة الأشهر= وكان الزهري يفتي بقول أبي بكر هذا.
٤٦٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني يونس قال، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة وهو أملك بها ما كانت في عِدَّتها.
٤٦٠٧ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا أبو يونس القوي قال، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق! قال، لعلك ممن يقول:"إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت! "، لا! ولو مضت أربع سنين. (١)
٤٦٠٨ - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج بن رِشْدين قال: حدثنا عبد الحبار بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وتستقبل عِدَّتها، وزوجها أحق برجعتها. (٢)
٤٦٠٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، كان ابن شبرمة يقول: إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة = ويخاصِم بالقرآن، ويتأوَّل
(١) الأثر: ٤٦٠٧-"أبو القوي" هو: الحسن بن يزيد بن فروخ الضمري ويقال العجلي. سكن الكوفة. قال ابن معين: "هو الذي يقال له الطواف". وسمي"القوي" لقوته على العبادة قال وكيع: "بكى حتى عمى وصلى حتى حدب وطاف حتى أقعد" وثقه ابن معين والنسائي. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ٤٦٠٨-"حجاج بن رشدين بن سعد المصري". روى عن أبيه وحيوة بن شريح وعنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. قال ابن أبي حاتم: سألت أي عنه: "لا علم لي به، لم أكتب عن أحد عنه". وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه ابن عدي مات سنة ٢١١. مترجم في لسان الميزان والجرح والتعديل ١/٢١٦٠. و"عبد الجبار بن عمر الأيلي" سمع الزهري وبيعة وعطاء الخراساني وأبا الزناد؟ روى عنه ابن وهب وسعيد بن أبي مريم. سئل يحيى بن معين عنه فقال: ضعيف ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث ليس بقوي" مترجم في الجرح والتعديل ٣/١/٣١- ٣٢.
487
هذه الآية: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) [سورة البقرة: ٢٢٨]، ثم نزع: (١) " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر فإذ فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزَموا الطلاق فإن الله سميع عليم"
٤٦١٠ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمر: ونحن في ذلك = يعني في الإيلاء = على قول أصحابنا الزهريّ ومكحول أنها تطليقة - يعني مضيّ الأربعة الأشهر - وهو أملك بها في عدتها. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" للذين يؤلون من نسائهم" إلى قوله:" فإنّ الله سميع عليم"="للذين يؤلون" على الاعتزال من نسائهم، تنظُّرُ أربعة أشهر بأمره وأمرها="فإن فاؤوا" بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف، وترك هجرانهن، وأتوْا إلى غشيانهن وجماعهن="فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق" فأحدثوا لهن طلاقًا بعد الأشهر الأربعة="فإن الله سميع" لطلاقهم إياهن="عليم" بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة.
وقال متأوِّلو هذا التأويل: مضي الأشهر الأربعة يوجب للمراة المطالبةَ على زوجها المُولي منها، بالفيء أو الطلاق، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك، فإن فاء أو طلَّق، وإلا طلَّق عليه السلطان.
* ذكر من قال ذلك:
٤٦١١ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال في
(١) نزع بالآية والشعر، وانتزع بهما: تمثل. ويقال أيضًا للرجل إذا استنبط معنى آية من كتاب الله: "قد انتزع معنى جيدًا- ونزعه": أي استخرجه.
(٢) الأثر: ٤٦١٠-"الوليد بن مسلم القرشي" الدمشقي عالم الشام. قال أحمد: "ما رأيت أعقل منه. وقال مروان بن محمد: "إذا كتبت حديث الأوزاعي عن الوليد فلا تبالي من فاتك، وقال: "كان الوليد عالما بحديث الأوزاعي". مات بعد انصرافه من الحج سنة ١٩٤. "أبو عمرو" هو الإمام الجليل أبو عمرو الأوزاعي"عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد" الفقيه المشهور.
488
الإيلاء: لا شيء عليه حتى يُوقَف، فيطلق أو يمسك. (١)
٤٦١٢- حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبَّويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، مثله. (٢)
٤٦١٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال، سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن عمر بن الخطاب: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لم يجعله شيئًا.
٤٦١٤ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: أنه كان يقف المولي بعد الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق.
٤٦١٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: قال في الإيلاء: يُوقَف.
٤٦١٦- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يَقِفُه.
٤٦١٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يوقفه. (٣)
٤٦١٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن على قال: يُوَقف المُولي عند انقضاء الأربعة
(١) الأثر: ٤٦١١-"هو المثنى بن الصباح اليماني". أصله من أبناء اليمن بفارس روى عن طاوس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن شعيب. قال يحيى بن سعيد وذكر عنده: "لم نتركه من أجل عمرو بن الشعيب ولكن كان منه اختلاط في عطاء". وقال أحمد: "لا يساوي حديثه شيئًا، مضطرب الحديث" وضعفه ابن معين وغيره. مات سنة ١٤٩.
(٢) الأثر: ٤٦١٢-"عبد الله بن أحمد بن شبويه" سلف في رقم: ١٩٠٩.
(٣) الأثر: ٤٦١٧- في المخطوطة: "عن ابن أبي ليلى في الإيلاء قال، يوقف" ليس فيه"عن علي: أنه كان يوقفه".
489
الأشهر حتى يفيء أو يطلق= قال أبو كريب، قال ابن إدريس: وهو قول أهل المدينة.
٤٦١٩ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان، عن علي مثله.
٤٦٢٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن علي قال، المُولي إمَّا أن يفيء، وإما أن يطلّق.
٤٦٢١ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، أن عثمان كان يقف المولي بقول أهل المدينة.
٤٦٢٢- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، لقيت طاوسًا فسألته، فقال: كان عثمان يأخذ بقول أهل المدينة.
٤٦٢٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء أنه قال: ليس له أجل وهي معصية، يوقف في الإيلاء، فإما أن يمسك، وإما أن يطلق.
٤٦٢٤- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء: قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فانه يوقف، إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
٤٦٢٥ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أبا الدرداء كان يقول: هي معصية، ولا تحرم عليه امرأته بعد الأربعة الأشهر، ويجعل عليها العدّة بعد الأربعة الأشهر.
٤٦٢٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبا الدرداء وسعيد بن المسيب قالا يوقف عند انقضاء الأربعة
490
الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يزال مقيما على معصية حتى يفيء أو يطلق.
٤٦٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.
٤٦٢٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب، نحوه.
٤٦٢٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، قال، (١) حدثنا الحسن، عن ابن أبى مليكة قال، قالت عائشة: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. قال: قلت: أنتَ سمعتها؟ قال: لا تُبَكِّتْني. (٢)
٤٦٣٠- حدثنا إبراهيم بن مسلم بن عبد الله قال، حدثنا عمران بن ميسرة قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة، مثله. (٣)
٤٦٣١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكه، عن عائشة، مثله.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "أبو إدريس" وهو خطأ ورواية أبي كريب عن ابن إدريس كثيرة دائرة في التفسير أقربها آنفًا رقم: ٤٦٠٩، وقد مضت ترجمته.
(٢) التبكيت: استقبال الرجل بما يكره. والتبكيت أيضًا: التقريع والتوبيخ.
(٣) الأثر: ٤٦٢٩- ٤٦٣٠-"أبو مسلم": إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي. أو الكشي مضى في رقم: ٣٥٦٢، ٤٣٢٧. وكان في المطبوعة هنا: "إبراهيم بن مسلم بن عبد الله" وهم الناسخ فحذف الكنية"أبو مسلم" وأقحم"بن مسلم" بينه وبين أبيه. و"عمران بن ميسرة المنقري". روى عن عبد الله بن إدريس. وعنه البخاري وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو مسلم الكجي: وثقه الدارقطني. مات سنة ٢١٣. مترجم في التهذيب. و"الحسن بن الفرات بن أبي عبد الرحمن التميمي الفزاز" وهو المذكور في الإسناد السالف: ٤٦٢٩. روى عن أبي معشر وابن أبي مليكة وأبيه فرات. وعنه ابنه زياد وعبد الله بن إدريس ووكيع وأبو نعيم وغيرهم. وثقه ابن معين وابن حبان وأبو حاتم. مترجم في التهذيب والجرح والتعديل ١/٢/٣٢.
491
٤٦٣٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إذا آلى الرجل أن لا يمسَّ امرأته، فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها لا يوجب عليه الذي صَنع طلاقًا ولا غيره. (١)
٤٦٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبي الزناد، عن أبي الزناد قال، أخبرني القاسم بن محمد: أنّ خالد ابن العاص المخزومي كانت عنده ابنة أبي سعيد بن هشام، وكان يحلف فيها مرارًا كثيرة أن لا يقربها الزمانَ الطويلَ قال، فسمعت عائشة تقول له: ألا تتقي الله يا ابن العاص في ابنة أبي سعيد؟ أما تخْرج؛ أما تقرأ هذه الآية التي في"سورة البقرة"؟ قال: فكأنها تؤثِّمه، ولا ترى أنه فارق أهله. (٢)
٤٦٣٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المولي: لا يحلّ له إلا ما أحل الله له: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
٤٦٣٥ - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عيد الله بن نمير قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه. (٣)
٤٦٣٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال، لا يجوز للمُولي أن لا يفعل ما أمره الله، يقول:
(١) الأثر: ٤٦٣٢-"عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب" أحد الفقهاء السبعة. روى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وابنه عبد الرحمن بن القاسم. كان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن عمر" وانظر سنن البيهقي ٨: ٣٧٨.
(٢) الأثر: ٤٦٣٣-"يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي". روى عن الزهري ونافع وهشام بن عروة. وعنه الليث والأوزاعي وابن المبارك وابن وهب، ثقة. مات بصعيد مصر سنة ١٥٩. مترجم في التهذيب. "وأما" ناجية بن بكر" فلم أجد من يسمى بهذا الإسم من الرواة ولكن ابن وهب يروى عن"بكر بن مضر المصري" فأخشى أن يكون في الكلام زيادة وتصحيف. والله أعلم. وفي المطبوعة والمخطوطة: "يا ابن أبي العاص" والصواب ما أثبت. وانظر نسب قريش: ٣١٢.
(٣) الأثر: ٤٦٣٥- في المخطوطة: "عن عبد الله عن نافع" في هذا الموضع وحده.
492
يبيِّن رجعتها، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر - يبين رجعتها، أو يطلق = قال أبو كريب. قال ابن إدريس وزاد فيه. وراجعته فيه، فقال قولا معناه: إن له الرجعة.
٤٦٣٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جبير أن عمر قال نحوا من قول ابن عمر.
٤٦٣٨ - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم قال، أخبرنا نافع أن ابن عمر قال في الإيلاء: يوقف عند الأربعة الأشهر.
٤٦٣٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل أن لا يمس امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها ولا يوجب عليه الذي صنعَ طلاقًا ولا غيره.
٤٦٤٠ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال: الأمراء يقضون بذلك.
٤٦٤١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال، يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة. فإما أن يطلِّق، وإما أن يفيء.
٤٦٤٢ - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال، سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
٤٦٤٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال حدثنا داود،
493
عن سعيد بن المسيب - في الرجل يولي من امرأته- قال: كان لا يرى أن تدخل عليه فرقه حتى يطلق. (١)
٤٦٤٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن المسيب: في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر: إنما جعله الله وقتًا لا يحل له أن يجاوزَ حتى يفيء أو يطلِّق، فإن جاوز فقد عصى الله لا تحرُمُ عليه امرأته.
٤٦٤٥ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلِّق.
٤٦٤٦ - حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن ابن المسيب: في الإيلاء: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.
٤٦٤٧- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن معمر= أو حدثته عنه= (٢) عن عطاء الخراساني قال، سألت ابن المسيب عن الإيلاء، فقال: يُوقف.
٤٦٤٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن ابن المسيب= وعن ابن طاوس، عن أبيه، قالا يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. (٣).
(١) قوله: "فرقه" هكذا في المخطوطة وفي المطبوعة: "فرقة" والأرجح أنها مصحفة عن كلمة معناها: بيته، أو غرفته.
(٢) في المطبوعة: "حدثته" وما أثبت من المخطوطة.
(٣) عند هذا الموضع، انتهى تقسيم من تقاسيم النسخة التي نقت عنها نسختنا ويلي ذلك الأثر ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كثيرًا * * *
على الأصل
بلغت بالقراءة من أوله سماعًا من القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي عليٌّ حرسه الله وأحمد بن عمر بن مديدة الجهاري، ونصر بن الحسين الطبريّ ومحمد بن عليّ الأموي. وكتب محمد بن عيسى السعدي في شعبان من سنة ثمان وأربعمائة- والقاضي يقابلني بكتابه"
494
٤٦٤٩ - (١) حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني مالك بن أنس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مثل ذلك= يعني مثل قول عمر بن الخطاب في الإيلاء: لا شيء عليه، حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك. (٢)
٤٦٥٠ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال في الإيلاء: يوقف.
٤٦٥١ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح= عن مجاهد في قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر"، قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فيوقف حتى يراجع أهله، أو يطلِّق.
٤٦٥٢ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: أن مروان وَقفه بعد ستة أشهر.
٤٦٥٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود،
(١) أول التقسيم ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
(٢) الأثر: ٤٦٤٩- هذا إسناد آخر للأثر: ٤٦٠٢ فيما سلف وأما خير عمر فهو الذي مضى برقم: ٤٦١١.
495
عن عمر بن عبد العزيز في الإيلاء قال، يوقف عند الأربعة الأشهر حتى يفيء، أو يطلق.
٤٦٥٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"، هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفيء فيراجع، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه.
٤٦٥٥ - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا "الآية، قال: كان علي وابن عباس يقولان: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقف فيقال له: أمسكتَ أو طلَّقت، فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق.
٤٦٥٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" للذين يؤلون من نسائهم" قال: هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا، فجعل الله له أربعة أشهر يتربص بها. وقال: قول الله تعالى ذكره:" تربص أربعة أشهر"، يتربص بها=" فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم" فإذا رفعته إلى الإمام ضرب له أجلَ أربعةِ أشهر، (١) فإن فاء وإلا طَلَّق عليه، فإن لم ترفعه فإنما هو حقٌّ لها تركته.
٤٦٥٧- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك قال، لا يقع على المولي طلاق حتى يوقف، ولا يكون موليًا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه، لأنه يوقف عند الأربعة الأشهر، وقد سقطت عنه اليمين، فذهب الإيلاء
(١) في المطبوعة: "أجلا أربعة أشهر" وأثبت ما في المخطوطة.
496
(١)
٤٦٥٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد قال، قال ابن عمر: حتى يرفع إلى السلطان، وكان أبي يقول ذلك ويقول: لا والله وإن مضت أربعُ سنين حتى يوقَف.
٤٦٥٩ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فطر قال، قال محمد بن كعب القرظي وأنا معه: لو أن رجلا آلى من امرأته أربعَ سنين لم نُبِنْها منه حتى نجمع بينهما، (٢) فإن فاء فاء، وإن عزم الطلاق عزم.
٤٦٦٠ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد العزيز الماجشون، عن داود بن الحصين قال، سمعت القاسم بن محمد يقول: يوقف إذا مضت الأربعة.
* * *
وقال آخرون: ليس الإيلاء بشيء.
* ذكر من قال ذلك:
٤٦٦١ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن علية، عن عمرو بن دينار قال، سألت ابن المسيَّب عن الإيلاء فقال: ليس بشيء.
٤٦٦٢ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثني جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال، سألت ابن عمر عن رجل آلى من امرأته، فمضتْ أربعة أشهر فلم يفئ إليها، فتلا هذه الآية:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" الآية.
٤٦٦٣ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر،
(١) الأثر: ٤٦٥٧- لم أجد نصه في الموطأ ومعناه فيه (الموطأ: ٥٥٦- ٥٥٨).
(٢) في المطبوعة: "لم نكبها منه" كأنه من"الإكنان" تصحيف ناسخ والصواب من المخطوطة.
497
عن حبيب بن أبي ثابت قال، أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي، فقال: لا علم لي به.
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: بل معنى قوله:"وإن عزموا الطلاق": وإن امتنعوا من الفيئة، بعد استيقاف الإمام إيّاهم على الفيء أو الطلاق.
* ذكر من قال ذلك:
٤٦٦٤ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن فاء جعلها امرأته، وإن لم يفئ جعلها تطليقة بائنة.
٤٦٦٥ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن لم يفئ فهي تطليقة بائنة.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره، قولُ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن قال بقولهم في الطلاق= أن قوله:" فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم" إنما معناه: فإن فاءوا بعد وَقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللائي آلوا منهن، فإن الله لهم غفور رحيم="وإن عزموا الطلاق" فطلَّقوهن="فإن الله سميع"، لطلاقهم إذا طلَّقوا="عليم" بما أتوا إليهن.
وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال:" وإن عزموا الطلاق"،"فإن الله سميع عليم" (١) ومعلوم أنّ انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان"عزم الطلاق" انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه"سميع عليم"،
(١) فصلنا بين شطري الآية لأن ذلك مراد الطبري. يعني أن الله تعالى حين قال"وإن عزموا الطلاق"- ختم الآية بقوله: "فإن الله سميع عليم".
498
كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته = في مراجعة المولي زوجته التي آلى منها، وأداء حقها إليها = بذكر الخبر عن أنه"شديد العقاب"، إذْ لم يكن موضعَ وعيد على معصية، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه"غفور رحيم"، إذْ كان موضعَ وَعد المنيب على إنابته إلى طاعته، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام"سميع" وبالفعل"عليم"، فقال تعالى ذكره: وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم="فإن الله سميع" لطلاقهم إيّاهن إن طلقوهن="عليم" بما أتوا إليهنّ، مما يحل لهم، ويحرُم عليهم. (١).
وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين)، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والمطلقات" اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر-"يتربصن بأنفسهن" عن نكاح الأزواج ="ثلاثةَ قُرُوْءٍ".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل"القرء" الذي عناه الله بقوله:" يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء"
(١) هذا فقه أبي جعفر لمعاني كتاب ربه، وتجويده لدلائل البلاغة والبيان في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه البرهان لمن طلب الحق من وجوهه بالورع والصبر والبصر ومعرفة ما توجبه الألفاظ من المعاني.
499
فقال بعضهم: هو الحيض.
* ذكر من قال ذلك:
٤٦٦٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قال: حِيَضٍ. (١)
٤٦٦٧ - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ثلاثة قروء" أي ثلاث حِيَض. يقول: تعتدّ ثلاث حِيَض.
٤٦٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة في قوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" يقول: حمل عدة المطلقات ثلاث حيض، ثم نُسخ منها المطلقة التي طُلِّقت قبل أن يدخل بها زوجها، واللائي يَئِسْن من المحيض، واللائي لم يحضن، والحامل.
٤٦٦٩ - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال، القروءُ الحِيَض. (٢)
٤٦٧٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قال: ثلاث حيض.
٤٦٧١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار: الأقراءُ الحيَض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(١) الحيضة (بكسر الحاء) الاسم من الحيض والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض والجمع"حيض" (بكر الحاء وفتح الياء) وأما"الحيضة" المرة الواحدة من الحيض، جمعها"حيضات" (بفتح وسكون).
(٢) الأثر: ٤٦٦٩- في المطبوعة والمخطوطة: "علي بن عبد الأعلى" وانظر ما سلف رقم: ٤٤٨٥، وأخشى أن يكون الصواب"محمد بن عبد الأعلى" وقد سلف مرارًا.
500
٤٦٧٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل سمع عكرمة قال: الأقراءُ الحِيَض، وليس بالطهر، قال تعالى:" فطلِّقوهن لعدتهن"، ولم يقل:"لقروئهن".
٤٦٧٣ - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قالا ثلاث حيض.
٤٦٧٤ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" أما ثلاثة قروء: فثلاث حيض.
٤٦٧٥ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي: أنه رُفِع إلى عمر، فقال لعبد الله بن مسعود: لتقولنَّ فيها. فقال: أنت أحق أن تقول! قال: لتقولن. قال: أقول: إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال، ذاك رأيي وافقتَ ما في نفسي! فقضى بذلك عُمر. (١)
٤٦٧٦- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، فذكر نحوه.
٤٦٧٧ - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أن عمر بن الخطاب وابن مسعود قالا زُوجُها أحق بها ما لم تغتسل= أو قالا تحلَّ لها الصلاة. (٢)
٤٦٧٨ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
(١) الأثر: ٤٦٧٥- قال السيوطي أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد. ورواه البيهقي في السنن ٧: ٤١٧ مطولا بغير هذا اللفظ، من طريق"الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة: أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فقالت.. " وانظر المحلى ١٠: ٢٥٨، وسيأتي من طرق أخرى.
(٢) يعني: ما لم تحل لها الصلاة.
501
سعيد بن أبي عروبة= قال، حدثنا مطر، أن الحسن حدثهم: أن رجلا طلق امرأته، ووكَّل بذلك رجلا من أهله= أو إنسانًا من أهله= فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، وقرَّبت ماءها لتغتسل، فانطلق الذي وُكِّل بذلك إلى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغُسل، فقال: يا فلانة، قالت: ما تشاء؟ قال: إني قد راجعتك! قالت: والله ما لك ذلك! قال: بلى والله! قال: فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو: إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك. قالت: لا والله، ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل. فردها على زوجها، وقال: أنتَ أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
٤٦٧٩- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري بنحوه.
٤٦٨٠ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال، قال عمر: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
٤٦٨١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن يونس بن جبير: أن عمر بن الخطاب طلق امرأته، فأرادت أن تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال عمر بن الخطاب: امرأتي ورب الكعبة! فراجعها= قال ابن بشار: فذكرت هذا الحديث لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: سمعتُ هذا الحديث من أبي هلال، عن قتاده، وأبو هلال لا يحتمل هذا. (١)
٤٦٨٢ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
(١) الأثر: ٤٦٨١-"أبو الوليد": هو هشام بن عبد الملك الباهل البصري أبو الوليد الطيالسي الحافظ الحجة، كان ثقة ثبتا حجة من عقلاء الناس توفي سنة ٢٢٧، وولد سنة ١٣٣"وأبو هلال" هو: محمد بن سليم أبو هلال الراسبي لبصري روى عنه عبد الرحمن بن مهدي. قال أحمد: "يحتمل في حديثه إلا أنه يخالف في قتادة وهو مضطرب الحديث". مات سنة ١٦٧.
502
عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة فقالت: إن زوجي طلقني واحدة أو ثنتين، فجاء وقد وضعت مائي، وأغلقت بابي، ونزعت ثيابي. فقال عمر لعبد الله: ما ترى؟ قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك. (١)
٤٦٨٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه قال- في رجل طلق امرأته ثم تركها حتى دخلت في الحيضة الثالثة، فأرادت أن تغتسل، ووضعت ماءها لتغتسل، فراجعها-: فأجازه عمر وعبد الله بن مسعود.
٤٦٨٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، بمثله= إلا أنه قال: ووضعت الماء للغسل، فراجعها، فسأل عبد الله وعمر، فقال: هو أحق بها ما لم تغتسل.
٤٦٨٥ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يقولان: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة يملك الرجعة، فهو أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة.
٤٦٨٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين، فهو أحق برجعتها، وبينهما الميراث ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
٤٦٨٧ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن الحسن: أن رجلا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم وكلَّ بها بعض أهله، فغفل الإنسان حتى دخلت مغتسلها، وقرَّبت غسلها. فأتاه فآذنه، فجاء فقال: إني قد راجعتك! فقالت: كلا والله! قال: بلى والله! قالت: كلا والله! قال: بلى
(١) الأثر: ٤٦٨٢- هو أحد أسانيد الأثر السالف رقم: ٤٦٧٥، وكذلك الآثار التي تليه.
503
والله! قال: فتخالفا، فارتفعا إلى الأشعريّ، واستحلفها بالله لقد كنتِ اغتسلت وحلَّت لك الصلاة. فأبت أن تحلف، فردَّها عليه. (١)
٤٦٨٨ - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أنّ عمر استشار ابن مسعود في الذي طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فحاضت الحيضة الثالثة، فقال ابن مسعود: أراه أحق بها ما لم تغتسل، فقال عمر: وافقت الذي في نفسي. فردّها على زوجها.
٤٦٨٩ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عليا كان يقول: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. (٢)
٤٦٩٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: إذا انقطع الدم فلا رجعة.
٤٦٩١ - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الحيضة التي طهُرت منها.
٤٦٩٢- حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، أن عمر سأل أبا موسى عنها- وكان بلغه قضاؤه فيها- فقال أبو موسى: قضيتُ أن زوجها أحقُّ بها ما لم تغتسل.
فقال عمر: لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك.
٤٦٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن علي بن أبي طالب قال - في
(١) الأثر: ٤٦٨٧- طريق آخر للأثر السالف رقم: ٤٦٧٨.
(٢) الأثر: ٤٦٨٩٠-"النعمان بن راشد الجزري" روى عن الزهري قال أحمد: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. وقال ابن معين: ضعيف مضطرب الحديث، وقال مرة: ثقة وقال البخاري وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير وهو في الأصل صدوق.
504
الرجل يتزوَّج المرأة فيطلقها تطليقة أو ثنتين- قال، لزوجها الرجعة عليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة.
٤٦٩٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال، أرسل عثمان إلى أبي يسأله عنها، فقال أبي: وكيف يفتى منافق؟ فقال عثمان: أعيذُك بالله أن تكون منافقًا، ونعوذ بالله أن نسمِّيك منافقًا، ونعيذك بالله أن يَكون مثلُ هذا كان في الإسلام، ثم تموت ولم تبيِّنه! قال: فإني أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. قال: فلا أعلم عثمان إلا أخذ بذلك. (١)
٤٦٩٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة= قال، وأخبرنا معمر، عن قتادة= قالا راجع رجل امرأته حين وضعت ثيابها تريدُ الاغتسال فقال: قد راجعتك. فقالت: كلا! فاغتسلت. ثم خاصمها إلى الأشعري، فردَّها عليه.
٤٦٩٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن معبد الجهني قال، إذا غسلت المطلقة فرجها من الحيضة الثالثة بانت منه وحلَّت للأزواج. (٢)
(١) الأثر: ٤٦٩٤- زيد بن رفيع الجزري، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وروى عنه معمر، وزيد بن أبي أنيسة. كان فقيها فاضلا ورعًا. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: ثقة ما به بأس. قيل لأحمد: سمع من أبي عبيدة؟ قال: نعم. وضعفه الدارقطني وقال النسائي: ليس بالقوي مترجم في الجرح والتعديل ١/٢/٥٦٣ ولسان الميزان. و"أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود في شأن المصاحف. وفي المخطوطة: "عن أبي عبيدة عن عبد الله" وهو خطأ محض.
وهذا الأث رواه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ٤١٧ مختصرًا وفيه خطأ في ضبط لفظ"أبي" وضعت على الياء شدة، وهو خطأ.
(٢) الأثر: ٤٦٩٦-"معبد الجهني" يقال: "معبد بن عبد الله بن عكيم" ويقال: "معبد بن عبد الله بن عويم" ويقال: "معبد بن خالد" وهو من التابعين روى عنه الحسن وقتادة وزيد بن رفيع ومالك بن دينار وعوف الأعرابي. كان رأسا في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناسًا.
حديثه صالح، ومذهبه رديء. وكان الحسن يقول: إياكم ومعبد فإنه ضال مضل- يعني كلامه في القدر. وقال ابن معين ثقة. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب.
505
٤٦٩٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يحلّ لزوجها الرجعةُ عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، ويحلّ لها الصوم.
٤٦٩٨- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
٤٦٩٩- حدثنا محمد بن يحيى. قال: حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي، مثله. (١)
* * *
وقال آخرون: بل"القرء" الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: الطهر.
* ذكره من قال ذلك:
٤٧٠٠ - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. قالت: الأقراء الأطهار.
٤٧٠١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. عن عائشة زوج النبي ﷺ أنها كانت تقول: الأقراء الأطهار.
(١) الأثر: ٤٦٩٩-"درست" (بضم الدال والراء وسكون السين). ترجمه البخاري في الكبير ١/٢/٢٣١ قال: "درست قال ابن عيينة: سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول: حدثنا درست عن الزهري- وكان درست قدم علينا من البصرة كيس حافظ". وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ١/٢/٤٣٨: "درست: روى عن الزهري روى عنه ابن أبي عروبة قدم عليهم البصرة. سمعت أبي يقول ذلك". وهو غير"درست بن حمزة البصري" و"درست بن زياد الرقاشي البصري". وكان في المطبوعة: "درسب" بالباء وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط- وسيأتي مثل هذا الإسناد برقم: ٤٧٢٥.
506
٤٧٠٢ - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عمرة وعروة، عن عائشة قالت: إذا دحلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج= قال الزهري: قالت عمرة: كانت عائشة تقول: القرء: الطُّهر، وليس بالحيضة.
٤٧٠٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، مثل قول زيد وعائشة.
٤٧٠٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول زيد.
٤٧٠٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال: إذا دخلت المطلَّقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج= قال معمر: وكان الزهري يفتي بقول زيد.
٤٧٠٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: بلغني أن عائشة قالت: إنما الأقراء: الأطهار.
٤٧٠٧- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.
٤٧٠٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب: في رجل طلق امرأته واحدة أو ثنتين قال- قال زيد بن ثابت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها = وزاد ابن أبي عدي قال: قال علي بن أبي طالب: هو أحق بها ما لم تغتسل.
٤٧٠٩- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد،
507
عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد وعلي، بمثله.
٤٧١٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا ميراثَ لها.
٤٧١١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب= قالا جميعً، حدثنا أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن الأحوص -رجل من أشراف أهل الشام- طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فمات وهي في الحيضة الثالثة، فرُفعت إلى معاوية، فلم يوجد عنده فيها علم. فسأل عنها فضالة بن عبيد ومَنْ هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوجد عندهم فيها علم، فبعث معاوية راكبًا إلى زيد بن ثابت، فقال: لا ترثه، ولو ماتت لم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك. (١)
٤٧١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطليقة، فمات وقد دخلت في الحيضة الثالثة، فرفع إلى معاوية، فلم يدر ما يقول، فكتب فيها إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد:"إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فلا ميراث بينهما".
٤٧١٣ - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
(١) الأثر: ٤٧١١- ٤٧١٣- رواه الشافعي في الأم ٥: ١٩٢ من طريق مالك عن نافع وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار" وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ٤١٥ من طريق آخر مختصرًا. و"الأحوص" هو: الأحوص بن حكيم بن عمير (وهو عمرو) بن الأسود العنسي الهمداني. رأى أنسًا عبد الله بن بسر"وروى أبيه وطاووس وغيرهما وقال البخاري: "سمع أنسا" وروى عنه سفيان وروى عنه سفيان بن عيينة وهو صدوق حديثه ليس بالقوي". وكان الأحوص رجلا عابدًا مجتهدًا، وولى عمل حمص. قال عبد الرحمن بن الحكم: "كان صاحب شرطة ومن بعض المسودة" وقال ابن حميد: "قدم الأحوص الري مع المهدي وكان قدومه سنة ١٦٨". مترجم في التهذيب وتاريخ ابن عساكر ٢: ٣٣٢- ٣٣٣.
508
عن أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا يقال له الأحوص، فذكر نحوه عن معاوية وزيد.
٤٧١٤- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع قال، قال ابن عمر: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.
٤٧١٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المطلقة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت.
٤٧١٦ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمر بن محمد، أن نافعًا أخبره، عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا دخلت المرأة في الدم من الحيضة الثالثة، فإنها لا ترثه ولا يرثها، وقد برئت منه وبرئ منها. (١)
٤٧١٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، بلغني، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلقت المرأة، فدخلت في الحيضة الثالثة أنه ليس بينهما ميراث ولا رجعة.
٤٧١٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت سالم بن عبد الله يقول مثل قول زيد بن ثابت.
٤٧١٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، وسمعت يحيى يقول: بلغني عن أبان بن عثمان أنه كان يقول ذلك.
(١) الأثر: ٤٧١٦- عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى عن أبيه وجده وعم أبيه سالم، وعن نافع مولى ابن عمر وغيرهم. وكان في المخطوطة مضطرب الاسم ولكنه يقرأ كما هو في المطبوعة وهو الصواب. وفي المخطوطة أيضًا"وقد ترث منه ويرث منها" والصواب في المطبوعة والسنن الكبرى للبيهقي.
509
٤٧٢٠- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد بن ثابت، مثل ذلك. (١)
٤٧٢١- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع: أن معاوية بعث إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد:"إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت"، وكان ابن عمر يقوله.
٤٧٢٢ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان وزيد بن ثابت أنهما قالا إذا حاضت الحيضة الثالثة فلا رجعة، ولا ميراث.
٤٧٢٣- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن زيد بن ثابت قال، إذا طلق الرجل امرأته، فرأت الدم في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها.
٤٧٢٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن موسى بن شداد، عن عمر بن ثابت الأنصاري قال، كان زيد بن ثابت يقول: إذا حاضت المطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يملك رَجعتها. (٢)
٤٧٢٥ - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا
(١) الأثر: ٤٧٢٠- في المطبوعة: "حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب وأثبت ما في المخطوطة، وهو سبق قلم من ناسخ آخر.
(٢) الأثر: ٤٧٢٤-"موسى بن شداد" ترجمه البخاري في الكبير ٤١/٢٨٦ وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٤/١/١٤٦ وقال: "روى عن عمرو بن ثابت. روى عنه مغيرة بن مقسم الضبي+ سمعت أبي يقول ذلك". ولم يزد البخاري شيئًا. وأما"عمر بن ثابت الأنصاري" فهو مترجم في التهذيب روى عن أبي أيوب الأنصاري وبعض الصحابة. والظاهر أن ما في الطبري هو الصواب وأن ما جاء في التاريخ الكبير والجرح والتعديل"عمرو بن ثابت" فهو خطأ فلم أجد"عمرو بن ثابت" أنصاريًا ومن هذه الطبقة.
510
إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. (١)
* * *
قال أبو جعفر:"والقروء" في كلام العرب: جمع"قُرْء"، (٢) وقد تجمعه العرب"أقراء" يقال في"فعل" منه:"أقرأت المراة"- إذا صارت ذات حيض وطُهر-" فهي تقرئ إقراء". وأصل"القُرء" في كلام العرب: الوقتُ لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدبارُه لوقت معلوم. ولذلك قالت العرب:"قرأت حاجةُ فلان عندي"، بمعنى: دنا قضاؤها، وحَان وقت قضائها (٣) "واقرأ النجم" إذا جاء وقت أفوله،"وأقرأ" إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر:
إذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أقْرَأَتْ أَحَسَّ السِّمَا كَانِ مِنْها أُفُولا (٤)
وقيل:"أقرأت الريح"، إذا هبت لوقتها، كما قال الهذلي: (٥)
شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ (٦)
بمعنى: هبت لوقتها وحين هُبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض"قُرءًا"، إذا كان دمًا يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونُه في آخر، فسمي وقت مجيئه"قُرءًا"، كما سمَّى الذين سمَّوا وقت مجيء الريح لوقتها"قُرءًا".
(١) الأثر: ٤٧٢٥- سلف هذا الإسناد برقم ٤٦٩٩- وترجمه"درست" وكان في المطبوعة هنا أيضًا "درسب" بالباء وهو خطأ كما أسلفنا والإسناد في المخطوطة هكذا: "... حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن المسيب أن عائشة... " أسقط من الإسناد ما هو ثابت في المطبوعة وهو الصواب.
(٢) في المطبوعة: "والقرء في كلام العرب جمعه قروء" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "وجاء وقت قضائها" والذي أثبته ما في المخطوطة.
(٤) لم أجد هذا البيت وهو متعلق ببيت بعده فيما أرجح فتركت شرحه حتى أعثر على تمام معناه.
(٥) هو مالك بن الحارث أحد بني كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل.
(٦) ديوان الهذليين ٣: ٨٣ وشيء الشيء يشنأه شناءة: كرهه. والعقر: اسم مكان و"خليل" الذي نسب إليه هو جد جرير بن عبد الله البجلي.
511
٤٧٢٦ - ولذلك قال ﷺ لفاطمة بنت أبي حُبّيْش: دعي الصلاة أيام أقرائك. (١)
بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك.
وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر"قُرءًا"، إذْ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئُه لوقت معلوم. فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس:
وَفيِ كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ... تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا (٢) مُوَرِّثَةٍ مَالا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعةً... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا (٣)
فجعل"القُرء": وقت الطهر.
* * *
قال أبو جعفر: ولما وصفنا من معنى:"القُرء" أشكل تأويل قول الله:" والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء" على أهل التأويل.
(١) الأثر: ٤٧٢٦- ساقه بغير إسناد وحديث فاطمة بنت أبي حبيش: ثابت من طرق قال ابن كثير في تفسير ١: ٥٣٤ وذكر هذا الحديث"رواه أبو دواد والنسائي من طريق المنذرين المغير، عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن رسول الله ﷺ قال لها: "دعى الصلاة أيام أقرائك". ثم قال: "ولكن المنذر هذا مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات" وكذلك قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٤/١/٢٤٢. وانظر سنن أبي داود ١: ١١٤- ١١٧ تفصيل ذلك.
وانظر البخاري (فتح الباري ١: ٣٤٨- وما بعده من أبواب الحيض) ومسلم ٤: ١٦- ٢١ وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية.
(٢) ديوانه: ٦٧، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٧٤ وغيرهما كثير. يمدح هوذة بن على الحنفي، وقد ذكر فيها من فضائل هوذة ومآثره ما ذكر. جشم الأمر يجشمه جثما وجشامة: تكلفه على جهد ومشقة وركب أجسمه والعزيم والعزيمة والعزم: الجد وعقد القلب على أمر أنك فاعله. والعزاء: حسن الصبر عن فقد ما يفقد الإنسان. يقول لهوذة: كم من لذة طيبة صبرت النفس عنها في سبيل تشييد ملكك بالغزو المتصل عامًا بعد عام.
(٣) قوله: "مورثة" صفة لقوله: "غزوة" يقول: تعزيت عن كل متاع فهجرت نساءك في وقت طهرهن فلم تقربهن، وآثرت عليهن الغزو، فكانت غزواتك غني في المال، ورفعة في الذكر، وبعدًا في الصيت.
512
فرأى بعضهم أن الذي أمِرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء، أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث حيَض بنفسها عن خطبة الأزواج.
* * *
ورأى آخرون: أنّ الذي أمرت به من ذلك، إنما هو أقراءُ الطهر- وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث أطهار.
* * *
فإذْ كان معنى"القُرء" ما وصفنا لما بيَّنا، وكان الله تعالى ذكره قد أمرَ المريدَ طلاقَ امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرًا غير مُجامعة، وحرَّم عليه طلاقها حائضًا= كان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها إذا كانت ذات أقراء (١) تربُّص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها، أن تنظرَ إلى ثلاثة قروء بين طهريْ كل قرءٍ منهنّ قرءٌ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. (٢) فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدّتها، وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربَّصُ من المطلقات بنفسها ثلاثةَ قروء، بين طُهريْ كل قرءٍ منهن قرءٌ له مخالفٌ. وإذا فعلت ذلك، كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنزيله.
فقد تبيَّن إذًا -إذ كان الأمر على ما وصفنا- أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها على ما بينا، الطهرُ الثالث= وأنّ بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه، انقضاءُ عدّتها.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وكان اللازم... " و"الواو" هنا مفسدة للمعنى لأن الطبري يريد أن يقول إن"القرء" من الألفاظ ذوات المعنى المشترك. فهو يدل على وقت مجيء الطهر وعلى وقت مجيء الحيض. ولما كان الله تعالى قد أمر الرجل أن يطلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه، وحرم عليه طلاقها حائضًا كان اللازم المطلقة أن تنظر إلى ثلاثة قروء... "
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو خلاف... " والصواب إسقاط"واو" العطف يعني: أن هذا القرء الذي بين الطهرين خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. وذلك لأن لفظ"قرء" مشترك المعنى بين الحيض والطهر. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فتربصهن" وهو تصحيف والصواب ما أثبت. وسيأتي هذا المعنى واضحا فما يلي من عبارته.
513
فإن ظن ذو غباء (١) أنَّا إذْ كنا قد نسمِّي وقت مجيء الطهر"قُرءًا"، ووقت مجيء الحيض"قرءًا"، أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهرُ الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها،"أقراءً" كلها (٢) فقد ظن جهلا.
وذلك أن الحكم عندنا- في كل ما أنزله الله في كتابه- على ما احتمله ظاهرُ التنزيل، ما لم يبيّن الله تعالى ذكره لعباده، أنّ مراده منه الخصوص، إما بتنزيل في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خصَّ من ذلك غيرَ داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها، كما قد بيَّنا في كتابنا: (كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) وغيره من كتبنا.
فـ "الأقراء" التي هي أقراءُ الحيض بين طُهريْ أقراء الطهر، غير محتسبة من أقراء المتربِّصة بنفسها بعد الطلاق، لإجماع الجميع من أهل الإسلام: أن"الأقراء" التي أوجبَ الله عليها تربَّصُهن، ثلاثة قروء، بين كل قرء منهن أوقات مخالفاتُ المعنى لأقرائها التي تربَّصُهن، وإذْ كن مستحقات عندنا اسم"أقراء"، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يُجِزْ لها التربّص إلا على ما وصفنا قبل.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليل واضح على خطأ قول من قال:"إن امرأة المُولي التي آلى منها، تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة، إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة". لأن الله تعالى ذكره إنما أوجبَ عليها العدّة بعد عزم المُولي على طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله:" وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فأوجب تعالى
(١) في المطبوعة: "ذو غباوة" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) يعني: أن طهر التطليق قرء، والحيضة قرء، والطهر الثاني قرء، فهي ثلاثة قروء تتربصها المطلقة.
514
ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة- تربُّص ثَلاثة قروء فمعلوم أنها لم تكن مطلقة يوم آلى منها زوجها، لإجماع الجميع على أنّ الإيلاء ليس بطلاق موجب على المولى منها العِدّة.
وإذ كان ذلك كذلك، فالعدة إنما تلزمها بعد الطلاق، والطلاق إنما يلحقها بما قد بيناه قبل.
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:" والمطلقات" فإنه: والمخلَّياتُ السبيل، غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات، وقول القائل:"فلانة مطلقه" إنما هو"مفعَّلة" من قول القائل:"طلَّق الرجل زوجته فهي مطلَّقة". وأما قولهم:"هي طالق"، فمن قولهم:"طلَّقها زوجها فطّلُقت هي، وهي تطلُق طلاقًا، وهي طالق". وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول:"طَلَقت المرأة". (١) وإنما قيل ذلك لها، إذا خلاها زوجها، كما يقال للنعجة المهملة بغير راع ولا كالئ، إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مُخلاةً سبيلها:"هي طالق"، فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها، وسُميت بما سُميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم:"طُلِقت المرأة"، فمعنى غير هذا، إنما يقال في هذا إذا نُفِست. (٢) هذا من"الطَّلْق"، والأول من"الطلاق".
* * *
وقد بينا أن"التربُّص" إنما هو التوقف عن النكاح، وحبسُ النفس عنه في غير هذا الموضع. (٣)
* * *
(١) "طلق" هنا بفتح الطاء واللام أما التي سبقت قبلها بفتح الطاء وضم اللام مثل"كرم".
(٢) نفست المرأة (بضم فكسر) ونفست (بفتح فكسر) : ولدت فهي نفساء. والطلق: طلق المخاض عند الولادة وهو الوجع والفعل منه بالبناء للمجهول بضم الطاء وكسر اللام.
(٣) انظر ما سلف في معنى"التربص" من هذا الجزء ٤: ٤٥٦.
515
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: تأويله:"ولا يحلّ"، لهن يعني للمطلقات="أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، من الحيض إذا طُلِّقن، حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٢٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال، قال الله تعالى ذكره:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" إلى قوله:" وللرجال عليهنّ درجة والله عزيز حكيم" قال: بلغنا أنّ"ما خلق في أرحامهن" الحمل، وبلغنا أن الحيضة، فلا يحل لهنّ أن يكتمن ذلك، لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له
٤٧٢٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض
٤٧٢٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: أكبرُ ذلك الحيض. (٢)
(١) في المخطوطة: "حقوقهن" والصواب ما في المطبوعة.
(٢) الأثر: ٤٧٢٩- في الدر المنثور ١: ٢٧٦ بنصه هنا ثم قال: "وفي لفظ: أكثر ما عنى به الحيض" وسيأتي كذلك برقم: ٤٧٣٣، ولكن المخطوطة تخالفهن جميعًا ففيها، "إذا كثر ذلك الحيض" وكلها قريب في معناه بعضه من بعض.
516
٤٧٣٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرّفًا، عن الحكم قال، قال إبراهيم في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ" قال: الحيض
٤٧٣١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض= ثم قال خالد: الدم.
* * *
وقال آخرون: هو الحيض، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانَه فيما خلق في رحمها من ذلك، هو أن تقول لزوجها المطلِّق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة:" قد حضتُ الحيضةَ الثالثة" كاذبةً لتبطل حقه بقيلها الباطلَ في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة بن معتِّب، عن إبراهيم في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض، المرأةُ تعتد قُرْأين، ثم يريد زوجها أن يراجعها، فتقول: قد حضتُ الثالثة" (١)
٤٧٣٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: أكثر ما عني به الحيض. (٢)
* * *
(١) الأثر: ٤٧٣٢- في المخطوطة"عبده بن مغيب" غير منقوطة وفي المطبوعة: "بن مغيث" خطأ. وعبيدة بن معتب الضبي روى عن إبراهيم النخعي واالشعبي وعاصم بن بهدلة وغيرهم. روى عنه شعبة والثوري ووكيع وهشيم وعلي بن مسهر وغيرهم. وكان سيء الحفظ ضريرًا متروك الحديث. وقال ابن حبان: "اختلط بأخرة فبطل الاحتجاج به".
(٢) الأثر: ٤٧٣٣- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ٤٧٢٩.
517
وقال آخرون: بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانه زوجَها المطلِّقَ: الحبلُ والحيضُ جميعًا.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٣٤ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، من الحيض والحمل، لا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتُم حيضها، ولا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتُم حملها.
٤٧٣٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرِّفًا، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: الحمل والحيض= قال أبو كريب: قال ابن إدريس: هذا أوَّل حديث سمعته من مطرِّف.
٤٧٣٦ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن الحكم، عن مجاهد، مثله= إلا أنه قال: الحبل.
٤٧٣٧ - حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: من الحيض والولد
٤٧٣٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: من الحيض والولد
٤٧٣٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: لا يحلّ للمطلَّقة أن تقول:"إني حائض"،
518
وليست بحائض= ولا تقول:"إني حبلى" وليست بحبلى= ولا تقول:"لستُ بحبلى"، وهي حُبلى.
٤٧٤٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٤٧٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن مجاهد قال، الحيض والحبل= قال، تفسيره أن لا تقول:"إني حائض"، وليست بحائض="ولا لست بحائض"، وهي حائض=: ولا" أني حبلى"، وليست بحبلى= ولا"لست بحبلى"، وهي حبلى.
٤٧٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد نحو هذا التفسير في هذه الآية. (١)
٤٧٤٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله= وزاد فيه: قال: وذلك كله في بُغض المرأة زوجها وحبِّه
٤٧٤٤ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" يقول: لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل، لا يحلّ لها أن تقول:"إني قد حضت" ولم تحض= ولا يحلّ أن تقول:"إني لم أحض"، وقد حاضت= ولا يحل لها أن تقول:"إني حبلى" وليست بحبلى= ولا أن تقول:"لست بحبلى"، وهي حبلى
٤٧٤٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" الآية قال، لا يكتمن الحيض
(١) الأثر: ٤٧٤٢-"القاسم بن نافع بن أبي بزة" وهو القاسم بن أبي بزة" روى عن أبي الطفيل وأبي معبد ومجاهد وسعيد بن جبير روى عنه عمرو بن دينار وعبد الملك بن أبي سلمان وابن جريج، وابن أبي ليلى وحجاج بن أرطأة. مترجم في الجرح والتعديل ٣/٢/١٢٢.
519
ولا الولد، ولا يحل لها أن تكتمه وهو لا يعلم متى تحلّ، لئلا يرتجعها- تُضارُّة (١)
٤٧٤٦ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لهن أن يتكتمن ما خلق الله في أرحامهن" يعني الولد قال: الحيضُ والولدُ هو الذي ائتُمِن عليه النساء.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك الحبل.
ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ، (٢) فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: اتل هذه الآية فتلا. فقال: إن فلانة ممن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ = وكانت طُلِّقت وهي حبلى، فكتمت حتى وضعت (٣)
(١) في المطبوعة: "مضارة" والصواب من المخطوطة أي: تفعل ذلك تضاره بذلك.
(٢) قوله: "الرجل" منصوب بالمصدر وهو قوله: "كتمان ذلك" مفعول به.
(٣) الأثر: ٤٧٤٧- قباث بن رزين بن حميد بن صالح اللخمي أبو هاشم المصري روى عن عم أبيه سلمة وعلي بن رباح وعكرمة وروى عنه ابن المبارك وابن لهيعة وابن وهب. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقد ذكرت له قصة في التهذيب: أن ملك الروم أمره أن يناظر البطريق. فقال للبطرك. كيف أنت؟ وكيف ولدك؟ فقال البطارقة: ما أجهلك! تزعم أن للبطرك ولدًا وقد نزهه الله عن ذلك! قال: فقلت لهم: تنزهون البطرك عن الولد، ولا تنزهون الله تعالى -وهو خالق الخلق أجمعين- عن الولد! قال: فنخر البطرك نخرة عظيمة وقال: أخرج هذا هذه الساعة عن بلدك لئلا يفسد عليك دينك، فأطلقه. قال ابن حجر"وقد وقع شبيه هذه القصة للقاضي أبي بكر الباقلاني: لما توجه بالرسالة إلى ملك الروم وظهر من هذا أنه مسبوق بهذا الإلزام. والله أعلم". وتوفي قباث سنة ١٥٦.
و"علي بن رباح بن قصير اللخمي روى عن عمرو بن العاص وسراقة بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وأبي قتادة الأنصاري وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة. وفد على معاوية وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مصر. وقال: كان ثقة. وغزا إفريقية وذهبت عينه يوم ذي الصواري في البحر مع ابن أبي سرح سنة ٣٤ ولد سنة عشرة من الهجرة ومات سنة ١١٤.
520
٤٧٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله:" ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنْ كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر"
٤٧٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: الطلاق مرّتان بينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلِّقها بعد هاتين فهي ثالثة، وإن طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. إنما اللاتي ذكرن في القرآن:" ولا يحلُّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ"، هي التي طلقت واحدة أو ثنتين، ثم كتمتْ حملها لكي تنجو من زوجها، فأما إذا بتَّ الثلاثَ التطليقات، فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجًا غيره. (١)
* * *
وقال آخرون: السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن، خوف مراجعتهم إياهُنّ، حتى يتزوجن غيرهم، فيُلحق نسب الحمل- الذي هو من الزوج المطلِّق- بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٥٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: كانت المرأة إذا طُلِّقت كتمت ما في بطنها وحملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه، فكره الله ذلك لهنّ.
(١) الأثر: ٤٧٤٩- يحيى بن بشر الخراساني سلفت ترجمته في الأثر: ٤٥٤٩.
(٢) في المطبوعة: "فيلحق بسببه الحمل... " وهو خطأ فاسد صوابه من المخطوطة.
521
٤٧٥١ - حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: علم الله أنّ منهن كواتم يكتمن الولد. وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلّق امرأته وهي حامل، (١) فتكتم الولد وتذهبُ به إلى غيره، وتكتُم مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وقدَّم فيه. (٢)
٤٧٥٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر منها
* * *
وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ؟ كيلا يطلقها، وهي حامل منه (٣) للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب.
* ذكر من قال ذلك:
(١) قوله: "وكان أهل الجاهلية كان الرجل.. " عربي فصيح جيد، ليس بخطأ وحذف خبر كان الأولى لاستغنائه بما بعده عنه. وانظر مثله فيما سيأتي في الأثر: ٤٧٨١ عن قتادة أيضًا بهذا الإسناد.
(٢) الأثر: ٤٧٥١- سلف هذا الإسناد مرارا وأقر به رقم: ٤٦٧٦، ٤٦٧٧، ٤٦٧٩ن ٤٦٩٢، ٤٧١٣، ٤٧١٤ن ٤٧٢٥ وغيرها. ولا بد من بيان رجاله"محمد بن يحيى بن أبي حزم القطعي" أبو عبد الله البصري. روى عن عمه حزم بن مهران وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الصمد بن عبد الوارث وغيرهم. روى عنه مسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في غير الجامع. قال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق. مات سنة ٢٥٣. و"عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد القرشي السامي البصري" يلقب أبا همام، فكان يغضب منه روى عن داود بن أبي هند وسعيد الجريري وسعيد بن أبي عروبة وحميد الطويل وخالد الحذاء وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن بشار بندار ونصر بن الجهضمي وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وكان متقنًا للحديث قدريًا غير داعية إليه. مات سنة ١٩٨.
* وقوله: "وقدم فيه" أي أمر فيه بما أمر.
(٣) في المطبوعة: "لكيلا" وأثبت ما في المخطوطة.
522
٤٧٥٣ - حدثني موسى قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (١) " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها: هل بك حمل؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه، عقوبةً لما كتمته، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها- الحيضُ والحبَل. لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث، في قول من قال:"القُرء" الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض، إذا انقطع من الحيضة الثالثة، فتطهرت بالاغتسال. (٢)
فإذا كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن، (٣) وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل= (٤) علم أنهن
(١) الأثر: ٤٧٥٣- كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط" بإسقاط"قال حدثنا عمرو" وهو خطأ صرف. هو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: ٤٦٧٤.
(٢) في المطبوعة: "تطهرت للاغتسال" وهو معرق في الخطأ والصواب من المخطوطة.
(٣) قوله: "ما يكون بكتمانهن.. " هذه الجملة مفعول به منصوب بالمصدر"كتمان" وقوله: "بطول" مصدر"بطل الشيء يبطل بطولا وبطلانًا" وقد سلف ذلك فيما مضى ٢: ٤٢٦ ثم ٣: ٢٠٥ تعليق: ٦ وهذا الجزء ٤: ١٤٦.
(٤) قوله: "علم" جواب قوله آنفًا: "وإذ كان ذلك كذلك.. " وما بينهما معطوف بعضه على بعض.
523
منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما، (١) - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية، مثل ما في الآخر.
ويُسأل من خصّ ذلك- فجعله لأحد المعنيين دون الآخر- عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما الذي قاله السدي (٢) من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن"، بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر.
وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به، من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن: أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل= الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن= ضرارًا منهنّ لهم، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك، بأن يكون من صفة ما يليه
(١) في المطبوعة: "أزواجهن المطلقين" تحريف لكلام أبي جعفر. والهاء والنون مفعول اسم فاعل: "المطلق" وهذا جار في كلام أبي جعفر مرارًا كثيرة، وجار أيضًا من الطابعين تحريف ذلك إلى ما ألفوا من سقم العبارة. وقد مضى منذ أسطر قليلة قوله: "زوجها المطلقها".
(٢) هو الأثر السالف رقم: ٤٧٥٣.
524
قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: ما معنى قوله:" إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر"؟ أوَ يحل لهن كتمان ذلك أزواجهنً إنْ كن لا يؤمنَّ بالله ولا باليوم الآخر حتى خصّ النهيُ عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر؟
قيل: معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أن كتمان المراة المطلَّقة زوجَها المطلَّقَها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارًا له، (١) ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وأخلاقِهنَّ من النساء الكوافر= فلا تتخلَّقن أيتها المؤمنات بأخلاقهنّ، فإنّ ذلك لا يحل لكنّ إن كنتن تؤمنّ بالله واليوم الآخر وكنتن من المسلمات= (٢) لا أنّ المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهن دون الكوافر، بل الواجب على كل من لزمته فرائضُ الله من النساء اللواتي لهن أقراء- إذا طلِّقت بعد الدخول بها في عدتها- أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبَل.
* * *
(١) قوله: "زوجها المطلقها" زوجها منصوب مفعول به للمصدر"كتمان" وقوله: المطلقها منصوب صفة لقوله: "زوجها" و"الهاء والألف" مفعول به، كما سلف في التعليقة الآنفة.
(٢) قوله: "لا أن المؤمنات... " من سياق الجملة الأولى: "... وإنما معناه أن كتمان المرأة المطلقة... لا ان المؤمنات".
525
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا﴾ "
قال أبو جعفر:"والبعولة" جمع"بعل"، وهو الزوج للمرأة، ومنه قول جرير:
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ المَلابَ فَإنَّمَا جَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وَأَنْتُمْ حَلائِلُهْ (١)
وقد يجمع"البعل""البعولة، والبعول"، كما يجمع"الفحل""والفحول والفحولة"، و"الذكر""الذكور والذكورة". وكذلك ما كان على مثال"فعول" من الجمع، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه"الهاء"، فإما ما كان منها على مثال"فِعال"، فقليل في كلامهم دخول"الهاء" فيه، وقد حكى عنهم."العِظامُ والعِظامة"، (٢) ومنه قول الزاجر: (٣)
* ثُمَّ دَفَنْتَ الْفَرْثَ وَالعِظَامهْ * (٤)
(١) ديوانه: ٤٨٢ والنقائض: ٦٥٠ وطبقات فحول الشعراء: ٣٤٧. من نقيضة عجيبة كان من أمرها أن الحجاج قال لهما: ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية. فجاء الفرزدق قد لبس الخز والديباج وقعد في قبة. وشاور جرير دهاة قومه بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد! فلبس جرير درعًا وتقلد سيفًا، وأخذ رمحًا وركب فرسًا وأقبل في أربعين فارسًا من قومه. فلما رأى الفرزدق قال:
لَبِسْتُ سِلاَحِي والفَرَزْدَقُ لُعْبِةً عَلَيْهِ وِشَاحًا كُرَّجٍ وَجَلاَجِلُهْ
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ... ...................
والكرج: الخيال الذي يلعب به المخنثون كأنه"خيال الظل" فيما أظن. والجلاجل: الأجراس ويروى: "أعدوا مع الخز" وهو الحرير. والملاب: طيب من الزعفران تتخلق به العروس في زينتها لجلوها. والحلائل جمع حليلة. وهي الزوجة. ولشد ما سخر جرير من ابن عمه!!
(٢) انظر سيبويه ٢: ١٧٧.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) الجمهرة ٣: ١٢١ واللسان (عظم) و (هذم) والرجز يخالف رواية الطبري وهو:
وَيْلٌ لِبُعْرَانِ أبِي نَعَامَةْ مِنْكَ وَمِنْ شَفْرَتكَ الهُذَامَةْ
إِذَا ابْتَرَكْتَ فَحَفَرْتَ قَامَهْ ثُمَّ نَثَرْتَ الفَرْثَ وَالعِظَامَهْ
ورواية البيت الأول في اللسان (هذم) :"بني نعامه" وفي الجمهرة"بني ثمامه". ورواية البيت الأخير في الجمهرة: "ثم أكلت اللحم والعظامة". قوله: "الهذامة". تهذم اللحم: أي تسرع في قطعه. وابترك: جثا وألقى بركه على الأرض. وأظنه يصف أسدًا أو ذئبًا.
526
وقد قيل:"الحجارة والحِجار" و"المِهارة والمِهار" و"الذِكّارة والذِكّار"، للذكور.
* * *
وأما تأويل الكلام، فإنه: وأزواج المطلقات = اللاتي فرضنا عليهن أن يتربَّصن بأنفسهن ثلاثه قروء، وحرَّمنا عليهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن= أحق وأولى بردهن إلى أنفسهم (١) في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة، وأيام الحيل، وارتجاعهن إلى حبالهم (٢) = منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك (٣) كما:-
٤٧٥٤ - حدثي المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا"، يقول: إذ طلق الرجل امرأته تطليقة أو ثنتين، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع.
٤٧٥٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" وبعولتهن أحق بردهن" قال: في العدة
٤٧٥٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا قال الله تعالى
(١) في المخطوطة: "إلى أنفسهن" وهو خطأ في المعنى.
(٢) في المخطوطة: "إلى حبالهن" وهو خطأ أيضًا في المعنى. والحبال جمع حبل: وهو المواصلة وهو العهد أيضًا. يعني بذلك إمساكهن: وهو من الحبل الذي هو الرباط.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يمنعهن" وهو خطأ ثالث في المعنى. والصواب ما أثبت وقوله: "منهن بأنفسهن.. " سياقه: "أحق وأولى بردهن... منهن بأنفسهن... ".
527
ذكره:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا"، وذلك أنّ الرجل كان إذا طلَّق امرأته كان أحقَّ برجعتها وإن طلاقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) الآية.
٤٧٥٧ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك" في عدتهن. (١)
٤٧٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٤٧٥٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال، في العدة
٤٧٦٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك"، أي في القروء في الثلاث حيض، (٢) أو ثلاثة أشهر، أو كانت حاملا فإذا طلَّقها زوجها واحدة أو اثنتين رَاجعها إن شاء ما كانت في عدتها
٤٧٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك" قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، (٣) فنهاهنّ الله عن ذلك وقال:" وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك"، قال قتادة: أحق برجعتهن في العدة.
(١) الأثر: ٤٧٥٧- في المخطوطة والمطبوعة: "حدثنا موسى بن عمرو" وهو خطأ صرف والصواب"محمد بن عمرو". وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم: ٤٧٣٩.
(٢) في المطبوعة: "في القروء الثلاث حيض" بحذف"في" الثانية.
(٣) يعني في الجاهلية كما مضى في الآثار السالفة قبل.
528
٤٧٦٢ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وبعولتهن أحقُّ بردهن في ذلك"، يقول: في العدة ما لم يطلقها ثلاثًا.
٤٧٦٣ - حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، يقول: أحق برجعتها صاغرة عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل (١)
٤٧٦٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" وبعولتهن أحق بردهن"، أحقّ برجعتهنّ، ما لم تنقض العِدّة.
٤٧٦٥ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:" وبعولتهنّ أحق بردهنّ في ذلك"، قال: ما كانت في العدة إذا أراد المراجعة
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: (٢) فما لزوج- طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها- عليها رجعة في أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدًا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟
قيل: أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز = إذا أراد ضرارها بالرجعة، لا إصلاح أمرها وأمره = مراجعتُها. (٣)
وأما في الحكم فإنه مقضيٌّ له عليها بالرجعة، نظيرُ ما حكمنا عليه ببطول رَجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارًا منها له، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك، (٤) فكان سواءً في الحكم = في بطول
(١) الأثر: ٤٧٦٣- انظر الأثر السالف رقم ٤٧٥٣.
(٢) في المخطوطة: "فما لزوج واحدة" سقط من الناسخ"طلق" بين الكلمتين.
(٣) في المطبوعة: "بمراجعتها" وهو فاسد فسادا عظيما. والسياق: "... فغير جائز... مراجعتها" وما بينهما فصل، كعادة أبي جعفر.
(٤) قوله: "كتمانه" الضمير راجع إلى الزوج أي: نهى الله ان تكتم المرأة زوجها ذلك.
529
رَجعة زوجها عليها، وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها= (١) هي والتي أطاعت الله بتركها كتمانَ ذلك منه، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته، فكذلك المراجع زوجتَه المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حُرَّان= (٢) وإن أراد ضرار المُراجعة برجعته- فمحكوم له بالرجعة، وإن كان آثمًا بريائه في فعله، (٣) ومقدِمًا على ما لم يُبحه الله له، والله وليّ مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غيرُ جائز لهم الحوْلُ بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجتُه، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له، أخِذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات (٤) حتى يعود ضررُ ما أراد من ذلك عليه دونها.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، أبين الدلالة على صحة قول من قال: إنّ المولي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها، أنّ له عليها الرّجعة في طلاقه ذلك= (٥) وعلى فساد قول من قال: إن مضي الأشهر الأربعة عزُم الطلاق، وأنه تطليقه بائنة، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمُهم إذا آلوا من نسائهم، وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء.
* * *
(١) سياق عبارته: "فكان سواء في الحكم... هي والتي أطاعت الله.. " وما بينهما فصل للبيان.
(٢) قوله: "وهما حران" لأن طلاق العبد ثنتين ثم تحرم عليه، ليس كالحر ثلاثًا.
(٣) في المخطوطة"آثما بربه" غير منقوطة كأنها"بربه" ولكن لم أجد في كتب اللغة"أثم بربه" وإن كنت أخشى أن تكون صوابًا له وجه لم أتحققه. وفي المطبوعة"برأيه" كأنهم استنكروا ما استنكرناه، فظنوا فيه تصحيفًا أو تحريفًا فقرأوه كذلك. ولكن أجود قراءاته أن تكون ما أثبت لأن فعل المراجع وهو يضمر الضرار رياء لا شك فيه.
(٤) في المطبوعة: "أخذ لها الحقوق" والصواب من المخطوطة وقوله: "أخذ" مبني للمجهول ومعناها: طولب وأمسك حتى يعطيها حقوقها.
(٥) السياق: "وفي قوله... أبين الدلالة على صحة قول من قال.. وعلى فساد قول من قال.. "
530
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٦٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو عاصم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، قال: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن، فعليه أن يُحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، ويُنفق عليها من سَعَته.
٤٧٦٧ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف"، قال: يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجهن من التَّصنُّع والمواتاة، مثل الذي عليهن لهم في ذلك. (١)
* ذكر من قال ذلك:
(١) التصنع: التزين. تصنعت المرأة وصنعت نفسها: إذا تزينت زينتها بالتجمل والعلاج. ومن جيد ما جاء في معنى"صنع نفسه" ما أنشده عمر بن عبد العزيز:
إنِّي لأَمْنَحُ مَنْ يُوَاصِلُنيِ مِنِّي صَفَاءً لَيْسَ بالمَذْقِ
وَإذَا أَخٌ لي حَالَ عَنْ خُلُقٍ دَاوَيْتُ مِنْهُ ذَاكَ بالرِّفْقِ
وَالمَرْءُ يَصْنَعُ نَفْسَهُ وَمَتَى مَا تَبْلُهُ يَنزِعْ إلى العِرْقَ
أما"المؤاتاة" فهي: حسن المطاوعة يقال: "آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة" إذا وافقته وطاوعته والعامة تقول: "واتيته" مواتاه وهل لغة ما، جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة.
531
٤٧٦٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إني أحبُّ أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي; لأن الله تعالى ذكره يقول:" ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف" (١)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية عندي: وللمطلقات واحدة أو ثنتين -بعد الإفضاء إليهن- على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ في أقرائهن الثلاثة (٢) إذا أرادوا رجْعتهن فيهن، إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم، وأن لا يراجعوهن ضرارًا (٣) = كما عليهن لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ، أن لا يكتمنَ ما خلق
(١) الأثر: ٤٧٦٨- بشير بن سلمان الكندي أبو إسماعيل الكوفي روى عن مجاهد وعكرمة وأبي حازم الأشجعي وسيار أبي الحكم والقاسم بن صفوان سمع منه وكيع وأبو نعيم وابنه الحكم والسفيانان وابن المبارك وغيرهم. وهو ثقة صالح الحديث قليله. مترجم في التهذيب والكبير ٢/١٩٩، والجرح والتعديل ١/١٣٧٤. وكان في المطبوعة: "بشر بن سلمان" وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "أن لا يراجعوهن ضرارا" زاد"ضرارا" هنا وهي مفسدة للكلام وليست في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "فلا يراجعوهن ضرارا" وهو تبديل ألجأهم إليه الفساد السابق في الجملة السالفة. والصواب من المخطوطة.
532
الله في أرحامهنّ من الولد ودم الحيض ضرارًا منهن لهم لِيَفُتْنهم بأنفسهنّ، (١)
ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهنّ في أقرائهنَّ ما خلق الله في أرحامهنّ، إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر، وجعل أزواجهن أحق بردّهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا، فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله:" ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف" فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته، مثل الذي له على صاحبه من ذلك.
فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره.
وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك، وإن كانت الآية نزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى"الدرجة" التي جعل الله للرجال على النساء، الفضلُ الذي فضّلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٦٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وللرجال عليهن درجة" قال: فَضْل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفَضْل ميراثه، على ميراثه، وكل ما فضِّل به عليها.
(١) في المطبوعة: "لتيقنهن" وهو خطأ موغل في الفساد واللغو. وفي المخطوطة: "لتنفهم" مختلطة الأحرف والتقط، كأن الناسخ لما أراد أن يكتب"ليسبقهم" ثم استدرك وخط على السين ليجعلها"ليفتنهم" والصواب ما أثبت. وقد جاء هذا اللفظ في حديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها تطليقتين ثم بعث إليها من اليمين بالتطليقة الثالثة، فجاءت إلى رسول الله ﷺ تستفتيه فقال لها: "ليست له فيك ردة وعليك العدة" وأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم ثم قال لها: "فإذا حللت فلا تفوتيني بنفسك" قالت: فوالله ما أظن رسول الله ﷺ حينئذ يريدني إلا لنفسه، فلما حللت خطبني على أسامة بن زيد فزوجنيه" (مسند أحمد ٦: ٤١٤).
ومعنى: "فاته بنفسه" سبقه إلى حيث لا يبلغه ولم يقدر عليه وفات يده، ولو كانت"ليسبقنهم بأنفسهن" لكانت صوابًا وهي مثلها في المعنى.
533
٤٧٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٤٧٧١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: عن قتادة:" وللرجال عليهن درجة"، قال: للرجال درجةٌ في الفضل على النساء
* * *
وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمْرة والطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٧٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: إمارةٌ.
٤٧٧٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: طاعةٌ. قال: يطعن الأزواجَ الرجال، وليس الرجال يطيعونهن
٤٧٧٤ - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن محمد في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: لا أعلم إلا أن لهن مثل الذي عليهن، إذا عرفن تلك الدرجة (١)
* * *
وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدَّت، وإذا قذفها لاعنَ.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٧٥ - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة، عن الشعبي في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: بما أعطاها من صَداقها، وأنه إذا قذفها
(١) الأثر: ٤٧٧٤-"أزهر" هو أزهر بن سعد السمان أبو بكر الباهلي البصري روى عن سليمان التيمي وابن عون وهشام الدستوائي وروى عنه ابن المبارك وهو أكبر منه، وعلي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس وبندار. قال ابن سعد: ثقة. ومات سنة ٢٠٣.
534
لاعَنها، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده.
* * *
وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها، إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٧٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما أحب أن استنظف جميع حقي عليها، لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة" (١)
* * *
وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٧٧ - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا عبيد بن الصباح قال، حدثنا حميد قال،" وللرجال عليهن درجة" قال: لحية. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن"الدرجة" التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه.
وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" وللرجال عليهن درجة" عَقيب قوله:" ولهن
(١) الأثر: ٤٧٧٦- في المطبوعة"بشر بن سلمان" والصواب"بشير" كما سلف في التعليق على الأثر رقم: ٤٧٦٨ آنفًا.
استنظف الشيء: إذا استوفاه واستوعبه وأخذه كله. وفي الحديث: "وتكون فتنة تستنظف العرب" أي تستوعبهم هلاكًا. اللهم قنا عذابك ونجنا من كل فتنة مهلكة.
(٢) الأثر: ٤٧٧٧-"عبيد بن الصباح الخراز" روى عن عيسى بن طهمان وموسى بن علي بن رباح وفضيل بن مرزوق وعمرو بن أبي المقدام وعبد الله بن الممل. روى عنه موسى بن عبد الرحمن المسروقي وأحمد بن يحيى الصوفي. قال أبو حاتم. ضعيف الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في الجرح والتعديل ٢/٢/٤٠٨، ولسان الميزان ٤: ١١٩.
أما"حميد" فلم أعرف من هو، حميد كثير لم أجد فيمن يسمى"حميدًا" روية عبيد بن الصباح عنه. وربما كان"فضيل بن مرزوق" فإن"حميد" في المخطوطة مضطربة الكتبة كأن الناسخ لم يكن يحسن يقرأ من الأصل الذي نقل عنه، ولكني أستبعد ذلك. هذا وقد نقل هذا الأثر القرطبي في تفسيره ٣: ١٢٥: "وهذا إن صح عنه، فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها" ثم قال: "طُوبَى لعبدٍ أمْسَك عمّا لا يعلمُ وخُصوصًا في كِتَاب الله تعالى"
ونعم ما قال ابن العربي ولعله يعظ بعض أهل زماننا.
535
مثلُ الذي عليهن بالمعروف"، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره:" وللرجال عليهن درجة"بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله:"ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها" لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة".
* * *
ومعنى"الدرجة"، الرتبة والمنزلة.
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة. (١)
* * *
(١) من حق أبي جعفر رضي الله عنه أن أقف بقارئ كتابه على مثل هذا الوضع من تفسيره. لأقول مرة أخرى: إنه كان مفسرا إماما سبق قفات السابقين. لم يلحقه لاحق في البصر بمعاني كتاب ربه، وفي الحرص على بيان معانيه، وفي الدقة البالغة في ضبط روابط الآيات بعضها ببعض. ومن شاء أن يعرف فضل هذا الإمام وتحققه بمعرفة أسرار هذا الكتاب فليقرأ ما كتبه المفسرون بعده في تفسير هذه الجملة من الآية فهو واجد في المقارنة بين الكلامين ما يعينه على إدراك حقيقة مذهب أبي جعفر في التفسير، وما يدله على صدق ما قلت، من أن الرجل قد نهج للمفسرين نهجًا قل من تبعه فيه، أو أطاق أن يسير فيه على آثاره. ولم يكتب أبو جعفر ما كتب على سبيل الموعظة كما يفعل أصحاب الرقائق والمتصوفة وأشباههم، بل كتب بالبرهان والحجة والملزمة واستخرج ذلك من سياق الآيات المتتابعة من أول آية الإيلاء-"للذين يلون من نسائهم"- وما تبعها من بيان طلاق المولى، وكيف يفعل الرجل المطلق وكيف تفعل المرأة المطلقة، وما أمرت به من ترك كتمان ما خلق الله في رحمها وائتمانها على هذا السر المضمر في أحشائها وما للرجال من الحق في ردهن مصلحين غير مضارين وتعادل حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة لا ينال المرء قبلها إلا بالعزم والتسامي وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته.
ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثًا وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوبا لهم، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا.
وأبو جعفر رضي الله عنه لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب، سواء كان ذلك في آيات الأحكام أو آيات القصص أو غيرها من نصوص هذا الكتاب. فهو يأخذ المعنى في أول الآية من الآيات ثم يسير معه كلمة كلمة وحرفًا حرفصا ثم جملة جملة غير تارك لشيء منه أو متجاوز عن معنى يدل عليه سياقها. وليس هذا فحسب بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب قد جاء ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل وبينته سنة رسول الله ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان.
وأحب أن أقول إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح كما تهدي إليه المعرفة بلغة العربن وبناسخ القرآن ومنسوخه وبسنة رسول الله ﷺ فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات. ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم الذي أدب الله به المطلقين وحثهم عليه وعرفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة والعفو عن هذه الحقوق، لمن وضعها الله تحت يده، فملكه طلاقها وفراقها، ولم يملكها من ذلك مثل الذي ملكه. فاللهم اغفر لنا واهدنا وفقهنا في ديننا وعلمنا من ذلك ما لم نكن نعلم، إنك أنت السميع العليم.
536
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله عزيز" في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدَّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضَل امرأته بإيلائه، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن، ونكحن في عددهن، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن، وركبن غير ذلك من
537
معاصيه="حكيم" فيما دبَّر في خلقه، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه، كما:
٤٧٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" والله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.
* * *
وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ" إلى قوله:" وللرجال عليهن درجة" ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.
* * *
* ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل
(١) ومرة أخرى فلينظر الناظر كيف يكون ربط معاني الآيات بعضها ببعض وأنه برهان على أن هذا المفسر الإمام يربط معاني هذه الآيات الطوال جميعًا من أول الآية: ٢٢١ إلى الآية: ٢٢٨.
538
امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه. (١)
* * *
* (٢) ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك:
٤٧٧٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له: كيف؟ قال: أطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف"الآية.
٤٧٨٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤيك، ولا أدَعك
(١) عند هذا الموضع انتهى التقسيم القديم في النسخة التي نقلت عنها نسختنا العتيقة ويلي هذا ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرًا
على الأصل
بلغ السماعُ من أوله لمحمد وعلى ابني أحمد بن عيسى السعدي وأحمد بن عمر الجهاري (؟؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي الأبهري بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى على الإمام أبي الحسن الخصيبي وهو ينظر في كتابه، عن أبي محمد الفرغاني عن أبي جعفر الخصيبي في شعبان سنة ثمان وأربعمئة"
(٢) ابتداء هذا التقسيم:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ"
539
تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك، فمتى تحلّين؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلق ومن لم يكن طلق. (١)
٤٧٨١ - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات. (٢)
٤٧٨٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حَّد في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، (٣) فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات.
٤٧٨٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" الطلاق مرتان"، قال كان الطلاق- قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له، وطلق رجلٌ امرأته، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا، مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
٤٧٨٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، أما قوله:
(١) الحديثان: ٤٧٧٩، ٤٧٨٠- هما في معنى واحد بإسنادين إلى هشام بن عروة وهما مرسلان لأن عروة بن الزبير تابعي. وقد ثبت الحديث وصح موصولا كما سنذكر إن شاء الله.
وجرير- في الإسناد الأول: هو ابن عبد الحميد الضبي. وابن إدريس- في الإسناد الثاني: هو عبد الله بن إدريس الأودي.
والحديث رواه الترمذي ٢: ٢١٩ عن أبي كريب محمد بن العلاء -شيخ الطبري في الإسناد الثاني- بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه أحاله على الرواية الموصولة، كما سيأتي.
ورواه أيضًا -بنحوه- مالك في الموطأ ص: ٥٨٨ عن هشام بن عروة عن أبيه. مرسلا وكذلك رواه الشافعي عن مالك. (مسند الشافعي بترتيب الشيخ عابد السندي ٢: ٣٤).
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ٣٣٣ من طريق الشافعي عن مالك.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن هشام مرسلا. كما نقله عنه ابن كثير ١: ٥٣٧- ٥٣٨ وكذلك رواه البيهقي ٧: ٤٤٤ من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الواب. عن جعفر ابن عون.
وكذلك رواه ابن أبي حاتم -في تفسيره- عن هارون بن إسحاق عن عبدة بن سليمان عن هشام ابن عروة عن أبيه مرسلا. نقله عنه ابن كثير ١: ٥٣٧.
وأما الرواية الموصولة: فإنه رواه الترمذي ٢: ٢١٨- ٢١٩ عن قتيبة بن سعيد عن يعلى بن ابن شيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -بنحوه- مرفوعًا متصلا.
ورواه الحاكم ٢: ٢٧٩- ٢٨٠ من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شيب به، نحوه وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة". وتعقبه الذهبي فقال: "قد ضعفه غير واحد"! وهذا عجب من الحافظ الذهبي كأن الحديث انفرد بوصله يعقوب هذ، حتى يقرر الخلاف بين توثيقه وتضعيفه، وأمامه في الترمذي رواية قتيبة عن يعلى!!
ورواه أيضًا البيهقي ٧: ٣٣٣ من طريق يعقوب بن حميد عن يعلى به. ثم قال: ورواه أيضًا قتيبة بن سعيد والحميدى عن يعلى بن شبيب وكذلك قال محمد بن إسحاق بن يسار بمعناه وروى نزول الآية فيه- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة".
ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها البيهقي- ذكرها ابن كثير ١: ٥٣٨ من رواية ابن مردويه من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة".
وذكر ابن كثير أيضًا -قبل ذلك بأسطر- أنه رواه ابن مردويه"من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فذكره بنحوه ما تقدم". يريد رواية عبد بن حميد عن جعفر بن عون.
فهذان ثقتان روياه عن هشام بن عروة مرفوعًا والرفع زيادة تقبل من الثقة كما هو معروف. ولا يعل المرفوع بالموقوف بل يكون الموقوف ميدا للمرفوع ومؤكدًا لصحته.
فيعلى بن شبيب الأسدي مولى آل الزبير: ثقة: ذكره ابن حبان في الثقات. وترجمه البخاري في الكبير ٢٠ / ٤٠ / ٢٠ / ٤١٨ - ٤١٩ وابن أبي حاتم في ٤/٢/٣٠١- فلم يذكرا فيه جرحا. وقد رواه الأسدي. الملقب"لوين".
ومحمد بن إسحاق بن يسار: ثقة لا حجة لمن تكلم فيه.
(٢) قوله: "كان أهل الجاهلية، كان الرجل... " قد مضى برقم: ٤٧٥١ في حديث قتادة أيضًا بنفس هذا الإسناد -مثل هذا التعبير العربي الفصيح، كما أشرنا إليه في التعليق ص: ٥٢٢
(٣) في المخطوطة: "ما داحقها في عدتها" تصحيف فيما أظن ولكن كيف يجيء مثل هذا التصحيف من كاتب!!
540
" الطلاق مرتان"، فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة.
٤٧٨٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة= إذا كن مدخولا بهن= تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين، إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.
* * *
وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبيّ الله ﷺ تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن- لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من زوجها. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٨٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به. (٢)
٤٧٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
(١) في المطبوعة: "لا دلالة على القدر" تصحيف وتحريف، والصواب من المخطوطة.
(٢) الأثر: ٤٧٨٦ -أخرجه النسائي في السنن ٦: ١٤٠ بغير هذا اللفظ وكذلك البيهقي في السنن ٧: ٣٣٢ وابن ماجه ١: ٦٥١.
542
بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا.
٤٧٨٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، قال: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحب أن يفعل، (١) فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، (٢) ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان"، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها. (٣)
٤٧٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: فحاضت الحيضة الثانية، كما طلق الأولى، فهذان تطليقتان وقرءان، ثمّ قال: الثالثة- وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبى عاصم.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرحوهن بإحسان.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أحب أن يفعل" بزيادة الفاء وهو لا يستقيم.
(٢) قوله: /"وقرءان" هو مثنى"قرء".
(٣) في المخطوطة"تجمع عليه" وهو خطأ. يقال: جمعت علي ثيابي إذ لبست الثياب التي تبرز بها إلى الناس من إزار ورداء وعمامة. وجمعت المرأة ثيابها: لبست الدرع والملحقة والخمار. وكني بقوله: "جمعت عليها ثيابها" عن غسلها من حيضتها ولبسها ثيابها في طهر.
543
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر التنزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ- ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه.
* * *
وأما قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فإنّ في تأويله وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل.
فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين (١) بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية- من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٩٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"الطلاق مرتان"، قال: يقول عند الثالثة: إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره قالها (٣) قال: وقال مجاهد: الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل، وتعتدّ لغيره.
(١) في المخطوطة: "اللازم للأزواج المطلقات اثنتين" وفي المطبوعة: "اللازم للأزواج المطلقات" والذي أثبته أجود العبارات الثلاث.
(٢) في المخطوطة: "أو بفراقهن" بزيادة"باء" لا محل لها هنا.
(٣) في المطبوعة: "وغيرها قالها" والصواب من المخطوطة - ويعني: وغيره قال هذه المقالة، ثم ذكر مقالة مجاهد في تأويل الآية. هذا ما رأيت إلا أن يكون في الكلام تصحيف.
544
٤٧٩١ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، أتى النبي ﷺ رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان" هي الثالثة".
٤٧٩٢ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله،"الطلاق مرتان"، فأين الثالثة؟ قال:"إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان".
٤٧٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن أبي رزين قال، قال رجل: يا رسول الله، يقول الله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف" فأين الثالثة؟ قال:"التسريح بإحسان". (١)
(١) الأحاديث: ٤٧٩١- ٤٧٩٣ كلها حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وهو حديث مرسل ضعيف كما سنذكر إن شاء الله.
* سفيان في الإسناد الثاني: هو الثوري كما في الإسناد الثالث.
* إسماعيل بن سميع -بضم السين مصغرًا- الحنفي: ثقة مأمون كما قال ابن معين. ومن تكلم فيه فإنما تكلم من أجل أنه كان يرى رأي الخوارج.
* أبو رزين -بفتح الراء وكسر الزاي: هو الأسدي أسد خزيمة واسمه"مسعود" وهو تابعي كوفي ثقة. وبعضهم يقول: "مسعود بن مالك" فيشتبه براو آخر اسمه"مسعود بن مالك بن معبد" مولى سعيد بن جبير وهو متأخر عن أبي رزين. وقد حققنا ذلك مفصلا في المسند: ٣٥٥١، ٧٤٣٢م، وفي الاستدراك فيه: ٧٠٧.
* و"أبو رزين الأسدي" هذا تابعي كما قلنا. وهو غير"أبي رزين العقيلي" ذاك صحابي اسمه"لقيط بن عامر" مضت ترجمته: ٣٢٢٣.
* والإسناد: ٤٧٩٣- هو في تفسير عبد الرزاق ص: ٢٨- ٢٩. وفيه: "أسمع الله يقول" بدل"يقول الله" وكذلك هو في المصنف لعبد الرزاق ج ٣ ص ٣٠١.
* والحديث ذكره ابن كثير ١: ٥٣٨- ٥٣٩ من رواية بن أبي حاتم. وعبد بن حميد وسعيد ابن منصور وابن مردويه- بأسانيدهم، كلهم عن أبي رزين بنحوه مرسلا. وكذلك رواه البيهقي ٧: ٣٤٠ بإسناده من رواية سعيد بن منصور.
* وهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهمًا شديدًا إذ نسب هذا الحديث المرسل لرواية المسند فقال: "ورواه الإمام أحمد أيضًا".
* والحديث ذكره السيوطي ١: ٢٧٧ وزاد نسبته لوكيع. وأبي داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس.
* وسيقول أبو جعفر بعد قليل مشيرا إلى هذا الحديث: "فإن اتباع الخبر عن رسول الله ﷺ أولى بنا من غيره". وهذا ذهاب منه إلى الاحتجاج بالحديث المرسل. وهو مذهب يختاره بعض اهل العلم.
* وقد رددت على أبي جعفر -رحمه الله- في كتاب نظام الطلاق في الإسلام في الفقرة: ٢٩ بعد أن ذكرت كلامه- فقلت: "ونعم إن الخبر عن رسول الله ﷺ أولى بنا من غيره وعلى العين والرأس ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان صحيحًا ثابتًا. ولكن خبر أبي رزين هذا غير صحيح فإنه مرسل غير موصول. لأن أبا رزين الأسدي تابعي وليس صحابيًا. والمرسل لا حجة فيه، لأنه عن راو مجهول ثم إنه خبر باطل المعنى جدًا. وحاشا رسول الله ﷺ أن يفسر الطلقة الثالثة بهذا، وهي ثابتة في الآية التي بعدهافي سياق الكلام: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره). وإلا كانت طلقة رابعة. وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة".
545
٤٧٩٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:" أو تسريح بإحسان" قال في الثالثة.
٤٧٩٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان الطلاق ليس له وقت حتى أنزل الله:" الطلاق مرتان" قال: الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان".
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة.
* ذكر من قال ذلك:
٤٧٩٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: ذلك:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، إذا طلق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك ="ويمسك": يراجع = بمعروف، وإما سكت عنها
546
حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها.
٤٧٩٧ - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريح بإحسان" والتسريحُ: أن يدعها حتى تمضي عدتها. (١)
٤٧٩٨ - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تصريح بإحسان"، قال: يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان. قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساك في كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف، أو تسريحٌ لهن بإحسان.
وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله ﷺ أولى بنا من غيره.
فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: هو ما:-
(١) الأثر: ٤٧٩٧-"علي بن عبد الأعلى" لم أجد في شيوخ الطبري من يسمى"علي ابن عبد الأعى" وسيأتي في الأثر: ٤٧٩٩"علي بن عبد الأعلى المحاربي" ورقم: ٤٨٠٤. والذي يكثر الرواية عنه في التفسير هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني فلا أدري ما الصواب.
(٢) في المطبوعة: "أملك لأنفسهن" وأثبت ما في المخطوطة.
547
٤٧٩٩ - حدثنا به علي بن عبد الأعلى المحاربي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" فإمساك بمعروف"، قال: المعروف: أن يحسن صحبتها. (١)
٤٨٠٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإمساك بمعروف"، قال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها.
* * *
فإن قال: فما التسريح بإحسان؟
قيل: هو ما:-
٤٨٠١ - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" أو تسريح بإحسان"، قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئًا. (٢)
٤٨٠٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، قال: هو الميثاق الغليظ. (٣)
٤٨٠٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" أو تسريح بإحسان" قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها.
٤٨٠٤ - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريحٌ بإحسان"، قال: التسريح بإحسان:
(١) الأثر: ٤٧٩٩- انظر التعليق السالف على الأثر رقم: ٤٧٩٧.
(٢) الأثر: ٤٨٠٠، ٤٨٠١- هما بعض الأثر السالف رقم: ٤٧٨٧. وفي المطبوعة والمخطوطة في رقم: ٤٨٠١"قيل: يسرحها... " والصواب ما أثبت.
(٣) سيأتي تفسير"الميثاق الغليظ" بعد قليل في رقم: ٤٨٠٥.
548
أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قَدْر الميسرة.
٤٨٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله:" وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"قال قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان".
* * *
فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟
قيل: محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه: الطلاق مرتان، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: ١٧٨] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا"، ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن- لطلاقكم وفراقكم إياهن (٢) شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم"إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله".
* * *
(١) انظر ما سلف ٣: ٣٧٢.
(٢) في المطبوعة: "بطلاقكم" بالباء والصواب من المخطوطة.
549
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم:"إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، وذلك قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله).
٤٨٠٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره).
* * *
والعرب قد تضع"الظن" موضع"الخوف"،"والخوف" موضع"الظن" في كلامها، لتقارب معنييهما، (١) كما قال الشاعر: (٢)
أتاني كلام عن نصيب يقوله وما خفت يا سلام أنك عائبي (٣)
بمعنى: ما ظننت.
* * *
(١) هذا بيان فلما تصيبه في كتب اللغة وانظر معاني القرآن للفراء ١: ١٤٥- ١٤٦ ففيه بيان أوفى.
(٢) هو أبو الغول الطهوي وهو شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية.
(٣) البيت في نوادر أبي زيد: ٤٦ ومعاني القرآن للفراء ١: ١٤٦ وسيأتي في التفسير ٥: ٤٠ (بولاق) ولم أجد خبر"نصيب" و"سلام" وربما كان نصيب هذا هو أبو الحجناء نصيب الأسود مولى عبد العزيز بن مروان. فإن أبا الغول، كما أسلفت شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية وهجا حمادا (الأغاني ٥: ١٦٢) وقال له أيضًا فيما روى أبو زيد في نوادره ص: ٤٦.
ولقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إن الصديق يعاتب
550
وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله).
فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، (١) فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك (٢) اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: (إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله). وقراءة ذلك كذلك، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه، خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في"أن" وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر: (٣)
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة... تروي عظامي بعد موتي عروقها (٤) ولا تدفنني بالفلاة فإنني... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها (٥)
فأما قارئه:" إلا أن يخافا" بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكة تسميته، (٦) وفي"أن"- فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسم فاعله، وفي"أن" التي تنوب عن شيئين، (٧) ولا تقول العرب في كلامها:" ظنا أن يقوما".
ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا
(١) هو الإمام الكوفي الحبر حمزة بن حبيب الزياتأحد القراء السبعة.
(٢) الذي ذكر هذا هو الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٦ ولكن عبارة الفراء تدل على أنه ظن ذلك واستخرجه لا أن حمزة قرأها كذلك يقينا غير شك. ونص الفراء: "وأما ما قال فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم تصبه- والله أعلم". فإن يكن الطبري أخذه عن الفراء فهذا كلام الفراء وإن اخذه من غيره فهو ثقة فيما ينقل.
(٣) هو أبو محجن الثقفي.
(٤) ديوانه: ٢٣ ومعاني القرآن للفراء ١: ١٤٦ والخزانة ٣: ٥٥٠ وغيرها كثير وخبر أبي محجن في الخمر وحبها مشهور.
(٥) هذا البيت شاهد للنحاة على تخفيف"أن" لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين واسمها ضمير شأن محذوف، أو ضمير متكلم وجملة"لا أذوقها" في محل رفع، خبرها.
(٦) يعني أن الفعل قد عمل في نائب الفاعل وفي جملة"أن المخففة من"أن" كما سيظهر من بيان كلامه. وقد بين ذلك أيضًا الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٦- ١٤٧.
(٧) يعني بقوله: "أن التي تنوب عن شيئين" أنها في موضع المفعولين، تسد مسدهما.
551
قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله- أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في"أن" غير"الخوف"، ويكون"الخوف"، عاملا فيما لم يسم فاعله. (١) وذلك هو الصواب عندنا من القراءة (٢) لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله"، فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟
قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف على زوجها - بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي ﷺ لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه، بغضا منها له، كما:-
٤٨٠٧ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، قرأت على فضيل، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة، هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام، أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! قال زوجها: يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي! حديقة، فإن ردت على حديقتي! قال:"ما تقولين؟ " قالت: نعم،
(١) هذا كله قد بينه الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٦- ١٤٧ كما أسلفنا.
(٢) في المطبوعة: "في القراءة" والأجود ما في المخطوطة.
552
وإن شاء زدته! قال: ففرق بينهما. (١)
٤٨٠٨ - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد الله- يعني ابن أبي بكر-، عن عمرة عن عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، (٢) فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله ﷺ بعد الصبح، فاشتكته، فدعا رسول الله ثابتا، فقال: خذ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلح ذاك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال، فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذهما وفارقها. ففعل. (٣)
(١) الحديث: ٤٨٠٧- المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي: ثقة روى عنه الأئمة: ابن مهدي وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وغيرهم.
فضيل- بالتصغير: هو ابن ميسرة الأزدي العقيلي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره.
أبو حريز: هو عبد الله بن الحيسين الأزدي البصري، قاضي سجستان وهو مختلف فيه، والحق أنه ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما.
و"أبو حريز": بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وآخره زاي معجمة. ووقع في المطبوعة وابن كثير وفتح الباري"أبو جرير" وهو تصحيف ووقع في الإصابة"ابن جرير" وهو خطأ إلى خطأ.
وهذا الحديث صحيح الإسناد. وقد نقله ابن كثير ١: ٥٤٢ عن هذا الموضع. وذكره السيوطي ١: ٢٨٠- ٢٨١ ولم ينسباه لغير الطبري ونقله الحافظ في الفتح ٩: ٣٥١ قال: "وفي رواية معتمر بن سليمان... " فذكر نحوه مع شيء من الاختلاف في اللفظ. فدل على أنه نقله من رواية أخرى. ولكنه لم يبين من خرجه كعادته. سها رحمه الله. وأشار إليه في الإصابة ٨: ٤٠ في السطر ٣ وما بعده. منسوبا للطبري فقط.
وقد ثبت نحو معناه من حديث ابن عباس. رواه البخاري ٩: ٣٤٩- ٣٥٢. بأسانيد. ونقله ابن كثير عن روايات البخاري ١: ٥٤١- ٥٤٢ ثم قال: "وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه". ثم نقل نحوه من رواية الإمام أبي عبد الله بن بطة بإسناده عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر أنه رواه ابن مردويه في تفسيره، وابن ماجه ثم قال: "وهو إسناد جيد مستقيم". ورواية ابن ماجه - هي في السنن برقم: ٢٠٥٦.
وقوله: "أخت عبد الله بن أبي": هي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين. وهي أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول الصحابي الجليل. نسبت هي وأخوها إلى جدهما اختصارا. وهذا هو الصحيح الذي رجحه الحافظ وغيره.
ولم يذكر في هذه الرواية -في الطبري- اسم زوجها الذي اختلعت منه، وهو ثابت بن قيس بن شماس كما دلت على ذلك الروايات الأخر. وقد ولدت لزوجها ثابت هذا ابنه محمد بن ثابت وهو مترجم في الإصابة ٦: ١٥٢ وابن سعد ٥: ٥٨- ٥٩. وقد جزم بأن أمه هي جميلة بنت عبد الله ابن أبي". وقد أبت أمه أن ترضعه بما أبغضت أباه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"فبزق في فيه وحنكه وسماه محمدا. وقال: اختلف به فإن الله رازقه. فأتيته اليوم الأول والثاني والثالث فإذا امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن قيس فقلت: ما تريدين منه؟ أنا ثابت. فقالت: أريت في منامي كأني أرضع ابنا له يقال له: محمد فقال: فأنا ثابت وهذا ابني محمد. قال: وإذا درعها يعتصر من لبنها". رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢١٠- ٢١١ وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي وهو إسناد صحيح متصل لأن السياق يدل على أن محمدا هذا سمعه من أبيه وحدث به عنه. وقد ذكره الحافظ في ترجمته في الإصابة، بنحو من هذا.
وهو ييد أن المختلعة من ثابت هي جميلة هذه.
ووقع في المطبوعة: "فلتردد على حديقتي". والصواب ما أثبتنا: "فإن ردت علي حديقتي". صححناه من المخطوطة وابن كثير والسيوطي. وجواب الشرط محذوف كما هو ظاهر. وهذا فصيح كثير في كلام البلغاء.
وانظر: ٤٨١٠.
(٢) في المطبوعة: "بنت سهل" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) الحديث: ٤٨٠٨- أبو عامر: هو العقدي. عبد الملك بن عمرو.
أبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام المدني وهو ثقة. قال أبو سلمة التبوذكي: "ما رأيت كتابا أصح من كتابه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولم يعرفه ابن معين حق معرفته كما حكى عنه ابن أبي حاتم وضعفه النسائي. ولكن ترجمه البخاري في الكبير ٢/١/٤٣٨ فلم يذكر فيه حرجا. وهذا كاف في توثيقه خصوصا وقد أخرج له مسلم في صحيحه.
ولم يجزم البخاري بأن سعيد بن سلمة هو أبو عمرو راوي هذا الحديث، فقال: "وقال أبو عامر: حدثنا أبو عمرو السدوسي المدني. فلا أدري هو هذا أم غيره؟ ".
وترجم في التهذيب في الأسماء ٤: ٤١- ٤٢ وفي الكنى ١٢: ١٨١- ١٨٢ وأثبت الحافظ بالدلائل القوية أنهما راو واحد كما سيتبين من التخريج إن شاء الله.
عبد الله: هو ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم.
والحديث رواه أبو داود: ٢٢٢٨ عن محمد بن معمر -شيخ الطبري فيه- بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير ١: ٥٤١ عن أبي داود والطبري. ثم قال: "وأبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام".
وذكره الحافظ في التهذيب ٤: ٤١- ٤٢ موجزا من رواية أبي داود ثم قال: "وروى هذا الحديث أحمد بن محمد بن شعيب الرجالي عن محمد بن معمر عن أبي عامر العقدي عن سعيد بن سلمة عن عبد الله بن أبي بكر بإسناده. فدلت هذه الرواية على أن أبا عمرو المذكور في رواية أبي داود-: هو سعيد بن سلمة". ثم قال: "وسيأتي في الكنى ما يقرر أنهما واحد" ثم قال في"الكنى" من التهذيب ١٢: ١٨١- ١٨٢: "روى أبو محمد بن صاعد في الجزء الخامس من حديثه. حدثنا محمد ابن معمر القيسي حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا أبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة. حدثنا هشام بن علي السيرافي بالبصرة حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثني عبد الله بن أبي بكر- فذكر ذلك الحديث بعينه. فتعين أن أبا عمرو المديني السدوسي المذكور هو سعيد بن سلمة".
ورواه أيضًا البيهقي ٧: ٣١٥ من طريق هشام بن علي، عن عبد الله بن رجاء: "أخبرنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثنا عبد الله بن أبي بكر... " فذكره بزيادة في آخره.
وهذه الطريق مثل الطريق التي حكاها الحافظ آنفًا عن أبي محمد بن صاعد وهي تيد ما قاله وقلناه.
وذكره السيوطي ١: ٢٨٠، وزاد نسبته لعبد الرزاق ولم أجده في التفسير ولا في المنصف لعبد الرزاق ولعله خفي على موضعه في واحد منهما.
قوله"فكسر نغصها"- النغص، بضم النون وسكون الغين المعجمة وآخره ضاد معجمة: العظم الرقيق على طرف الكتف. وهذا هو الصواب في هذا الحرف هنا. وثبت في المطبوعة"بعضها" وكذلك في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود إلا في نسخة بهامش طبعة الهند ذكرت على الصواب. وهو الصحيح الثابت في مخطوطة الشيخ عابد السندي واضحة مضبوطة لا تحتمل تصحيفا. وييد ذلك ويقويه: أن رواية البيهقي"فكسر يدها" وأما كلمة"بعضها"- فإنها قلقة في هذا الموضع غير مستساغة.
وانظر الحديث التالي لهذا.
553
٤٨٠٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ رآها عند بابه بالغلس، فقال رسول الله ﷺ من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، لا أنا ولا ثابت بن قيس!! = لزوجها= فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر!. فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها. فأخذ منها، وجلست في بيتها. (١)
(١) الحديث: ٤٨٠٩- ابن بشار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري وأصحاب الكتب الستة مضت ترجمته في: ٣٠٤ ووقع في المطبوعة"أبو يسار"!! وهو تصحيف قبيح. صحح من المخطوطة. روح: هو ابن عبادة.
يحيى- شيخ مالك: هو الأنصاري. النجاري مضت ترجمته: ٢١٥٤ ووقع هناك في ترجمته"البخاري" وهو خطأ مطبعي. ومضى على الصواب في: ٣٣٩٥. وهو"يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة". فتكون"بيبة بنت سهل بن ثعلبة" صاحبة الحديث والقصة- عمة جده"قيس بن عمرو".
والحديث في الموطأ ص: ٥٦٤. ورواه الشافعي عن مالك في الأم ٥: ١٠١، ١٧٩.
ورواه أحمد في المسند ٦: ٤٣٣- ٤٣٤ (حلبي) عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك. ورواه أبو داود ٢٢٢٧، عغن القعنبي عن مالك ورواه النسائي ٢: ١٠٤ من طريق ابن القاسم عن مالك ورواه ابن حبان في صحيحه ٦: ٤٣٦- ٤٣٧ (من مخطوطة الإحسان) من طريق أبي مصعب أحمد بن أبي بكر، عن مالك ورواه البيهقي ٧: ٣١٢- ٣١٣ من طريق أبي داود.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (مخطوط مصور) ج ٤ في الورقة: ١٧ عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد به.
ورواه الشافعي في الأم -في الموضعين عقب روايته عن مالك- عن سفيان بن عيينة عن يحيى ابن سعيد.
ورواه ابن سعد في الطبقات ٨: ٣٢٦ في ترجمة"حبيبة"- عن يزيد بن هرون عن يحيى بن سعيد عن عمرة: "أن حبيبة بنت سهل... " فذكره مرسلا.
ثم رواه عن عارم بن الفضل عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد -فذكره معضلا حذف منه التابعية والصحابية وقد تبين من الروايات السابقة أن هذا والذي قبله متصلان على ما في ظاهرهما من الانقطاع. وذكره متصلا ابن كثير ١: ٥٤١ والسيوطي ١: ٢٨٠.
555
٤٨١٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة" قالت: نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في شأنهما- أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.
(١) الحديث: ٤٨١٠- يحيى بن واضح: هو أبو تميلة مضت ترجمته في: ٣٩٢.
الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو: ثقة وثقه ابن معين وأثنى عليه أحمد. وقال فيه ابن المبارك: "ومن لنا مثل الحسين". ووقع في المطبوعة"الحسن" وهو خطأ بين. ثابت: هو البناني.
عبد الله بن رباح الأنصاري: تابعي ثقة، وثقه ابن سعد والنسائي وغيرهما وقال ابن خراش: "وهو رجل جليل".
وهذا الإسناد صحيح. ولم أجده إلا عند الطبري هنا وعند ابن عبد البر في الاستيعاب فرواه ابن عبد البر ص: ٧٣٢- ٧٣٣ عن عبد الوارث بن سفيان عن قاسم بن أصبغ عن أحمد بن زهير عن محمد بن حميد الرازي -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد.
وقد تبين من هذه الأحاديث الأربعة: ٤٨٠٧- ٤٨١٠ ومن غيرها من الروايات الصحيحة -الاختلاف فيمن اختلعت من ثابت بن قيس بن شماس: أهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول أم حبيبة بنت سهل؟ فالراجح أنهما كلتاهما اختلعتا منه. وهو الذي رجحه الحافظ في الفتح ٩: ٣٥٠ وارتضاه. قال: "والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين. لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين".
وانظر الإصابة ٨: ٣٩- ٤٠، ٤٢، ٤٩.
556
٤٨١١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم! فدعاه رسول الله ﷺ فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال:"نعم"، قال ثابت: قد فعلت فنزلت:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها".
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى"الخوف" منهما أن لا يقيما حدود الله.
فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨١٢ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به.
٤٨١٣ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، قال ابن جريح: أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحل الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول:"لا يحل له"، حتى تقول:"لا أبر لك قسما، ولا اغتسل لك من جنابة".
٤٨١٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال،
557
أخبرني عمرو بن دينار قال، قال جابر بن زيد: إذا كان الشر من قبلها حل الفداء. (١)
٤٨١٥- حدثنا الربيع بن سليمان قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها.
٤٨١٦ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا محمد بن كثير، عن حماد، عن هشام، عن أبيه أنه قال: لا يصلح الخلع، حتى يكون الفساد من قبل المرأة.
٤٨١٧ - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في امرأة قالت لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة! قال: ما هذا- وحرك يده-"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"!! إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها.
٤٨١٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع.
٤٨١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف" إلى قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به". قال: إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتى تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك، فما أحذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها، فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به.
(١) في المطبوعة: "إذا كان النشز" كأنه ظنه مصدر"نشز" ولكن المصدر"نشوز" لا غير وهذا وهم من الطابع. أما المخطوطة ففيها ما أثبته وهو الصواب المحض.
558
٤٨٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، قال: لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك منها، (١) فأما أن يكون يضارها حتى تختلع، فإن ذلك لا يصلح، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حل له خلعها.
٤٨٢١ - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الصداق" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره ولا يكلمها، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته، (٢) فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية.
* * *
وقال آخرون: بل"الخوف" من ذلك: أن لا تبر له قسما، ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطيع لك أمرا فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٢٢ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن: إذا قالت:"لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"، فحينئذ حل الخلع.
٤٨٢٣ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال، إذا قالت المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع
(١) في المطبوعة: إلا أن يرى ذلك" وهي لا شيء. وفي المخطوطة: "إلا أن لك لوني" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
(٢) في المطبوعة: "غلظ عليها" والجيد من المخطوطة ما أثبته.
559
لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم حدا من حدود الله"، فقد حل له مالها.
٤٨٢٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن محمد بن سالم قال، سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت:"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا".
٤٨٢٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تحل الفدية حتى تقول:"لا أغتسل لك من جنابة". وقال: إن الزاني يزني ثم يغتسل!.
٤٨٢٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في الناشز قال، إن المرأة ربما عصت زوجها، ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه، فعند ذلك تحل الفدية.
٤٨٢٧ - حدثني موسى قال، (١) حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، لا يحل له أن يأخذ من مهرها شيئا=" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فإذا لم يقيما حدود الله، فقد حل له الفداء، وذلك أن تقول:"والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة"، فهو حدود الله، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها.
٤٨٢٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن) [سورة النساء: ١٩]، في قراءة ابن مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك ما أخذت منها. (٢)
(١) في المطبوعة: "حدثني يونس" وهو خطأ محض والصواب من المخطوطة وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير لا يختلف عليه.
(٢) الأثر: ٤٨٢٨- سيأتي هذا الأثر بنصه وإسناده في تفسير سورة النساء ٤: ٢١٢ (بولاق) وقد كان في المخطوطة والمطبوعة هنا"... ببعض ما آتيتموهن يقول إلا أن يفحش" وزيادة"يقول" من النساخ والصواب من ذلك الموضع من تفسير آية النساء. وسيأتي هناك: "إذ عضلتك وآذتك" والصواب ما هنا.
560
٤٨٢٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الخلع، قال: ولا يحل له إلا أن تقول المرأة:" لا أبر قسمه ولا أطيع أمره"، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق. (١)
* * *
وقال آخرون: بل" الخوف" من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٣٠ - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها:" إني لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك" - وتطيب نفسا بالخلع. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية، أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٣١ - حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا داود، عن عامر = حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، قال: قال
(١) في المطبوعة: "أو يتعدى الحق" والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "أن تبتذله بلسانها" جعل مكان"تبتدئ له""تبتذله" كأن الناسخ أدمج الكلمتين وأخرج منهما كلمة واحدة. وفي المخطوطة: "سرى" غير منقوطة ولو قرئت: "تنبري" لكان صوابا أيضًا.
(٣) في المطبوعة: "وتطيب نفسك" خطأ صرف والصواب من المخطوطة. ويعني أن تقول المرأة ذلك للرجل ثم تطيب هي نفسا بالخلع.
561
عامر =: أحل له مالها بنشوزه ونشوزها.
٤٨٣٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال ابن جريج، قال طاوس: يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره، ولم يكن يقول قول السفهاء:" لا أبر لك قسما"، ولكن يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة.
٤٨٣٣ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" قال: فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة.
٤٨٣٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها؟ (١)
(١) في المطبوعة: "منها له" بزيادة"له" وأثبت ما في المخطوطة.
562
قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد. وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. (٢) فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٣٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: هو تركها إقامة حدود الله، واستخفافها بحق
(١) هذا من الفهم والبصر بطبائع البشر، قد علم الله أبا جعفر كيف يقول في تفسير الكتاب وكيف ينتزع الحجة على الصواب من كل وجه يكون البيان عنه دقيقا عسيرا على من لم يوقفه الله لفهمه وإدراكه.
(٢) في المطبوعة: "بصنيعها" وهو كلام فاسد بلا معنى مفهوم. وكان في المخطوطة"بصنيعها" غير منقوطة فقرأها من قرأها بلا روية. وقوله"تضييعها" مفعول به للمصدر وهو"الخوف" والمعنى من أجل الخوف عليهما أن يضيعا حدود الله.
563
زوجها، (١) وسوء خلقها، فتقول له:" والله لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا"، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية.
٤٨٣٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبى بن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: إذا قالت:" لا اغتسل لك من جنابة"، حل له أن يأخذ منها. (٢)
٤٨٣٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٣٨ - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عامر:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" قال: أن لا يطيعا الله.
٤٨٣٩ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحدود: الطاعة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما
(١) في المطبوعة: "واستخفافها.. ز" بزيادة"الواو" والصواب من المخطوطة وهو تفسير لقوله: "تركها إقامة حدود الله" كأن عاد فقال: "وتركها إقامة حدود الله استخفافها... "
(٢) الأثر: ٤٨٣١-"يزيد بن إبراهيم التستري" أبو سعيد البصري التميمي روى عن الحسن وابن سيرين. وابن أبي مليكة وعطاء وقتادة وغيرهم. وروى عنه وكيع وبهز بن أسد وعبد الرحمن ابن مهدي وأبو داود الطيالسي وغيرهم وهو ثقة ثبت من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين. مات سنة ١٦١.
564
أوجب الله عليهما من الفرائض، (١) فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه، من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي، وما رويناه عن الحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، (٢) وأن لا تؤذيه بقول، (٣) ولا تؤذيه بقول (٤)، تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها. (٥)
* * *
وأما معنى" إقامة حدود الله"، فإنه العمل بها، والمخالفة عليها، وترك تضييعها- وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته. (٦)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني قوله تعالى ذكره بذلك: فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما= فيما أعطت هذه على
(١) في المطبوعة: "فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ما اوجب" بزيادة"حدود الله" بين شقي الكلام والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "... على المرأة إطاعته" وهو تغيير لا موجب له، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: " وأن لا تؤذيه بقول"، بزيادة" أن"ليستقيم لهم ما درجوا عليه من العبارة. وأبو جعفر يحسن أن يبين عن نفسه.
(٤) الأثر ٥٩١٩ "محمد بن محمد العطار "، لعله محمد بن محمد بن عمر بن الحكم يعرف بابن العطار ترجم له الخطيب في تاريخه ٣: ٢٠٣، ٢٠٤ مات سنة ٢٦٨. هذا إذا لم يكن في اسمه تحريف ويكون هو " محمد بن مخلد العطار " مترجم في تاريخ بغداد ٣: ٣٠. و"أحمد" هو: أحمد بن إسحاق الأهوازي شيخ الطبري، مضت ترجمته في رقم: ١٧٧، ١٨٤١ أو لعله أحمد بن يوسف التغلبي، كما سيأتي في رقم: ٥٩٥٤ وهو الأرجح عندي. "وأبو وائل" هو " أبو وائل القاص المرادي الصنعاني اليماني" روى عن هانئ مولى عثمان. مترجم في الكبير ٤ / ٢ ٤٥٢. ويقال هو نفسه " عبد الله بن بحير الصنعاني القاص"، روى عن هانئ أيضًا مترجم في ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ١٥، والتهذيب. وهذا الأثر في الدر المنثور ١: ٣٢٣.
(٥) في المطبوعة: "... أمرها بإدامتها" ثم"أما معنى إدامة حدود الله" وهو خطأ ظاهر في هذا الموضع.
(٦) انظر ما سلف في تفسير"إقامة الصلاة" ١: ٢٤١، و"حدود الله" ٣: ٥٤٦، ٥٤٧
565
فراق زوجها إياها (١) ولا على هذا فيما أخذ منها من الجعل والعوض عليه. (٢)
* * *
فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، (٣) فيكون"لا جناح عليهما" فيما أعطته من الفدية على فراقها (٤) إذا كان النشوز من قبلها. (٥)
قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما حل لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حق لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته
(١) في المخطوطة: "على موافق زوجها إياها" كلمة غير منقوطة ولا مقروءة كأنها كانت"على مفارقة" ثم أفسدها ناسخ. والذي في المطبوعة جيد أيضًا.
(٢) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" بالإثم والحرج ٣: ٢٣٠، ٢٣١/ وهذا الجزء ٤: ١٦٢، ١٦٣
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى افتدت" وهو لا يستقيم والذي يدل عليه سياق الآية وسياق الكلام أن تكون"فيما افتدت". كما أثبت وسياق الكلام: "وهل كانت المرأة حرجة... فيما افتدت به نفسها""لو كان الضرار من الرجل بها".
وأما قوله: "حرجة" فهي: آثمة. وقد مضى آنفًا ما علقته على استعمال أبي جعفر والباقلاني هذه الصفة وأنها صواب وإن عدها أهل اللغة خطأ انظر ما سلف ٢: ٤٢٣ تعليق: ١/ ثم هذا الجزء ٤: ٢٢٤ تعليق ١/ ثم أيضًا ص: ٤٧٥ تعليق ٢/ ثم ما سيأتي في هذه الصفحة والصفحات التالية.
(٤) في المطبوعة: "فيكون لا جناح عليها" بإفراد الضمير في"عليها" وهو خطأ مفسد لمعنى الكلام كما سيتبين ذلك في شرح السؤال في التعليق التالي. والصواب من المخطوطة.
(٥) رحم الله أبا جعفر: لشد ما وثق بتتبع كان قارئ لكل ما يقول حتى إنه ليغمض أحيانا إغماضا يشق على المرء إذا لم يتتبع آثاره في النظر والتفكير. وهذا الاعتراض الذي ساقه في صيغة سؤال محتاج إلى بيان يكشف عن معناه وعن معنى جوابه إن شاء الله.
فهذا السؤال مبني على سؤال آخر وهو: كيف قيل: "لا جناح عليهما" بالتثنية و"الجناح" على الرجل وحده في أخذه شيئا مما آتى امرأته من مهر أو صداق. "فهذا الجناح" هو إتيانه ما حرم الله عليه إتيانه من الأخذ فكيف جمع بينهما في وضع"الجناح" والجناح على أحدهما دون الآخر؟
ولا يجوز ان يجمع بينهما في وضع"الجناح" وإسقاطه حتى يكون على المرأة"جناح" في الإعطاء كجناح الرجل في الأخذ. فإذا صح أنه محرم على المرأة إعطاء زوجها في حال من الأحوال صح عندئذ أن يجمع بينهما في وضع"الجناح" فيقال: "فلا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء.
فمن أجل ذلك سأل هذا السائل عن المرأة إذا أعطت زوجها من مالها في الحال التي يكون ضرار الرجل فيها داعية إلى"الإعطاء" أتكون آثمة بإعطائها ما أعطت أم غير آثمة؟ فإذا صح أنها آثمة بالإعطاء في حال ضرار الرجل بها، جاز عندئذ أن يجمع بينهما فيقال في حال نشوزها: "لا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء. * * *
هذا ولم أجد أحدا تناول هذا السؤال بالتفصيل والبيان كما تناوله أبو جعفر. وقد سأل مثل هذا السؤال أو قريبا منه الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٧ وأجاب عنه بجواب سيرده الطبري فيما بعد. وتناوله الشافعي مختصرا من وجه آخر في الأم ٥: ١٧٩ ولكن جوابه عنه غير واضح ولا محكم أما الطبري فقد انفرد بها الاستقصاء الدقيق لوجوه الفدية وإثم الرجل في الأخذ وإثم المرأة في الإعطاء.
566
عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، (١) وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم.
وهي= إذا أعطته على هذا الوجه= باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى= أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، (٢) ولذلك قال تعالى ذكره:" فلا جناح عليهما" فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذ كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم. (٣)
وقد يتجه قوله:" فلا جناح عليهما" وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي الله ﷺ لامرأة ثابت بن قيس بن شماس= وذلك لكراهتها أخلاق زوجها، أو دمامة خلقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض- ولكن على الانصراف
(١) في المطبوعة: "فكذلك وضع الجناح" وهو خطأ والصواب من المخطوطة.
(٢) سياق عبارته"وهي... باستحقاق الأجر... أولى من الجناح والحرج".
(٣) في المخطوطة: "طلب السلامة لنفسه ولها في أورالها" غير معجمة ولا بينة المعنى وتركت ما في المطبوعة لأنه مطابق للسياق.
567
منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحل لها- كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها. (١) وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك الوجه - التي روي عن النبي ﷺ أنه سماها"منافقة"، كما:
٤٨٤٠ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي ﷺ أنه قال:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة". (٢)
وقال:"المختلعات هن المنافقات"
٤٨٤١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علية، عن أبيه، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله ﷺ قال: والمختلعات هن المنافقات" (٣)
٤٨٤٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة
(١) في المطبوعة: "معصية منها لله" بالزيادة وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الحديث: ٤٨٤٠- ليث: هو ابن أبي سليم. أبو إدريس: هو الخولاني عائذ الله ابن عبد الله ثقة من كبار التابعين القدماء الفقهاء. وليث لم يسمع هذا الحديث منه، كما يظهر من الإسناد التالي لهذا بينهما روايان.
والحديث في حقيقته حديثان وسيأتي تخريج كل منهما.
(٣) الحديث: ٤٨٤١- مزاحم بن ذواد بن علبة: حسن الحديث على الأقل. بل هو ثقة. قال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به" وقال النسائي: "لا بأس به" وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٢٣ فلم يذكر فيه جرحا.
أبوه"ذاود بن علبة": مضت ترجمته في شرح: ٨٥١.
أبو الخطاب: ترجمه ابن أبي حاتم ٤/٢/٣٦٥ وسأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وسأل أبو زرعة فقال: "لا أعرفه" وذكره البخاري في الكنى رقم: ٢٢٠ ولم يذكر فيه جرحا فهو حسن الحديث على الأقل.
أبو زرعة: رجح الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي الخطاب ١٢: ٨٦- ٨٧ أنه"أبو زرعة بن عمرو بن جرير" التابعي الثقة- تبعا لابن مندة وابن عبد البر وذكر أنهما تبعا في ذلك ابن أبي حاتم إذ قال في ترجمة أبي الخطاب أنه"روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير". وحقا قد قال ذلك ابن أبي حاتم ولكن سها الحافظ عن أنه تراجع عن ذلك في ترجمة"أبي زرعة" فقط دون نسب ٤/٢/٣٧٤ فذكر أنه روى عن أبي إدريس عن ثوبان وانه روى عنه أبو الخطاب. وذكر أنه سأل أباه: "من أبو زرعة هذا؟ فقال: مجهول" وقد ذكره البخاري في الكنى رقم: ٢٨٣ ولم يذكر فيه جرحا أيضًا.
والحديث رواه الترمذي ٢: ٢١٦- ٢١٧ عن أبي كريب شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد.
ثم قال: "هذاحديث غريب من هذا الوجه. وليس إسناده بالقوي".
وانظر الحديثين الآتيين: ٤٨٤٣، ٤٨٤٤.
568
بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات. (١)
٤٨٤٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب= وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان:
(١) الحديث: ٤٨٤٢- حفص بن بشر: لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم ١/٢/١٧٠ قال: "روى عن يعقوب القمي روى عنه أبو كريب". ولم يذكر فيه جرحا.
قيس بن الربيع الأسدي الكوفي: مختلف فيه، ورجحنا توثيقه في المسند: ٦٦١، ٧١١٥. وقد وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. الحسن: هو البصري.
ثابت بن يزيد: هكذا هو هنا وفي ابن كثير نقلا عن الطبري. ولم أستطع أن أجزم بشيء فيه، فليس في رجال الكتب الستة من يسمى بهذا في هذه الطبقة طبقة التابعين الذين يروى عنهم مثل الحسن البصري.
وهناك"ثابت بن يزيد الخولاني": ترجمه البخاري في الكبير ١/٢/١٧٢ وابن أبي حاتم ١/١/٤٥٩- ٤٦٠. وهو يروي عن ابن عمر وقال بعضهم"عن ابن عمه عن ابن عمر". وهو الصحيح فهذا متأخر قليلا. ومن المحتمل أن يكون هو الذي هنا. فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان ٢: ٨٠ ووصفه بأنه"المصري" وذكر أنه روى عن أبي هريرة وعن ابن عباس. وأنه ذكره ابن حبان في الثقات. ومن المعروف أن عقبة بن عامر ولى إمرة مصر سنة ٤٤- ٤٧ من قبل معاوية وعاش بها إلى أن مات ودفن بالمقطم رضي الله عنه وأرخ موته سنة ٥٨. فهو مقارب لوفاة أبي هريرة وابن عباس.
وهناك آخر لم يذكر نسبه. ترجم باسم"ثابت الطائفي"- عند البخاري ١/٢/١٦٥ وابن أبي حاتم ١/١/٤٦١. وذكر كلاهما أنه"رأى جابر بن عبد الله أتى عقبة بن عامر" فسأله عن حديث.
والحديث نقله ابن كثير ١: ٥٤٠ عن الطبري، ولم ينسبه لغيره. وقال: "غريب من هذا الوجه ضعيف". وذكره السيوطي أيضًا ١: ٢٨٣ ولم ينسبه لغير الطبري.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج٥ ص٥، وقال: "رواه الطبراني. وفيه قيس بن الربيع وثقه الثوري وشعبة وفيه ضعف. وبقية رجاله رجال الصحيح". هكذا قال! ولا أدري أخطأ هو أم صواب؟ فإن كان إسناد الطبراني فوق قيس بن الربيع كإسناد الطبري- كان خطأ غريبا. فإن ثابت ابن يزيد لم نعرف من هو كما ترى! وليس في رجال الصحيح بهذا الاسم إلا"ثابت بن يزيد الأحول" روى له أصحاب الكتب الستة، ولكنه متأخر جدا عن هذه الطبقة، مات سنة ١٦٩. أي بعد عقبة بن عامر بأكثر من مائة سنة وعشر سنين وبعد الحسن البصري بنحو ستين سنة.
وقوله" المنتزعات": الظاهر أن معناها معنى"المختلعات": كأنها تنتزع نفسها من عقد الزواج ومن سلطان الزوج عليها. وهذا الحرف ثابت هكذا في جميع المراجع لهذا الحديث، إلا مخطوطة الطبري ففيها"المتبرعات"! ولا معنى لها في هذا السياق، فهي تصحيف.
وهناك حديث في هذا المعنى فيه حرف قريب من هذا: رواه أبو نعيم في الحلية ٨: ٣٧٥- ٣٧٦، من طريق محمد بن هارون الحضرمي -أبي حامد- عن الحسين بن علي بن الأسود العجلي عن وكيع عن الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله -هو ابن مسعود- مرفوعا: "المختلعات والمتبرجات هن المنافقات". فهذا الحرف"المتبرجات" لعله محرف عن"المنتزعات" فإني لا أثق بتصحيح طبعة كتاب الحلية. وقد وقع في إسناد الحديث نفسه فيها خطأ آخر، ثبت فيه"حدثنا فليح" بدل"حدثنا وكيع"! في حين أن كلام أبي نعيم عقبه يدل على الصواب، إذ قال: "غريب من حديث الأعمش والثوري، تفرد به وكيع".
وهذا الحديث نفسه -أعني حديث ابن مسعود- رواه الخطيب في تاريخ بغداد ٣: ٣٥٨ في ترجمة"أبي حامد محمد بن هارون" -من طريق الدارقطني عن محمد بن هارون عن حسين بن علي بن الأسود، عن وكيع -بهذا الإسناد مرفوعا: "المختلعات هن المنافقات". بدون ذكر"المتبرجات" وقال الخطيب: "قال لي الحسن: قال الدارقطني: ما حدث به غير أبي حامد".
وأصح من هذه الروايات كلها ما رواه أحمد في المسند: ٩٣٤٧ (٢: ٤١٤ حلبي) من حديث الحسن عن أبي هريره. مرفوعا: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات". وهو حديث صحيح بينا صحته وفصلنا القول في تخريجه في المسند في شرح الحديث: ٧١٣٨ج ١٢ص ١١٤- ١١٦.
569
أن رسول الله ﷺ قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة. (١)
٤٨٤٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد،
(١) الحديث: ٤٨٤٣- هذا الإسناد فيه مجهول وقد تبين من الإسناد التالي أنه"أبو أسماء الرحبي". وهكذا رواه أحمد في المسند ٥: ٢٧٧ (حلبي) عن ابن عليه، بهذا الإسناد وكذلك رواه الترمذي ٢: ٢١٧ عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي، به. وهو الطريق الأول للطبري هنا في هذا الإسناد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
570
عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله ﷺ نحوه. (١)
* * *
فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح= وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح= قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح، (٢) إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها=:"لا جناح عليهما فيما افتدت به" من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: (٣)
(١) الحديث: ٤٨٤٤- هذا إسناد صحيح. أبو أسماء الرحبي: هو عمرو بن مرثد الدمشقي وهو تابعي ثقة.
* والحديث رواه أحمد في المسند ٥: ٢٨٣ (حلبي) عن عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن حماد بن زيد.
* ورواه أبو داود: ٢٢٢٦ عن سليمان بن حرب وابن ماجه: ٢٠٥٥، من طريق محمد بن الفضل والحاكم ٢: ٢٠٠ من طريق سليمان بن حرب والبيهقي ٧: ٣١٦ عن الحاكم من طريق ابن حرب- كلهم عن حماد بن زيد بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
* ورواه البيهقي أيضًا ٧: ٣١٦ من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن وهيب عن أيوب به. وهذا أيضًا إسناد صحيح.
* وذكره الحافظ في الفتح ٩: ٣٥٤ وقال: "رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان".
* وأشار إليه الترمذي عقب الإسناد السابق الذي فيه المبهم فقال: "ويروى هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان".
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "لا جناح" بغير واو العطف والصواب ما أثبت.
(٣) الذي زعم ذلك هو الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٧- ١٤٨. والذي ساقه الطبري مختصر مقاله الفراء.
571
أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في"سورة الرحمن": (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) [سورة الرحمن: ٢٢] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله. (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) [سورة الكهف: ٦١]، وإنما الناسي صاحب موسى وحده. قال: ومثله في الكلام أن تقول:"عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما" وإنما تركب إحداهما. وتستقي على الأخرى، (١) وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.
قالوا: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، (٢) لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: (٣) (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ).
فأما قوله:" فلا جناح عليهما" فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله:" يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول:"إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما"، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال:"إنما هو خبر عن أحدهما".
(١) في المطبوعة: "وأسقى... وتسقى" والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء.
(٢) في معاني القرآن: "أشركت فيه" بالبناء للمجهول، وهي أجود.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "احتج به قوله" والصواب زيادة"من".
572
وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.
* * *
قال أبو جعفر: ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أمعني به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟
فقال بعضهم: عنى بذلك:"فلا جناح عليهما فيما افتدت به" من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتيتموهن. قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك -عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله- هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه، أن ترد ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٤٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع أنه كان يقول: لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، ويقول: إن الله يقول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" منه، يقول: من المهر - وكذلك كان يقرؤها:"فيما افتدت به منه". (١)
(١) الأثر: ٤٨٤٥- سيأتي نقض الطبري لما قاله الربيع وزيادته في الآية ما ليس منها في ص٥٨٢، ٥٨٣.
573
٤٨٤٦ - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز: لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها.
٤٨٤٧ - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها.
٤٨٤٨ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها.
٤٨٤٩ - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن الشعبي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك.
574
٤٨٥٠ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي، قال: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
٤٨٥١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها - يعني المختلعة.
٤٨٥٢ - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة، قال: كان علي رضي الله عنه يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها.
٤٨٥٣ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن الحكم أنه قال في المختلعة: أحب إلي أن لا يزداد.
٤٨٥٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
٤٨٥٥ - حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج امرأة على مائتي درهم، فأراد أن يخلعها، هل له أن يأخذ أربعمائة؟ فقال: لا والله، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها!.
٤٨٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها = قال معمر: وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
٤٨٥٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن المسيب، قال: ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها.
٤٨٥٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
٤٨٥٩ - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها. (١) قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "غير جائز إحالة... " بدلوه ليطابق ما درجوا عليه. والصواب من المخطوطة.
575
٤٨٦٠ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني! فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. (١)
٤٨٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، قال: أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزا فوعظها، فلم تقبل بخير، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام = وذكر نحو حديث ابن علية.
٤٨٦٢ - حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى، قالا حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز؟ فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك! قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال: خذ ولو عقاصها. (٢)
(١) الأثر: ٤٨٦٠- البيهقي ٧: ٣١٥، والمحلى ١٠: ٢٤٠. وقوله: "ولو من قرطها" أي: ولو لم يكن لها مال غير قرطها فخذه واخلعها.
(٢) الأثر: ٤٨٦٢-"حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" روى عن أبيه وعمر وعثمان وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. روى عنه ابنه عبد الرحمن والزهري وقتادة وغيرهم. وقيل: "إنه لم ير عمر ولم يسمع منه شيئا" وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان لأنه كان خاله. وكان ثقة كثير الحديث. توفي سنة ٩٥ وهو ابن ثلاث وسبعين سنة". وقال ابن سعد: "سمعت من يقول إنه توفي سنة ١٠٥". قال ابن حجر: "وهو قول الفلاس وأحمد بن حنبل وأبي إسحاق الحربي" ثم قال: "وإن صح ذلك على تقدير صحة ما ذكر من سنه فروايته عن عمر منقطعة قطعا، وكذا عن عثمان وأبيه والله أعلم".
والعقاص: خيط تشد به المرأة أطراف ذوائبها. من"عقصت المرأة شعرها": إذا ضفرته. والضفيرة هي العقيصة. و"العقاص" أيضًا: المداري (جمع) - أو: المدري (مفرد) والمدري: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط، وأطول منه، يسرح به الشعر المتبلد. يستعمله من لم يكن له مشط. وقد جاء في شعر امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلى تضل العقاص في مثنى ومرسل
ويروى"يضل العقاص" على معنى إفراده. وانظر التعليق على الأثر رقم: ٤٨٧١.
576
٤٨٦٣ - حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها، فلم يعب ذلك ابن عمر. (١)
٤٨٦٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا معتمر، قال: سمعت عبيد الله يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره.
٤٨٦٥ - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا هشيم، عن حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به".
٤٨٦٦ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال في الخلع: خذ ما دون عقاص شعرها، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها. (٢)
٤٨٦٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
(١) الأثر: ٤٨٦٣- الموطأ: ٥٦٥ والمحلى ١٠: ٢٤٠ والبيهقي ٧: ٣١٥ وما سيأتي رقم: ٤٨٧٤ وغيرها.
(٢) الآثار: ٤٨٦٦- ٤٨٦٩- هذا الأثر ذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ آخر، قال: "وفي حديث النخعي: الخلع تطليقه بائنة وهو ما دون عقاص الرأس. يريد: أن المختلعة كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها". هكذا في النهاية وفي نقل لسان العرب عنه"ما دون شعرها". وتفسير"العقاص" هنا بأنه"الشعر" غريب جدا لا أدري هل يجوز أن يخلط عالم جليل كابن الأثير هذا الخلط! فيكون معنى قول إبراهيم النخعي الآتي في الآثار التالية: "خذ منها ولو عقاصها" -أي: خذ منها ولو شعرها!! ولعل في الكلام سقطا فيكون: "أن يأخذ ما دون رباط شعرها" ولكن نقل صاحب اللسان نص ما في النهاية شبهة في ترجيح هذا الرأي. وكأن ابن الأثير غفل عن معنى"دون" في هذا الموضع فزل عالم. وقوله: "ما دون عقاص شعرها" معناه: ما هو أقل من العقاص أو أنقص منه. وانظر الأثر الآتي رقم: ٤٨٧٠ ففي لفظه شفاء هذا المعنى إن شاء الله.
577
معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع ما دون عقاص الرأس. (١)
٤٨٦٨ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة: خذ منها ولو عقاصها.
٤٨٦٩ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع بما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها.
٤٨٧٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع ابنة معوذ بن عفراء حدثته قالت: كأن لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم! قال: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه- أو قالت: ما دون عقاص الرأس. (٢)
٤٨٧١ - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير، ولو عقصها. (٣)
(١) في المطبوعة: "بما دون" فأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ٤٨٧٠- رواه البيهقي في السنن ٧: ٣١٥ بغير هذا اللفظ من طريق يزيد ابن زريع عن روح عن عبد الله بن محمد بن عقيل. و"عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب" روى عن أبيه وخاله محمد بن الحنفية وابن عمر وأنس وجابر والربيع بنت معوذ وغيرهم من الصحابة. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال: "كان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه، وكان كثير العلم". وقال يعقوب: "صدوق وفي حديثه ضعف شديد جدا". مات سنة ١٤٥ و"الربيع" (بضم الراء وفتح الباء، وكسر الياء المشددة) على وزن التصغير.
(٣) قوله: "ولو عقصها". في المخطوطة كسرة تحت العين، كأنه بكسر العين وسكون القاف وكأنه واحد"العقاص" ولم أجد ذلك في مكان وهو قريب على غرابته. ولكني ضبطته بضمتين، على أنه جمع"عقاص".
578
٤٨٧٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها.
٤٨٧٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ليأخذ منها حتى قرطها- يعني في الخلع.
٤٨٧٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر. (١)
٤٨٧٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: يأخذ أكثر مما أعطاها. (٢)
٤٨٧٦ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عدي، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوه: إن الحسن يقول في المختلعة: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" قال رجاء: فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"
* * *
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء: ٢٠]
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر: ٤٨٧٤- في الموطأ: ٥٦٥ وانظر التعليق على الأثر: ٤٨٦٣.
(٢) الأثر: ٤٨٧٥- انظر الأثر السالف رقم: ٤٨٦٥.
579
٤٨٧٧ - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا! وقرأ:" وأخذن منكم ميثاقا غليظا".
٤٨٧٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول الله تعالى ذكره في كتابه:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"؟ قال: هذه نسخت. قلت: فإني حفظت؟ قال: حفظت في"سورة النساء" (١) قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [النساء: ٢٠] (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه- فلا حرج
(١) في الناسخ والمنسوخ وفي القرطبي"فأين جعلت" وهي أشبه بالصواب وكذلك ينبغي أن تكون الأخرى"جعلت" فيكون نصهما: "فأين جعلت؟ قال: جعلت في سورة النساء".
(٢) الأثران: ٤٨٧٧، ٤٨٧٨- في الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: ٦٨ وأحكام القرآن للجصاص ١: ٣٩٢ والقرطبي ٣: ١٣٩ وسيأتي أول الأثرين في تفسير سورة النساء ٤: ٢١٦ (بولاق). وفي إسناده هنا"عقبة بن أبي المهنا" وهو تصحيف. و"عقبة بن أبي الصهباء أبو خريم" ترجم له في الجرح والتعديل ٣/ ١/٣١٢ وميزان الاعتدال ٢: ٢٠٥. قال ابن أبي حاتم: "بصري: روى عن سالم ونافع. روى عنه زيد بن حباب وأبو الوليد وأبو سلمة. سمعت أبي يقول ذلك. قال أبو محمد: روى عن العلاء بن بدر. روى عنه معتمر بن سليمان وأبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي. أخبرنا عبد الرحمن قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال: عقبة بن أبي الصهباء ثقة. أخبرنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن عقبة بن أبي الصهباء قال: محله الصدق فهو أوثق من عقبة الأحم". وزاد في ميزان الاعتدال أنه: "باهلي" مولى لباهلة ونقل عن أحمد بن حنبل أنه صالح الحديث. هذا ولم أجد كما ترى، وهو ما جاء في التاريخ الكبير، في كتاب الكنى: ٤٤ وفي الجرح والتعديل ٤/٢/٣٩٤: "أبو الصهباء البصري. روى عن بكر بن عبد الله. روى عنه معن بن عيسى. سمعت أبي يقول ذلك" قاله ابن أبي حاتم.
580
عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل = استحبابا لا تحتيما (١) إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، (٢) بل خوفا منها على دينها= أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، (٣) فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها.
* * *
فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين: أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.
والآخر: أن الآية التي في"سورة النساء" إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، (٤) بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، (٥) ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا
(١) في المخطوطة: "لا تحريما" ليست بشيء وما في المطبوعة هو الصواب. والتحتيم: الإيجاب حتم عليه الأمر حتما: أوجبه.
(٢) في المطبوعة: "لغير معصية الله" والصواب ما في المخطوطة.
(٣) في المخطوطة: "سحت" مهملة وشح بالشيء يشح فهو شحيح: ضن وبخل.
(٤) في المطبوعة: "بأن أراد الرجل" وفي المخطوطة: "فإن أراد" والصواب ما أثبت.
(٥) في المطبوعة: "بمقام أحدهما على صاحبه" صواب جيد. وقوله: "ولا نشوز" معطوف على قوله: "خوف".
581
من مالها على فراقها حرام، (١) ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا. (٢)
وأما الآية التي في"سورة البقرة" فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في"سورة البقرة" (٣) ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في"سورة النساء"، كما الحظر في"سورة النساء"، غير الإطلاق والإباحة في"سورة البقرة". (٤) فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ (٥) إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.
وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
* * *
وأما الذي قاله الربيع بن أنس (٦) من أن معنى الآية: فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك: مما آتيتموهن - فنظير قول بكر في دعواه نسخ
(١) في المطبوعة: "فقد بينا أن أخذ الزوج... " وهو خطأ محض والسياق يقتضي غيره ثم إنه لم يذكر شيئا من ذلك فيما سلف. أما في المخطوطة: "فقد سا" والألف الأخيرة قصيرة عن أشباهها. وأحب أن أثبت هنا أن ناسخ المخطوطة قد عجل في الصفحات السابقة والصفحات التالية عجلة شديدة حتى تبين ذلك في خطه تبينا ظاهرا. ولذلك كثر الخطأ والاشتباه فيما يكتب.
(٢) الحبة: ميزان من موازينهم. هو: زنة حبة شعير متوسطة لم تقشر وقد قطع من طرفيها ما امتد (رسالة النقود للمقريزي: ٣).
(٣) في المخطوطة: "أذن به للزوج أخذ الفدية" بحذف"في" والإذن هنا الإباحة.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "غير الطلاق والإباحة" والصواب ما أثبت ولم أجد"الطلاق" مصدرا بمعنى الإباحة. وكأن الناسخ ظن أن أبا جعفر يريد أن آية سورة البقرة فيها ذكر لفظ"الطلاق" وأما التي في سورة النساء فليس فيها لفظ"الطلاق" فيكون ذلك غريبا جدا، ولطيفا أيضًا!! ومراد الطبري أن الذي في سورة البقرة هو نشوز المرأة والذي في سورة النساء هو ضرار الرجل، والذي في البقرة إباحة وإطلاق، والذي في النساء حظر ومنع.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما يجوز" والفاء هنا لا معنى لها، بل هي اختلال. وقد أسلفنا ما في كتابة الناسخ هنا من عجلة وسهو شديد.
(٦) انظر الأثر السالف رقم: ٤٨٤٥.
582
قوله: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به" بقوله:" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" لادعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه.
ويقال لمن قال بقوله: قد قال من قد علمت من أئمة الدين: إنما معنى ذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها= فهل من حجة تبين بها منهم غير الدعوى؟ (١) فقد احتجوا بظاهر التنزيل، وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال: للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية، التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا (كتاب اللطيف) فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
(٢)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، قلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.
(١) في المطبوعة"تبين تهافتهم" من قولهم"بين الشيء يبين" بتشديد الياء. ومعنى الجملة لا يتفق في سياق هذا الكلام. وفي المخطوطة"تبين بها منهم" غير منقوطة فقرأتها على أصح وجوه المعنى الذي يوافق السياق. وبان منهم يبين: افترق وامتاز. يقول: فهل من حجة تجعل بينك وبينهم فرقا غير الدعوى؟ فهم يحتجون بأن هذا ظاهر الآية، وأنت تدعى أن في الآية خصوصا! فأية حجة في هذا تجعل لك ميزة عليهم؟
(٢) مما يدل على ان الناسخ في هذا المكان كان عجلا غير متأن كما أسلفنا من شواهد خطه، من كثرة الخطأ في نقله، أنه كتب نص الآية هنا"تلك حدود الله فلا تقربوها"!!
583
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها"، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت: من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله:" تلك حدود الله"، مما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أمر ونهى.
ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء -التي بينت لكم حلالها من حرامها-"حدودي"= يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي=، فلا تعتدوها= يقول: فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، (١) فإن من تعدى ذلك = يعني من تخطاه وتجاوزه = إلى ما حرمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم- وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الظلم" وأصله بشواهده الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [يؤول] إلى معنى ما قلنا فيه. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٧٩ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها" يعني بالحدود: الطاعة.
٤٨٨٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها" يقول: من
(١) انظر معنى"الخدود""والتعدي والعدوان" في فهرس اللغة من الأجزاء السالفة.
(٢) انظر ما سلف ١: ٥٢٣-٥٢٤/٢: ١٠١- ١٠٢، ٣٦٩، ٥١٩.
(٣) في المطبوعة: "... ما قالوا في ذلك إلى معنى... " وأثبت الزيادة بين القوسين لأن موضعها في المخطوطة بياض فرجحت أن تكون الكلمة الناقصة هي هي، كما أثبتها.
584
طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه،"ومن يتعد حدود الله، فأولئك هم الظالمون".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر، فيقال:"تلك حدود الله"، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة= بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق مرتان"= فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره- يعني به غير المطلق.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٨١ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل، (١) فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها،
(١) "قبل عدتها" (بضم فسكون) أي: في إقبال عدتها وأولها وعند الشروع فيها.
585
وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" (١)
٤٨٨٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" يقول: إن طلقها ثلاثا، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.
٤٨٨٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها" -يعني بالثالثة- فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره.
٤٨٨٤ - حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
٤٨٨٥ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإن طلقها" - بعد التطليقتين-"فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وهذه الثالثة
* * *
وقال آخرون: بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق مرتان" قالوا: وإنما بين
(١) هكذا في المخطوطة معنى الآية لا نصها ولكنه في المطبوعة: "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" أثبت نص الآية. تصرف لغير حكمة بينة.
586
الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله:" أو تسريح بإحسان" وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج.
* ذكر من قال ذلك:
٤٨٨٦ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" قال: عاد إلى قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
٤٨٨٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب، للذي ذكرنا عن رسول الله ﷺ في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال- أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال:"فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". (١) فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله:" أو تسريح بإحسان" فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله:" فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره" من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها= (٢) وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته. (٣)
* * *
(٤)
(١) يعني الأخبار السالفة: ٤٧٩١- ٤٧٩٣.
(٢) قوله: "وإعلام" معطوف على قوله: "إنما هو بيان... وإعلام" وقوله: "عباده" منصوب بالمصدر"إعلام" مفعول به.
(٣) إلى هنا انتهى التقسيم القديم الذي نسخت منه نسختنا، وبعده ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا"
ومن عجلة الناسخ أغفل أن ينقل ما كان ينقله في المواضع السالفة من سماع النسخة.
(٤) يبدأ صدر التقسيم بقوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
587
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟
قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها (١) ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح، لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا. (٢) فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها.
فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء". وكذلك قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وإن لم يكن
(١) في المطبوعة: "وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجا" لا أدري لم وضع الطابع"إذا" مكان"وإن" و"زوجا" مكان"رجلا"!!
(٢) في المطبوعة: "لإجماع الأمة" وهو ضعيف لا خير فيه.
588
مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله ﷺ وبيانه ذلك على لسانه لعباده.
* * *
* ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٤٨٨٨ - حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله ﷺ عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته". (١)
(١) الحديث: ٤٨٨٨- هذا الحديث والاحاديث بعده إلى: ٤٨٩٧ هي عشرة أسانيد لحديث عائشة في وجوب الدخول بالمطلقة ثلاثا حتى تحل لزوجها الأول، وهذا أمر مجمع عليه ثبت بالدلائل المتواترة. ويجب أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها، مما هو القصد الصحيح للزواج. أما إذا تزوجها ودخل بها قاصدا تحليلها للزوج الأول أو كان ذلك مفهوما من واقع الحال- فإن هذا هو المحلل الذي لعنه رسول الله ﷺ ولعن المحلل له. وكان نكاح هذا الثاني باطلا لا تحل به المعاشرة.
ثم روى أبو جعفر -بعد هذه العشرة- حديثين لأبي هريرة وحديثا لأنس وحديثا لعبيد الله ابن عباس، وثلاثة أحاديث لابن عمر. فهي سبعة عشر حديثا. سنوجز ما استطعنا في تخريجها إن شاء الله.
عبيد الله بن إسماعيل الهباري- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: ٢٨٩٠ باسم"عبيد" دون إضافة. وكذلك مضى باسم"عبيد" في: ٣١٨٥، ٣٣٢٥. وهو هو ففي التهذيب ٧: ٥٩"ويقال أن اسمه عبيد الله وعبيد: لقب".
أبو هاشم الرفاعي- شيخ الطبري: هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير قاضي بغداد تكلم فيه بعضهم، والراجح توثيقه وقد روى عنه مسلم في صحيحه. مضى له ذكر في: ٣٢٨٦.
إبراهيم: هو ابن يزيد بن الأسود النخعي. والأسود: هو ابن يزيد بن قيس النخعي خال إبراهيم.
والحديث رواه أحمد في المسند ٦: ٤٢ (حلبي) عن أبي معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير ١: ٥٤٩ عن رواية الطبري ثم قال: "وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية".
وذكره السيوطي ١: ٢٨٤ وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن ماجه.
قوله: "حتى يذوق الآخر عسيلتها... " قال ابن الأثير: "شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقا. وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل. وقيل: على إعطائها معنى النطفة. وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث فمن صغره مؤنثا قال: عسيلة... وإنما صغره إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل".
589
٤٨٨٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (١)
٤٨٩٠ - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". (٢)
٤٨٩١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.
٤٨٩٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي ﷺ أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله
(١) الحديث: ٤٨٨٩- رواه مسلم ١: ٤٠٧ بنحوه من طريق أبي أسامة عن هشام ابن عروة عن أبيه. ورواه أحمد في المسند ٦: ٢٢٩ (حلبي) عن أبي معاوية عن هشام. ورواه مسلم أيضًا من طريق ابن فضيل ومن طريق أبي معاوية كلاهما عن هشام.
* ونقله ابن كثير ١: ٥٤٩ عن صحيح مسلم، وذكر أن البخاري رواه من طريق أبي معاوية.
* ثم قال: وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله. وهذا إسناد جيد".
(٢) الحديث: ٤٨٩٠- رواه أحمد في المسند ٦: ٣٧- ٣٨ (حلبي) عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد. وزاد في آخره كلام خالد بن سعيد بن العاص بنحو ما سيأتي في: ٤٨٩٣.
"عبد الرحمن بن الزبير"-بفتح الزاي وكسر الباء- هو القرظي المدني، صحابي معروف.
وقد ذكره السيوطي ١: ٢٨٣: ٢٨٤ ونسبه أيضًا للشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والصحيحين والترمذي زوالنسائي. وابن ماجه والبيهقي.
وقوله: "وإنما معه مثل هدبة الثوب" -"كلمة"وإنما" رسمت في المطبوعة حرفين"وإن ما" والصواب الموافق لسائر الروايات هو ما أثبتنا.
590
صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، فذكر مثله. (١)
٤٨٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي ﷺ فقالت: يا نبي الله - إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر جالس عند النبي ﷺ وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!. (٢)
٤٨٩٤ - حدثنا محمد بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول". (٣)
(١) الحديثان: ٤٨٩١، ٤٨٩٢- هما تكرار للحديث قبلهما بإسنادين آخرين عن الزهري.
* ولم يذكر الطبري هنا لفظ هاتين الروايتين. وقد رواه مسلم ١: ٤٠٧ من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري. وساق لفظه كاملا.
(٢) الحديث: ٤٨٩٣- هو في كتاب (المصنف) لعبد الرزاق (مخطوط مصور عندنا) ٣: ٣٠٥ عن معمر وابن جريج -معا عن ابن شهاب.
ورواه أحمد في المسند ٦: ٢٢٦ (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. ورواه أحمد أيضًا ٦: ٣٤ عن عبد الأعلى عن معمر.
ورواه مسلم: ١: ٤٠٧ عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر. ولم يذكر لفظه كاملا إحالة على روايته قبلها.
ونقله ابن كثير ١: ٥٤٩- ٥٥٠ من رواية أحمد عن عبد الأعلى. ثم نسبه لأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود.
وانظر تخريج: ٤٨٩٠ فهو في معنى هذا.
(٣) الحديث: ٤٨٩٤- محمد بن يزيد الأدمي الخراز البغدادي المقابري. المعروف بالأحمر: ثقة وثقه الدارقطني وغيره. وقال السراج: "كان زاهدا من خيار المسلمين". وفي المطبوعة"الأودي" بدل"الأدمي" وهو تحريف صححناه من المخطوطة ومراجع الترجمة. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٤/١١٢٩- ١٣٠ وفي التهذيب: "ويقال إنهما اثنان" يعني أن"الأحمر" غير"الأدمي" وعلى ذلك جرى الخطيب في تاريخ بغداد جعلهما ترجمتين ٣: ٣٧٤ برقم: ١٤٨٨، و ٣٧٧ برقم: ١٤٩١ والراجح أنهما ترجمتان لشخص واحد.
يحيى بن سليم -بضم السين- القرشي الطائفي: ثقة وثقه ابن معين وغيره. وقال الشافعي: "كنا نعده من الأبدال". أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص العمري. القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. عائشة عمته.
591
٤٨٩٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه". (١)
٤٨٩٦ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول". (٢)
٤٨٩٧ - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى الليثي، عن زائدة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه". (٣)
(١) الحديث: ٤٨٩٥- هذا والذي قبله مختصران من الحديث الذي بعدهما.
(٢) الحديث: ٤٨٩٦ -يحيى- في هذا الإسناد-: هو ابن سعيد القطان الإمام.
* وهذا الحديث مطول الحديثين قبله.
* وقد رواه أحمد في المسند ٦: ١٩٣ (حلبي) عن يحيى -وهو القطان- بهذا الإسناد.
* ونقله ابن كثير ١: ٥٤٨- ٥٤٩ عن هذا الموضع من الطبري. ثم قال: "أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكر عن عمته عائشة- به".
* ونقله السيوطي ١: ٢٨٤ وزاد نسبته للبيهقي.
(٣) الحديث: ٤٨٩٧- موسى بن عيسى الليثي القارئ الكوفي ثقة أخرج له مسلم في الصحيح.
زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، وهو ثقة حافظ مأمون صاحب سنة.
علي بن زيد: هو ابن جدعان وهو ثقة رجحنا توثيقه في شرح المسند: ٧٨٣.
أم محمد: اسمها"أمية بنت عبد الله" وقيل"أمينة". وهي امرأة والد علي بن زيد بن جدعان. قال الحافظ في التهذيب ١٢: ٤٠٢"ووقع في بعض النسخ من الترمذي: عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه. وهو غلط فقد روى علي بن زيد عن امرأة أبيه أم محمد- عدة أحاديث". أقول: هو ربيبها فلا بأس أن يطلق عليها أنها أمه توسعا.
وهي تابعية عرف اسمها وكنيتها فهذا كاف في الحكم بتوثيقها. خصوصا مع قول الذهبي في الميزان ٣: ٣٩٥. عند ذكره النسوة المجهولات قال: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها".
والحديث رواه أحمد في المسند ٦: ٩٦ (حلبي) عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. نحوه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم وهو أصح من إسناد الطبري.
ورواه أبو داود والطيالسي في مسنده: ١٥٦٠ مختصرا عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمته عن عائشة ولعل قوله"عن عمته" تساهل أيضًا إن لم يكن تحريفا من ناسخ أو طابع.
ومعناه ثابت عن عائشة بالروايات الصحاح السابقة وغيرها. وأشار إليه ابن كثير ١: ٥٤٩ من رواية الطبري هذه. وكان أجدر به -كعادته- أن يذكره من رواية أحمد وإسنادها أصح.
592
٤٨٩٨ - حدثني العباس بن أبي طالب، قال: أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" حتى يذوق عسيلتها". (١)
٤٨٩٩ - حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوج زوجا غيره، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال:"لا حتى يذوق عسيلتها". (٢)
(١) الحديث: ٤٨٩٨- العباس بن أبي طالب شيخ الطبري مضت ترجمته في: ٨٨٠ سعد بن حفص الطلي المعروف بالضخم مولى آل طلحة: ثقة من شيوخ البخاري ووقع في المطبوعة"سعيد" وهو خطأ.
شيبان: هو ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي. مضت ترجمته في: ٢٣٤٠.
والحديث مختصر من الذي بعده. وسيأتي تمام الكلام فيه.
(٢) الحديث: ٤٨٩٩٠ أبو الحارث الغفاري: ترجمه البخاري في الكنى برقم: ١٧٧ قال: "أبو الحارث سمع أبا هريرة. قال سعيد بن حفص [كذا وصوابه: سعد] : حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي الحارث عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لا حتى تذوق العسيلة. وقال وكيع: عن علي بن المبارك عن يحيى عن أبي يحيى [كذا وصوابه: عن أبي الحارث]. الغفاري عن أبي هريرة قوله" يريد أنه في رواية شيبان مرفوع وفي رواية علي ابن المبارك موقوف.
وترجمه ابن أبي حاتم ٤/٢/٣٥٨ قال: "أبو الحارث الغفاري سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تذوق العسيلة. روى علي بن المبارك. عن يحيى بن أبي كثير عنه سمعت أبي يقول ذلك".
فرواية ابن المبارك عند أبي حاتم مرفوعة. ولا ينافي ذلك رواية البخاري وقفها. فإن الرفع زيادة ثقةن والراوي قد ينشط فيرفع الحديث وقد يقتصر فيرويه موقوفا.
وترجمه الحافظ في لسان الميزان وزاد أن الطحاوي روى له حديثا آخر موقوفا على أبي هريرة من رواية حرب بن شداد عن يحيى ثم قال: "وذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى فيمن لا يعرف اسمه وساق حديث العسيلة من طريق البخاري في التاريخ عن سعيد بن حفص عن شيبان به ولم يذكر فيه جرحا".
وهذا الحديث ذكره ابن كثير ١: ٥٤٨ من روايتي الطبري هاتين. ثم قال: "وأبو الحارث غير معروف". والتعقيب عليه: أن البخاري وأبا حاتم عرفاه، ولم يذكرا فيه جرحا فهو ثقة فضلا عن انه تابعي، وهم على الثقة حتى يستبين جرح واضح.
وذكره السيوطي ١: ٢٨٤ ونسبه لابن أبي شيبة وابن جرير فقط. وأشار إليه الترمذي ٢: ١٨٥ في قوله"وفي الباب". فقال شارحه المباركفوري: "وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني وابن أبي شيبة". وانا أرجح أن قوله"الطبراني" لأنه لو كان عند الطبراني لذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولم يفعل. وكذلك السيوطي لم ينسبه للطبراني بل نسبه للطبري.
وقوله: "يطلقها زوجها ثلاثا": كلمة"ثلاثا" ليست في المخطوطة. وهي ثابتة في ابن كثير والسيوطي فإثباتها أجود وأوثق.
593
٤٩٠٠ - حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا محمد بن دينار، قال: حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ في رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الأول؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته". (١)
(١) الحديث: ٤٩٠٠- محمد بن إبراهيم الأنماطي شيخ الطبري: هو الملقب بمربع صاحب يحيى بن معين، وتلميذ الإمام أحمد بن حنبل. ترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/١٨٧ وقال: "بغدادي من الحفاظ" وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ١: ٣٨٨- ٣٨٩ ترجمه جيدة وقال: "كان أحد الحفاظ الفهماء" وذكر أن يحيى بن معين هو الذي لقبه"بمربع"- في نفر من أصحابه: "وهلاء كبار أصحابه وحفاظ الحديث". وترجمه القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة ١: ٢٦٦- ٢٦٧ ترجمة مختصرة من تاريخ شيخه الخطيب. وفي التهذيب ٩: ١١ ترجمة شيخ من هذه الطبقة قد يشتبه بهذا وهو"محمد بن إبراهيم الأسباطي" فهذا كوفي نزل مصر، وهو غير ذاك. وترجمه ابن أبي حاتم أيضًا ٣/٢/١٨٦.
هشام بن عبد الملك: هو أبو الوليد الطيالسي الحافظ مضى في: ٢٨.
محمد بن دينار الطاحي أبو بكر بن أبي الفرات: تكلم فيه بعضهم والحق أنه ثقة قال ابن معين: "ليس به بأس" وقال أبو زرعة: "صدوق". وترجمه البخاري في الكبير ١١/٧٧ فلم يذكر فيه جرحا.
يحيى بن يزيد الهنائي البصري: تابعي ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٣١٠ فلم يذكر فيه جرحا. وروى عنه شعبة وهو لا يروي إلا عن ثقة. وأخرج له مسلم في صحيحه.
و"الهنائي" بضم الهاء وتخفيف النون، نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم من الأزد قاله ابن الأثير في اللباب.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٤٠٦٩ (٣: ٢٨٤ حلبي) عن عفان عن محمد بن دينار بهذا الإسناد، نحوه مطولا قليلا.
ورواه البيهقي ٧: ٣٧٥- ٣٧٦ من طريق يحيى بن حماد عن محمد بن دينار به.
ونقله ابن كثير ١: ٥٤٨ عن رواية المسند ثم أشار إلى هذه الرواية عند الطبري. وذكره السيوطي ١: ٢٨٤ منسوبا لهؤلاء.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٤: ٣٤٠ ونسبه لأحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط. وقال: "ورجاله رجال الصحيح. خلا محمد بن دينار الطاحي وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان. وفيه كلام لا يضر".
594
٤٩٠١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، ويعقوب بن ماهان، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن العباس: أن الغميصاء- أو: الرميصاء- جاءت إلى رسول الله ﷺ تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إليها، قال: فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره". (١)
(١) الحديث: ٤٩٠١- يعقوب بن إبراهيم شيخ الطبري: هو الدورقي الحافظ مضى مرارا ويعقوب بن ماهان شيخه أيضًا: هو البغدادي البناء وهو ثقة، قال حجاج بن الشاعر: "ليس ببغداد مثل يعقوب بن ماهان".
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٨٣٧. وهو حديث صحيح، فصلنا القول فيه هناك، وفي الاستدراك في المسند، رقم: ١٤٤٨. (ج٨ ص٣١٢- ٣١٣ بشرحنا).
وذكره السيوطي ١: ٢٨٤ منسوبا لأحمد والنسائي فقط. ولكنه فيه"عن عبد الله بن عباس". وهو عندي- خطأ ناسخ أو طابع كما وقع في مطبوعة النسائي.
595
٤٩٠٢ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين الأحمري، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها ألبتة، فتتزوج زوجا آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول؟ قال:"لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها".
٤٩٠٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل، فأغلق الباب، فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الآخر؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها".
٤٩٠٤ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر أنه سأل النبي ﷺ وهو يخطب عن رجل طلق امرأته، فتزوجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوجها الأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته. (١)
* * *
(١) الأحاديث: ٤٩٠٢- ٤٩٠٤ هي حديث واحد بثلاثة أسانيد واسانيده كلها ضعاف. وقد فصلت القول فيه في شرح المسند: ٤٧٧٦، ٤٧٧٧، ٥٢٧٧، ٥٢٧٨، ٥٥٧١.
* وقد ذكر البخاري الخلاف فيه، في الكبير ٢/٢١٤ في ترجمة"سليمان بن رزين". ثم قال: قال إبراهيم بن المنذر: حدثنا أنس بن عياض سمع موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو فعله أحد وعمر حي، لرجمهما. قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : وهذا أشهر ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين ولا برزين لأنه لا يدري سماعه من سالم ولا من ابن عمر".
* وخبر ابن عمر هذا -الموقوف- رواه أيضًا عبد الرزاق في المصنف (٣: ٣٠٥ مخطوط مصور) :"عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم نكحها رجل بعده، ثم طلقها قبل أن يجامعها ثم نكحها زوجها الأول- فيفعل ذلك وعمر حي إذن لرجمهما".
596
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإن طلقها" فإن طلق المرأة- التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني-، (١) زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول=" فلا جناح عليهما" يقول تعالى ذكره: فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول، وبعد نكاحه إياها-، (٢) وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات= أن يتراجعا بنكاح جديد. كما:
٤٩٠٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:" فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله" (٣) يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له.
٤٩٠٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا
(١) قوله: "زوجها" فاعل قوله في صدر الكلام: "فإن طلق المرأة.. " وسياق جملته: "فإن طلق المرأة... زوجها الذي نكحها... " وما بينهما فصل طويل في صفة"المرأة".
(٢) قوله"على الزوج... " معطوف على قوله: "على المرأة" وسياق جملته: "فلا حرج على المرأة... وعلى الزوج... أن يتراجعا". وهكذا اضطررت للمخالفة بين أنواع الفواصل حتى يتيسر للقارئ وصل الكلام بعضه ببعض.
(٣) في المخطوطة قطع الآية عند قوله: "أن يتراجعا" ومضى في الكلام.
597
جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها" يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره، فيدخل بها،"فإن طلقها"= هذا الأخير بعد ما يدخل بها،"فلا جناح عليهما أن يتراجعا" = يعنى الأول ="إن ظنا أن يقيما حدود الله".
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" فإن معناه: إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى"الحدود"، ومعنى"إقامة" ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" ما:-
٤٩٠٧ - حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. (٢)
٤٩٠٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد وجه بعض أهل التأويل قوله" إن ظنا" إلى أنه بمعنى: إن أيقنا. (٣) وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى
(١) انظر تفسير"الحدود" فيما سلف من هذا الجزء ٤: ٥٨٤ ومعنى"إقامة الحدود والصلاة" فيما سلف ١: ٢٤١ وهذا الجزء ٤: ٥٦٤، ٥٦٥.
(٢) الدلسة: (بضم فسكون) الظلام ومثله"الدلس" (بفتحتين) ومن مجازها: دالس يدالس مدالسة: أي خادع وغدر لأنه يخفي عليك الشيء، كأنه يأتيك به في الظلام ولم أجد من استعمل"الدلسة" مجازا في المخادعة والغش إلا في هذا الأثر. وهو عربي عتيق فصيح.
(٣) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٧٤.
598
ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره:" إن ظنا" بمعنى طمعا بذلك ورجوا
* * *
"وأن" التي في قوله:" أن يقيما"، في موضع نصب بـ "ظنا"، و"أن" التي في" أن يتراجعا" جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض، (١) لأن معنى الكلام: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا- فلما حذفت"في" التي كانت تخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح عليهما تراجعهما.
وكان بعضهم يقول: (٢) موضعه خفض، وإن لم يكن معها خافضها، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" وتلك حدود الله" هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات="حدود الله"- معالم فصول حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته=" يبينها"= يفصلها، فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون
(١) يعني بهذا الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٨.
(٢) هو الكسائي فيما نقله الفراء في كتابه ١: ١٤٨ أيضًا.
599
بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من الله، وأنها تنزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا ﷺ من تصديق كثير منهم بها، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به.
* * *
600
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وإذا طلقتم"، أيها الرجال نساءكم ="فبلغن أجلهن"، يعني: ميقاتهن الذي وقته لهن، من انقضاء الأقراء الثلاثة، إن كانت من أهل القرء، (١) وانقضاء الأشهر، إن كانت من أهل الشهور="فأمسكوهن"، يقول: فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة: وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين، كما قال تعالى ذكره: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
=وأما قوله:"بمعروف"، فإنه عنى: بما أذن به من الرجعة، من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة، دون الرجعة بالوطء والجماع. لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس ="أو سرحوهن بمعروف"، يقول: أو خلوهن يقضين تمام عدتهن وينقضي بقية أجلهن الذي أجلته لهن لعددهن، بمعروف. يقول: بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم، (٢) على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم ="ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" = يقول: ولا تراجعوهن،
(١) في المطبوعة: "من أهل الأقراء"، وهي صواب، ولكن لا أدري لم غير ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "بإنفاقهن"، وهو فساد من الناسخ العجل، كما أسلفت.
7
إن راجعتموهن في عددهن، مضارة لهن، لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن، أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم، لمضارتكم إياهن، بإمساككم إياهن، ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء.
وقوله:"لتعتدوا"، يقول: لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي التي بينتها لكم.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٠٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق:"ولا تمسكوهن ضرارا"، قال: يطلقها، حتى إذا كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فيدعها، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها: فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا.
٤٩١٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، يضارها، فنهاهم الله عن ذلك.
٤٩١١- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف"، قال: نهى الله عن الضرار ="ضرارا"، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل، حتى يفي لها تسعة أشهر، ليضارها به.
٤٩١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: نهى عن الضرار، والضرار في الطلاق
8
أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها= وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.
٤٩١٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية. (١)
٤٩١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة، ثم يدعها، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها، ثم يطلقها، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها. (٢) ولا حاجة له فيها، إنما يريد أن يضارها بذلك. فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه، (٣) وقال:"ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه".
٤٩١٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها، فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان، ولا يحل له أن يراجعها ضرارا، وليست له فيها رغبة، إلا أن يضارها.
٤٩١٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: هو في الرجل
(١) عضل المرأة يعضلها: لم يحسن عشرتها، ليضطرها بذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها.
(٢) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(٣) قوله: "تقدم فيه"، أي أمرهم بأمره فيه ونهاهم عن فعله، وزجرهم.
9
يحلف بطلاق امرأته، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها، يضارها بذلك ويطول عليها، فنهاهم الله عن ذلك.
٤٩١٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك بن أنس، عن ثور بن زيد الديلي: أن رجلا كان يطلق امرأته ثم يراجعها، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه"، يعظم ذلك. (١)
٤٩١٨- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا"، هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، ليضارها بذلك، لتختلع منه.
٤٩٢٠- حدثنا موسى قال حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار (٢) طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، (٣) ثم طلقها، ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر، مضارَّةً يضارُّها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا".
٤٩٢١- حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، سمعت عبد العزيز
(١) الأثر: ٤٩١٧- الموطأ: ٥٨٨، بلفظه، إلا قوله: "يعظم ذلك" فإنها فيه"يعظهم الله بذلك". وفي المطبوعة: "ليعظم ذلك".
(٢) في المطبوعة: "ثابت بن بشار"، والصواب من المخطوطة، والدر المنثور ١: ٢٨٥، وأسد الغابة، وذكر الخبر، ونسبه إلى الطبري وابن المنذر.
(٣) في المطبوعة: "أو ثلاثا" والصواب من المخطوطة.
10
يسأل عن طلاق الضرار فقال: يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، فهذا الضرار الذي قال الله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا".
٤٩٢٢- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها، ثم يطلقها تطليقة، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها="لتعتدوا"، قال: لا يطاول عليهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"التسريح"، من"سرح القوم"، وهو ما أطلق من نَعَمهم للرعي. يقال للمواشي المرسلة للرعي "هذا سرْح القوم" يراد به مواشيهم المرسلة للرعي. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [سورة النحل: ٥، ٦] يعني بقوله:"حين تسرحون"، حين ترسلونها للرعي. فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه: سرحها، تمثيلا لذلك ب"تسريح" المسرح ماشيته للرعي، وتشبيها به. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومن يراجع امرأته = بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة = ضرارا بها ليعتدي حد الله في أمرها،
(١) هذا دليل آخر على أن الطبري كان أحيانا يرجئ تفسير كلمة أو ينساها، لرغبته في الاختصار وإلا فقد مضى"التسريح" آنفًا في الآية: ٢٢٩، ولم يبينه هناك.
11
فقد ظلم نفسه، يعني: فأكسبها بذلك إثما، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما ليس للفاعل فعله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، في وحيه وتنزيله = استهزاء ولعبا، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه، ما لكم من الرجعة على نسائكم، في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم منها، وما الوجه الجائز لكم منها، وما الذي لا يجوز، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم ذلك فيه، وكيف وجوه ذلك، رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم، ليجعل بذلك لبعضكم = من مكروه، إن كان فيه من صاحبه ما يؤذيه = المخرج والمخلص بالطلاق والفراق، (٢) وجعل ما جعل لكم عليهن من الرجعة سبيلا لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه، بعد فراقه إياهن منهن، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن، إنعاما منه بذلك عليكم، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي -تفضلا مني ببيانه عليكم
(١) انظر مراجع"الظلم" فيما سلف ٤: ٥٨٤، تعليق رقم: ٢
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج... "، وهي جملة لا تكاد تستقيم، وأظن أن الناسخ العجل في هذا القسم من الكتاب، قد عجل كعادته، فنقل"ما يؤذيه""مما هو فيه" جعل"الياء" هاء، وشبك الذال في الياء وجعلها فاء. وسياق الجملة: "ليجعل بذلك لبعضكم المخرج والمخلص... من مكروه إن كان -فيه من صاحبه ما يؤذيه"_ أي: في هذا المكروه من صاحبه أذى له، وجملة"فيه من صاحبه ما يؤذيه"، صفة لقوله: "مكروه".
12
وإنعاما ورحمة مني بكم- لعبا وسخريا.
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال، أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٢٣- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أيوب بن سليمان قال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، يطلق الرجل أو يعتق فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه = قال الحسن: وفيه نزلت:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا". (١).
٤٩٢٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
(١) الحديث: ٤٩٢٣- عبد الله بن أحمد بن شبويه: مضى في: ١٩٠٩- أبوه"أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان الخزاعي، أبو الحسن بن شبويه": ثقة، روى عنه ابن معين -وهو من أقرانه- وأبو زرعة وأبو داود، وغيرهم. أيوب بن سليمان بن بلال التيمي: ثقة من شيوخ البخاري. يروى عن أبيه بواسطة ابن أبي أويس. أبو بكر بن أبي أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله المدني الأعشى، مضى في: ٤٣٣٣. سليمان بن بلال: مضى في ٤١، ٤٣٣٣. محمد بن أبي عتيق: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب إلى"أبي عتيق" كنية جده"محمد بن عبد الرحمن". وهو ثقة، أخرج له البخاري في صحيحه. سليمان بن أرقم، أبو معاذ البصري: ضعيف جدا، قال البخاري: "تركوه". وقال ابن معين: "ليس يسوى فلسا، وليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث، ذاهب الحديث". وهو من تلاميذ الزهري، ولكن الزهري يروى عنه أحيانا، كما في هذا الإسناد. وهذا الحديث ضعيف، لإرساله، إلى ضعف راويه سليمان بن أرقم. وقد جاء هذا الحديث المرسل بإسناد أجود من هذا -على إرساله-: فرواه ابن أبي حاتم، عن عصام بن رواد، عن آدم بن أبي إياس، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن. ذكره ابن كثير ١: ٥٥٥. ثم أشار إلى إسناد الطبري هنا. وذكره السيوطي ١: ٢٨٦، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
13
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته فيقول: إنما طلقت لاعبا! فنهوا عن ذلك، فقال تعالى ذكره:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا".
٤٩٢٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم غضب على الأشعريين -فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، غضبت على الأشعريين! فقال: يقول أحدكم:"قد طلقت، قد راجعت"!! ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها.
٤٩٢٦- حدثنا أبو زيد، عن ابن شبة قال، حدثنا أبو غسان النهدي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن أبي خالد -يعني الدالاني- عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك"؟ ليس هذا بطلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل طهرها. (١)
* * *
(١) الحديثان: ٤٩٢٥، ٤٩٢٦- إسحاق بن منصور السلولي- في الإسناد الأول: ثقة، أخرج له الأئمة الستة.
و"أبو زيد عن ابن شبة" -في الإسناد الثاني: لم أجد في هذه الطبقة من يعرف بأبي زيد، ولا في التي فوقها من يعرف بابن شبة. والظاهر أنه شيخ واحد، محرف عن"أبي زيد عمر بن شبة". أبو غسان النهدي: هو مالك بن إسماعيل بن درهم، مضى في: ٢٩٨٩.
يزيد بن عبد الرحمن - في الإسناد الأول: هو"يزيد أبو خالد الدالاني". في الإسناد الثاني. مضت ترجمته في: ٨٧٥. ووقع في الإسناد الثاني -هنا-"عن يزيد بن أبي خالد"، وزيادة"بن" خطأ.
أبو العلاء الأودي: هو داود بن عبد الله الأودي الزعافري. وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وأخطأ من خلط بينه وبين"داود بن يزيد الأودي، عم ابن إدريس". "الزعافري": نسبة إلى"الزعافر"، وهم بطن من"أود".
حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري: تابعي ثقة، أخرج له الأئمة الستة.
والحديث رواه أيضًا البيهقي ٧: ٣٢٣، من طريق العباس بن محمد الدوري، عن مالك بن إسماعيل، وهو أبو غسان النهدي، عن عبد السلام بن حرب، به. وآخره عنده: "طلقوا المرأة في قبل طهرها". وقوله في الإسناد الثاني: "أنه قال: لم يقول أحدكم لامرأته" - في المطبوعة"لهم" بدل"لم". والظاهر أنها خطأ، فصححناه من رواية البيهقي.
وإسنادا الطبري هذان صحيحان. وكذلك إسناد البيهقي. ونقله ابن كثير ١: ٥٥٤، عن إسناد الطبري الأول، ثم أشار إلى الثاني. ونقله السيوطي ١: ٢٨٥ - ٢٨٦، ونسبة لابن ماجه، وابن جرير، والبيهقي. ثم نقله بنحوه ٦: ٢٣٠، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه.
ورواية ابن ماجه ليست بهذا اللفظ، ولا من هذا الوجه. فرواه ابن ماجه: ٢٠١٧، عن محمد بن بشار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، مرفوعا: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك!! " وقال البوصيري في زوائده: "إسناده حسن، مؤمل بن إسماعيل اختلف فيه، فقيل: ثقة. وقيل: كثير الخطأ، وقيل: منكر الحديث".
وقد أخطأ البوصيري من وجهين. فإن مؤمل بن إسماعيل ثقة، كما بينا في: ٢٠٥٧. ثم هو لم ينفرد بروايته حتى يعل به.
فقد رواه البيهقي ٧: ٣٢٢، من طريق موسى بن مسعود النهدي، عن سفيان، وهو الثوري، بهذا الإسناد. ثم رواه أيضًا من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري. وموسى بن مسعود: ثقة، كما بينا في: ٢٨٠، ١٦٩٣.
14
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام، الذي أنعم عليكم به فهداكم له، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه، واذكروا أيضا مع ذلك ما أنزل عليكم من كتابه، وذلك: القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم، (١) واذكروا ذلك فاعملوا به، واحفظوا حدوده فيه = و"الحكمة"، يعني: وما أنزل عليكم من الحكمة، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنها لكم.
(١) في المطبوعة: "من كتابه ذلك القرآن"، وهو سهو من الكاتب والصواب من المخطوطة.
15
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى"الحكمة" فيما مضى قبل في قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (١) [سورة البقرة: ١٢٩]، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يعظكم به"، يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم = والهاء التي في قوله:"به"، عائدة على الكتاب.
"واتقوا الله"، يقول: وخافوا الله = فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لكم = أن تضيعوه وتتعدوا حدوده، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ونكال عذابه.
وقوله:"واعلموا أن الله بكل شيء عليم"، يقول: واعلموا أيها الناس أن ربكم = الذي حد لكم هذه الحدود، وشرع لكم هذه الشرائع، وفرض عليكم هذه الفرائض، في كتابه وفي تنزيله على رسوله محمد صلي الله عليه وسلم= بكل ما أنتم عاملوه- من خير وشر، وحسن وسيئ، وطاعة ومعصية، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره، شيء، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا، وبالسيئ سيئا، إلا أن يعفو ويصفح، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم. (٣)
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ويعلمكم الكتاب"، وصوابها هنا ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف ٣: ٨٧، ٨٨.
(٣) في المطبوعة: "ولا تظلموا أنفسكم"، والصواب من المخطوطة بحذف"لا".
16
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوجها من ابن عم لها فطلقها، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه، وهي فيه راغبة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك، فنزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم كان ذلك الرجل:"معقل بن يسار المزني".
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٢٧- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: كانت أخته تحت رجل فطلقها، ثم خلا عنها، (١) حتى إذا انقضت عدتها خطبها، فحمي معقل من ذلك، أَنَفًا، (٢) وقال: خلا عنها وهو يقدر عليها!! (٣) فحال بينه وبينها، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف". (٤)
(١) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خَلَّى عَنْها" في الموضعين، وهي بمعناها.
(٢) قال ابن حجر في الفتح: "حمى - بكسر ثانية، وأنفًا، بفتح الهمزة والنون، أي ترك الفعل غيظا وترفعا" وحمى: أخذته الحمية، وهي الأنفة والغيرة.
(٣) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خلى عنها" في الموضعين، وهي بمعناها.
(٤) الأثر: ٤٩٢٧- أخرجه البخاري بروايته عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى (الفتح ٩: ٤٢٥-٤٢٦)، وفي رواية البخاري زيادة: "فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه. فترك الحمية واستقاد لأمر الله". وستأتي في مرسل قتادة الآتي برقم: ٤٩٣٠، وسأشرحها في التعليق هناك.
17
٤٩٢٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن معقل بن يسار: أن أخته طلقها زوجها، فأراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" إلى آخر الآية. (١)
٤٩٢٩- حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب وأمنعها الناس، حتى خطب إلي ابن عم لي فأنكحتها، فاصطحبا ما شاء الله، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم خطبت إلي، فأتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس، فآثرتك بها، ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة، فلما خُطبت إلي آتيتني تخطبها مع الخطاب! والله لا أنكحكها أبدا! قال: ففي نزلت هذه الآية:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه. (٢)
٤٩٣٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا
(١) الأثر: ٤٩٢٨- أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٠ وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه"، وعقب عليه الذهبي فقال: "الفضل، ضعفه ابن معين، وقواه غيره". بيد أن ابن أبي حاتم ذكر في ترجمته في الجرح والتعديل ٣/٢/٦١: "سئل يحيى بن معين عن الفضل بن دلهم فقال: حديثه صالح" وانظر الاختلاف في أمر الفضل في ترجمته في التهذيب.
(٢) الأثر: ٤٩٢٩-"محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي" (بضم الميم وفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة، نسبة إلى"المخرم"، وهي محلة كانت ببغداد، بين الرصافة ونهر المعلى. توفي ببغداد سنة ٢٦٠، قال النسائي: "كان أحد الثقات، ما رأينا بالعراق مثله". وقال الدارقطني: "ثقة جليل متقن". وقد مضت رواية الطبري عنه رقم: ٣٧٣٠. وكان في المطبوعة: "المخزومي".
وهذا الأثر، أخرجه البخاري بروايته عن عبيد الله بن سعيد، عن أبي عامر العقدي، ولم يذكر إلا صدر الخبر، ليثبت به تحديث الحسن عن معقل لقوله: "حدثني معقل بن يسار" (فتح الباري ٨: ١٤٣). وأخرجه أبو داود، بروايته عن محمد بن المثنى، عن أبي عامر العقدي، وهو مختصر.
18
تراضوا بينهم بالمعروف"، ذكر لنا أن رجلا طلق امرأته تطليقة، ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها، ثم قرب بعد ذلك يخطبها = والمرأة أخت معقل بن يسار= فأنف من ذلك معقل بن يسار، وقال: خلا عنها وهي في عدتها، ولو شاء راجعها، ثم يريد أن يراجعها وقد بانت منه! فأبى عليها أن يزوجها إياه. وذكر لنا أن نبي لله، لما نزلت هذه الآية، دعاه فتلاها عليه، فترك الحمية واستقاد لأمر الله. (١)
٤٩٣١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، إلى آخر الآية، قال: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار. قال الحسن: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك أختي وأكرمتك، ثم طلقتها، ثم جئت تخطبها! لا تعود إليك أبدا! قال: وكان رجل صدق لا بأس به، وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه، قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
قال، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! فزوجها منه. (٢)
(١) الأثر: ٤٩٣٠- هو إسناد الطبري الدائر في التفسير، من تفسير قتادة، بيد أنه من معنى رواية قتادة عن الحسن، رقم: ٤٩٢٧، وفي آخر الزيادة التي أشرنا إليه في رواية البخاري للأثر السالف. و"الحمية" الأنفة والغضب. واستفاد للشيء، أذعن وأطاع، من"قاد الدابة يقودها". أي ألقى بقيادة غير جامح ولا معاند.
(٢) الأثر: ٤٩٣١- أخرجه البخاري. قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمر، قال حدثنا أبي، قال حدثني إبراهيم، عن يونس" و"أحمد بن أبي عمر" هو: أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد. و"إبراهيم" هو: "إبراهيم بن طهمان، و"يونس" هو: يونس بن عبيد (الفتح ٩: ١٦٠) وقد استقصى الكلام فيه الحافظ ابن حجر، ثم ذكره في (الفتح ٨: ١٤٣)، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ١٧٤، والبيهقي في السنن ٧: ١٣٨، كلاهما من طريق أحمد بن حفص بمثل رواية البخاري، وهي مثل رواية الطبري، وإن كان فيها خلاف في بعض اللفظ، كما أشار إليه الحافظ في الفتح، وذكر ما فيه من الروايات. وها هنا خلاف لم يذكره الحافظ في قوله: "فرشتك أختي"، فهكذا هو في المخطوطة والمطبوعة، وفي المستدرك والذهبي جميعا، وفي سائر الروايات"أفرشتك"، وهما صواب في العربية جميعا. من قولهم: "فرشت فلانا بساطا واْفرشته إياه": إذا بسطته له. وفرش له أخته وأفرشها له: جعلها له فراشا. والفراش كناية عن المرأة.
19
٤٩٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها، فخطب إليه فمنعها أخوها، (١) فنزلت:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن" إلى آخر الآية.
٤٩٣٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، قال: نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه، فنكحها آخر، فعضلها أخوها معقل بن يسار، يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأول = قال ابن جريج، وقال عكرمة: نزلت في معقل بن يسار. قال ابن جريج: أخته جمل ابنة يسار، كانت تحت أبي البداح، (٢) طلقها، فانقضت عدتها، فخطبها، فعضلها معقل بن يسار.
٤٩٣٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها، فعضلها أخوها أن ترجع إلى زوجها الأول = وهو معقل بن يسار أخوها.
(١) في المخطوطة: "إخوتها"، والذي في المطبوعة أحرى بالصواب، لمشاكلته سائر الروايات.
(٢) في المطبوعة: "جميل" بوزن التصغير، كما قال ابن حجر في الفتح والإصابة (٩: ١٦٠) والذي في المخطوطة مضبوط بالقلم"جمل" بضم الجيم. وقد ذكرها فيه أيضًا وفي الإصابة (بضم أوله وسكون الميم). وقال ابن حجر أنه وقع في تفسير الطبري"جميل"، ولكن هذه المخطوطة شاهدة على اختلاف نسخ الطبري. واختلف في اسمها واسم"أبي البداح" اختلاف طويل، فراجعه في فتح الباري ٩: ١٦٠، والإصابة. وسيأتي في رقم: ٤٩٣٦ أن اسمها"فاطمة".
20
٤٩٣٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله = إلا أنه لم يقل فيه:"وهو معقل بن يسار".
٤٩٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق الهمداني: أن فاطمة بنت يسار طلقها زوجها، ثم بدا له فخطبها، فأبى معقل، فقال: زوجناك فطلقتها وفعلت! فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن". (١)
٤٩٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"فلا تعضلوهن"، قال: نزلت في معقل بن يسار، كانت أخته تحت رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها، فعضلها معقل فأبى أن ينكحها إياه، فنزلت فيها هذه الآية، يعني به الأولياء، يقول:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن".
٤٩٣٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن رجل، عن معقل بن يسار قال: كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة، فخطبها، فأبيت أن أزوجها منه، فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، الآية.
* * *
وقال آخرون كان الرجل:"جابر بن عبد الله الأنصاري".
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٣٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: نزلت في جابر بن عبد الله
(١) الأثر: ٤٩٣٦-"أبو إسحاق الهمداني"، هو"أبو إسحاق السبيعي، عمرو بن عبد الله بن عبيد، من سبيع، والسبيع من همدان" روى عن علي والمغيرة بن شعبة، ومات سنة ١٢٦.
21
الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته. فنزلت هذه الآية.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارة وليَّته من النساء، يعضلها عن النكاح.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها.
٤٩٤١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، كان الرجل يطلق امرأته تبين منه وينقضي أجلها، (١) ويريد أن يراجعها وترضى بذلك، فيأبى أهلها، قال الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
٤٩٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق في قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يبدو له أن يتزوجها، فيأبى أولياء المرأة أن يزوجوها، فقال الله تعالى ذكره:"فلا
(١) في المطبوعة: "تبين منه" بغير فاء، والصواب من المخطوطة.
22
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
٤٩٤٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، قال: المرأة تكون عند الرجل فيطلقها، ثم يريد أن يعود إليها، فلا يعضلها وليها أن ينكحها إياه.
٤٩٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، فإذا طلق الرجل المرأة وهو وليها، فانقضت عدتها، فليس له أن يعضلها حتى يرثها، ويمنعها أن تستعف بزوج.
٤٩٤٥- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، هو الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يسكت عنها فيكون خاطبا من الخطاب، فقال الله لأولياء المرأة:"لا تعضلوهن"، يقول: لا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهن بنكاح جديد ="إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، = إذا رضيت المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهن، فبن منهن بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته، أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه. وأي ذلك كان، فالآية دالة على ما ذكرت.
* * *
23
ويعني بقوله تعالى:"فلا تعضلوهن"، لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد، تبتغون بذلك مضارتهن.
* * *
يقال منه:"عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلا"، وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها:"عضل يعضل". فمن كان من لغته"عضل"، فإنه إن صار إلى"يفعَل"، قال:"يعضَل" بفتح"الضاد". والقراءة على ضم"الضاد" دون كسرها، والضم من لغة من قال"عضل". (١)
* * *
وأصل"العضل"، الضيق، ومنه قول عمر رحمة الله عليه:"وقد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال"، (٢) يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به.
ومنه أيضا"الداء العضال" وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج، ومنه قول ذي الرمة:
ولم أقذف لمؤمنة حصان بإذن الله موجبة عضالا (٣)
(١) هذا البيان لا تجده في كتب اللغة، وليس فيها ما رواه عن لغة هذا الحي من العرب. وقوله"عضل يعضل" بكسر الضاد الأولى وفتح الثانية، مضبوط بالقلم في المخطوطة، كما ضبطت سائر الأفعال.
(٢) روى الزمخشري وصاحب اللسان في مادة (عضل) :"أعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون بأمير ولا يرضى عنهم أمير" ثم قال الزمخشري: "وروى: غلبني أهل الكوفة، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، وأستعمل عليهم الفاجر فيفجر! "
(٣) ديوانه ٤٤١- من أبيات وصف بها صنعة شعره فقال:
وشعر قد أرقت له غريب أجنبه المساند والمحالا
غرائب قد عرفن بكل أفق من الآفاق تفتعل افتعالا
فبت أقيمه، وأقد منه قوافي لا أعد لها مثالا
غرائب قد عرفن بكل أفق من الآفاق تفتعل افتعالا
فلم أقذف........... ...................
وهذا البيت الأخير، يعرض فيه بأئمة الهجاء في عصره، جرير والفرزدق والأخطل وسائر من تراموا بالسباب. والحصان: العفيفة الطاهرة. والموجبة: أي التي توجب حد القذف، أو توجب النار، أعاذنا الله منها! والعضال: التي لا مخرج منها ولا علاج لها. وسياق البيت: ولم أقذف موجبة عضالا -لمؤمنة حصان... يعني: لم أرم الكلمة الشائنة والسباب الفاحش، أبغي به أمرأة عفيفة قد برأها الله مما يقال. ورواية الديوان"بحمد الله"، وهي أجود. هذا والبيت في المخطوطة فاسد: "لرمته حصال"!!
24
ومنه قيل:"عضل الفضاء بالجيش لكثرتم"، إذا ضاق عنهم من كثرتهم. وقيل:"عضلت المرأة"، إذا نشب الولد في رحمها فضاق عليه الخروج منها، ومنه قول أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا (١) ولكنه النائي إذا كنت آمنا... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
* * *
و"أن" التي في قوله:"أن ينكحن"، في موضع نصب قوله:"تعضلوهن".
ومعنى قوله:"إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، إذا تراضى الأزواج والنساء بما يحل، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور، (٢) ونكاح جديد مستأنف، كما:-
٤٩٤٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عمير بن عبد الله، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أنكحوا الأيامى. فقال رجل: يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال:"ما تراضى عليه أهلوهم". (٣)
(١) ديوانه، القصيدة: ٣١. وهما بيتان قد كشفا عن سرائر الناس بلا مداجاة. فقلما تظفر بذلك.
(٢) الأبضاع جمع بضع (بضم فسكون) : وهو الفرج، والجماع، وعقد النكاح، والمهر، والمراد الأول.
(٣) الحديث: ٤٩٤٦- عبد الرحمن: هو ابن مهدي. سفيان: هو الثوري. عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي: ثقة، وثقه ابن نمير وغيره. عبد الملك بن المغيرة الطائفي: تابعي ثقة، وهو يروي هنا عن تابعي آخر. عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر: تابعي ثقة، تكلم فيه بعض العلماء، والحق أن ما أنكر من حديثه إنما جاء مما رواه عنه ابنه محمد. وأما هو فثقة. وهذا الحديث ضعيف، لأنه مرسل. وقد رواه البيهقي ٧: ٢٣٩، من طريق قيس بن الربيع، عن عمير بن عبد الله، بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق حفص بن غياث وأبي معاوية، عن حجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، ثم قال: "هذا منقطع".
25
٤٩٤٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن الحارث قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم، بنحو منه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال:"لا نكاح إلا بولي من العصبة". وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها -لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله إنكاحها، (٢)
(١) الحديث: ٤٩٤٧- هو تكرار للحديث قبله، ولكنه في هذا متصل، بذكر"ابن عمر" فيه. وهو ضعيف أيضًا. بل هو أشد ضعفا من ذاك المرسل. محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع الحارثي: ثقة، متكلم فيه. وقد فصلنا القول في ترجيحه، في شرح المسند: ٥٣٧١.
محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني: ضعيف جدا، والبلاء في أحاديث أبيه، ثم في أحاديث محمد ابن الحارث الحارثي -إنما هو من ناحيته. روى عن أبيه أحاديث مناكير لا أصل لها، أو مراسيل لا أصل لوصلها، وروى عنه محمد الحارثي - فتكلم في كل منهما من أجله. وقد فصلنا القول في تضعيفه، في شرح المسند: ٤٩١٠.
وهذا الحديث رواه البيهقي ٧: ٢٣٩، من طريق بندار، وهو محمد بن بشار، شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق أبي عبد الرحمن الحضرمي صالح بن عبد الجبار، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عباس! ثم نقل عن أبي أحمد بن عدي، قال: محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف. ومحمد بن الحارث ضعيف. والضعف على حديثهما بين".
ونقله السيوطي ١: ٢٨٧، من حديث ابن عمر، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه. ثم سكت عن ضعفه.
(٢) في المطبوعة: "من توكله إنكاحها" بإسقاط الباء، وأثبت ما في المخطوطة.
26
فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه، صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقا لا يصح عقده إلا به. وهو المعنى الذي أمر الله به الولي:= من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به، وكان رضى عند أوليائها، جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله= ونهاه عن خلافه: من عضلها، ومنعها عما أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله ذلك، ما ذكر في هذه الآية: من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح، يقول: فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح، عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر- يعني يصدق بالله، فيوحده، ويقر بربوبيته، (١) "واليوم الآخر" يقول: ومن يؤمن باليوم الآخر، فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، (٢) ليتقي الله في نفسه، فلا يظلمها بضرار وليته ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها، ممن أذنت لها في نكاحه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ذلك يوعظ به"، وهو
(١) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" في مادة (أمن) من فهارس اللغة في الأجزاء الماضية.
(٢) انظر ما سلف في تفسير"اليوم الآخر" ١: ٢٧١ / ٢: ١٤٨.
27
خطاب لجميع، وقد قال من قبل:"فلا تعضلوهن"؟ وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع"ذلك"، أفيجوز أن تقول لجماعة من الناس وأنت تخاطبهم:"أيها القوم، هذا غلامك، وهذا خادمك"، وأنت تريد: هذا خادمكم، وهذا غلامكم؟
قيل: لا إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات، (١) لأن ما أضيف له الأسماء غيرها، (٢) فلا يفهم سامع سمع قول قائل لجماعة:"أيها القوم، هذا غلامك"، أنه عنى بذلك هذا غلامكم - إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك. فإن طلب لمنطقه ذلك وجها في الصواب، (٣) صرف كلامه ذلك إلى أنه انصرف عن خطاب القوم بما أراد خطابهم به، إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم، وترك مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام. (٤) وليس ذلك كذلك في"ذلك" لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها، حتى صارت"الكاف" -التي هي كناية اسم المخاطب فيها- كهيئة حرف من حروف الكلمة التي هي متصلة. وصارت الكلمة بها كقول القائل:"هذا"، كأنها ليس معها اسم مخاطب. (٥) فمن قال:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر"، أقر"الكاف" من"ذلك" موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء، والواحد من الرجال، والتحدثنية، والجمع. ومن قال:"ذلكم يوعظ به"، كسر"الكاف" في خطاب الواحدة من النساء، وفتح في خطاب الواحد من الرجال، فقال في خطاب الاثنين
(١) "الأسماء الموضوعات"، كأن"الاسم الموضوع"، هو"الاسم المتمكن، أو المعرب"، ضريع"الاسم غير المتمكن، أو المبني".
(٢) قوله: "غيرها"، أي غير الأسماء.
(٣) في المطبوعة: "وجها فالصواب"، وهي خطأ محض، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "مجاوزة القوم... مجاوزتهم" بالجيم والزاي في الموضعين، وهو كلام غير بصير. والصواب ما في المخطوطة وما يقتضيه السياق.
(٥) يعني أنها صارت بمنزلة"هذا" في جريها كأنها كلمة واحدة، وهي مركبة من"الهاء" و"ذا"، الذي هو اسم إشارة.
28
منهم: (١) "ذلكما"، وفي خطاب الجمع"ذلكم".
وقد قيل: إن قوله:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله"، خطاب للنبي صلي الله عليه وسلم، ولذلك وحد (٢) ثم رجع إلى خطاب المؤمنين بقوله:"من كان منكم يؤمن بالله". وإذا وجه التأويل إلى هذا الوجه، لم يكن فيه مؤونة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله"ذلكم" نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن، (٣) بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد="أزكى لكم"، أيها الأولياء والأزواج والزوجات.
* * *
ويعني بقوله:"أزكى لكم"، أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الزكاة"، فأغنى ذلك عن إعادته. (٤)
* * *
وأما قوله:"وأطهر"، فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة. وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب، لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال في خطاب... " بالفاء، وهو لا يستقيم.
(٢) في المطبوعة"ولذلك وجه"، وهو كلام مسلوب المعنى، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "نكاح أزواجهن لهن"، وفي المخطوطة: "نكاحهن أزواجهن لهن"، والذي في المطبوعة وجه من التصحيح لما في المخطوطة، ولكني رأيت أن للتصحيح وجها آخر، هو حذف"لهن". وذلك لأنه أراد بقوله: "نكاحهن أزواجهن"، ما جاء في الآية: "أن ينكحن أزواجهن" بإسناد"النكاح" إلى النساء، فلذلك آثرت هذا التصحيح، ولئلا يكون في الكلام تكرير لقوله بعد"ومراجعة أزواجهن إياهن".
(٤) انظر ما سلف ١: ٥٧٣-٥٧٤ /٢: ٢٩٧ / ٣: ٨٨.
29
ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره الأولياء -إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة، بنكاح مستأنف، في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع (١) = أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك، وأن يزوجها. لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة. (٢)
ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع، أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك= لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة، فقال لهم تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به، إن كنتم تؤمنون بي، وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة. وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بن من أزواجهن،
(١) في المطبوعة: "أذن الله لهما"، والمخطوطة ليس فيها زيادة"الله".
(٢) "سبوق" مصدر"سبق"، لم يرد في كتب اللغة، ولكن الطيري يكثر استعماله كما أشرنا إليه آنفًا في الجزء ٤: ٢٨٧، ٢٨٨ / ثم: ٤٢٧ / ثم: ٤٤٦، والتعليقات عليها.
(٣) هذا كلام حبر رباني حكيم، قد فقهه الله في أمور دينه، وآتاه الحكمة في أمور دنياه، وعلمه من تأويل كتابه، فحمل الأمانة وأداها، ونصح للناس فعلمهم وفطنهم، ولم يشغله في تفسير كتاب ربه نحو ولا لغة ولا فقه ولا أصول -كما اصطلحوا عليه- عن كشف المعاني للناس مخاطبا بها قلوبهم وعقولهم، ليبين لهم ما أنزل الله على نبيه، بالعهد الذي أخذه الله على العلماء. فرحم الله أبا جعفر، وغفر الله للمفسرين من بعده. وقلما تصيب مثل ما كتب في كتاب من كتب التفسير.
30
ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق، أو ولدنهم منهم، (١) بعد فراقهم إياهن، من وطء كان منهم لهن قبل البينونة ="يرضعن أولادهن"، يعني بذلك: أنهن أحق برضاعهم من غيرهم.
وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان المولود له ولد، (٢) حيا موسرا. لأن الله تعالى ذكره قال في"سورة النساء القصرى" (٣) (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: ٦]، فأخبر تعالى ذكره: (٤) أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها. فكان معلوما بذلك أن قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الوالدان في رضاع المولود بعده، جعل حدا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"حولين"، فإنه يعني به سنتين، كما:-
٤٩٤٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، سنتين.
(١) في المطبوعة: "أو أولدنهم"، وهو خطأ فاحش. والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"والدا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) هي"سورة الطلاق"، السورة الخامسة والستون من كتاب الله. وسموها"القصرى" لتسميتهم السورة الرابعة من القرآن: "سورة النساء الطولى"، للفرق بينهما.
(٤) في المطبوعة: "وأخبر تعالى أن الوالدة... "، والزيادة من المخطوطة. وفيهما جميعا"وأخبر" بالواو، والسياق يقتضي الفاء كما أثبتها.
31
٤٩٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل"الحول" من قول القائل:"حال هذا الشيء"، إذا انتقل. ومنه قيل:"تحول فلان من مكان كذا"، إذا انتقل عنه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر"كاملين" في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، بعد قوله:"يرضعن حولين"، وفي ذكر"الحولين" مستغنى عن ذكر"الكاملين"، (١) إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين" ما يراد به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟.
قيل: إن العرب قد تقول:"أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين، أو شهرين"، وإنما أقام به يوما وبعض آخر، أو شهرا وبعض آخر، أو حولا وبعض آخر، فقيل:"حولين كاملين" ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، (٢) لا حول وبعض آخر. (٣) وذلك كما قال الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة: ٢٠٣]. ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف، وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، (٤) وأنه ليس منه شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول:"اليوم يومان منذ لم أره"،
(١) في المطبوعة: "وفي ذكر الحولين" بإسقاط"الهاء" الضمير.
(٢) في المطبوعة: "ليعرف سامع ذلك"، بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر ما سلف في تفسير قوله تعالى: "ولتكملوا العدة" ٣: ٤٧٦، ٤٧٧ / ثم تفسير قوله تعالى: "تلك عشرة كاملة" في الجزء ٤: ١٠٨، ١٠٩.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "فكذلك ذلك" بالفاء وهو خطأ مخل، والصواب ما أثبت. وفي معاني القرآن للفراء ١: ١١٩: "وكذلك هو في اليوم... ". نص كلامه. ويعني أن اليوم الثالث من أيام التشريق هو أيضًا يوم غير تام. وانظر التعليق التالي ص: ٣٣ رقم: ٢ والمراجع فيه.
32
وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر. وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة، على العام والزمان واليوم، فتقول:"زرته عام كذا - (١) وقتل فلان فلانا زمان صفين"، وإنما تفعل ذلك، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه، فجاز أن ينطق"بالحولين"، و"اليومين"، على ما وصفت قبل. لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك، وفي ذلك الوقت. (٢)
فكذلك قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين (٣) = (٤) وكان الكلام لو أطلق في ذلك، بغير تضمين الحولين بالكمال، (٥) وقيل:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر= نفي اللبس عن سامعيه بقوله: (٦) "كاملين" أن يكون مرادا به حول وبعض آخر، وأبين بقوله:"كاملين" عن وقت تمام حد الرضاع، وأنه تمام الحولين بانقضائهما، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية، من مبلغ غاية رضاع المولودين: أهو حد لكل مولود، أو هو حد لبعض دون بعض؟
(١) في المطبوعة: "رزقه عام كذا"، وهو كلام لا خير فيه، والصواب من المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة، وحروفها بسيطة القلم.
(٢) سلف هذا بغير هذا اللفظ في الجزء ٤: ١٢٠، ١٢١ وكثير من لفظه هنا في معاني القرآن للفراء ١: ١١٩ - ١٢٠، ومن الموضعين صححنا ما صححناه آنفًا.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "لما كان الرضاع... " وهو تصحيف مخل جدا، والسياق يقتضي قراءته كما أثبت، حتى يستقيم المعنى.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان" بالفاء، والصواب بالواو، عطفا على قوله: "لما جاز... "
(٥) في المطبوعة: "تضمين الحولين بالكمال"، وفي المخطوطة: "تضمين" بغير نقط، والميم كأنها هاء قصيرة، ورجحت أن ذلك من عجلة الناسخ، وأن صوابها"تبيين"، لقوله بعد قليل: "وأبين بقوله: كاملين... "، لأن البيان هو التفسير، ومن الصفة تفسير وبيان.
(٦) سياق العبارة: "لما جاز الرضاع... وكان الكلام لو أطلق... نفى اللبس، جواب"لما".
33
فقال بعضهم: هو حد لبعض دون بعض.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٥٠- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في التي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا.
٤٩٥١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، بمثله، ولم يرفعه إلى ابن عباس.
٤٩٥٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي عبيد، قال: رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رفعت [إلي امرأة]، لا أراها إلا قد جاءت بشر -أو نحو هذا- ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس: إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. قال: وتلا ابن عباس: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: ١٥]، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. فخلى عثمان سبيلها. (١)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه، (٢)
(١) الخبر: ٤٩٥٢- أبو عبيد: هو سعد بن عبيد، "مولى عبد الحمن بن أزهر"، ويقال له أيضًا: "مولى عبد الرحمن بن عوف". قال البخاري في الكبير ٢ / ٢ / ٦١: "لأنهما ابنا عم". وقال في صحيحه ٤: ٢٠٩"قال ابن عيينة: من قال مولى ابن أزهر، فقد أصاب، ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف، فقد أصاب". وهو تابعي ثقة قديم، من فقهاء أهل المدينة، روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم.
ووقع في المطبوعة: "عن أبي عبيدة"، وهو خطأ، صححناه من كتاب المصنف لعبد الرزاق ج٤ ورقة ٩٧، وفيه: "عن أبي عبيد، مولى عبد الحمن بن عوف".
ونقله السيوطي ٦: ٤٠، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، فقط. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "إنها رفعت لا أراها"، وفي مصنف عبد الرزاق: "رفعت إلى امرأة، لا أراه إلا قال: وقد جاءت بشر".
(٢) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لإرضاع"، وما بينها بياض كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص: ٣٤، ٣٥، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة.
34
فأراد أحدهما البلوغ إليه، والآخر التقصير عنه.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
٤٩٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه -لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء. (١)
٤٩٥٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران (٢)
= وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء= جميعا، عن الثوري في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان. قال: فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك. وإذا قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور".
* * *
وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن
(١) في المطبوعة: "إلا أن تشاء"، والصواب ما أثبت من المخطوطة. أي: إلا أن يشاء الزوج، ويوافقها على ما تريد من الزيادة.
(٢) هو"مهران بن أبي عمر العطار، أبو عبد الله الرازي". قال أبو حاتم ثقة صالح الحديث. وروى له ابن عدي أحاديث من رواية محمد بن حميد عنه، ثم قال: "وكل هذه الأحاديث عن مهران إلا القليل، يرويه عن مهران محمد بن حميد، وابن حميد له شغل في نفسه مما رواه عن الناس! ومهران خير منه". وقال الساجي: "في حديثه اضطراب، وهو من أكثر أصحاب الثوري رواية عنه". وقال العقيلي: "روي عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن حبان: "أسلم على يد الثوري، وله صنف (الجامع الصغير) ". التهذيب.
35
حولين كاملين"، على أن لا رضاع بعد الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٥٦- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، أخبرنا ابن أبي ذئب قال، حدثنا الزهري، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا إن الله تعالى ذكره يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا (١)
٤٩٥٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: لا رضاع بعد الحولين.
٤٩٥٨- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الشيباني، عن أبي الضحى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال: ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع.
٤٩٥٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين فقال: لا ترضعيه.
٤٩٦٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني قال: سمعت الشعبي يقول: ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا. (٢)
(١) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط"بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف.
(٢) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط (بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف.
36
٤٩٦١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن عبد الله، أنه قال: لا رضاع بعد فصال، أو بعد حولين.
٤٩٦٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ليس يحرم من الرضاع بعد التمام، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم (١)
٤٩٦٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس قال: لا رضاع بعد فصال السنتين.
٤٩٦٤- حدثنا هلال بن العلاء الرقي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: لا رضاع إلا في هذين الحولين. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل كان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"،
(١) الأثر: ٤٩٦٢-"الحسن بن عطية بن نجيح القرشي أبو علي البزار" روىعن الحسن وعلي ابني صالح، ويعقوب القمي، وحمزة الزيات، وإسرائيل بن يونس وطبقتهم. وعنه البخاري في التايخ، وعبد الأعلى بن واصل، وأبو كريب، وأبو زرعة، وأبو حاتم، صدوق. مات سنة ٢١١.
(٢) الأثر: ٤٩٦٤- هلال بن العلاء بن هلال بن عمرو الباهلي، أبو عمرو الرقى". قال أبو حاتم: "صدوق" وقال النسائي: "صالح"، وقال في موضع آخر: "ليس به بأس، روى أحاديث منكرة عن أبيه، فلا أدري: الريب منه أو من أبيه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولد سنة ١٨٤، ومات سنة ٢٨٠. والعلاء بن هلال" أبوه، روى عن عبد الله بن عمرو الرقى، وخلف بن خليفة ومعتمر بن سليمان وجماعة. قال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث". وذكره ابن حبان في الضعفاء وقال: "يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، فلا يجوز الاحتجاج به" ولد سنة ١٥٠، ومات سنة ٢١٥. و"عبيد الله"، هو: عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقى. روى عن عبد الملك بن عمير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي أنيسة وغيرهم. قال أبو حاتم: "صالح الحديث ثقة صدوق، لا أعرف له حديثا منكرا". ولد سنة ١٠١ ومات سنة ١٨٠. و"زيد" هو: زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي، قال ابن سعيد"كان يسكن الرها، ومات بها". كان ثقة كثير الحديث، فقيها، راوية للعلم. مات سنة ١٢٥، وهو ابن ست وثلاثين سنة.
37
دلالة من الله تعالى ذكره عباده، (١) على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله:"لمن أراد أن يتم الرضاعة"، فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود (٢)
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٦٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك، فقال تعالى ذكره:"لمن أراد أن يتم الرضاعة".
٤٩٦٦- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، يعني المطلقات، يرضعن أودهن حولين كاملين. ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك، فقال:"لمن أراد أن يتم الرضاعة".
* * *
* ذكر من قال: إن"الوالدات"، اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع: البائنات من أزوجهن، على ما وصفنا قبل. (٣)
٤٩٦٧- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف"، أما"الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها.
٤٩٦٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،
(١) قوله: "عباده" منصوب مفعول به للمصدر"دلالة".
(٢) النظر: اختيار أحسن الأمور له، في الرعاية والحفظ والكلاءة، وطلب المصلحة.
(٣) انظر ما سلف في أول تفسير الآية ص: ٣٠، ٣١.
38
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا.
٤٩٦٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، القول الذي رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ووافقه على القول به عطاء والثوري= والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر: وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه، (١) وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا، وأنه معني به كل مولود، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة. (٢)
* * *
فأما قولنا:"إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه"، فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن للحد معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل، لما كان وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع= وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين، وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة (٣)
(١) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لا رضاع"، وما بينهما بياض كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص: ٣٤، ٣٥، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة.
(٢) ولدت المرأة تلد ولادا وولادة - بكسر الواو فيهما، بمعنى.
(٣) في المطبوعة: "وكان التمام من الأشياء لا معنى للزيادة فيه"، وهو كلام لا محصول له. وفي المخطوطة: "ولما كان التمام من الأشيا لا معنى للزيادة فيه" مع بياض بين الكلمتين، وهذا دليل على أن الناسخ ظن أن في الكلام سقطا، ولكن الحقيقة أن فيه تحريفا، قرأ"التام""التمام"، وقد أثبتنا الصواب الذي لا صواب غيره.
39
فيه، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين = وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما، كان ما وراءه غير محرم.
وإنما قلنا:"هو دلالة على أنه معني به كل مولود، لأي وقت كان ولاده، لستة أشهر أو سبعة أو تسعة"، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض.
وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه، أو على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم- في كتابنا (كتاب البيان عن أصول الأحكام)، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره: قد بين ذلك بقوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: ١٥]، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره. فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة الحمل، نقص من مدة الرضاع. وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا، كما حده الله تعالى ذكره.
قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل -على هذه المقالة- إن بلغت حولين كاملين، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع سنين، أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته = (١) أو يزعم قائل هذه المقالة: أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر، فيخرج من قول جميع الحجة، ويكابر الموجود والمشاهد، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك. فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة، وضح لذوي الفهم فساد قوله.
* * *
(١) عطف على قوله: "فقد يجب أن تكون مدة الحمل"... "أو يزعم... "
40
فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله -إن كان الأمر على ما وصفت-:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره، نظير ما دون حده في الحكم؟ وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟
قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه، كما جعل قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع، (١) وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه، وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه. (٢) فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها، فيضعنه متى شئن، ويتركن وضعه إذا شئن= كان معلوما أن قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا= لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) (٣) [سورة الأحقاف: ١٥].
(١) في المطبوعة: "لرضاع المولود التام الرضاع"، وهو أيضًا كلام بلا معنى مفهوم، غيروا ما في المخطوطة كما أثبتناه، ظنا منهم بأنه هو غير مفهوم!! وعنى بقوله: "الثابت الرضاع"، أي الذي ثبت له أنه"يرضع"، كما سيتبين من سياق كلامه بعد.
(٢) أي: وإلى المعصية بتركه.
(٣) هنا آخر التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا. ونص ما بعده: "وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا"
41
(١) فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم= وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا= (٢) فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) [سورة الأحقاف: ١٥]، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية. (٣)
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله، (٤) وكفرانه نعم ربه عليه، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده= (٥) ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر، (٦) أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل المدينة
(١) أول التقسيم القديم، ونص ما قبله:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن يا كريم"
(٢) قوله: "فقد يجب" جواب قوله: "فإن ظن ذو غباء... ".
(٣) يعني أن آية سورة الأحقاف معنى بها خاص من الناس دون عام، كما يدل على ذلك ظاهر تلاوتها.
(٤) وجد الشيء يجده وجودا. وقوله: "من يستحكم" مفعول به للمصدر.
(٥) السياق: "في وجودنا من يستحكم كفره بالله... ما يعلم... "، مبتدأ مؤخر.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: "لتسعة أشهر"، والصواب، أثبت كما يدل عليه سياق الحجة.
42
والعراق والشام:"لم أراد أن يتم الرضاعة" ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة"- بمعنى: لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده.
وقرأه بعض أهل الحجاز:"لمن أراد أن تتم الرضاعة" ب"التاء" في"تتم"، ورفع"الرضاعة" بصفتها. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة". لأن الله تعالى ذكره قال:"والوالدات يرضعن أولادهن"، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها= وأنها القراءة (٢) التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة، دون القراءة الأخرى.
* * *
وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر"الراء" التي فيها. فإن تكن صحيحة، (٣) فهي نظيرة"الوكالة والوكالة" و"الدلالة والدلالة"، و"مهرت الشيء مهارة ومهارة"- فيجوز حينئذ"الرضاع" و"الرضاع"، كما قيل:"الحصاد، والحصاد". وأما القراءة فبالفتح لا غير.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وعلى المولود له"، وعلى آباء الصبيان للمراضع="رزقهن"، يعني: رزق والدتهن.
* * *
(١) يعني بقوله: "بصفتها"، أي بالفعل اللازم الذي هو صفة لها فتقول: رضاعة تامة.
(٢) "وأنها القراءة... " معطوف على قوله: "لأن الله تعالى ذكره قال.. "
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن تكن... "، والجيد هنا الفاء.
43
ويعني ب"الرزق": ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم.
* * *
و"كسوتهن"، ويعني: ب"الكسوة": الملبس.
* * *
ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) [سورة الطلاق: ٧]، وكما: -
٤٩٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا نكلف نفسا إلا وسعها.
٤٩٧١- حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= عن سفيان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان"، وعلى المولود له"= على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف (١)
٤٩٧٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال: على الأب.
* * *
(١) الأثر: ٤٩٧١ - انظر إسناد الأثر السالف: ٤٩٥٥، والآتي: ٤٩٧٣.
44
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا﴾ (١)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) [سورة الطلاق: ٧]، كما: -
٤٩٧٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد = جميعا، عن سفيان:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، إلا ما أطاقت. (٢)
* * *
"والوسع""الفعل" من قول القائل:"وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة"- ويقال:"هذا الذي أعطيتك وسعي"، أي: ما يتسع لي أن أعطيك، فلا يضيق علي إعطاؤكه= و"أعطيتك من جهدي"، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه.
* * *
فمعنى قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، هو ما وصفت: من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها ولا يجهدها= لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه: لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات. لأن ذلك لو كان كما زعمت، لكان قوله تعالى ذكره: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) [سورة الإسراء: ٤٨ وسورة الفرقان: ٩]، = إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه= واجبا أن يكون القوم في حال واحدة، قد أعطوا الاستطاعة على
(١) في المخطوطة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، عجل الناسخ فأخطأ التلاوة.
(٢) الأثر: ٤٩٧٣- انظر إسناد الأثرين السالفين: ٤٩٥٥، ٤٩٧١.
45
ما منعوها عليه. وذلك من قائله إن قاله، إحالة في كلامه، ودعوى باطل لا يخيل بطوله. (١) وإذ كان بينا فساد هذا القول، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام:"لا تضار والدة بولدها" بفتح"الراء"، بتأويل: لا تضارَرْ (٢) = على وجه النهي، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم، غير أنه حرك، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر. (٣)
* * *
(١) قوله: "دعوى باطل" هي هنا بالإضافة، لا صفة لدعوى. ويقال في غير هذا: "دعوى باطل وباطلة" على الوصف. و"البطول" مصدر"بطل" كما أسلفنا في الجزء ٤: ٥٢٣، تعليق: ٣ و"أخال الشيء يخيل": اشتبه، يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد" أي: لا يشكل. و"هو شيء مخيل"، أي: مشكل.
(٢) في المخطوطة: "لا تضارن" بالنون في آخره، وهو خطأ.
(٣) هكذا جاءت هذه الفقرة في المخطوطة والمطبوعة. وهي فاسدة كلها بلا شك، ومناقضة لما سيأتي في كلام الطبري في ص: ٥١ إلى ص: ٥٢ ولست أرتاب في أن الكلام قد سقط منه شيء، تخطاه ناسخ قديم، فاضطرب ما أراد الطبري أن يقوله، ثم ما قاله بعد، اضطرابا شديدا. والذي استظهرته من قراءة كلامه من أول تفسير الآية إلى آخرها في ص: ٥٤، يوجب أن يكون سياق كلامه هنا هكذا:
"اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام: "لا تضار والدة بولدها"، بفتح"الراء"، على ما لم يسم فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك - إذ ترك التضعيف بحركة الراء الأولى.
وزعم بعض من قرأه كذلك، أن قراءة من قرأ: "لا تضار" بفتح"الراء" على ما سمي فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك -إذ ترك التضعيف- بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت، فلأن الجزم إذا حرك، حرك إلى الكسر. وهذا خطأ في التأويل".
ولعل بعض النساخ القدماء، سقط من نسخه شيء ثم جاء آخر، فلم يستطع أن يفهم ما كتبه، ولا أن يعرف موضع السقط فيه، فتصرف في كتابته على هذا الوجه الذي ثبت في مخطوطتنا وفي جميع المطبوع. وهو خطأ لا ريب فيه. وتناقض ظاهر، لا يقع في مثله أبو جعفر، فضلا عما فيه من الاختلال الشديد. وسأبين في التعليقات التالية ما يربط الكلام الآتي بهذه الجملة التي استظهرتها.
46
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة:"لا تضار والدة بولدها"، رفع. (١) ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي، ولكنها تكون [على معنى] الخبر، (٢) عطفا بقوله:"لا تضار" على قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها". (٣)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع:"لا تضار والدة بولدها"، هكذا في الحكم: - أنه لا تضار والدة بولدها- أي: ما ينبغي أن تضار. فلما حذفت"ينبغي"، وصار"تضار" في وضعه، صار على لفظه، واستشهد لذلك بقول الشاعر: (٤)
(١) في المطبوعة والمخطوطة: مكان"رفع"، "فعل"، وهو تحريف لا شك فيه، كما يدل عليه السالف والآتي. وكما تدل عليه القراءة. وفي المخطوطة قبله: "لا تضارر".
(٢) في المطبوعة: "ولكنها تكون بالخبر عطفا"، وكان في المخطوطة: "ولكنها تكون الخبر عطفا" بغير باء الجر. والسياق يدل على ضرورة ما أثبت من الزيادة بين القوسين.
(٣) في المخطوطة: "لا تكلف نفسا"، كما وقع في الآية في ص: ٤٥ تعليق: ١.
(٤) لأبي اللحام التغلبي، وهو سريع بن عمرو (وعمرو هو اللحام) بن الحارث بن مالك بن ثعلبة بن بكر بن حبيب ويقال اسمه"حريث". وهو جاهلي، النقائض: ٤٥٨، وشرح المفضليات: ٤٣٤، والخزانة ٣: ٦١٣ - ٦١٥. وفي سيبويه ١: ٤٣١، ونسبه الشنتمري لعبد الرحمن بن أم الحكم، ولم أجد نسبته إليه في مكان آخر. ولأبي اللحام شعر في ديوان عمرو بن كلثوم.
47
على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته، أن لا يجور ويقصد (١)
فزعم أنه رفع"يقصد" بمعنى"ينبغي". والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال. وذلك أنه روي عنهم سماعا:"فتصنع ماذا"، إذا أرادوا أن يقولوا:"فتريد أن تصنع ماذا"، فينصبونه بنية"أن. وإذا لم ينووا"أن" ولم يريدوها، قالوا:"فتريد ماذا"، فيرفعون"تريد"، لأن لا جالب ل"أن" قبله، كما كان له جالب قبل"تصنع". فلو كان معنى قوله"لا تضار" إذا قرئ رفعا بمعنى:"ينبغي أن لا تضار" أو"ما ينبغي أن تضار"، ثم حذف"ينبغي" و"أن"، وأقيم"تضار" مقام"ينبغي"، لكان الواجب أن يقرأ- إذا قرئ بذلك المعنى- نصبا لا رفعا، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد، كما فعل بقوله:"فتصنع ماذا"، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على"تكلف": (٢) ليست تكلف نفس إلا وسعها، وليست تضار والدة بولدها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان ذلك خبرا، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك. (٣)
* * *
(١) سيبويه ١: ٤٣١ الخزانة ٣: ٦١٣ - ٦١٥، وشرح شواهد المغني: ٢٦٣. وقال صاحب الخزانة: "البيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتا لأبي اللحام التغلبي أو ردها أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب له، وانتخبها أبو تمام، فأورد منها خمسة أبيات في مختار شعر القبائل، وهذا أولها:
عمرت وأطولت التفكر خاليا وساءلت حتى كاد عمري ينفد
(٢) في المطبوعة: "لا تكلف" بزيادة"لا" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "لكان حرام" بالرفع، والأجود ما أثبت.
48
وبما قلنا في ذلك -من أن ذلك بمعنى النهي- تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٧٤- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تضار والدة بولدها"، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها.
٤٩٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٤٩٧٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها= ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا.
٤٩٧٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، ترمي به إلى أبيه ضرارا،"ولا مولود له بولده"، يقول: ولا الوالد، فينتزعه منها ضرارا، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها، فهي أحق به إذا رضيت بذلك.
٤٩٧٨- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن:"لا تضار والدة بولدها"، قال: ذلك إذا طلقها، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها= وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق، إذا كان إنسانا مسكينا، فتقذف إليه ولده.
٤٩٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"لا تضار والدة بولدها"، لا تضار أم بولدها ولا أب بولده. يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا، أو إلى عصبته
49
إذا كان الأب ميتا. ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه. (١)
٤٩٨٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تضار والدة بولدها"، يقول لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به= ولا تضار والدة بولدها، فتطرح الأم إليه ولده، تقول:"لا أليه ساعة" تضيعه، (٢) ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا.
٤٩٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب- وسئل عن قول الله تعالى ذكره"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال ابن شهاب: والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه، مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها.
٤٩٨٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا، عن سفيان في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها، تضاره بذلك="ولا مولود له بولده"، ولا ينزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك.
٤٩٨٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه، ولا يجد ما يسترضعه به.
٤٩٨٤- حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني
(١) في المطبوعة: "ولا ينتزعه"، وهما سواء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول لا إليه ساعة تضعه"، وهو في المخطوطة غير منقوط، ورأيت الصواب أن تكون هكذا قراءة الجملة، مع جعل"تضعه""تضيعه"، أي تضيعه بتركها إياه.
50
ابن جريج، عن عطاء في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: لا تدعنه ورضاعه، من شنآنها مضارة لأبيه، (١) ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها.
* * *
وقال بعضهم:"الوالدة" التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي. (٢)
ذكر من قال ذلك:
٤٩٨٥- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: هي الظئر. (٣)
* * *
فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها، ولا والدة مولود والده بمولودها منه. ثم ترك ذكر الفاعل في"يضار"، فقيل: لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده، (٤) كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله، ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه:"لا يكرم عمرو، ولا يجلس إلى أخيه"، ثم ترك التضعيف فقيل:"لا تضار" فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة- لو أظهر التضعيف- بحركة الراء الأولى. (٥)
(١) في المطبوعة والمخطوطة"من شأنها"، والصواب ما أثبت، والشنآن: البغض والكره.
(٢) الظئر: العاطفة على ولد غير ولدها، المرضعة له.
(٣) الأثر: ٤٩٨٥-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، روى عنه البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم، ثقة صدوق. مات سنة ٢٢٢. و"هرون النحوي" و"هرون الأعور" هو: هرون بن موسى الأزدي العتكي - النحوي الأعور صاحب القراءات، كان ثقة مأمونا. و"الزبير بن الخريت" (بكسر الخاء وتشديد الراء المكسورة). ثقة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الزبير بن الحارث"، هو خطأ صرف.
(٤) في المطبوعة: "لا تضار والدة... " كنص الآية، ولكنه أراد التضعيف هنا، كما يظهر من السياق، والصواب من المخطوطة.
(٥) من هذا الموضع أخذت ما زدته هناك ص: ٤٦، ٤٧ تعليق: ٣ في التعليق على الجملة المضطربة التي بينت اضطرابها.
51
وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع، لأنه آخر الحركات. (١) وليس للذي قال من ذلك معنى. لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك، لو كان معنى الكلام: لا تضارر والدة بولدها، (٢) وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة. على أن معنى الكلام لو كان كذلك، لكان الكسر في"تضار" أفصح من الفتح، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح، كما أن:"مد بالثوب" أفصح من"مد به". (٣) وفي إجماع القرأة على قراءة:"لا تضار" بالفتح دون الكسر، دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك. (٤)
فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تضارر والدة، (٥) وأن"الوالدة" مرفوعة بفعلها، وأن"الراء" الأولى حظها الكسر، فقد أغفل تأويل الكلام، (٦) وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل. وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل أحد (٧) من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما= لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود. وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي،
(١) في المطبوعة: "لأنه أحد الحركات"، وهو كلام لا معنى له، والصواب ما أثبت، وقد مضى في مكان ما من التفسير مثل هذا الخطأ، ولم أستطع أن أعثر عليه بعد. وقوله: "آخر الحركات" معناه: أخفها. فالضم أثقل الحركات، ثم الكسر، ثم الفتح أخفها وآخرها. وأما السكون فلا يعد في الحركات. وهذا الذي قاله الطبري هنا دليل قاطع على فساد الجملة التي كانت في ص: ٤٦، ٤٧ (تعليق: ٣) وأنه لا يجعل علة الفتح في معنى النهي: "أنه حرك إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح"، ودليل على أن الصواب ما استظهرته في التعليق. وسيظهر ذلك بينا في رده الذي يأتي بعقب هذه الجملة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضارن"، وهو كلام لا معنى له. والصواب ما أثبت (بضم التاء وكسر الراء الأولى، وسكون الأخيرة)،
(٣) انظر شرح الشافية ٢: ٢٤٣.
(٤) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في ١: ١٥١، تعليق: ١، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة.
(٥) في المطبوعة: "لا تضار" براء مشددة، والصواب من المخطوطة. وقوله"مرفوعة بفعلها"، أي أنه فعل لازم، مثل"قاتل الرجل".
(٦) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في ١: ١٥١، تعليق: ١، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة.
(٧) في المطبوعة: "كل واحد"، وهما قريبين. وقوله: تقدم إلى كذا بكذا، أي أمر بأمر أو نهي.
52
والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد؟ فلو كان ذلك معناه، لكل التنزيل: لا تضر والدة بولدها. (١)
* * *
وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في"تضار" جائز. (٢) والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز، (٣) لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى: لا تضارَرْ "- (٤) الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله- إلى معنى"لاتضارر"، (٥) الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله. (٦)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحق على إمام المسلمين= إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه، بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة= (٧) أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها، ما دام محتاجا الصبي، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه= إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير
(١) في المخطوطة: "لا تضار" كنص الآية، وهي خطأ بلا شك.
(٢) هو الفراء في معاني القرآن ١: ١٤٩، وعنى الفراء برأيه هذا أنه لما سكنت الراء الأولى لإدغامهما في الثانية الساكنة، التقى ساكنان، فكسر، لأن الكسر هو الأصل في التقاء الساكنين هذا ما أجازه.
(٣) في المطبوعة: "والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع" وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "لا تضار"، والصواب التضعيف هنا للبيان، كما في المخطوطة.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضار" والصواب ما أثبت للعلة في التعليق السالف.
(٦) هذه الفقرة من كلام أبي جعفر في رد من قال بالكسر، تدل دلالة واضحة أيضًا على فساد الجملة الأولى التي صححناها في ص: ٤٦، ٤٧ تعليق: ٣، وهي تبين لك عن صواب ما استظهرت أنه أصل كلام الطبري.
(٧) في المخطوطة والمطبوعة: "وترضعه"، والصواب بالياء كما أثبت. وسياق الجملة: "فحق على إمام المسلمين... أن يأخذ الوالد" وما بينهما فصل للحال. وقوله: "ما دام محتاجا الصبي" حال أخرى معترضة. وسياق الكلام"بتسليم ولدها... إليها في ذلك".
53
والدته، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده. (١) = أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته. (٢) لأن الله تعالى ذكره إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، (٣) فالإضرار به أحرى أن يكون محرما، مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الوارث" الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، وأي وارث هو: ووارث من هو؟
فقال بعضهم: هو وارث الصبي. وقالوا: معنى الآية: وعلى وارث الصبي إذا كان [أبوه] ميتا، (٤) مثل الذي كان على أبيه في حياته.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٨٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قالا حدثنا سعيد، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد.
٤٩٨٧- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ما يتبرع عليه"، وهو خطأ فاسد، لأنه يريد أنه لم يجد من يتفضل عليه ويتطوع برضاع مولوده. وسياق هذه الجملة أيضًا: "وحق عليه... أن يأخذ والدته"، كما في الفقرة السالفة.
(٢) في المخطوطة: "أن يأخذ بوالدته الثانية من والدته البائنة من والده"، وقد أصابت المطبوعة الصواب، فحذفت"الثانية من والدته"، فهو تصحيف وتكرار.
(٣) في المطبوعة: "لأن الله تعالى ذكره حرم" بإسقاط"إن"، والواجب إثباتها كما جاءت في المخطوطة.
(٤) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام، ويدل على وجودها ما بعده.
54
السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد.
٤٩٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الصبي مثل ما على أبيه.
* * *
ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود، الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف. فقال بعضهم: هم وارث الصبي من قبل أبيه من عصبته، كائنا من كان، أخا كان، أو عما، أو ابن عم، أو ابن أخ.
* ذكر من قال ذلك:
٤٩٨٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج: أن عمرو بن شعيب أخبره: أن سعيد بن المسيب أخبره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه= قال: في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال (١) = وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه، مثل العاقلة. (٢)
٤٩٩٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الحسن كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على العصبة.
٤٩٩١- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو عاصم
(١) هذه الجملة بين الخطين، من كلام عمرو بن شعيب. بمعنى أن سعيد بن المسيب أخبره في قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك"، أن عمر بن الخطاب حبس. وهذا بين من سياق التحديث.
(٢) الأثر: ٤٩٨٩- في المخطوطة"قال: وقف بني عم منفوس بني عمه كلالة بالنفقة". وأما الذي في المطبوعة، فكأنه من نص الدر المنثور ١: ٢٨٨، اجتلبه المصحح من هناك، وهذا نص الدر والمطبوعة: "حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه"، وقد رأيت أن أقرأها كما أثبتها وكما في المحلى بهذا الإسناد ١٠: ١٠٢. والمخطوطة - كما قلت مرارا مضطربة في هذا القسم منها لعجلة الكاتب، كما ظهر في كثرة التصحيحات السالفة. وانظر الأثر رقم: ٤٩٩١ والتعليق عليه. يقال: هو ابن عمه كلالة (بالنصب)، وابن عم كلالة (بالإضافة). أي من بني العم الأباعد، وهم العصبة وإن بعدوا. والعاقلة: هم عصبة الرجل وقرابته من قبل الأب الذين يعطون دية القتل.
55
قالا حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال: وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه. (١)
٤٩٩٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا توفي الرجل وامرأته حامل، فنفقتها من نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته.
قال: وكان يتأول قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الرجال.
٤٩٩٣- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: على العصبة الرجال، دون النساء.
٤٩٩٤- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام عن ابن سيرين: أتي عبد الله بن عتبة مع اليتيم وليه، ومع اليتيم من يتكلم في نفقته، فقال لولي اليتيم: لو لم يكن له مال لقضيت عليك بنفقته، لأن الله تعالى يقول:" وعلى الوارث مثل ذلك". (٢)
٤٩٩٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال: أُتي عبد الله بن عتبة في رضاع صبي، فجعل رضاعه في ماله، وقال لوليه: لو لم يكن له مال جعلنا رضاعه في مالك، ألا تراه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ (٣)
٤٩٩٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب، إذا لم يكن للصبي مال. وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه، فعليه النفقة.
(١) الأثر: ٤٩٩١- انظر الأثر السالف: ٤٩٨٩، وفي المطبوعة هنا"ابن عم على منفوس" بزيادة"على"، وأثبت ما في المخطوطة وانظر سنن البيهقي ٧: ٤٧٨ - ٤٧٩، والمحلى ١٠: ١٠٢.
(٢) الأثران: ٤٩٩٤، ٤٩٩٥- انظر الأثر التالي رقم: ٥٠٠٤. والذي في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي يليه.
(٣) الأثران: ٤٩٩٤، ٤٩٩٥- انظر الأثر التالي رقم: ٥٠٠٤. والذي في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي يليه.
56
٤٩٩٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الولي من كان.
٤٩٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٤٩٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٠٠٠- حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يعقوب- يعني ابن القاسم- عن عطاء وقتادة- في يتيم ليس له شيء، أيجبر أولياؤه على نفقته؟ قالا نعم، ينفق عليه حتى يدرك. (١)
٥٠٠١- حدثت عن يعلى بن عبيد، عن جويبر، عن الضحاك قال: إن مات أبو الصبي وللصبي مال، أخذ رضاعه من المال. وإن لم يكن له مال، أخذ من العصبة. فإن لم يكن للعصبة مال، أجبرت عليه أمه.
* * *
وقال آخرون منهم: بل ذلك على وارث المولود من كان، من الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
٥٠٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أنه كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث المولود ما كان على
(١) الأثر: ٥٠٠٠- عبد الله بن محمد بن يزيد أبو محمد الحنفي المروزي صاحب عبدان. سكن بغداد. قال الخطيب: "كان ثقة"، وتوفى سنة ٢٧٥ مترجم في تاريخ بغداد ١٠: ٨٥ و"عبدان"، لقب"عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي، روى عنه البخاري. مات سنة ٢٢٠. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر الآتي برقم: ٥٠٠٩.
57
الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.
٥٠٠٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة، كلهم يرث الصبي، أجر رضاعه.
٥٠٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة صبي من ماله، وقال لوارثه: أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك بنفقته، ألا ترى أنه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك". (١)
* * *
وقال آخرون منهم: هو من ورثته، من كان منهم ذا رحم محرم للمولود، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم، كابن العم والمولى ومن أشبههما، فليس من عناه الله بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك". والذين قالوا هذه المقالة: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد.
* * *
وقالت فرقةأخرى: بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، المولود نفسه.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٠٥- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة. أن بشير بن نصر المزني - وكان قاضيا قبل ابن حجيرة في زمان عبد العزيز- كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الوارث هو الصبي. (٢)
(١) الأثر: ٥٠٠٤- بإسناده في المحلى ١٠: ١٠٣، وانظر الأثرين السالفين: ٤٩٩٤، ٤٩٩٥.
(٢) الأثر: ٥٠٠٥-"أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري" مضت ترجمته بتفصيل في رقم: ٢٣٧٧. وكان في المطبوعة هنا"حدثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد" كما كان هناك أيضًا، والصواب هنا من المخطوطة. وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي أبو شرحبيل المصري. قال أحمد: "كان شيخا من أصحاب الحديث ثقة". توفي سنة ١٣٦. مترجم في التهذيب. و"بشير ابن النضر المزني" مترجم في كتاب القضاة للكندي: ٣١٣ - ٣١٤ توفى سنة ٦٩، وكان في المطبوعة والمخطوطة"بشر بن نصر"، وهو خطأ، وقد روى هذا الأثر بإسناده قال: "حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثني محمد بن ربيع الجيزي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد... ". و"ابن حجيرة" هو: "عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني"، مترجم في كتاب القضاة: ٣١٤ - ٣٢٠، توفى سنة ٨٣، وكان فقيها من أفقه الناس.
58
٥٠٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال، أخبرنا حيوة. قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة، عن قبيصة بن ذؤيب:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: هو الصبي.
٥٠٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال، أخبرني جعفر بن ربيعة: أن قبيصة بن ذؤيب كان يقول: الوارث هو الصبي= يعني قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك". (١)
٥٠٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: يعني بالوارث: الولد الذي يرضع.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك على ما تأوله هؤلاء: وعلى الوارث المولود، مثل ما كان على المولود له.
* * *
وقال آخرون: بل هو الباقي من والدي المولود، بعد وفاة الآخر منهما.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٠٩- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، أخبرنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في
(١) الأثران: ٥٠٠٦، ٥٠٠٧ - انظر المحلى ١٠: ١٠٣، وروايته هناك: "رضاع الصبي".
59
صبي له عم وأم وهي ترضعه، قال: يكون رضاعه بينهما، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم، لأن الأم تجبر على النفقة على ولدها. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"مثل ذلك".
فقال بعضهم: تأويله: وعلى الوارث للصبي بعد وفاة أبويه، (٢) مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته، إذا لم يكن للمولود مال.
ذكر من قال ذلك:
٥٠١٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث رضاع الصبي.
٥٠١١- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.
٥٠١٢- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
٥٠١٣- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.
(١) الأثر: ٥٠٠٩- انظر إسناد الأثر السالف رقم: ٥٠٠٠، وفي المطبوعة: "ويدفع عن العم"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "على الوارث للصبي"، وأثبت ما في المخطوطة.
60
٥٠١٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عتبة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
٥٠١٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد، عن عبد الله بن عتبة في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف.
٥٠١٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب من الرضاع، إذا لم يكن للصبي مال.
٥٠١٧- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الرضاع والنفقة.
٥٠١٨- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
٥٠١٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، قال: الرضاع.
٥٠٢٠- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبو عوانة، عن مطرف، عن الشعبي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.
٥٠٢١- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي مثله.
٥٠٢٢- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس
61
قال، سمعت هشاما (١) عن الحسن في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
٥٠٢٣- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام وأشعث، عن الحسن مثله.
٥٠٢٤- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن:"وعلى الوارث مثل ذلك"، يقول في النفقة على الوارث، إذا لم يكن له مال.
٥٠٢٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد مثله.
٥٠٢٦- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف.
٥٠٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الولي كفله ورضاعه، إن لم يكن للمولود مال.
٥٠٢٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث من كان، مثل ما وصف من الرضاع= قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: مثل ذلك في الرضاعة= قال:" وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث أيضا كفله ورضاعه، إن لم يكن له مال، وأن لا يضار أمه.
٥٠٢٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن
(١) في المطبوعة: "سمعت وهشاما عن الحسن"، كأنه سقطا اسم راو عطف عليه قوله"وهشاما" وكأنه صوابه"سمعت أشعث وهشاما"، كما سيأتي في الأثر التالي.
62
ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: نفقته حتى يفطم، إن كان أبوه لم يترك له مالا.
٥٠٣٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له.
٥٠٣١- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الصبي مثل ما على أبيه، إذا كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال، (١) فإن على الوارث أجر الرضاع.
٥٠٣٢- حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: إذا مات وليس له مال، كان على الوارث رضاع الصبي.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى الوارث مثل ذلك: أن لا يضار.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٣٣- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار.
٥٠٣٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: لا يضار، ولا غرم عليه.
٥٠٣٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، أن لا يضار.
(١) في المطبوعة: "إذ كان قد هلك"، والصواب من المخطوطة.
63
٥٠٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، قال: الوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر. وليس لوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها=" وعلى الوارث مثل ذلك"، مثل الذي على الوالد في ذلك.
٥٠٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثنا علي قال: حدثنا زيد، عن سفيان:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار، وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود، (١) مثل الذي كان على المولود له، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٣٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث عند الموت، مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة= قال: ويعني بالوارث: الولد الذي يرضع: أن يؤخذ من ماله- إن كان له مال- أجر ما أرضعته أمه.
فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته، فليس لأمه أجر، وتجبر على أن ترضع ولدها بغير أجر.
٥٠٣٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) في المطبوعة: "وعلى الوارث المولود"، وأثبت ما في المخطوطة.
64
السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الولد، مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله تعالى ذكره:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ قال: مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك": أن يكون المعني بالوارث ما قاله قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم؛ ومن ذكرنا قوله آنفا: (١) من أنه معني بالوارث: المولود= وفي قوله:"مثل ذلك"، أن يكون معنيا به: مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف، إن كانت من أهل الحاجة، ومن هي ذات زمانة وعاهة، (٢) ومن لا احتراف فيها، ولا زوج لها تستغني به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة، فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه.
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة، على ما قد بينا في أول كتابنا هذا. (٣) وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، محتملا ظاهره: وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له= ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان
(١) انظر الآثار السالفة: ٥٠٠٥ - ٥٠٠٨.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "وهي ذات زمانة"، والسياق يقتضي ما أثبت. والاحتراف الاكتساب يقال: هو يحرف لعياله ويحترف، أي يكتسب.
(٣) يعني ما سلف في ١: ٧٣ - ٩٣، ثم ذكر ذلك في مواضع أخرى تجدها في الفهارس.
65
عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود، وغير ذلك من التأويلات، على نحو ما قد قدمنا ذكرها= (١) وكان الجميع (٢) من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه= (٣) وصح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قبل أبيه أو أمه، في حكمه، (٤) في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع، إذ كان مولى النعمة من ورثته، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني- حكمه. (٥)
وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا- من أنه معني به ورثة المولود- فبطول القول الآخر= وهو أنه معني به ورثة المولود له سوى المولود= أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه (٦) - إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه- فالذي هو أبعد منه قرابة، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه.
وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها -إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا -على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له، فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا. فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه. وما عدا ذلك من التأويلات، فمتنازع فيه، وقد دللنا على فساده.
* * *
(١) في المطبوعة: "قدمنا ذكره" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) قوله: "وكان الجميع" معطوف على قوله. وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله... "
(٣) سياق هذه الجملة من أولها: "وإذ كان ذلك كذلك... ، وكان قوله... ، محتملا... " ومحتملا... " وكان الجميع من الحجة... صح بذلك من الدلالة... "، وكان في المطبوعة: "وصح" بالواو، والسياق يقتضي حذفها، لأنها جواب"إذ".
(٤) السياق: "صح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته... في حكمه".
(٥) السياق: "أن حكم سائر ورثته... حكمه" خبر"أن"، يعني أن حكمهما واحد.
(٦) في المخطوطة: "الذي هو أقرب بالمولود قربه ممن هو أبعد منه"، والذي في المطبوعة أصح وأجود.
66
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا"، إن أراد والد المولود ووالدته="فصالا"، يعني: فصال ولدهما من اللبن.
* * *
ويعني ب"الفصال": الفطام، وهو مصدر من قول القائل:"فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفصالا"، إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. فكذلك"فصال الفطيم"، إنما هو منعه اللبن، وقطعه شربه، وفراقه ثدي أمه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٤١- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فإن أرادا فصالا"، يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين.
٥٠٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا"، فإن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
٥٠٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، قال: الفطام.
* * *
وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني بذلك: عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنهما، إن فطماه
67
عن تراض منهما وتشاور، وأي الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور".
فقال بعضهم: عنى بذلك، فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٤٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، يقول: إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك، فليفطماه.
٥٠٤٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين، فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور، فلا بأس به.
٥٠٤٦- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.
٥٠٤٧- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين،"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور" دون الحولين"فلا جناح عليهما"، فإن لم يجتمعا، فليس لها أن تفطمه دون الحولين.
٥٠٤٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين، ليس لها حتى يجتمعا.
٥٠٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني الليث قال، أخبرنا عقيل، عن ابن شهاب:"فإن أرادا فصالا"، يفصلان ولدهما="عن تراض منهما وتشاور"، دون الحولين الكاملين="فلا جناح عليهما".
68
٥٠٥٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قال: التشاور ما دون الحولين، إذا اصطلحا دون ذلك، وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور". فإن قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين. وإن لم ترض الأم، فليس له ذلك، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما".
٥٠٥١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: قبل السنتين="فلا جناح عليهما".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، في أي وقت أرادا ذلك، قبل الحولين أرادا أم بعد ذلك. (١)
ذكر من قال ذلك:
٥٠٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
* * *
وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني: عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه، كما: -
٥٠٥٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"،
(١) في المطبوعة: "قبل الحولين أرادا ذلك أم بعد الحولين"، ورددتها إلى المخطوطة.
69
قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما (١) ="فلا جناح عليهما".
٥٠٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال:"فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور"، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته.
فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا= إذ كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه= فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنما هو علاج، كالعلاج بشرب بعض الأدوية، لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما، قبل انقضاء آخر مدته، فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله: (٢) "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل. (٣)
* * *
وأما الجناح، فالحرج، (٤) كما: -
(١) في المخطوطة: "غير في ظلم أنفسهما" بياض بين الكلمتين، والذي أتمه مصحح المطبوعة لا بأس به، ولم أجد الأثر في مكان آخر.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما الحد الذي حده الله تعالى... "، وهو كلام غير مستقيم ألبتة، والصواب زيادة ما أثبته، فيكون سياقه: "وأما الرضاع... فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى... ".
(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ٥: ٣٩ وما قبلها وما بعدها.
(٤) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" ٣: ٢٣٠، ٢٣١/ و ٤: ١٦٢، ١٦٣، ٥٦٥.
70
٥٠٥٥- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا جناح عليهما"، فلا حرج عليهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم= إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم، أو غير ذلك من الأسباب = فلا حرج عليكم في استرضاعهن، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٥٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، خيفة الضيعة على الصبي،"فلا جناح عليكم".
٥٠٥٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٠٥٨- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
71
٥٠٥٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، إن قالت المرأة:"لا طاقة لي به فقد ذهب لبني" فتُسترْضَع له أخرى.
٥٠٦٠- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع، ويسلمان، ويجبران على ذلك. قال: فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع، فإنه يعرض على الصبي المراضع. فإن قبل مرضعا جاز ذلك وأرضعته، (١) وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته. فإن لم يكن له مال ولا لعصبته، أكرهت على رضاعه.
٥٠٦١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم"، إذا أبت الأم أن ترضعه، فلا جناح على الأب أن يسترضع له غيرها.
٥٠٦٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها، ورضي الأب أن يسترضع ولده، فليس عليهما جناح.
* * *
واختلفوا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف".
فقال بعضهم: معناه: إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهن عليه من الأجرة على رضاعهن، بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها= أو الحال التي عذر أبو الصبي بطلب مرضع لولده غير أمه، واسترضاعه له.
ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "صار ذلك"، وفي المخطوطة"حار" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
72
٥٠٦٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: حساب ما أرضع به الصبي.
٥٠٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، حساب ما يرضع به الصبي.
٥٠٦٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، إن قالت - يعني الأم -:"لا طاقة لي به، فقد ذهب لبني"، فتسترضع له أخرى، وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت.
٥٠٦٦- حدثني المثنى قال، حدثني سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت -يعني لعطاء-:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"؟ قال: أمه وغيرها="فلا جناح عليكم إذا سلمتم"، قال: إذا سلمت لها أجرها="ما آتيتم"، قال: ما أعطيتم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم، وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم. (١)
ذكر من قال ذلك:
٥٠٦٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
٥٠٦٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، أخبرني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: لا جناح عليهما أن يسترضعا أولادهما- يعني أبوي المولود- إذا سلما ولم يتضارا.
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ومنهم"، والصواب ما أثبت.
73
٥٠٦٩- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع، من الأجرة، بالمعروف.
ذكر من قال ذلك:
٥٠٧٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد =جميعا، عن سفيان في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف- يعني: إلى من استرضع للمولود، إذا أبت الأم رضاعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال:"تأويله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، (١) ولم تروا ذلك من صلاحهم، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة، إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة (٢) إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف.
يعني بذلك المعنى: الذي أوجبه الله لهن عليكم، وهو أن يوفيهن أجورهن على ما فارقهن عليه، في حال الاسترضاع، ، ووقت عقد الإجارة.
وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج، ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك.
(١) في المطبوعة: "أنتم ووالدتهم"، وهو خطأ.
(٢) الظؤورة جمع ظئر (بكسر فسكون) : وهي المرضعة غير ولدها. والظؤورة مثل البعولة، جمع"بعل"، أو هما اسم جمع، كما يقول سيبويه.
74
وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، أمر فصالهم، وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين فقال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، في الحولين الكاملين"فلا جناح عليهما". فالذي هو أولى بحكم الآية- إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين- أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته= وأن يكون- إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة- أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم، بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه، كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى، وذلك في قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: ٦]. فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن، ذكر بيان امتناعهن من رضاعهن، فكذلك ذلك في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم".
وإنما اخترنا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" - ما اخترنا من التأويل، لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حق والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل، وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده. فلم يكن قوله:"إذا سلمتم" بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن، بأولى منه بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن= ولا الغرائب من المولود، بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات (١) إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من
(١) هذه الجملة بين الخطين، معطوفة على الجملة الأولى، فيكون سياق معناها: ولم يكن الغرائب من المولود بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات.
75
استأجره لرضاع ولده، من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى. فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنزيل إلى باطن، (١) ولا نقل عام إلى خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها- فصح بذلك ما قلنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:"بالمعروف"، فإن معناه: بالإجمال والإحسان، وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واتقوا الله"، وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق، وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم، وفيما أوجب عليكم لأولادكم، فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا - في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه - حدوده، (٣) فتستوجبوا بذلك عقوبته="واعلموا أن الله بما تعملون" من الأعمال، أيها الناس، سرها وعلانيتها، وخفيها وظاهرها، وخيرها وشرها="بصير"، يراه ويعلمه، فلا يخفى عليه شيء، ولا يتغيب عنه منه شيء، (٤) فهو يحصي ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم بخير ذلك وشره.
* * *
ومعنى"بصير"، ذو إبصار، وهو في معنى"مبصر". (٥)
* * *
(١) سلف مرارا ذكر"الظاهر" و"الباطن" فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(٢) انظر ما سلف في بيان"المعروف" ٣: ٣٧١ / ثم في الجزء ٤: ٥٤٩ / ٥: ٧، ٤٤ وبيانه عن معنى"المعروف" هنا أوضح وأشمل.
(٣) في المطبوعة: "وحدوده" بزيادة واو مفسدة للكلام، فمعنى الكلام: فتعتدوا في ذلك حدوده.
(٤) في المطبوعة: "لا يغيب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(٥) انظر ما سلف في تأويل"بصير" ٢: ١٤٠، ٣٧٦، ٥٠٦، وغيرها من المواضع في فهرس اللغة، وفهرس مباحث العربية.
76
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم، من الرجال، أيها الناس، فيموتون، ويذرون أزواجا، يتربص أزواجهن بأنفسهن. (١)
* * *
فإن قال قائل: فأين الخبر عن"الذين يتوفون"؟
قيل: متروك، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات، إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام: (٢) "بعض جبتك متخرقة"، (٣) في ترك الخبر عما ابتدئ به الكلام، إلى الخبر عن بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن، صرف الكلام عن خبر من ابتدئ بذكره، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه، كما قال الشاعر: (٤)
لعلي إن مالت بي الرٌيح ميلة على ابن أبي ذبان أن يتندما (٥)
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "يتربصن"، وهو في المخطوطة غير منقوط، والذي أثبته هو الصواب.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "هو نظير" بإسقاط الواو، والواجب إثباتها.
(٣) يعني أن حق الكلام كان أن يقول: "بعض جبنك متخرق"، بالتذكير خبرا عن"بعض"، فصرفه إلى"جبتك".
(٤) هو ثابت قطنة العتكي، واسمه" ثابت بن كعب".. ذهبت عينه في الحرب، فكان يحشوها بقطنة، وهو شاعر فارسي من شعراء خراسان في عهد الدولة الأموية، قال فيه حاجب الفيل:(٥) تاريخ الطبري ٨: ١٦٠، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٥٠، والصاحبي: ١٨٥، وهو من قصيدة له يرثى بها يزيد بن المهلب، لما قتل في سنة ١٠٢ في خروجه على يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو"ابن أبي ذبان". و"أبو ذبان" كنية أبيه عبد الملك بن مروان، لأنهم زعموا أنه كان أبخر، فإذا دنت الذبان من فيه، ماتت لشدة بخره. ورواية الطبري في التاريخ: "فعلى"، ويقول قبله:
لا يعرف الناس منه غير قطنته وما سواها من الأنساب مجهول
أرقت ولم تأرق معي أم خالد وقد أرقت عيناي حولا مجرما
على هالك هد العشيرة فقده، دعته المنايا فاستجاب وسلما
على ملك، يا صاح، بالعقر جبنت كتائبه، واستورد الموت معلما
أصيب ولم أشهد، ولو كنت شاهدا تسليت أن لم يجمع الحي مأتما
وفي غير الأيام يا هند، فاعلمي، لطالب وتر نظرة إن تلوما
فعلي، إن مالت............ ...................
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ كما ترى.
77
فقال"لعلي"، ثم قال:"أن يتندما"، لأن معنى الكلام: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، (١) إن مالت بي الريح ميلة عليه= فرجع بالخبر إلى الذي أراد به، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر:
ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله بغير دم، دار المذلة حلت (٢)
فألغى"ابن قيس" وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذل. (٣)
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر"الذين يتوفون" متروك، وأن معنى الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر"موتهم"، كما يحذف بعض الكلام- وأن"يتربصن" رفع، إذ وقع موقع"ينبغي"، و"ينبغي" رفع. وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع"يتربصن"
(١) في والمخطوطة والمطبوعة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ.
(٢) لم أعرف قائله، والبيت في معاني القرآن للفراء ١: ١٥٠، والصاحبي: ١٨٥، وروايتهما بني أسد إن ابن قيس وقتله
(٣) هذا الذي سلف أكثره نص الفراء في معاني القرآن ١: ١٥٠-١٥١، وفي معاني القرآن"فألقى ابن قيس"، والصواب ما في الطبري.
78
بوقوعه موقع"ينبغي" فيما مضى، فأغنى عن إعادته. (١)
* * *
وقال آخر منهم: (٢) إنما لم يذكر"الذين" بشيء، لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء:"من يلقك منا تصب خيرا"= الذي يلقاك منا تصيب خيرا. (٣) قال: ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر: وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا. (٤)
* * *
قال أبوجعفر: وأما قوله:"يتربصن بأنفسهن"، فإنه يعني به: يحتبسن بأنفسهن (٥) معتدات عن الأزواج، والطيب، والزينة، والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن- أربعة أشهر وعشرا، إلا أن يكن حوامل، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن، انقضت عددهن حينئذ.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه:
٥٠٧١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها.
(١) انظر ما سلف في الجزء ٥: ٤٧، ٤٨.
(٢) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "من يلقك منا يصيب خيرا"، ثم"يصيب خيرا"، والصواب ما أثبته"تصب" في الجملة الأولى مجزومة، وبالتاء في أوله، ثم"تصيب" بالتاء في الثانية.
(٤) في المطبوعة: "الدلالة الواضحة" وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) انظر فيما سلف تفسير"التربص" ٤: ٤٥٦، ٥١٥.
79
٥٠٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب في قول الله: (١) "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال ابن شهاب: جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر، لا يحلها إلا أن تضع حملها.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: عنى ب"التربص" ما وصفنا، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بما: -
٥٠٧٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة= وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة=، عن حميد بن نافع قال: سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدث= قال أبو كريب: قال أبو أسامة: عن أم سلمة= أن امرأة توفى عنها زوجها واشتكت عينها، فأتت النبي صلي الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل، فقال: لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، (٢) فتمكث في بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا"! (٣)
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "عن قول الله"، والصواب ما أثبته.
(٢) الأحلاس جمع حلس: وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة، وكل ما يبسط تحت حر المتاع ليقيه فهو حلس. وعنى به هنا: المرذول من ثيابها.
(٣) الحديث ٥٠٧٣-"حميد بن نافع الأنصاري المدني": تابعي ثقة. روى عن أبي أيوب، وعبد الله بن عمر، وروى عن زينب بنت أم سلمة. وهو والد"أفلح بن حميد". ويقال له"حميد صفيراء". ففرق البخاري في الكبير ١ / ٢ / ٣٤٥ بين"حميد صفيراء، والد أفلح"، الراوي عن أبي أيوب وابن عمر، وبين"حميد" الراوي عن زينب، جعلهما اثنين تبعا لشيخه علي بن المديني، وروى هو عن شعبة أنهما واحد. وهو الصحيح الذي جزم به الإمام أحمد. فقد روى في المسند ٦: ٣٢٥ - ٣٢٦ (حلبي) حديث حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة أم المؤمنين، ثم قال عقب الحديث"حميد بن نافع: أبو أفلح، وهو حميد صفيراء"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد ٥: ٢٢٤، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٢٩-٢٣٠. و"صفيراء": لقب حميد. وهكذا رسم على الصواب في المسند، والتهذيب في ترجمة"أفلح"، والبخاري في ترجمة"حميد". ورسم في التهذيب في ترجمة"حميد": "صفير"، وهو تصحيف. ووقع في التهذيب أيضًا في ترجمة"حميد" أنه يروي عن"عبد الله بن عمرو" -وهو خطأ، صوابه - كما قلنا-"عبد الله بن عمر". والحديث سيأتي: ٥٠٧٩، بإسناد آخر، من حديث أم سلمة وحدها. وسيأتي بأسانيد أخر، في بعضها: "عن أم سلمة وأم حبيبة" وفي سائرها: "عن أم سلمة أو أم حبيبة" ٥٠٧٦- ٥٠٧٨، ٥٠٨٠. وسنذكرها في مواضعها، إن شاء الله. أما من الوجه الذي هنا -رواية شعبة عن حميد-: فرواه الطيالسي: ١٥٩٦، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه أحمد في المسند ٦: ٢٩١-٢٩٢ (حلبي)، عن يحيى بن سعيد -وهو القطان- ثم رواه ٦: ٣١١، عن محمد بن جعفر، وعن حجاج -وهو ابن محمد المصيصي- ثلاثتهم عن شعبة، به، نحوه. ورواه البخاري ٩: ٤٣٢، و ١٠: ١٣١، مطولا ومختصرا، من طريقين عن شعبة. وكذلك رواه مسلم ١: ٤٣٤، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة. وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: ٣٥٣-٣٥٤، من طريق يحيى وهو القطان، عن شعبة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٧: ٤٣٩، من طريق الطيالسي ويحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شعبة. ورواه مالك في الموطأ، ص: ٥٩٦ - ٥٩٨، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها -ثالث احاديث ثلاثة حدثت زينب بها حميد بن نافع- بمعناه ومن طريق مالك هذه، رواه الأئمة: فرواه عبد الرزاق في المصنف ٤: ٦٦-٦٧ (مخطوط مصور) والبخاري ٩: ٤٢٧-٤٢٨، ومسلم ١: ٤٣٣ - ٤٣٤، وأبو داود: ٢٢٩٩، والترمذي ٢: ٢٢٠، والنسائي ٢: ١١٤، وابن حبان في صحيحه (٢: ٩١-٩٢ مخطوطة التقاسيم، و ٦: ٤٥٧-٤٥٨ مخطوطة الإحسان). وهو في المنتقى للمجد بن تيمية، برقم: ٣٨١١.
80
٥٠٧٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، سمعت نافعا، عن صفية ابنة أبي عبيد: أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي صلي الله عليه وسلم تحدث، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا"= قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، (١) ولا تكتحل، ولا تزين. (٢)
(١) الورس: نبت أصفر، يتخذ منه صبغ أصفر تصبغ به الثياب، ومنه ما يكون للزينة، كالزعفران.
(٢) الحديثان: ٥٠٧٤، ٥٠٧٥ - هما حديث واحد، مطول ومختصر، بإسنادين. عبد الوهاب في الإسناد الأول: هو ابن عبد المجيد الثقفي. ويزيد -في الإسناد الثاني: هو ابن هرون. يحيى بن سعيد- في الإسنادين: هو الأنصاري. ونافع: هو مولى ابن عمر. صفية بنت أبي عبيد بن مسعود، الثقفية: وهي تابعية ثقة، من فضليات النساء، وذكرها بعضهم في الصحابة، ولا يصح، وهي زوج عبد الله بن عمر. وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب. وشتان بين الأخوين. ووقع في ترجمتها في التهذيب ١٢: ٤٣٠ أنه يروي عنها"نافع مولى ابن عباس". وهو سهو أو خطأ ناسخ. بل الذي يروي عنها هو"نافع مولى ابن عمر". ولها ترجمة في ابن سعد ٨: ٣٤٦ - ٣٤٧، والإصابة ٨: ١٣١. والحديث رواه مسلم ١: ٤٣٥، من طريق عبد الوهاب، عن يحيى. وهو الطريق الأول هنا. ولم يذكر لفظه كله. وكذلك رواه البيهقي ٧: ٤٣٨، من طريق عبد الوهاب، وذكر لفظه. ورواه أحمد في المسند ٦: ٢٨٦، عن يزيد بن هارون، وهو الطريق الثاني هنا.
81
٥٠٧٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى، عن نافع، عن صفية ابنة أبي عبيد، عن حفصة ابنة عمر: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج.
٥٠٧٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول، أخبرني حميد بن نافع: أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته، عن أم سلمة -أو أم حبيبة- زوج النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها، وأنها قد خافت على عينها= فزعم حميد عن زينب: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر. (١).
(١) الحديث: ٥٠٧٦- هو الحديث الماضي: ٥٠٧٣، إلا أنه هنا"عن أم سلمة أو أم حبيبة"، على الشك. وكذلك في الإسناد بعده: ٥٠٧٧، وسيأتي في الإسناد: ٥٠٨٠، أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا، دون شك فيه.
أما روايته بالشك، بحرف"أو" - فلم أجدها قط. وأخشى أن يكون تحريفا من الناسخين. نعم روى الدارمي ٢: ١٦٧، قصة أخرى لأم حبيبة، في آخرها حديث"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة... " إلخ - رواه عن هاشم بن القاسم، عن شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه إلى زينب"تحدث عن أمها، أو امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه". ولكنه حديث آخر غير هذا الحديث، ولعل زينب شكت أيضًا في الرواية التي هنا، كما شكت في الرواية التي عند الدارمي.
وكذلك رواه مسلم ١: ٤٣٤، عن ابن المثنى، عن ابن جعفر، عن شعبة، - في قصة أم حبيبة فقط، ثم قال حميد: "وحدثتنيه زينب عن أمها، وعن زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن امرأة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم".
ثم روي عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة: "عن حميد بن نافع بالحديثين جميعا، حديث أم سلمة في الكحل، وحديث أم سلمة وأخرى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. غير أنه لم تسمها زينب - نحو حديث محمد بن جعفر". وأيا ما كان، فإن هذا الشك لا يؤثر في صحة الحديث. والروايات الثابتة تدل على أنها روته عن أمها وأم حبيبة، كما سيأتي.
82
٥٠٧٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع: أنه سمع زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر= قال ابن بشار، قال يزيد، قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها. (١)
٥٠٧٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا شعبة، عن يحيى، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله (٢)
(١) الحديث: ٥٠٧٧- هو الحديث السابق أيضًا، بإسناد آخر. ووقع في المطبوعة هنا"أو أم سلمة" على الشك، كالرواية السابقة. ولكني أوقن -هنا- أنه خطأ من ابن بشار، شيخ الطبري.
فالحديث رواه مسلم ١: ٤٣٤، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد -كلاهما عن يزيد بن هارون. بهذا الإسناد. وفيه: "أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة، تذكران: أن امرأة... "- إلخ. فهذا صريح في الرواية عنهما معا، لا رواية عن إحداهما. وكذلك رواه ابن ماجه: ٢٠٨٤، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، نحو رواية مسلم. ويؤيده: أن النسائي رواه ٢: ١١٥، من طريق حماد، عن يحيى الأنصاري، عن حميد، عن زينب: "أن امرأة سألت أم سلمة وأم حبيبة... فقالتا: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. "
(٢) الحديث: ٥٠٧٨- هو تكرار للحديث قبله، لم يذكر لفظه، وهو من رواية يزيد بن هارون، عن شعبة، عن يحيى الأنصاري، عن حميد.
وأنا أخشى أن يكون في الإسناد تحريف من الناسخين، وأن يكون صوابه: "حدثنا شعبة، ويحيى". لأن الإسناد قبله، هو من رواية يزيد بن هارون عن يحيى مباشرة. فقد تكون الفائدة في تكرار هذا الإسناد: أن يكون ابن بشار سمعه من يزيد مرتين: مرة عن يحيى وحده، ومرة عن يحيى وشعبة. وإذا كان ما ثبت في المطبوعة صحيحا، كان ابن بشار سمعه هكذا، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد.
83
٥٠٧٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها، أفتكتحل؟ (١) فقال، قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! = قال، قلت: وما"ترمي بالبعرة على رأس الحول"؟ قال: كان نساء الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، لبست أطمار ثيابها، (٢) وجلست في أخس بيوتها، فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت: قد حللت! (٣)
٥٠٨٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد خفت على عينها، وهي تريد الكحل؟ قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول! وإنما هي أربعة أشهر وعشر! = قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ قالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها، عمدت إلى أشر بيت لها
(١) في المخطوطة: "أفتكحل".
(٢) الأطمار جمع طمر (بكسر فسكون) : وهو الثوب الخلق، والكساء البالي.
(٣) الحديث: ٥٠٧٩- أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص: قرشي مكي ثقة حافظ فقيه. مذكور في نسب قريس للمصعب، ص: ١٨٣.
وهذا الحديث تكرار للحديث: ٥٠٧٣، بأنه عن أم سلمة وحدها - كما قلنا هناك.
وقد رواه النسائي ٢: ١١٥ - من طريق الليث بن سعد، عن أيوب بن موسى. ثم من طريق سفيان ابن عيينة، عن يحيى الأنصاري، به، نحوه، مطولا، ومختصرا.
84
فجلست فيه، (١) حتى إذا مرت بها سنة خرجت، ثم رمت ببعرة وراءها. (٢)
٥٠٨١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة: أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها، أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا معصفرا، ولا تكتحل بالإثمد، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها، ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب، ولا تلبس حليا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد. (٣)
٥٠٨٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها: لا تكتحل، ولا تطيب، ولا تبيت عن بيتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب تجلبب به. (٤)
(١) قوله: "أشر" على وزن"أفعل"، هكذا جاء هنا. وقال أهل اللغة: إنه لغة قليلة أو رديئة. وقد جاء في كثير من أمثالهم وكلامهم"أشر" و"شرى"، كأفضل وفضلى. ومنه قول امرأة من العرب: "أعيذك بالله من نفس حرى، وعين شرى" أي خبيثة، وفي المثل: "شراهن مراهن". وفي خبر العبادي قيل له: "أي حماريك أشر؟ " قال: "هذا ثم هذا".
(٢) الحديث: ٥٠٨٠- أحمد بن يونس: هو أحمد بن عبد الله بن يونس، مضى في: ٢١٤٤. وهذا الحديث تكرار -في المعنى- للحديث: ٥٠٧٣، وللأحاديث: ٥٠٧٦-٥٠٧٩. وقد رواه هنا أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن يحيى الأنصاري، وذكر فيه أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا.
ولكن رواه النسائي ٢: ١١٥ -بنحوه- من طريق ابن أعين، وهو الحسن بن محمد بن أعين، عن زهير بن معاوية، بهذا الإسناد، من حديث"أم سلمة"، ولم يذكر فيه أم حبيبة.
(٣) الخبر: ٥٠٨١- هذا أثر من فتوى عائشة وكلامها. ولكن تدل على صحة فتواها الأحاديث الصحاح. وهذا إسناده إليها صحيح. ولم أجده في شيء من المراجع غير هذا الموضع.
المعصفر: هو الثوب المصبوغ بالعصفر. والإثمد: هو الكحل، أو حجر يتخذ منه الكحل، وهو أسود إلى الحمرة. والصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر، وهو مر، يتخذ منه الدواء.
(٤) قوله: "تبيت عن بيتها" أي تبيت بعيدة عن بيتها وتنتقل إلى غيره. والعصب: برود من اليمن، يعصب غزلها -أي يجمع ويشد- ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. تجلببت المرأة: لبست جلبابها، وهو ملاءتها التي تشتمل بها.
85
٥٠٨٣- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: بلغني عن ابن عباس قال: تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب.
٥٠٨٤- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا، ولا تمس طيبا، ولا تكتحل، ولا تمتشط= وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد.
* * *
وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل، فلم تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٠٨٥- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن: أنه كان يرخص في التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد شيئا. (١)
٥٠٨٦- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، لم يقل تعتد في بيتها، تعتد حيث شاءت.
٥٠٨٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال، قال ابن عباس: إنما قال الله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل تعتد في بيتها، فلتعتد حيث شاءت.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره، إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص= وبما: -
(١) تصنعت المرأة تصنعا: تزينت وتجملت وعالجت وجهها وغيره حتى يحسن.
86
٥٠٨٨- حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي قال، حدثنا أبو عاصم، وحدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا أبو عامر = قالا جميعا، حدثنا محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت. (١)
(١) الحديث: ٥٠٨٨- محمد بن إبراهيم بن صدران الأزدي السلمي: ثقة، وثقه أبو داود وغيره. وقد ينسب إلى جده، ولذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٩٠ في اسم"محمد بن صدران". "السلمي": هكذا ثبت هنا، وكذلك في التقريب، وضبطه بفتح السين، وكذلك ثبت في نسخة بهامش التهذيب، وفي التهذيب والخلاصة"السليمي"، ونص صاحب الخلاصة على أنه بإثبات الياء. ولكني لا أطمئن إلى ضبطه.
وشيخه أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد.
وأبو عامر -في الإسناد الثاني: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
محمد بن طلحة بن مصرف -بفتح الصاد وتشديد الراء المكسورة- اليامي: ثقة، أخرج له الشيخان. وبعضهم تكلم فيه بما لا يجرحه.
عبد الله بن شداد بن الهاد: نسب أبوه إلى جده، فهو"شداد بن أسامة بن عمرو"، و"عمرو": هو الهاد. قال ابن سعد: "وإنما سمي الهادي، لأنه كان توقد ناره ليلا للأضياف، ولمن سلك الطريق". وعبد الله بن شداد: من كبار التابعين القدماء الثقات، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ذكره بعضهم في الصحابة. وله ترجمتان في ابن سعد ٥: ٤٣-٤٤، و ٦: ٨٦-٨٧، وفي الإصابة ٥: ٦٠-٦١، ١٤٥. وأمه"سلمى بنت عميس"، أخت أسماء بنت عميس، فهو يروي هذا الحديث عن خالته.
وأسماء بنت عميس: صحابية جليلة. وهي أخت ميمونة بنت الحارث -أم المؤمنين- لأمها. تزوجت أسماء جعفر بن أبي طالب، فقتل عنها، ثم تزوجت أبا بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب. وولدت لهم جميعا. وهي أم محمد بن أبي بكر الصديق.
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات ٨: ٢٠٦، في ترجمة أسماء -رواه عن عفان بن مسلم، وإسحاق بن منصور، كلاهما عن محمد بن طلحة. ووقع فيه "تسلمى" بالميم بدل الباء. وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخين لا من الرواة، وسيأتي أن هذا الخطأ وقع لابن حبان، لكن من الرواة.
ورواه أحمد في المسند، بمعناه، ٦: ٣٦٩، ٤٣٨، عن يزيد بن هارون، عن أبي كامل ويزيد بن هارون وعفان - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ٢: ٤٤ بخمسة أسانيد إلى محمد بن طلحة.
ورواه البيهقي ٧: ٤٣٨، من طريق مالك بن إسماعيل، عن محمد بن طلحة، بهذا الإسناد. ثم قال: "لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه: عن أسماء. فهو مرسل. ومحمد بن طلحة ليس بالقوى"!! وهو تعليل ضئيل متهافت. تعقبه فيه ابن التركماني في الجوهر النقي.
ورواه ابن حزم في المحلى ١٠: ٢٨٠، من وجهين آخرين، عن عبد الله بن شداد، مرسلا، ورده بعلة الإرسال. ولكن ثبت وصله عن غير روايته.
وذكره المجد في المنتقى: ٣٨١٩، ٣٨٢٠، من روايتي المسند. ولم ينسبه إلى غيره.
ولم يرو في واحد من الكتب الستة، على اليقين من ذلك. فهو من الزوائد عليها. ولكني لم أجده في مجمع الزوائد، بعد طول البحث، في أقرب المظان من أبوابه وأبعدها.
وذكره الحافظ في الفتح ٩: ٤٢٩، ووصفه بأنه"قوي الإسناد". وقال: "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان". ونسبه أيضًا للطحاوي. ثم قال: "قال شيخنا في شرح الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده: عبد الله، ومحمد، وعون، وغيرهم. قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز". وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه، ثم ذهب يجمع بينه وبين الأحاديث التي يعارضها، بآراء بعضها قد يقبل، وبعضها فيه تكلف غير مستساغ. وأجود ما قال العلماء في ذلك -عندنا- ما ذهب إليه الطبري هنا في الفقرة الثالثة بعد الحديث: ٥٠٩٠. وقريب منه ما قال المجد بن تيمية في المنتقى: "وهو متأول على المبالغة في الإحداد والجلوس للتعزية".
وقال الحافظ، في آخر كلامه، في شأن رواية ابن حبان: "وأغرب ابن حبان، فساق الحديث بلفظ: تسملي، بالميم بدل الموحدة! وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله!! ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك قيدها بالثلاث! هذا معنى كلامه، فصحف الكلمة وتكلف لتأويلها! وقد وقع في رواية البيهقي وغيره: فأمرني رسول الله ﷺ أن أتسلب ثلاثا. فتبين خطؤه".
تسلبت المرأة: لبست السلاب (بكسر السين) : وهي ثياب الحداد السود، تلبسها في المأتم.
87
٥٠٨٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم وابن الصلت، عن محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء عن النبي صلي الله عليه وسلم بمثله.
* * *
قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم: أن لا إحداد على المتوفى عنها زوحها، وأن القول في تأويل قوله:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها، فإنهم اعتلوا بظاهر
88
التنزيل، وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه، بل عم بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة، مما هو داخل في عموم الآية، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا: وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب، أما في النقلة فإن: -
٥٠٩٠- أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن محمد، عن فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته، عن الفريعة ابنة مالك، أخت أبي سعيد الخدري، قالت: قتل زوجي وأنا في دار، فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة، فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه، فقال: يا فريعة، حتى يبلغ الكتاب أجله. (١)
* * *
(١) الحديث ٥٠٩٠- يونس بن محمد بن مسلم، الحافظ البغدادي المؤدب: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فليح -بالتصغير- بن سليمان بن أبي المغيرة المدني: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. تكلم فيه ابن معين وغيره. والراجح توثيقه. وقال الحاكم: "اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره". و"فليح" لقب غلب عليه، واسمه"عبد الملك".
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن عبد البر. وهو تابعي روى عن أنس بن مالك.
وتكلم فيه ابن حزم في المحلى بما لا يضره، زعم أنه"غير مشهور الحال"، ومرة أنه"مضطرب في اسمه، غير مشهور الحال"، ومرة أنه"غير مشهور العدالة"! انظر المحلى ٣: ٢٧٣، و ٤: ١٣٨، و ١٠: ٣٠٢.
وفي المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد". وهو خطأ قديم، وقع في الموطأ، ص: ٥٩١. وليس اختلاف رواية، ولا خطأ من مالك. إنما هو من يحيى بن يحيى راوي الموطأ، ومن رواة آخرين تبعوه. قال ابن عبد البر في التقصي، رقم: ١٢٣ هكذا قال يحيى: سعيد بن إسحاق، وتابعه بعضهم. وأكثر الرواة يقولون فيه: سعد بن إسحاق. وهو الأشهر، وكذا قال شعبة وغيره".
وعلى الصواب"سعد"- رواه الشافعي في الرسالة والأم عن مالك. وكذلك رواه عنه سويد بن سعد، في روايته الموطأ. وكذلك رواه عنه محمد بن الحسن في الموطأ.
عمة سعد بن إسحاق: هي"زينب بنت كعب بن عجرة الأنصارية"، وهي تابعية ثقة. بل ذكرها بعضهم في الصحابة. انظر الإصابة ٨: ٩٧-٩٨، وابن سعد ٨: ٣٥٢.
ووقع هنا في المطبوعة"عن عمته الفريعة"، بحذف"عن" بعد كلمة"عمته". وهو خطأ ناسخ أو طابع. فإن زينب عمة سعد هي زوجة أبي سعيد الخدري، وأما الفريعة فإنها أخت أبي سعيد، كما في نص الحديث.
و"الفريعة بنت مالك بن سنان": صحابية قديمة معروفة، شهدت بيعة الرضوان. رضي الله عنها. وهذا الحديث هنا مختصر. وقد جاء بأسانيد صحاح، من رواية سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة -مختصرا ومطولا. ويكفي أن نذكر مواضع روايته، فيما وصل إلينا:
فرواه مالك في الموطأ، مطولا، ص: ٥٩١، عن"سعد بن إسحاق". وذكر فيه خطأ باسم"سعيد"، كما بينا من قبل.
ورواه الشافعي في الرسالة: ١٢١٤ (بتحقيقنا)، وفي الأم ٥: ٢٠٨-٢٠٩، ومحمد بن الحسن في موطئه، ص: ٢٦٨، وسويد بن سعيد في موطئه، ص: ١٢٣-١٢٤ (مخطوط مصور) - كلهم عن مالك، عن سعد بن إسحاق.
ورواه الدارمي ٢: ١٦٨، وابن سعد ٨: ٢٦٨، وأبو داود: ٢٣٠٠، والترمذي ٢: ٢٢٤-٢٢٥، والبيهقي ٧: ٤٣٤، وابن حبان في صحيحه ٦: ٤٤٧-٤٤٨ (من مخطوطة الإحسان)، وابن حزم في المحلى ١٠: ٣٠١- كلهم من طريق مالك، به.
ورواه الطيالسي: ١٦٦٤، وعبد الرزاق في المصنف ٤: ٦٠-٦١ (مخطوط مصور)، وأحمد في المسند ٦: ٣٧٠، ٤٢٠-٤٢١ (حلبي)، وابن سعد ٨: ٢٦٧-٢٦٨، والترمذي ٢: ٢٢٥، والنسائي ٢: ١١٣، وابن ماجه: ٢٠٣١، وابن الجارود، ص: ٣٤٩-٣٥٠، وابن حبان ٦: ٤٤٩، والحاكم ٢: ٢٠٨، والبيهقي ٧: ٤٣٤-٤٣٥، بأسانيد كثيرة، مطولا ومختصرا، من طريق سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة. وصححه الترمذي، ومحمد بن يحيى الذهلي، فيما حكاه عنه الحاكم، والذهبي. وذكره السيوطي ١: ٢٨٩-٢٩٠ نسبه إلى كثير ممن أشرنا إليهم.
89
قالوا: فبين رسول الله صلي الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها، [وبطل] ما خالفه. (١) قالوا: وأما ما روي عن ابن عباس: فإنه لا معنى له، بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم.
قالوا: وأما الخبر الذي روي عن أسماء ابنة عميس، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا، ثم أن تصنع ما بدا لها - فإنه غير دال
(١) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. والمطبوعة والمخطوطة سواء في نصهما هنا.
90
على أن لا حداد على المرأة، (١) بل إنما دل على أمر النبي صلي الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه، مما لم يكن زينة ولا مطيبا، (٢) لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب، وذلك كالذي أذن صلي الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه، فإن لها لبسه، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.
* * *
قال أبوجعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل: وعشرة؟ وإذ كان التنزيل كذلك: أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر، أم بالأيام؟
قيل: بل تعتد بالأيام بلياليها.
فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل:"وعشرا"؟ ولم يقل: وعشرة؟ والعشر بغير"الهاء" من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت، (٣) فهل تجيز:"عندي عشر"، وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟
قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة، إذا أبهمت العدد، غلبت فيه الليالي، حتى إنهم فيما روي لنا عنهم ليقولون:"صمنا عشرا من شهر رمضان"، لتغليبهم الليالي على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره، (٤)
أسقطوا من عدد المؤنث"الهاء"،
(١) في المطبوعة: "أن لا إحداد"، وهما سواء. "حدت المرأة تحد حدا وحدادا" و"أحدت تحد إحدادا". لبست الحداد (بكسر الحاء)، وهو ثياب المأتم السود. "الحداد" اسم ومصدر.
(٢) في المطبوعة: "ولا تطيبا". والصواب ما أثبته من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "فإن أجاز ذلك المغني"، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(٤) المفسر: هو المميز. والتفسير: التمييز، انظر ما سلف ٢: ٣٣٨ تعليق: ١ / م ٣: ٩٠ تعليق: ١
91
وأثبتوها في عدد المذكر، كما قال تعالى ذكره: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) [سورة الحاقة: ٧]، فأسقط"الهاء" من"سبع" وأثبتها في"الثمانية".
وأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء، ثم أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى، كما قيل للذكر والأنثى"شاة"، وقيل للذكور والإناث من البقر:"بقر"، وليس كذلك في بني آدم. (١)
* * *
فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟
قيل: قد قيل في ذلك، فيما: -
٥٠٩١- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال: قلت: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر.
٥٠٩٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو عاصم، عن سعيد، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح.
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٥١-١٥٢، فهذا من كلامه بغير لفظه.
92
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (١) فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن- وذلك بعد انقضاء عدهن، ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة="فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، يقول: فلا حرج عليكم أيها الأولياء -أولياء المرأة- فيما فعل المتوفى عنهن حينئذ في أنفسهن، من تطيب وتزين ونقله من المسكن الذي كن يعتددن فيه، ونكاح من يجوز لهن نكاحه="بالمعروف"، يعني بذلك: على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. (٢).
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل إن معنى قوله:"بالمعروف" إنما هو النكاح الحلال.
* ذكر من قال ذلك:
٥٠٩٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: الحلال الطيب.
٥٠٩٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: المعروف النكاح الحلال الطيب.
٥٠٩٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال ابن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني تعالى ذكره بقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف في تفسير"المعروف" ٥: ٧٦ والمراجع هناك في التعليق.
93
جريج، قال مجاهد: قوله:"فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: هو النكاح الحلال الطيب.
٥٠٩٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو النكاح.
٥٠٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: في نكاح من هويته، إذا كان معروفا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله بما تعملون"، أيها الأولياء، في أمر من أنتم وليه من نسائكم، من عضلهن وإنكاحهن ممن أردن نكاحه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، ="خبير"، يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة"هويته" بالجمع والنون، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر ما سلف في معنى"خيبر" في فهارس اللغة، ومباحث العربية. * * *
وقد انتهى هنا التقسيم القديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا، وفيها ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا
على الأصل بلغت القراءة والسماع من أوله بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، لأخيه علي وأحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، على القاضي أبي الحسن الخصيبي، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، وقابل به بكتاب القاضي الخصيبي، فصحت، وذلك في شعبان سنة ثمان وأربعمائة".
94
(١)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم، أيها الرجال، فيما عرضتم به من خطبة النساء، للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن، ولم تصرحوا بعقد نكاح.
والتعريض الذي أبيح في ذلك، هو ما: -
٥٠٩٨- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض أن يقول:"إني أريد التزويج"، و"إني لأحب امرأة من أمرها وأمرها"، يعرض لها بالقول بالمعروف.
٥٠٩٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:"إني أريد أن أتزوج".
٥١٠٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد: عن ابن عباس قال: التعريض ما لم ينصب للخطبة، (٢)
(١) هذا نص أول التقسيم القديم:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(٢) نصب الشيء ينصب نصبا: إذا قصده وتجرد له.
95
= قال مجاهد: قال رجل لامرأة في جنازة زوجها: لا تسبقيني بنفسك! قالت: قد سبقت!
٥١٠١- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض، ما لم ينصب للخطبة.
٥١٠٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض أن يقول للمرأة في عدتها:"إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله"، و"لوددت أني وجدت امرأة صالحة"، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها.
٥١٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، يقول: يعرض لها في عدتها، يقول لها:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك"، ونحو هذا من الكلام، فلا حرج.
٥١٠٤- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: هو أن يقول لها في عدتها:"إني أريد التزويج، ووددت أن الله رزقني امرأة"، ونحو هذا، ولا ينصب للخطبة.
٥١٠٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في هذه الآية، قال: يذكرها إلى وليها، يقول:"لا تسبقني بها".
٥١٠٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد
96
في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يقول:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
٥١٠٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنه كره أن يقول:"لا تسبقيني بنفسك".
٥١٠٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قل: هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
٥١٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يعرض للمرأة في عدتها فيقول: والله إنك لجميلة، وإن النساء لمن حاجتي، وإنك إلى خير إن شاء الله".
٥١١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قال: هو قول الرجل:"إني أريد أن أتزوج، وإني إن تزوجت أحسنت إلى امرأتي"، هذا التعريض.
٥١١١- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يقول:"لأعطينك، لأحسنن إليك، لأفعلن بك كذا وكذا. (١)
٥٠١٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، أخبرني عبد الرحمن بن القاسم في قوله:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: قول الرجل للمرأة في عدتها يعرض بالخطبة:"والله إني فيك
(١) في المخطوطة والمطبوعة"لأحسن إليك"، والصواب ما أثبت.
97
لراغب، وإني عليك لحريص"، ونحو هذا.
٥١١٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
٥١١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: كيف يقول الخاطب؟ قال: يعرض تعريضا، ولا يبوح بشيء. يقول:"إن إلي حاجة، وأبشري، وأنت بحمد الله نافقة"، ولا يبوح بشيء. قال عطاء: وتقول هي:"قد أسمع ما تقول"، ولا تعده شيئا، ولا تقول:"لعل ذاك".
٥١١٥- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم يقول في المرأة يتوفى عنها زوجها، والرجل يريد خطبتها ويريد كلامها، ما الذي يجمل به من القول؟ قال يقول:"إني فيك لراغب، وإني عليك لحريص، وإني بك لمعجب"، وأشباه هذا من القول.
٥١١٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا بأس بالهدية في تعريض النكاح.
٥١١٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة قال: كان إبراهيم لا يرى بأسا أن يهدى لها في العدة، إذا كانت من شأنه. (١)
٥١١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
(١) قوله: "من شأنه"، أي من حاجته وإرادته وقصده. يقال: شأن شأنه، أي قصد قصده.
98
عن عامر في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال يقول:"إنك لنافقة، وإنك لمعجبة، وإنك لجميلة" (١) وإن قضى الله شيئا كان".
٥١١٩- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان إبراهيم النخعي يقول:"إنك لمعجبة، وإني فيك لراغب".
٥١٢٠- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني - يعني شبيبا- عن سعيد، عن شعبة، عن منصور، عن الشعبي أنه قال في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا تأخذ ميثاقها ألا تنكح غيرك. (٢)
٥١٢١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان أبي يقول: كل شيء كان، دون أن يعزما عقدة النكاح، فهو كما قال الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء".
٥١٢٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال حدثنا زيد =جميعا، عن سفيان قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، والتعريض فيما سمعنا أن يقول الرجل وهي في عدتها:"إنك لجميلة، إنك إلى خير، إنك لنافقة، إنك لتعجبيني"، ونحو هذا، فهذا التعريض.
٥١٢٣- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة،
(١) في المخطوطة: "وإنك لمعجبة، لجميلة"، وهما سواء.
(٢) في المطبوعة: "لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره"، وأثبت ما في المخطوطة.
99
أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام. فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك! فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرك بقرابتي من رسول الله ﷺ وموضعي! قد دخل رسول الله ﷺ على أم سلمة، وكانت عتد ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل رسول الله ﷺ يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شده تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة. (١)
٥١٢٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا جناح على من عرض لهن بالخطبة قبل أن يحللن، إذا كنوا في أنفسهن من ذلك. (٢)
٥١٢٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أييه أنه كان يقول في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء": أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدة من وفاه زوجها:"إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله سائق إليك خيرا ورزقا"، ونحو هذا من الكلام.
* * *
(١) الأثر: ٥١٢٣- عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب" يعرف بابن الغسيل، وهو جد أبيه، حنظلة الذي غسلته الملائكة يوم أحد. وقال ابن معين: "ليس به بأس"، كان يخطئ ويهم، قال أحمد: صالح. مات سنة ١٧١. مترجم في التهذيب. و"أبو جعفر محمد بن علي" هو محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه جعفر الصادق، وكان من فقهاء المدينة، وسيد بني هاشم في زمانه، جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسؤدد وكان يصلح للخلافة، وهو أحد الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم - ولا عصمة إلا لنبي! توفى سنة ١١٤. مترجم في التهذيب، وتاريخ الإسلام للذهبي ٤: ٢٩٩. ولم أجد هذا الخبر إلا في البغوي بهامش تفسير ابن كثير ١: ٥٦٧.
(٢) كن الشيء في صدره وأكنه واكتنه: أخفاه وستره.
100
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في معنى"الخطبة".
فقال بعضهم:"الخطبة" الذكر، و"الخطبة": التشهد. (١)
وكأن قائل هذا القول، تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. (٢) وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال:"لا تواعدوهن سرا"، لأنه لما قال:"ولا جناح عليكم"، كأنه قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا.
* * *
وقال آخرون منهم:"خطبه، خطبة وخطبا". (٣) قال: وقول الله تعالى ذكره: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) [سورة طه: ٩٥]، يقال إنه من هذا. قال: وأما"الخطبة" فهو المخطوب [به]، من قولهم: (٤) "خطب على المنبر واختطب".
* * *
قال أبو جعفر:"والخطبة" عندي هي"الفعلة"من قول القائل:"خطبت فلانة" ك"الجلسة"، من قوله:"جلس" أو"القعدة" من قوله"قعد". (٥)
(١) هذا قول الأخفش، وانظر تفسير البغوي ١: ٥٦٧.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "عندهم" وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت، وانظر أيضًا تفسير البغوي ١: ٥٦٧.
(٣) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم: الخطبة أخطب خطبه وخطبا"، وهو كلام فاسد التركيب، فيه زيادة من ناسخ. وفي المخطوطة: "وقال آخرون منهم: "الخطبة وخطبه وخطبا"، وهو فاسد أيضًا، والصواب ما أثبت. فإن يكن في كلام الطبري نقص أو خرم، فهو تفسير هذه الكلمة، وقد أبان عنها صاحب أساس البلاغة فقال: "فلان يخطب عمل كذا: يطلبه. وقد أخطبك الصيد فارمه - أي أكثبك وأمكنك. وأخطبك الأمر، وهو أمر مخطب: ومعناه: أطلبك- من"طلبت إليه حاجة فأطلبني". وما خطبك: ما شأنك الذي تخطبه. ومنه: هذا خطب يسير، وخطب جليل. وهو يقاسي خطوب الدهر". فقد أبان ما نقلته عن الزمخشري أنه أراد أن يقول: خطب الأمر يخطبه خطبة وخطبا، أي طلبه. ولم يستوف أبو جعفر تفسير هذه الكلمة في"سورة طه" الآية: ٩٥، فأثبت تفسيره هنالك.
(٤) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، يعني: الكلام المخطوب به.
(٥) يعني أنه مصدر، وانظر ما سلف في وزن"فعلة" في فهارس مباحث العربية في الأجزاء السالفة، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ١٥٢، وتفسير أبي حيان ٢: ٢٢١.
101
ومعنى قولهم:"خطب فلان فلانة"، سألها خطبه إليها في نفسها، وذلك حاجته، من قولهم:"ما خطبك"؟ بمعنى: ما حاجتك، وما أمرك؟
* * *
وأما"التعريض"، فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفهم ما يفهم بصريحه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه، من خطبتهن، وعزم نكاحهن وهن في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك، إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله.
* * *
يقال منه:"أكن فلان هذا الأمر في نفسه، فهو يكنه إكنانا"، و"كنه"، إذا ستره،"يكنه كنا وكنونا"، و"جلس في الكن" ولم يسمع"كننته في نفسي"، (٢) وإنما يقال:"كننته في البيت أو في الأرض"، إذا خبأته فيه، ومنه قوله تعالى ذكره: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [سورة الصافات: ٤٩]، أي مخبوء، ومنه قول الشاعر: (٣)
ثلاث من ثلاث قداميات من اللائي تكن من الصقيع (٤)
(١) لحن الكلام: هو الإيماء في الكلام دون التصريح، وعبارة الطبري في تفسير هذه الكلمة، عبارة جيدة. ليس لها شبيه في كتب اللغة في شرح هذا الحرف.
(٢) ذكر أصحاب اللغة أن ذلك قيل، واستشهدوا بقول أبي قطيفة:
قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها وما ينالون حتى الموت مكنوني
(٣) لم أستطع أن أعرف قائله.
(٤) معاني الفراء ١: ١٥٢، واللسان (كنن). قداميات جمع قدامى، والقدامى واحد. وجمع، وهو هنا واحد. والقدامى والقوادم في الطير: عشر ريشات في كل جناح. وقوله: "ثلاث من ثلاث قداميات"، كأنه يريد أنه اختار من قوادم ثلاث من الطير، ثلاث ريشات من ريشه، وكأنه يريد ذلك لأسهمه، يريش الأسهم بها. والصقيع: الذي يسقط بالليل، شبيه بالثلج.
102
و"تكن" بالتاء، وهو أجود، و"يكن". (١) ويقال:"أكنته ثيابه من البرد""وأكنه البيت من الريح".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٢٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أكنتم في أنفسكم"، قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف.
٥١٢٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
٥١٢٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء.
٥١٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول، فذكر نحوه.
٥١٣٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: جعلت في نفسك نكاحها وأضمرت ذلك.
(١) في المطبوعة: "بالتاء هو أجود"، وزيادة الواو من المخطوطة. هذه الجملة غير بينة المعنى عندي، وكأن صوابها"وتكن بالتاء المضمومة، وهو أجود وتكن". ويعني أن الأول من"أكن يكن"، وأن الأخرى من"كن يكن". كما هو ظاهر من استدلاله هذا. وقد عقب الفراء على هذا البيت بقوله: "وبعضهم يرويه"تكن" من"أكننت". فهذا يرجح ما ذهبت إليه.
103
٥١٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أوأكننتم في أنفسكم"، أن يسر في نفسه أن يتزوجها.
٥١٣٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أسررتم.
* * *
قال أبو جعفر: وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، (١) ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح، منه. وإذا كان ذلك كذلك، تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به، وأن الحد بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة، نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها. وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك، الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم، كما: -
٥١٣٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: الخطبة.
(١) قوله: "لها" متعلق بقوله: "التعريض"، أي: التعريض لها، وسياق هذه الجملة والتي تليها: "وفي إباحة الله تعالى ذكره... ما أبان عن افتراق حكم التعريض". وقوله: "منه" في الجملة التالية، أي: افتراق حكم التعريض من حكم التصريح.
104
٥١٣٤- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: ذكرك إياها في نفسك. قال: فهو قول الله:"علم الله أنكم ستذكرونهن".
٥١٣٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: هي الخطبة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"السر" الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به.
فقال بعضهم: هو الزنا.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٣٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا همام، عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: الزنا. (١)
٥١٣٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي مجلز قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
٥١٣٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله.
٥١٣٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
(١) الأثر: ٥١٣٦-"صالح الدهان"، هو صالح بن إبراهيم الدهان الجهني، أبو نوح. وهو ثقة. ترجم في الجرح والتعديل ٢ / ١ / ٣٩٣، وانظر التهذيب ٤: ٣٨٨. وجابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء. مترجم في التهذيب، وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. مات سنة ٩٣.
105
عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله.
٥١٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مجلز:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا= قيل لسفيان التيمي: ذكره؟ قال: نعم.
٥١٤١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن رجل، عن الحسن في المواعدة مثل قولة أبي مجلز.
٥١٤٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: الزنا.
٥١٤٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا أشعث وعمران، عن الحسن مثله.
٥١٤٤- حدثنا ابن بشار قال حدثنا، عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان، عن السدي قال: سمعت إبراهيم يقول:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
٥١٤٥- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن إبراهيم مثله.
٥١٤٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
٥١٤٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
٥١٤٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الفاحشة.
٥١٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك= وحدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر عن الضحاك:"لا تواعدوهن سرا"، قال: السر: الزنا.
106
٥١٥٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن سرا"، قال: فذلك السر: الريبة. (١) كان الرجل يدخل من أجل الريبة وهو يعرض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك إلا من قال معروفا.
٥١٥١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور، عن الحسن وجويبر، عن الضحاك وسليمان التيمي، عن أبي مجلز أنهم قالوا: الزنا.
٥١٥٢- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، للفحش والخضع من القول. (٢)
٥١٥٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هو الفاحشة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن سرا"، يقول: لا تقل لها:"إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري"، ونحو هذا.
٥١٥٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال:
(١) في المطبوعة: "الزنية" في هذا الموضع والذي يليه، والصواب من المخطوطة. والريبة (بكسر الراء) : الشك والظنة والتهمة، وهو كناية عن كل أمر قبيح يرتاب فيه وفي صاحبه.
(٢) الخضع (بفتح فسكون) مصدر خضع الرجل: ألان الكلام للمرأة: وقد ضبط في المخطوطة بضم الخاء، ولم أجده. و"خضع" من باب"نفع"، نص على ذلك صاحب معيار اللغة. وفي حديث عمر أن رجلا في زمانه مر برجل وامرأة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه، فرفع إلى عمر فأهدره" أي: لينا بينهما الحديث، وتكلما بما يطمع كلا منهما في الآخر. وسيأتي"خضع القول" أيضًا في تفسيره ٢٢: ٣ (بولاق)، وسيأتي أيضًا في الأثر رقم: ٥١٦٢.
107
لا يقاضها على كذا وكذا أن لا تتزوج غيره. (١)
٥١٥٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر. ومجاهد وعكرمة قالوا: لا يأخذ ميثاقها في عدتها، أن لا تتزوج غيره.
٥١٥٧- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور قال: ذكر في عن الشعبي أنه قال في هذه الآية:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك.
٥١٥٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الشعبي:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ ميثاقها في أن لا تتزوج غيره.
٥١٥٩- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: سمعته يقول في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك، ولا يوجب العقدة حتى تنقضي العدة. (٢)
٥١٦٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ عليها ميثاقا أن لا تتزوج غيره.
٥١٦١- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكن لا تواعدهن سرا"، يقول:"أمسكي علي نفسك، فأنا أتزوج"= ويأخذ عليها عهدا="لا تنكحي غيري". (٣)
(١) في المطبوعة: "لا يقاصها"، وهو كذلك في المخطوطة غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. قاضاه على الأمر: فصل فيه وأبرمه وحتمه وفرغ منه. وفي كتاب صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد... " وهو شبيه بالمعاهدة.
(٢) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي"... "بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.
(٣) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي".... "بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.
108
٥١٦٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تتزوج غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف، ونهى عن الفاحشة والخضع من القول. (١)
٥١٦٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: إن تواعدها سرا على كذا وكذا،"على أن لا تنكحي غيري".
٥١٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال: موعدة السر أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا أن تحبس نفسها عليه، ولا تنكح غيره.
٥١٦٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل:"لا تسبقيني بنفسك".
* ذكر من قال ذلك:
٥١٦٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك"، هذا لا يحل.
٥١٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني".
٥١٦٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: المواعدة أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".
(١) انظر التعليق على الأثر السالف: ٥١٥٢.
109
٥١٦٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سرا.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٧٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" يقول: لا تنكحوهن سرا، ثم تمسكها، حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
٥١٧١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكن تواعدوهن سرا"، قال: كان أبي يقول: لا تواعدوهن سرا، ثم تمسكها، وقد ملكت عقدة نكاحها، فإذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من قال:"السر"، في هذا الموضع، الزنا. وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة"سرا"، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه"سرا"، من ذلك قوله رؤبة بن العجاج:
فعف عن أسرارها بعد العسق ولم يضعها بين فرك وعشق (١)
يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك، ومنه قول الحطيئة:
(١) ديوانه: ١٠٤، واللسان (عسق) (عشق) (فرك) (سرر)، وفي اللسان في بعض مواده"إسرارها" بالكسر، وهو خطأ، وفي بعضها"الغسق"، وهو خطأ أيضًا. والأسرار جمع سر. والعسق، مصدر"عسق به يعسق": لزمه وأولع به. والفرك (بكسر الفاء وسكون الراء) بغضة الرجل امرأته، أو بغضة امرأته له. وامرأة فارك وفروك، تكره زوجها. ورجل مفرك (بتشديد الراء). لا يحظى عند النساء. والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر"عشق يعشق". والضمير في قوله: "فعف"، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف أتنه. والضمير في"أسرارها" عائد إلى الأتن.
110
ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع (١)
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه:"سرا". ويقال:"هو في سر قومه"، يعني: في خيارهم وشرفهم.
فلما كان"السر" إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف= فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو"السر" الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعد بين المتواعدين، (٢) "والسر" الذي بمعنى الغشيان والجماع.
فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به، صح أن الآخر هو المعني به.
* * *
فإن قال [قائل] :(٣) فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا، غير معني به= على ما قال من قال إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال: قول الرجل لها:"لا تسبقيني بنفسك"؟
قيل: لأن"السر" إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك، فلن يخلو ذلك"السر" من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره= أو
(١) ديوانه: ٩٣، واللسان (أنف) يمدح بني رياح وبني كليب من بني يربوع. أنف كل شيء: طرفه وأوله. والقصاع جمع قصعة: وهي الجفنة الضخمة. يذكر عفتهم وحفاظهم وامتناعهم من انتهاك حرمة الجارة، واقتراف الإثم في حقها، ويصف كرمهم وإيثارهم جارهم بالطعام على أنفسهم، فلا يتقدمونه إلى الطعام حتى يأخذ منه ما يشتهي وما يكفيه. وقبل البيت:
فليس الجار جار بني رياح بمقصى في المحل ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم، وليست يد الخرقاء مثل يد الصناع
(٢) في المطبوعة: "نفس المواعدين المتواعدين"، والصواب من المخطوطة.
(٣) هذه الزيادة استظهرتها من مئات أشباهها مضت.
111
يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه، بعد انقضاء عدتها، وبعد عقده له، دون الناس غيره. فإن كان"السر" الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات، هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون"السر" معناه: ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت العلانية من الأمر سرا. وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه.
إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك - وإن كان قد أعلن- سر.
فيقال له إن قال ذلك: فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهي عنه من المواعدة، إنما هو ما كان منها سرا.
فإن قال: إن ذلك كذلك، خرج من قول جميع الأمة. على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأول الآية أن"السر" ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد.
وإن قال: ذلك غير جائز.
قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة. لأن معنى ذلك، لو كان كذلك، لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية. وفي كون ذلك عليه محرما سرا وعلانية، ما أبان أن معنى"السر" في هذا الموضع، غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها= أو يكون، إذا بطل هذا الوجه، معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره. فذلك إذا كان، فإنما يكون بولي وشهود علانية غير سر. وكيف يجوز أن يسمى سرا، وهو علانية لا يجوز إسراره؟
وفي بطول هذه الأوجه أن يكون تأويلا لقوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" بما عليه دللنا من الأدلة، وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع.
وإذ كان ذلك صحيحا، فتأويل الآية: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما
112
عرضتم به للمعتدات من وفاه أزوجهن، من خطبة النساء، وذلك حاجتكم إليهن، فلم تصرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن، إذا أكننتم في أنفسكم، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكم إياهن في أنفسكم، ما دمن في عددهن؛ علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن، فأباح لكم التعريض بذلك لهن، وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم -حكم منه (١) ولكن حرم عليكم أن تواعدوهن جماعا في عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهن في عدتها:"قد تزوجتك في نفسي، وإنما أنتظر أنقضاء عدتك"، فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة، فحرم الله تعالى ذكره ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا﴾
قال أبو جعفر: ثم قال تعالى ذكره:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، فاستثنى القول المعروف مما نهي عنه، من مواعدة الرجل المرأة السر، وهو من غير جنسه، ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل: أن يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة، وتكون"إلا" فيه بمعنى"لكن"، (٢) فقوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا" منه- ومعناه: ولكن قولوا قولا معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدتها، وذلك هو ما أذن له بقوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، كما: -
٥١٧٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير:"إلا أن تقولوا
(١) في المطبوعة: "حلما منه" وأثبت صوب ما في المخطوطة.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٢٦٣-٢٦٥ / ثم ٣: ٢٠٤ - ٢٠٦.
113
قولا معروفا"، قال: يقول: إني فيك لراغب، وإني لأرجو أن نجتمع.
٥١٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أنه تقولوا قولا معروفا"، قال: هو قوله:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك".
٥١٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني التعريض.
٥١٧٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني التعريض.
٥١٧٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به خطبة النساء" إلى"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: هو الرجل يدخل على المرأة وهي في عدتها فيقول:"والله إنكم لأكفاء كرام، وإنكم لرغبة، (١) وإنك لتعجبيني، وإن يقدر شيء يكن". فهذا القول المعروف.
٥١٧٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد- قالا جميعا، قال سفيان:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إني فيك لراغب، وإني أرجو إن شاء الله أن نجتمع".
٥١٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إن لك عندي كذا، ولك عندي كذا، وأنا معطيك كذا وكذا". قال: هذا كله وما كان قبل أن يعقد عقدة النكاح،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "لرعة"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وقرأتها كذلك - لأنه أوفق، ولأني لم أجد لقوله"رعة" معنى. وسمى المرأة"رغبة"، كما يسميها"هوى" بالمصدر، أي: يرغب فيك. ومنه الرغيبة: وهو الشيء المرغوب فيه.
114
فهذا كله نسخه قوله:"ولا تعزموا وعقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله".
٥١٧٩- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها، فيأتيها الرجل فيقول:"احبسي علي نفسك، فإن لي بك رغبة، فتقول:"وأنا مثل ذلك"، فتتوق نفسه لها. (١) فذلك القول المعروف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح"، ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة، فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة ="حتى يبلغ الكتاب أجله"، يعني: يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، فجعل بلوغ الأجل للكتاب، والمعنى للمتناكحين، أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة، فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها، كما: -
٥١٨٠- حدثنا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد:"حتى يبلغ الكتاب أجلا"، قال: حتى تنقضي العدة.
٥١٨١- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) في المخطوطة: "فتؤتي نفسه لها"، ولم أجدها في مكان آخر، والذي في المطبوعة لا بأس به، وهو قريب الدلالة على المعنى.
115
السدي قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنضي أربعة أشهر وعشر.
٥١٨٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
٥١٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٥١٨٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: تنقضي العدة.
٥١٨٥- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
٥١٨٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: لا يتزوجها حتى يخلو أجلها. (١)
٥١٨٧- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي في قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: مخافة أن تتزوج المرأة قبل انقضاء العدة. (٢)
٥١٨٨- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، حتى تنقضي العدة.
٥١٨٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
* * *
(١) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(٢) الأثر: ٥١٨٧-"أبو قتيبة"، هو: سلم بن قتيبة الشعيري، أبو قتيبة الخراساني. "ثقة، ليس به بأس، يكتب حديثه"، مات سنة ٢٠١. مترجم في التهذيب.
116
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واعلموا، أيها الناس، أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم، فاحذروه. يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه، من عزم عقدة نكاحهن، أو مواعدتهن السر في عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات، وفي غير ذلك="واعلموا أن الله غفور"، (١) يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها، فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتدات، وذكرهم إياهن في حال عددهن، وفي غير ذلك من خطاياهم= وقوله:"حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم"، لا حرج عليكم إن طلقتم النساء. (٢)
يقول: لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم،
(١) انظر"غفور" فيما سلف، في فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(٢) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف ٣: ٢٣٠، ٢٣١ / ثم ٤: ١٦٢، ٥٦٦ / ثم ٥: ٧١
117
="ما لم تماسوهن"، (١) يعني بذلك: ما لم تجامعوهن.
* * *
"والمماسة"، في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع، كما: -
٥١٩٠- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع= وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر= قالا جميعا، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: المس الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. (٢)
٥١٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المس: النكاح.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك. (٣) فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والبصرة:"ما لم تمسوهن"، بفتح"التاء" من"تمسوهن"، بغير"ألف"، من قولك: مسسته أمسه مسا ومسيسا ومسيسى" مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك، إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [سورة آل عمران: ٤٧، سورة مريم: ٢٠].
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"ما لم تماسوهن"، بضم"التاء والألف" بعد"الميم"، إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [سورة المجادلة: ٣]، وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك:"ماسست الشيء أمماسه مماسة ومساسا. (٤)
(١) في المطبوعة والمخطوطة، نص الآية"تمسوهن"، وفي التفسير"تماسوهن"، وهذا دليل على أنها كانت قراءة الطبري في أصله، أما قراءة كاتب النسخة المخطوطة، وقراءتنا في مصحفنا هذا، فهي"تمسوهن"، وسيذكر الطبري القراءتين.
(٢) في المطبوعة: "ما يشاء بما شاء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "وقد اختلفت القراء"، وأثبت ما في المخطوطة. والقَرَأَة (بفتحات) جمع قارئ.
(٤) ليس في المطبوعة: "أماسه" وزدتها في المخطوطة.
118
* * *
قال أبو جعفر: والذي نرى في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متفقا التأويل، وإن كان في إحداهما زيادة معنى، غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم.
وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له:"مسست زوجتي"، أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماس، ما لاقاه مثله من بدن الماس. فكل واحد منهما = وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي ماس صاحبه= (١) معقول بذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه. (٢) فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين= مع اتفاق معانيهما، وكثرة القرأة بكل واحدة منهما= (٣) بأنها أولى بالصواب من الأخرى، بل الواجب أن يكون القارئ، بأيتهما قرأ، مصيب الحق في قراءته.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، المطلقات قبل الإفضاء إليهن في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا أن ذلك كذلك، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين: إما مسمى لها الصداق، أو غير مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره، أن المعنية بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، إنما هي المسمى لها. لأن المعنية بذلك، لو كانت غير المفروض لها الصداق، لما كان لقوله:"أو تفرضوا لهن فريضة"، معنى معقول. إذ كان لا معنى لقول قائل:"لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه، أو ما لم تفرضوا لهن فريضة". فإذا كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تماسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "ماس صاحبه"، والأجود أن يقول: "مس صاحبه".
(٢) في المخطوطة: "فذلك الخبر نفسه"، وفي المطبوعة: "كذلك الخبر... "، وكلتاهما فاسدة مسلوبة المعنى.
(٣) في المطبوعة: "وكثرة القراءة"، وهو فاسد، والقَرَأَة جمع قارئ كما سلف.
119
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو تفرضوا لهن"، أو توجبوا لهن. وبقوله:"فريضة"، صداقا واجبا. كما: -
٥١٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"أو تفرضوا لهن فريضة"، قال: الفريضة: الصداق.
* * *
وأصل"الفرض": الواجب، (١) كما قال الشاعر:
كانت فريضة ما أتيت كما كان الزناء فريضة الرجم (٢)
يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا. ولذلك قيل:"فرض السلطان لفلان ألفين"، (٣) يعني بذلك: أوجب له ذلك، ورزقه من الديوان. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومتعوهن"، وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم، (٥) على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار.
* * *
(١) انظر معنى"الفرض" فيما سلف ٤: ١٢١
(٢) البيت للنابغة الجعدي، وقد سلف تخريجه وتفسيره في الجزء ٣: ٣١١، ٣١٢ / وفي الجزء ٤: ٢٨٧.
(٣) في المطبوعة: "... لفلان ألفين" بإسقاط"في"، والصواب من المخطوطة.
(٤) رزق الأمير جنده: أعطاهم الرزق، وهو العطاء الذي فرضه لهم. والديوان: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وأول من دون الدواوين عمر رضي الله عنه
(٥) انظر معنى"المتاع" فيما سلف ١: ٥٣٩، ٥٤٠ / ٣: ٥٣ -٥٥.
120
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك.
فقال بعضهم: أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، (١) ودونه الكسوة.
* ذكر من قال ذلك:
٥١٩٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.
٥١٩٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس بنحوه.
٥١٩٥- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، قلت له: ما أوسط متعة المطلقة؟ قال: خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها.
٥١٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره. فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك.
٥١٩٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله:"ومتعوهن على الموسر قدر وعلى المقتر قدره"، قال: قلت للشعبي: ما وسط ذلك؟ قال: كسوتها في بيتها، ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها.
قال الشعبي: فكان شريح يمتع بخمسمئة.
(١) الورق (بفتح فكسر) : الدراهم المضروبة. والورق (بفتحتين) : المال الناطق من الإبل والغنم.
121
٥١٩٨- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا كان يمتع بخمسمئة، قلت لعامر: ما وسط ذلك؟ قال: ثيابها في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.
٥١٩٩- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عمار الشعبي أنه قال: وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.
٥٢٠٠- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن شريحا متع بخمسمئة. وقال الشعبي: وسط من المتعة، درع وخمار وجلباب وملحفة.
٥٢٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدر وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، قال: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب، درع وخمار، وجلباب وإزار.
٥٢٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن" حتى بلغ:"حقا على المحسنين"، فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها. وكان يقال: إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار. (١)
٥٢٠٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن صالح بن صالح، قال: سئل عامر: بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله.
(١) الواجد: القادر، الذي يجد ما يقضي به دينه أو ما شابه ذلك.
122
٥٢٠٤- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت: كأني أنظر إلى جارية سوداء، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها. (١)
قيل لشعبة: ما"حممها"؟ قال. متعها. (٢)
٥٢٠٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه، بنحوه، عن عبد الرحمن بن عوف.
٥٢٠٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال، كان يمتع بالخادم، أو بالنفقة أو الكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال: بعشرة آلاف.
٥٢٠٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعد بن إبراهيم: أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم.
٥٢٠٨- حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري، عن سعيد بن أبي أيوب قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: أنه كان يقول في متعة المطلقة: أعلاه الخادم، وأدناه الكسوة والنفقة. ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره:
(١) في المطبوعة: "عبد الرحمن بن أم سلمة" وهو خلط فاحش، والصواب ما أثبته من المخطوطة. وأبو سلمة هو عبد الله الأصغر بن عبد الرحمن بن عوف، وأمه تماضر ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبية، وهي أول كلبية نكحها قرشي. وإخوة أبي سلمة لأمه تماضر: أحيح وخالد ومريم، بنو خالد بن عقبة بن أبي معيط، خلف عليها بعد عبد الرحمن بن عوف.
وكانت العرب تسمي المتعة: التحميم. وعدي "حممها" إلى مفعولين؛ لأنه في معنى أعطاها إياها.
(٢) الأثر: ٥٢٠٤- سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، رأى ابن عمر، وروى عن أبيه وعميه حميد وأبي سلمة. مات سنة ١٢٧، مترجم في التهذيب. وأم حميد بن عبد الرحمن هي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية أخت عثمان بن عفان لأمه، أسلمت قديما، وبايعت، وحبست عن الهجرة إلى أن هاجرت سنة سبع في الهدنة. ولدت لعبد الرحمن بن عوف حميد بن عبد الرحمن وإبراهيم بن عبد الرحمن، ورويا عنها. مترجمة في التهذيب وغيره.
123
"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"
* * *
وقال آخرون: مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده. وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله: من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، معنى مفهوم= ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.
وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها، ما يبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه، فكيف المقدور عليه؟ (١) وإذا فعل ذلك به، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" -ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه.
* * *
(١) المقدور عليه: المضيق عليه رزقه. قدر عليه رزقه (بالبناء للمجهول) : ضيق.
124
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله."ومتعوهن"، هل هو على الوجوب، أو على الندب؟
فقال بعضهم: هو على الوجوب، يقضى بالمتعة في مال المطلق، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره. وقالوا: ذلك واجب عليه لكل مطلقة، كائنة من كانت من نسائه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢٠٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن وأبو العالية يقولان: لكل مطلقة متاع، دخل بها أو لم يدخل بها، وإن كان قد فرض لها.
٥٢١٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: لكل مطلقة متاع، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها.
٥٢١١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد عن جبير في هذه الآية: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: ٢٤١]، قال: كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.
٥٢١٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: لكل مطلقة متاع.
٥٢١٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كان أبو العالية يقول: لكل مطلقة متعة. وكان الحسن يقول: لكل مطلقة متعة.
٥٢١٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة قال، سئل الحسن، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها: هل لها متاع؟ قال الحسن: نعم والله! فقيل للسائل= وهو أبو بكر الهذلي= أو ما تقرأ
125
هذه الآية: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ؟ قال: نعم والله!
* * *
وقال آخرون: المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق. فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها، فإنها لا متعة لها، وإنما لها نصف الصداق المسمى.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢١٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي طلقها ولم يدخل بها، وقد فرض لها، فلها نصف الصداق، ولا متعة لها.
٥٢١٦- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه.
٥٢١٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب- في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها- أنه قال في المتاع: قد كان لها المتاع في الآية التي في"الأحزاب"، (١) فلما نزلت الآية التي في"البقرة"، جعل لها النصف من صداقها إذا سمى، ولا متاع لها، وإذا لم يسم فلها المتاع.
٥٢١٨- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد نحوه.
٥٢١٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول: إذا لم يدخل بها جعل لها في"سورة
(١) ستأتي آية"سورة الأحزاب" بعد قليل في الأثر رقم ٥٢٢٠.
126
الأحزاب" المتاع، ثم أنزلت الآية التي في"سورة البقرة": (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها، وكان قد سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها.
٥٢٢٠- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ) [سورة الأحزاب: ٤٩] الآية التي في"البقرة".
٥٢٢١- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهد قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها.
٥٢٢٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد- في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها، قال: ليس لها متعة.
٥٢٢٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق، ولا متاع لها. وإذا لم يفرض لها، فإنما لها المتاع.
٥٢٢٤- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع: عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها، هل لها متاع؟ قال: كان عطاء يقول: لا متاع لها.
127
٥٢٢٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر- في التي فرض لها ولم يدخل بها، قال: إن طلقت، فلها نصف الصداق ولا متعة لها.
٥٢٢٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: أن شريحا كان يقول -في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد سمى لها صداقا- قال: لها في النصف متاع.
٥٢٢٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن شريح قال: لها في النصف متاع.
* * *
وقال آخرون: المتعة حق لكل مطلقة، غير أن منها ما يقضى به على المطلق، ومنها ما لا يقضى به عليه، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢٢٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: متعتان، إحداهما يقضى بها السلطان، والأخرى حق على المتقين: من طلق قبل أن يفرض ويدخل، فإنه يؤخذ بالمتعة، فإنه لا صداق عليه. ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض، فالمتعة حق.
٥٢٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال الله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس عليه إلا متاع بالمعروف، يفرض لها السلطان بقدر، وليس عليها عدة. وقال الله تعالى ذكره:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، فإذا طلق الرجل المرأة
128
وقد فرض لها ولم يمسسها، فلها نصف صداقها، ولا عدة عليها.
٥٢٣٠- حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، أخبرنا زهير، عن معمر، عن الزهري أنه قال: متعتان يقضى بإحداهما السلطان، ولا يقضى بالأخرى: فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين. (١)
* * *
وقال آخرون: لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢٣١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم: أن رجلا طلق امرأته، فخاصمته إلى شريح، فقرأ الآية: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: ٢٤١]، قال: إن كنت من المتقين، فعليك المتعة. ولم يقض لها. قال شعبة: وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى.
٥٢٢٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: كان شريح يقول في متاع المطلقة، لا تأب أن تكون من المحسنين، لا تأب أن تكون من المتقين.
٥٢٣٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها: إن كنت من المتقين فمتع.
* * *
قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا
(١) الأثر: ٥٢٣٠- عمرو بن أبي سلمة التنيسي أبو حفص الدمشقي، مترجم في التهذيب و"زهير"، هو: زهير بن محمد التميمي، مترجم في التهذيب. قال أحمد في عمرو بن أبي سلمة: "روى عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغلظ فقلبها عن زهير". وكلاهما متكلم فيه.
129
للمطلقات، إلى أن قول الله تعالى ذكره:"حقا على المحسنين"، وقوله:"حقا على المتقين"، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس.
وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال:"وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس، (١) فيما لها على الزوج من الحقوق.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي، قول من قال:"لكل مطلقة متعة"، لأن الله تعالى ذكره قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام، إلى باطن خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها. (٢)
* * *
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس، إذا كان
(١) المسيس: المس، مصدر"مس"، كما سلف آنفًا ص: ١١٨.
(٢) عند هذا الموضع، انتهى التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها بعد هذا ما نصه:
"وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كثيرا"
ثم يبدأ بعده.
"بسم الله الرحمن الرحيم".
130
مفروضا لها، بقوله: (١) "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة؟ (٢)
قيل: إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه، الكفاية عن تكريره، حتى يدل على بطول فرضه. وقد دل بقوله،"وللمطلقات متاع بالمعروف"، على وجوب المتعة لكل مطلقة، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها، دلالة على بطول المتعة عنه. لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (٣) وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" والمتعة. (٤) فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا.= وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى = ثبت وصح وجوبهما لها.
هذا، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل
(١) في المطبوعة: "قد خصص المطلقة... " وأثبت الصواب من المخطوطة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "غير النصف الفريضة"، والصواب زيادة"من"، أو تكون"غير نصف الفريضة"، بحذف الألف واللام من"النصف".
(٣) في المخطوطة: "تماسوهن"، وقد أشرنا آنفًا ص: ١١٨، تعليق: ١ إلى أنها هي قراءة أبي جعفر، وأنها كانت مثبتة هكذا في أصله.
(٤) يعني: بعطف"والمتعة" على قوله: "فنصف ما فرضتم".
131
المسيس، (١) دلالة غير قول الله تعالى ذكره:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن"، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة،" كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء: أحدهما المفروض له، والآخر غير المفروض له. وذلك أنه لما قال:"أو تفرضوا لهن فريضة"، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس. لأنه قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن،" ثم قال تعالى ذكره:"ومتعوهن"، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا، المفروض لهن، وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، ثم عكس عليه القول في ذلك. فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب، إذا طلقت، على زوجها المطلقها، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه، أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله، يحبس بها إن طلقها فيها، (٢) إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه، إذا امتنع من إعطائها ذلك.
وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى ذكره قال:"ومتعوهن،" فأمر الرجال أن يمتعوهن، وأمره فرض، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد، لما
(١) في المطبوعة: "للمطلقة المفروض الصداق" بإسقاط"لها"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "يحبس لها"، وأثبت ما في المخطوطة.
132
قد بينا في كتابنا المسمى (بلطيف البيان عن أصول الأحكام)، لقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف". ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك: وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل، من أداء أو إبراء على ما قد بينا.
* * *
فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال:"حقا على المحسنين" و"حقا على المتقين"، أنها غير واجبة، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن، والمتقي وغير المتقي= فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى، فهو على غيرهم أوجب، ولهم ألزم.
وبعد، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله:"ومتعوهن"، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره (١) فيما أوجب لهما من
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس، قال الله تعالى ذكره فيما أوجب لها من ذلك... ". وقد وقفت طويلا على هذه العبارة، فلم يخلص لها معنى عندي، ولم أستحل أن أدعها بغير بيان فسادها، وإثبات صحة ما رأيته. ومراد الطبري في سياق هذا الاحتجاج الأخير الذي بدأه في هذه الفقرة، أن يتمم حجته في رد قول من ظن أن المتعة غير واجبة، لقوله تعالى: "حقا على المحسنين" و"حقا على المتقين"، فقال: إن قول الله تعالى"ومتعوهن" قد أوجبت المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، -كما أوجب قوله تعالى"فنصف ما فرضتم"، نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس- وهي الآية التي لم يذكر فيها: "حقا على المحسنين" ولا"حقا على المتقين". ففي إجماع الحجة على وجوب ذلك لهما، الدليل الواضح على أن قوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف"، يوجب المتعة لكل مطلقة-"وإن كان قال: حقا على المتقين" بعقب هذه الآية. ثم بين هذه الحجة في الفقرة التالية بيانا شافيا، فقال إن إجماعهم على إيجاب المتعة للمطلقة غير المفروض لها بقوله: "ومتعوهن" مع تعقيب ذلك بقوله في الآية: "حقا على المحسنين" دليل على أن ذلك كذلك في قوله: "وللمطلقات متاع بالمعروف"، مع تعقيب ذلك بقوله: "حقا على المتقين"، فالمتعة واجبة لكل مطلقة، كما وجبت في الآية الأخرى. من أجل هذا السياق الذي بينته، رأيت أن نص المخطوطة والمطبوعة فاسد غير دال على معنى، فاقتضى ذلك أن أجعل"قال الله تعالى ذكره" -"بقول الله تعالى ذكره"، وأن أزيد بعدها: "فنصف ما فرضتم"، وأن أجعل"فيما أوجب لها"-"فيما أوجب لهما" على التثنية. هذا ما رجح عندي وثبت وصح، والحمد لله أولا وآخرا، وكأنه الصواب في أصل الطبري إن شاء الله.
133
ذلك = (١) الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، وإن كان قال:"حقا على المتقين".
ومن أنكر ما قلنا في ذلك، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس. فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة، (٢) ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة، وما أشبه ذلك. (٣) فإن أوجب ذلك لها، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها، والوجوب لكل مطلقة، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين. فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
قال أبو جعفر: واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة.
* ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم:
٥٢٣٤- حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها، فليس لها إلا المتاع.
٥٢٣٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال، قال الحسن: إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فليس لها إلا المتاع.
(١) قوله: "الدليل الواضح" اسم"إن" في قوله في أول الفقرة: "فإن في إجماع الحجة... "
(٢) في المخطوطة: "فإن أنكر وجوب من قول جميع الحجة"، وهو خطأ بين، وفي المطبوعة: "وجوبه" ورجحت ما أثبت.
(٣) يعني بذلك ما كان في إجماع كإجماعهم على وجوب الزكاة في عشرين دينارا، ووجوب زكاة العروض إذا كانت للتجارة، فيجادل في أمر المتعة، بما يجادل به المنكر والدافع لوجوب الزكاة فيهما.
134
٥٢٣٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها، فإنما لها المتاع.
٥٢٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف.
٥٢٣٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة،" قال: ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف.
٥٢٣٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: ولا متاع إلا بالمعروف.
٥٢٤٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن" إلى:"ومتعوهن" قال: هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها، فإنما عليه المتعة.
٥٢٤١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال في هذه الآية: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها.
٥٢٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
٥٢٤٣- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، [حدثنا عبيد بن سليمان قال]، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة"، هذا رجل وهبت له امرأته، فطلقها من قبل أن يمسها، فلها المتعة ولا فريضة لها، وليست عليها عدة.
* * *
135
قال أبو جعفر: وأما"الموسع"، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى، يقال منه:"أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع".
* * *
وأما"المقتر"، فهو المقل من المال، يقال:"قد أقتر فهو يقتر إقتارا، وهو مقتر".
* * *
واختلف القرأة في قراءة"القدر". (١)
فقرأه بعضهم:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره". بتحريك"الدال" إلى الفتح من"القدر"، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من"التقدير"، الذي هو من قول القائل:"قدر فلان هذا الأمر".
* * *
وقرأ آخرون بتسكين"الدال" منه، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك، كما قال الشاعر. (٢)
وما صب رجلي في حديد مجاشع مع القدر، إلا حاجة لي أريدها (٣)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى، بل هما متفقتا المعنى. فبأي- القراءتين قرأ القارئ ذلك، فهو للصواب مصيب.
وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة
(١) في المطبوعة: "واختلف القراء"، وأثبت ما في المخطوطة، والمطبوعة تغير نص المخطوطة حيثما ذكر"القَرَأَة" إلى"القراء"، فلن نشير إليه بعد هذا الوضع.
(٢) هو الفرزدق فيما يقال.
(٣) ديوانه: ٢١٥ نقلا عن اللسان (صبب)، وهو في اللسان أيضًا في (قدر)، ومقاييس اللغة ٥: ٦٢، والأساس (صبب)، وإصلاح المنطق: ١٠٩، وتهذيب إصلاح المنطق ١: ١٦٨ وقال أبو محمد: "ذكر يعقوب أن هذا البيت للفرزدق، ولم أجده في شعره ولا في أخباره". وكأن البيت ليس للفرزدق، لذكره"حديد مجاشع"، وهو جده. وجرير كان يعيره بأنه"ابن القين"، فأنا أستبعد أن يذكر الفرزدق في شعره"حديد مجاشع". وقال التبريزي في شرح البيت: "يقول: كان حبسي قدره الله علي، وكان لي فيه حاجة، ولم يكن لي منه بد". وهو معنى غير بين. ويقال: صب القيد في رجله، أي قيد.
136
معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها. وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا حرج عليكم، أيها الناس، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن، (١) وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومتعوهن متاعا. وقد يجوز أن يكون"متاعا" منصوبا قطعا من"القدر". (٢) لأن"المتاع" نكرة، و"القدر" معرفة.
* * *
ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك، (٣) بغير ظلم، ولا مدافعة منكم لهن به. (٤)
ويعني بقوله:"حقا على المحسنين"، متاعا بالمعروف الحق على المحسنين. فلما دل إدخال"الألف واللام" على"الحق"، وهو من نعت"المعروف"، و"المعروف" معرفة، و"الحق" نكرة، نصب على القطع منه، (٥) كما يقال:"أتاني الرجل راكبا".
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "لأن طلقتم النساء" والسياق يقتضي صواب ما أثبت.
(٢) القطع: الحال، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(٣) في المطبوعة: "من إعطائكم لهن ذلك"، وفي المخطوطة"إعطائكم هن" قد سقط منها"إيا".
(٤) انظر معنى"المعروف" فيما سلف ٣: ٣٧١ / ثم ٤: ٥٤٧، ٥٤٨ / ٥: ٧، ٤٤، ٧٦، ٩٣.
(٥) القطع: الحال، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
137
وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله، كقول القائل:"عبد الله عالم حقا"، ف"الحق" منصوب من نية كلام المخبر، كأنه قال: أخبركم بذلك حقا. (١)
والتأويل الأول هو وجه الكلام، لأن معنى الكلام: فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى: أحق ذلك حقا. والذي قاله من ذلك، بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة. لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواحهن، فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين. فتأويل الكلام إذا- إذ كان الأمر كذلك-: ومتعوهن على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين.
* * *
ويعني بقوله:"المحسنين"، الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إنك قد ذكرت أن"الجناح" هو الحرج، (٢) وقد قال الله تعالى ذكره:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس؟ قيل: قد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال:"إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات". (٣)
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٥٤-١٥٥.
(٢) انظر معنى"الجناح" في فهارس اللغة عن هذا الجزء والأجزاء السالفة.
(٣) رجل ذواق: مطلاق كثير النكاح، كثير الطلاق، وكذلك المرأة. والذوق: استطراف النكاح وقتا بعد وقت، كأنه يذوق ويختبر، ثم يتحول ليذوق غيره.
138
٥٢٤٤- حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (١)
* * *
وروي عنه ﷺ أنه قال:"ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقولون: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك".
٥٢٤٥- حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢)
* * *
فجائز أن يكون"الجناح" الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
(١) الحديث: ٥٢٤٤- شهر بن حوشب: تابعي ثقة، كما بينا في: ١٤٨٩. فالحديث بهذا الإسناد مرسل. وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٤: ٣٣٥، من حديث عبادة بن الصامت. وقال: "رواه الطبراني، وفيه راو لم يسم. وبقية إسناده حسن". وذكر أيضًا حديثا لأبي موسى، مرفوعا: "لا تطلق النساء إلا من ريبة، إن الله تبارك وتعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات". وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وأحد أسانيد البزار فيه عمران القطان، وثقه أحمد وابن حبان، وضعفه يحيى بن سعيد وغيره". وليس بين يدي أسانيد هذين الحديثين، حتى أعرف مدى درجاتهما، ولا أن شهر بن حوشب روى واحدا منها. وقوله: "الذواقين والذواقات"- قال ابن الأثير: "يعني السريعي النكاح السريعي الطلاق". وذكره الزمخشري في المجاز من كتاب الأساس. وقال: "كلما تزوج أو تزوجت، مد عينه أو عينها إلى أخرى أو آخر".
(٢) الحديث: ٥٢٤٥- هذا إسناد صحيح. ورواه ابن ماجه: ٢٠١٧، عن محمد بن بشار -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وقد مضت الإشارة إليه، وإلى ما قيل في تعليله والرد عليه. وإلى رواية البيهقي إياه من هذا الوجه ومن رواية موسى بن مسعود عن سفيان الثوري= في: ٤٩٢٥، ٤٩٢٦. ولم نكن رأينا رواية الطبري - هذه، إذ ذاك.
139
وقد كان بعضهم يقول: معنى قوله في هذا الموضع:"لا جناح"، لا سبيل عليكم للنساء- إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة -في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء: أحدهما المفروض لها، والآخر غير المفروض لها. فإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يقال: لا سبيل لهن عليكم في صداق، إذا كان الأمر على ما وصفنا.
* * *
وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر: وهو أن يكون معناه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن، في أي وقت شئتم طلاقهن. لأنه لا سنة في طلاقهن، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب. وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء- إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه. فيكون"الجناح" الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها، (١) هو"الجناح" الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها، أو في طهر قد جامعها فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا الحكم من الله تعالى ذكره، إبانة عن قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة". (٢) وتأويل ذلك:
(١) في المخطوطة: "لم يمسهن" وهو خطأ وسهو.
(٢) في المخطوطة: "ما لم تماسوهن"، وهي قراءة الطبري كما أسلفنا مرارا. وستأتي على قراءته في تأويل الآية.
140
لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاكم إياهن، يعني بذلك: فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن.
وإنما قلنا: إن تأويل ذلك كذلك، لما قد قدمنا البيان عنه من أن قوله:"أو تفرضوا لهن فريضه"، بيان من الله تعالى ذكره لعباده حكم غير المفروض لهن إذا طلقهن قبل المسيس. فكان معلوما بذلك أن حكم اللواتي عطف عليهن ب"أو"، غير حكم المعطوف بهن بها.
وإنما كرر تعالى ذكره قوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة"، وقد مضى ذكرهن في قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن" ليزول الشك عن سامعيه واللبس عليهم، من أن يظنوا أن التي حكمها الحكم الذي وصفه في هذه الآية، هي غير التي ابتدأ بذكرها وذكر حكمها في الآية التي قبلها.
* * *
وأما قوله:"إلا أن يعفون"، فإنه يعني: إلا أن يعفو اللواتي وجب لهن عليكم نصف تلك الفريضة، فيتركنه لكم، ويصفحن لكم عنه تفضلا منهن بذلك عليكم، إن كن ممن يجوز حكمه في ماله وهن بوالغ رشيدات، فيجوز عفوهن حينئذ ما عفون عنكم من ذلك، فيسقط عنكم ما كن عفون لكم عنه منه. وذلك النصف الذي كان وجب لهن من الفريضة بعد الطلاق وقيل العفو إن عفت عنه- أو ما عفت عنه. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(١) السياق: وذلك النصف... أو ما عفت عنه.
141
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"؛ فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فلها نصف صداقها، ليس لها أكثر من ذلك.
٥٢٤٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، (١) قال: إن طلق الرجل امرأته وقد فرض لها، فنصف ما فرض، إلا أن يعفون.
٥٢٤٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٢٤٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها وقد كان سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها.
٥٢٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، قال: هو الرجل يتزوج المرأة وقد فرض لها صداقا ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف ما فرض لها، ولها المتاع، ولا عدة عليها.
٥٢٥١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
(١) ساق بقية الآية في المطبوعة، وأخطأ الناسخ في المخطوطة، فساق بقيتها ولم يتمها، ووضع في أول ما أراد حذفه"لا" وفي آخره"إلى"، وهي علامة الحذف قديما، تقوم مقام الضرب عليها بالقلم والمداد.
142
لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، قال: إذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسها، فلها نصف صداقها ولا عدة عليها.
* * *
* ذكر من قال في قوله:"إلا أن يعفون" القول الذي ذكرناه من التأويل:
٥٢٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول: إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها، فنصف الفريضة لها عليه، إلا أن تعفو عنه فتتركه.
٥٢٥٣- حدثنا عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن يعفون"، قال: المرأة تترك الذي لها.
٥٢٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أن يعفون"، هي المرأة الثيب أو البكر يزوجها غير أبيها، فجعل الله العفو إليهن: إن شئن عفون فتركن، وإن شئن أخذن نصف الصداق.
٥٢٥٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا أن يعفون"، تترك المرأة شطر صداقها، وهو الذي لها كله.
٥٢٥٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٢٥٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"إلا إذ يعفون"، قال: المرأة تدع لزوحها النصف.
٥٢٥٨- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني
143
عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح:"إلا أن يعفون"، قال: إن شاءت المرأة عفت فتركت الصداق.
٥٢٥٩- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح مثله.
٥٢٦٠- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع قوله:"إلا أن يعفون"، هي المرأة يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فتعفو عن النصف لزوجها.
٥٢٦١- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا أن يعفون"، أما أن"يعفون"، فالثيب أن تدع من صداقها، أو تدعه كله.
٥٢٦٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب:"إلا أن يعفون"، قال: العفو إليهن، إذا كانت المرأة ثيبا فهي أولى بذلك، ولا يملك ذلك عليها ولي، لأنها قد ملكت أمرها. فإن أرادت أن تعفو فتضع له نصفها الذي عليه من حقها، جاز ذلك. وإن أرادت أخذه، فهي أملك بذلك.
٥٢٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا معمر قال، وحدثني ابن شهاب:"إلا أن يعفون"، قال: النساء.
٥٢٦٤- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح:"إلا أن يعفون"، قال: الثيب تدع صداقها.
٥٢٦٥- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح:"إلا أن يعفون"، قال قال: تعفو المرأة عن الذي لها كله.
* * *
144
قال أبو جعفر: ما سمعت أحدا يقول:"حماد بن زيد بن أسامة"، إلا أبا هشام. (١)
* * *
٥٢٦٦- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: إن شاءت عفت عن صداقها= يعني في قوله:"إلا أن يعفون".
٥٢٦٧- حدثنا أبو هشام قال، (٢) حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن شريح قال: تعفو المرأة وتدع نصف الصداق.
٥٢٦٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال الزهري:"إلا أن يعفون"، الثيبات.
٥٢٦٩- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"إلا أن يعفون"، قال: تترك المرأة شطرها.
٥٢٧٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إلا أن يعفون"، يعني النساء.
٥٢٧١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إلا أن يعفون"، إن كانت ثيبا عفت.
٥٢٧٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قوله:"إلا أن يعفون"، يعني المرأة.
٥٢٧٣- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= جميعا، عن سفيان:"إلا أن يعفون"، قال: المرأة إذا لم يدخل بها: أن تترك له المهر، فلا تأخذ منه شيئا.
* * *
(١) الأثر: ٥٢٦٥- هو"حماد بن أسامة بن زيد"، وقد سلفت ترجمته في رقم: ٢٩، ٥١، ٢٢٣ والذي قاله أبو هشام الرفاعي لم يذكر في كتب التراجم.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "ابن هشام"، والصواب أبو هشام الرفاعي، الذي مضى في الأسانيد السالفة.
145
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله:"الذي بيده عقدة النكاح".
فقال بعضهم: هو ولي البكر. وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٢٧٤- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: أذن الله في العفو وأمر به، فإن عفت فكما عفت، وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت.
٥٢٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، وهو أبو الجارية البكر، جعل الله سبحانه العفو إليه، ليس لها معه أمر إذا طلقت، ما كانت في حجره.
٥٢٧٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:"الذي بيده عقدة النكاح"، الولي.
٥٢٧٧- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال، قال علقمة: هو الولي.
٥٢٧٨- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: هو الولي.
٥٢٧٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر، عن حجاج، عن النخعي، عن علقمة قال: هو الولي.
146
٥٢٨٠- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن بيان النحوي، (١) عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وأصحاب عبد الله قالوا: هو الولي.
٥٢٨١- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: هو الولي.
٥٢٨٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر، عن حجاج، أن الأسود بن زيد، قال: هو الولي.
٥٢٨٣- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد، عن شعبة، عن أبي بشر قال: قال طاوس ومجاهد: هو الولي = ثم رجعا فقالا هو الزوج.
٥٢٨٤- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر قال، قال مجاهد وطاوس: هو الولي = ثم رجعا فقالا هو الزوج.
٥٢٨٥- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: هو الولي.
٥٢٨٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: زوج رجل أخته، فطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فعفا أخوها عن المهر، فأجازه شريح ثم قال: أنا أعفو عن نساء بني مرة. فقال عامر: لا والله، ما قضى قضاء قط أحق منه: أن يجيز عفو الأخ في قوله:"إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، فقال فيها شريح بعد: هو الزوج، إن عفا عن الصداق كله فسلمه إليها كله، أو عفت هي عن النصف الذي سمى لها، وإن تشاحا كلاهما أخذت نصف صداقها، قال:"وأن تعفوا هو أقرب للتقوى". (٢)
(١) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "بيان النحوي"، وأنا أرجح أنه: شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي. مترجم في التهذيب يروي عن الأعمش، ويروي عنه عبيد الله بن موسى. فكأن الصواب"شيبان النحوي".
(٢) الأثر: ٥٢٨٦- رواه البيهقي في السنن ٨: ٢٥١ بإسناده"عن سعيد بن منصور، عن جرير، عن مغيرة" بغير هذا اللفظ، ولكنه يصححه. فقد كان في المطبوعة والمخطوطة"ما قضى قضاء قط أحق منه"، والصواب من البيهقي، وما أعرف قومه: "نساء بني مرة". كأن مرة من أهله، أخت أو بنته. والله أعلم.
147
٥٢٨٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: هو الولي.
٥٢٨٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، قال مغيرة، أخبرنا عن الشعبي، عن شريح أنه كان يقول: الذي بيده عقدة النكاح هو الولي - ثم ترك ذلك فقال: هو الزوج.
٥٢٨٩- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيار، عن الشعبي: أن رجلا تزوج امرأة فوجدها دميمة فطلقها قبل أن يدخل بها، فعفا وليها عن نصف الصداق، قال: فخاصمته إلى شريح فقال لها شريح: قد عفا وليك. قال: ثم إنه رجع بعد ذلك، فجعل الذي بيده عقدة النكاح: الزوج.
٥٢٩٠- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن - في الذي بيده عقدة النكاح - قال: الولي.
٥٢٩١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن منصور أو غيره، عن الحسن، قال: هو الولي.
٥٢٩٢- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: هو الولي.
٥٢٩٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن الذي بيده عقدة النكاح، قال: هو الولي.
٥٢٩٤- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هو الذي أنكحها.
٥٢٩٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الولي.
٥٢٩٦- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع وابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: هو الولي.
148
٥٢٩٧- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي، عن أبي عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا هو الولي.
٥٢٩٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: هو الولي.
٥٢٩٩- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح:"أو يعفو الذي بيد عقدة النكاح"، قال: ولي العذراء.
٥٣٠٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال: قال لي الزهري:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، ولي البكر.
٥٣٠١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، هو الولي.
٥٣٠٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه= وعن رجل، عن عكرمة= قال معمر: وقاله الحسن أيضا= قالوا: الذي بيده عقدة النكاح، الولي.
٥٣٠٣- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: الذي بيده عقدة النكاح، الأب.
٥٣٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة قال: هو الولي.
٥٣٠٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن مجاهد قال: هو الولي.
٥٣٠٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذي بيده عقدة النكاح"، هو ولي البكر.
149
٥٣٠٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - في الذي بيده عقدة النكاح-: الوالد= ذكره ابن زيد عن أبيه.
٥٣٠٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد وربيعة:"الذي بيده عقدة النكاح"، الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته. (١)
٥٣٠٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك: وذلك إذا طلقت قبل الدخول بها، فله أن يعفو عن نصف الصداق الذي وجب لها عليه، ما لم يقع طلاق.... (٢)
٥٣١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: الذي بيدة عقدة النكاح، هي البكر التي يعفو وليها، فيجوز ذلك، ولا يجوز عفوها هي.
٥٣١١- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول:"إلا أن يعفون"، أن تعفو المرأة عن نصف الفريضة لها عليه فتتركه. فإن هي شحت إلا أن تأخذه، فلها ولوليها الذي أنكحها الرجل = عم، أو أخ، أو أب= أن يعفو عن النصف، فإنه إن شاء فعل وإن كرهت المرأة.
٥٣١٢- حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به، فإن امرأة عفت جاز عفوها، وإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه. (٣).
(١) الأثر: ٥٣٠٨- في الموطأ: ٥٢٨.
(٢) مكان النقط بياض في المطبوعة والمخطوطة. وقد جهدت أن أجد نص مالك فيما بين يدي من الكتب، فلم أجده.
(٣) الخبر: ٥٣١٢- سعيد بن الربيع الرازي، شيخ الطبري: لم نجد له ترجمة بعد طول البحث. وستأتي الرواية عنه أيضًا: ٥٥٢٠، دون نسبته الرازي". وفي المطبوعة"المرادي"- بدل"الرازي". وهو خطأ. فإن ابن كثير نقل هذا الخبر ١: ٥٧٤، عن هذا الموضع، وفيه"الرازي". وكذلك روى الطبري عنه، في كتاب"ذيل المذيل"، الملحق بتاريخه ١٣: ٥٣، قال: "حدثني حوثرة بن محمد المنقري، وسعيد بن الربيع الرازي، قالا: حدثنا سفيان، عن عمرو.. ". ثم لم نجدهم ذكروا للربيع بن سليمان المرادي ولدا.
150
٥٣١٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، الولي.
* * *
وقال آخرون: بل الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣١٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو شحمة قال، حدثنا حبيب، عن الليث، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. (١)
٥٣١٥-حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح فقال: هو الولي. فقال علي: لا ولكنه الزوج.
٥٣١٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا قال: قال: قال لي علي: من الذي
(١) الخبر: ٥٣١٤-"أبو عثمة"؛ هكذا رسم في المخطوطة دون نقط. وأما المطبوعة ففيها"أبو شحمة"!! وهو خطأ. إذ لم نجد من يدعى بها. و"أبو عثمة": الراجح عندنا أنه"محمد بن خالد بن عثمة"، وقد مضت ترجمته برقم: ٩٠، ٩١. وبينا هناك أن"عثمة" أمه. فليس ببعيد أن يكنى باسمها، خصوصا أنهم لم يذكروا له كنية أخرى. ويرجح أنه هو: أن من الرواة عنه في ترجمته"بندار"، وهو محمد بن بشار، الراوي عنه هنا.
و"عثمة": بفتح العين المهملة وسكون الثاء المثلثة.
"حبيب"، الذي يروي عن الليث بن سعد هنا: لم نعرف من هو، ولا وجدنا ما يرشد إليه. وهو هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولو كان محرفا عن"شعيب" -أعني شعيب بن الليث- لم يكن بعيدا. "خلاس" -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام- بن عمرو الهجري البصري: تابعي كبير ثقة ثقة. تكلموا في سماعه من علي، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده. ونص البخاري على ذلك في التاريخ الكبير ٢ / ١ / ٢٠٨.
151
بيده عقدة النكاح؟ قلت: ولي المرأة. قال: لا بل هو الزوج.
٥٣١٧- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: هو الزوج.
٥٣١٨- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال: قلت لحماد بن سلمة: من الذي بيده عقده النكاح؟ فذكر عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: الزوج.
٥٣١٩- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: هو الزوج.
٥٣٢٠- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن عباس وشريح قالا هو الزوج.
٥٣٢١- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي، عن عبد الله بن جعفر، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعم: أن أباه تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل بالصداق وقال: أنا أحق بالعفو. (١)
٥٣٢٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم تزوج امرأه، فطلقها قبل أن يبني بها، وأكمل لها الصداق، وتأوّل:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" (٢)
٥٣٢٣- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمرو،
(١) الأثر: ٥٣٢١- عبد الله بن جعفر، هو المخرمي الزهري، من ولد المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف. مترجم في التهذيب. و"واصل بن أبي سعيد" مترجم في الجرح والتعديل ٤ / ٢ / ٣٠، والكبير للبخاري ٤ / ٢ / ١٧٢.
(٢) الخبر: ٥٣٢٢- هكذا ثبت هذا الخبر هنا: "صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم" فيكون منقطعا، لأن صالح بن كيسان لم يدرك جبير بن مطعم. ثم هو مخالف لما ثبت في مصنف عبد الرزاق ٣: ٢٨٤ (مخطوط مصور)، فإن الخبر ثابت فيه"عن صالح بن كيسان: أن نافع بن جبير تزوج... " - فيكون الخبر متصل الإسناد، لأن صالحا يروي عن نافع بن جبير بن مطعم. وهو الصواب، إن شاء الله. ولعل الطبري أو شيخه الحسن بن يحيى وهم فيه.
152
عن نافع، عن جبير: أنه طلق امرأته قبل أن يدخل بها، فأتم لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو.
٥٣٢٤- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح:"أو يعفو الذي بيدة عقدة النكاح"، قال: إن شاء الزوج أعطاها الصداق كاملا.
٥٣٢٥- حدثنا حميد قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين بنحوه.
٥٣٢٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج.
٥٣٢٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. فرد ذلك عليه.
٥٣٢٨- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. قال، وقال إبراهيم: وما يدري شريحا!
٥٣٢٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر قال، حدثنا حجاج، عن شريح قال: هو الزوج.
٥٣٣٠- حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج.
٥٣٣١- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، وهو الزوج. (١)
(١) الأثر: ٥٣٣١-"حماد بن زيد بن أسامة"، هو حماد بن أسامة بن زيد، وانظر الأثر السالف رقم: ٥٢٦٥، والتعليق عليه.
153
٥٣٣٢- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن شريح قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، قال: الزوج يتم لها الصداق.
٥٣٣٣- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن الشعبي، وعن الحجاج، عن الحكم، عن شريح، وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج.
٥٣٣٤- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح قال: هو الزوج، إن شاء أتم لها الصداق، وإن شاءت عفت عن الذي لها.
٥٣٣٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: قال شريح:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
٥٣٣٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أيون، عن ابن سيرين، عن شريح:"أن يعفو الذي بيدة عقدة النكاح"، قال: إن شاء الزوج عفا فكمل الصداق.
٥٣٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج.
٥٣٣٨- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، قال: هو الزوج.
٥٣٣٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: هو الزوج.
٥٣٤٠- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدى، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: هو الزوج.
154
٥٣٤١- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الزوج.
٥٣٤٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل= جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، زوجها: أن يتم لها الصداق كاملا.
٥٣٤٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب= وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وعن أيوب، وعن ابن سيرين، عن شريح= قالوا:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
٥٣٤٤- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج ="أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، إتمام الزوج الصداق كله.
٥٣٤٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة قال، قال سعيد بن جبير:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
٥٣٤٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، هو الزوج. قال: وقال مجاهد وطاوس: هو الولي. قال قلت لسعيد: فإن مجاهدا وطاوسا يقولان: هو الولي؟ قال سعيد:"فما تأمرني إذا؟ " (١) قال: أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة، أكان
(١) هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة: "فما أنا مرني" غير معجمة، ولم أجد الأثر في مكان آخر، وأنا في شك من صحة هذه العبارة. هذا وقد رواه ابن حزم في المحلى ٩: ٥١٢ من طريق"الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس بن أبي وحشية- عن سعيد بن جبير قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. وقال مجاهد وطاوس وأهل المدينة: هو الولي. قال فأخبرتهم بقول سعيد بن جبير، فرجعوا عن قولهم. وانظر السنن الكبرى ٨: ٢٥١، قريب من لفظ ابن حزم.
155
يجوز ذلك؟ فرجعت إليهما فحدثتهما، فرجعا عن قولهما وتابعا سعيدا.
٥٣٤٧- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حميد، عن الحسن بن صالح، عن سالم الأفطس، عن سعيد قال: هو الزوج. (١)
٥٣٤٨- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد قال: هو الزوج= وقال طاوس ومجاهد: هو الولي- فكلمتهما في ذلك حتى تابعا سعيدا.
٥٣٤٩- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد بنحوه.
٥٣٥٠- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو الحسين، يعني زيد بن الحباب، عن أفلح بن سعيد قال، سمعت محمد بن كعب القرظي قال: هو الزوج، أعطى ما عنده عفوا. (٢)
٥٣٥١- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود الطيالسي، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن الشعبي قال: هو الزوج.
٥٣٥٢- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج-"إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: أما قوله:"إلا أن يعفون"، فهي المرأة التي يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها. فإما أن تعفو عن النصف لزوجها، وأما أن يعفو الزوج فيكمل لها صداقها.
(١) الأثر: ٥٣٤٧-"حميد" هو: حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي. ثقة، مات سنة ١٩٢. مترجم في التهذيب. و"الحسن بن صالح" بن صالح الثوري. قال ابن سعد: "كان ناسكا عابدا فقيها حجة، صحيح الحديث كثيره، وكان متشيعا"، مات سنة ١٦٩. مترجم في التهذيب و"سالم الأفطس"، هو: سالم بن عجلان الأموي. ثقة كثير الحديث. كان يخاصم في الإرجاء. قتل بحران سنة ١٣٢. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ٥٣٥٠- في المخطوطة والمطبوعة: "أبو الحسن"، والصواب"أبو الحسين"، وهو مترجم في التهذيب، والجرح والتعديل ١ / ٢ / ٥٦٠. وفي المخطوطة"أفلح بن سعد"، والصواب ما في المطبوعة.
156
٥٣٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
٥٣٥٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: كان شريح يجاثيهم على الركب (١) ويقول: هو الزوج.
٥٣٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله ﷺ قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج، يعفو أو تعفو". (٢)
٥٣٥٦- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: الزوج، وهذا في المرأة يطلقها زوجها ولم يدخل بها وقد فرض لها، فلها نصف المهر، فإن شاءت تركت الذي لها وهو النصف، وإن شاءت قبضته.
٥٣٥٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
٥٣٥٨- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
(١) يجاثيهم على الركب: أي يقعد لهم بالخصومة ويخاصمهم خصاما شديدا، وكان الخصم يجثو على ركبتيه ويخاصم، إذا اشتد الخصام.
(٢) الأثر: ٥٣٥٥- قال ابن كثير في تفسيره ١: ٥٧٣-٥٧٤: "قال ابن أبي حاتم: ذكر ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: ولى عقدة النكاح، الزوج -وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله... - فذكره، ولم يقل عن أبيه عن جده".
وقال البيهقي في السنن ٨: ٢٥١-٢٥٢: "وروي عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولى عقدة النكاح الزوج. قال البيهقي: "وهذا غير محفوظ، وابن لهيعة غير محتج به، والله أعلم".
157
٥٣٥٩- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية:"إلا أن يعفون"، النساء، فلا يأخذن شيئا="أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج، فيترك ذلك فلا يطلب شيئا.
٥٣٦٠- ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال، قال شريح في قوله:"إلا أن يعفون"، قال: يعفو النساء="أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعني بقوله:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب، صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها، أو وهبه له أو عفا له عنه- أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب لزوجها المطلقها بعد بينونتها منه درهما من مالها، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها، فحكمه حكم سائر أموالها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها [لزوجها، قبل دخوله بها] أو بعد دخوله بها (١) -: إن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل، وإن حق المرأة
(١) هذه الجملة التي بين القوسين، استظهرتها من السياق حتى يستقيم الكلام، وبين أن فيه سقطا قبل قوله: "أو بعد دخوله بها". والمخطوطة والمطبوعة متفقتان في هذا السقط.
158
ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنا من كان من الأولياء، والدا كان أو جدا أو خالا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه، إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.
ويقال لمن أبى ما قلنا= ممن زعم أن"الذي بيده عقدة النكاح"، ولي المرأة=: هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك: إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض؟ = فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلا.
فإن قال: إن ذلك كذلك.
قيل له: فأي ذلك عني به؟
فإن قال: لكل ولي جاز له تزويج وليته.
قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟
فإن قال نعم!
قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس؟
فإن قال: نعم خرج من قول الجميع. وإن قال: لا! قيل له: ولم؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها؟
ثم يعكس القول عليه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره.
وإن قال: لبعض دون بعض.
سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضا دون بعض.
ويقال له: من المعني به، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟
فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم، سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
159
فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة، فكان معلوما بذلك أن الزوج غير معني به، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج، صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي= فقد غفل وظن خطأ. (١)
وذلك أن معنى ذلك: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه، وإنما أدخلت"الألف واللام" في"النكاح" بدلا من الإضافة إلى"الهاء" التي كان"النكاح" - لو لم يكونا فيه (٢) مضافا إليها، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [سورة النازعات: ٤١]، بمعنى: فإن الجنة مأواه، وكما قال نابغة بني ذبيان:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الناس، فالأحلام غير عوازب (٣)
(١) قوله:: فقد أغفل... "، جواب"إن" في قوله: "فإن ظن ظان". وأغفل: دخل في الغفلة، كما بينته فيما سلف ١: ١٥١، وغيره من المواضع.
(٢) في المطبوعة: "لو لم تكن أل فيه"، والذي حدا بهم إلى هذا التغيير أنها في المخطوطة مضطربة، كتبت هكذا: "لو لم يكن ما فيه" - الواو ممدودة منقوطة كأنها نون. والصواب ما أثبت. والضمير في"يكونا" إلى"الألف واللام".
(٣) ديوانه: ٤٥، وسيأتي في التفسير ١٣: ٤ (بولاق) من قصيدته في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الأعرج الغساني، وذلك حين فر من النعمان بن المنذر إلى الشام في أمر المتجردة. والضمير في: "لهم" إلى ملوك غسان من بني جفنة. والشيمة: الطبيعة. ورواية الديوان: "من الجود" بدل"من الناس" ورواية الطبري في سياق هذه القصيدة أجود، لأن البيت جاء بعد وصفهم في الحروب بشدة القتال، حتى قال قبله:
بضرب يزيل الهام عن سكناته وطعن كإيزاغ المخاض الضوارب
فالشيمة هنا: هي صبرهم على لأواء القتال. فلا تطير نفوسهم من الروع، ولا تضطرب عقولهم وتدبيرهم إذا بلغ القتال مبلغا يشتت حكمة الحكيم، والعوازب جمع عازب، من قولهم"عزب حلمه" إذا فارقه وبعد عنه.
160
بمعنى: فأحلامهم غير عوازب. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
* * *
فتأويل الكلام: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، (١) وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده= لأن معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه الولي ولي المرأة. لأن ولي المرأة لا يملك عقدة نكاح المرأة بغير إذنها، إلا في حال طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها، في قول أكثر من رأى أن الذي بيده عقدة النكاح الولي. ولم يخصص الله تعالى ذكره بقوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" بعضا منهم، فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأولوه، لو كان لما قالوا في ذلك وجه.
* * *
وبعد، فإن الله تعالى ذكره إنما كنى بقوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون" = عن ذكر النساء اللاتي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها، وذلك قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، والصبايا لا يسمين"نساء"، وإنما يسمين صبيا أو جواري، وإنما"النساء" في كلام العرب أجمع، اسم المرأة، ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة"امرأة"، كما لا تقول للصبي الصغير"رجل".
وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، عند الزاعمين أنه الولي إنما هو: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما الصغر وإما السفه، (٢) والله تعالى ذكره إنما اقتص في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه، وجعل
(١) في المخطوطة والمطبوعة"عقدة النكاح"، والصواب الذي يقتضيه التأويل وسياق الكلام بعده، هو ما أثبت.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "إما لصغر وإما لسفه"، والصواب ما أثبت.
161
لهن العفو بقوله:"إلا أن يعفون"= (١) كان معلوما بقوله:"إلا أن يعفون"، أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعض، إذ كان معلوما أن عفو من تولى عليه ماله منهن باطل.
وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ، من العفو عما وهب لهن من الصداق بالطلاق قبل المسيس، (٢) مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار المولى عليهن أموالهن السفه. وفي إنكار القائلين:"إن الذي بيده عقدة النكاح الولي"، عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفنا، وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر- ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك.
ويسأل القائلون بقولهم في ذلك، الفرق بين ذلك من أصل أو نظير، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في خلافه مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله:"وأن تعفوا أقرب للتقوى".
فقال بعضهم: خوطب بذلك الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٦١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت أبن جريج يحدث، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"، قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو.
(١) السياق من أول العبارة: وإذ كان ذلك كذلك... كان معلومًا.
(٢) في المخطوطة"السا الرشد"، وكأنها كانت"النساء الرشد" ولكنها ستأتي بعد أسطر"الثيبات الرشد". وأنا أرجح أنها في الموضعين"النساء الرشد".
162
٥٣٦٢- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"، قال: يعفون جميعا.
* * *
فتأويل الآية على هذا القول: وأن يعفوا، أيها الناس، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق، أقرب له إلى تقوى الله.
* * *
وقال آخرون: بل الذي خوطبوا بذلك أزواج المطلقات.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٦٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"،: وأن يعفو هو أقرب للتقوى.
* * *
فتأويل ذلك على هذا القول: وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم، فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن، أو تتموا لهن- (١) بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن- أقرب لكم إلى تقوى الله.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين بتأويل الآية عندي في ذلك. ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى ذلك: وأن يعفو بعضكم لبعض= أيها الأزواج والزوجات، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض، فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له، فبأن يوفيه بتمامه= أقرب لكم إلى تقوى الله.
* * *
(١) في المطبوعة: "أو إليهن بإعطائكم... " بياض في أصولها، وفي المخطوطة: "وأن + بإعطائكم"؛ كأن الناسخ لم يستطع أن يجيد قراءة الكلمة، فكتب التاءين في الأول ثم وقف، ولم يعد. وقد مضت الآثار في إكمال الصداق وإتمامه مثل رقم: ٥٣٢٣ وما بعده وما قبله، فمن هناك استظهرت صواب هذه الأحرف الناقصة، وبما يقتضيه معنى الكلام.
163
فإن قال قائل: وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله، فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه: فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله؟ قيل له: الذي في ذلك من قربه من تقوى الله، مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه، ودعاه وحضه عليه. فكان فعله ذلك- إذا فعله ابتغاء مرضاة الله، وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه- معلوما به، إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه، أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا، ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تغفلوا، أيها الناس، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه، (١) ولكن ليتفضل الرجل المطلق زوجته قبل مسيسها، فيكمل لها تمام صداقها إن كان لم يعطها جميعه. وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرض لها، فليتفضل عليها بالعفو عما يجب له ويجوز له الرجوع به عليها، وذلك نصفه. فإن شح الرجل بذلك وأبى إلا الرجوع بنصفه عليها، فالتتفضل المرأة المطلقة عليه برد جميعه عليه، إن كانت قد قبضته منه. وإن لم تكن قبضته، فتعفو [عن] جميعه. (٢) فإن هما لم يفعلا ذلك وشحا وتركا ما ندبهما الله إليه - من أخذ أحدهما على صاحبه بالفضل - فلها نصف ما كان فرض لها في عقد النكاح وله نصفه.
(١) انظر معنى"النسيان" فيما سلف ٢: ٩، ٤٧٦.
(٢) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
164
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٦٤- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق. قال: قيل له: فلم تزوجتها؟ قال: عرضها علي فكرهت ردها! قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟
٥٣٦٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم". قال: إتمام الزوج الصداق، أو ترك المرأة الشطر.
٥٣٦٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: إتمام الصداق، أو ترك المرأة شطره.
٥٣٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٣٦٨- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، في هذا وفي غيره.
٥٣٦٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: يقول ليتعاطفا.
٥٣٧٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير"، يرغبكم الله في المعروف، ويحثكم على الفضل.
٥٣٧١- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،
165
عن الضحاك في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها، فلها نصف الصداق. فأمر الله أن يترك لها نصيبها، وإن شاء أن يتم المهر كاملا. وهو الذي ذكر الله:"ولا تنسوا الفضل بينكم".
٥٣٧٢- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، حض كل واحد على الصلة- يعني الزوج والمرأة، على الصلة.
٥٣٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخيرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قول الله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، وذلك الفضل هو النصف من الصداق، وأن تعفو عنه المرأة للزوج أو يعفو عنه وليها.
٥٣٧٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: يعفى عن نصف الصداق أو بعضه.
٥٣٧٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: حث بعضهم على بعض في هذا وفي غيره، حتى في عفو المرأة عن الصداق، والزوج بالإتمام.
٥٣٧٦- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: المعروف.
٥٣٧٧- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد قال، سمعت تفسير هذه الآية:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: لا تنسوا الإحسان.
* * *
166
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن الله بما تعملون"، أيها الناس، مما ندبكم إليه وحضكم عليه، من عفو بعضكم لبعض عما وجب له قبله من حق بسبب النكاح الذي كان بينكم وبين أزواجكم، وتفضل بعضكم على بعض في ذلك، وفي غيره (١) مما تأتون وتذرون من أموركم في أنفسكم وغيركم مما حثكم الله عليه وأمركم به أو نهاكم عنه ="بصير"، يعني بذلك: ذو بصر، (٢) لا يخفى عليه منه شيء من ذلك، بل هو يحصيه عليكم ويحفظه، حتى يجازي ذا الإحسان منكم على إحسانه، وذا الإساءة منكم على إساءته. (٣)
* * *
(١) في المخطوطة "ولغيره"، وفي المطبوعة: "وبغيره"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) انظر القول في تفسير"بصير" فيما سلف ٢: ١٤٠، ٣٧٦، ٥٠٦ / ثم ٥: ٧٦.
(٣) انتهى عند هذا الموضع جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه.
"يتلوه القول في تأويل قوله:
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم"
ثم يبتدئ بعده:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن"
167
القول في تأويل قوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ.
167
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٧٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا أبو زهير، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله:"حافظوا على الصلوات"، قال: المحافظة عليها: المحافظة على وقتها، وعدم السهو عنها.
٥٣٧٩- حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في هذه الآية:"حافظوا على الصلوات"، فالحفاظ عليها: الصلاة لوقتها= والسهو عنها: ترك وقتها. (١)
* * *
ثم اختلفوا في"الصلاة الوسطى". فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك:
٥٣٨٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد= جميعا قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: والصلاة الوسطى"صلاة العصر. (٢).
(١) الأثر: ٥٣٧٩- هو: يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي. روى عن أبيه وجده. قال النسائي: "صدوق"، وذكره ابن حبان في الثقات مترجم في التهذيب.
(٢) الخبر: ٥٣٨٠- روى أبو جعفر هنا، في تفسير الصلاة الوسطى ١١٣ خبرا، بين مرفوع وموقوف وأثر، على اختلاف الروايات في ذلك، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، مما لم نجده مستوعبا وافيا في غير هذا الموضع من الدواوين. واجتهد -لله دره- حتى أوفى على الغاية، ثم أبان عن القول الراجح الصحيح: أنها صلاة العصر، كعادته في الترجيح، واختيار ما يراه أقوى دليلا. فأولها: هذا الخبر عن علي، وهو موقوف عليه، وإسناده ضعيف جدا.
سفيان: هو الثوري الإمام.
أبو إسحاق: هو السبيعي الإمام.
الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدا، كما بينا فيما مضى: ١٧٤.
وهذا الخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، من طريق إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق به، ولم يذكر لفظه، إحالة على روايات قبله. وسيأتي هذا القول عن علي، بأسانيد، فيها صحاح كثيرة ٥٣٨٢ - ٥٣٨٦، ٥٤٢٢ - ٥٤٢٩، ٥٤٤٤.
168
٥٣٨١- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق قال، حدثني من سمع ابن عباس وهو يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: العصر. (١)
٥٣٨٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام، عن أبي حيان، عن أبيه، عن علي قال: والصلاة الوسطى صلاة العصر. (٢)
٥٣٨٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيان، عن أبيه، عن علي مثله. (٣)
٥٣٨٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سمعت عليا يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (٤)
٥٣٨٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق،
(١) الخبر: ٥٣٨١- وهذا موقوف على ابن عباس أيضًا. وإسناده ضعيف، لجهالة الرجل المبهم الرواية عنه"من سمع ابن عباس".
وسيأتي عن ابن عباس، من أوجه كثيرة: ٥٤١٣، ٥٤١٦، ٥٤٣٣-٥٤٣٥، ٥٤٦٨، ٥٤٧٢-٥٤٧٩، ٥٤٨١.
(٢) الخبر: ٥٣٨٢- هذا إسناد حسن على الأقل. مصعب بن سلام التميمي: صدوق، وثقه بعضهم، وضعفه آخرون. والظاهر من ترجمته أن الكلام فيه لأحاديث غلط فيها، فما لم يثبت غلطه فيه فهو مقبول. وله ترجمة مفصلة في تاريخ بغداد ١٣: ١٠٨-١١٠. أبو حيان: هو التيمي الكوفي العابد، واسمه: يحيى بن سعيد بن حيان. وهو ثقة، كان الثوري يعظمه ويوثقه. أخرج له أصحاب الكتب الستة. أبوه سعيد بن حيان: تابعي ثقة، روى عن علي، وأبي هريرة.
(٣) الخبر: ٥٣٨٣- وهذا إسناد صحيح، متابعة صحيحة من ابن علية لمصعب بن سلام، في حديثه السابق.
وقد ذكر ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٩، نحو هذا المعنى: "عن يحيى بن سعيد القطان، عن أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي، حدثني أبي: أن سائلا سأل عليا: أي الصلوات، يا أمير المؤمنين، الوسطى؟ وقد نادى مناديه العصر، فقال: هي هذه".
(٤) الخبر: ٥٣٨٤- الأجلح: هو ابن عبد الله الكندي، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة. وترجمه البخاري في الكبير ١ / ٢ / ٦٨، فلم يذكر فيه جرحا.
169
عن الحارث قال: سألت عليا عن الصلاة الوسطى، فقال: صلاة العصر. (١)
٥٣٨٦- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري يقول: سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى فقال: هي صلاة العصر، وهي التي فتن بها سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم. (٢)
٥٣٨٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا سيمان التيمي= وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا التيمي= عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال:"الصلاة الوسطى"صلاة العصر. (٣)
(١) الخبر: ٥٣٨٥- عنبسة: هو ابن سعيد بن الضريس الأسدي. مضى مرارا، منها: ٣٣٥٦. وهذا الإسناد والذي قبله ضعيفان، من أجل الحارث الأعور، كما قلنا في: ٥٣٨٠.
(٢) الخبر: ٥٣٨٦- أبو زرعة، وهب الله بن راشد، مضى في: ٢٣٧٧، ٢٨٩١. ووقع في المطبوعة هنا"وهب بن راشد"، وهو خطأ، وثبت على الصواب في المخطوطة. أبو صخر: هو حميد بن زياد الخراط، صاحب العباء، سكن مصر. وهو ثقة، أخرج له مسلم في الصحيح.
أبو معاوية البجلي: عقد له صاحب التهذيب ترجمة خاصة في الكنى ١٢: ٢٤٠، ونقل عن أبي أحمد الحاكم أنه"عمار الدهني"، وجعل ذلك قولا. والصحيح أنه هو"عمار بن معاوية الدهني البجلي"، وهو ثقة، أخرج له مسلم في الصحيح. وترجمه ابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٣٩٠. و"الدهني": بضم الدال المهملة وسكون الهاء، نسبة إلى"دهن بن معاوية"، بطن من بجيلة.
أبو الصهباء البكري: لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٣٩٤، قال: "أبو الصهباء البكري، أنه سأل علي بن أبي طالب، روى عنه سعيد بن جبير". ثم قال: "سئل أبو زرعة عن اسمه؟ فقال: لا أعرف اسمه". ولم يذكر فيه جرحا. وقد استفدنا من هذا الموضع من الطبري أنه روى عنه أيضًا أبو معاوية البجلي، فارتفعت عنه الجهالة، وعرف شخصه. فهذا إسناد صحيح.
وقد ذكر ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٩، نحو معناه عن علي، من وجه آخر، من رواية سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي.
وذكر السيوطي ١: ٣٠٥، نحوه أيضًا، وذكر كثيرا ممن خرجوه، منهم: وكيع، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب.
(٣) الخبر: ٥٣٨٧- أبو صالح: هو السمان الزيات، مولى جويرية بنت الأحمس، واسمه: ذكوان. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وهو والد سهيل، وصالح، وعبد الله، روى عنه أولاده وغيرهم، من التابعين فمن بعدهم.
وهذا الخبر ذكره ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٨، "من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة"، موقوفا. وكذلك رواه البيهقي ١: ٤٦٠ - ٤٦١، من طريق إبراهيم بن عبد الله البصري، عن الأنصاري، وهو محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن سليمان التيمي، قال: "فذكره موقوفا". ثم رواه من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل. عن أبيه؛"حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، فذكره موقوفا". ثم حكى عن عبد الله بن أحمد، بالإسناد نفسه متصلا به، قال: "قال أبي: ليس هو أبو صالح السمان، ولا باذام. هذا بصري، أراه ميزان، يعني: اسمه باذام". وهذا الظن من الإمام أحمد رحمه الله، ينفيه تصريح من ذكرنا من الرواة بأنه"أبو صالح السمان". وأما"أبو صالح ميزان"، فإنه تابعي آخر ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ /٢ / ٦٧. ولكنهم لم يذكروا له رواية عن أبي هريرة.
بل إنَّه قد رواه البيهقي أيضًا، قبل ذلك مرفوعا: فرواه من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سليمان التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعا.
وسيأتي -مرفوعا- من هذا الوجه: ٥٤٣٢.
وسيأتي -موقوفا- من رواية سليمان التيمي، عن أبي صالح: ٥٣٩٠.
170
٥٣٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن غنم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، ألا وهي العصر، ألا وهي العصر. (١)
(١) الخبر: ٥٣٨٨- سويد: هو ابن نصر بن سويد المروزي، مضى في: ٢٩٤١. عبد الله بن عثمان بن خثيم: مضى في: ٤٣٤١. وجده"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة. ووقع في المطبوعة"غنم"، وهو خطأ. وثبت على الصواب في المخطوطة.
ابن لبيبة: هو عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي، لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم ٢ /٢ /٢٩٤، قال: "روى عن أبي هريرة، وابن عمر. روى عنه عبد الله بن عثمان بن خثيم، ويعلى بن عطاء". فهو تابعي معروف، لم يذكر بجرح، فهو ثقة. وذكر اسمه عند الطحاوي والسيوطي: "عبد الرحمن بن لبيبة"، وعند ابن حزم"عبد الرحمن نافع" فقط. كما سيأتي في التخريج.
والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣-١٠٤، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، "عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي: أنه سأل أبا هريرة... " فذكره مطولا.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٤، مطولا، كرواية الطحاوي. ونسبه إليه وإلى عبد الرزاق في المصنف. وهو تساهل منه. لأن رواية عبد الرزاق مختصرة جدا.
وذكره ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٨-٢٥٩، مطولا، "من طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، هو ابن المديني، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن نافع: أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى؟... "، فذكره.
وأما رواية عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢ (مخطوط مصور) - فإنها مختصرة جدا: "عبد الرزاق عن معمر، عن ابن خثيم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة، قال: هي العصر".
171
٥٣٨٩- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله"،"فكان ابن عمر يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قال رسول الله ﷺ فيها أنها الصلاة الوسطى. (١)
٥٣٩٠- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه قال، زعم أبو صالح، عن أبي هريرة أنه قال: هي صلاة العصر. (٢)
(١) الحديث: ٥٣٨٩- هذا إسناد صحيح جدا. وأصل الحديث المرفوع، دون رأي ابن عمر في آخره- رواه أحمد في المسند: ٤٥٤٥، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أصحاب الكتب الستة، كما في المنتقى: ٥٥٦.
ورواه أحمد أيضًا، من طرق كثيرة، عن نافع، عن ابن عمر. بيناها في الاستدراكين: ١٢٩٩، ١٥٤٢.
وأما الحديث، على النحو الذي رواه أبو جعفر هنا، بزيادة رأي عبد الله بن عمر-: فقد رواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨١، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، بنحوه، مختصرا قليلا.
وكذلك ذكره السيوطي ١: ٣٠٤، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. ونسى أن ينسبه للطبري. وسيأتي بنحوه: ٥٣٩١. وذكر ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٩- رأى ابن عمر، دون أن يذكر الحديث المرفوع. وكذلك روى الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠١ قول ابن عمر، موقوفا عليه، صريح اللفظ: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" - من طريق عبد الله بن صالح، ومن طريق عبد الله بن يوسف، كلاهما عن الليث، عن ابن الهاد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
قوله: "وتر أهله وماله": هو بالبناء لما لم يسم فاعله. قال ابن الأثير: "أي نقص، يقال: وترته، إذا نقصته. فكأنك جعلته وترا بعد أن كان كثيرا. وقيل: هو من الوتر: الجناية التي يجنيها الرجل على غيره، من قتل أو نهب أو سبي. فشبه ما يلحق من فاتته صلاة العصر بمن قتل حميمه، أو سلب أهله وماله. يروى بنصب الأهل ورفعه، فمن نصب جعله مفعولا ثانيا لوتر، وأضمر فيه مفعولا لم يسم فاعله عائدا إلى الذي فاتته الصلاة. ومن رفع لم يضمر، وأقام الأهل مقام ما لم يسم فاعله، لأنهم المصابون المأخوذون. فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما".
(٢) الخبر: ٥٣٩٠- هو تكرار للخبر: ٥٣٨٧. وكان مكانه أن يذكر عقبه، أو عقب الذي بعده. لأن إثباته في هذا الموضع فصل بين حديثي ابن عمر: ٥٣٨٩، ٥٣٩١- دون ما حاجة لذلك ولا حكمة. و"معتمر" - في هذا الإسناد: هو ابن سليمان التيمي.
172
٥٣٩١- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله ﷺ بنحوه= قال ابن شهاب، وكان ابن عمر يرى أنها الصلاة الوسطى. (١)
٥٣٩٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري قال: الصلاة الوسطى: صلاة العصر. (٢)
٥٣٩٣- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا ابن عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة قالت: أوصت عائشة لنا بمتاعها، فوجدت في مصحف عائشة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وقوموا لله قانتين". (٣)
(١) الحديث: ٥٣٩١- هو تكرار للحديث: ٥٣٨٩، فصل بينهما -دون ما حاجة- بخبر أبي هريرة. فأوجب شبهة أن يكون قوله في هذا الحديث"بنحوه"، راجعا إلى خبر أبي هريرة. وليس كذلك، بل هو تكرار للحديث المرفوع ولرأي ابن عمر الذي استنبطه من الحديث.
(٢) الخبر: ٥٣٩٢- عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار: ثقة من شيوخ أحمد والبخاري. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد ١٢: ٢٦٩-٢٧٧. الحسن: هو البصري. وقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: ١٥، عن علي بن المديني، أن الحسن لم يسمع من أبي سعيد الخدري شيئا، وكذلك روى نحوه عن بهز. فهذا الخبر منقطع لهذا.
والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، عن ابن مرزوق، عن عفان عن همام، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله.
وسيأتي في: ٥٤٥١، رواية عن أبي سعيد الخدري: أنها الظهر. وهذا هو الذي ذكره السيوطي ١: ٣٠٢ نقلا عن الطبري.
وأبو سعيد ممن روي عنه أنها الظهر، وروي عنه أنها العصر، كما في ابن كثير ١: ٥٧٧، ٥٧٨، وفتح الباري ٨: ١٤٦. وقد ذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى عن أبي سعيد -من قوله- أنها صلاة العصر. وهذه الرواية لم أجدها في المسند، فما أدري: أهي في موضع آخر عرضا غير مسند أبي سعيد؟ أم في كتاب آخر من كتب أحمد غير المسند؟ وإن كان مقتضى الإطلاق أن يراد المسند!
(٣) الخبر: ٥٣٩٣- ابن عامر: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة! ولست أدري من هو؟ والراجح -عندنا- أنه خطأ، صوابه"أبو عامر"، وهو"أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو" فهو يروي عن محمد بن أبي حميد، ويروي عنه محمد بن معمر، شيخ الطبري.
حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة: لا أدري من هي، ولا ما شأنها؟ لم أجد لها ذكرا في كل المصادر التي بين يدي، ولا في كتاب الثقات لابن حبان، فأمرها مشكل حقا. وسيأتي خبران"عن أبي يونس مولى عائشة": ٥٤٦٦، ٥٤٦٧، وهذا تابعي معروف، كما سيأتي، فلعل هذه ابنته. وقد ذكر السيوطي ١: ٣٠٤ نحو هذا الخبر، هكذا: "وأخرج وكيع عن حميدة، قالت: قرأت في مصحف عائشة: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر".
وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: ٨٤، عن محمد بن معمر، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي حميد، قال: "أخبرتني حميدة"، ولم يذكر نسبها.
وستأتي أخبار أخر عن عائشة: ٥٣٩٤ - ٤٣٩٧، ٥٤٠٠، ٥٤٠١، ٥٤٦٦، ٥٤٦٧.
173
٥٣٩٤- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا عبد الملك بن عبد الرحمن: أن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن سألت عائشة عن الصلاة الوسطى، قالت: كنا نقرؤها في الحرف الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى= [قال أبو جعفر: أنه قال] = صلاة العصر وقوموا لله قانتين".
٥٣٩٥- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد ابنة عبد الرحمن: أنها سألت عائشة، فذكر نحوه= إلا أنه قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (١)
(١) الحديثان: ٥٣٩٤، ٥٣٩٥- عبد الملك بن عبد الرحمن بن خالد بن أسيد -بفتح الهمزة- القرشي: ثقة ترجمه ابن أبي حاتم ٢ /٢ /٣٥٥، قال: "روى عن أمه أم حميد، قالت: سمعت عائشة. روى عنه ابن جريج". ووهم العقيلي، فلم يرفع نسبه، وقال: "من ولد عتاب بن أسيد". واستدرك عليه الحافظ في لسان الميزان ٤: ٦٥-٦٦، ونقل ترجمته من ثقات ابن حبان، نحو كلام ابن أبي حاتم.
أمه"أم حميد ابنة عبد الرحمن": لم أتوثق من ترجمتها. ففي التهذيب ١٢: ٤٦٥- ترجمة هكذا: "أم حميد، ويقال: أم حميدة، بنت عبد الرحمن، عن عائشة، روى ابن جريج عن أبيه عنها". فإن لم تكنها فلا أدري؟
وهذان الحديثان بمعنى واحد، إلا أن في أولهما: "صلاة العصر"، بدون الواو، وفي ثانيهما: "وصلاة العصر"، بإثبات الواو. وهذه الواو العاطفة- في رواية إثباتها: هي من عطف الصفة على الموصوف، لا عطف المغايرة. كما يدل عليه الرواية الآتية: ٥٣٩٧، "وهي صلاة العصر". وانظر فتح الباري ٨: ١٤٨، وما يأتي: ٥٤٦٥-٥٤٦٨.
وهذا المعنى -عن عائشة- رواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية قبله، فيها إثبات الواو.
ورواه ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٧-٢٥٨، بإسناده، من طريق عبد الرزاق.
ورواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: ٨٤، بإسنادين: من طريق أبي عاصم، ومن طريق حجاج- كلاهما عن ابن جريج، به. ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٢، من طريق الحجاج بن محمد، عن ابن جريج، به.
174
٥٣٩٦- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو أبي سهل الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة في قوله:" الصلاة الوسطى"، قالت: صلاة العصر. (١)
٥٣٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (٢)
(١) الخبر: ٥٣٩٦- أبو سهل محمد بن عمرو الأنصاري الواقفي البصري: الراجح عندنا توثيقه، ترجم له البخاري في الكبير ١ /١ /١٩٤، فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات، ثم ذكره في الضعفاء. وترجمه ابن أبي حاتم ٤ /١ /٣٢، فذكر الأقوال في تضعيفه فقط. وقال ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٦، "ثقة. روى عنه ابن مهدي، ووكيع، ومعمر، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم". ووقع في المطبوعة: "محمد بن عمرو وأبي سهل الأنصاري"! وزيادة الواو قبل الكنية خطأ، وقع في المخطوطة أيضًا.
ووقع في المطبوعة أيضًا: "قال صلاة العصر". وهو خطأ واضح. صوابه"قالت".
والخبر، ذكر ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٦ أنه رواه"من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري، عن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر". ثم قال ابن حزم: "فهذه أصح رواية عن عائشة".
وقوله في الإسناد"عن محمد بن أبي بكر" - هكذا وقع في المحلى، فلا أدري، الرواية عن ابن مهدي هكذا؟ فيكون محمد بن عمرو رواه عن القاسم بن محمد وعن أبيه! أم هو خطأ من ناسخي المحلى؟ وأنا أرجح أنه خطأ؛ لأن محمد بن أبي بكر الصديق قديم الوفاة. وشيوخ محمد بن عمرو كلهم مقارب لطبقة القاسم بن محمد، ثم إنهم لم يذكروا محمد بن أبي بكر في شيوخ محمد بن عمرو. وأكثر من هذا أنهم لم يذكروا -قط- راويا عن محمد بن أبي بكر، غير ابنه القاسم بن محمد. ولكن ابن حزم يشير بعد ذلك، ص: ٢٥٩ إلى رواية القاسم بن محمد عن عائشة"مثل ذلك". فالظاهر أن الخطأ قديم، في الكتب التي نقل عنها ابن حزم.
(٢) الخبر: ٥٣٩٧ -المثنى- شيخ الطبري: هو ابن إبراهيم الآملي، كما بينا فيما مضى: ١٨٦، ١٨٧. ووقع في ابن كثير، نقلا عن هذا الموضع: "ابن المثنى"، وهو خطأ.
الحجاج: هو ابن المنهال الأنماطي، كما مضى في رواية المثنى عنه: ٦٨٢، ١٦٨٢، ١٦٨٣ حماد: هو ابن سلمة، كما تبين من رواية ابن حزم التي سنذكر.
والخبر نقله ابن كثير ١: ٥٨٠، عن هذا الموضع. ونقله الحافظ في الفتح ٨: ١٤٦، والسيوطي ١: ٣٠٤، ولم ينسباه لغير الطبري.
وذكره ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٤"عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة". ولكن فيه: "وصلاة العصر"، بدون كلمة"هي".
وكذلك هو بنحوه، في كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص: ٨٣، من طريق يزيد، عن حماد، عن هشام، عن أبيه.
ورواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢، عن معمر، عن هشام بن عروة، قال: "قرأت في مصحف عائشة رضي الله عنها: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". فلم يذكر كلمة"هي". وجعله من قراءة هشام نفسه في مصحف عائشة، لا من روايته عن أبيه.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي ١: ٣٠٢، ونسبها لعبد الرزاق، وابن أبي داود. ولم أجدها في كتاب المصاحف.
175
٥٣٩٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن داود بن قيس قال، حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني. فأعلمتها، فأملت علي:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر". (١)
٥٣٩٩- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: كان الحسن يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (٢)
(١) الخبر: ٥٣٩٨- داود بن قيس الفراء الدباغ المدني: ثقة حافظ، كما قال الشافعي. ووثقه ابن المديني وغيره.
عبد الله بن رافع المخزومي، أبو رافع المدني، مولى أم سلمة أم المؤمنين عتاقة: تابعي ثقة. وهذا الخبر رواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢، عن داود بن قيس ولكن بلفظ: "وصلاة العصر"، بزيادة الواو.
وكذلك هو في المحلى ٤: ٢٥٤، نقلا عن عبد الرزاق.
وكذلك نقله السيوطي ١: ٣٠٣. ونسبه لوكيع، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر. ونسى أن ينسبه لعبد الرزاق.
وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص: ٨٧ - ٨٨، من طريق ابن نافع، وطريق وكيع، وطريق سفيان - ثلاثتهم عن داود بن قيس. وفي الطريقين الأولين بإثبات الواو، وفي الثالث بحذفها.
وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٤٨، ونسبه لابن المنذر، فقط. ووقع فيه"عبيد الله بن رافع" وهو خطأ من ناسخ أو طابع.
(٢) الخبر: ٥٣٩٩- هو أثر من كلام الحسن، بإسناد ضعيف مجهول، بقول الطبري: "حدثت عن عمار".
وسيأتي بإسناد آخر عن الحسن: ٥٤١٩.
وسيأتي نحو معناه عن الحسن، مرفوعا مرسلا: ٥٤٤١.
176
٥٤٠٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال، حدثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
٥٤٠١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عائشة مثله. (١)
٥٤٠٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
٥٤٠٣- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
٥٤٠٤- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: صلاة الوسطى صلاة العصر.
٥٤٠٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سالم، عن حفصة: أنها أمرت رجلا يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذا المكان فأعلمني. فلما بلغ"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: اكتب
(١) الخبران: ٥٤٠٠، ٥٤٠١- المعتمر -في الإسناد الأول: هو ابن سليمان التيمي. يحيى- في الإسناد الثاني: هو ابن سعيد القطان.
أبو أيوب: هو يحيى بن مالك المراغي العتكي الأزدي. وهو تابعي ثقة مأمون.
و"المراغي": نسبة إلى"المراغ"، وهي بطن من الأزد. و"العتكي": نسبة إلى"العتيك" ابن الأزد". فالظاهر أن المراغ من العتيك. وأخطأ ابن حزم في المحلى، فذكر أن اسم أبي أيوب: "يحيى بن يزيد". وهو خلاف لما في الدواوين، بل قد ثبت اسمه في صحيح مسلم ١: ١٧٠ في حديث آخر: "عن قتادة، عن أبي أيوب، واسمه: يحيى بن مالك الأزدي، ويقال المراغي. والمراغ: حي من الأزد".
والخبر نقله ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٩، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي، به. وذكره السيوطي ١: ٣٠٥، قال: "وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، من طرق عن عائشة".
177
"صلاة العصر". (١)
٥٤٠٦- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (٢)
(١) الخبر: ٥٤٠٥- أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية، مضى في: ٣٣٤٨. وسيأتي هذا الخبر مطولا: ٥٤٦١، من طريق شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم. وفيه هناك: "وصلاة العصر". فظهر أن هذا الإسناد منقطع بين أبي بشر وسالم. وندع الكلام عليه إلى ذاك الموضع، إن شاء الله.
(٢) الخبر: ٥٤٠٦- نافع مولى ابن عمر: تابعي ثقة. ولكن روايته عن حفصة بنت عمر مرسلة، كما نص على ذلك ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: ٨١، وكذلك نقل عنه في التهذيب. وهذا الخبر سيأتي أيضًا: ٥٤٦٣، من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد.
وفيه: "وصلاة العصر"، بدل"وهي صلاة العصر".
وكذلك سيأتي: ٥٤٦٢، من طريق عبد الوهاب، عن عبيد الله. ويدل على انقطاع هذا الإسناد والإسنادين الآتيين: أن ابن أبي داود رواه في المصاحف، ص ٨٥، عن محمد بن بشار -قال: ولم نكتبه عن غيره-: "حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة... ". وفيه أيضًا: "وصلاة العصر".
ثم رواه: ٨٥-٨٦، عن عمه وإسحق بن إبراهيم، قالا: "حدثنا حجاج، حدثنا حماد، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حفصة، مثله. ولم يذكر فيه ابن عمر".
فقد ظهر أنه اختلف على الحجاج بن منهال في وصله وانقطاعه. والوصل زيادة ثقة، فتقبل. وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢، عن ابن جرير، قال: "أخبرني نافع: أن حفصة... " - وفيه أيضًا: "وصلاة العصر". ورواية ابن جريج هذه -ذكرها ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٣. ونستدرك هنا: أننا أشرنا في التعليق عليه إلى رواية الطبري هذه-: ٥٤٠٦- وقلنا هناك: "وإسناده صحيح جدا". وقد تبين لنا الآن أن هذا كان خطأ، وأن الإسناد ضعيف لانقطاعه، كما قلنا. نعم إن رواية ابن أبي داود، التي فيها زيادة"عن ابن عمر"، دلت على وصل الخبر، ولكنه إنما يكون صحيحا فيها، لا في رواية الطبري هذه.
وستأتي أسانيد أخر عن حفصة: ٥٤٥٨، ٥٤٦٤، ٥٤٦٥، ٥٤٧٠.
178
٥٤٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: صلاة الوسطى هي العصر.
٥٤٠٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، كنا نحدث أنها صلاة العصر، قبلها صلاتان من النهار، وبعدها صلاتان من الليل.
٥٤٠٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: أمروا بالمحافظة على الصلوات. قال: وخص العصر،"والصلاة الوسطى"، يعني العصر. (١)
٥٤١٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والصلاة الوسطى"، هي العصر. (٢)
٥٤١١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال:"الصلاة الوسطى" صلاة العصر.
٥٤١٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حافظوا على الصلوات" - يعني المكتوبات-"والصلاة الوسطى"، يعني صلاة العصر.
٥٤١٣- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد، عن ابن عباس قال: سمعته يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: صلاة العصر. (٣)
(١) الخبر: ٥٤٠٩- في المطبوعة"جبير" بدل"جويبر". وهو خطأ.
(٢) الأثر: ٥٤١٠- في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن سليمان"، وهو خطأ. هذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ٥٣٥٦.
(٣) الخبر: ٥٤١٣- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. قيس: هو ابن الربيع الأسدي الكوفي، رجحنا توثيقه في: ٤٨٤٢، وفي المسند: ٦٦١، ٧١١٥.
أبو إسحق: هو السبيعي. وفي المطبوعة: "عن ابن إسحاق"، وهو تحريف ناسخ أو طابع. رزين بن عبيد: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ٢ /١ /٢٩٦، وابن أبي حاتم ١ /٢/ ٥٠٧ - فلم يذكرا فيه جرحا. وهذا كاف في توثيقه.
والخبر سيأتي: ٥٤١٦، من رواية إسرائيل، وهو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن جده أبي إسحاق.
وكذلك رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"رزين"، من طريق إسرائيل.
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٢، من طريق إسرائيل. ووقع فيه خطأ في اسم التابعي.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٥، "عن رزين بن عبيد: أنه سمع ابن عباس يقرؤها: والصلاة الوسطى صلاة العصر"! هكذا ذكره السيوطي، ونسبه لأبي عبيد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطحاوي؛ وفيه تساهل، فاللفظ عند البخاري والطبري والطحاوي ليس النص على قراءة الآية كذلك.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٣٠٩، أن البزار روى عن ابن عباس: "أن النبي ﷺ قال: صلاة الوسطى صلاة العصر". قال الهيثمي: "ورجاله موثقون"
179
٥٤١٤- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن مجاهد قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (١)
٥٤١٥- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
٥٤١٦- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد قال: سمعت ابن عباس يقول: هي صلاة العصر. (٢)
٥٤١٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، أنبأنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي ﷺ قال:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". (٣)
(١) الخبر: ٥٤١٤- ثوير -بالتصغير-: هو ابن أبي فاختة، وهو ضعيف جدا. كما مضى في: ٣٢١٢. ووقع في المطبوعة "ثور". وهو خطأ، وثبت على الصواب في المخطوطة.
(٢) الخبر: ٥٤١٦- هو تكرار للخبر: ٥٤١٣، بمعناه. وقد سبق الكلام عليه مفصلا.
(٣) الخبر: ٥٤١٧- إسماعيل بن مسلم: هو المكي، بصري سكن مكة. وحديثه عندنا حسن، كما بينا في المسند في حديث آخر: ١٦٨٩، وفي شرح الترمذي ١: ٤٥٤. الحسن: هو البصري. وسمرة: هو ابن جندب الصحابي المعروف.
وسماع الحسن من سمرة، فيه كلام طويل لأئمة الحديث. والراجح سماعه منه. كما رجحه ابن المديني، والبخاري، والترمذي، والحاكم، وغيرهم. وانظر في ذلك شرحنا للترمذي ١: ٣٤٣، والجوهر النقي ٥: ٢٨٨-٢٨٩، وعون المعبود ١: ٣٦٩-٣٧٠، وغير ذلك من المراجع.
والحديث سيأتي بأسانيد أخر: ٥٤٣٨-٥٤٣٩.
ورواه أحمد في المسند ٥: ٧، ١٢، ١٣ -بأسانيد، من طريق سعيد، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.
وكذلك رواه الترمذي، رقم: ١٨٢ بشرحنا، في كتاب الصلاة (١: ١٥٩-١٦٠ شرح المباركفوري)، ورواه أيضًا في كتاب التفسير ٤: ٧٧ (شرح المباركفوري)، من طريق ابن أبي عروبة. وقال في الموضع الأول: "حديث سمرة في الصلاة الوسطى حديث حسن". وقال في الموضع الثاني: "هذا حديث حسن صحيح". وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، من طريق روح بن عبادة، عن ابن أبي عروبة، به. مرفوعا. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية سابقة. ورواه البيهقي ١: ٤٦٠، من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وذكره ابن كثير ١: ٥٧٨-٥٧٩، عن روايات المسند بأسانيدها. وذكره السيوطي ١: ٣٠٤، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والطبراني. وذكره قبله بلفظ: "أن رسول الله ﷺ قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وسماها لنا، وإنما هي صلاة العصر". ونسبه لأحمد، وابن جرير، والطبراني. هكذا قال. ولم أجد هذا اللفظ في المسند، ولا في تفسير الطبري، وإن كان موافقا في المعنى لما عندنا فيهما.
180
٥٤١٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر، عن سعيد بن الحكم قال: سمعت أبا أيوب يقول: صلاة الوسطى صلاة العصر. (١)
(١) الخبر: ٥٤١٨- مرة بن مخمر: ترجمه ابن أبي حاتم ٤ /١ /٣٦٦، قال: "مرة بن مخمر، روى عن سعيد بن الحكم، عن أبي أيوب، روى عنه يزيد بن أبي حبيب". ولم أجد له غير هذه الترجمة. ومن عجب أن البخاري لم يترجم له، في حين أنه أشار إليه مرتين، في الإشارة إلى هذا الخبر، كما سيأتي، ووقع اسمه في المشتبه للذهبي، ص: ٦"مرة بن حمير"!
وهو خطأ. سعيد بن الحكم: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ٢ /١/ ٤٢٥، قال: "سمع أبا أيوب: "الوسطى العصر". قاله وهب، حدثنا أبي سمعت يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة. ويقال سعد بن أحكم". وهذه إشارة إلى هذا الإسناد، إذ رواه الطبري هنا من طريق وهب بن جرير عن أبيه.
ثم ترجم البخاري ٢ /٢ /٥٣، قال: "سعد بن أحكم، من السفاكة، بطن من يحصب ثم من حمير، سمع أبا أيوب. قاله يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة. وقال وهب بن جرير، عن أبيه". ثم انقطع الكلام، ويظهر أن فيه سقطا، يفهم مضمونه من الترجمة الماضية.
وترجم ابن أبي حاتم ٢ /١ /١٣: "سعيد بن الحكم، مصري روى عن أبي أيوب. روى يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر، عنه".
وترجم ابن أبي حاتم ٢ /١ /٨١-٨٢: "سعد بن الحكم، مصري، من حمير... "،. ثم ذكر نحو ما قاله في"سعيد".
والذي لا أشك فيه أن ابن أبي حاتم أخطأ في الترجمة الثانية، إذ أتى بقول ثالث لم يقله أحد، وهو"سعد بن الحكم". وإنما الاختلاف فيه بين"سعيد بن الحكم"، و"سعد بن أحكم"، كما صنع البخاري. وقد نقل العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني -في تعليقه على الموضع الأول من التاريخ الكبير - أن ابن حبان ذكره على القولين، كصنيع البخاري، وأن الأمير ابن ماكولا ذكره كذلك، وأنه رواه أيضًا "ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر الحميري، عن سعد بن أحكم".
وكذلك نص على ضبطه"سعد بن أحكم" - الذهبي في المشتبه، ص: ٦، والحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه (المخطوط مصور عندنا).
وعندي أن رواية"سعد بن أحكم" أرجح وأقرب إلى الصواب، لأنه هكذا رواه اثنان عن يزيد بن أبي حبيب، وهما: ابن إسحاق، فيما ذكر البخاري، وابن لهيعة، فيما ذكر ابن ماكولا. وانفرد يحيى ابن أيوب بتسميته"سعيد بن الحكم". واثنان أولى بالحفظ والثبت من واحد.
والخبر رواه البخاري في الكبير -إشارة- كما ذكرنا. وذكره السيوطي ١: ٣٠٥، وزاد نسبته لابن المنذر. أبو أيوب: هو الأنصاري الخزرجي، الصحابي الجليل. واسمه: "خالد بن زيد".
181
٥٤١٩- حدثنا ابن سفيان قال، حدثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن الحسن قال: صلاة الوسطى صلاة العصر. (١)
* * *
وعلة من قال هذا القول ما: -
٥٤٢٠- حدثني به محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد -يعني ابن طلحة- عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال: شغل المشركون رسول الله ﷺ عن صلاة العصر حتى اصفرَّت، أو احمرت- فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا (٢)
(١) الخبر: ٥٤١٩- ابن سفيان - شيخ الطبري: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة، ولا ندري من هو؟ ويحتمل أن يكون محرفا عن"ابن سنان". وهو: "محمد بن سنان القزاز". مضت روايته عن أبي عاصم، ورواية الطبري عنه: ١٥٧، ٤٨٥، ٧٠٢.
(٢) الحديث: ٥٤٢٠ - أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، مضى في: ٥٠٨٨.
زبيد، بالتصغير: هو ابن الحارث بن عبد الكريم، مضى في: ٢٥٢١
مرة: هو مرة الطيب، بن شراحيل الهمداني، مضى أيضًا في: ٢٥٢١. عبد الله: هو ابن مسعود الصحابي الكبير.
وهذا الحديث رواه الطبري هنا من طريق أبي عامر العقدي. وسيرويه بعد ذلك: ٥٤٢١، من طريق يزيد بن هرون. ثم: ٥٤٣٠، من طريق ثابت بن محمد - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة بن مصرف.
وقد رواه أيضًا أبو داود الطيالسي في مسنده: ٣٦٦، عن محمد بن طلحة، مختصرا. ورواه أحمد في المسند: ٣٧١٦، عن يزيد، وهو ابن هارون. و: ٣٨٢٩، عن خلف بن الوليد. و: ٤٣٦٥، عن هاشم، وهو ابن القاسم أبو النضر - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة، مطولا ومختصرا.
ورواه مسلم ١: ١٧٤، عن عون بن سلام، عن محمد بن طلحة.
ورواه الترمذي: ١٨١ بشرحنا، مختصرا، من طريق الطيالسي، وأبي النضر - كلاهما عن محمد بن طلحة. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه ابن ماجه: ٦٨٦، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون - كلاهما عن محمد بن طلحة.
ورواه البيهقي ١: ٤٦٠، من طريق الفضل بن دكين، وعون بن سلام - وكلاهما عن محمد بن طلحة. وذكره السيوطي ١: ٣٠٣، ونسبه لبعض من ذكرنا ولعبد بن حميد، وابن المنذر.
182
٥٤٢١- حدثني أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا محمد بن طلحة، عن زبيد عن مرة، عن عبد الله، عن النبي ﷺ بنحوه- إلا أنه قال: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى". (١)
٥٤٢٢- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي حسان، عن عبيدة السلماني، عن علي قال: قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو بطونهم نارا= شك شعبة في البطون والبيوت. (٢)
(١) الحديث: ٥٤٢١- أحمد بن سنان الواسطي، القطان، الحافظ - شيخ الطبري: ثقة متقن من الأثبات. روى عنه الشيخان وغيرهما. مترجم في تذكرة الحفاظ ٢: ٩٣-٩٤. والحديث مكرر ما قبله.
(٢) الحديث: ٥٤٢٢- أبو حسان الأعرج: اسمه"مسلم"، دون ذكر اسم أبيه، في جميع المراجع، إلا التهذيب وفروعه ورجال الصحيحين، فإن فيها زيادة"بن عبد الله". وهو تابعي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه.
عبيدة- بفتح العين: هو السلماني، مضت ترجمته في: ٢٤٥.
والحديث رواه مسلم ١: ١٧٤، عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -شيخي الطبري هنا- بهذا الإسناد.
ورواه ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٢، من طريق مسلم.
ورواه أحمد في المسند: ١١٥٠، عن محمد بن جعفر عن شعبة، بهذا الإسناد.
ثم رواه: ١١٥١، عن حجاج، وهو ابن محمد، عن شعبة، به.
ورواه النسائي ١: ٨٣، مختصرا، من طريق خالد، عن شعبة.
وسيأتي الحديث من رواية أبي حسان عن عبيدة: ٥٤٢٩، ٥٤٤٤، ومضى قول علي: "الصلاة الوسطى صلاة العصر": ٤٣٨٠، وأشرنا إلى سائر الروايات الآتية من حديثه، ومنها هذا الحديث.
183
٥٤٢٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال: قلت لعبيدة السلماني: سل علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى. فسأله، فقال: كنا نراها الصبح= أو الفجر= حتى سمعت رسول الله ﷺ يقول يوم الأحزاب:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا"! (١)
(١) الحديث: ٥٤٢٣- عبد الرحمن: هو ابن مهدي وسفيان: هو الثوري. وعاصم: هو ابن أبي النجود. وزر: هو ابن حبيش. وهذا الحديث من رواية زر بن حبيش عن علي، بحضرته سؤال عبيدة السلماني وجواب علي. وهو يؤيد رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة: ٥٤٢٢. والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨١-١٨٢، عن الثوري، عن عاصم، عن زر ابن حبيش، به. وسيأتي: ٥٤٢٨، من رواية إسرائيل، عن عاصم. ورواه ابن أبي حاتم -فيما نقل عنه ابن كثير ١: ٥٧٨- عن أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، بهذا الإسناد. ثم قال ابن كثير: "رواه ابن جرير، عن بندار، عن ابن مهدي، به". يعني هذا الإسناد. وبندار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري. ورواه ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٢-٢٥٣، بإسناده إلى محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، به. ورواه البيهقي ١: ٤٦٠، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان، عن عاصم، عن زر. ورواه ابن ماجه: ٦٨٤، مختصرا، من طريق حماد بن زيد، عن عاصم، عن زر. وأشار ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٣، إلى رواية حماد بن زيد. وذكره السيوطي ١: ٣٠٣، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والبخاري والنسائي، وابن المنذر. وهو تساهل منه في نسبته للبخاري، فإني لم أجده في البخاري إلا من رواية ابن سيرين عن عبيدة، كما سيأتي في: ٥٤٢٧. وإسناد هذا الحديث -من رواية سفيان، عن عاصم، عن زر- إسناد صحيح. ومع ذلك فإن الإمام أحمد لم يروه في المسند من هذا الوجه بإسناد صحيح. بل روى نحوه مختصرا: ١٢٨٧، من طريق شعبة، عن جابر، وهو الجعفي، عن عاصم، عن زر. وهو إسناد ضعيف، من أجل جابر الجعفي. وروى ابنه عبد الله -في المسند-: ٩٩٠، معناه مختصرا جدا، بإسناد ضعيف أيضًا.
184
٥٤٢٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن علي قال: شغلونا يوم الأحزاب عن صلاة العصر، حتى سمعت رسول الله ﷺ يقول: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو أجوافهم نارا (١)
٥٤٢٥- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار عن علي، عن النبي ﷺ أنه قال، يوم الأحزاب، على فرضة من فرض الخندق، فقال:"شغلونا
(١) الحديث: ٥٤٢٤- أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح -بضم الصاد المهملة- الهمداني الكوفي، وهو تابعي ثقة كثير الحديث.
شتير بن شكل بن حميد العبسي: تابعي ثقة، يقال إنه أدرك الجاهلية. ولذلك ترجمه الحافظ في الإصابة، في قسم المخضرمين ٣: ٢١٩-٢٢٠. "شتير": بضم الشين المعجمة وفتح التاء المثناة. و"شكل": بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين. وهذان الاسمان من نادر الأسماء.
والحديث سيأتي: ٥٤٢٦، بنحوه من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، وهو أبو الضحى.
ورواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢، عن سفيان الثوري، به.
ورواه أحمد في المسند: ١٢٤٥، عن عبد الرزاق.
ورواه أيضًا: ١٠٣٦، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي، عن سفيان.
ورواه البيهقي ١: ٤٦٠، من طريق محمد بن شرحبيل بن جعشم، عن الثوري.
وأما طريق أبي معاوية الآتية: فقد رواه أحمد في المسند: ٦١٧، ٩١١، عن أبي معاوية، عن الأعمش. ورواه مسلم ١: ١٧٤، من طريق أبي معاوية.
وذكره ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٣، من طريق مسلم.
ورواه أيضًا أحمد في المسند: ١٢٩٨، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الأعمش.
وذكره ابن كثير ١: ٥٧٨، من رواية أحمد عن أبي معاوية. ثم ذكر أنه رواه مسلم والنسائي.
185
عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم، نارا= أو بطونهم وبيوتهم نارا. (١)
٥٤٢٦- حدثني أبو السائب وسعيد بن نمير قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن شتير بن شكل، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! ثم صلاها بين العشاءين، بين المغرب والعشاء. (٢)
٥٤٢٧- حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن خالد، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي قال، لم يصل رسول الله ﷺ العصر يوم الخندق إلا بعد ما غربت الشمس، فقال: ما لهم! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا! منعونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس. (٣)
(١) الحديث: ٥٤٢٥- الحكم: هو ابن عتيبة، مضى في: ٣٢٩٧. يحيى بن الجزار العرني الكوفي: تابعي ثقة. وجزم شعبة بأنه لم يسمع من علي بن أبي طالب إلا ثلاثة أحاديث، هذا أجدها.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٣٠٥، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: ١١٣٢، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة.
ورواه مسلم ١: ١٧٤، من طريق وكيع، ومعاذ، وهو العنبري الحافظ - كلاهما عن شعبة. وأشار ابن كثير ١: ٥٧٨، إلى رواية مسلم هذه.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، من طريق أبي عامر العقدي، عن شعبة، بهذا الإسناد. الفرضة: ما انحدر من جانب الخندق في موضع شقه. من"الفرض": وهو الشق. ومنه"فرضة النهر": وهو مشرب الماء منه. وهي ثلمة في شاطئه. وفرضة البحر: محط السفن.
(٢) الحديث: ٥٤٢٦- أبو السائب -شيخ الطبري: هو مسلم بن جنادة، مضى مرارا.
سعيد بن نمير- شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ذكرا ولا ترجمة في شيء من المراجع. وأخشى أن يكون محرفا عن شيء لا أعرفه الآن.
وكلمة"نمير" رسمت في المخطوطة رسما غير واضح، يمكن أن يكون محرفا عن"يحيى". فإن يكنه يكن: "سعيد بن يحيى بن الأزهر الواسطي". وهو ثقة، يروي عن أبي معاوية، وهو من طبقة شيوخ الطبري. ولا نجزم ولا نرجح عن غير ثبت.
والحديث مضى: ٥٤٢٤، من رواية الثوري عن الأعمش، وأشرنا إلى هذا، وإلى تخريجه هناك.
(٣) الحديث: ٥٤٢٧- الحسين بن علي الصدائي: مضى في: ٢٠٩٣.
علي بن عاصم بن صهيب الواسطي: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني. وبعضهم تكلم فيه، ورجحنا توثيقه في المسند: ٣٤٣.
خالد: هو ابن مهران الحذاء، مضى في: ١٦٨٣.
الحديث رواه أحمد في المسند، مختصرا قليلا: ٩٩٤، عن يحيى، وهو القطان، عن هشام، وهو ابن حسان، عن محمد، وهو ابن سيرين. ورواه أيضًا: ١٢٢٠، عن يزيد، وهو ابن هرون، عن هشام. ورواه البخاري ٦: ٧٦ / و٧: ٣١٢ / و٨: ١٤٥ /و١١: ١٦٥ (فتح)، من طرق عن هشام. ورواه أبو داود: ٤٠٩، من طريق هشام أيضًا. ورواه ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٢، من طريق البخاري. وانظر ما مضى: ٥٤٢٣.
186
٥٤٢٨- حدثنا زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عاصم، عن زر قال: انطلقت أنا وعبيدة السلماني إلى علي، فأمرت عبيدة أن يسأله عن الصلاة الوسطى فقال: يا أمير المؤمنين، ما الصلاة الوسطى؟ فقال: كنا نراها صلاة الصبح، فبينا نحن نقاتل أهل خيبر، فقاتلوا، حتى أرهقونا عن الصلاة، وكان قبيل غروب الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ قلوب هؤلاء القوم الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى وأجوافهم نارا= أو املأ قلوبهم نار = قال: فعرفنا يومئذ أنها الصلاة الوسطى. (١)
٥٤٢٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب: أن نبي الله ﷺ قال يوم الأحزاب: اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا= أو: كما حبسونا= عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! (٢)
(١) الحديث: ٥٤٢٨- هذا الحديث في معنى الحديث: ٥٤٢٣. ولكن هذه الرواية فيها شذوذ، في أن الحديث كان في غزوة خيبر. والروايات الصحاح كلها على أنه كان في غزوة الأحزاب. ولذلك أفردها السيوطي بالذكر ١: ٣٠٣، فقال: "وأخرج ابن جرير من وجه آخر عن زر... ". فلم ينسبها لغير الطبري، ولم أجد ما يؤيدها.
بل روى الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، من هذا الوجه، مثل سائر الروايات: فرواه من طريق زائدة بن قدامة، عن عاصم، عن زر، عن علي، وفيه: "قاتلنا الأحزاب". ثم روى من طريق سفيان، عن عاصم، عن زر، أنه كلف عبيدة سؤال علي، قال: "فذكر نحوه".
(٢) الحديث: ٥٤٢٩- يزيد: هو ابن زريع. وسعيد: هو ابن أبي عروبة. والحديث مضى: ٥٤٢٢، من رواية شعبة، عن قتادة.
ورواه أحمد في المسند: ٥٩١، عن محمد بن أبي عدي. و: ١١٣٤، عن عبد الوهاب، وهو ابن عطاء الخفاف، و: ١٣٠٧، عن محمد بن جعفر -ثلاثتهم عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة. ورواه أيضًا: ١٣١٣، عن بهز، و: ١٣٢٦، عن عفان- كلاهما عن همام، عن قتادة. ورواه الترمذي ٤: ٧٧، عن هناد، عن عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روى من غير وجه عن علي".
187
٥٤٣٠- حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا ثابت بن محمد قال، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله ﷺ عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس= أو: احمرت= فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله بيوتهم وقلوبهم نارا= أو حشا الله قلوبهم وبيوتهم نارا. (١)
٥٤٣١- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول قال، سمعت طلحة قال: صليت مع مرة في بيته فسها = أو قال: نسي = فقام قائما يحدثنا= وقد كان يعجبني أن أسمعه من ثقة= قال: لما كان يوم الخندق - يعني يوم الأحزاب - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم! شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا. (٢)
(١) الحديث: ٥٤٣٠- ثابت بن محمد، أبو إسماعيل الشيباني العابد: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ١ /٢ /١٧٠. وفي التهذيب كلمة موهمة، لعلها سبق قلم من الحافظ! قال: ذكره البخاري في الضعفاء، وأورد له حديثا وبين أن العلة من غيره"! والبخاري لم يذكره في الضعفاء، وإنما روى له حديثا -كما قال الحافظ- وبين أن العلة في غيره - فلا شأن له في ضعف الحديث إن كان ضعيفا. وهذه عادة للبخاري في كثير من التراجم.
والحديث مضى: ٥٤٢٠، ٥٤٢١، بإسنادين من طريق محمد بن طلحة. وانظر الحديث التالي لهذا.
(٢) الحديث: ٥٤٣١- هذا الحديث ضعيف من وجهين: أولهما: من جهة"سهل بن عامر البجلي"، وهو ضعيف جدا، كما بينا في: ١٩٧١، وثانيهما: من جهة إرساله. لأن مرة تابعي. مالك بن مغول -بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو- بن عاصم، البجلي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
طلحة: هو ابن مصرف اليامي، وهو تابعي ثقة باتفاقهم. قال ابن إدريس: "كانوا يسمونه سيد القراء".
وهذا الحديث في ذاته صحيح. مضى بثلاثة أسانيد صحاح، من رواية محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود: ٥٤٢٠، ٥٤٢١، ٥٤٣٠.
188
٥٤٣٢- حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن ابن عطاء، عن التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الوسطى صلاة العصر. (١)
٥٤٣٣- حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله ﷺ في غزاة له، فحبسه المشركون عن صلاة العصر حتى أمسى بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى! (٢)
(١) الحديث: ٥٤٣٢- أحمد بن منيع البغوي الأصم الحافظ -شيخ الطبري: ثقة، أخرج له الجماعة. عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق. وثقه ابن معين وغيره. ووقع في المطبوعة هنا: "عبد الوهاب عن ابن عطاء"! جعله راويين. وهو خطأ لا شك فيه.
التيمي: هو سليمان بن طرخان.
وهذا الحديث مضى موقوفا من كلام أبي هريرة: ٥٣٨٧، ٥٣٨٨، ٥٣٩٠. وهو هنا مرفوع بإسناد صحيح. والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة.
ورواه البيهقي ١: ٤٦٠، من طريق محمد بن عبيد الله بن المنادي: "حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سليمان التيمي... ".
ونقله ابن كثير ١: ٥٧٩، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٤٥، ونسبه للطبري.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٤، ونسبه للطبري والبيهقي.
(٢) الحديث: ٥٤٣٣- علي بن مسلم الطوسي -شيخ الطبري: مضت ترجمته في: ٤١٧٠. عباد بن العوام -بتشديد الباء والواو فيهما- الواسطي. ثقة، من شيوخ أحمد.
هلال بن خباب -بالخاء المعجمة وتشديد الباء- العبدي: ثقة مأمون. من شيوخ الثوري وأبي عوانة بينا في شرح المسند: ٢٣٠٣ أنه لم يختلط ولم يتغير، خلافا لمن قال ذلك.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٧٤٥، عن عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث، عن ثابت، وهو ابن يزيد الأحول، عن هلال، وهو ابن خباب، به.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، من طريق أبي عوانة، عن هلال بن خباب، به. نحوه. ثم رواه من طريق عباد، عن هلال.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٣٠٩. وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، والأوسط، ورجاله موثقون".
وذكره السيوطي ١: ٣٠٣-٣٠٤، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط.
وسيأتي عقب هذا: ٥٤٣٤، ٥٤٣٥، بنحوه، من رواية مقسم، عن ابن عباس.
189
٥٤٣٤- حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا إسحاق، عن عبد الواحد الموصلي قال، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال النبي ﷺ يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! (١)
٥٤٣٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: شغل الأحزاب
(١) الحديث: ٥٤٣٤- موسى بن سهل الرملي -شيخ الطبري: صدوق ثقة، كما قال ابن أبي حاتم ٤ /١ /١٤٦. ومضت رواية أخرى للطبري عنه: ٨٧٨.
إسحاق بن عبد الواحد الموصلي القرشي: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، وفي التهذيب أن أبا علي النيسابوري الحافظ قال فيه: "متروك الحديث" -فيما نقل ابن الجوزي. وجزم الذهبي في الميزان- دون دليل - بأنه واه. وفي التهذيب أن الخطيب روى خبرا باطلا، من طريق عبد الرحمن بن أحمد الموصلي، عن إسحاق -هذا- عن مالك، وقال الخطيب: "الحمل فيه على عبد الرحمن، وإسحاق بن عبد الواحد لا بأس به". وترجمه ابن أبي حاتم ١ /١ /٢٢٩، فلم يذكر فيه جرحا. وهذا دليل على توثيقه إياه.
ثم إن إسحاق لم ينفرد برواية هذا الحديث، فسيأتي -عقبه- من رواية عمرو بن عون، عن خالد.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "إسحاق، عن عبد الواحد الموصلي"، وهو خطأ.
خالد بن عبد الله: هو الطحان، مضت ترجمته في: ٤٤٣٣.
ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد بينا فيما مضى في الحديث: ٣٢ أنه صدوق سيئ الحفظ، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد سبق قبله بإسناد آخر صحيح عن ابن عباس. الحكم: هو ابن عتيبة، مضى في: ٣٢٩٧.
مقسم: هو ابن بجرة، مضى في: ٤٠٨٦.
وفي التهذيب عن أحمد -في ترجمة الحكم- أن الحكم لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث، عينها. وليس هذا منها، فعلى هذا فهو منقطع.
والحديث ذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٤٦، ونسبه لابن المنذر فقط.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٣، وزاد نسبته للطبراني في الكبير، ولكنه جعله"من طريق مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس". فلعل رواية سعيد بن جبير تكون عند الطبراني.
ثم وجدت رواية سعيد بن جبير عند الطحاوي، فرواه في معاني الآثار ١: ١٠٣، من طريق محمد ابن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن ابن أبي ليلى -وهو محمد والد عمران- عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وهذا إسناد جيد متصل. محمد بن عمران بن أبي ليلى، وأبوه: ثقتان. والحكم بن عتيبة: لم يختلف في سماعه من سعيد بن جبير، بل روايته عنه ثابتة في الصحيحين في غير هذا الحديث، كما في كتاب رجال الصحيحين، ص ١٠٠.
190
النبي ﷺ يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو أجوافهم نارا. (١)
٥٤٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن أحمد الحرشي الواسطي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني صدقة بن خالد قال، حدثني خالد بن دهقان، عن جابر بن سيلان، عن كهيل بن حرملة قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فقال: أنا أعلم لكم ذلك. فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر. (٢)
(١) الحديث: ٥٤٣٥- عمرو بن عون بن أوس الواسطي الحافظ: ثقة، أخرج له الجماعة. والحديث مكرر ما قبله.
(٢) الحديث: ٥٤٣٦- سليمان بن أحمد الجرشي الشامي، نزيل واسط: ضعيف، بل رماه بعضهم بالكذب، ولكنه لم ينفرد بهذا الحديث، كما سيجيء. وهو مترجم في الكبير ٢ /٢ /٤. وقال: "فيه نظر". وعند ابن أبي حاتم ٢ /١ /١٠١، وتاريخ بغداد ٩: ٤٩-٥٠، ولسان الميزان ٣: ٧٢. صدقة بن خالد الأموي الدمشقي: ثقة. وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم. وأخرج له البخاري في صحيحه.
خالد بن دهقان الدمشقي: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ٢ /١ /١٣٥، وقال: "سمع خالد سبلان، روى عنه صدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب". وبذلك ترجمه أيضًا ابن أبي حاتم ١ /٢ /٣٢٩. خالد سبلان: هو خالد بن عبد الله بن الفرج، أبو هاشم مولى بني عبس. وهو ثقة، وثقه أبو مسهر، كما نقل ابن عساكر، وترجمه البخاري في الكبير ٢ /١ /١٤١، قال: "خالد سبلان. عن كهيل بن حرملة الشامي. روى عنه خالد بن دهقان، وسمع منه سعيد بن عبد العزيز". ونحو ذلك عند ابن أبي حاتم ١ /٢ /٣٦٣، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٥: ٦٧ من تهذيبه للشيخ عبد القادر بدران)، وزاد أنه سمع معاوية وعمرو بن العاص.
"سبلان": بفتح السين المهملة والباء الموحدة وتخفيف اللام، كما ضبطه ابن ماكولا، فيما نقل عنه ابن عساكر، وكما في المشتبه للذهبي، ص: ٢٥٦. وهو لقب لخالد هذا، لقب به لعظم لحيته.
والبخاري وابن أبي حاتم لم يذكرا نسب خالد هذا، بل ترجمه البخاري في"باب السين" فيمن اسمه"خالد". وابن أبي حاتم ترجمه في باب"خالد" الذين لا ينسبون".
وإنما ذكر نسبه -الذي ذكرنا- ابن عساكر، وابن ماكولا في الإكمال، كما نقل عنه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش التاريخ الكبير وابن أبي حاتم. وذكره الذهبي في المشتبه باسم"خالد بن عبد الله". وذكر الحافظ في التهذيب ٣: ٨٧، في شيوخ"خالد بن دهقان"، باسم"خالد بن عبد الله سبلان". فيكون"سبلان" لقب خالد، كما بينا.
ووقع اسمه في المطبوعة هنا محرفا جدا: "جابر بن سيلان"!! وشتان هذا وذاك والراجح -عندي- أن هذا تحريف من الناسخين، لم يجدوا في التهذيب أو أحد فروعه. اسم"خالد سبلان"، ثم وجدوا ترجمة"جابر بن سيلان" (التهذيب ٢: ٤٠) فظنوه هو، وغيروه إلى ذلك. أو شيئا نحو هذا. وثبت اسمه على الصواب في ابن كثير، إذ نقله عن هذا الموضع من الطبري، ولكن زيد فيه"بن" بين الاسم واللقب. والظاهر أنه من تصرف الناسخين.
كهيل بن حرملة النميري: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ٤ /١ /٢٣٨، وقال: "سمع أبا هريرة. روى عنه خالد سبلان". ونحو ذلك في ابن أبي حاتم ٣ /٢ /١٧٣، ولم يذكرا فيه جرحا. وذكره ابن حبان في الثقات، ص: ٣١٨.
والحديث رواه ابن حبان في الثقات -في ترجمة كهيل- من طريق أبي مسهر، وهو عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي الثقة الثبت، عن صدقة بن خالد، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٣، من طريق أبي مسهر.
ورواه الحاكم في المستدرك ٣: ٦٣٨، من طريق العباس بن الوليد بن مزيد، وهو ثقة من شيوخ الطبري، مضت ترجمته: ٨٩١، عن محمد بن شعيب بن شابور، وهو أحد الثقات الكبار - عن خالد سبلان، بهذا الإسناد.
ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، بإسناده إلى خالد سبلان - في ترجمته، ولكن مختصره الشيخ عبد القادر بدران حذف الإسناد إليه.
ونقله ابن كثير ١: ٥٧٩، عن هذا الموضع. ثم قال: "غريب من هذا الوجه جدا".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٣٠٩، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، والبزار، وقال: لا نعلم روى أبو هاشم بن عتبة عن النبي ﷺ - إلا هذا الحديث وحديثا آخر. قلت [القائل الهيثمي] : ورجاله موثقون".
ونقله الحافظ في الفتح ٨: ١٤٥ - ١٤٦، ولم ينسبه لغير الطبري.
ونقله السيوطي ١: ٣٠٤، ونسبه لابن سعد، والبزار، وابن جرير، والطبراني، والبغوي في معجمه. ووهم الحافظ في الإصابة جدا، في ترجمة"أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس" راوي هذا الحديث ٧: ١٩٧ - ١٩٨، ونسبه لأبي داود، والترمذي، والنسائي، والبغوي، والحاكم أبي أحمد!! أما كتابا البغوي والحاكم أبي أحمد، فليسا عندي، ولا أستطيع أن أقول في نقله عنهما شيئا.
وأما السنن الثلاث، فأستطيع أن أجزم بأنه ليس في واحد منها، على اليقين من ذلك. ولذلك لم ينسبه الحافظ نفسه إليها في الفتح. ولذلك ذكره صاحب مجمع الزوائد، وهو الزوائد على الكتب الستة. ولذلك لم يذكره النابلسي في ذخائر المواريث في ترجمة"أبي هاشم بن عتبة". وقد نبهت إلى هذا الوهم، في شرحي للترمذي ١: ٣٤١ - ٣٤٢.
191
٥٤٣٧- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي، وحدثنا ابن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد = قالا جميعا، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة العبدي، عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية:"حافظوا
192
على الصلوات وصلاة العصر"، قال: فقرأناها على عهد رسول الله ﷺ ما شاء الله أن نقرأها. ثم إن الله نسخها فأنزل:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، قال: فقال رجل كان مع شقيق: فهي صلاة العصر! قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم. (١)
٥٤٣٨- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر ومحمد بن عبد الله الأنصاري= قالا جميعا، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، وحدثنا! بو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل، عن سعيد= عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي ﷺ قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (٢)
٥٤٣٩- حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة قال: أنبأنا رسول الله ﷺ أن الصلاة الوسطى هي العصر. (٣)
(١) الحديث: ٥٤٣٧- الحسين بن علي الصدائي -شيخ الطبري- وأبوه، مضيا في ٢٠٩٣. ابن إسحاق الأهوازي - شيخ الطبري بعد تحويل الإسناد: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى، مضى في: ١٨٤١.
أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي.
فضل بن مرزوق الأغر الكوفي: ثقة، وثقه الثوري، وابن معين، وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"فضيل بن مسروق"! وهو خطأ من الناسخين.
شقيق بن عقبة العبدي الكوفي: تابعي ثقة. وثقه أبو داود، وابن حبان.
والحديث رواه مسلم في صحيحه ١: ٧٥، عن إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم، عن فضيل بن مرزوق، به. ثم قال: "ورواه الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب".
فوهم صاحب التهذيب، في ترجمة"شقيق بن عقبة" ٤: ٣٦٣، فقال: "له في مسلم حديث واحد في الصلاة الوسطى، قال: وهو معلق... "، ثم ذكر كلام مسلم. وغفل عن أنه رواه متصلا قبل هذا التعليق مباشرة.
ورواه ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٨، من طريق مسلم.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٢، من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن فضيل بن مرزوق، به. ولكن وقع في نسخة الطحاوي: "محمد بن فضيل بن مرزوق"! وهو خطأ يقينا. ثم ليس في الرواة من يسمى بهذا.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨١، من طريق يحيى بن جعفر بن الزبرقان، عن أبي أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وعليهما في ذلك استدراك، أنه رواه مسلم، كما ذكرنا.
ورواه البيهقي ١: ٤٥٩، عن الحاكم، بإسناده.
ووقع في المستدرك المطبوع بياض في"أبو أحمد الزبيري". صححناه من البيهقي.
ثم ذكر البيهقي أنه رواه مسلم، ثم ذكر إشارة مسلم إلى الرواية المعلقة، رواية الأشجعي عن سفيان الثوري. ثم رواه البيهقي من طريق الأشجعي، بإسناده متصلا.
والحديث ذكره أيضًا الحافظ في الفتح ١: ١٤٧، عن صحيح مسلم.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٣، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه. ولكنه لم ينسبه للحاكم. وذكره ابن كثير ١: ٥٨٢، عن صحيح مسلم. ثم قال: "فعلى هذا تكون هذه التلاوة، وهي تلاوة الجادة - ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها، إن كانت الواو دالة على المغايرة. وإلا فلفظها فقط" وهذا فقه دقيق وبديع.
وقوله في متن الحديث: "فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" - هذا هو الصواب الموافق لسياق القول: "فقرأناها"، والموافق لسائر الروايات. ورسمت في المطبوعة"فقرأتها". وهو غير جيد. ولعلها رسمت الأصول المنقول عنها على الكتبة القديمة بدون ألف ولا نقط "فقراتها" -فظنها الناسخ تاء المتكلم، إذ لم يجد بعدها ألفا. فأثبتها بالتاء على ظنه ومعرفته.
(٢) الحديث: ٥٤٣٨- رواه الطبري عن ثلاثة من شيوخه: حميد بن مسعدة، ومحمد بن بشار، وأبي كريب محمد بن العلاء. فحميد رواه له عن شيخ واحد، وابن بشار عن شيخين، وأبو كريب عن ثلاثة شيوخ. وهؤلاء الستة: يزيد بن زريع، ومحمد بن بكر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وعبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر، وعبد الله بن إسماعيل - رووه جميعا عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة. يزيد بن زريع: مضت ترجمته في: ١٧٦٩.
محمد بن بكر بن عثمان البرساني - بضم الباء وسكون الراء: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما. وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري: ثقة من شيوخ أحمد، وابن المديني، والبخاري أخرج له الجماعة.
عبدة بن سليمان الكلابي: مضت ترجمته في: ٢٣٢٣.
محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي: مضى في: ٤٢٢٢.
عبد الله بن إسماعيل: كوفي، زعم أبو حاتم - فيما رواه عنه ابنه ٢ /٢ /٣: أنه مجهول، وجزم الحافظ المزي في الأطراف بأنه"عبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد"، كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب.
والحديث مضى: ٥٤١٧، من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة. وخرجناه هناك من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وهي هذه الطريق.
(٣) الحديث: ٥٤٣٩- عصام بن رواد بن الجراح، وأبوه: مضيا في: ٢١٨٣.
سعيد بن بشير الأزدي: مضى في: ١٢٦ أنه صدوق يتكلمون في حفظه، ولكن كان سفيان بن عيينة يصفه بأنه"كان حافظا". والظاهر أن الكلام فيه عن غير تثبت، فإنهم أنكروا كثرة ما روى عن قتادة. فروى ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: "قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير دمشقي شامي، كيف هذه الكثرة عن قتادة؟ قال: كان أبوه بشير شريكا لأبي عروبة، فأقدم بشير ابنه سعيدا بالبصرة يطلب الحديث مع سعيد بن أبي عروبة". فهذا هذا. فالإسناد إذن صحيح كالإسناد قبله.
193
٥٤٤٠- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة، عن النبي ﷺ قال، يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس= قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي. (١)
(١) الحديث: ٥٤٤٠- هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وسليمان: هو الأعمش.
وهذا الحديث -عن أم حبيبة- لم أجده في مصدر آخر، غير هذا الموضع من الطبري، بل لم أجد إشارة إليه قط، إلا فيما نقل ابن كثير ١: ٥٧٨، عن الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، أنه ذكر"أم حبيبة" فيمن حكي عنهم القول بأن الصلاة الوسطى هي العصر. وهذه إشارة أرجح أنها إشارة لهذا الحديث، دون تصريح.
وشتير بن شكل: تابعي قديم، كما قلنا في: ٥٤٢٤. ولكن التهذيب، حين ذكر الصحابة الذين روى عنهم (٤: ٣١١). قال: "وأم حبيبة، إن كان محفوظا"؛ فجهدت أن أعرف إلى أي حديث يشير؟ إلى هذا الحديث أم غيره؟
فوجدت أحمد قد روى في المسند: ٦: ٣٢٥ (حلبي)، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة: "أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم". وهذا إسناد كالشمس صحة.
ولكن رواه مسلم ١: ٣٠٥، وابن ماجه: ١٦٨٥، عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم -وهو أبو الضحى- عن شتير بن شكل، عن حفصة. ثم رواه مسلم -أعني حديث القبلة للصائم- من طريق أبي عوانة وجرير، كلاهما عن منصور، كذلك، أي من حديث حفصة.
ففهمت أن الإشارة بالتعليل"إن كان محفوظا"، هي لحديث القبلة للصائم، وأنهم رجحوا رواية ثلاثة: أبي معاوية عن الأعمش، وأبي عوانة وجرير عن منصور -في روايتهم ذاك الحديث من حديث حفصة- على رواية شعبة، في روايته إياه من حديث أم حبيبة! وهذا ترجيح تحكم، لا دليل عليه.
وشتير بن شكل: سمع عليا، وابن مسعود، وحفصة. وهم أقدم موتا من أم حبيبة. والمعاصرة -مع ثقة الراوي، وبراءته من تهمة التدليس- كافية في الحكم بوصل الحديث. ورواية التابعي حديثا عن صحابي، لا تنفي أبدا روايته إياه عن صحابي آخر، بل إن كلا من الروايتين تؤيد الأخرى، إلا أن يقوم دليل قوي على الخطأ في إحدى الروايتين.
ورواية شتير عن أم حبيبة -إن فرض وجود شبهة فيها في حديث القبلة للصائم- فإن روايته عنها هنا -في حديث الصلاة الوسطى- ترفع كل شبهة، وتدل على أن روايته عنها محفوظة.
ثم إن رواية ذاك الحديث، رواها محمد بن جعفر عن شعبة، ورواية هذا الحديث رواها محمد بن أبي عدي عن شعبة، وكلاهما لا يدفع عن الحفظ والإتقان والتثبت والمعرفة. وذاك من رواية شعبة عن منصور عن أبي الضحى، وهذا من روايته عن الأعمش عن أبي الضحى.
وقد استوثق الطبري -رحمه الله- من رواية هذا الحديث هنا، خشية أن يظن به الخطأ أو بشيخه، فحكى كلمة شيخه"ابن المثنى"، وهو: محمد بن المثنى أبو موسى الزمن الحافظ، إذ استوثق هو أيضًا مما قاله شيخه"ابن أبي عدي"، وهو: محمد بن إبراهيم بن أبي عدي - فقال: "قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي". وهذا احتياط دقيق، قصد به إلى رفع شبهة الخطأ أو التعليل، عن رواية شعبة هذه.
وشعبة بن الحجاج: أمير المؤمنين في الحديث، كما قال الثوري. والذي"كان أمة وحده في هذا الشأن"، كما قال أحمد -لا يدفع عن رواية يرويها، ولا يحكم عليه بالخطأ فيها، إلا أن يستبين ذلك عن دلائل قاطعة، أو كالقاطعة. ولا يكفي في تعليل روايته حديثي أم حبيبة- في قبلة الصائم والصلاة الوسطى - كلمة عابرة: "إن كان محفوظا"!! وشعبة الحافظ الحجة الثقة المأمون.
195
٥٤٤١- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، وهي العصر (١)
٥٤٤٢- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن سالم مولى أبي نصير قال، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال: يا فلان، اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله ﷺ في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله عن الصلاة الوسطى، فأخذ إصبعي الصغيرة فقال: هذه الفجر- وقبض التي تليها. وقال: هذه الظهر- ثم قبض الإبهام فقال: هذه المغرب- ثم قبض التي تليها ثم قال: هذه العشاء- ثم قال: أي أصابعك بقيت؟ فقلت: الوسطى: فقال: أي صلاة بقيت؟ قلت: العصر. قال: هي العصر. (٢)
(١) الحديث: ٥٤٤١- هذا الحديث مرسل. ولكن معناه صحيح، بما مضى من أحاديث صحاح.
(٢) الحديث: ٥٤٤٢- هذا إسناد مجهول - عندي على الأقل؟
فلست أدري من"عبد السلام" شيخ أبي أحمد؟ وفي هذا الاسم كثرة.
سالم مولى أبي نصير: هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وفي ابن كثير ١: ٥٧٩ - نقلا عن هذا الموضع: "مسلم مولى أبي جبير"! ولم أجد هذا ولا ذاك. بل لم أجده أيضًا في ترجمة"سلم"، لاحتمال التصحيف، بزيادة ميم في أوله، أو زيادة ألف بعد السين.
إبراهيم بن يزيد الدمشقي: مترجم في التهذيب، وأنه كان من حرس عمر بن عبد العزيز، وترجمه البخاري في الكبير ١ /١ /٣٣٥. وابن أبي حاتم ١ /١ /١٤٥، وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ونسبه: "النصري من أهل دمشق". (مختصر تاريخ ابن عساكر ٢: ٣١٠). وذكره ابن حبان في الثقات، كما في التهذيب.
ولو عرفنا مخرج هذا الحديث، وعرفنا الروايتين"عبد السلام" وشيخه، وكانا مقبولين -لكان الحديث جيدا: حسنا أو صحيحا، لأن الرجل الجالس عند عبد العزيز بن مروان، الذي حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون صحابيا، إذ يخبر أنه أرسله أبو بكر وعمر لسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما لا يرسلان لمثل هذا السؤال -إن شاء الله- إلا غلاما فاهما مميزا.
ويظهر لي أن الحافظ ابن كثير خفي عليه مخرجه، فوصفه بعد نقله عن الطبري، بأنه"غريب جدا".
ونقله أيضًا السيوطي ١: ٣٠٤، ولم يقل فيه شيئا، إلا نسبته للطبري.
وكذلك نقله الحافظ ابن حجر في الفتح ١: ١٤٦، عن الطبري - مختصرا.
196
٥٤٤٣- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن المشركين شغلوهم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس! ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا!
٥٤٤٤- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن أبي سلمة قال، حدثنا صدقة، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب، عن النبي ﷺ أنه قال يوم الأحزاب: اللهم املأ بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس. (١)
(١) الحديث: ٥٤٤٤- ابن البرقي: هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، مضى في: ٢٢، ١٦٠. عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي: ثقة، من شيوخ الشافعي. وله رواية بالموطأ عن مالك.
ووقع في المطبوعة هنا: "عمرو عن أبي سلمة"! وهو خطأ بين، من ناسخ أو طابع.
صدقة: هو ابن عبد الله السمين الدمشقي. وهو ضعيف جدا، كما قال أحمد. وقال مسلم: "منكر الحديث". وضعفه البخاري، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم.
سعيد: هو ابن أبي عروبة.
والحديث -وإن كان إسناده هذا ضعيفا- فقد مضى بإسناد صحيح: ٥٤٢٩، من رواية يزيد بن زريع، عن ابن أبي عروبة، به. وخرجناه هناك.
ومضى أيضًا: ٥٤٢٢، بإسناد آخر صحيح، من رواية شعبة، عن قتادة.
ومضى معناه من أوجه كثيرة عن علي، أشرنا إليها في: ٥٣٨٠.
197
٥٤٤٥- حدثني محمد بن عوف الطائي قال، حدثني محمد بن إسماعيل بن عياش قال، حدثنا أبي قال، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". (١)
* * *
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة الظهر.
* ذكر من قال ذلك:
٥٤٤٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال،
(١) الحديث: ٥٤٤٥- محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي -شيخ الطبري، حافظ ثقة، معروف بالتقدم والمعرفة. وهو من الرواة عن أحمد بن حنبل، له عنه مسائل. ومع ذلك فإن أحمد سمع منه حديثا، كما في تذكرة الحفاظ، في ترجمته ٢: ١٤٤ - ١٤٥، وهو مترجم أيضًا في التهذيب. مات سنة ٢٧٢.
محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي: ضعيف. قال أبو داود: "لم يكن بذاك، قد رأيته، ودخلت حمص غير مرة وهو حي، وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمه". والظاهر أنهم ضعفوه لروايته عن أبيه دون سماع، قال أبو حاتم: "لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث فحدث"! ومثل هذا جريء على الحديث، لا يوثق بروايته.
أبوه إسماعيل بن عياش الحمصي: ثقة، تكلم فيه بعضهم من أجل خطئه في بعض ما يروي عن غير الشاميين، أما أحاديثه عن أهل الشأم فمقبولة.
ضمضم بن زرعة بن ثوب -بضم الثاء المثلثة وفتح الواو وآخره باء موحدة- الحضرمي الحمصي: ثقة، وثقه ابن معين، وضعفه أبو حاتم، وترجمه البخاري في الكبير ٢ /٢ /٣٣٩، فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات.
شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي الحمصي: تابعي ثقة.
والحديث نقله ابن كثير ١: ٥٧٩، عن هذا الموضع. ثم قال: "إسناده لا بأس به".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد -ضمن حديث-وقال: "رواه الطبراني، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف".
وذكره السيوطي ١: ٣٠٤، ونسبه للطبري والطبراني.
198
حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (١)
٥٤٤٧- حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد، يعني ابن ثابت- مثله. (٢)
٥٤٤٨- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن زيد بن
(١) الخبر: ٥٤٤٦- إسناده صحيح. وهو موقوف من كلام زيد بن ثابت.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٩٩، عن ابن مرزوق، عن عفان، بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي ١: ٤٥٩، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، به.
ورواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٢، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد بن ثابت. فسقط من إسناده"ابن عمر" بين ابن المسيب وزيد. فإما أنه رواه هكذا، وإما أنه خطأ من الناسخين؟
وسيأتي هذا المعنى من أوجه مختلفة، عن زيد بن ثابت: ٥٤٤٧، ٥٤٤٨، ٥٤٤٩، ٥٤٥٠، ٥٤٥٢، ٥٤٥٣، ٥٤٥٤، ٥٤٥٨، ٥٤٥٩، ٥٤٦٠.
(٢) الخبر: ٥٤٤٧- محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي - بضم الميم وفتح الخاء وكسر الراء المشددة: ثقة حافظ حجة. مضى في: ٣٧٣٠. مترجم في تاريخ بغداد ٥: ٤٢٣-٤٢٥، وتذكرة الحفاظ ٢: ٩٢-٩٣. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة"المخزومي". وهو خطأ.
أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
والخبر مكرر ما قبله. وإسناده صحيح أيضًا.
وقد ذكره ابن كثير ١: ٥٧٧، مع الذي قبله، دون نسبة.
وذكرهما السيوطي، وزاد نسبتهما لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف.
ثم قال السيوطي: "وأخرج مالك، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جررير، وابن المنذر، من طرق، عن زيد بن ثابت، قال: "الصلاة الوسطى صلاة الظهر".
وهذا يصلح إشارة إلى كثير من الروايات الآتية عن زيد بن ثابت.
ورواية مالك، هي في الموطأ ص: ١٣٩، عن داود بن الحصين، عن ابن يربوع المخزومي، سمع زيد بن ثابت.
ورواية عبد الرزاق، هي في المصنف ١: ١٨٢، عن مالك، به.
199
ثابت قال: الصلاة الوسطى الظهر. (١)
٥٤٤٩- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة= قال، أخبرني عمر بن سليمان -من ولد عمر بن الخطاب- قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، يحدث عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر. (٢)
٥٤٥٠- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عمر بن سليمان= هكذا قال أبو زائدة=، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت في حديثه، رفعه -: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (٣)
(١) الخبر: ٥٤٤٨- حفص: هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب. وهو تابعي ثقة مجمع عليه. والخبر مكرر ما قبله. وإسناده صحيح كذلك.
(٢) الخبر: ٥٤٤٩- إسناده صحيح.
عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب: ثقة، وثقه ابن معين، والنسائي، وغيرهما. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ /١ /١١٢، وروي عن ابن معين أنه وصفه بأنه"صاحب حديث زيد بن ثابت"، وفي التهذيب أنه"قيل في اسمه: عمرو". وهو ثابت باسم"عمرو" في رواية الدارمي والطحاوي، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان: ثقة عابد، قليل الحديث، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات.
أبوه أبان بن عثمان: ثقة من كبار التابعين. وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة.
وهذا الخبر موقوف أيضًا على زيد بن ثابت، كالأخبار الثلاثة قبله.
وذكره ابن كثير ١: ٥٧٧، قال: "وقال أبو داود الطيالسي، وغيره، عن شعبة... "، فساقه بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٩٩، من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، عن"عمرو بن سليمان"، به فسمى شيخ شعبة في هذه الرواية"عمرا". وسيأتي عقب هذا روايته مرفوعا. وهو -عندي- وهم ممن فهم أنه مرفوع.
(٣) الحديث: ٥٤٥٠- إسناده صحيح، إلا أن في رفعه علة، سنذكرها إن شاء الله.
زكريا بن يحيى: مضت ترجمته في: ١٢١٩.
عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث العنبري.
"عمر بن سليمان": مضت ترجمته في الخبر الذي قبل هذا. وهكذا ثبت في المطبوعة! فلا يكون هناك معنى لقول الطبري: "هكذا قال أبو زائدة" - يعني شيخه زكريا بن يحيى، إذ لا اختلاف في اسمه بين هذه الرواية وتلك. ووقع في المخطوطة: "عمر بن سلمان". فتكون المغايرة بين الروايتين واقعة. ولكني أرجح أن كليهما خطأ، إذ لم يذكر قول في اسمه أنه"عمر بن سلمان". والراجح -عندي- أن الصواب في هذا الإسناد"عمرو بن سليمان". وهو القول الثاني في اسمه عند بعض الرواة، كما ذكرنا. وقوله في هذه الرواية: "في حديثه رفعه" -يعني أن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل لفظ"الصلاة الوسطى صلاة العصر"- من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك نقل السيوطي ١: ٣٠٢، "وأخرج ابن جرير في تهذيبه، من طريق عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، في حديث يرفعه... ". ولعله لم يره في تفسير الطبري، فنقله عن كتابه"التهذيب". ولفظ السيوطي الذي نقله: "في حديث" -أجود من اللفظ الثابت هنا: "في حديثه". بل الظاهر أن هذه محرفة من الناسخين.
وعندي أن ادعاء رفع الحديث وهم ممن قاله: اختصر حديثا مطولا، فأوهم وظن أن كلمة في آخره مرفوعة. وهي واضحة في أصل الحديث أنها موقوفة.
فقد رواه أحمد في المسند ٥: ١٨٣ (حلبي) -مطولا- عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، بهذا الإسناد إلى أبان بن عثمان: "أن زيد بن ثابت خرج من عند مروان نحوا من نصف النهار، فقلنا: ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل، سألنا عن أشياء، سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله ﷺ يقول: نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه... " فذكر حديثا مطولا مرفوعا، ثم قال في آخره: "وسألنا عن الصلاة الوسطى، وهي الظهر". فهذا ظاهر واضح أن مروان سأل زيدا عن الصلاة الوسطى فأجابه، لم يذكره في الحديث المرفوع، ولا وصله به.
ورواه الدارمي ١: ٧٥، عن عصمة بن الفضل، عن حرمى -بفتح الحاء والراء- بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن سليمان، بهذا الإسناد، نحو رواية المسند، مطولا. وفي آخره بعد سياق الحديث المرفوع: "قال: وسألته عن صلاة الوسطى، فقال: هي الظهر". فسمى شيخ شعبة في هذه الطريق"عمرا".
والظاهر من سياق هذه الرواية أن أبان بن عثمان هو الذي سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى. والأمر في هذا قريب. أما الأمر البعيد، والذي لا يدل عليه سياق الكلام في الروايتين: رواية أحمد، ورواية الدارمي -فهو الزعم بأن"الصلاة الوسطى" مرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو وهم -كما قلنا- ممن اختصر الحديث، فأخذ آخره دون أن يتأمل سياق القول ومعناه. والقسم المرفوع المطول من هذا الحديث -رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: ٦٦ بتحقيقنا، من طريق يحيى بن سعيد -شيخ أحمد فيه- وطوى أيضًا الكلمة الموقوفة. وقد خرجناه هناك.
ويؤيد ما قلنا: أن زيد بن ثابت إنما قال هذا استنباطا، كما سيأتي: ٥٤٥٩، ٥٤٦٠. ولو كان هذا عنده مرفوعا لما جاوزه إلى الاستنباط، إن شاء الله.
200
٥٤٥١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد: أن سعيد بن المسيب
201
حدثه أنه كان قاعدا هو وعروة بن الزبير وإبراهيم بن طلحة، فقال سعيد بن المسيب: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الصلاة الوسطى هي الظهر. فمر علينا عبد الله بن عمر، فقال عروة: أرسلوا إلى ابن عمر فاسألوه. فأرسلوا إليه غلاما فسأله، ثم جاءنا الرسول فقال: يقول: هي صلاة الظهر. فشككنا في قول الغلام، فقمنا جميعا فذهبنا إلى ابن عمر، فسألناه فقال: هي صلاة الظهر. (١)
٥٤٥٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب قال، حدثني رجل من الأنصار، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: هي الظهر. (٢)
٥٤٥٣- حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن أبي ذئب= وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا ابن أبي ذئب=، عن
(١) الخبر: ٥٤٥١- عبد الله بن يزيد: هو المقرئ. مضت ترجمته في: ٣١٨٠. زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام التيمي: تابعي ثقة، قال ابن أبي حاتم ١ /٢ / ٦١٥"أدرك ابن عمر، ولا أدري سمع منه أم لا؟ " وتعقبه الحافظ في التهذيب، بالجزم بأنه سمع منه، وأن في البخاري ما يدل على ذلك.
إبراهيم بن طلحة: لم أتبين من هو؟ وليس له رواية في الخبر، ولا شأن في الإسناد، إنما كان أحد حاضري المجلس.
والخبر رواه البيهقي ١: ٤٥٨-٤٥٩، من طريق محمد بن سنان البصري، عن عبد الله بن يزيد، به.
وسيأتي: ٥٤٥٧، من طريق نافع، عن زهرة بن معبد، بنحوه.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٢، ونسبه للبيهقي، وابن عساكر فقط.
وهذا الخبر على صحة إسناده - فيه أن أبا سعيد الخدري وعبد الله بن عمر يريان أن الصلاة الوسطى هي الظهر.
وقد مضى عن أبي سعيد بإسناد صحيح أيضًا: ٥٣٩٢، أنها العصر.
وكذلك مضى عن ابن عمر بإسنادين صحيحين: ٥٣٨٩، ٥٣٩١، أنه يرى أنها العصر.
وأبو سعيد وابن عمر ممن اختلفت الرواية عنهما في ذلك على القولين. ذلك أنهما لم يرويا فيه حديثا مرفوعا يكون حجة عليهما، إنما اجتهدا واستنبطا ما استطاعا، وانظر ابن كثير ١: ٥٧٧.
(٢) الخبر: ٥٤٥٢- العوام -بتشديد الواو- بن حوشب بن يزيد الشيباني: ثقة مجمع عليه. يروي عن كبار التابعين. ولكنه هنا روى عن رجل مجهول، صار به الإسناد ضعيفا.
202
الزبرقان بن عمرو، عن زيد بن ثابت قال، الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (١)
٥٤٥٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن زيد بن ثابت أنه قال: الصلاة الوسطى: هي صلاة الظهر. (٢)
٥٤٥٥- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان قال، حدثني عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن الصلاة الوسطى قال: هي التي على أثر الضحى. (٣)
٥٤٥٦- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد: أن سلمة بن أبي مريم حدثه: أن نفرا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال له: هي التي على أثر صلاة الضحى. فقالوا له: ارجع واسأله، فما زادنا إلا عياء بها!! فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح مولى عبد الله بن عمر، فأرسلوا إليه أيضا فقال: هي التي توجه فيها رسول الله ﷺ إلى القبلة. (٤)
(١) الخبر: ٥٤٥٣- هذا الخبر مختصر. وسيأتي مطولا: ٥٤٦٠، من هذا الوجه، من رواية ابن أبي ذئب، عن الزبرقان.
(٢) الخبر: ٥٤٥٤- الحجاج: هو ابن المنهال. وحماد: يحتمل أن يكون ابن زيد، وأن يكون ابن سلمة.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم. ونافع: هو مولى ابن عمر. وأخشى أن تكون روايته عن زيد بن ثابت مرسلة. فما أظنه أدرك طبقته من الصحابة. وقد نص ابن أبي حاتم على أن روايته عن حفصة وعائشة مرسلة.
(٣) الخبر: ٥٤٥٥- ابن أبي مريم: هو سعيد بن أبي مريم، وهو سعيد بن الحكم، مضت ترجمته في: ٣٨٧٧.
نافع بن يزيد الكلاعي المصري: ثقة مأمون، ثبت في الحديث، لا يختلف فيه.
الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان: تابعي ثقة. وقد حققنا ترجمته في شرح المسند: ٥٧٢١.
وهذا الخبر مختصر. وسيأتي عقبه مطولا، عن تابعي آخر، غير عبد الله بن دينار.
(٤) الخبر: ٥٤٥٦- مسلم بن أبي مريم، واسم أبيه: يسار، السلولي المدني: تابعي ثقة، روى عنه شعبة، ومالك، وابن جريج، والليث، وغيرهم. ووقع في المخطوطة والمطبوعة اسمه"سلمة" بدل"مسلم"، وهو خطأ من الناسخين. وليس في التراجم من يسمى بهذا.
والخبر رواه -بنحوه- الطحاوي ١: ٩٩، من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، عن موسى بن ربيعة، عن الوليد بن أبي الوليد المديني، عن عبد الرحمن بن أفلح: "أن نفرا من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر... "، فذكر معناه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٣٠٩ مختصرا، بنحوه. قال: "وعن عبد الرحمن بن أفلح: أن نفرا من الصحابة أرسلوني إلى ابن عمر، يسألونه عن الصلاة الوسطى. فقال: كنا نتحدث أنها الصلاة التي وجه فيها رسول الله ﷺ إلى القبلة، الظهر". وقال: "رواه الطبراني، ورجاله موثقون". ونقله السيوطي بنحوه ١: ٣٠١ أكثر اختصارا من هذا، ونسبه للطبراني في الأوسط"بسند رجاله ثقات". فروايتا الطحاوي والطبراني تؤيدان رواية ابن جرير هذه، لأنها عن"عبد الرحمن بن أفلح" الذي أرسله هؤلاء النفر من قريش يسأل ابن عمر.
وموسى بن ربيعة المصري: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم ٤ /١ /١٤٢ - ١٤٣. وقال: "سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: كان يكون بمصر، وهو ثقة لا بأس به". ولم أجد له ترجمة عند غيره.
والوليد بن أبي الوليد، كما سمع الخبر من مسلم بن أبي مريم، سمعه أيضًا من الرسول الذي أرسله النفر من قريش إلى ابن عمر.
و"عبد الرحمن بن أفلح": مترجم في ابن أبي حاتم ٢ /٢ /٢١٠: "عبد الرحمن بن أفلح مولى أبي أيوب. وهو أخو كثير بن أفلح. روى عن... روى عنه أبو النضر حديث العزلة. سمعت أبي يقول ذلك". وموضع النقط بياض في أصل كتاب ابن أبي حاتم وقال مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني: "في الثقات: عن أم ولد أبي أيوب".
وترجمه ابن سعد ٥: ٢٢٠، هكذا: "عبد الرحمن بن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري. وهو رضيع الخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري. وسمع من عبد الله بن عمر بن الخطاب".
ولم أجد له ترجمة غير ذلك، فهو هو الذي في هذا الخبر.
ولعل بعض الرواة وهم في جعله"مولى عبد الله بن عمر".
وقوله"إلا عياء بها": يقال"عي بالأمر عيا (بالكسر) وعياء": جهله وأشكل عليه أمره. وفي الحديث: "شفاء العي السؤال". وذكر المصدر الثاني (عياء) في المعيار للشيرازي.
203
٥٤٥٧- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، حدثني زهرة بن معبد قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه كان قاعدا هو وعروة وإبراهيم بن طلحة، فقال له سعيد: سمعت أبا سعيد يقول: إن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى. فمر علينا ابن عمر، فقال عروة: أرسلوا إليه فاسألوه. فسأله الغلام فقال: هي الظهر. فشككنا في قول الغلام، فقمنا إليه جميعا فسألناه، فقال: هي الظهر. (١)
(١) الخبر: ٥٤٥٧- نافع في هذا الإسناد: هو نافه بن يزيد، الذي ترجمنا له في: ٥٤٥٥. وهذا إسناد صحيح. والخبر مختصر من الخبر الماضي: ٥٤٥١، من رواية حيوة وابن لهيعة، عن زهرة بن معبد.
204
٥٤٥٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر، عن عبد الرحمن بن قيس، عن ابن أبي رافع، عن أبيه - وكان مولى لحفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت لي: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرأنيها. فلما أتيت على هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، أتيتها فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر، إن حفصة قالت كذا وكذا!! قال: هو كما قالت، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في غنمنا ونواضحنا! (١)
* * *
(١) الحديث: ٥٤٥٨- عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق، أخرج له الجماعة.
أبو عامر: هو الخزاز -بمعجمات- واسمه: صالح بن رستم، وهو ثقة، وثقه الطيالسي، وأبو داود، وغيرهما.
عبد الرحمن بن قيس العتكي، أبو روح البصري: ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما، وترجمه ابن أبي حاتم ٢ /٢ /٢٧٧-٢٧٨ ترجمتين: ١٣٢٠، ١٣٢١، وهما واحد، ولم يذكر فيه جرحا.
"ابن أبي نافع عن أبيه": لم أعرف من"ابن أبي رافع" هذا؟ ولم أجد له ترجمة، إلا أنه ذكر في التهذيب هكذا، في ترجمة عبد الرحمن بن قيس العتكي، في شيوخه الذين روى عنهم.
ويحتمل جدا أن يكون ابنا لعمرو بن رافع، الذي سيأتي ذكره في شرح: ٥٤٦٣.
وفي إسناد: ٥٤٦٤. وهذا الحديث مجهول الإسناد، كما ترى. وسيأتي بهذا الإسناد واللفظ: ٥٤٧٠، إلا حرفا واحدا، سنذكره.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٢، بنحوه مختصرا قليلا، قال: "أخرج عبد الرزاق، والبخاري في تاريخه وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف عن أبي رافع مولى حفصة... ".
فأما ابن جرير، فهذه روايته. وأما البخاري في التاريخ، فلم أعرف موضعه منه. وأما عبد الرزاق وابن أبي داود -فلم أجد عندهما من رواية أبي رافع- على اليقين عندي من ذلك. فلا أدري كيف هذا؟!
وهو حديث مرفوع، لقول حفصة: "حتى أملها عليك كما أقرأنيها". وفي الرواية الآتية: "كما أقرئتها"، بالنباء لما لم يسم فاعله. والذي يقرئ حفصة وتأخذ عنه القرآن، هو زوجها المنزل عليه الكتاب، صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي تصريحها بذلك، في: ٥٤٦٢، ٥٤٦٣، ٥٤٦٥.
وقولها"أملها": هكذا ثبت في المخطوطة. وفي المطبوعة"أمليها". وكلاهما صحيح، يقال: "أمللت الكتاب، وأمليته". وكلاهما نزل به القرآن: (فليملل وليه بالعدل). من"أمللت". و: (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)، من"أمليت". قال الفراء: "أمللت: لغة أهل الحجاز وبني أسد. وأمليت: لغة بني تميم وقيس".
قوله: "فلقيت أبي بن كعب، أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر" - إلخ: شك الراوي في أيهما لقي، ثم رجح أنه أبي بن كعب، إذ أن كنيته: "أبو المنذر"، وأما زيد فكنيته: "أبو سعيد" ويقال: "أبو خارجة".
النواضح: جمع"ناضح"، وهو من الإبل: ما يستقى عليه الماء. ونضح زرعه: سقا بالدلو. يعني: أنهم في شغل بسقي نخيلهم على النواضح من إبلهم.
205
وعلة من قال ذلك، ما: -
٥٤٥٩- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن أبي حكيم قال: سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله ﷺ يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي ﷺ منها، قال: فنزلت:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى". وقال:"إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين". (١)
(١) الحديث: ٥٤٥٩- عمرو بن أبي حكيم: هو عمرو بن كردي، أبو سعيد الواسطي، وهو ثقة، وثقه أبو داود، والنسائي، وغيرهما. ورواية شعبة عنه أمارة توثيقه عنده أيضًا.
الزبرقان: هو ابن عمرو بن أمية الضمري، بذلك جزم ابن سعد ٥: ١٨٤، ذكره بعد"جعفر ابن عمرو"، بأنه"لم يفرق البخاري فمن بعده بينهما، إلا ابن حبان، ذكر هذا في ترجمة مفردة عن الذي يوي عنه كليب بن صبح"، ثم أنحى على ابن حبان لما فعل. وهذا عجب من العجب! فإن البخاري أفرد ترجمة"زبرقان، عن عمرو بن أمية، روى عنه كليب. ولكنهما فرقا بينهما، فما أدري ما الذي أنكره احافظ على ابن حبان؟!
والزبرقان بن عمرو، هذا: ثقة.
والحديث رواه أحمد في المسند ٥: ١٨٣، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به.
ورواه أبو داود: ٤١١، عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد.
ورواه البخاري في الكبير - في ترجمة الزبرقان، عن إسحاق. عن عبد الصمد، عن شعبة، به، موجزا كعادته.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٩٩، من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، به.
وكذلك رواه البيهقي ١: ٤٥٨، من طريق عمرو بن مرزوق.
وذكره ابن كثير ١: ٥٧٧، عن رواية المسنج. ثم أشار إلى رواية أبي داود.
وذكره السيوطي ١: ٣٠١، وزاد نسبته للروياني، وأبي يعلى، والطبراني.
وهذه أسانيد صحاح.
وسيأتي عقب هذا، مطولا، غير موصول الإسناد.
206
٥٤٦٠- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان قال: إن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت فأرسلوا إليه رجلين يسألانه عن الصلاة الوسطى. فقال زيد: هي الظهر. فقام رجلان منهم فأتيا أسامة بن زيد فسألاه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر. إن رسول الله ﷺ كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، الناس يكونون في قائلتهم وفي تجارتهم، فقال رسول الله:"لقد هممت أن أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة بيوتهم! قال: فنزلت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى". (١)
* * *
وكان آخرون يقرءون ذلك:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر".
* ذكر من كان يقول ذلك كذلك:
(١) الحديث: ٥٤٦٠- هو مطول للحديث قبله، ولكنه هنا منقطع، كما سنذكر.
ورواه أحمد في المسند ٥: ٢٠٦ (حلبي)، عن يزيد - وهو ابن هرون، عن ابن أبي ذئب، به، ولكن في روايته زيادة في أوله: "مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العص. فقام إليه رجلان منهم فسألاه، فقال: هي الظهر".
ففي رواية أحمد أن زيد بن ثابت قال للغلامين: هي العصر. وأنه قال للرجلين اللذين قاما إليه: هي الظهر. وقد حذف من رواية الطبري هنا سؤال الغلامين وجواب زيد بأنها العصر. وهذه الزيادة ثابتة أيضًا في ابن كثير ١: ٥٧٧، في نقله الحديث من مسند أحمد.
ولم أجدها في شيء من مصادر هذا الحديث غير ذلك.
ووقع في المسند"حدثنا يزيد بن أبي ذئب، عن الزبرقان"! وهو تخليط من الناسخين، ثبت أيضًا في مخطوطة المسند (م) ! فليس في الرواة من هذا اسمه. والحديث حدي"يزيد بن هرون"، عن"ابن أبي ذئب"، كما دلت عليه رواية الطبري هنا.
وزادت نسخة ابن كثير تخليطا إلى تخليط. في النقل عن المسند: "حدثنا يزيد بن أبي وهب، عن الزبرقان"!! ولسنا ندري، أهو من الناسخين أم من المطبعة؟!
والحديث رواه أيضًا الطحاوي في معاني الآثار ١: ٩٩، عن الربيع بن سليمان المرادي، عن خالد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان. ولكنه مختصر، حذف منه ذكر أسامة بن زيد، وجعل قوله: "إن رسول الله ﷺ كان يصلي الظهر بالهجير... " -إلى آخر الحديث- من كلام زيد بن ثابت، لا من كلام أسامة، ولعل هذا الاختصار سهو من بعض الرواة.
فقد أشار البخاري إليه من طريق ابن أبي ذئب، كعادته في الإيجاز، وأثبت أنه عن زيد وأسامة، فذكره في ترجمة الزبرقان ٢ /١ /٣٩٧، قال:
"وقال هشام: حدثنا صدقة، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثنا زبرقان الضمري، عن زيد وأسامة- نحوه". يعني نحو حديث قبله سنذكره.
ثم قال حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، قال حدثنا زبرقان الضمري- نحوه".
ثم قال: "ورواه يحيى بن أبي بكير، عن ابن أبي ذئب نحوه".
فرواية أسامة بن زيد ثابتة في هذا الحديث من هذا الوجه، في كل الروايات، فحذفها وهم.
وكذلك هي ثابتة في مصادر أخر. فقد ذكره السيوطي كاملا ١: ٣٠١، ونسبه لأحمد، وابن منيع والنسائي، وابن جرير، والشاشي، والضياء.
وروى الطيالسي، نحوه، مختصرا: ٦٢٨، عن أبي ذئب، عن الزبرقان، عن زهرة، قال"كنا جلوسا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد، فسألوه عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي: الظهر، كان رسول الله ﷺ يصليها بالهجير".
وكذلك رواه البيهقي ١: ٤٥٨، من طريق الطيالسي.
وذكره البخاري في الكبير ٢ /١ /٣٩٦-٦٩٧، عن أبي داود، وهو الطيالسي، به.
ونقله ابن كثير ١: ٥٧٧، من مسند الطيالسي.
والحديث المطول الذي هنا منقطع الإسناد كما قلنا. ودل على انقطاعه: الإسناد قبله، الذي فيه رواية الزبرقان عن عروة، ورواية الطيالسي، التي فيها روايته عن زهرة.
ولذلك قال ابن كثير -بعد نقله إياه من رواية مسند الإمام أحمد: "والزبرقان: هو ابن عمرو بن أمية الضمري، لم يدرك أحدا من الصحابة. والصحيح ما تقدم من روايته عن زهر بن معبد، وعروة. ابن الزبير".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٣٠٨-٣٠٩، "رواه أحمد، ورجاله موثقون، إلا أن الزبرقان لم يسمع من أسامة بن زيد بن ثابت".
ومما يجدر التنبيه إليه: أن السيوطي نسبه للنسائي -كما ذكرنا- ولكني لم أجده في النسائي. وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه النسائي. وقال الشيخ في الأطاف: ليس في السماع، ولم يذكره أبو القاسم". يريد أن الحافظ المزي قال ذلك، فلعله ثابت في رواية بعض الرواة لسنن النسائي دون بعض.
الهاجرة، والهجير: نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، وهو حينئذ أشد الحر.
والقائلة: الظهيرة، نصف النهار. والقيلولة: نومة نصف النهار، قال يقيل. وتسمى القيلولة"القائلة" أيضًا. وهو المراد هنا.
207
٥٤٦١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
208
شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم بن عبد الله: أن حفصة أمرت إنسانا فكتب مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني. فلما بلغ آذنها، فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (١)
٥٤٦٢- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله ﷺ يقرؤها. فلما بلغها، أمرته فكتبها:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا الله قانتين"= قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه"الواو". (٢)
(١) الخبر: ٥٤٦١- أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية، مضت ترجمت في: ٣٣٤٨.
عبد الله بن يزيد الأزدي". ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم ٢ /٢ /٢٠٠٠، فلم يذكر فيه جرحا، ونسبه: "الأزدي أو الأزدي".
والخبر رواه ابن أبي داود في المصاحف- ص: ٨٥، عن محمد بن بشار -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد، وفيه بعد قوله: "الأزدي"-: "قال ابن أبي داود: وبعضهم يقول: الأودي".
ونقله ابن كثير ١: ٥٨١، عن ذا الموضع من الطبري.
وقد مضى هذا الخبر مختصرا: ٥٤٠٥، من رواية هشيم، عن أبي بشر، عن سالم، وظهر من هذه الرواية انقطاع ذاك الإسناد، إذ سقط منه"عبد الله بن يزيد" بين أبي بشر وسالم.
(٢) الحديث: ٥٤٦٢- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت تجمت في: ٢٠٣٩. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم.
والحديث رواه ابن أبي داود، ص: ٨٦، عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، وهو القفي، بذا الإسناد. ولفظه في آخره: "قال نافع: فقرأت ذلك في المصحف، فوجدت الواوات"! هكذا ثبت فيه، وأخشى أن يكون من تخليط المستشرق ناشر الكتاب.
ورواه البيهقي ١: ٤٦٢، بنحوه، من طريق عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله، به، وفي آخره: "قال نافع: فرأيت الواو معلقة".
قال البيهقي: "وهذا مسند، إلا أن فيه إرسالا من جهة نافع، ثم أكده بما أخبر عن رؤيته".
ونقله ابن كثير ١: ٥٨١، عن هذا الموضع من الطبري.
وقد مضى نحو هذا الحديث: ٥٤٠٦، من رواية حماد بن سلمة، عن عبيد الله. وبينا هناك انقطاعه بين نافع وحفصة، وسيأتي عقب هذا بنحو، من طريق حماد بن سلمة أيضًا.
209
٥٤٦٣- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى آمرك ما سمعت من رسول الله ﷺ يقول. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (١)
(١) الحديث: ٥٤٦٣- هو تكرار للذي قبله، بنحوه، إلا أن في هذا التصريح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل الرواية الماضية: ٥٤٠٦، من طريق حماد بن سلمة أيضًا، وهو منقطع بين نافع وحفصة، كسابقيه.
وهذه الروايات الثلاث المنقطعة بين نافع وحفصة: ٥٤٠٦، ٥٤٦٢، ٥٤٦٣- هي في حقيقتها متصلة، إذ عرفنا الواسطة بينهما، وهو"عمرو بن رافع" مولى عمر، أو مولى حفصة بنت عمر. وهو الذي كتب لها المصحف المذكور في هذه الروايات:
فروى نحوه الطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٢، من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، قال: "حدثني أبو جعفر محمد بن علي، ونافع مولى عبد الله بن عمر، أن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما: أنه كان يكتب المصاحف عى عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال: استكتبتني حفصة بنت عمر زوج النبي ﷺ مصحفا، وقالت لي: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني، فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها، فقالت: اكتب: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: ٨٦، من طريق محمد بن إسحاق. بهذا الإسناد، نحوه.
وكذلك رواه البيهقي ١: ٤٦٢ - ٤٦٣، بإسناده من طريق ابن إسحاق، إلا أن في روايته"عمر بن رافع" بدل"عمرو"، وكأنه في كلامه يشير إلى أن هذا خطأ من ابن إسحاق. وهو في هذا واهم، فإن روايتي الطحاوي وابن أبي داود من طريق ابن إسحاق - فيما"عمرو" على الصواب. فالخطأ هو ممن دون ابن إسحاق عنده.
وإسناد الحديث من هذا الوجه صحيح.
أبو جعفر محمد بن علي: هو الباقر، محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب، وهو تابعي ثقة مجمع عليه.
عمرو بن رافع مولى عمر: تابعي ثقة. ترجمه ابن سعد في الطبقات ٥: ٢٢٠، وابن أبي حاتم ٣ /١ /٢٣٢، ووثقه ابن حبان. وقال السيوطي في رجال الموطأ: "ليست له رواية في الكتب الستة، ولا مسند أحمد". وفي التهذيب أن البخاري ذكره فقال: "قال بعضهم: عمر بن رافع، ولا يصح. وقال بعضهم: أبو رافع". وقال بعضهم أيضًا: "عمرو بن نافع". وهي ثابتة في رواية ابن أبي داود. والراجح الصحيح: "عمرو بن رافع"، لثبوته كذلك في روايات أخر لهذا الحديث مرفوعا وموقوفا، ومنها الروايتان الآتيان عقب هذه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٠"عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب". وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات".
وذكره السيوطي ١: ٣٠٢، وزاد نسبته لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف. وروى مالك في الموطأ، نحو هذا الحديث، ص: ١٣٩، موقوفا على حفصة - عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع.
وكذلك رواه الطحاوي ١: ١٠٢، وابن أبي داود. ص: ٨٦-٨٧، والبيهقي ١: ١٦٢ - كلهم من طريق مالك، به.
210
٥٤٦٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو سلمة، عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان مكتوبا في مصحف حفصة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". (١)
٥٤٦٥- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبي وشعيب، عن الليث قال، حدثنا خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد، عن عمرو بن رافع قال: دعتني حفصة فكتبت لها مصحفا فقالت: إذا بلغت آية الصلاة فأخبرني. فلما كتبت:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قالت:"وصلاة العصر"، أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢)
(١) الخبر: ٥٤٦٤- هذا إسناد صحيح. وهو مختصر مما قبله.
وكذلك رواه الطحاوي ١: ١٠٢، مختصرا، من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، به. ورواه ابن أبي داود، ص: ٨٧، من طريق يزيد، وهو ابن هارون، عن محمد بن عمرو، مطولا. ورواية ابن أبي داود: "وصلاة العصر"، كرواية الطبري هنا. وأما رواية الطحاوي ففيها: "وهي صلاة العصر".
وانظر ٥٤٥٨، ٥٤٧٠.
(٢) الحديث ٥٤٦٥- خالد بن يزيد الجمحي الإسكندراني المصري. أبو عبد الحيم: ثقة، قال ابن يونس: "كان فقيها مفتيا"، ووثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما.
ابن أبي هلال: هو سعيد بن أبي هلال الليثي المصري، مضت ترجمته في: ١٤٩٥.
زيد: هو ابن أسلم العدوي، الفقيه المدني، وهو تابعي ثقة. روى عنه مالك، وابن جرير، والثوري وغيرهم.
عمرو بن رافع: مضت ترجمته في شرح: ٥٤٦٣.
ووقع هنا في المخطوطة: "عن أبي هلال، عن زيد بن عمر بن رافع". وهو تخليط من الناسخ.
والحديث مضى معناه مرارا، وخرجناه مفصلا.
211
٥٤٦٦- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث قال، أخبرني خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة مثل ذلك.
٥٤٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد، عن زيد بن أسلم: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة مثل ذلك. (١)
(١) الحديثان: ٥٤٦٦، ٥٤٦٧- أولهما منقطع بين زيد بن أسلم وأبي يونس، ثم هو مرسل، لم تذكر فيه. والثاني منقطع، ولكن فيه"عن عائشة".
وهما حديث واحد، وحقيقته أنه متصل صحيح.
فرواه مالك في الموطأ، ص: ١٣٨-١٣٩، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، قال: "أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين). فلما بلغتها آذنتها، فأملت على: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه أحمد في المسند ٦: ٧٣ (حلبي)، عن إسحاق، وهو ابن عيسى الطباع، عن مالك، به.
ونقله ابن كثير ١: ٥٨٠، عن رواية أحمد في هذا الموضع.
ورواه أحمد أيضًا ٦: ١٧٨ (حلبي)، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي، عن مالك. وكذلك رواه مسلم ١: ١٧٤-١٧٥، وأبو داود: ٤١٠، والترمذي ٤: ٧٦، والنسائي ١: ٨٢-٨٣، والطحاوي في معاني الآثار ١: ١٠٢، وابن أبي داود في المصاحف، ص: ٨٤، والبيهقي ١: ٤٦٢ - كلهم من طريق مالك.
وذكره ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٤، من رواية مالك.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٢، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف.
ورواه ابن أبي داود أيضًا، ص: ٨٣-٨٤، بنحوه، عن محمد بن إسماعيل الأحمسي، عن جعفر ابن عون، عن هشام، وهو ابن سعد، عن زيد، عن أبي يونس - فذكره كرواية مالك، ولكن ليس قولها أنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا أيضًا إسناد صحيح، رواته ثقات.
212
٥٤٦٨- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قالا أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمير بن مريم، عن ابن عباس:" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (١)
- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: كان عبيد بن عمير يقرأ:"وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين".
٥٤٧٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر، عن عبد الرحمن بن قيس، عن ابن أبي رافع، عن أبيه - وكان مولى حفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرئتها. فلما أتيت على هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، أتيتها فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر"، فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت فقلت: يا أبا المنذر،
(١) الخبر: ٥٤٦٨- هبيرة، بضم الهاء وفتح الباء الموحدة، بن يريم، بفتح الياء التحتية في أوله وكسر الراء بعدها تحتية ساكنة: مضت ترجمته: ٣٠٠١. ووقع اسمه هنا في المخطوطة والمطبوعة"عمير بن مريم". وهو خطأ. ووقع في المحلى -في رواية هذا الخبر- مرتين"عمير بن يريم"، ولم نعرف صوابه حين كتبنا التعليق على المحلى، فذكرنا أقوالا فيما يحتمل من التصويب، كلها تكلف. ثم استبان الصواب من رواية البيهقي هذا الخبر، كما سيأتي.
والخبر رواه البيهقي ١: ٤٦٣، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق -وهو السبيعي- عن هبيرة بن يريم، عن ابن عباس، ولم يذكر لفظه.
وذكره ابن حزم في المحلى ٤: ٢٥٤، تعليقا - عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به، بلفظ: "وصلاة العصر".
ثم ذكره ٤: ٢٥٥، تعليقا أيضًا - عن وكيع، عن شعبة، به بلفظ: "صلاة العصر"، وقال: "هكذا بلا واو".
ورواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: ٧٧، عن محمد بن بشار، عن محمد [وهو ابن جعفر]، عن شعبة، به، بلفظ: "وصلاة العصر". ووقع في الإسناد أيضًا "عمير بن يريم". وصوابه: "هبيرة"، كما قلنا آنفًا.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٣، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. ووقع أيضًا: "عمير بن مريم".
213
إن حفصه قالت كذا وكذا. قال: هو كما قالت! أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في نواضحنا وغنمنا؟ (١)
* * *
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
٥٤٧١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن إسحاق بن أبي فروة، عن رجل عن قبيصة بن ذؤيب قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله ﷺ لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها؟ (٢)
* * *
قال أبو جعفر: ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله:"الوسطى" إلى معنى: التوسط الذي يكون صفة للشيء، يكون عدلا بين الأمرين، كالرجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطا طوله ولا قصيرة قامته، ولذلك قال:"ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها".
* * *
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى التي عناها الله بقوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، هي صلاة الغداة.
* ذكر من قال ذلك:
٥٤٧٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال، حدثنا
(١) الحديث: ٥٤٧٠- مضى بهذا الإسناد: ٥٤٥٨، وفصلنا القول فيه هناك. وثبت هنا في المطبوعة، كما ثبت هناك"أمليها" -بدل"أملها". وانظر أيضًا: ٥٤٦٤، ٥٤٦٥.
(٢) الحديث: ٥٤٧١- هذا إسناد منهار، لا شيء!
عبد السلام: هو ابن حرب، وهو ثقة. مضى في: ١١٨٤.
إسحاق بن أبي فروة: هو إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني، وهو ضعيف جدا. قال ابن معين: "كذاب". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث". وقال البخاري: "تركوه". وقال أيضًا: "نهى أحمد بن حنبل عن حديثه".
ثم رواه إسحاق -على ضعفه- عن رجل مبهم فزاده ضعفا، مما جعله"عن قبيصة بن ذؤيب"، مرسلا، فضاعف ضعفه.
وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي: تابعي كبير ثقة، من علماء هذه الأمة وفقهائها، ولكن أنى يصل هذا الإسناد إليه؟!
وهذا الحديث نقله السيوطي ١: ٣٠٥، ولم ينسبه لغير الطبري.
ونقل ابن كثير ١: ٥٨٢، والحافظ في الفتح ٨: ١٤٧ - القول بأنها المغرب، عن قبيصة بن ذؤيب، نقلا عن رواية الطبري وحده! وما كان لهما أن ينسباه إليه مع انهيار إسناده! فالقول لا ينسب لعالم إلا أن يثبت عنه. وهذا لم يثبت عن قبيصة.
214
قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: الصلاة الوسطى صلاة الفجر. (١)
٥٤٧٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي رجاء قال: صليت مع ابن عباس الغداه في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله:
(١) الخبر: ٥٤٧٢- صالح أبو الخليل: هو صالح بن أبي مريم الضبعي، كنيته: أبو الخليل. مضى في: ١٨٩٩، ٣٣٤٣. ووقع في المطبوعة: "صالح بن الخليل". وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
والخبر رواه الطحاوي ١: ١٠١، عن ابن مرزوق، عن عفان، بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي ١: ٤٦١، من طريق إبراهيم بن مروزق، عن عفان، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي ١: ٣٠١، ولم ينسبه لغير الطبري والبيهقي.
ورواه النسائي ١: ١٠٢ في حديث مطول، رواه عن أبي عاصم، عن حبان بن هلال، عن حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: "أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى. وهي صلاة الوسطى".
فالحديث مرفوع، إلا بيان أنها صلاة الوسطى، فإنه موقوف على ابن عباس من كلامه، كما هو ظاهر.
وهذا إسناد صحيح. حبان بن هلال الباهلي: ثقة. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". و"حبان" في هذا: بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة.
حبيب: هو ابن أبي حبيب الأنماطي الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء. وهو ثقة/ لينه بعضهم دون حجة. وذكر البخاري في الكبير ١ /٢ /٣١٣ في ترجمته، عن حبان، قال"حدثنا حبيب بن أبي حبيب الجرمي، ثقة". ولم يذكر فيه جرحا.
عمرو بن هرم الأزدي البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم وغيرهم.
جابر بن زيد: هو أبو الشعثاء الأزدي البصري، وهو تابعي ثقة عالم مشهور، مجمع عليه.
215
"وقوموا لله قانتين".
٥٤٧٤- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس، فذكر نحوه.
٥٤٧٥- حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا شريك، عن عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الفجر، فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين.
٥٤٧٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن أبي رجاء قال: صلى بنا ابن عباس الفجر، فلما فرغ قال: إن الله قال في كتابه:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، فهذه الصلاة الوسطى.
٥٤٧٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان، يعني ابن معاوية -، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس نحوه. (١)
٥٤٧٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف،
(١) الأخبار: ٥٤٧٣-٥٤٧٧، كلها بمعنى، وكلها من رواية عوف، وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، عن أبي رجاء، وهو العطاردي.
وعوف بن أبي جميلة: مضى في: ٢٩٠٥.
وأبو رجاء العطاردي: هو عمران بن ملحان، وهو تابعي قديم مخضرم، ثقة. أخرج له الجماعة. عمر عمرا طويلا، أزيد من ١٢٠سنة.
وعباد بن يعقوب الرواجني الأسدي -شيخ الطبري في الإسناد (٥٤٧٥) -: ثقة في الحديث، شيعي في الرأي. روى عنه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وغيرهم.
والخبر رواه الطحاوي ١: ١٠١، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عوف به.
ورواه البيهقي ١: ٤٦١، من طريق عمرو بن حبيب، عن عوف، به.
ونقله ابن كثير ١: ٥٧٦، عن روايات الطبري هذه.
وذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٤٦، عن الطبري.
وذكره السيوطي ١: ٣٠١، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن الأنباري في المصاحف، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
وهو في مصنف عبد الرزاق ١: ٨٣، مختصرا، عن جعفر بن سليمان، وهو الضبعي، عن عوف. والخبر بالإسنادين الأولين: ٥٤٧٣، ٥٤٧٤ سيأتي بهما مجموعين في سياق واحد: ٥٥٣٣.
216
عن أبي المنهال، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أنه صلى الغداة في مسجد البصرة، فقنت قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكر الله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين". (١)
٥٤٧٩- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا المهاجر، عن أبي العالية قال: سألت ابن عباس بالبصرة ها هنا، وإن فخذه لعلى فخذي، فقلت: يا أبا فلان، أرأيتك صلاة الوسطى التي ذكر الله في القرآن، ألا تحدثني أي صلاة هي؟ قال: وذلك حين انصرفوا من صلاة الغداة، فقال: أليس قد صليت المغرب والعشاء الآخرة؟ قال قلت: بلى! قال: ثم صليت هذه؟ قال: ثم تصلي الأولى والعصر؟ قال قلت: بلى! قال: فهي هذه. (٢)
٥٤٨٠- حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر صلاة الغداة، قال: فقلت لرجل من أصحاب النبي ﷺ إلى جنبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذا الصلاة. (٣)
(١) الخبر: ٥٤٧٨- هذا إسناد صحيح. عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي.
أبو المنهال: هو سيار بن سلامة الرياحي البصري. وهو ثقة معروف، أخرج له الجماعة.
أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي البصري. مضى في: ١٨٤، ١٧٨٣.
والخبر نقله ابن كثير ١: ٥٧٦، عن هذا الموضع.
وكذلك نقله السيوطي ١: ٣٠١.
وأشار الحافظ في الفتح ٨: ١٤٦، إلى هذا الخبر مع الأخبار الثلاثة بعده - إشارة واحدة.
(٢) الخبر: ٥٤٧٩- وهذا إسناد صحيح.
المهاجر: هو ابن مخلد، أبو مخلد، مولى البكرات. وهو ثقة، لينه بعضهم. وترجمه البخاري في الكبير ٤ /١ /٣٨١، فلم يذكر فيه جرحا.
وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير ولا السيوطي، إنما أشار إليه الحافظ في الفتح مع الذي قبله واللذين بعده، كما قلنا آنفًا.
(٣) الخبر: ٥٤٨٠- الربيع بن أنس البكري الخراساني: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير ٢ /١ /٢٤٨، وابن سعد ٧ /٢ /١٠٢-١٠٣، وابن أبي حاتم ١ /٢ / ٤٥٤.
عبد الله بن قيس، الذي صلى خلفه أبو العالية: هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. كما بين ذلك في رواية الطحاوي هذا الخبر.
وهذا الخبر رواه أبو العالية عن رجل من الصحابة لم يذكر اسمه. وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف عند أهل العلم بالحديث.
ورواه الطحاوي ١: ١٠١، من طريق أبي داود، عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير ١: ٥٧٦، عن هذا الموضع من الطبري.
وكذلك ذكره السيوطي ١: ٣٠١، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن الأنباري.
وإسناده صحيح، وسيأتي بنحوه: ٥٤٨٢ بإسناد ضعيف.
217
٥٤٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عوف، عن خلاس بن عمرو، عن ابن عباس: أنه صلى الفجر فقنت قبل الركوع، ورفع إصبعيه وقال: هذه الصلاة الوسطى. (١)
٥٤٨٢- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: أنه صلى مع أصحاب رسول الله ﷺ صلاة الغداة، فلما أن فرغوا قال، قلت لهم: أيتهن الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي صليتها قبل. (٢)
٥٤٨٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن
(١) الخبر: ٥٤٨١- خلاس بن عمرو: مضى في: ٥٣١٤. وهذا إسناد صحيح.
والخبر ذكره ابن كثير ١: ٥٧٦، موجزا منسوبا لابن جرير. ولم يذكره السيوطي.
(٢) الخبر: ٥٤٨٢- هو في معنى الخبر: ٥٤٨٠، ولكن هذا ضعيف الإسناد لإبهام الشيخ الذي روى عنه الطبري.
وذكره ابن كثير ١: ٥٧٦، فقال: "وروى من طريق أخرى عن البيع... ". يعني هذه الرواية.
ومع هذا فإن مخرج الخبر معروف بإسناد صحيح، غير هذا الذي جهله الطبري.
فرواه عبد الرزاق في المصنف ١: ١٨٣، "عبد أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: صلينا مع أصحاب رسول الله ﷺ صلاة الغداة، فلما فرغنا قلت: أي صلاة صلاة الوسطى؟ قال: التي صليت الآن".
فلا يضر بعد جهالة شيخ الطبري، لأن عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي -والد ابن أبي جعفر- مباشرة.
وأبو جعفر: مضت ترجمته في: ١٦٤.
ولذلك ذكر السيوطي ١: ٣٠١ هذا الخبر، نسبه لعبد الرزاق، وابن جرير.
218
بشير، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. (١)
٥٤٨٤- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: كان عطاء يرى أن الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
٥٤٨٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة في قوله:" والصلاة الوسطى"، قال: صلاة الغداة.
٥٤٨٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: الصبح.
٥٤٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٤٨٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
٥٤٨٩- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره قال:"حافظوا على الصلوات
(١) الخبر: ٥٤٨٣- إسناده صحيح.
ابن عثمة: هو محمد بن خالد، و"عثمة" أمه. مضى في: ٩٠، ٥٣١٤.
والخبر نقله ابن كثير ١: ٥٧٦، عن هذا الموضع.
وذكره السيوطي ١: ٣٠١، ولم ينسبه لغير الطبري.
219
والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، بمعنى: وقوموا لله فيها قانتين. قال: فلا صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت سوى صلاة الصبح، فعلم بذلك أنها هي دون غيرها.
* * *
وقال آخرون: هي إحدى الصلوات الخمس، ولا نعرفها بعينها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٤٩٠- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد قال: كنا عند نافع، ومعنا رجاء بن حيوة، فقال لنا رجاء: سلوا نافعا عن الصلاة الوسطى. فسألناه، فقال: قد سأل عنها عبد الله بن عمر رجل فقال: هي فيهن، فحافظوا عليهن كلهن. (١)
٥٤٩١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن قيس بن الربيع، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة قال: سألت الربيع بن خثيم عن الصلاة الوسطى، قال: أرأيت إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قلت: لا! فقالا فإنك إن حافظت عليهن فقد حافظت عليها. (٢)
(١) الخبر: ٥٤٩٠- وهذا إسناد صحيح. هشام بن سعد المدني: ثقة. تكلم فيه بعضهم من جهة حفظه. وترجمه البخاري في الكبير ٤ /٢ /٢٠٠، فلم يذكر فيه جرحا. وقال: "سمع نافعا".
والخبر ذكره السيوطي ١: ٣٠٠، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
وذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٤٧، وأنه أخرجه ابن أبي حاتم"بإسناد حسن، عن نافع". وأنه"آخر ما صححه ابن أبي حاتم".
وأشار ابن كثير ١: ٥٨٢، إلى روايته عند ابن أبي حاتم فقط. ثم قال: "وفي صحته نظر. والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري، إمام ما وراء البحر [يعني الأندلس]. وإنها لإحدى الكبر؛ إذا اختار مع اطلاعه وحفظه، ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر"!!
هكذا قال ابن كثير. والظاهر من سياق هذا الخبر: أن ابن عمر يريد الحض على المحافظة على الصلوات كلها، لا أنه يريد أنها غير معينة. وقد صح عنه تعيينها في قولين: العصر، والظهر. انظر ما مضى: ٥٣٨٩، ٥٣٩١، ٥٤٥١، ٥٤٥٥.
ولا معنى للإنكار على ابن عبد البر، فإنه لم ينفرد بذلك. وقد اختاره أيضًا إمام الحرمين من الشافعية، كما ذكر الحافظ في الفتح ٨: ١٤٧.
(٢) الخبر: ٥٤٩١- نسير بن ذعلوق أبو طعمة: تابعي ثقة. وثقه ابن معين وغيره.
"نسير": بضم النون وفتح السين المهملة، و"ذعلوق": بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة وضم اللام، "أبو طعمة": بضم الطاء وسكون العين المهملتين، وهي كنية"نسير".
ووقع اسم في المخطوطة"سير" بدون النون. وهو خطأ. ووقع فيها وفي المطبوعة: "بن ذعلوق، عن أبي فطيمة"! وهو خطأ سخيف. فليس في الرواة من يسمى بهذا. بل هو: "عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة" ذكر باسمه ونسبه وكنيته. فأخطأ الناسخون، فحرفوا"طعمة" إلى"فطيمة"؛ ثم زادوا الخطأ تخليطا، فزادوا بين الرجل وكنيته حرف"عن".
ونسير معروف بالرواية عن الربيع بن خثيم، وهو الذي سأله.
الربيع بن خثيم: مضى في: ١٤٣٠. ووقع في المطبوعة هنا"خيثم"، كما وقع فيها هناك. وهو خطأ صوابه"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء التحتية. وثبت على الصواب في المخطوطة.
وهذا القول عن الربيع بن خثيم، نقله عنه أيضًا الحافظ في الفتح ٨: ١٤٧، وذكر أنه قال به أيضًا: سعيد بن جبير وشريح القاضي.
220
٥٤٩٢- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ فيه هكذا= يعني مختلفين في الصلاة الوسطى= وشبك بين أصابعه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ التي ذكرناها قبل في تأويله: وهو أنها العصر.
والذي حث الله تعالى ذكره عليه من ذلك، نظير الذي روي عن رسول الله ﷺ في الحث عليه. كما: -
٥٤٩٣- حدثني به أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن عبد الله بن هبيرة النسائي= قال:
(١) الخبر: ٥٤٩٢- إسناده صحيح جدا.
والخبر نقله ابن كثير ١: ٥٨٣، عن هذا الموضع.
وكذلك نقله الحافظ في الفتح ٨: ١٤٧، عن ابن جرير، وقال: "بإسناد صحيح".
ونقله السيوطي ١: ٣٠٠، ولم ينسبه لغير الطبري.
221
وكان ثقة=، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة العصر، فلما انصرف قال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فتوانوا فيها وتركوها، فمن صلاها منكم أضعف أجره ضعفين، ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد= والشاهد: النجم. (١)
٥٤٩٤- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خير بن نعيم، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني: أن أبا بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة العصر بالمخمص فقال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فضيعوها وتركوها، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجرها مرتين. (٢)
* * *
وقال صلى الله عليه وسلم:"بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من فاتته العصر حبط عمله".
(١) الحديث: ٥٤٩٣- أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة، ولكن رواية الطبري عنه ثابتة في تاريخه مرارا.
يعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
يزيد بن أبي حبيب المصري: مضت ترجمته في: ٤٣٤٨.
خير بن نعيم بن مرة الحضرمي المصري، قاضي مصر: ثقة. قال يزيد بن أبي حبيب: "ما أدركت من قضاة مصر، ص: ٣٤٨-٣٥٢.
"خير": بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء التحتية، وكتب في المخطوطة -في هذه الرواية والتي بعدها- غير منقوط. وكتب في المطبوعة -في الموضعين-"جبر"، وهو تصحيف.
عبد الله بن هبيرة السبائي: مضت ترجمته في: ١٩١٤. و"السبائي"! بفتح السين المهملة والباء الموحدة ثم همزة مقصورة، نسبة إلى"سبأ بن يشجب". ووقع في المطبوعة"النسائي"! وهو تصحيف جاهل.
أبو تميم الجيشاني: هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم الجيشاني الرعييني المصري، وأصله من اليمن. وهو من كبار التابعين، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة معروف. وترجم له الحافظ في الإصابة، في الكنى ٧: ٢٥، وأحال على موضعه في الأسماء ولكنه لم يذكره حيث أشار!
"الجيشاني": بفتح الجيم وسكون الياء التحتية ثم شين معجمة، نسبة إلى"جيشان": قبيل كبير من اليمن.
أبو بصرة الغفاري: صحابي معروف، روى عنه بعض الصحابة وبعض التابعين. واختلف في اسمه: والراجح الذي جزم به البخاري في الكبير ٢ /١ /١١٤ أنه"حميل -بضم الحاء المهملة- بن بصرة". وكذلك هو في التهذيب، وذكره ابن أبي حاتم ١ /١ /٥١٧ في حرف الجيم، في اسم"جميل". وترجمه الحافظ في الإصابة، في الكنى ٧: ٢٠.
و"بصرة": بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة. ووقع في المخطوطة -في هذا الحديث والذي بعده-"نصرة". في المطبوعة في الموضعين"نضرة". وكلاما خطأ وتصحيف، وهذا التصحيف في كنيته قديم. وقع فيه الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق، (المصنف ١: ١٨٣). وقال أبو سعيد راويه عن الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق، (المصنف ١: ١٨٣). وقال أبو سعيد راويه عن الدبري: "هكذا قال الدبري: أبو نصرة، بالصاد والنون في أصله وكذا قال الدبري. والصواب: "أبو بصرة".
والحديث رواه أحمد في المسند ٦ ٣٩٦-٣٩٧، عن يعقوب، وهو ابن إبراهيم بن سعد، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم ١: ٢٢٨، عن زهير بن حرب، عن يعقوب، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على الرواية التي قبله، وهي التالية لهذا هنا.
ورواه أحمد أيضًا ٦: ٣٩٧، عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، بهذا الإسناد، نحوه.
وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر.
وقوله هنا وفي الرواية الآتية: "فرضت على من كان قبلكم" - في رواية المسند عن يعقوب: "عرضت"، بدل"فرضت". وكذلك في روايته عن يحيى بن إسحاق. وكذلك في سائر الروايات التي سنذكر في الحديث التالي، وأنا أرجح أن ما هنا تحريف من الناسخين.
(٢) الحديث: ٥٤٩٤- علي بن داود بن يزيد التميمي القنطري، شيخ الطبري: ثقة، وثقه الخطيب وغيره. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد ١١: ٤٢٤ - ٤٢٥.
عبد الله بن صالح: هو أبو صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته في: ١٨٦.
والحديث رواه أحمد ٦: ٣٩٧ (حلبي)، عن يحيى بن إسحاق، عن ليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية ابن لهيعة قبله.
ورواه مسلم ١: ٢٢٨، عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، به - وساق لفظه.
ورواه البيهقي ١: ٤٤٨، من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، به.
ورواه النسائي ١: ٩٠، عن قتيبة، كرواية مسلم عن قتيبة نفسه. ولكن وقع في طبعتي النسائي بمصر خطأ في الإسناد، ففيهما: "الليث عن خالد بن نعيم الحضرمي، عن ابن جبيرة"! والظاهر أنه خطأ قديم من بعض الناسخين، إذ ثبت الخطأ نفسه في مخطوطة الشيخ عابد السندي، ولكن ثبت الإسناد على الصواب في نسخة النسائي المطبوعة في الهند سنة ١٢٩٦، ص: ٩٢. ولم يقع هذا الخطأ للحفاظ الذين ترجموا لرواة الكتب الستة، إذن لأشاروا إليه. ولم يفعلوا.
ونقله ابن كثير ١: ٥٨٠، من رواية المسند من طريق ابن لهيعة. ثم أشار إلى روايتي مسلم والنسائي ووقع فيه هناك تحيف مطبعي كثير.
وذكره السيوطي ١: ٢٩٩، ونسبه لمسلم، والنسائي، والبيهقي.
"المخمص": بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الميم الثانية مفتوحة وآخره صاد مهملة. وهو طريق في جبل عير إلى مكة، كما قال ياقوت. واختلف في ضبطه: فضبط بالقلم في ياقوت بفتحة فوق الميم وسكون على الخاء وكسرة تحت الميم الثانية، ولم ينص ياقوت بالكتابة على ضبطه. وقال الفيروزبادي"والمخمص، كمنزل: اسم طريق". ونقل شارحه الزبيدي أن الصاغاني ضبطه"كمقعد". وبهذا ضبطه البكري في معجم ما استعجم، ص: ١١٩٧، وقال: "موضع في ديار بني كنانة". فالظاهر من هذا أنه غير الذي في هذا الحديث.
والعبرة هنا بالرواية المتلقاة عن الثقات الأثبات حفاظ السنة. فالذي ضبطناه به هو الثابت في نسخ مسلم المعتمدة الموثقه، مثل مخطوطة الشطي التي عندي، ومثل طبعة الآستانة ٢: ٢٠٨. ويؤيد هذا ويوكده ضبطه فيه ضبط رواية ولغة، لا ضبط لغة فقط. وهو الذروة العليا في الإتقان.
ووقع في مطبوعة الطبري هنا بدله"بالمغمس"، بالغين المعجمة والسين. وهو اسم موضع آخر، ولكنه غير الذي في هذه الرواية. فالظاهر أنه تصحيف أو تحريف من الناسخين.
222
٥٤٩٥- حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، [عن الأوزاعي، عن يحيى بن كثير] عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (١)
(١) الحديث: ٥٤٩٥- وقع هذا الإسناد ناقصا راويين في المخطوطة والمطبوعة. وقد اضطررت لزيادتهما بين قوسين: [عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير]، حتى يستقيم الإسناد.
فأما أولا: فإن وكيعا وأيوب بن سويد لم يدركا أن يرويا عن أبي قلابة، وكلاهما يروي عن الأوزاعي.
وأما ثانيا: فإن هذا الحديث حديث الأوزاعي، عرف به، وعرف أنه خالف غيره في إسناده ومتنه. ونص على ذلك الأئمة.
وأما ثالثا: فإن تخريجه إنما هو على هذا النحو، كما سيأتي في التخريج، إن شاء الله.
وقد رواه أبو جعفر هنا من طريقين: رواه عن أبي كريب عن وكيع، ورواه عن محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم عن أيوب بن سويد - ثم يجتمع الإسنادان. فيرويه وكيع وأيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة.
وأيوب بن سويد الرملي، أبو مسعود السيباني: ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال البخاري في الكبير ١ /١ / ٤١٧: "يتكلمون فيه". وقد قلت في شرح الحديث ٧٠٠٠ من المسند، ج١١ ص٢٠٤: "عندي أن أعدل ما قيل فيه، ما نقل الحافظ في التهذيب عن ابن حبان في الثقات، قال: كان رديء الحفظ، يخطئ، يتقي حديثه من رواية ابنه محمد بن أيوب عنه، لأن أخباره إذا سبرت من غير رواية ابنه عنه، وجد أكرها مستقيمة".
ثم هو لم ينفرد هنا برواية هذا الحديث، بل رواه معه وكيع. ووكيع هو وكيع.
و"السيباني"، بفتح السين المهملة: نسبة إلى"سيبان"، بطن من حمير.
وأبو المهاجر: تابعي، كما هو ظاهر من الإسناد. ولم يقولوا فيه شيئا، إلا أن الأوزاعي ذكره هكذا في الإسناد، وأن المحفوظ: "عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بريدة". كما سيأتي.
والحديث -من هذا الوجه- رواه أحمد في المسند ٥: ٣٦١ (حلبي)، عن وكيع: "حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، قال: كما معه في غزاة، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: بكروا بالصلاة في اليوم الغنيم، فإنه من فاته صلاة العصر فقد حبط عمله".
وكذلك رواه ابن ماجه: ٦٩٤، من طريق الوليد بن مسلم: "حدنا الأوزاعي، حدثني يحيى ابن أبي كير، عن أبي قلابة... " فذكره بنحوه.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبري ١: ٤٤٤، من طريق عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الأوزاعي، بهذا الإسناد، نحوه.
وأما الرواية التي خالفها الأوزاعي:
فهي ما روى البخاري ٢: ٢٦ (فتح)، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام -وهو الدستوائي-: "أخبرنا يحيى بن أبي كير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، قال: كنا مع بريدة في غزوة، في يوم ذي غنيم، فقال: بكروا بصلاة العصر، فإن النبي ﷺ قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
ثم رواه البخاري مرة أخرى ٢: ٥٣ (فتح)، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن يحيى، بهذا الإسناد نحوه. وقد جعل البخاري عنوان الباب لهذا الحديث: "باب التبكير بالصلاة في يوم غيم". وهذا يدل على أنه لا يرى ضعف رواية الأوزاعي، وإن لم تكن على شرطه، وهذه عادته. ولذلك قال الحافظ: "من عادة البخاري أن يترجم ببعض ما اشتمل عليه ألفاظ الحديث، ولو لم يوردها، بل ولو لم يكن على شرطه.
وقال الحافظ في الموضع الأول: "وتابع هشاما على هذا الإسناد عن يحيى بن أبي كير-: شيبان، ومعمر، وحديثهما عند أحمد. وخالفهم الأوزاعي، فرواه عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة. والأول هو المحفوظ. وخالفهم أيضًا في سياق المتن".
يعني لأن الأوزاعي جعل الأمر بالتبكير في صلاة الغيم، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآخرون جعلوه من كلام بريدة. وأن المرفوع هو: "من فاتته العصر فقد حبط عمله".
وأنا أميل إلى صحة الروايتين، إذ هما من مخرجين: فأحد الروايين سمع الصحابي يقوله من عند نفسه، والآخر يقوله مرفوعا. ومثل هذا كثير.
وقد وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا، حين ذكر رواية الأوزاعي ١: ٥٨٠، وقال إنها"في الصحيح"! فإن رواية الأوزاعي لم يروها من أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. والرواية الأخرى -رواية هشام الدستوائي- لم يروها منهم إلا البخاري والنسائي. ووقع في نسخة ابن كثير خطأ في الإسناد. نرجح أنه من الناسخين.
ورواية هشام الدستوائي، رواها أيضًا أحمد في المسند ٥: ٣٤٩-٣٥٠، ٣٥٧، ٣٦٠ (حلبي) ورواه النسائي ١: ٨٣، والبيهقي ١: ٤٤٤.
ورواية شيبان، ومعمر، عن يحيى بن أبي كثير، اللتين أشار الحافظ إلى أنهما عند أحمد - ما في المسند ٥: ٣٥٠، ٣٦٠ (حلبي).
وذكر السيوطي ١: ٢٩٩ آخره المرفوع في الروايتين، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
224
* * *
225
وقال صلى الله عليه وسلم:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". (١)
* * *
٥٤٩٧- وقال صلى الله عليه وسلم:"من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يلج النار" (٢).
* * *
فحث ﷺ على المحافظة عليها حثا لم يحث مثله على غيرها من الصلوات، وإن كانت المحافظة على جميعها واجبة، فكان بينا بذلك أن التي خص الله بالحث على المحافظة عليها، (٣) بعد ما عم الأمر بها جميع المكتوبات، هي التي اتبعه فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، فخصها من الحض عليها بما لم يخصص به غيرها من الصلوات، وحذر أمته من تضييعها ما حل بمن قبلهم من الأمم التي وصف أمرها، ووعدهم من الأجر على المحافظة عليها ضعفي ما وعد على غيرها من سائر الصلوات.
وأحسب أن ذلك كان كذلك، لأن الله تعالى ذكره جعل الليل سكنا، والناس من شغلهم بطلب المعاش والتصرف في أسباب المكاسب= هادئون، إلا القليل منهم، وللمحافظة على فرائض الله وإقام الصلوات المكتوبات فارغون. (٤) وكذلك
(١) الحديث: ٥٤٩٦- ووقع في المطبوعة هنا: "قال" بدون واو العطف، ودون ذكر الصلاة على رسول الله صلى عليه وسلم. فأوهم هذا الصنيع أن هذا الحديث متن للإسناد السابق. وهو غير مستقيم. والصواب ما أثبتنا عن المخطوطة: أن هذا حديث آخر مستأنف، ذكره الطبري دون إسناد.
وقد مضى من حديث عبد الله بن عمر، بإسناده: ٥٣٨٩.
(٢) الحديث: ٥٤٩٧- هذا حديث معلق أيضًا، ذكره الطبري دون إسناد.
وهو حديث صحيح، رواه مسلم ١: ١٧٥-١٧٦، عن عمارة بن رويبة، قال: "سمعت رسول الله ﷺ يقول: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. يعني الفجر والعصر".
ورواه أيضًا أبو داود والنسائي، كما في ذخائر المواريث، رقم: ٥٥٣٧.
ولعل الطبري رواه بالمعنى.
(٣) في المطبوعة: "حض الله"، وفي المخطوطة غي منقوطة، وصواب قراءتها هو ما أثبت، والسياق قاطع بوجوب قراءتها كذلك.
(٤) في المطبوعة: "فازعون"، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت.
226
ذلك في صلاة الصبح، لأن ذلك وقت قليل من يتصرف فيه للمكاسب والمطالب، ولا مؤونة عليهم في المحافظة عليها. وأما صلاة الظهر، فان وقتها وقت قائلة الناس واستراحتهم من مطالبهم، في أوقات شدة الحر وامتداد ساعات النهار، ووقت توديع النفوس والتفرغ لراحة الأبدان في أوان البرد وأيام الشتاء= وأن المعروف من الأوقات لتصرف الناس في مطالبهم ومكاسبهم، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم- وقتان من النهار.
أحدهما أول النهار بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت، وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم، وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه، من غير أن يفرضها عليهم، وهي صلاة الضحى.
والآخر منهما آخر النهار، وذلك من بعد إبراد الناس إمكان التصرف وطلب المعاش صيفا وشتاء، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر، ثم حث على المحافظة عليها لئلا يضيعوها= لما علم من إيثار عباده أسباب عاجل دنياهم وطلب معايشهم فيها، على أسباب آجل آخرتهم= بما حثهم به عليه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ووعدهم من جزيل ثوابه على المحافظة عليها ما قد ذكرت بعضه في كتابنا هذا، وسنذكر باقيه في كتابنا الأكبر إن شاء الله من (كتاب أحكام الشرائع).
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قيل لها"الوسطى" لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن.
* * *
"والوسطى""الفعلى" من قول القائل:"وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطا"، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذكر فيه:"هو أوسطنا" وللأنثى:"هي وسطانا". (١)
* * *
(١) انظر معنى"الوسط" فيما سلفه ٣: ١٤١، ١٧٢.
227
القول في تأويل قوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله"قانتين".
فقال بعضهم: معنى"القنوت"، الطاعة. ومعنى ذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له فيما أمركم به فيها ونهاكم عنه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٤٩٨- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن عون، عن الشعبي في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
٥٤٩٩- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن عون، عن الشعبي مثله.
٥٥٠٠- حدثني ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو المنيب، عن جابر بن زيد:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين. (١).
٥٥٠١- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
٥٥٠٢- حدثنا أحمد بن عبدة الحمصي قال، حدثنا أبو عوانة، عن ابن يشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. (٢)
٥٥٠٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
(١) الأثر: ٥٥٠٠-"أبو المنيب"، هو: عبيد الله بن عبد الله العتكي، مضى في رقم: ١٦٣٤.
(٢) الأثر: ٥٥٠٢- هكذا في المطبوعة والمخطوطة"أحمد بن عبدة الحمصي"، ولم أجده منسوبا حمصيا، وقد مضى في الإسناد رقم: ٥٩"الضبي" وروي عنه في التاريخ أيضًا، و"أحمد بن عبدة الضبي"، هو أبو عبد الله البصري، مات سنة ٢٤٥، مترجم في التهذيب.
228
عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن"القنوت"، فقال: القنوت الطاعة. (١)
٥٥٠٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: القنوت، الذي ذكره الله في القرآن، إنما يعني به الطاعة.
٥٥٠٥- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"وقوموا لله قانتين"، قال: إن أهل كل دين يقومون لله عاصين، فقوموا أنتم لله طائعين.
٥٥٠٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: قوموا لله مطيعين في كل شيء، وأطيعوه في صلاتكم.
٥٥٠٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول:"وقوموا لله قانتين"، القنوت الطاعة، يقول: لكل أهل دين صلاة، يقومون في صلاتهم لله عاصين، فقوموا لله مطيعين.
٥٥٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قانتين"، يقول: مطيعين.
٥٥٠٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
٥٥١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثني شريك، عن
(١) الأثر: ٥٥٠٣-"الربيع بن أبي راشد"، هو أخو: "جامع بن أبي راشد الكوفي"، سمع سعيد بن جبير، وروى عنه مالك بن مغول، وسيفان الثوري، وشريك، مترجم في الكبير للبخاري ٢ /١ /٢٥٠، والجرح ١ / ٢ / ٤٦١.
229
سالم، عن سعيد:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين.
٥٥١١- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا خطاب بن عثمان قال، حدثنا أبو روح عبد الرحمن بن سنان السكوني= حمصي لقيته بأرمينية= قال، سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في قوله:" وقوموا لله قانتين"، قال: طائعين.
٥٥١٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
٥٥١٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٥١٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين.
٥٥١٥- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: كانوا يأمرون في الصلاة بحوائجهم، حتى أنزلت:"وقوموا لله قانتين"، فتركوا الكلام. قال:"قانتين"، مطيعين.
٥٥١٦- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم حتى نزلت:"وقوموا لله قانتين"، فتركوا الكلام في الصلاة.
٥٥١٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: كان أهل دين يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم لله مطيعين.
٥٥١٨- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى
230
الله عليه وسلم أنه قال: كل حرف في القرآن فيه"القنوت"، فإنما هو الطاعة". (١)
٥٥١٩- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: القنوت طاعة الله، يقول الله تعالى ذكره:"وقوموا لله قانتين"، مطيعين.
٥٥٢٠- حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان قال، قال ابن طاوس: كان أبي يقول: القنوت طاعة الله.
* * *
وقال آخرون:"القنوت" في هذه الآية، السكوت. وقالوا: تأويل الآية: وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٢١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقوموا لله قانتين"، القنوت، في هذه الآية، السكوت.
٥٥٢٢- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدى في خبر ذكره، عن مرة، عن ابن مسعود قال: كنا نقوم في الصلاة فنتكلم، ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته، ويخبره، ويردون عليه إذا سلم، حتى أتيت أنا فسلمت فلم يردوا علي السلام، فاشتد ذلك علي، فلما قضى النبي ﷺ صلاته قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن
(١) الحديث ٥٥١٨- دراج أبو السمح، وأبو الهيثم سليمان بن عمرو: ترجمنا لما فيما مضى: ١٣٨٧.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١١٧٣٤ (٣: ٧٥ حلبي)، عن حسن، وهو ابن موسى الأشيب، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٠، وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في الأوسط. وفي إسناد أحمد، وأبي يعلى،: ابن لهيعة، وهو ضعيف". وابن لهيعة: ليس بضعيف، كما قلنا مضى: ٢٩٤١. وانظر الأثر الآتي رقم: ٧٠٥٠، حيث رواه بإسناد آخر إلى ابن لهيعة.
231
نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة= والقنوت: السكوت. (١)
٥٥٢٣- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كنا نتكلم في الصلاة، فسلمت على النبي ﷺ فلم يرد علي، فلما انصرف قال: قد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة، ونزلت هذه الآية:"وقوموا لله قانتين". (٢)
٥٥٢٤- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال، أخبرنا محمد بن يزيد، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، وابن نمير، ووكيع، ويعلى بن عبيد= جميعا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة، حتى نزلت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، فأمرنا بالسكوت. (٣)
(١) الحديث: ٥٥٢٢- هذا الإسناد من تفسير السدي. وقد مضى شرحه مفصلا في الخبر: ١٦٨. وأما هذا الحديث بعينه، فقد ذكره السيوطي ١: ٣٠٦، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكن في لفظه: و" يسارر الرجل صاحبه" - بدل: "ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته".
وانظر الحديث التالي لهذا، والحديث: ٥٥٢٦.
(٢) الحديث: ٥٥٢٣- وهذا الإسناد ضعيف جدا، من أجل الحكم بن ظهير. وقد بينا ضعفه فيما مضى: ٢٤٩.
والحديث -من هذا الوجه- ذكره السيوطي ١: ٣٠٦، ولم ينسبه لغير الطبري. وانظر الحديث الذي قبله، والحديث الآتي: ٥٥٢٦.
(٣) الحديث: ٥٥٢٤- عبد الحميد بن بيان السكري - شيخ الطبري: مضى في رقم ٣٠، بوصف"القناد"، وهما واحد معنى.
الحارث بن شبيل بن عوف الكوفي: ثقة. قال ابن معين -فيما روى عنه ابن أبي حاتم ١ /٢ /٧٦-٧٧: "لا يسأل عن مثله". يعني لجلالته.
و"شبيل": بالشين المعجمة مصغرا. وفي المطبوعة"شبل". والتصويب من المخطوطة، ولكن يقال فيه قول آخر أن اسم أبيه"شبل". وأشار الحافظ في التهذيب إلى أن هذا القول شبه خطأ من المزي صاحب تهذيب الكمال، وأنه تبع في ذلك الكلاباذي، لأن البخاري وابن أبي حاتم فرقا بين" الحارث بن شبيل" و"الحارث بن شبل". وأن الأول كوفي ثقة، والثاني بصري ضعيف. وحقا لقد فرقا بينهما في الكبير ١ /٢ /٢٦٨-٢٦٩، وابن أبي حاتم ١ / ٢ /٧٦-٧٧. ولكن البخاري مع فرقة بينهما، حكى في ترجمة"ابن شبيل" أنه يقال فيه أيضًا "ابن شبل". فلم يخطئ المزي ولا الكلاباذي فيما حكيا من القول الآخر.
أبو عمرو الشيباني: وسعد بن إياس الكوفي. وهو تابعي قديم مخضرم، أدرك الجاهلية كبيرا، وعاش ١٢٠ سنة، وهو مجمع على ثقته.
والحديث رواه أحمد في المسند ٤: ٣٦٨ (حلبي) عن يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، به.
وكذلك رواه البخاري في الصحيح ٣: ٥٩، و ٨: ١٤٩، وفي التاريخ الكبير ١ /٢ /٢٦٩. ومسلم ١: ١٥١ - كلاهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد، به.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ١: ٢٤٨، من طريق إسماعيل.
ورواه أيضًا أبو جعفر النحاس، في كتاب الناسخ والمنسوخ، ص: ١٦، من طريق إسماعيل وقال: "وهذا إسناد صحيح".
ونقله ابن كثير ١: ٥٨٣-٣٠٦، من رواية المسند. ثم قال: "رواه الجماعة، سوى ابن ماجه، من طرق، عن إسماعيل، به".
وذكره السيوطي ١: ٣٠٥ - ٣٠٦، وزاد نسبته إلى وكيع، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، والطحاوي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني. ولكن وقع فيه اسم الصحابي: "زيد بن أسلم"! وهذا خطأ مطبعي يقينا، صوابه: "زيد بن أرقم".
232
٥٥٢٥- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:" وقوموا لله قانتين"، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته، فنهوا عن الكلام.
٥٥٢٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم بن المصطلق، عن عبد الله بن مسعود قال: إن النبي ﷺ كان عودني أن يرد علي السلام في الصلاة، فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد علي، وقال: إن الله يحدث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث لكم في الصلاة أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله، وما ينبغي من تسبيح وتمجيد:"وقوموا لله قانتين". (١)
(١) الحديث: ٥٥٢٦- هذا إسناد صحيح.
هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي. وعنبسة، وهو ابن سعيد بن الضريس قاضي الري. والزبير بن عدي قاضي الري: مضوا في: ٣٣٥٦.
كلثوم بن المصطلق الخزاعي: تابعي ثقة. خلط بعضهم بينه وبين آخرين يختلفان عنه نسبا ورواية. والحق أنهم ثلاثة، كما صنع البخاري ٤ /١ /٢٢٦-٢٢٧، بالأرقام: ٩٧٦، ٩٧٧، ٩٧٨.
وابن أبي حاتم ٣ /٢ /١٦٣-١٦٤، بالأرقام: ٩٢٢، ٩٢٣، ٦٢٥.
والحديث -من هذا الوجه، وبهذا اللفظ- ذكره السيوطي ١: ٣٠٦، ولم ينسبه لغير الطبري. وقد قصر السيوطي في ذلك. فإن الحديث رواه النسائي ١: ١٨١، من طريق سفيان، وهو الثوري، عن الزبير بن عدي، بهذا الإسناد، وبلفظ أطول قليلا.
وهو في معنى الحديثين الماضيين: ٥٥٢٢، ٥٥٢٣، إلا أن إسناد الأول محل نظر، وإسناد الثاني ضعيف جدا، وهذا إسناده صحيح.
وأصل المعنى ثابت عن ابن مسعود، في المسند، والصحيحين، وغيرهما، إلا أنه ليس فيه النص على آية (قوموا لله قانتين).
فروى أحمد في المسند: ٣٥٦٣، من حديث علقمة، عن ابن مسعود، قال: "كنا نسلم على رسول الله ﷺ وهو في الصلاة، فيرد علينا. فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا. فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: إن في الصلاة لشغلا".
وكذلك رواه البخاري ٣: ٥٨-٥٩، ومسلم: ١: ١٥١ - كلاهما من حديث علقمة عن ابن مسعود.
وانظر المسند: ٣٥٧٥، ٣٨٨٤، ٣٨٨٥، ٣٩٤٤، ٤١٤٥.
233
٥٥٢٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: إذا قمتم في الصلاة فاسكتوا، لا تكلموا أحدا حتى تفرغوا منها. قال: والقانت المصلي الذي لا يتكلم.
* * *
وقال آخرون:"القنوت" في هذه الآية، الركوع في الصلاة والخشوع فيها. وقالوا في تأويل الآية: وقوموا لله في صلاتكم خاشعين، خافضي الأجنحة، غير عابثين ولا لاعبين.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٢٨- حدثني سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد:"وقوموا لله قانتين"، قال: فمن القنوت طول الركوع، وغض البصر، وخفض الجناح، والخشوع من رهبة الله. كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت، أو أن يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا.
234
٥٥٢٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد نحوه= إلا أنه قال: فمن القنوت الركود والخشوع.
٥٥٣٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد:"وقوموا لله قانتين"، قال: من القنوت الخشوع، وخفض الجناح من رهبة الله. وكان الفقهاء من أصحاب محمد ﷺ إذا قام أحدهم إلى الصلاة، لم يلتفت، ولم يقلب الحصى، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف.
٥٥٣١- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله"وقوموا لله قانتين"، قال: إن من القنوت الركود، ثم ذكر نحوه.
٥٥٣٢- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: القنوت الركود- يعني القيام في الصلاة والانتصاب له.
* * *
وقال آخرون: بل"القنوت"، في هذا الموضع، الدعاء. قالوا: تأويل الآية: وقوموا لله راغبين في صلاتكم. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٣٣- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر= جميعا، عن عوف، عن أبي رجاء، قال: صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله:"وقوموا لله قانتين". (٢)
(١) أخشى أن يكون الصواب"داعين"، ولكن"راغبين" صحيحة المعنى، لأن الراغب إلى ربه إنما رغبته دعاؤه، والقنوت: دعاء رغبة.
(٢) الحديث: ٥٥٣٣- مضى بالإسنادين جميعا مفرقين: ٥٤٧٣، ٥٤٧٤. وجمعهما أبو جعفر هنا سياقا واحدا.
235
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وقوموا لله قانتين"، قول من قال: تأويله:"مطيعين".
وذلك أن أصل"القنوت"، الطاعة، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله [عنه] من الكلام فيها. (١) ولذلك وجه من وجه تأويل"القنوت" في هذا الموضع، إلى السكوت في الصلاة= أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها= إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله. ومما يدل على أنهم قالوا ذلك كما وصفنا، قول النخعي ومجاهد الذي: -
٥٥٣٤- حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، ومجاهد قالا كانوا يتكلمون في الصلاة، يأمر أحدهم أخاه بالحاجة، فنزلت"وقوموا لله قانتين"، قال: فقطعوا الكلام. و"القنوت": السكوت، و"القنوت" الطاعة.
* * *
فجعل إبراهيم ومجاهد"القنوت" سكوتا في طاعة الله، على ما قلنا في ذلك من التأويل.
وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع، وخفض الجناح، وإطالة القيام، وبالدعاء، لأن كل [ذلك] غير خارج من أحد معنيين: (٢) من أن يكون مما أمر به المصلي، أو مما ندب إليه، والعبد بكل ذلك لله مطيع، وهو لربه فيه قانت. و"القنوت": أصله الطاعة لله، ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد.
* * *
فتأويل الآية إذا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله فيها مطيعين، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام، سوى قراءة
(١) في المطبوعة: "عما نهى الله من الكلام"، وفي المخطوطة"عما نهاه الله"، والزيادة بين القوسين لا بد منها، كأنها سقط من ناسخ.
(٢) في المطبوعة: "لأن كلا غير خارج"، وفي المخطوطة: "لأن كل غير خارج"، فرجحت سقوط"ذلك" من ناسخ المخطوطة، واجتهد مصحح المطبوعة.
236
القرآن فيها، أو ذكر الله بالذي هو أهله، أو دعائه فيها، غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها، والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له= لما قد بيناه من معناه= فإن خفتم من عدو لكم، أيها الناس، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله= فصلوا"رجالا"، مشاة على أرجلكم، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم="أو ركبانا"، على ظهور دوابكم، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم، قانتين. (١)
* * *
ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك، جاز نصب"الرجال" بالمعنى المحذوف. وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله. ويبين ذلك أنهم يقولون:"إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا"، بمعنى: إن تفعل خيرا تصب خيرا، وإن تفعل شرا تصب شرا، فيعطفون الجواب على الأول لانجزام الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، بمعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض، فصلوا رجالا.
* * *
"والرجال" جمع"راجل" و"رجل"، وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد"الرجال""رجل"، مسموع منهم:"مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا"، (٢)
(١) في المخطوطة: "من القيام منكم أو قانتين"، بزيادة"أو"، وهو لا معنى له، إلا أن يكون في الكلام سقطا، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو مستقيم.
(٢) هذا البيان عن لغات العرب في"رجل"، غي مستوفي في كتب اللغة.
237
وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم"رجلان"، كما قال بعض بني عقيل:
على إذا أبصرت ليلى بخلوة أن ازدار بيت الله رجلان حافيا (١)
فمن قال"رجلان" للذكر، قال للأنثى"رجلى"، وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال:"أتى القوم رجالى ورجالى" مثل"كسالى وكسالى".
* * *
وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك:"فإن خفتم فرجالا"مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ:"فرجالا"، (٢) وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين. (٣)
* * *
وأما"الركبان"، فجمع"راكب"، يقال:"هو راكب، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب"، يقال:"جاءنا أركوب من الناس وأراكيب".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٣٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: سألته عن قوله:"فرجالا أو ركبانا"، قال: عند المطاردة، يصلى حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلي ركعتين يومئ إيماء.
٥٥٣٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان،
(١) اللسان (رجل)، عن ابن الأعرابي، واستشهد به ابن هشام في"باب الحال" وتعدده للمفرد، وروايته: "... ليلى بخفية زيارة بيت الله... ". وقوله: "ازدار" هو"افتعل" من"الزيارة".
(٢) يعني بضم الراء وتخفيف الجيم المفتوحة، وهي مذكورة في شواذ القراءات.
(٣) في المطبوعة: "بخلاف القراءة الموروثة"، والصواب ما في المخطوطة.
238
عن مغيرة عن إبراهيم في قوله:"فرجالا أو ركبانا" قال: صلاة الضراب ركعتين، يومئ إيماء.
٥٥٣٧- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:"فرجالا أو ركبانا"، قال: يصلي ركعتين حيث كان وجهه، يومئ إيماء.
٥٥٣٨- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير."فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طردت الخيل فأومئ إيماء.
٥٥٣٩- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن مالك، عن سعيد قال: يومئ إيماء.
٥٥٤٠- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه، يومئ إيماء.
٥٥٤١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أصحاب محمد ﷺ في القتال على الخيل، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه.
٥٥٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: أو راكبا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا: أو راكبا، أو ما قدر أن يومئ برأسه= وسائر الحديث مثله.
٥٥٤٣- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،
239
عن الضحاك في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع، فصلاتهم تكبيرتان إيماء، أي جهة كانت.
٥٥٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"رجالا أو ركبانا"، قال: ذلك عند القتال، (١) يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا إذا كان يطلب أو يطلبه سبع، فليصل ركعة، يومئ إيماء، فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين.
٥٥٤٥- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ركعة وأنت تمشي، وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك، على أي جهة كان. (٢)
٥٥٤٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أما"رجالا" فعلى أرجلكم، إذا قاتلتم، يصلي الرجل يومئ برأسه أينما توجه، والراكب على دابته يومئ برأسه أينما توجه. (٣)
(١) في المطبوعة: "ذاك عند القتال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) وضع البعير يضع وضعا، وأوضعه أيضاعا: وهو سير حثيث وإن كان لا يبلغ أقصى الجهد.
(٣) عند هذا انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه المخطوطة، فيها هنا ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آل وصحبه وسلم كثيرا
على الأصل المنقول منه هذه النسخة:
بغلت بالسماع وأخي علي حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، ومحمد بن علي الأرموي، ونصر بن الحسين الطبري - بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري. وذلك في شعبان من سنة ثمان وأربعمئة، وهو يقابلني بكتابه. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في التاريخ، وسمع عبد الرحيم بن أحمد (النحوي؟؟) من موضع سماعه إلى هاهنا مع الجماعة".
240
٥٥٤٧- (١) حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، الآية، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأنت تسعى، تومئ برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين، وإلا فواحدة.
٥٥٤٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ذاك عند المسايفة.
٥٥٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طلب الأعداء فقد حلَّ لهم أن يصلوا قِبَل أي جهة كانوا، رجالا أو ركبانا، يومئون إيماء ركعتين= وقال قتادة: تجزي ركعة.
٥٥٥٠- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين، راكبا كان أو راجلا.
٥٥٥١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو راكبانا"، قال: يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان جهه، يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود، ولكن السجود أخفض من الركوع. فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا، هذا في المطاردة.
٥٥٥٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي قال: كان قتادة يقول: إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة، يومئ إيماء، إن شاء راكبا أو راجلا قال الله تعالى ذكره:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا".
(١) بدأ في التقسيم القديم:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
241
٥٥٥٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن قال، في الخائف الذي يطلبه العدو، قال: إن استطاع أن يصلي ركعتين، وإلا صلى ركعة.
٥٥٥٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: ركعة.
٥٥٥٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة.
٥٥٥٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة، عن صلاة المسايفة، فقالوا: يومئ إيماء حيث كان وجهه.
٥٥٥٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد والحكم وقتادة: أنهم سئلوا عن الصلاة عند المسايفة، فقالوا: ركعة حيث وجهك.
٥٥٥٨- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار قال: سألت ابن سيرين عن صلاة المنهزم فقال: كيف استطاع.
٥٥٥٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن جابر بن غراب قال: كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة، الصلاة! فقال هرم: يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة. قال: ونحن مستقبلو المشرق. (١)
٥٥٦٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي
(١) الأثر: ٥٥٥٩-"جابر بن غراب النمري البصري"، روى عن هرم بن حيان، روى عنه أبو نصرة. مترجم في الكبير ١ /٢ /٢٠٩، والجرح والتعديل ١ /١ / ٤٩٧. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "جابر بن عراب"، وهو تصحيف. و"سعيد بن يزيد"، و"أبو مسلمة" الآتي في رقم: ٥٥٦١. وهذا الأثر رواه ابن حزم في المحلى ٥: ٣٦ من طريق: "شعبة عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة... "، بغير هذا اللفظ كما سيأتي في رقم: ٥٥٦١.
242
نضرة قال: كان هرم بن حيان على جيش، فحضروا العدو فقال: يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة، أو ما استيسر= فقلت لأبي نضرة: ما"ما استيسر"؟ قال: يومئ. (١)
٥٥٦١- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا أبو مسلمة، عن أبي نضرة قال، حدثني جابر بن غراب قال: كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة! فقال: يسجد الرجل تحت جنته سجدة. (٢)
٥٥٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا، وحيث توجهت بك دابتك، تومئ إيماء للمكتوبة.
٥٥٦٣- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا هبة بن الوليد قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة. (٣)
(١) الأثر: ٥٥٦٠- هو مختصر الذي قبله والذي يليه، غير مرفوع إلى جابر بن غراب. وفي المخطوطة: "فحصروا العدو" بالصاد المهملة، وكأن الصواب ما في المطبوعة. كما تدل عليه معاني الأثرين: السالف والتالي. وفي المطبوعة: "تحت جيبه" وفي المخطوطة: "تحت حسه" غي منقوطة. والصواب من المحلى ٥: ٣٦. والجنة (بضم الجيم وتشديد النون) : هي ما واراك من السلاح واستترت به، كالدروع وغيره من لباس الوقاية في الحرب. في المطبوعة: "ما استيسر"، بحذف"ما" الثانية الاستفهامية، وهو خطأ.
(٢) الأثر: ٥٥٦١- انظر الأثرين السالفين، والتعليق عليهما. وفي المطبوعة: "مستقبل المشرق"، وهو خطأ ناسخ. وفي المطبوعة: "تحت جيبه" كما في رقم: ٥٥٦٠، وفي المخطوطة: "تحت حسه" غير منقوطة، والصواب من المحلى ٥: ٣٦، ونص ما رواه: "وعن شعبة، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن جابر بن غراب، كنا مصافي العدو بفارس، ووجوهنا إلى المشرق، فقال هرم بن حيان: ليركع كل إنسان منكم ركعة تحت جنته حيث كان وجهه".
(٣) الأثر: ٥٥٦٣-"سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني" أبو عثمان الحمصي، روى عن بقية، والمعافى بن عمران الحمصي وغيرهما. وعنه النسائي، صدوق، ذكره ابن حبان في القات. مترجم في التهذيب. و"بقية بن الوليد"، قال أحمد، وسئل عن بقية وإسماعيل بن عياش: "بقية أحب إلي، وإذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوا عنه". وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هبة بن الوليد" وهو خطأ. والصواب من تفسير ابن كثبر ١: ٥٨٥. و"المسعودي"، هو: عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي. و"يزيد الفقير" هو: يزيد بن صهيب الفقير، أبو عثمان الكوفي، روي عن جابر وأبي سعيد وابن عمر، ثقة صدوق. وسمي"الفقير"، لأنه كان يشكو فقار ظهره. مترجم في التهذيب وغيره. وانظر السنن الكبرى ٣: ٢٦٣، والمحلى ٥: ٣٥.
243
٥٥٦٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا موسى بن محمد الأنصاري، عن عبد الملك، عن عطاء في هذه الآية قال: إذا كان خائفا صلى على أي حال كان. (١).
٥٥٦٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك- وسألته عن قول الله:"فرجالا أو ركبانا" - قال: راكبا وماشيا، ولو كانت إنما عنى بها الناس، لم يأت إلا"رجالا" وانقطعت الآية. (٢) إنما هي"رجال": مشاة، وقرأ: (٣) (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [سورة الحج: ٨٧]، قال: يأتون مشاة وركبانا.
* * *
قال أبو جعفر: الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا (٤) الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر
(١) الأثر: ٥٥٦٤"موسى بن محمد الأنصاري"، يعد في الكوفيين، مترجم في الكبير للبخاري ٤ /١ /٢٩٤، وابن أبي حاتم ٤ /١ /١٦٠، وهو ثقة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "انقطعت الألف"، وقد استظهر مصحح الطبعة الأميرية أنها"وانقطعت الآية"، وأرجح أنها الصواب، والناسخ في هذا الموضع من النسخة عجل كثير السهو والخطأ، كما رأيت فيما مضى، وكما سترى فيما يأتي. وقد خلط بعضهم في تعليقه على هذا الموضع من الطبري.
(٣) في المطبوعة: "وعن يأتوك رجالا... "، وهو خطأ لا شك فيه. أما المخطوطة ففيها"ومزايا ترك"، وصواب تحريفها وتصحيفها، هو ما أثبت. ويعني أن مالكا استدل بهذه الآية على معنى"فرجالا" كما هو بين.
(٤) الجائل: هو الذي يجول في الحرب جولة على عدوه، وجولته: دورانه وهو على فرسه ليستمكن من قرنه.
244
بقتاله، (١) من عدو للمسلمين، أو محارب، أو طلب سبع، أو جمل صائل، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه. (٢)
وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه، يومئ إيماء لعموم كتاب الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع، بعد أن يكون الخوف، صفته ما ذكرت.
* * *
وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها، وذلك حال شدة الخوف، لأن: -
٥٥٦٦- محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي ﷺ في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه، وإن كان خوف أشد من ذلك"فرجالا أو ركبانا". (٣)
(١) في المطبوعة: "الخوف على المهمة عند السلمة"، وهو خلط غث. وفي المخطوطة: "الخوف على المهمة عند المسلة"، والصواب ما أثبت من قراءتي لهذا النص. والمهجة: الروح، وخالص النفس. والسلة: استلال السيوف، يقال: "أتيناهم عند السلة"، أي عند استلال السيوف إذا حمي الوطيس.
(٢) صال الجمل يصول، فهو صائل وصؤول: وذلك إذا وثب على راعيه فأكله، وواثب الناس يأكلهم ويعدو عليهم ويطردهم من مخافته.
(٣) الحديث: ٥٥٦٦- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. عبد الله بن نافع مولى ابن عمر: ضعيف جدا. قال فيه البخاري في الضعفاء: "منكر الحديث". فصلنا القول في تضعيفه في المسند: ٤٧٦٩.
وهذا الحديث هكذا رواه جرير عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر - مرفوعا.
وكذلك رواه ابن ماجه: ١٢٥٨٧، عن محمد بن الصباح، عن جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا أيضًا. وإسناده صحيح. وأشار الحافظ في الفتح ٢: ٣٦٠ إلى رواية ابن ماجه هذه، وقال: "وإسناده جيد".
ورواه -بمعناه- مالك في الموطأ، ص: ١٨٤، "عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال... "، فذكر نحوه من كلام ابن عمر، ثم قال في آخره: "قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وكذلك رواه البخاري ٨: ١٥٠، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
وروى الشافعي في الأم ١: ١٩٧، عن مالك - قطعه من أوله، ثم أشار إلى سائره وذكر آخره. وكذلك رواه البيهقي٣: ٢٥٦، من طريق الشافعي عن مالك.
وذكره السيوطي ١: ٣٠٨، من رواية مالك، وزاد نسبته لعبد الرزاق.
فهذا الشك في رفعه من نافع عند مالك -ثم الجزم برفعه في رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عند ابن ماجه-: يقويان رواية جرير عن عبد الله بن نافع، التي هنا.
245
٥٥٦٧- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريح، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنما هو الذكر، وأشارة بالرأس. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن كانوا أكثر من ذلك، فيصلون قياما وركبانا". (١)
* * *
= ففصل النبي بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة، على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته.
(١) الحديث: ٥٥٦٧- سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مضت ترجمته في: ٢٢٥٥.
وهذا الحديث رواه البخاي ٣: ٢٥٩ (فتح)، عن سعيد بن يحيى -شبخ الطبري- بهذا الإسناد ولم يذكر لفظه كاملا. وذكر الحافظ، ص: ٣٦٠، رواية الطبري هذه، أيضاحا لرواية البخاري.
ورواه البيهقي ٣: ٢٥٥-٢٥٦، من طريق الهيثم بن خلف الدوري، عن سعيد بن يحيى الأموي، به. وذكر لفظه، ثم أشار إلى رواية البخاري.
وقوله: "اختلطوا": يعني اختلط الجيشان، حال المسايفة والالتحام. وهكذا ثبت هذا الحرف في الفتح نقلا عن الطبري، والسنن الكبرى للبيهقي، ووقع في المخطوطة والمطبوعة: "اختلفوا" - بالفاء بدل الطاء. وهو تحريف من الناسخين.
وقوله: "وإشارة بالرأس": يعني أنهم يصلون بالإيماء، يذكرون ويقرءون، ويشيرون إلى الركوع والسجود. وهذا هو الثابت في الفتح والسنن الكبرى. ووقع في المخطوطة والمطبوعة: "وأشار بالرأس". وهو تحريف أيضًا.
246
وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن ابن عمر أنه كان يقول:
٥٥٦٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: في صلاة الخوف: يصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم. ثم يحيي أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم، وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. قال: فإن كان خوف أشد من ذلك"فرجالا أو ركبانا". (١)
* * *
وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن. وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة، رأيتها مجزئة، لأن: -
٥٥٦٩- بشر بن معاذ حدثني قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكر بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. (٢)
* * *
(١) الخبر: ٥٥٦٨- هذا موقوف على ابن عمر، صريحا، وهو في معنى الحديث الماضي: ٥٥٦٦.
(٢) الحديث: ٥٥٦٩ بكير بن الأخنس الليثي الكوفي: تابعي ثقة. و"بكير": بالتصغير. ووقع في المطبوعة"بكر" - بدون الياء، وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد بن المسند: ٢١٢٤ عن يزيد، و: ٢٢٩٣، عن عفان، و: ٣٣٣٢، عن وكيع - ثلاثتهم عن أبي عوانة، به.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير -موجزا كعادته- في ترجمة بكير ١ /٢ /١١٢، عن أبي نعيم، عن أبي عوانة. ورواه مسلم ١: ١٩٢، عن أربعة شيوخ، عن أبي عوانة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ٣: ١٣٥، من طريق يحيى بن يحيى، عن أبي عوانة. ورواه أحمد أيضًا: ٢١٧٧، عن القاسم بن مالك المزني، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، به.
وكذلك رواه مسلم ١: ١٩٢، من طريق القاسم بن مالك.
ورواه البيهقي ٣: ٢٦٣-٢٦٤، بإسنادين من طريق أيوب بن عائذ. وذكره ابن كثير ١: ٥٨٥، وزاد نسبته لأبي داود، والنسائي، وابن ماجه.
247
القول في تأويل قوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك:"فإذا أمنتم"، أيها المؤمنون، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم- ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم- فاطمأننتم، ="فاذكروا الله" في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله، = كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه، وحلاله وحرامه، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة، والأنباء الحادثة بعدكم- في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، التي جهلها غيركم وبصركم، من ذلك وغيره، إنعاما منه عليكم بذلك، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون.
* * *
وكان مجاهد يقول في قوله:"فإذا أمنتم"، ما: -
٥٥٧٠- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.
* * *
وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد:
٥٥٧١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" فإذا أمنتم فاذكروا الله"، قال: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم- إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة.
* * *
وقوله ها هنا:"فاذكروا الله"، قال: الصلاة،"كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون". (١)
* * *
(١) من أول قوله: "وقوله ها هنا: اذكروا الله... " إلى آخر هذه الفقرة، هي من كلام مجاهد في الأثر: ٥٥٧٠ فيما أرجح، وأخشى أن يكون الناسخ قد أفسد سياق الكلام، وأنا أرجح ان قوله آنفًا: "وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد" ثم الأثر رقم ٥٥٧١، ينبغي أن يكون مقدما على الأثر: ٥٥٧٠. وأرجح أن قوله: "وقوله ها هنا" كلام فاسد، وأن"ها هنا" كانت في الأصل القديم إشارة إلى تأخير الكلام من أول قوله: "وكان مجاهد يقول... " ثم الأثر: ٥٥٧٠، إلى ما بعد الأثر: ٥٥٧١، فيكون السياق:
"فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون. وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد:
٥٥٧٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب...
وكان مجاهد يقول في قوله: "فإذا أمنتم" ما: -
٥٥٧١- حدنا به أبو كريب، قال حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: "فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من السفر إلى دار الإقامة. وقوله: "اذكروا الله"، قال: الصلاة، "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون".
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد... "
هذا ما أرجح أن أصل الطبري كان عليه، وأخطأ الناسخ فهم إشارة الناسخ قبله بقوله: "ها هنا" يعني نقل الكلام من هناك إلى"ها هنا". ولكني لم أستجز هذا التغيير في المطبوعة، وإن كنت لا أشك فيما رجحته
248
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد، قول غيره أولى بالصواب منه، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال، فواجب على المصلي المكتوبة- وإن كان في سفر- أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر، فيتوجه قوله:"فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون"، إليه. وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن، وحال شده الخوف، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. (١) ثم قال:"فإذا أمنتم" فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم
(١) في المخطوطة: "وصفه الواجب عليهم"، والصواب ما في المطبوعة.
249
وذكري فيها وفي غيرها، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف.
وبعد، (١) فإن كان جرى للسفر ذكر، ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم، لقال: فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون= ولم يقل:"فإذا أمنتم".
وفي قوله تعالى ذكره:"فإذا أمنتم"، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه، وخلاف قول مجاهد. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والذين يتوفون منكم"، أيها الرجال ويذرون أزواجا = يعني زوجات كن له نساء في حياته، بنكاح= لا ملك يمين. ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره، نظير الذي مضى من ذلك في قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: ٢٣٤] (٣) إلى الخبر عن ذكر أزواجهم. وقد ذكرنا وجه
(١) في المطبوعة: "قبل حدوث حال الخوف وبعده، فإن كان جرى للسفر ذكر... " وهو خلط قبيح، جعل بعض المصححين يضع مكان"فإن كان جرى"، "فلو كان جرى... " فترك الكلام خلطا لا معنى له، وصحح ما ليس في حاجة إلى تصحيح!! هذا، والصواب ما في المخطوطة كما أثبته.
(٢) في المطبوعة: "وإلى خلاف قول مجاهد"، بزيادة"إلى"، وهي زيادة فاسدة مفسدة. وقوله: "خلاف" معطوف على قوله: "على صحة قول... "
(٣) اقتصر في المخطوطة والمطبوعة على ذكر الآية إلى قوله: "ويذرون أزواجا"، فأتممتها للبيان.
250
ذلك، ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
ثم قال تعالى ذكره:"وصية لأزواجهم"، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأ بعضهم:"وصية لأزواجهم"، بنصب"الوصية"، بمعنى: فليوصوا وصية لأزواجهم، أو: عليهم [أن يوصوا] وصية لأزواجهم. (٢)
* * *
وقرأ آخرون: (وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ) برفع"الوصية".
* * *
ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع"الوصية".
فقال بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية. واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله. (٣)
فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر"كتبت"، ورفعت"الوصية" بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم: بل"الوصية" مرفوعة بقوله:"لأزواجهم" فتأول: لأزواجهم وصية.
* * *
والقول الأول أولى بالصواب في ذلك، وهو أن تكون"الوصية" إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتبت عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به قبلها، فتقول:"جاءني رجل اليوم"،
(١) انظر ما سلف في هذا الجزء: ٧٧-٧٩.
(٢) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.
(٣) قراءة عبد الله بن مسعود: ﴿كتب عليكم الوصية لأزواجكم﴾ انظر شواذ القراءات لابن خالويه: ١٥، ومعاني القرآن للفراء: ١/١٥٦، وغيرها المصححون.
251
وإذا قالوا:"رجل جاءني اليوم" لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب"هذا"، (١) أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو بحذف"هذا" وإضماره وإن حذفوه، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى ذكره: (سورة أنزلناها) [سورة النور: ١] و (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة التوبة: ١]، فكذلك ذلك في قوله:" وصية لأزواجهم".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نزول قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: ٢٣٤]، وقبل نزول آية الميراث (٢) =ولتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به.
* * *
فإن قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: لما قال الله تعالى ذكره:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته، (٣) وكان محالا أن يوصي بعد وفاته، كان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته (٤) =، (٥) علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه
(١) في المخطوطة"لم يكادوا أن يقولونه... "، وفي المطبوعة: "أن يقولوه"، وأرجح أن الصواب ما أثبت بإسقاط"أن" التي في المخطوطة.
(٢) انظر ما سيأتي ص: ٢٥٤-٢٥٨.
(٣) في المطبوعة: "يؤمر بإنفاذه... "، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "فكان تعالى ذكره إنما جعل... " بالفاء مكان الواو، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة: "سكنى الحول"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(٥) في المطبوعة: "علما بأنه حق لها"، وفي المخطوطة"علمنا به حق" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "لما قال الله تعالى... وكان الموصى... وكان محالا... وكان تعالى ذكره... = علمنا أنه حق... "
252
لها، إذ كان الميت مستحيلا أن يكون منه وصية بعد وفاته.
* * *
ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال:"فليوص وصية"، لكان التنزيل: والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم، (١) كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) [سورة البقرة: ١٨]
* * *
وبعدُ، فلو كان ذلك واجبًا لهن بوصية من أزواجهن المتوفّين، لم يكن ذلك حقًّا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن قبل وفاتهم، ولكان قد كان لورثتهم إخراجهن قبل الحول، (٢) وقد قال الله تعالى ذكره:"غير إخراج". ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئُه:"وصيةً لأزواجهم"، بمعنى: أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ. وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في"سورة النساء" (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) [سورة النساء: ١٢]، ثم ترك ذكر:"كتب الله"، اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ورفعت"الوصية" بالمعنى الذي قلنا قبل.
* * *
فإن قال قائل: فهل يجوز نصب"الوصية" [على الحال، بمعتى موصين] لهن وصية؟ (٣)
(١) هذا رد الطبري على من قرأها بالنصب.
(٢) في المطبوعة: "ولكان لورثتهم إخراجهن" بإسقاط"قد كان"، وفي المخطوطة: "ولكان لورثتهم قد كان إخراجهن"، بتقديم"لورثتهم"، والصواب ما أثبت.
(٣) كان مكان ما بين القوسين بياض في المخطوطة والمطبوعة، وهذه الزيادة بين القوسين استظهرتها من سياق الكلام. وهو يريد في كلامه الآتي خروج الحال مصدرا نحو قولهم: "طلع بغتة، وجاء ركضا، وقتلته صبرا، ولقيته كفاحا". وانظر سيبوبه ١: ١٨٦، وأوضح المسالك ١: ١٩٥ وغيرهما. هذا ما استطعت أن أقدره من كلام أبي جعفر ورده هذا القول، وكأنه الصواب إن شاء الله.
253
قيل: لا لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم"الوصية" من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه، فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه، فغير جائز نصبها بذلك المعنى.
* * *
* ذكر بعض من قال: إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم= على ما قلنا= (١) أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به، وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر والميراث.
٥٥٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في"سورة النساء"، فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: ٢٣٤]، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.
٥٥٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" الآية، قال: كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت، فنسخ ذلك في"سورة النساء"، فجعل لها فريضة معلومة: جعل لها الثمن إن كان له ولد، وإن لم يكن له ولد فلها الربع، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر، فقال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
(١) انظر ما سلف ص: ٢٥٢ والتعليق رقم: ٣.
254
٥٥٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها. إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) [سورة النساء: ١٢]، فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة.
٥٥٧٥- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول، ولا تزوج حتى تستكمل الحول. وهذا منسوخ: نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث، ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر.
٥٥٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول، ولا تزوج حتى يمضي الحول، فأنزل الله تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، فنسخ الأجل الحول، ونسخ النفقة الميراث الربع والثمن.
٥٥٧٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: كان ميراث المرأة من زوجها
255
من ربعه: (١) أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول، يقول:"فإن خرجن فلا جناح عليكم" الآية، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث= قال، وقال مجاهد:"وصية لأزواجهم" سكنى الحول، ثم نسخ هذه الآية الميراث.
٥٥٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية، نفقة سنة. فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث، فجعل لها الربع أو الثمن= وفي قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، قال: هذه الناسخة.
* * *
* ذكر من قال: كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به:
٥٥٧٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" الآية، قال: كانت هذه من قبل الفرائض، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء. ثم نسخ ذلك بعد، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن، وإن لم يكن له ولد فلها الربع. وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها، ثم تحول من بيته. فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون.
٥٥٨٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، إلى"فيما فعلن في أنفسهن من معروف"، يوم نزلت هذه الآية، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته
(١) في المطبوعة: "من ريعه" بالياء المثناة التحتية. وليس لها معنى هنا. والربع: المنزل والدار والمسكن، وفي حديث أسامة أنه قال له: "هل ترك لنا عقيل من ربع؟ ": أي منزل، والجمع رباع وربوع وأربع. وهذه الكلمة"من ربعه" أسقطها الدر المنثور من روايته للأثر ١: ٣٠٩.
256
بنفقتها وسكناها سنة، وكانت عدتها
أربعة أشهر وعشرا، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا، انقطعت عنها النفقة، فذلك قوله:"فإن خرجن"، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض، فنسخه الربع والثمن، فأخذت نصيبها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة.
٥٥٨١- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول.
* * *
* ذكر من قال:"نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن": (١)
٥٥٨٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن إبراهيم في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول"، قال: هي منسوخة.
٥٥٨٣- حدثنا الحسن بن الزبرقان قال، حدثنا أسامة، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم يقول، فذكر نحوه.
٥٥٨٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن حصين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا.
٥٥٨٥- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام يخطب الناس ها هنا، فقرأ لهم سورة
(١) في المطبوعة: "من غير بينة"، والصواب ما في المخطوطة.
257
البقرة، فبين لهم فيها، (١) فأتى على هذه الآية: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [سورة البقرة: ١٨٠]، قال: فنسخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" إلى قوله:"غير إخراج"، فقال: وهذه. (٢)
* * *
وقال آخرون: هذه الآية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٨٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: ٢٣٤]، قال: كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، إلى قوله:"من معروف". قال: جعل الله لهم تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره:"غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم"، قال: والعدة كما هي واجبة.
٥٥٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٥٨٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل= عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد
(١) في المطبوعة: "فبين لهم فيها"، والصواب ما في المخطوطة ورقم: ٢٦٥٢، أي فسر لهم منها ما فسر.
(٢) الأثر: ٥٥٨٥- مضى مختصرا برقم: ٢٦٥٢.
258
حيث شاءت، وهو قول الله:"غير إخراج". قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله تعالى ذكره:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" = قال عطاء: جاء الميراث بنسخ السكنى، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم، سكنى حول في منزله، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، (١) ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه، وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج. ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث، وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة، وردهن إلى أربعة أشهر وعشر، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٥٥٨٩- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج قال، أخبرنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وأخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة، عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري: أن زوجها خرج في طلب عبد له، فلحقه بمكان قريب فقاتله، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه، فأتت رسول الله ﷺ فقالت: إن زوجها خرج في طلب عبد له، فلقيه علوج فقتلوه، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري، وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله. (٢)
(١) في المخطوطة: "إلى انقضاء وجب"، وما بينهما بياض، وما في المطبوعة أشبه بالصواب
(٢) الحديث: ٥٥٨٩- حجاج: هو ابن رشدين بن سعد. وهو الذي يروي عن حيوة بن شريح، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وهو -عندنا- ثقة. وقد مضت ترجمته مفصلة في: ٧٦٣.
ابن عجلان: هو محمد بن عجلان المدني الثقة، مضى في: ٣٠٤.
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: مضى في: ٥٠٩٠. وقد وقع في المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد" - كما وقع فيما مضى. والأشهر ما أثبتنا.
والحديث مضى مختصرا: ٥٠٩٠، من رواية فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق، بهذا الإسناد. وفصلنا القول في تخريجه، مطولا ومختصرا، كأنا استوعبنا هناك ما وجدنا من طرقه، إلا روايات الطحاوي فقد رواه في معاني الآثار ٢: ٤٥-٤٦ بتسعة أسانيد. وإلا الطريق التي هنا، فلم نكن رأيناها. ثم لم نجد هذه الطريق في شيء من الدواوين، غير الطبري.
أما الحديث في ذاته فصحيح، ورواياته الصحاح - التي أشرنا إليها هناك: مطولة مفصلة بأكثر مما هنا.
فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد: هي بضم الفاء بالتصغير، في أكثر الروايات. ووقع اسمها في المخطوطة هنا"الفارعة". ولم أجدها في شيء من الروايات هكذا، إلا في إحدى روايات النسائي ٢: ١١٣. وكذلك لم يذكر الحافظ في الإصابة هذ الرواية إلا عن رواية النسائي.
والحديث ذكره ابن كثير ١: ٥٨٨-٥٨٩، عن رواية الموطأ، التي أشرنا إليها فيما مضى. وهي في الموطأ، ص: ٥٩١.
259
وأما قوله:"متاعا"، فإن معناه: جعل ذلك لهن متاعا، أي الوصية التي كتبها الله لهن.
وإنما نصب"المتاع"، لأن في قوله:"وصية لأزواجهم"، معنى متعهن الله، فقيل:"متاعا"، مصدرا من معناه لا من لفظه.
* * *
وقوله:"غير إخراج"، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول، لا إخراجا من مسكن زوجها= يعني: لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول. فنصب"غير" على النعت ل"لمتاع"، كقول القائل:"هذا قيام غير قعود"، بمعنى: هذا قيام لا قعود معه، أو: لا قعود فيه.
* * *
وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى: لا تخرجوهن إخراجا، وذلك خطأ من القول. لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل، كان نصبه من كلام آخر غير الأول، وإنما هو منصوب بما نصب"المتاع" على النعت له. (١)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٥٦.
260
القول في تأويل قوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم، ونهى ورثته عن إخراجهن، إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن، وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن، بغير إخراج من ورثة الميت.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن. لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل، لم يكن فرضا عليهن، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات. فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف، وذلك ترك الحداد. يقول: فلا حرج عليكم في التزين إن تزينّ وتطيبن وتزوجن، لأن ذلك لهن.
وإنما قلنا:"لا حرج عليهنّ في خروجهن"، وإن كان إنما قال تعالى ذكره:"فلا جناح عليكم"، لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح، لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج، مع قدرتهم على منعهنّ من ذلك. ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد، وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف، وذلك في أنفسهن.
وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلناه في ذلك قبل.
* * *
وأما قوله:"والله عزيز حكيم"، فإنه يعني تعالى ذكره:"والله عزيز"، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء، فمنع من
261
كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الآيات التي مضت قبل: من المتعة والصداق والوصية، وإخراجهن قبل انقضاء الحول، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها= ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات="حكيم"، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الآيات قبل قوله:"ولله عزيز حكيم"، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج،"متاع". يعني بذلك: ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم، وغير ذلك مما يستمتع به. وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك، واختلاف أهل العلم فيه، والصواب من القول من ذلك عندنا، بما فيه الكفاية من إعادته. (١)
* * *
وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات.
فقال بعضهم: عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا: وإنما قلنا ذلك، لأن [الحقوق اللازمة للمطلقات] غير المدخول بهن في المتعة، (٢) قد بينها الله
(١) انظر معنى"المتاع" فيما سلف ١: ٥٣٩، ٥٤٠ /ثم ٣: ٥٣-٥٥ /ثم الموضع الذي عناه الطبري هنا: ١٢٠-١٣٥.
(٢) في المخطوطة: "لأن غير المدخول بهن"، وبينهما بياض، فجاءت المطبوعة وصلت الكلام: "لأن غير المدخول بهن" فاختلت الجملة، واستظهرت ما زدته بين القوسين من معنى الآيات.
262
تعالى ذكره في الآيات قبلها، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٩٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء في قوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، قال: المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف.
٥٥٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله= وزاد فيه: ذكره شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء.
* * *
وقال آخرون: بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٩٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، قال: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.
٥٥٩٣- حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يونس، عن الزهري- في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى- قال: تعتد في بيتها. وقال: لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره، (١) وقد قال الله تعالى ذكره:"متاع بالمعروف حقا على المتقين"، ولها المتعة حتى تضع.
(١) في المطبوعة: "وقال: لم أسمع... "، وأثبت ما في المخطوطة.
263
٥٥٩٤- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى (١) قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قلت له: أللأمة من الحر متعة؟ قال: لا. قلت: فالحرة عند العبد؟ قال: لا= وقال عمرو بن دينار: نعم،"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين".
* * *
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة: ٢٣٦]، قال رجل من المسلمين: فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنزل الله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فوجب ذلك عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٩٥- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فقال رجل: فإن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل! فأنزل الله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير، من أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة. لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء، خصوصا من النساء، فبين في الآية التي قال فيها: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [سورة البقرة: ٢٣٦]، وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "هناد بن موسى"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم. والصواب ما أثبت/ انظر الأثر قبله رقم: ٥٥٩٣، وفي مواضع كثيرة قبل ذلك بمثل هذا الإسناد.
264
إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [سورة الأحزاب: ٤٩]، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس، وبقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) [سورة الأحزاب: ٢٨]، حكم المدخول بهن، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن، وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله:" وللمطلقات متاع بالمعروف" ذكر جميعهن، وأخبر بأن لهن المتاع، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، (١) ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية.
* * *
وأما قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)، فإنا قد بينا معنى قوله:"حقا"، ووجه نصبه، والاختلاف من أهل العربية في قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة: ٢٣٦]، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
فأما"المتقون": فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له، ووجلا منهم من عقابه.
وقد تقدم بيان تأويل ذلك نصا بالرواية. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم، أيها المؤمنون، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض
(١) في المطبوعة: "كما أبان المطلقات... "، وفي المخطوطة: "كما المطلقات" وما بين الكلامين بياض، واستظهرت من قوله: "نعم الله تعالى... "، أن اللفظ الناقص في البياض هو"خص"، أو معنى يشبهه ويقاربه.
(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء: ١٣٧، ١٣٨.
(٣) انظر فهارس اللغة فيما سلف مادة"وقى".
في هذه الآيات، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد ﷺ في هذا الكتاب، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم، فتعلموا به ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ألم تر"، ألم تعلم، يا محمد؟ = وهو من"رؤية القلب" لا رؤية العين"، (١) لأن نبينا محمدا ﷺ لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، و"رؤية القلب": ما رآه، وعلمه به. (٢) فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وهم ألوف".
فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع"ألف".
* ذكر من قال ذلك:
٥٥٩٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع= قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم
(١) انظر ما سلف في معنى"الرؤية" ٣: ٧٥-٧٩.
(٢) في المطبوعة: "وعلمه به" بزيادة الواو، وهي فاسدة، والصواب من المخطوطة.
266
وهم ألوف حذر الموت"، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا:"نأتي أرضا ليس فيها موت"! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله:"موتوا". فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية:"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (١)
٥٥٩٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم الله، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم.
٥٥٩٨- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم وقالوا:"يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه"! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا، فإن فيها أربعة آلاف= قال وهب: وهم الذين قال الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع. فناداهم حزقيل فقال: (٢) "يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي"! فاجتمع عظام كل
(١) الأثران: ٥٥٩٦، ٥٥٩٧- أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨١، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الذهبي"ميسرة، لم يرويا له وروى له البخاري في الأدب المفرد. وانظر ابن كثير ١: ٥٩٠، والدر المنثور ١: ٣١٠. و"ميسرة"، هو: "ميسرة بن حبيب النهدي"، مترجم في التهذيب.
(٢) في المخطوطة: "فناداه"، وعلى الهاء من فوق حرف"ط"، وفي الدر المنثور ١: ٣١١"فنادى حزقيل"، وفي المطبوعة: "فناداهم"، وأثبت ما في تاريخ الطبري ١: ٢٣٧.
267
إنسان منهم معا. (١) ثم نادى ثانية حزقيل فقال:"أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم"، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال:"أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك"! (٢) فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة. (٣)
٥٥٩٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، يقول: عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
٥٦٠٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أشعث بن أسلم البصري قال: بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= (٤) فقال أحدهم لصاحبه، (٥) أهو هو؟ فلما انفتل عمر قال: (٦)
(١) بعد هذا في الدر المنثور ١: ٣١١: [ثم قال: "أيتها العظام، إن الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب" فتلازمت واشتدت بالعصب والعقب]. وفي تاريخ الطبري: "يا أيتها العظام النخرة"
(٢) في المطبوعة: "إلى أجسادك"، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري، والدر المنثور.
(٣) الأثر: ٥٥٩٨: "محمد بن سهل بن عسكر" التميمي، أبو بكر النجاري الحافظ الجوال قال النسائي وابن عدي: "ثقة" سكن بغداد ومات بها سنة ٢٥١، مترجم في التهذيب و"إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه الصنعاني"، روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل، وعمه عبد الصمد بن معقل، وروى عنه أحمد بن حنبل، قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي باليمن سنة ٢١٠. مترجم في التهذيب. والأثر رواه الطبري بهذا الإسناد في التاريخ ١: ٢٣٧، والدر المنثور ١: ٣١١.
(٤) خوى الرجل في سجوده: تجافى وفرج ما بين عضديه وجنبيه وفي الحديث: أن النبي ﷺ كان إذا سجد خوى.
(٥) في المطبوعة: "فقال أحدهم"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري.
(٦) انفتل فلان من صلاته: انصرف بعد قضائها، ومثله: "فتل وجهه عن القوم"، صرفه ولواه عنهم.
268
أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ (١) فقالا إنا نجده في كتابنا: (٢) "قرنا من حديد، يعطى ما يعطى حزقيل الذي"أحيى الموتى بإذن الله". فقال عمر: ما نجد في كتاب الله"حزقيل" ولا"أحيى الموتى بإذن الله"، إلا عيسى. فقالا أما تجد في كتاب الله (وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)، (٣) [سورة النساء: ١٦٤]، فقال عمر: بلى! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك: إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله، (٤) فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، الآية. (٥)
٥٦٠١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج بن أرطأة قال: كانوا أربعة آلاف.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "رأيت" بغير همزة استفهام، والصواب من الطبري، والدر المنثور. وقول العرب"أرأيت كذا"، يريدون به معنى الاستخبار، بمعنى أخبرني عن كذا.
(٢) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "إنا نجد في كتابنا"، وفي المخطوطة والد المنثور: "نجده" وهو الذي أثبت. وفي تاريخ الطبري بعد"يعطي ما أعطى حزقيل". والقرن (بفتح فسكون) : الحصن، والقرن أيضًا: الجبيل المنفرد. وقرن الجبل: أعلاه.
(٣) في المطبوعة: "رسلا لم يقصصهم" بحذف الواو، وبالياء من"يقصصهم"، وفي المخطوطة كذلك إلا أن"الياء" غير منقوطة، وأثبت نص الآية، على ما جاءت في تاريخ الطبري.
(٤) في المطبوعة: "فقام عليهم ما شاء الله"، والصواب من المراجع والمخطوطة.
(٥) الأثر: ٥٦٠٠- رواه الطبري في تاريخه ١: ٢٣٨، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣١١. وفي المطبوعة والمخطوطة والدر: "أشعث بن أسلم البصري"، وفي التاريخ"أشعث عن سالم النصري"، و"أشعث بن أسلم العجلي البصري ثم الربعي"، روى عن أبيه أنه رأى أبا موسى الأشعري، روى عنه سعيد بن أبي عروبة. مترجم في ابن أبي حاتم ١ /١ /٢٦٩. وأما"سالم النصري"، فهو: سالم بن عبد الله النصري، هو"سالم سبلان"، مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٢ /١ /١٨٤، روى عن عمان وعائشة وأبي سعيد، وأبي هريرة. روى عنه سعيد المقبري، وبكير بن عبد الله وغيرهما. وأنا أظن أن الذي في التاريخ أقرب إلى الصواب.
269
٥٦٠٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، إلى قوله:"ثم أحياهم"، قال: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، (١) وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كبير. (٢) فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح، (٣) فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا! فماتوا، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه، (٤) فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ = قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم= فقال: نعم! فقيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي! "، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما"، فاكتست لحما ودما، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي"، فقاموا.
٥٦٠٣- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر، عن مجاهد: أنهم قالوا حين أحيوا:"سبحانك ربنا وبحمدك
(١) في المخطوطة: "دار وردان" بزيادة راء، والصواب ما في تاريخ الطبري، والدر المنثور، ومعجم البلدان، وهي من نواحي شرقي واسط، بينهما فرسخ.
(٢) في التاريخ: "فلم يمت منهم كثير".
(٣) الأفيح والفياح: الواسع المنتشر النواحي، ويقال: روضة فيحاء، من ذلك.
(٤) في المطبوعة: "يلوي شدقيه"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. ولوى شدقه: أماله متعجبا مما يرى ويشهد.
270
لا إله إلا أنت"، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، (١) لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، (٢) حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. (٣)
٥٦٠٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة، عن عطاء الخراساني:" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر.
٥٦٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، (٤) حظر عليهم حظائر، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، (٥) فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله:" وقاتلوا في سبيل الله" الآية.
٥٦٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق،
(١) السحنة (بفتح فسكون) : الهيئة واللون والحال، وبشرة الوجه والمنظر.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "إلا عاد كفنا دسما"، وضبط في التاريخ بضم الدال وسكون السين، وهو خطأ، فإن هذا جمع أدسم ودسما، وليس هذا مقام جمع. وقوله: "كفنا دسما مثل الكفن" ليس بلبسان عربي، فحذفتها وأثبت ما في التاريخ، وأما الرواية الأخرى في الدر المنثور فهي: "إلا عاد كفنا دسما"، بحذف"مثل الكفن"، فهذه أو تلك هي الصواب.
والدسم: ودك اللحم والشحم. وفلان: دسم الثوب وأدسم الثوب، إذا كان ثوبه متلطخا وسخا قد علق به وضر اللحم والشحم. وأكفان الموتى دسم، لما يسيل من أجسادهم بعد تهرئهم وتعفن أبدانهم.
(٣) الأثران: ٥٦٠٢، ٥٦٠٣- في تاريخ الطبري ١: ٢٣٧، ٢٣٨، والدر المنثور ١: ٣١٠ بغير هذا اللفظ.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة"أو ثمانية آلاف"، وهو لا يستقيم، والصواب في الدر المنثور ١: ٣١١.
(٥) الحظائر جمع حظيرة: ما أحاط بالشيء، تكون من قصب وخشب، ليقي البرد والريح والعادية. وحظ حظيرة: اتخذها. والحظر: الحبس والمنع. أروح الماء واللحم وغيرهما وأراح: تغيرت رائحته وأنتن.
271
عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع، (١) خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي= (٢) وهو ابن العجوز، وإنما سمي"ابن العجوز" أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فلذلك قيل له"ابن العجوز"= وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد ﷺ كما بلغنا:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (٣).
٥٦٠٧- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء= من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس= حذرا من الموت، وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله:"موتوا"، فماتوا جميعا. فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوزى، (٤) فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم، (٥) فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم! فقيل له: نادهم فقل: (٦) "أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه". فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا. ثم قيل له: قل:"أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك"، قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء
(١) في التاريخ: "يوفنا" بالفاء.
(٢) في التاريخ: "بوذي" بالذال.
(٣) الأثر: ٥٦٠٦- في تاريخ الطبري ١: ٢٣٧، ثم ٢٣٨ مختصرا، والدر المنثور: ١: ٣١١.
(٤) في التاريخ: "بوذى" بالذال.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "ودخله رحمة... "، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(٦) في المخطوطة والمطبوعة: "نادهم فقال... "، والصواب من التاريخ.
272
كربه حتى غشي عليه منه، (١) ثم أفاق والقوم جلوس يقولون:"سبحان الله، سبحان الله" قد أحياهم الله. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله"وهم ألوف" وهم مؤتلفون. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٠٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قول الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، قال: قرية كانت نزل بها الطاعون، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت، والتي خرجت لم يصبهم شيء. (٤) ثم ارتفع، ثم نزل العام القابل، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم، فقال الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، ليست الفرقة أخرجتهم، كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة، إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة، قال لهم الله:"موتوا"، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا، ثم أحياهم الله،"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، (٥) فوقف
(١) في المخطوطة: "فتغساه من السماء كربه" غير منقوطة. وفي المطبوعة: "فتغشاهم من السماء كدية"، وهذا كلام بلا معنى، وما أثبته هو نص الطبري في التاريخ. وكربه الأمر: غشيه واشتد عليه وأخذ بنفسه، فهو مكروب النفس.
(٢) الأثر: ٥٦٠٧- في تاريخ الطبري ١: ٢٣٨.
(٣) يعني أنه جمع"إلف" (بكسر الهمزة وسكون اللام). وقال ابن سيده في"ألوف": "وعندي أنه جمع آلف، كشاهد وشهود"، وانظر سائر كتب التفسير.
(٤) في المطبوعة: "لم يصبها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) لاح البرق والسيف والعظم يلوح: تلألأ ولمح، وذلك لبياض العظام في ضوء الشمس.
273
ينظر فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ "، فأماته الله مائة عام. (١)
* * *
* ذكر الأخبار عمن قال: كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون.
٥٦٠٩- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن الأشعث، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال. خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم.
٥٦١٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: ٣٤"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله:"موتوا"! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم.
٥٦١١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية، فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا، وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [وقد أنكروا قريتهم، ومن تركوا]. وكثروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟ (٢)
(١) الأثر: ٥٦٠٨- أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣١١ مختصرا. وسيأتي مختصرا برقم: ٥٩٠٥.
(٢) في المخطوطة: "فرجعوا إلى بلادهم، وقد قريتهم ومن تركوا، وكثروا بها، يقول بعضهم لبعض"، بياض بين الكلام، أما المطبوعة فقد أسقطت هذا البياض، فجعلت الكلام: "فرجعوا إلى بلادهم وكروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض"، بزيادة"حتى"، فآثرت أن استظهر معنى الكلام، فأثبت ما في المخطوطة، وظننت أن مكان البياض ما أثبت. هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر.
274
٥٦١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: وقع الطاعون في قريتهم= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
٥٦١٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف" الآية، مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم.
٥٦١٤- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن هلال بن يساف في قوله تعالى:"ألم تر إلى الذين خرجوا" الآية، قال: هؤلاء القوم من بني إسرائيل، (١) كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال: فاستحر الموت على المقيمين منهم، ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء، لهلكنا كما هلكوا! وقال المقيمون: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء، لنجونا كما نجوا! فظعنوا جميعا في عام واحد، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال: فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد، فمر بهم نبي فقال: يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال: فقل: كذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر، فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(١) في المطبوعة: "كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل، إذا وقع فيهم الطاعون" وفي المخطوطة: "كان هؤلاء قوما من بني إسرائيل، كان إذا وقع... "، وضرب الناسخ على ألف"قوما"، وجعلها"قوم"، فتبين لي أن"كان" زائدة من الناسخ، كما جاءت على الصواب في الدر المنثور ١: ٣١١.
275
٥٦١٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن حماد بن عثمان، عن الحسن: أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال: هم قوم فروا من الطاعون، فأماتهم الله عقوبة ومقتا، ثم أحياهم لآجالهم. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل قوله:"وهم ألوف" بالصواب، قول من قال:"عنى بالألوف كثرة العدد"= دون قول من قال:"عنى به الائتلاف"، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن فرارا: إما من الجهاد، وإما من الطاعون= لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين.
* * *
وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم:"ألوف". وإنما يقال"هم آلاف"، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف.
وإنما جمع قليله على"أفعال"، (٢) ولم يجمع على"أفعل"= مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا (٣) للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل
(١) الأثر: ٥٦١٥-"حماد بن عثمان"، وروى عن عبد العزيز الأعمى عن أنس. روى عنه سعيد بن أبي أيوب، وروى عن الحسن البصري قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حماد بن عثمان فقال: هو مجهول". ترجم له البخاري في الكبير ٢ /١ /٢٠، وابن أبي حاتم ١ /٢ /١٤٤.
(٢) في المخطوطة: "وإنما جمع قليله وكثيره على أفعال"، وزيادة"كثيره" خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
(٣) في المخطوطة: "وعلى سائر مثل الجمع القليل"، والصواب ما في المطبوعة.
276
حرف كان أوله، ياء أو واوا أو ألفا، اختيار جمع قليله على أفعال، كما جمعوا"الوقت""أوقاتا" و"اليوم""أياما"، و"اليسر"و"أيسارا"، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على"أفعل"، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا، ومنه قول الشاعر: (١)
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ألفين أعجم من بني الفدام (٢)
* * *
وأما قوله:"حذر الموت"، فإنه يعني: أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه. (٣) كما: -
٥٦١٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
(١) هو بكير، أصم بني الحارث بن عباد.
(٢) النقائض: ٦٤٥، وتاريخ الطبري ٢: ١٥٥، والأغاني ٢٠: ١٣٩، واللسان (ألف) وغيرها. وهذا البيت من أبيات له في يوم ذي قار، وهو اليوم الذي انتصفت فيه العرب من العجم، وهزمت كسرى أبرويز بن هرمز. وكانت وقعة ذي قار بعد يوم بدر بأشهر، فلما بلغ رسول الله ﷺ خبرها قال: "هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا". وكانت بنو شيبان في هذا اليوم أهل جد وحد، فمدحهم الأعشى وبكير الأصم.
هذا وقد روى الطبري هنا"كانوا ثلاثة آلف"، ورواية المراجع جميعا:
"عربا ثلاثة آلف... "
وذلك أن كسرى عقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلف. وعقد أيضًا للهامرز التستري على ألف من الأساورة، وعقد الخنابزين على ألف، فكانت العجم ألفين. (الأغاني ٢٠/١٣٤)، فهذا تصحيح الرواية المجمع عليها وبيانها، وأول هذه الأبيات:
إن كنت ساقية المدامة أهلها فاسقي على كرم بني همام
وأبا ربيعة كلها ومحلما سبقا بغاية أمجد الأيام
ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم بالمشرفي على مقيل الهام
عربا ثلاثة آلف... ...................
وعنى بقوله: "بني الفدام"، الفرس. وذلك أن المجوس كان مما يتدينون به أنهم إذا شرابا، شدوا على أفواههم خرقة كاللثام، فسميت هذه الطائفة منهم: بنو الفدام.
(٣) انظر ما سلف ١: ٣٥٤، ٣٥٥ في تفسير: "حذر الموت" وإعرابها.
277
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حذر الموت"، فرارا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة البقرة: ٢٤٦]
* * *
قال أبو جعفر: وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، (١) والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه= وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته، (٢) كما لم ينفع الهاربين من الطاعون= الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فرارهم من أوطانهم، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة، وبالموئل النجاة من المنية، حتى أتاهم أمر الله، فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لذو فضل ومن. على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طرق الردى، وغير ذلك من نعمه التي
(١) في المطبوعة: "في سبيل الله" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "بعقوبته"، وهي في المخطوطة غير منقوطة. وعقوة الدار: ساحتها وما حولها قريبا منها. يقال: نزل بعقوته، ونزلت الخيل بعقوة العدو.
278
ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، عبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده، فيستسلموا لقضائه، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه. (١)
ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره، ويتخذ إلها من دونه، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله، فقال تعالى ذكره:"ولكن أكثر الناس لا يشكرون"، يقول: لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم، بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "فيستسلمون... ويصرفون"، وفي المخطوطة: "فيستسلمون... ويصرفوا"
(٢) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة بعده ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا".
ثم يبدأ التقسيم التالي بما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن"
279
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وقاتلوا"، أيها المؤمنون="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي هداكم له، (١) لا في طاعة الشيطان= أعداء دينكم، (٢) الصادين عن سبيل ربكم، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم، ولا تجبنوا عن حربهم، (٣) فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم، (٤) فتذلوا، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه، (٥) كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، الذين قصصت عليكم قصتهم، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم، وصرفتها عن حوبائهم، (٦) فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني، فإن من حيي منكم فأنا أحييه، (٧) ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.
(١) انظر ما سلف في تفسير: "سبيل الله" ٣: ٥٨٣، ٥٩٢، والمراجع هناك.
(٢) "أعداء... " مفعول"قاتلوا"، والسياق: "قاتلوا أيها المؤمنون... أعداء دينكم".
(٣) في المخطوطة"ولا تحموا عن قتاله عند لقائهم، ولا تحبوا عن حربهم" غير منقوطة، بإفراد ضمير"قتاله"، فغيرها مصححوا المطبوعة، إذ لم يحسنوا قراءتها فجعلوها: "ولا تجبنوا عن لقائهم، ولا تقعدوا عن حربهم" غيروا وبدلوا واسقطوا وفعلوا ما شاءوا!!. وقوله: "ولا تحتموا عن قتالهم" من قولهم: احتميت من كذا وتحاميته: إذا اتقيته وامتنعت منه. و"من" و"عن" في هذا الموضع سواء.
(٤) في المطبوعة: "فيدعوه ذلك إلى التفريد"، وهو خطأ، وزاده خطأ بعض من علق على التفسير، بشرح هذا اللفظ المنكر. والتعريد: الفرار وسرعة الذهاب في الهزيمة. يقال: "عرد الرجل عن قوله"، إذا أحجم عنه ونكل وفر.
(٥) وأل إلى المكان يئل، وؤولا ووئيلا ووألا: لجأ إليه طلب النجاة. والموئل: الملجأ.
(٦) الحوباء: النفس، أو ورع القلب.
(٧) في المطبوعة: "فأنا أحيحه"، وأثبت ما في المخطوطة.
280
ثم قال تعالى ذكره لهم: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم"سميع" لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا="عليم" بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم، (١) وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.
يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي، وغير ذلك من أمري ونهيي، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيط بذلك كله، حتى أجازي كلا بعمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لقول من زعم أن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة:
= إما أن يكون عطفا على قوله:"فقال لهم الله موتوا"، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
= أو يكون عطفا على قوله:"ثم أحياهم"، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله بالقتال، وقوله:"ثم أحياهم"، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟
= أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط"القول"،
(١) في المطبوعة: "بما تخفيه صدورهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وأجن الشيء: ستره وكتمه وأخفاه.
281
كما قال تعالى ذكره: (إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: ١٢]، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله، فيعين مضعفا، (١) أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه.
وإنما سماه الله تعالى ذكره"قرضا"، لأن معنى"القرض" إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه"قرضا"، إذ كان معنى"القرض" في لغة العرب ما وصفنا.
وإنما جعله تعالى ذكره"حسنا"، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشياطين معصية. (٢) وليس
(١) أضعف الرجل فهو مضعف: ضعفت دابته، يعينه بإبداله دابة غيرها.
(٢) في المطبوعة: "وللشياطين معصية"، وفي المخطوطة: "وللسلطان"، وهو سهو من الناسخ.
282
ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه، ولكن ذلك كقول العرب:"عندي لك قرض صدق، وقرض سوء"، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته، (١) كما قال الشاعر: (٢)
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا، ومدينا بالذي دانا (٣)
* * *
فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره: (٤) (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: ٢٦١].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
٥٦١٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال: هذا في سبيل الله="فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: بالواحد سبعمئة ضعف.
٥٦١٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، جاء ابن الدحداح إلى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله
(١) في المطبوعة"يأتي فيه الرجل... "، وفي المخطوطة: "يأتي فيه الرجل" غير منقوطة، ونقل أبو حيان في تفسيره ٢: ٢٤٨ هذا القول عن الأخفش، ونصه: "لأمر تأتي مسرته أو مساءته"، ولكني استظهرت قراءتها كما أثبت، فجميع ما مضى تحريف.
(٢) هو أمية بن أبي الصلت.
(٣) ديوانه: ٦٣، واللسان (قرض)، وروايته"أو مدينا مثل ما دنا"، وفي الديوان: "كالذي دانا".
(٤) في المطبوعة: "قال الله فيها تعالى ذكره"، وأثبت ما في المخطوطة.
283
عليه وسلم يقول:"كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! (١).
٥٦١٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن رجلا على عهد النبي ﷺ لما سمع بهذه الآية قال:"أنا أقرض الله"، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به. قال، وقال قتادة: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده. (٢)
٥٦٢٠- حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال أبو الدحداح:
(١) الحديث: ٥٦١٨ - هذا حديث مرسل، فهو ضعيف الإسناد، لأن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر من حدثه به من الصحابة.
والحديث ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: ٣١ (مخطوط مصور)، عن معمر، به.
وهو عند السيوطي ١: ٣١٢، ولم ينسبه لغير عبد الرزاق والطبري.
وقد ذكر ابن كثير ١: ٥٩٤ أن ابن مردويه روى نحو الحديث الآتي: ٥٦٢٠"من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، مرفوعا بنحوه".
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ضعيف جدا، كما بينا في: ١٨٥ فلا قيمة لهذا الرواية.
وسيأتي عقب هذا حديث آخر مرسل بمعناه، ثم: ٥٦٢٠، من حديث ابن مسعود. ونرجئ بيان أصل القصة حتى نتحدث عنها هناك.
قوله"ابن الدحداح" و"لابن الدحاح": هذا هو الثابت في تفسير عبد الرزاق، وهو الذي أثبتناه هنا. وفي المخطوطة -فيهما-"الدحداحة". وفي المطبعة"أبو الدحداح"، و"لأبي الدحداح". وما في تفسير عبد الرزاق أرجح، لأنه الأصل الذي روى عنه الطبري.
قوله: "إنما أعطانا لأنفسنا": هو الثابت عند عبد الرزاق، وهو أجود. وكان في المطبوعة"مما" بدل"إنما".
"العذق" (بفتح فسكون) : النخلة. أما"العذق" -بكسر العين: فهو عرجون النخلة. و"المذلل"- بفتح اللام الأولى مشددة: الذي قد دليت عناقيده، حتى يسهل اجتناء ثمرته، لدنوها من قاطفها.
(٢) الحديث: ٥٦١٩- وهذا مرسل أيضًا، فهو ضعيف الإسناد، وآخره موقوف من كلام قتادة. وذكره السيوطي ١: ٣١٢، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط. ولم يذكر كلام قتادة في آخره.
في المخطوطة: "ويسعر عباده"، هكذا غير معجمة ولا مبينة، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو في سياقة المعنى. والأثر في الدر المنثور ١: ٣٢١، ولكنه أسقط هذه الجملة الأخيرة عن قتادة.
284
يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: (١).
فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "قال: يدك قبل، فناوله"، وفي المخطوطة: "يدك قيل" ثم وضع ألفا على رأس الياء بعد القاف، كأن أراد أن يجعلها"قال" كما أثبتها ورجحتها، لنص مجمع الزوائد ٩: ٣٢٤: "قال: أرنا يدك. قال: فناوله يده".
(٢) الحديث: ٥٦٢٠ - وهذا إسناد ضعيف جدا.
محمد بن معاوية بن يزيد الأنماطي - شيخ الطبري: ثقة مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد ٣: ٢٧٤- ٢٧٥.
خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي: ثقة، تغير في آخر عمره، مات نحو سنة ١٨١، وهو ابن ١٠١ سنة، وقد فصلنا القول في ترجمته في المسند: ٥٨٨٥.
حميد الأعرج الكوفي القاص: هو حميد بن علي، على ما جزم به البخاري في +الكثير ١/ ٢ / ٣٥١، والضعفاء، ص: ٩. ويقال: "حميد بن عطاء" وهو الذي جزم به ابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٢٢٦ - ٢٢٧، وابن حبان في كتاب المجروحين، رقم: ٢٦٥. وهو ضعيف جدا. قال البخاري: "منكر الحديث". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، منكر الحديث، قد لزم عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود، ولا يعرف لعبد الله بن الحارث عن ابن مسعود شيء! ". وقال ابن حبان: "يروى عن عبد الله بن الحرث عن ابن مسعود- نسخة كأنها موضوعة. لا يحتج بخبره إذا انفرد".
عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب: ثقة. سبق في ترجمة الراوي عنه قول أبي حاتم أنه لا يعرف له شيء عن ابن مسعود. فالبلاء في هذه الرواية من حميد الأعرج.
وهذا الحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن خلف بن خليفة، بهذا الإسناد. على ما نقله عنه ابن كثير ١: ٥٩٣- ٥٩٤.
وذكره السيوطي ١: ٣١٢، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن سعد، والبزار، وابن المنذر، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٠، بنحوه. وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ثم ذكره مرة أخرى ٩: ٣٢٤ بلفظ آخر نحوه. وقال: " رواه أبو يعلى، والطبراني، ورجالهما ثقات. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح".
هكذا قال الهيثمي في الموضعين. وليس عندي إسناد من الأسانيد التي نسبه إليها، ولا الكتب التي ذكرها السيوطي، إلا ابن سعد. ولم أجده فيه، لأن النسخة المطبوعة من طبقات ابن سعد تنقص كثيرا من الكتاب، كما هو معروف.
ولقصة أبي الدحداح أصل آخر صحيح. من حديث أنس، رواه أحمد في المسند: ١٢٥٠٩ (٣: ١٤٦ حلبي)، بإسناد صحيح: "عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي! ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم،. فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من عذق راح، لأبي الدحداح، في الجنة. قالها مرارا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها".
وحديث أنس هذا في مجمع الزوائد ٩: ٣٢٣-٣٢٤. وقال: "رواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح". ووقع في مطبوعة مجمع الزوائد سقط نحو سطر أثناء الحديث، يصحح من هذا الموضع.
وله أصل ثان صحيح. فروى مسلم في صحيحه ١: ٢٦٤، عن جابر بن سمرة، قال: "صلى رسول الله ﷺ على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به، ونحن نتبعه نسعى خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن لنبي ﷺ قال: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح". "أو قال شعبة: لأبي الدحداح".
و"أبو الدحداح": هو ثابت بن الدحداح، أو ابن الدحداحة. ويكنى"أبا الدحداح" أو"أبا الدحداحة"، مترجم في الإصابة ١: ١٩٩. ثم ترجمه في الكنى ٧: ٥٧ - ٥٨، وذكر الخلاف في أنه واحد أو اثنان. ثم زعم أن الحق أن الثاني غير الأول! واستدل بحديث نقله من رواية أبي نعيم ضعيف، وأن في إسناده رجلا"واهى الحديث"!! فسقط الاستدلال به دون ريب.
الحائط: بستان النخيل إذا كان عليه جدار يحيط به، فإن لم يكن عليه الحائط فهو"ضاحية".
285
وأما قوله:"فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حد له ولا نهاية، كما: -
٥٦٢١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو.
وقد: -
٥٦٢٢- وقد حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال: إن الله أعطاكم
286
الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم، كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (فيضاعفه) بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له= نسق"يضاعف" على قوله:"يقرض".
* * *
وقرأه آخرون بذلك المعنى: (فيضعفه)، غير أنهم قرءوا بتشديد"العين" وإسقاط"الألف".
* * *
وقرأه آخرون: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف" في"يضاعف" ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله:"فيضاعفه" جوابا للاستفهام، وجعلوا:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" اسما. لأن"الذي" وصلته، بمنزلة"عمرو" و"زيد". فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل:"من أخوك فتكرمه"، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء= إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل= نصبه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف". ورفع"يضاعف". لأن في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" معنى الجزاء. والجزاء إذا دخل في جوابه"الفاء"، لم يكن جوابه
(١) يريد قول الله تعالى في [سورة البقرة: ١٥٦، ١٥٧] ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
287
ب"الفاء" لا رفعا. فلذلك كان الرفع في"يضاعفه" أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا"الألف" في"يضاعف" من حذفها وتشديد"العين"، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: -
٥٦٢٣- حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج= وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا= حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وقتادة، عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله الباسط القابض الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال". (١).
* * *
(١) الحديث: ٥٦٢٣ -عبد الملك بن محمد الرقاشي أبو قلابة- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: ٤٣٣١.
الحجاج؛ هو ابن المنهال الأنماطي.
أبو ربيعة: هو زيد بن عوف القطعي، ولقبه"فهد". تكلموا فيه كثيرا لأحاديث رواها عن حماد بن سلمة. وأما البخاري فقال في الكبير ٢/١/ ٣٦٩: "سكتوا عته". وهو مترجم أيضًا في ابن أبي حاتم ١/٢/ ٥٧٠ - ٥٧١، ولسان الميزان.
ومهما يكن من شأنه، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث، فلا يؤثر فيه ضعفه إن كان ضعيفا.
والحديث صحيح بهذا الإسناد، من جهة الحجاج بن المنهال، ومن الروايات الأخر التي سنذكر.
فرواه أحمد في المسند: ١٢٦١٨ (٣: ١٥٦ حلبي)، عن سريج ويونس بن محمد، عن حماد ابن سلمة، عن قتادة وثابت البناني، عن أنس.
ورواه أيضًا: ١٤١٠٢ (٣: ٢٨٦ حلي)، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، عن أنس.
ورواه الترمذي ٢: ٢٧١- ٢٧٢، وابن ماجه: ٢٢٠٠- كلاهما من طريق الحجاج بن النهال بهذا الإسناد. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه أبو دواد: ٣٤٥١، من طريق عفان، عن حماد، به.
وذكره السيوطي ١: ٣١٣، وزاد نسبته للبيهقي في السنن.
288
قال أبو جعفر: يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره: ،"والله يقبض ويبسط"، يعني بقوله:"يقبض"، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه= ويعني بقوله: و"يبسط" يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم.
وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله، (١) فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني -أيها الموسع- (٢) الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به= والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق، عند رجوعكما إلي في آخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما.
* * *
(١) الحمولة (بفتح الحاء) : كل ما يحمل عليه الناس من إبل وحمير وغيرها. والحمولة (بضم الحاء) الأحمال والأثقال. هذا وأخشى أن يكون صواب العبارة في الأصل"بالأنفاق عليه وعلىحملته" وقوله: "علي النهوض" متعلق بقوله: "ومعونته".
(٢) في المطبوعة: "فإني أنا الموسع الذى قبضت"، وهو كلام لا يستقيم أبدا، والصواب ما في المخطوطة. و"الموسع": الغني الذى كثر ماله. من قولهم: "أوسع الرجل"، صار ذا سعة وغنى وكثر ماله. وقال الله تعالى: "علي الموسع قدره وعلي المقتر قدره". وانظر ما سلف في تفسير"الوسع" في هذا الجزء: ٤٥. وسياق العبارة"فانى.... الذي قبضت".
289
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٢٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية، قال: علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى، فندب هؤلاء فقال:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط"؟ قال: بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، (١) وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له، فقوه مما في يدك، يكن لك في ذلك حظ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإلى الله معادكم، أيها الناس، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته، والتقدم على ما نهاه، (٢) فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "يبسط عليك" مضارعا، وهو لا يطابق قوله بعد: "وقبض". فجعلتها"بسط"، وإن شئت جعلت الأخرى: "ويقبض"، كما في الدر المنثور ١: ٣١٣، وأنا أرجع الأولى.
(٢) في المطبوعة: "وأن يحل بالمقتر منكم فقبض عنه رزقه، إقتاره...."، وهو كلام فاسد وفي المخطوطة: "وأن يحمل المقتر منكم فقبض عنه رزقه... " وهو لا يستقيم أيضًا، ورجحت أن تكون الأولى" المقتر" كما في المخطوطة، وأن تكون الأخرى"إذ قبض"، أو"بقبضه عنه... " وسياق الجملة:
"وأن يحمل المقتر منكم إقتاره علي معصيته).
(٣) في المطبوعة: "فيستوجب بذلك منه بمصيره... وهو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "عنه مصيره"، وظاهر أن الهاء المرسلة من"عنه"، دال"عند".
290
وكان قتادة يتأول قوله:"وإليه ترجعون"، وإلى التراب ترجعون. (١)
٥٦٢٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإليه ترجعون"، من التراب خلقهم، وإلى التراب يعودون. (٢)
* * *
(١) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب... " وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق.
(٢) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب... " وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق.
291
القول في تأويل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر"، ألم تر، يا محمد، بقلبك، (١) فتعلم بخبري إياك، يا محمد="إلى الملأ"، يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم="من بعد موسى"، يقول: من بعد ما قبض موسى فمات="إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل (٢) بن بالى (٣) بن علقمة (٤) بن يرحام (٥) بن إليهو (٦) بن تهو بن
(١) انظر معنى"ألم تر"، و" الرؤية" فيما سلف: ص: ٢٦٦، والمراجع في التعليق.
(٢) ساذكر في التعليقات الآتية ما جاء في هذا النسب من الأسماء، على رسمها في كتاب القوم الذي بين أيدينا، من أخبار الأيام الأول. في الإصحاح السادس. و"شمويل" هناك هو"صموئيل".
(٣) "بالي"، لم يرد له ذكر في نسب"شمويل" من كتاب القوم، بل هو عندهم"صموئيل بن"القانة".
(٤) (ألقانة)
(٥) (يروحام). وفي المطبوعة: "برحام" خطأ، وهو في المخطوطة غير منقوط وأما في تاريخ الطبري ١: ٢٤٢ فهو بالحاء المعجمة.
(٦) (إيليئيل). الظاهر أنه هو"إليهو".
291
صوف (١) بن علقمة بن ماحث (٢) بن عموصا (٣) بن عزريا بن صفنية (٤) بن علقمة بن أبي ياسف (٥) بن قارون (٦) بن يصهر (٧) بن قاهث (٨) بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
٥٦٢٦- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (٩) عن وهب بن منبه.
٥٦٢٧- وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق. (١٠)
* * *
وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي"شمعون"، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها، فولدت غلاما فسمته
(١) (توح)، وفي المطبوعة: "يهو صوق"، وهو خطأ، وفي المخطوطة"بهو صوف" غير منقوط، وكلاهما أسقط"بن" بين الكلمتين. والصواب من تاريخ الطبري. و" توح" مذكور في كتاب القوم، في كتاب صموئيل الأول، الإصحاح الأول برسم: "توحو".
(٢) (محث).
(٣) (عما ساى) والنسب في كتاب القوم بعد ذلك: "عما ساى بن ألقانة بن يوثيل بن عز ريا بن صفنيا بن تحث بن أسير بن أبياساف"، وبعضه لم يذكر في النسب الذي رواه الطبري، وفيما رواه بعد ذلك تقديم وتاخير كما ترى.
(٤) (صفنيا)، وفي المطبوعة والمخطوطة: " صفية".
(٥) (أبياساف) وفي المطبوعة: "أبى ياسق"، وفي المخطوطة" أبي ياسف".
(٦) (قورح).
(٧) (يصهار).
(٨) (قهات).
(٩) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في الطبري عن"محمد بن إسحق" صاحب السيرة.
(١٠) في المخطوطة والمطبوعة: "كما نسبه إسحاق"، وهو خطأ ظاهر، وانظر التعليق السالف.
292
"شمعون"، تقول: الله تعالى سمع دعائي.
٥٦٢٨- حدثني [بذلك] موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (١)
* * *
فكأن"شمعون""فعلون" عند السدي، من قولها: إنَّه سمع الله دعاءها. (٢)
* * *
٥٦٢٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم"، قال: شمؤل. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع (٤) بن نون بن أفراثيم (٥) بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
٥٦٣٠- حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ)، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. (٦)
* * *
وأما قوله:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فاختلف أهل التأويل في
(١) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، كما في إسناد الأثر السالف،
(٢) في المطبوعة: "من قولها سمع" أسقط" أنه" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: " شمعون"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب ما في المخطوطة والدر المنثور ١: ٣١٥.
(٤) (يشوع).
(٥) (أفرايم)، وفي المطبوعة (أفراثيم)، والصواب ما أثبت من التاريخ ١: ٢٢٥، وفي المخطوطة غير منقوطة.
(٦) يعني المذكورين في قوله تعالى في [سورة المائدة: ٢٣] ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾، الآية.
293
السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك.
فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما: -
٥٦٣١- حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا (١) يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل (٢) بن بوزي، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس (٣) بن نسى (٤) بن فنحاص (٥) بن العيزار (٦) بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، (٧) وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا، إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام، كل ملك
(١) (يفنة) وفي المطبوعة: " يوقنا"، والصواب من المخطوطة والتاريخ ١: ٢٣٨.
(٢) (حزقيال) في كتاب القوم.
(٣) (إيليا)، وهو"إيليا التشبى" مذكور في"الملوك الأول" إصحاح: ١٧.
(٤) لم أجد نسب"إيليا"، وقوله: "نسى"لم أجده. وهو في المخطوطة"سى" غير منقوطة ولا واضحة، وفي تاريخ الطبري ١: ٢٣٩"إلياس بن ياسين".
(٥) (فينحاس).
(٦) (العازار).
(٧) (أخاب) "في الملوك الأول" الإصحاح: ١٦، ١٧. وهو في المطبوعة والتاريخ والمخطوطة: "أحاب"، مهمل الحاء.
294
له ناحية منها يأكلها. (١) فقال ذلك الملك= الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه = يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل (٢) - قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، (٣) ما ينقص من دنياهم [أمرهم الذي تزعم أنه باطل] ؟ (٤) وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون - (٥) والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون. (٦) ثم خلف من بعده فيهم اليسع، (٧) فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم، (٨) إلا هزم الله ذلك العدو. (٩) ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء، (١٠) وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم -فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم، (١١) ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. (١٢) وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا لا يقبلون منه شيئا، يقال له"شمويل"، (١٣) وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد:"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" إلى قوله:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، يقول الله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، إلى قوله:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين".
= قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر
(١) (يأكلها) أي يغلب عليها، ويصير له ما لها وخراجها. وفي حديث عمرو بن عنبسة: (ومأكول حمير من آكلها، الماكول: الرعية -والآكلون: الملوك. وهم يسمون سادة الأحياء الذين يأخذون المرباع وغيره" الآكال"، وفي الحديث: "أمرت بقرية تأكل القرى"، هي المدنية، أي يغلب أهلها بالإسلام على غيرها من القرى.
(٢) في المطبوعة: "يعدد ملوكا.. " وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري: "يعد".
(٣) في المطبوعة: "مالكين"، وفي المخطوطة: "ملكين"، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(٤) الزيادة التي بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(٥) في المطبوعة: "ويزعمون" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٦) إلى هذا الموضع رواه الطبري بإسناده هذا في تاريخه١: ٢٣٩ / ثم الذي يليه في ١ / ٢٤٠ فصلت بينهما روايات أخرى.
(٧) (أليشع) في كتاب القوم.
(٨) في المطبوعة والمخطوطة: "وكانوا... "، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود.
(٩) بعد هذا في التاريخ ما نصه: "والسكنية - فيما ذكر ابن إسحق، عن وهب بن منبه، من بعض أهل إسرائيل -رأس هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرة، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
(١٠) (عالي) في كتاب القوم وفي تاريخ الطبري"إيلاف". والمرجح أن الذي في المطبوعة والمخطوطة هو الصواب، لقربه من لفظ"عالي" وإن كان الطبري قد ذكر في تاريخه ١: ٢٤٣"عيلى"،. وعالي، من عظماء كهنة بني إسرائيل وقضى لهم أربعين سنة. وخبر موت عالي عند استلاب التابوت، مذكور في كتاب القوم"صموئيل الأول" الإصحاح الرابع.
(١١) في تاريخ الطبري: "فمرج أمرهم بينهم". ومرج الأمر: اختلط والتبس واضطرب في الفتنة.
(١٢) إلى هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في التاريخ ١: ٢٤٠-٢٤١.
(١٣) (صموئيل) في كتاب القوم.
295
الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا.
٥٦٣٢- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" إلى:"والله عليم بالظالمين"، قال الربيع: ذكر لنا -والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم، (١) فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا"، إلى قوله:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".
٥٦٣٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال قال ابن عباس: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم. (٢)
(١) في المطبوعة: "في نفوسهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) استخرج (بالبناء للمجهول) : حمل على الخروج من بلاده. وهذا لفظ لم يذكره أصحاب المعاجم، وهو عربية معرقة.
297
٥٦٣٤- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان.
* * *
وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك، ما: -
٥٦٣٥- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، قال: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، (١) وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى، فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته شمعون. (٢) فكبر الغلام، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس، (٣) وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ= وكان لا يتمن عليه أحدا غيره= (٤) فدعاه بلحن الشيخ:"يا شماول! "، (٥) فقام
(١) (جليات) في كتاب القوم.
(٢) في تاريخ الطبري بعد قوله شمعون: "تقول": الله سمع دعائي". وانظر الأثر السالف رقم: ٥٦٢٨ وما قبله وما بعده.
(٣) في المطبوعة: "فأرسلته يتعلم"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٤) في المطبوعة: "لا يأتمن"، وفي تاريخ الطبري مطبوعة مصر: "لايئتمن" في الأوربية والمخطوطة: "لا يتمن". وأمنه وأمنه وائتمنه واتمنه (بتشديد التاء) سواء، وانظر تعليق صاحب اللسان على قول من قال إن الأخيرة نادرة.
(٥) اللحن: اللغة واللهجة. وفي التاريخ: "شمويل"، وظاهر هذا الخبر يدل على أن"شمعون" هو"شمويل" وأنهما لغتان بمعنى واحد. وانظر الآثار السالفة ٥٦٢٦ -٥٦٢٩، والتعليقات عليها.
298
الغلام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول:"لا" فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية، فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! (١) وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك! فقال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره:"نقاتل في سبيل الله" إذا قرئ"بالنون" غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون، بمعنى: الذي نقاتل به في سبيل الله، (٣) فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. (٤) ولكن لو كان قرئ ذلك"بالياء" لجاز رفعه، لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل"الملك"، فيصير تأويل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله، كما قال تعالى ذكره: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [سورة البقرة: ١٢٩]، لأن قوله" يتلو" من صلة الرسول. (٥)
* * *
(١) في المطبوعة"ولم تنل لك" وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري: "ولم تبالك"، من المبالاة، وهي ليست بشيء. وفي الدر المنثور: "ولم يأن لك"، وفي المخطوطة: "ولم تنل لك" وظاهر أنها"تئن". من"آن يئين أينا": أي حان. مثل"أني لك يأني"، بمعناه، أي لم تبلغ بعد أوان أن تكون نبيا.
(٢) الأثر: ٥٦٣٥- في تاريخ الطبري ١: ٢٤٢، والدر المنثور ١: ٣١٥، وفي المطبوعة ختم الأثر بقوله: "والله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ لا معنى لها هنا، وليست في المخطوطة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: " الذي نقاتل" بحذف"به"، وهو خطأ يدل عليه السياق، وما جاء في معاني القرآن للفراء ١: ١٥٧.
(٤) يعني"الذي" و"به".
(٥) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٥٧- ١٦٢، فهو قد استوعب القول في هذه القراءة، وفي هذا الباب من العربية. و"الصلة": التابع، كالنعت والحال، ويعني به نعت النكرة، هنا.
299
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله:"هل عسيتم"، هل، تعدون (١) "إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال (٢) ="ألا تقاتلوا"، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ ="قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله="وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول"أن" في قوله:"وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، وحذفه من قوله: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ؟ [سورة الحديد: ٨]
قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف"أن" مرة مع قولها: (٣) "ما لك"، فتقول:"ما لك لا تفعل كذا"، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر: (٤)
* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف *...
(١) انظر هذا التفسير في مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٧٧.
(٢) انظر معنى" كتب" فيما سلف ٣: ٣٥٧، ٣٦٤- ٣٦٥، ٤٠٩/ ٤: ٢٩٧.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "مع قولنا"، والسياق الآتي يقتضي ما أثبت.
(٤) لم أعرف قائله، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من الرجز. وهو في معاني القرآن للفراء ١: ١٦٣، واللسان (خلف). والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل، وجمعها خلف، وهو نادر، وهذا البيت شاهده، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق الحوامل"مخاض"، كقولهم: "امرأة، ونسوه"، وهذا الراجز يقول لناقته: ما زغاؤك، والحوامل لا ترغو؟ يعني أنها إنما ترغو حنينا إلى بلاده وبلادها. حيث فارق من كان يحب، كما قال الشماطيط الغطفاني لناقته:
أرار الله مخك في السلامى إلى من بالحنين تشوقينا!!
فإني مثل ما تجدين وجدي، ولكني أسر وتعلنينا!
وبي مثل الذي بك، غير أني أجل عن العقال، وتعقلينا!
هذا، وقد كان في المطبوعة"ملك ترعين ولا ترعوا الخلف"، وهو في المخطوطة على الصواب، ولكنه غير منقوط كعادة ناسخها في كثير من المواضع.
300
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.
= وتثبت"أن" فيه أخرى، توجيها لقولها:"ما لك" إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: ١٢]، ثم قال في سورة أخرى في نظيره: (مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر: ٣٢]، فوضع"ما منعك" موضع"ما لك"، و"ما لك" موضع"ما منعك"، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر: (١)
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت:... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم؟ (٢)
(١) هو الفرزدق.
(٢) ديوانه: ٨٦٣، والنقائض: ٧٥٣، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٦٤، واللسان (قرد) (قلا) (هلل) يهجمو جريرا، ويعرض بالبعث، وقبله، يعرض بأن قوم جرير، وهم كليب بن يربوع، كان يغشون الأتن: وليس كليبي، إذا جن ليله... إذا لم يجد ريح الأتان، بنائم
يقول- إذا اقلولي.......................
وفي المطبوعة: "تقول". وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا فاسدا جدا في"قرد"، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه الرواية، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد. ورغم أنه أراد امرأة يزنى بها. والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير، لا إناث البشر!! وقوله: "اقلولي" أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا لا يستقر، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير ما أراد. وأقرد الرجل وغيره: سكن وتماوت. يريد أن الأتان قد رضيت فأسمحت فسكت له. فلما بلغ ذلك منه ومنها قال: "ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم"، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك، وأنه يأسف ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم. وقد زعموا أن"هل" هنا بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم. (اللسان: هلل).
301
فأدخل في"دائم""الباء" مع"هل"، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر" ما" التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد. (١)
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول: (٢) أدخلت" أن" في:"ألا تقاتلوا"، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال:"ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم"، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال:"منعتك أن تقوم"، ولا يقال:"منعتك أن قمت"، فلذلك قيل في" مالك":"مالك ألا تقوم" ولم يقل:"ما لك أن قمت".
* * *
وقال آخرون منهم: (٣) " أن" ها هنا زائدة بعد" ما لنا"، كما تزاد بعد" لما" و" لو"، (٤) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل" أن" وهي زائدة، وقال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذن للام ذوو أحسابها عمرا (٥)
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٦٣- ١٦٤، وقد استوفى الكلام فيما فتحه الطبري.
(٢) هو الكسائي، كما صرح به الفراء في معاني القرآن ١: ١٦٥.
(٣) هو أبو الحسن الأخفش، كما يتبين من تفسير أبي حيان والقرطبي والمغني.
(٤) في المطبوعة: " زائدة بعد فلما ولما ولو"، وهو تخليط. وفي المخطوطة "بعد مليما... " مضطربة الكتبة، فالصواب عندي أن تكون: "مالنا"، ولما أخطأ الناسخ الكتابة والقراءة، حذف "كما تزاد"، وهذا هو صواب المعنى والحمد لله
(٥) ديوانه: ٢٨٣، وسيأتي في التفسير ٩: ١٦٥، والخزانة ٢: ٨٧، والعيى (الخزانة) ٢: ٣٢٢ يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك. وقومه. فزارة ابن ذبيان، من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهو شعر جيد في بابه، وقبل البيت أبيات منها: يا قيس عيلان، إني كنت قلت لكم... يا قيس عيلان: أن لا تسرعوا الضجرا
إني متى أهج قوما لا أدع لهم سمعا، إذ استمعوا صوتي، ولا بصرا
ثم قال بعد ذلك أبيات: لو لم تكن غطفان.......
هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن"الذنوب"جمع"ذنب"، وهو عندي ليس بشيء، وإنما انحطوا في آثار الأخفش، حين استشهد بالبيت على إعمال"لا" الزائدة. وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في البيت شاهد عندئذ. والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به. والذنوب (بفتح الذال) : الخط والنصب، وأصله الدلو الملأى. وهو بهذا المعنى في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾، أي حظا من العذاب. قال الفراء: " الذنوب الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب به إلى الحظ والنصيب". وقال الزمخشري: "ولهم ذنوب من كذا" أي نصيب، قال عمرو ابن شأس:أقول: يقول الفرزدق: لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف والحسب والمروءة -"إذن للام ذوو أحسابها عمرا". وبذلك يبرأ البيت من السخف ومن تكلف النحاة. هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء: ٢٨٧- ٢٨٨وقوله:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
فسد الزمان وبدلت أعلامه حتى أمية عن فزارة تنزع
يقول: تبدلت الدنيا، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن رأيها. يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده.
302
والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب=" ولا" زائدة فأعملها. (١)
= وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل" أن" زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن" أن" زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله:
* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها *...
(١) استشهد بهذا على إعمال الزائدة وهو"لا"، كما أعملت"أن" في الآية.
303
= فإن" لا" غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:"لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها"، إثبات الذنوب لها، كما يقال:"ما أخوك ليس يقوم"، بمعنى: هو يقوم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت"الواو" فتركت، كما يقال في الكلام:"ما لك ولأن تذهب إلى فلان"، فألقي منها"الواو"، لأن"أن" حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال:"ما لك أن تقوم"، ولا نجيز:"ما لك القيام"، لأن القيام اسم صحيح و" أن" اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب:"إياك أن تتكلم"، بمعنى: إياك وأن تتكلم.
* * *
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا:"ضربتك بالجارية وأنت كفيل"، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية= وأن تقول:"رأيتك إيانا وتريد"، بمعنى:"رأيتك وإيانا تريد". (١) لأن العرب تقول:"إياك بالباطل تنطق"، قالوا: فلو كانت"الواو" مضمرة في"أن"، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد"الواو" من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، (٢) واستشهدوا على فساد قول من زعم أن"الواو" مضمرة مع" أن" بقول الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها إياك في غيرهم أن تبوحا (٣)
(١) في المطبوعة: "رأيتك أبانا ويزيد، بمعنى: رأيتك وأبانا يزيد"، وهو كلام ساقط هالك. والصواب من المخطوطة، وإن كان غير منقوط الحروف، ومن معاني القرآن للفراء ١: ١٦٥.
(٢) "الأفاعيل" الأفعال. ووقوعها على ما قبلها، إما بالعمل فيه أو بالتعليق به.
(٣) لم أعرف قائله، وهو في معاني القرآن للفراء ١: ١٦٥، والسرائر جمع سريرة، والسريرة: السر هنا.
304
= وأنَّ " أن تبوحا"، لو كان فيها"واو" مضمرة، لم يجز تقديم"في غيرهم" عليها. (١)
* * *
وأما تأويل قوله تعالى:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، فإنه يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم.
* * *
وأما قوله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله="تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد.
والقليل الذي استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه.
* * *
يقول الله تعالى ذكره:"والله عليم بالظالمين"، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه
(١) في المخطوطة والمطبوعة: " تقديم غيرهم" بإسقاط"في"، والصواب من معاني القرآن للفراء ١: ١٦٦، وقد استوفى الكلام في ذلك، وكأن ما هنا منقول عنه بنصه.
305
فيه، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى.
* * *
وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام:"قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"= فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال=" فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل: إن الله قد أعطاكم ما سألتم، وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الملك علينا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب= وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة= ونحن أحق بالملك منه، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب="ولم يؤت سعة من المال"، يعني: ولم يؤت طالوت كثيرا من المال، لأنه سقاء= وقيل: كان دباغا.
* * *
وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"، ما: -
٥٦٣٦- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث
306
لهم ملكا، فقال الله له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك، (١) فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، (٢) فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم، وأخبره بالذي جاءه- (٣) فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه. (٤) وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، (٥) وكان من سبط بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته، (٦) ومعه غلام له. فمرا ببيت النبي عليه السلام، فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه، ثم قال لطالوت: قرب رأسك! فقربه، فدهنه منه، ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! = وكان اسم"طالوت" بالسريانية: شاول (٧) بن قيس بن أبيال (٨) بن ضرار (٩) بن يحرب (١٠) بن أفيح بن آيس (١١) بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم= فجلس عنده، وقال الناس: ملك طالوت!! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس في بيت النبوة المملكة؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا! فقال لهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
٥٦٣٧- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: قالت بنو إسرائيل لأشمويل: (١٢) ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله! قال: قد كفاكم الله القتال! قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه! فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا، وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت، (١٣)
فأرسله وغلاما له يطلبانها، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، (١٤) فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال: أنا؟ قال: نعم! قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ (١٥) قال: بلى. قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي؟! قال: بلى! قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال:
(١) القرن: قرن الثور وغيره، وكأنه أراد هنا: القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها، وقد سموا المحجمة التي يحتجم بها"قرنا" ولم أجد هذا الحرف بهذا المعنى في كتب اللغة، ولكنه صحيح كما رأيت.
(٢) نش الماء ينش نشا: ونشيشا: صوت عند الغليان.
(٣) في المخطوطة"بالذي حاه" غير منقوطة، ولولا أن في المطبوعة، صواب أيضًا، لقلت إنها: "بالذي حباه الله"، يعني الملك.
(٤) هكذا جاءت هذه الجملة في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور ١: ٣٥١. وأخشى أن تكون"متى" زائدة، أو تكون"مأتى ذلك الرجل ٠٠".
(٥) الأدم جمع أديم. وهو جمع عزيز، وقال سيبوله: هو اسم للجمع. قال التوزي: "الجلد أول ما يدبغ فهو أديم، فإذا رد في الدباغ مرة أخرى فهو اللديم".
(٦) يقال: أضله الأمر: إذا ذهب عنه وفارقه فلم يقدر عليه. وهذا من عجيب العربية. وفي المخطوطة: "أطلته"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة والدر المنثور.
(٧) في المخطوطة والمطبوعة: "شادل". والصواب من التاريخ ١: ٢٤٧، والدر المنثور ١: ٣١٥، وهو كذلك في كتاب القوم.
(٨) (أبيئيل) في كتاب القوم.
(٩) (صرور) في كتاب القوم.
(١٠) (بكورة) في كتاب القوم، وفي التاريخ"بحرت"، وكأنها الصواب.
(١١) لم أجد في كتاب القوم، وفي التاريخ (أيش).
(١٢) في تاريخ الطبري ١: ٢٤٤"لأشمويل"، وفيما سيأتي بعد"أشمويل" في سائر المواضع.
وكذلك في المخطوطة، أما المطبوعة، فكان فيما"لشمويل"، وفي سائر المواضع"شمويل" فأثبيت ما في المخطوطة والتاريخ.
(١٣) في المطبوعة: " وضلت"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(١٤) في المخطوطة والمطبوعة: "فجاؤوا... يسألونه عنها"، والصواب ما في التاريخ كما أثبته.
(١٥) في المخطوطة والمطبوعة: " وما علمت" وأثبت ما في التاريخ، وهو مقتضى السياق.
307
بلى! قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي! فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
٥٦٣٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما كذبت بنو إسرائيل شمعون، (١) =وقالوا له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك. قال لهم شمعون: عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" الآية= دعا الله، فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له، فضل حماره، فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها، فكان مثلها، فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة، وليس هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال النبي:"إن الله اصطفاه عليكم وزاد بسطة في العلم والجسم". (٢)
٥٦٣٩- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: كان طالوت سقاء يبيع الماء.
٥٦٤٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بعث الله طالوت ملكا، وكان من سبط بنيامين، سبط لم يكن فيهم
(١) انظر الأثر السالف: ٥٦٣٥، وما قبله في الاختلاف في اسم هذا النبي عليه السلام.
(٢) الأثر: ٥٦٣٨- هو تتمة الأثر السالف: ٥٦٣٥، وهو في تاريخ الطبري بعلوله ١: ٢٤٢- ٢٤٣.
309
مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي، إليه موسى = وسبط المملكة يهوذا، إليه داود وسليمان. فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة! فقال الله تعالى ذكره:"إن الله اصطفاه عليكم".
٥٦٤١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ابعث لنا ملكا"، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ قال: وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة، فقال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
٥٦٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط خلافة، فلذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ يقولون: ومن أين يكون له الملك علينا، وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة"؟ قال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
٥٦٤٣- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"أنى يكون له الملك علينا"، فذكر نحوه.
٥٦٤٤- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال"؟ الآية، قال: فبعث الله طالوت ملكا. قال: وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم
310
ملكا، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة؟ فقال:"إن الله اصطفاه عليكم" الآية.
٥٦٤٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أما ذكر طالوت إذ قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان: كان في أحدهما النبوة، وكان في الآخر الملك، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين، واختاره عليهم، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن أجل ذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من واحد من السبطين؟ قال: ف"إن الله اصطفاه عليكم" إلى:"والله واسع عليم".
٥٦٤٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم ="فلما كتب عليهم القتال"، وذلك حين أتاهم التابوت. قال: وكان من بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، = فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من أحد السبطين: لا من سبط النبوة، ولا سبط الخلافة؟ "قال إن الله اصطفاه عليكم"، الآية. (١)
* * *
(١) الأثر: ٥٦٤٦- هو تتمة الأثر السالف: ٥٦٣٣.
311
وقد قيل: إن معنى"الملك" في هذا الموضع: الإمرة على الجيش.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، قال: كان أمير الجيش.
٥٦٤٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله= إلا أنه قال: كان أميرا على الجيش.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"أنى"، ومعنى"الملك"، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال نبيهم شمويل لهم:"إن الله اصطفاه عليكم"، يعني: اختاره عليكم، كما: -
٥٦٤٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اصطفاه عليكم"، اختاره. (٢)
٥٦٥٠- حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال: اختاره عليكم.
(١) انظر تفسير"أنى" فيما سلف ٤: ٣٩٨- ٤١٦، وتفسير معنى"الملك" فيما سلف ١: ١٤٨- ١٥٠، ثم ٢: ٤٨٨.
(٢) انظر تفسير"الاصطفاء" فيما سلف ٣: ٩١.
312
٥٦٥١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم"، اختاره.
* * *
وأما قوله:"وزاده بسطة في العلم والجسم"، فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله، وأما"في الجسم"، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم. كما: -
٥٦٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: لما قالت بنو إسرائيل:" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا.
* * *
وقال السدي: أتى النبي ﷺ بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها.
٥٦٥٣- حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (١)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده" مع اصطفائه إياه"بسطة في العلم والجسم". يعني بذلك: بسط له مع ذلك في العلم والجسم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٥٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، بعد هذا.
* * *
(١) الأثر: ٥٦٥٣- هو بعض الأثر السالف: ٥٦٣٨.
313
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه="يؤتيه"، يقول: يؤتي ذلك من يشاء، فيضعه عنده ويخصه به، ويمنعه من أحب من خلقه. (١) يقول: فلا تستنكروا، يا معشر الملإ من بني إسرائيل، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٥٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، الملك بيد الله يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه.
٥٦٥٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: ملكه سلطانه.
٥٦٥٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، سلطانه.
* * *
وأما قوله:"والله واسع عليم"، فإنه يعني بذلك"والله واسع" بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء= (٢) "عليم" بمن هو أهل لملكه الذي
(١) في المطبوعة: "ويمنحه من أحب... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "فينعم له، والصواب ما في المطبوعة: وفي المطبوعة: "ويريد به من يشاء"، وفي المخطوطة: " ويريد فيه... " غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.
314
يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾
قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"، فقالوا له: ما آية ذلكإن كنت من الصادقين؟ (٢) ="قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت". وهذه القصة = (٣) وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله، ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته، (٤) ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله، من
(١) في المخطوطة: "وإما لا نه" وبينهما بياض على قدر كلمة، ولم أستطع أن أجد كلمة في البياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وإن كنت لا أرضاه كل الرضى.
(٢) في المطبوعة: "فقالوا له: ائت بآية على ذلك... "، وفي المخطوطة: " مما أتى به ذلك" وقد ضرب على الباء من"أتى". واستظهرت قراءتها كما أثبتها، لقوله تعالى بعد: " إن آية ملكه".
(٣) في المطبوعة: " هذه القصة" بإسقاط الواو، وإسقاطها مخل بالكلام.
(٤) في المطبوعة: " بناء عما كان منهم من تكذيبهم"، وهو غث من الكلام. وفي المخطوطة: "بنا عما كان... " غير منقوطة، والصواب ما أثبت مع زيادة"الواو" عطفا على قوله: "وإن كانت خبرا... ".
315
الجهاد في سبيل الله، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه، وفتح الله على القليل من الفئة، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه= (١) فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا ﷺ فيما أمرهم به ونهاهم عنه= مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقيقة نبوته، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم = (٢) أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي، مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقية نبوته، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم، ابتداء منهم بذلك نبيهم، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك= (٣) وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد ﷺ على الجهاد في سبيله، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد ﷺ عند لقائه العدو، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله= (٤) وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: ٢٤٩]، = (٥) وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر.
* * *
وأما تأويل قوله:"قال لهم نبيهم"، فإنه يعني: للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".
* * *
وقوله:"إن آية ملكه"،: إن علامة ملك طالوت= (٦) التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا، وإن كان من غير سبط المملكة="أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم، وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدو، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم، حتى ضيعوا أمر الله، (٧) وكثر اختلافهم على أنبيائهم، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة، يرده إليهم في كل ذلك، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم، (٨) ولن يرد إليهم آخر الأبد. (٩)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟
فقال بعضهم: بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه، (١٠) حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت. وقال في
(١) سياق الجملة: وهذه القصة، وإن كانت خبرا من الله٠٠ ٠ ونبأ عما كان منهم... فإنه تأديب... ".
(٢) سياق هذه الجملة: "وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا... أن يكونوا كأسلافهم... ".
(٣) قوله: "وحض... " معطوف على قوله آنفًا: "فإنه تأديب... ".
(٤) قوله: "وشخذ... " معطوف ثان على قوله آنفًا: " فإنه تأديب... ".
(٥) قوله: " وإعلام... " معطوف ثالث على قوله: "فإنه تأديب... ".
(٦) انظر تفسير"آية" فيما سلف ١: ١٠٦ / ٢: ٣٩٧، ٣٩٨، ٥٥٣ / ٣: ١٨٤ / ٤: ٢٧١.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى منعوا أمر الله". وهو تصحيف لا معنى له، والصواب ما أثبت.
(٨) في المطبوعة: "حتى سلبهم آخر مرة"، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد، وإن كانت الأخرى قريبة من الصواب على ضعف.
(٩) في المخطوطة: "ولم يرده إليهم آخر الأبد"، وهو خطأ بين.
(١٠) في المطبوعة: " كان ذلك عندهم"، بحذف"بل".
316
سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما: -
٥٦٥٨- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: كان لعيلي الذي ربى شمويل، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين (١) فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، (٢) فجعله ابناه كلاليب. (٣) وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن. فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي، إذ سمع صوتا يقول: أشمويل!! (٤) فوثب إلى عيلي فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لا! ارجع فنم! فرجع فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويل!! فوثب إلى عيلي أيضا، فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل:"لبيك" مكانك،"مرني فأفعل"! فرجع فنام، فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل!! فقال: لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال: انطلق إلى عيلي فقل له:"منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما"! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا. فسار إليهم عدو ممن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: " كان مشرط القربان الذي يشرطونه به"، وهو خطأ لا معنى له، والصواب من تاريخ الطبري ١: ٢٤٣. والمسوط (بكسر الميم) : المسواط خشبة أو ما يشبهها، يحرك بها ما في القدر ليختلط. ساط الشيء في القدر يسوطه سوطا: إذا حركة وخاصه، ليختلط ويمتزج. وقربان اليهود هذا هو"التقدمة"، كانت من دقيق مع زيت ولبان، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل اللبان، ويوقد على المذبح، أو يعمل منه قطائف علي صاج، وأما البقية فكانت للكمهنة (قاموس الكتاب المقدس ٢: ٢٠٨). والكلاب (يضم الكاف وتشديد اللام) : سفود من حديد أو خشب، في رأسه عقافة معطوفة كالخطاف، وجمعه: "كلاليب".
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "للكاهن الذي يستوطنه"، وهو خطأ، صوابه من التاريخ.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "فجعل ابناه... "، والصواب من التاريخ.
(٤) في المخطوطة والتاريخ في هذا الموضع وما بعده: "أشمويل"، والذي قبله: "شمويل"، وأثبت ما فيهما، كما سلف قريبا ص: ٣٠٨، تعليق: ٥.
318
حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به. (١) فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم، جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو! قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم، والصنم من فوقه، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض: قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا: كذبت! قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهم العجل، (٢) ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، (٣) حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، (٤) ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل: اعترضوا، (٥) فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل، (٦) أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. (٧)
٥٦٥٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، وإن آية ملكه= وإن تمليكه من قبل الله= أن يأتيكم التابوت، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو، وتظهرون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب، مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها:"أزدود"، (٨) فكانوا قد جعلوا التابوت في
(١) في التاريخ: "لينتصروا به"، أي ليجلبوا النصر لأنفسهم به.
(٢) في المطبوعة: "وراءهم" والصواب من التاريخ والمخطوطة. والنير: الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها.
(٣) في المطبوعة: " ينطلقان مذعنين"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٤) في المطبوعة: "حضار"، وفي المخطوطة: "حصار"، غير منقوطة، والصواب ما في التاريخ.
(٥) في التاريخ: "اعرضوا"، وهما سواء.
(٦) في التاريخ: "فلم يقدر أحد على أن يدنو منه"، والذي في المخطوطة والمطبوعة حسن.
(٧) الأثر: ٥٦٥٨- في التاريخ ١: ٢٤٣- ٢٤٤، وهو صدر الأثر السالف رقم: ٥٦٣٧، وساقهما الطبري في التاريخ سياقا واحدا.
(٨) في المطبوعة: "يقال لها: أردن"، وهو خطأ لا شك فيه، وأما ما في المخطوطة فهو، "أردود" بالراء، وأنا أظنه بالزاي وأثبته كذلك. فإنه الذي في كتاب القوم في"كتاب صموئيل الأول" الإصحاح الخامس: "أشدود"، وقال صاحب قاموسهم: "أشدود" (حصن، معقل)، إحدى مدن فلسطين الخمس المحالفة... وموقعها على ثلاثة أميال من البحر المتوسط بين غزة ويافا. قال: وهي الآن قرية حقيرة تسمى: أسدود، وفي جوارها خرائب كثيرة". والذي يرجع ما ظننته أنها بالزاي أن ابن كثير قال في تفسيره ١: ٦٠٢ أنه يقال لها: " أزدوه"، وقال مصحح التفسير بهامشه أنها في نسخة الأزهر: "أزدرد". وفي البغوي بهامش ابن كثير ١: ٦٠١"أزدود" كما أثبتها.
319
كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي ﷺ ما كان: من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم- جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا، (١) قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا: تعلمون والله، لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله، (٢) وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا على جنوبهما، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران، حتى وقف على بني إسرائيل، فكبروا وحمدوا الله، وجدوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت. (٣)
٥٦٦٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم- أبوا أن يسلموا له الرياسة، حتى قال لهم:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم". فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!!
(١) في المطبوعة: "تثبت الفأرة"، وليست صوابا، والذي في المخطوطة" تبيت" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. بيت القوم العدو: أتوهم في جوف الليل فأوقعوا بهم وهم في غفلة عنه. والاسم: "البيات"، وفي البغوي ١: ٦٠١ (بهامش ابن كثير) :"فكانت الفأرة تبيت مع الرجل".
(٢) في المطبوعة: "أمة من الأمم قبلكم"، وفي المخطوطة: "أمة من الأمم قبله"، والذي أثبت أقرب إلى رسم المخطوطة، مع التصحيف فيها.
(٣) في المطبوعة: "واستوثقوا". وهو خطأ والصواب ما في المخطوطة. ومعناه: اجتمعوا على طاعته. وأصله من"الوسق"وهو ضم الشيء إلى الشيء، وفي حديث أحد: "استوسقوا كما يستوسق جرب الغم. أي: استجمعوا وانضموا. وفي حديث النجاشي: "واستوسق عليه أمر الحبشة"، أي اجتمعوا على طاعته. وهو المراد هنا. وانظر ما سيأتي في الأثر: ٥٧٠٧.
321
= وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها. فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت= قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها. قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت- والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا- فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا: نعم! فسلموا له وملكوه. قال: وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم. ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
٥٦٦١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال:"أنى يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام". ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة، رد الله إليه روحه، وقد عمرت، فهي على حالتها الأولى. (١)
(٢)................................................................................
................................................................................
................................................................................
فلما أراد أن يرد عليهم التابوت، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم: إما دانيال وإما غيره: إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض، فأخرجوا عنكم هذا التابوت! قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط، فإذا نطرتا
(١) الأثر: ٥٦٦١- سيأتي هذا الأثر نفسه برقم: ٥٩١٢ وهو أثر"مبتور" بلا شك ولم أستطع أن أتمه، وانظر التعليق على الأثر التالي المذكور آنفًا.
(٢) أما موضع النقط هذا، فإنه سقط بلا شك فيه، فإن خبر أرميا السالف، لا يمكن أن يكون هذا الكلام من صلته، فإن فيه ذكر رد التابوت في عهد طالوت وداود، وهما قبل أرميا بدهر طويل. وأخشى أن يكون الناسخ قد قدم ورقة على ورقة في النسخة العتيقة، أو تخطى وجها من الكتاب الذي نسخ منه. وليس من الممكن إتمام هذا النقص، فلذلك فصلت بين الكلامين بهذه النقط، حتى يتيح الله نسخة أقدم من النسخ التي بين أيدينا تسد هذا الخرم أو تصحح مكان الكلام.
وهذا الذي بعد النقط، خبر عن القرية التي وضع فيها التابوت حين سبي، كما ذكر في الأثر رقم: ٥٦٥٨، وهو أثر ضاع صدره عن وهب بن منبه، كما هو واضح في السياق الآتي. ولم أجد صدره في شيء من الكتب التي بين يدي. هذا ونسختنا في الموضع كثيرة الخطأ السهو، كما يتبين ذلك من خط كاتبها، ومن الأخطاء السالفة التي ذكرتها في التعليقات.
322
إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما، (١) ثم يشد التابوت على عجل، ثم يعلق على البقرتين، ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما، وقطعتا حبالهما، وذهبتا. فنزل إليهما داود ومن معه، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به = فقلنا لوهب: ما حجل إليه، قال: شبيه بالرقص= فقالت له امرأته: لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال: أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها.
* * *
وقال آخرون: بل التابوت= الذي جعله الله آية لملك طالوت= كان في البرية، وكان موسى ﷺ خلفه عند فتاه يوشع، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. (٢)
(١) في المخطوطة: "فإذا نظرتا إليها"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها هنا ما نصه:
"يتلوه إن شاء الله تعالى: ذكر من قال ذلك:
وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا.
على الأصل.
بلغت بالقراءة من أوله والسماع على القاضي أبي الحسن الخصيب، عن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، والقاضي ينظر في كتابه. وسمع معي أخي على حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي... وعبد الرحيم بن أحمد البخاري. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، في شعبان سنة ثمان وأربعمئة بمصر"
"ثم يتلو في أول الجزء التالي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
323
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٦٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره.
٥٦٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" الآية، قال: كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح التابوت في داره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"، و"الألف واللام" لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره
324
ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه المقالة، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، (١) أبين الدلالة على صحة القول الآخر، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما.
* * *
وكانت صفة التابوت فيما بلغنا، كما: -
٥٦٦٤- حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال: سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى: ما كان؟ قال: كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "ففساد هذا القول"، "والصواب ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ٥٦٦٤-"محمد بن عسكر"، هو محمد بن سهل بن عسكر، سلف في رقم: ٥٥٩٨. بكار بن عبد الله اليماني، روي عن وهب منبه. روى عنه بن ابن المبارك، وهشام بن يوسف وعبد الرزاق. قال أحمد: ثقة. مترجم في الكبير ١/٢/١٢٠، وابن أبي حاتم ١/١ /٤٠٨.
325
القول في تأويل قوله: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فيه"، في التابوت="سكينة من ربكم".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"السكينة".
فقال بعضهم: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٦٥- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي وائل، عن علي بن أبي طالب قال: السكينة، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
٥٦٦٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان= عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي ريح هفافة.
٥٦٦٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علي بن أبي طالب في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، قال: ريح هفافة لها صورة= وقال يعقوب في حديثه: لها وجه= (١) وقال ابن المثنى: كوجه الإنسان.
٥٦٦٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سلمة بن كهيل قال، قال علي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة. (٢)
(١) في المخطوطة: "كما وجه"، وما بينهما بياض، ولعل أقرب ذلك ما في المطبوعة.
(٢) في المخطوطة: "هى ريح" بإسقاط الواو.
326
٥٦٦٩- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال، قال علي: السكينة ريح خجوج، ولها رأسان. (١)
٥٦٧٠- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة، يحدث عن علي، نحوه.
٥٦٧١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص، كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، نحوه. (٢)
* * *
وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٧٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" فيه سكينة من ربكم"، قال: أقبلت السكينة [والصرد] وجبريل مع إبراهيم من الشأم= (٣) قال ابن أبي نجيح، سمعت مجاهدا يقول: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
٥٦٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
٥٦٧٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: السكينة لها جناحان وذنب.
(١) الأثر: ٥٦٦٩- هو بعض الأثر السالف رقم: ٢٠٥٨ في ذكر بناء الكعبة.
(٢) الأثران: ٥٦٧٠، ٥٦٧١- انظر الأثران السالفان: ٢٠٥٩، ٢٠٦٠.
(٣) ما بين القوسين، زيادة من الأثار التي رويت عن مجاهد في ذلك، في تاريخ مكة للأزرقي ١: ٢٢-٢٨، ونصه في لسان العرب (صرد). والصرد (بضم الصاد وفتح الراء: طائر أبقع ضخم يكون في الشجر وشعب الجبال لا يقدر عليه أحد، وهو من سباع الطير.
327
٥٦٧٥-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة.
* * *
وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٧٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
* * *
وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٧٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس:"فيه سكينة من ربكم"، قال: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
٥٦٧٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فيه سكينة من ربكم"، السكينة: طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، روح من الله تتكلم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٨٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار
328
بن عبد الله، قال، سألنا وهب بن منبه فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
٥٦٨١- حدثنا محمد بن عسكر قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا بكار بن عبد الله: أنه سمع وهب بن منبه، فذكر نحوه. (١)
وقال آخرون:"السكينة"، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٨٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"فيه سكينة من ربكم"، الآية، قال: أما السكينة فما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، الرحمة.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٨٣- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فيه سكينة من ربكم"، أي رحمة من ربكم.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، هي الوقار.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٨٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، أي وقار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى"السكينة"، ما قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن
(١) الأثران: ٥٦٨٠، ٥٦٨١-"محمد بن عسكر"، و"بكار بن عبد الله". انظر التعليق على الأثر رقم: ٥٦٦٤.
329
"السكينة" في كلام العرب"الفعيلة"، من قول القائل:"سكن فلان إلى كذا وكذا"= إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه="فهو يسكن سكونا وسكينة"، مثل قولك:"عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة"، و"قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية"، ومنه قول الشاعر: (١)
لله قبر غالها! ماذا يجن؟ لقد أجن سكينة ووقارا
* * *
وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفنا، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره، (٢) لدلالة الكلام عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وبقية"، الشيء الباقي، من قول القائل:"قد بقي من هذا الأمر بقية"، وهي"فعلية" منه، نظير"السكينة" من"سكن".
* * *
(١) أنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي. وأنا في شك من صحة اسمه.
(٢) يعني بقوله: " الفعل" مصدر الفعل"سكن"، وهو"السكينة"، كما يقال: "رجل عدل"، فلو سميت الرجل"عدلا"، كان مسمى بالفعل، وهو غيره.
330
وقوله:"مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني به: من تركة آل موسى، وآل هارون.
* * *
واختلف أهل التأويل في"البقية" التي كانت بقيت من تركتهم.
فقال بعضهم: كانت تلك"البقية" عصا موسى ورضاض الألواح. (١)
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٨٥- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عكرمة قال: أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.
٥٦٨٦- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر قال، حدثنا داود، عن عكرمة= قال داود: وأحسبه عن ابن عباس= مثله.
٥٦٨٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى ورضاض الألواح.
٥٦٨٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح، فيما ذكر لنا.
٥٦٨٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: البقية عصا موسى ورضاض الألواح.
٥٦٩٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، أما البقية، فإنها عصا موسى
(١) انظر صفحة ٣٣٢، تعليق: ١.
331
ورضاضة الألواح. (١)
٥٦٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، عصا موسى وأثور من التوراة. (٢)
٥٦٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: التوراة ورضاض الألواح والعصا= قال إسحاق، قال وكيع: ورضاضه كسره.
٥٦٩٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون: بل تلك"البقية" عصا موسى وعصا هارون، وشيء من الألواح. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٩٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن ابن أبي خالد، عن أبي صالح:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان فيه عصا موسى وعصا هارون، ولوحان من التوراة، والمن. (٤)
(١) رضاض الشيء (بضم الراء) : كساره (بضم الكاف)، وهو ما تكسر منه، وقطعه. ورض الشيء رضا: كسره فصار قطعا. و"رضاضة" بالتاء في آخر رقم: ٥٦٩٠، وهي عربية صحيحة، وإن لم تذكر في المعاجم. ومثلها في مطول هذا الأثر في التاريخ ١: ٢٤٣.
(٢) في المطبوعة: "وأمور من التوراة". وفي المخطوطة: "وأسور من التوارة". ورجحت قراءتها"وأثور" جمع أثر: وهو بقية الشيء، وما بقى من رسم الشيء، وجمعه آثار وأثور. وهي هنا بمعنى الرضاض.
(٣) في المخطوطة: "بل ذلك البقية... "، والذي في المطبوعة أجود الصواب.
(٤) الأثر: ٥٦٩٤- في الدر المنثور ١: ٣١٧ مطولا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "عن إسماعيل عن ابن أبي خالد"، والصواب ما أثبت، وهو الذي يروي عنه جابر بن نوح، مترجم التهذيب.
332
٥٦٩٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ورضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٩٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، سألت الثوري عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: منهم من يقول: البقية قفيز من من ورضاض الألواح- ومنهم من يقول: العصا والنعلان. (١)
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٩٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، قلنا لوهب بن منبه: ما كان فيه؟ = يعني في التابوت= قال: كان فيه عصا موسى والسكينة. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك، رضاض الألواح وما تكسر منها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٦٩٨- حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:" وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها، فجعل الباقي في ذلك التابوت.
(١) القفيز: مكيال من المكاييل، كان عند أهل العراق ثمانية مكاكيك.
(٢) الأثر ٥٦٩٧- بكار بن عبد الله اليماني، مضى في الآثار: ٥٦٦٤، ٥٦٨٠، ٥٦٨١، وكان في المطبوعة والمحفوظة"بكار عن عبد الله"، وهو خطأ محض.
333
٥٦٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، [قال] العلم والتوراة. (١)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٠٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني ب"البقية"، القتال في سبيل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه = الذي قال لأمته: (٢) "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" = أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. (٣) وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة، أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله = وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول.
* * *
(١) زدت ما بين القوسين: لظني أنها سقطت من الناسخ لعجلته، كما يتبين من خطه في هذا الموضع.
(٢) في المطبوعة: "لصدق قول نبيه ﷺ لأمته"، زاد: "وسلم"، وأسقط"الذي قال"، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "مما تركه آل موسى"، وأثبت ما في المخطوطة.
334
القول في تأويل قوله: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.
فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٠١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت.
٥٧٠٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قال لهم= يعني النبي، لبني إسرائيل: ="والله يؤتي ملكه من يشاء". قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك فيه! قال: إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون، فإن آية ملكه:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية. قال: فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين".
٥٧٠٣- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما قال لهم نبيهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، قالوا: فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك! قال:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة". وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت.
٥٧٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
335
معمر، عن قتادة في قوله:"تحمله الملائكة"، قال: تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٠٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بعض أشياخه قال: تحمله الملائكة على عجلة على بقرة.
٥٧٠٦- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:"حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل". (١) وذلك أن الله تعالى ذكره قال:"تحمله الملائكة"، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته. لأن"الحمل" المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره = وإن كان جائزا في اللغة أن يقال"حمله" بمعنى معونته الحامل، (٢) وبأن حمله كان عن سببه= فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه
(١) في المطبوعة: "حتى وضعته في دار طالوت" بإسقاط"لها"، أي لبني إسرائيل. وفي المطبوعة: "في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل" بإسقاط"قائما"، وكانت هذه اللفظة في المخطوطة: "ما بين أظهر لبني إسرائيل"، وقرأتها: "قائما".
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقال في حمله بمعنى معونته"، والصواب إسقاط"في".
336
بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، (١) ما وُجد إلى ذلك سبيل.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة="لآية لكم"، يعني: لعلامة لكم ودلالة، (٢) أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك="إن كنتم مؤمنين"، يعني بذلك: (٣) إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.
* * *
وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، بقولهم:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، = وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا، (٤)
فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: = وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية
(١) في المطبوعة: "أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر٠٠"، وهو خلط من كلم الموسومين!! وفي المخطوطة"إلى إلى أن لا يلر". وضرب على"إلى" الثانية. وصواب قراءته ما قرأت، وقد مضى مثله مرارا في كلام الطبري.
(٢) انظر معنى"آية" فيما سلف قريبا: ٣١٧ تعليق: ١ وفيه المراجع.
(٣) انظر تفسير"الإيمان" بمعنى"التصديق" فيما سلف من الأجزاء. في فهارس للغة.
(٤) في المطبوعة: "فإن كان ذلك منهم"، والصواب ما في المخطوطة.
337
على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه، فقال لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به.
* * *
338
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ﴾
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم، وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله:"فلما فصل طالوت بالجنود". وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له، لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها.
* * *
وأما قوله:"فصل" فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم.
* * *
وأصل"الفصل" القطع، يقال، منه:"فصل الرجل من موضع كذا وكذا"، يعني به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلى غيره،"يفصل فصولا"، و"فصل العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا"، إذا قطعه فأبانه، و"فصل الصبي فصالا"، إذا قطعه عن اللبن (١). و"قول فصل"، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.
* * *
(١) انظر تفسير"الفصال" فيما سلف من هذا الجزء: ٦٧.
338
وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبير لهرمه، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (١)
٥٧٠٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، يقول: إن الله مختبركم بنهر، ليعلم كيف طاعتكم له.
* * *
وقد دللنا على أن معنى"الابتلاء"، الاختبار، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٣)
* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
٥٧٠٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله تعالى:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
* * *
(١) الأثر: ٥٧٠٧- استوسقوا له: اجتمعوا له بالطاعة: ودانوا، (انظر ما سلف ص: ٢٣١) في آخر الأثر: ٥٦٥٩، والتعليق عليه. والضرير: المرض المهزول، قد أضر به المرض.
(٢) الأثر: ٥٧٠٨- في التاريخ ١: ٢٤٣ من خبر طويل مضى أكثره فيما سلف.
(٣) انظر ما سلف ٢: ٤٩/٣: ٧، ٢٢٠.
339
وقيل: إن طالوت قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله:"إن الله مبتليكم بنهر".
* ذكر من قال ذلك:
٥٧١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر" الآية.
* * *
"والنهر" الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
٥٧١٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" إن الله مبتليكم بنهر"، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
٥٧١٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
٥٧١٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت، قال طالوت لبني إسرائيل:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: نهر بين فلسطين والأردن، نهر عذب الماء طيبه.
340
وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧١٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين.
٥٧١٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله مبتليكم بنهر"، هو نهر فلسطين.
* * *
وأما قوله:" فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم". فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر، (١) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه= يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)، وأخبرهم أنه من لم يطعمه= يعني: من لم يطعم الماء من ذلك النهر."والهاء" في قوله:"فمن شرب منه"، وفي قوله:"ومن لم يطعمه"، عائدة على"النهر"،
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "٠٠ عن طالوت أنه قال لجنوده، ٠٠ فأخبر أن الله"، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام، فجعلت"أنه"، "بما"، وجعلت"فأخبر"، "فأخبرهم". وأعود فأقول إن الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته.
341
والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر"الماء" اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: (١) أن المراد به الماء الذي فيه.
* * *
ومعنى قوله:"لم يطعمه"، لم يذقه، يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني= يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من"من" في قوله:"ومن لم يطعمه"، المغترفين بأيديهم غرفة، (٢) فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، (٣) إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا من اغترف غرفة بيده".
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (غرفة)، بنصب"الغين" من"الغرفة" بمعنى الغرفة الواحدة، من قولك،"اغترفت غرفة"، و"الغرفة"، و"الغرفة" هي الفعل
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "كذلك"، والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر: أن المراد٠٠
(٢) أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله: "فن شرب منه"، وقال أبوحيان في تفسيره ١: ٢٦٥ وقال: "وقع في بعض التصانيف ما نصه: "إلا من اغترف"، استثناء من الأولى، وإن شئت من الثانية، لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه. والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه. وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها: أن من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه، فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك. وهكذا الإستثناء، يكون من النفى إثباتا، ومن الإثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة".
وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش ١: ١٤٩- ١٥٠، وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال: "إلا من اغترب-استثناء من الجنس، وموضعه نصب. وأنت بالخيار، إن شئت جعلته استثناء من"من الأولى، وإن شئت من"من"الثانية". وهذا يرجع صواب معنى الطبري، وصواب ما صححناه، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم استثنى من قوله٠٠". والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا الموضع، وفي مواضع من أشياء ذلك. وسترى ذلك في التعليق التالي.
والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين: فئه شربت من الماء، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة. وبذلك يصح كل ما قاله. وهذا بين سيأتي بعد في ص ٣٤٨- ٣٥٠ أن من جاوز مع طالوت النهر: الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير". وكأن المؤمنين جميعا -عنده- قد شربوا من الماء غرفة. هذا ما أرجحه، والله ولى التوفيق.
(٣) في المخطوطة: "فقالوا: من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك النهر٠٠" وهو خلط من الكلام.
342
بعينه من"الاغتراف". (١).
* * *
وقرأه آخرون بالضم، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف"الغرفة" الاسم"، و"الغرفة" المصدر.
* * *
وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم"الغين" في"الغرفة"، بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء= لاختلاف"غرفة" إذا فتحت غينها، وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر"اغترف"،"اغترافة"، وإنما"غرفة" مصدر:"غرفت". فلما كانت"غرفة" مخالفة مصدر"اغترف"، كانت"الغرفة" التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها ب"الغرفة" التي هي بمعنى الفعل. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء، فكان من شرب منه عطش، ومن اغترف غرفة روي.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧١٧- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.
٥٧١٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.
(١) "الفعل" يعني المصدر، كما سلف آنفًا ص: ٣٣٠ تعليق: ١، وكما سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام.
(٢) هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة. وانظر اللسان مادة (غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك.
343
٥٧١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم= يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.
٥٧٢٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني"، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر منهم أربعة آلاف، (١) ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. (٢).
٥٧٢١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود، فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يتبعه منافق،... رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا:"لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير" = (٣) وذلك
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فعبر منهم" بإسقاط"معه"، وأثبتها من التاريخ.
(٢) الأثر: ٥٧٢٠-هو جزء من الخبر الذي في التاريخ ١: ٢٤٢- ٢٤٣، وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها رقم: ٥٦٣٥، ٥٦٣٨، ٥٦٧٩، ٥٦٩٠، ٥٧٠٨.
(٣) في المخطوطة: "ولم تتبعه منافق، رجعوا كفارا، فلما رأى قلتهم قالوا: لن نمس هذه الماء" وكلتا العبارتين لا تستقيم في الحالتين. وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر، معناه: أن بعض الذين خرجوا معه، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم ذلك. والذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد"قال: وأخذ البقية الغرفة"، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا من النهر. فن هذا، وقد كان في المطبوعة: "ولا غيرها"، فأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.
344
أنه قال لهم:"إن الله مبتليكم بنهر"، الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة = (١) قال: وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم، وفضل منهم. (٢) قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.
٥٧٢٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. (٣) ومن شرب فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته.
٥٧٢٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في حديث ذكره، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، يقول الله تعالى ذكره:"فشربوا منه إلا قليلا منهم"، وكان -فيما يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه، ومن لم يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما جاوزه هو"، فلما جاوز النهر طالوت."والهاء" في"جاوزه" عائدة على"النهر"، و"هو" كناية
(١) في المطبوعة: "لن نمس من هذا" بزيادة"من"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "فشربوا منها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "روي بطاعته" والذي أثبت، أشبه بالمخطوطة وبالصواب.
345
اسم طالوت= وقوله:"والذين آمنوا معه"، يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
* * *
ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٢٤- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري= قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه، ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. (١)
٥٧٢٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر. (٢)
(١) الحديث: ٥٧٢٤ - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل بدر. وقد رواه الطبري بستة أسانيد، كلها عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب.
ورواه أحمد في المسند ٤: ٢٩٠ (حلبي)، عن وكيع عن أبيه -هو الجراح بن مليح- وسفيان. وهو الثوري، وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق، عن البراء.
ورواه البخاري ٨: ٢٢٨، من طريق زهير، ومن طريق إسرائيل، ومن طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق، به.
وذكره ابن كثير ١: ٦٠٣، عن روايات الطبري، ملخصة الأسانيد. ثم ذكر أنه رواه البخاري.
وذكره السيوطي ١: ٣١٨، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. ولكنه نسي أن ينسبه لأحمد.
(٢) الحديث: ٥٧٢٥-أبو بكر-الراوى عن أبي إسحاق: هو ابن عياش.
وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة، في آخر هذا الحديث"كلمة غريبة جدا، بعد قوله" الذين جاوزوا النهر" وهي"فسكت"-واضحة جدا. ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف ما هي. وقد حذفت في المطبوعة".
وأقول: إني لم أجد-أيضًا- هذه الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه، مع بيان ذلك، أداء للأمانة العلمية.
346
٥٧٢٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه، وما جاز معه إلا مؤمن. (١)
٥٧٢٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه. (٢)
٥٧٢٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر، وما جاوز معه إلا مسلم. (٣)
٥٧٢٩- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء مثله. (٤)
٥٧٣٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة
(١) احديث: ٥٧٢٦-أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
(٢) الحديث: ٥٧٢٧-والد وكيع: هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي، وهو ثقة، تكلم فيه بغير حجة، كما بينا في شرح المسند، في الحديث: ٦٥٠. ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث- هي إحدى روايات المسند، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي: ٥٧٢٤.
(٣) الحديث: ٥٧٢٨-مؤمل: هو ابن إسماعيل العدوى. وسفيان-في هذا والذي قبله: هو الثوري.
(٤) الحديث: ٥٧٢٩ -أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. مسعر: هو ابن كدام، مضت ترجمته في: ١٩٧٤.
347
أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله ﷺ يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
٥٧٣١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر، وكانوا ثلثمئة، وفوق العشرة ودون العشرين، فجاء داود ﷺ فأكمل به العدة.
* * *
وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٣٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا وقالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر، عدة أهل بدر. (١)
٥٧٣٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شربوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت
(١) الأثر: ٥٧٣٢ -هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ ١: ٢٤٢- ٢٤٣، وجزأه في التفسير، كما أشرنا إليه في التعليق على الأثر: ٥٧٢٠. ورواية أبي جعفر هنا: "وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر"، وفي التاريخ"وتسعة عشر".
348
ولقائه، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق= (١) وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" = ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم، وهم أهل الثبات على الإيمان، فقالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة، لأن الله تعالى ذكره قال:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه"، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان= (٢) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عن المؤمنين بالمجاوزة، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين.
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، فأوجب الله تعالى ذكره أن"الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو
(١) في المطبوعة: "وانخذل عنه"، بالذال، وهو خطأ غث لا يقال هنا، والصواب في المخطوطة. وانخزل عنه: انقطع وانفرد، وفي حديث آخر: "انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان"، أي انفرد ورجع بقومه.
(٢) السياق: "فإن ظن ذو غفلة٠٠ فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن".
349
الله- وأن"الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك فيه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين= أعني القائلين:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، والقائلين:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، من هما؟
فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، هم أهل كفر بالله ونفاق، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٣٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي بذلك.
* * *
وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (٢)
* * *
٥٧٣٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(١) هذه حجة بينة ماضية، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما ينبغي أن يوقف عنده.
(٢) انظر الأثر رقم: ٥٧٢٢.
350
ابن جريج:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون، وجلس الذين شكوا.
* * *
وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان، ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٣٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، ويكون [والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض، وهم مؤمنون كلهم. (١)
٥٧٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت: ثلثمئة. = قال قتادة: وكان مع النبي ﷺ يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر.
٥٤٣٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
* * *
ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز النهر مع طالوت
(١) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة.
351
إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا. (١)
* * *
وأما تأويل قوله:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، فإنه يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (٢)
٥٧٣٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين يستيقنون.
* * *
فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله، للذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"="كم من فئة قليلة"، يعني ب"كم"، كثيرا، غلبت فئة قليلة="فئة كثيرة بإذن الله"، يعني: بقضاء الله وقدره= (٣) "والله مع الصابرين"، يقول: مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (٤)
* * *
وقد أتينا على البيان عن وجوه"الظن"، وأن أحد معانيه: العلم اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (٥)
* * *
وأما"الفئة"، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو مثل"الرهط" و"النفر"، يجمع (٦) "فئات"، و"فئون" في الرفع، و"فئين" في
(١) انظرما سلف: ٣٤٩، ٣٥٠.
(٢) انظر القول في قوله: "ملاقو الله" فيما سلف ٢: ٢٠-٢٢ /٤: ٤١٩.
(٣) انظر تفسي"الإذن" فيما سلف ٢: ٤٤٩، ٤٥٠/ ٤: ٢٨٧، ٣٧١.
(٤) انظر معنى"الصبر" فيما سلف ٢: ١١، ١٢٤/ ٣: ٢١٤، ٣٤٩، وفهارس اللغة.
(٥) انظر ما سلف ٢: ١٧ - ٢٠/ ثم: ٢٦٥.
(٦) في المطبوعة: "جمعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
352
النصب والخفض، بفتح نونها في كل حال. و"فئين" بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها، وفي النصب"فئينا"، وفي الخفض"فئين"، فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها"الياء" على حالها. فإن أضيفت قيل:"هؤلاء فئينك"، (١) بإقرار النون وحذف التنوين، كما قال الذين لغتهم:"هذه سنين"، في جمع"السنة"=:"هذه سنينك"، بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل منقوص مثل"مئة" و"ثبة" و"قلة" و"عزة": فأما ما كان نقصه من أوله، فإن جمعه بالتاء، مثل"عدة وعدات"، و"صلة وصلات".
* * *
وأما قوله:"والله مع الصابرين" فإنه يعني: والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله، المخالفين منهاج دينه.
* * *
وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره:"هو معه"، بمعنى هو معه بالعون له والنصرة. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولما برزوا لجالوت وجنوده"، ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده.
* * *
(١) في المطبوعة: " فئنك"، وهو خطأ.
(٢) انظر تفسير"فيما سلف ٣: ٢١٤.
ومعنى قوله:"برزوا" صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته:"تبرز"، لأن الناس قديما في الجاهلية، إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل: (١) "تغوط"، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في"الغائط" من الأرض، وهو المطمئن منها، فقيل للرجال:"تغوط" أي صار إلى الغائط من الأرض.
* * *
وأما قوله:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، يعني أنزل علينا صبرا.
* * *
وقوله:"وثبت أقدامنا"، يعني: وقو قلوبنا على جهادهم، لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم="وانصرنا على القوم الكافرين"، الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك، واتخذوا الأوثان أربابا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فهزموهم"، (٢) فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت.
وفي هذا الكلام متروك، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه. وذلك أن معنى الكلام:"ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "لذلك كما قيل"، والسياق يقتضي ما أثبت، وليست"لذلك" من تمام الجملة السالفة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة:
354
أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"، فاستجاب لهم ربهم، فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم، ونصرهم على القوم الكافرين="فهزموهم بإذن الله" ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله:"فهزموهم بإذن الله"، على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به.
* * *
ومعنى قوله:"فهزموهم بإذن الله"، فلوهم بقضاء الله وقدره. (١) يقال منه:"هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى". (٢)
* * *
"وقتل داود جالوت". وداود هذا هو داود بن إيشى، (٣) نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه، كما: -
٥٧٤٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، سمعت وهب بن منبه يحدث قال: لما خرج= أو قال: لما برز= طالوت لجالوت، قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم! فأتي بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، (٤) وأن يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا، فكره داود أن يقاتله بسلاح، (٥) وقال: إن الله لم ينصرني عليه، لم يغن السلاح! فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم برز له. قال له جالوت: أنت تقاتلني! ! قال داود:
(١) انظر معنى الإذن فيما سلف قريبا: ٣٥٢، تعليق: ٣. ومراجعة هناك، وأما قوله"فلوهم"، فهو من قولهم: " فللت الجيش فلا"، هزمته وكسرته. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلوهم" من القتل، وهو خطأ لا خير فيه، فإن الهزيمة الانكسار، لا القتل. وهزمه: كسره، لا قتله.
(٢) " هزيمى" بكسر الهاء وتشديد الزاى المكسورة، وميم مفتوحة للألف المقصورة.
(٣) (يسى) في كتاب القوم، (صموئيل الأول: الإصحاح السابع عشر).
(٤) قاضاه على كذا: صالحه عليه، وهو من القضاء الفصل والحكم، ومثله ما جاء في صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد".
(٥) قوله" بسلاح" ليست في المطبوعة ولا المخطوطة، وهي لا غنى عنها، زدتها من نص الأثر في الدر المنثور ١: ٣١٨- ٣١٩.
355
نعم! قال: ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! (١) لأبددن لحمك، (٢) ولأطعمنّه اليوم الطير والسباع! فقال له داود: بل أنت عدو الله شر من الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع، فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه، (٣) فصرع جالوت وانهزم من معه، واحتز داود رأسه. فلما رجعوا إلى طالوت، ادّعى الناس قتل جالوت، فمنهم من يأتي بالسيف، وبالشيء من سلاحه أو جسده، وخبأ داود رأسه. فقال طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود، ثم قال لطالوت: أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له، وقال: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاحتمل صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. (٤) وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم، وجاء بها. فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل، فنهض إليه طالوت فحاصره. فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، (٥) ثم رجع داود إلى مكانه فناده: أن [قد نمت ونام] حرسك، (٦) فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت، فإنه هذا إبريقك، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [به] إليه، (٧) فعلم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه، وعاهده بالله لا يرى منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم، حتى مات= قال بكار: وسئل وهب وأنا أسمع: أنبيا كان طالوت يوحى إليه؟ فقال: لم يأته وحي، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه، وهو الذي ملك طالوت.
٥٧٤١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان داود النبي وإخوة له أربعة، معهم أبوهم شيخ كبير، فتخلف أبوهم، وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له، وكان من أصغرهم. وخرج إخوته الأربعة مع طالوت، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض.
= قال ابن إسحاق: وكان داود، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: رجلا قصيرا أزرق، (٨) قليل شعر الرأس، وكان طاهر القلب نقيه= (٩) فقال له أبوه: يا بني، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم، فاخرج به إليهم، فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا! فقال: أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته، ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة، ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه. حتى إذا فصل من عند أبيه، فمر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر يعقوب! فأخذه فجعله في مخلاته، ومشى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي
(١) في المخطوطة: "أما رحب إلا كما تخرج"، وفي المطبوعة: "إما تخرج إلي إلا كما يخرج" والذي في الدر المنثور، إقرب إلى ما في المخطوطة، مع نسخ الناسخ في هذا الموضع خاصة.
(٢) في المخطوطة: "لأردن لحمك"، وكأن ما في المطبوعة هو الصواب، وكذلك هو في الدر المنثور.
(٣) في المطبوعة والدر المنثور: "فأصابت بين عينيه ونفذت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) الغلفة والغرلة والقلفة (بضم أولها وسكون ثانيها"، هو الغشاء الذي يقع عليه الختان من عورة الرجل.
(٥) هدب الثوب وهدبته: طرفه مما يلي طرته.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: "فناداه أن... حرسك" بياض بينهما، وهكذا رأيت أن تكون ولو اختار أن تكون: "أن بدل حرسك"، لكان حسنا أيضًا.
(٧) ما بين القوسين زيادة يتقضيها السياق.
(٨) قوله: "أزرق"، يريد أزرق العينين، وكانت العرب تتشاءم من الزرق. (انظر الحيوان ٥: ٣٣٠- ٣٣٣).
(٩) هذه الفقرة من الأثر، رواها أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٤٧.
356
جالوت، فإني حجر إسحاق! فأخذه فجعله في مخلاته، ثم مضى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر إبراهيم! فأخذه فجعله في مخلاته. ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم، فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه. وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت وعظم شأنه فيهم، (١) وبهيبة الناس إياه، وبما يعظمون من أمره، (٢) فقال لهم: والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما أدري ما هو! ! والله إني لو أراه لقتلته! فأدخلوني على الملك. فأدخل على الملك طالوت، فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو! والله إني لو أراه لقتلته! فقال: يا بني! ما عندك من القوة على ذلك؟ (٣) وما جربت من نفسك؟ (٤) قال: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه، فآخذ برأسه، فأفك لحييه عنها، فآخذها من فيه، (٥) فادع لي بدرع حتى ألقيها علي. فأتي بدرع فقذفها في عنقه، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره من بني إسرائيل، (٦) فقال طالوت: والله، لعسى الله أن يهلكه به! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت، فلما التقى الناس قال داود: أروني جالوت! فأروه إياه على فرس عليه لأمته، (٧) فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته، فيقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه، ثم فتله به، ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت فدمغه، (٨) وتنكس عن دابته، فقتله. ثم انهزم جنده، وقال الناس: قتل داود جالوت! وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه، حتى لم يسمع لطالوت بذكر= إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود، هم بأن يغتال داود وأراد قتله، فصرف الله ذلك عنه وعن داود، وعرف خطيئته، والتمس التوبة منها إلى الله.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل، وهو ما: -
٥٧٤٢- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى إلى نبي بني إسرائيل: (٩) أن قل لطالوت فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره عليهم. فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم. فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، (١٠) فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه. فقل له: لأنزعن الملك من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم من أطاعني، وأهين من هان
(١) في المخطوطة: "سمع دوحرص الناس بذكر جالوت"، ولم يتبين لي كيف كانت، ولا ما هي، فتركت ما في المطبوعة على حاله، فإنه قريب المعنى صحيحه.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما يعظمون"، وما أثبت أشبه بالسياق. والمخطوطة كثيرة التحريف والتصحيف هنا كما ترى.
(٣) في المطبوعة: "فأتني ما عندك من القوة"، وهو كلام سخيف. والصواب من المخطوطة، لم يحسن الطابع أو الناسخ قراءتها. والنظر ما سيأتي في الأثر: ٥٧٤٢، وقوله: "يا بني"، وسؤاله: "هل آنست من نفسك شيئا"، ص:
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما جربت"، والسياق يوجب ما أثبت.
(٥) اللحيان العظمان اللذان فيهما الأسنان. وهما حائطا الفم، الواحد"لحى" (بفتح فسكون).
(٦) في المطبوعة: " ومثل فيها فملأ عين طالوت"، وفي المخطوطة: "وسل فيها مل عين طالوت".
غير منقوطة ولا بينة. وأثبت"مثل" من المطبوعة، وكأنها قربية من الصواب. وفي المطبوعة: "ومن حضر"، وأثبت في المخطوطة.
(٧) اللأمة (بفتح فسكون) : الدرع الحصينة وبيضة الرأس، من لباس الحرب.
(٨) دمغه دمغا: شجه، حتى بلغت الشجة الدماغ. وهذه الشجة تسمى"الدامغة".
(٩) في المخطوطة: "أوحى إلى بني بني إسرائيل"، وفي المطبوعة: "أوحى إلى نبي بني إسرائيل"، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(١٠) في المطبوعة: "فاختان فيه"، من الخيانة. وكان في المخطوطة: " فاختار فيه"، من الاختيار، أي اختار ما شاء منه ولم ينفذه على وجهه تماما. وأثبت ما في التاريخ. و"اختل" من الخلل: وهو الفساد والوهن في الأمر، وترك إبرامه وإحكامه. يقال: "أخل بالأمر"، لم يف به. و"أخل بمكانه": غاب عنه وتركه. فمعنى"أختل فيه". أي ضعف فيه وأدخل عليه الخلل. ولم أجد نصها في كتب اللغة، ولكنها عربية البناء.
هذا، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " إذ أمرته فاختان"، بحذف"بأمري"، وأثبتها من التاريخ.
358
عليه أمري! فلقيه فقال له: (١) ما صنعت!! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقتَ مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقربها. (٢) قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة! فأوحى الله إلى أشمويل: أن انطلق إلى إيشى، فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى فقال: اعرض علي بنيك! فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه فقال: الحمد لله، إن الله لبصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك يبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، (٣) اعرض علي غيره، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول: ليس بهذا. فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى! لي غلام أمغر، (٤) وهو راع في الغنم. فقال: أرسل إليه. فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن القدس وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل، فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال. فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يقتل قومي وقومك؟ (٥) ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحا: من يبرز لجالوت، فإن قتله فإن الملك يُنْكحه ابنته، ويشركه في ملكه. (٦) فأرسل إيشى داود إلى إخوته= قال الطبري، هو أيشى، ولكن قال المحدث: إشى = (٧) وكانوا في العسكر فقال: اذهب فزود إخوتك، (٨) وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا؟ فجاء إلى إخوته وسمع صوتا: إن الملك يقول: من يبرز لجالوت! فإن قتله أنكحه الملك ابنته. فقال داود لإخوته: ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله وينكح ابنة الملك؟ فقالوا: إنك غلام أحمق! ومن يطيق جالوت، وهو من بقية الجبارين!! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال: فأنا أذهب فأقتله! فانتهروه وغضبوا عليه، فلما غفلوا عنه ذهب حتى جاء الصائح فقال: أنا أبرز لجالوت! فذهب به إلى الملك، فقال له: لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل، هو هذا! قال: يا بني، أنت تبرز لجالوت فتقاتله! قال: نعم. قال: وهل آنست من نفسك شيئا؟ قال: نعم، كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد، فأخذت بلحييه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة، فلبسها وركب الفرس، ثم سار منهم قريبا، ثم صرف فرسه، فرجع إلى الملك، فقال الملك ومن حوله: جبن الغلام! فجاء فوقف على الملك، فقال: ما شأنك؟ قال داود: إن لم يقتله الله لي، لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح! فدعني فأقاتل كما أريد. فقال: نعم يا بني. فأخذ داود مخلاته فتقلدها، وألقى فيها أحجارا، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به، (٩) ثم مضى نحو جالوت. فلما دنا من عسكره قال: أين جالوت يبرز لي؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله، فلما رآه جالوت قال: إليك أبرز؟! قال نعم. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كم يؤتى إلى الكلب! قال: هو ذاك. قال: لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض! قال داود: أو يقسم الله لحمك! فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت، فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه، فوقع من فرسه. فمضى داود إليه فقطع رأسه بسيفه، فأقبل به في مخلاته، وبسلبه يجره، حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرحوا فرحا شديدا. وانصرف طالوت، فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود، فوجد في نفسه. (١٠) فجاءه داود فقال: أعطني امرأتي! فقال: أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود: ما اشترطت علي صداقا، وما لي من شيء!! قال: لا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل جريء، وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس، (١١) وهم غلف، فإذا قتلت منهم مئتي رجل فأتني بغلفهم. (١٢) فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط، حتى نظم مئتي غلفة. ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه (١٣) فقال: ادفع إلي امرأتي، قد جئت بما اشترطت. فزوجه ابنته، (١٤) وأكثر الناس ذكر داود، وزاده عند الناس عجبا. (١٥) فقال طالوت لابنه: لتقتلن داود! قال: سبحان الله، ليس بأهل ذلك منك! قال: إنك غلام أحمق! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك! فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها: إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود، فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه. فقالت له امرأته ذلك، فتغيب. فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود، وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته. فلما جاء رسول طالوت قال: أين داود؟ ليجب الملك! فقالت له: بات شاكيا ونام الآن، ترونه على الفراش. فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك، فمكث ساعة ثم أرسل إليه، فقالت: هو نائم لم يستيقظ بعد. فرجعوا إلى الملك فقال: ائتوني به وإن كان نائما! فجاؤوا إلى الفراش فلم يجدوا عليه أحدا، فجاؤوا الملك فأخبروه، فأرسل إلى ابنته فقال: ما حملك على أن تكذبين؟ قالت: هو أمرني بذلك، وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك داود بعده.
٥٧٤٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان طالوت أميرا على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي فأقتل جالوت؟ قال: لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي. (١٦) فأخذ مخلاته، فجعل فيها ثلاث مروات، (١٧) ثم سمى حجارته تلك:"إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب"، ثم أدخل يده فقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فخرج على"إبراهيم"، فجعله في مرجمته، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه.
٥٧٤٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر، مع ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه. فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته! فقال: أبشر يا بني! فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبت عليه فأخذت بأذنيه، فلم يهجني! (١٨) قال: أبشر يا بني! فإن هذا خير يعطيكه
(١) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط"له"، وأثبتها من التاريخ.
(٢) أي: لأجعلها قربانا لله، يذبحها قربانا.
(٣) قوله: " فقال: ليس بهذا"، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وأثبتها من التاريخ.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "بني لي غلام... "، وأثبت ما في التاريخ. وقوله"أمغر" هنا، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وأثبتها من التاريخ. والأمغر: الذي في وجهه حمرة وبياض. وفي كتاب القوم (صموئيل الأول، الإصحاح السادس عشر) أنه كان أشقر.
(٥) في المطبوعة: "لم تقتل قومي وأقتل قومك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٦) عند هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في تاريخه ١: ٢٤٧- ٢٤٨ من هذا الأثر.
(٧) هذه الجملة المعترضة ثابتة في المخطوطة، وحذفت من المطبوعة.
(٨) في المخطوطة والمطبوعة: "فرد إخوتك"، وليس صحيحا، بل الصحيح أنه أرسله بزاد إلى إخوته كما سلف في الماضية، وكأن الصواب"فزود"، أو"بزاد إخوتك".
(٩) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأجدر أن يقال: "يرمي به".
(١٠) وجد في نفسه: أي غضب، فلم يظهر غضبه، وحسده على ما أصاب من ذكر الناس له.
(١١) الجراجمة: نبط الشام. واحتربه: استلبه وانتهبه، يقول: هم لصوص يستلبون الناس وينتهبونهم.
(١٢) الغلف (بضم فسكون) جمع أغلف"، وهو الذي لم يختتن. وأما"فأتني بغلفهم" فهو جمع غلفة (بضم فسكون) : وهي الغرلة التي يقع عليها الختان.
(١٣) في المخطوطة: "مئتي غلفة إلى طالوت"، وما بينهما بياض، وقد تركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه سياق لا بأس به، إلا أنه كان فيها: "ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى إليه"، فجعلتها كما ترى.
(١٤) في المخطوطة: "قد... وأكثر الناس" ما بعد"قد" بياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، لوفائه بالسياق.
(١٥) كأنها في المخطوطة تقرأ: " ورأوه عند الناس عجبا"، ولكني لم أستطع تحققها، فتركت ما في المطبوعة كما هو، فهو قريب المعنى.
(١٦) في المطبوعة: "ثلث مالي"، والذى في المخطوطة: "ثلث مللى"، فرجحت أنها"ملكي" لما سيأتي في الأثر رقم: ٥٧٤٤، ٥٧٤٧.
(١٧) مروات جمع مروة، والمرو: حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، والمرو أصلب الحجارة.
(١٨) هاج الشيء يهيجه: أزعجه ونفره. يعني: لم يزعجني عن مكاني منه.
360
الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح، فما يبقى جبل إلا سبح معي! فقال: أبشر يا بني! فإن هذا خير أعطاكه الله. وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام. (١) فأتى النبي (٢) [عليه السلام] بقرن فيه دهن، (٣) وسَنَوَّرٍ من حديد، (٤) فبعث به إلى طالوت فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه، ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا السَّنَوَّر فيملأه. (٥) فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به، فلم يوافقه منهم أحد. (٦) فلما فرغوا، قال طالوت لأبي داود: هل بقي لك من ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم! بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام. (٧) فلما أتاه داود، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت! قال: فأخذهن فجعلهن في مخلاته. وكان طالوت قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلما جاء داود، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه، ولبس السَّنَوَّر فملأه= وكان رجلا مسقاما مصفارا= (٨) ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه. فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تنقض. (٩). ثم مشى إلى جالوت= وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم= فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى! ارجع، فإني أرحمك أن أقتلك! قال داود: لا بل أنا أقتلك! فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة، كلما رفع حجرا سماه، (١٠) فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت، فنقبتُ رأسَه فقتلته، (١١) ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد. فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت، فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود فأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده، فأراد قتله. فعلم به داود أنه يريد به ذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه، (١٢) فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطرة من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود! ما كان أكثر شربه للخمر!! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه، وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، (١٣) ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: يرحم الله داود! هو خير مني، ظفرت به فقتلته، وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود! = وكان داود إذا فزع لا يدرك= فركض على أثره طالوت، ففزع داود فاشتد فدخل غارا، (١٤) وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا. فلما انتهى طالوت إلى الغار، نظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو كان دخل ها هنا لخرق بيت العنكبوت!! فخيل إليه، (١٥) فتركه. (١٦)
٥٧٤٥- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم فنادى: ألا رجل لرجل! فقال طالوت: من يبرز له؟ وإلا برزت له؟ فقام داود فقال: أنا! فقام له طالوت فشد عليه درعه، فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع، (١٧) فعجب من ذلك طالوت، فشد عليه أداته كلها= وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة، فأصاب في القوم، ثم رمى الثانية بحجر، فأصاب فيهم، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، وصار هو الرئيس عليهم، وأعطوه الطاعة.
٥٧٤٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، فقرأ حتى بلغ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، قال: أوحى الله إلى نبيهم: إن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه فيفيض ماء. فأتاه فقال: إن الله أوحى إلي أن في ولدك رجلا
(١) في تاريخ الطبري: "يأتي أبيه وإلي إخوته"، والصواب ما في التفسير.
(٢) قوله: "فأتى النبي... " إلى آخر الكلام، يوهم القارئ أنه منقطع، وليس كذلك، فإن الطبري كعادته يقسم الأثر ويجزئه في مواضع من تفسيره. وهذا الأثر الذي هنا، تتمة الآثار السالفة: ٥٧٢٠، ٥٧٣٢، كما أشرنا إليه في التعليق هناك، وكما سنشير إليه بعد. والنبي هو شمعون، كما مضى في تلك الآثار.
(٣) انظر تفسير"القرن" فيما سلف: ٣٠٧، تعليق: ١.
(٤) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري، وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين، وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: ٣٥٨، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: ٥٧٤٦، ٥٧٤٧.
(٥) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري، وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين، وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: ٣٥٨، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: ٥٧٤٦، ٥٧٤٧.
(٦) في المخطوطة والمطبوعة: "فجربهم فلم يوافقه" بإسقاط"به" وأثبت ما في التاريخ.
(٧) في المطبوعة: "بطعامنا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٨) رجل مسقام، وامرأة مسقام أيضًا: كثير السقم لا يكاد يبرأ. مصفار من قولهم: اصفار لونه: غلبته، وذلك من المرض والضعف.
(٩) يقال: تنقضت الغرفة وغيرها: تشققت، وسمع لها نقيض، وهو صوت التكسر والتشقق.
وكان في المطبوعة: "ينقض" بالياء التحتية، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(١٠) زدت"منها" من التاريخ.
(١١) في المطبوعة: "فنقب رأسه فقتله"، والصواب من التاريخ، ومن المخطوطة على بعض الخطأ فيها.
(١٢) سجى الشيء والميت: غطاه ومد عليه ثوبا. والزق (بكسر الزاى) : جلد الشاة يسلخ من رجل واحدة، ومن رأسه وعنقه، ثم يعالج حتى يكون سقاء، وكانوا أكثر ما يتخذونه للخمر.
(١٣) في المخطوطة والمطبوعة: "سهمين" مرة واحدة، وأثبت ما في التاريخ، وهو الصواب.
وقوله بعد: "ثم نزل"، زيادة من التاريخ ليست في المخطوطة ولا المطبوعة.
(١٤) اشتد: عدا عدوا سريعا. والشد: العدو السريع.
(١٥) قوله: "خيل إليه"، يعني دخلته الشبهة في أمره، لما أشكل عليه، ولم أجد هذا التعبير بنصه في كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية، من قولهم: "أخال الشيء": أي اشتبه.
(١٦) الأثر: ٥٧٤٤-هو تمام الآثار السالفة التي أشرت إليها في التعليق على الأثرين: ٥٧٢٠، ٥٧٣٢، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات القريبة. وهو في الدر المنثور١: ٣١٩، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) ١: ٦٠٤-٦٠٨، بغير هذا اللفظ، وإن كان قريبا منه.
(١٧) شخص يشخص شخوصا: ارتفع وعلا.
364
يقتل الله به جالوت! (١) فقال: نعم يا نبي الله! قال: فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، (٢) وفيهم رجل بارع عليهم، (٣) فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع! فيردده عليه. فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم. قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره! فقال: كذب! فقال: إن ربي قد كذبك! وقال: إن لك ولدا غيرهم! فقال: صدق يا نبي الله، (٤). لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس، فجعلته في الغنم! قال: فأين هو؟ قال في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا. فخرج إليه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها، (٥) قال: ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل. (٦) فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه! هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض. (٧) فقال له: ابن أخي! هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك؟ (٨) قال: نعم، إذا سبحت، سبحت معي الجبال، وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة، قمت إليه فافتح لحييه عنها فلا يهيجني! قال: وألفى معه صفنه. (٩) قال: فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض، (١٠) كل واحد منها يقول: أنا الذي يأخذ! ويقول هذا: لا! بل إياي يأخذ! ويقول الآخر مثل ذلك. قال: فأخذهن جميعا فطرحهن في صُفْنِه. فلما جاء مع النبي ﷺ وخرجوا، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين". قال: واجتمع أمرهم وكانوا جميعا، وقرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين". (١١) وبرز جالوت على بِرْذَوْن له أبلق، في يده قوس نُشَّاب، (١٢) فقال: من يبرز؟ أبرزوا إلي رأسكم! قال: ففظع به طالوت، (١٣) قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: من رجل يكفيني اليوم جالوت؟ فقال داود: أنا. فقال: تعال! قال: فنزع درعا له، فألبسه إياها. قال: ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه. قال: فرمى بنشابة فوضعها في الدرع. قال: فكسرها داود ولم تضره شيئا، ثلاث مرات، ثم قال له: خذ الآن! فقال داود: اللهم اجعله حجرا واحدا. قال: وسمى واحدا إبراهيم، وآخر إسحاق، وآخر يعقوب. قال: فجمعهن جميعا فكن حجرا واحدا. قال: فأخذهن وأخذ مقلاعا، فأدارها ليرمي بها فقال: أترميني كما يرمي السبع والذئب؟ أرمني بالقوس! قال: لا أرميك اليوم إلا بها! فقال له مثل ذلك أيضا، فقال: نعم! وأنت أهون علي من الذئب! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله. قال: فخلى سبيلها مأمورة. قال: فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه، (١٤) ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا، وهزمهم الله.
٥٧٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما قطعوا ذلك= يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالوت لجنوده:"إن الله مبتليكم بنهر"= وجاء جالوت، وشق على طالوت قتاله، فقال طالوت للناس: لو أن جالوت قتل، أعطيت الذي يقتله نصف ملكي، وناصفته كل شيء أملكه! فبعث الله داود= وداود يومئذ في الجبل راعي غنم، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود، وهم أبدّ منه، (١٥) وأغنى منه، (١٦) وأعرف في الناس منه، وأوجه عند طالوت منه، فغزوا وتركوه في غنمهم= فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى، وأكرمه: لأستودعن ربي غنمي اليوم، ولآتين الناس، (١٧) فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت! فأتى داود إخوته، فلاموه
(١) في المطبوعة: "أن في ولد فلان... " مرة أخرى، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٢) السواري جمع السارية: وهي الأسطوانة، من حجارة أو آجر، وفي الحديث أنه نهى أن يصل بين السواري، وهي أسطوانة المسجد، وذلك في صلاة الجماعة، من أجل انقطاع الصف.
(٣) برع يبرع فهو بارع: تم في كل فضيلة وجمال، وفاق أصحابه في العلم وغيره. ويقال: امرأة بارعة: فائقة الجمال والعقل. وكل مشرف يفوق ويعلو، فهو بارع وفارغ. وفي التاريخ"بارع" بحذف"عليهم" وهما سواء، وسيأتي وصفه بعد قليل بأنه"الجسيم"، وهما بمعنى متقارب.
(٤) في المطبوعة: "صدق" بإسقاط"قد"، وهي في المخطوطة والتاريخ.
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "بينه وبين التي يريح... ": والصواب من التاريخ. وأراح غنمه وأبله يريحها إراحة. ردها إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا. والمراح (بضم الميم) : مأوى الإبل والغنم.
وهو من الرواح، وهو السير بالعشي.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: "يحمل شاتين، يجوز بهما، ولا يخوض" بإسقاط"شاتين""الثانية" وأسقطت المطبوعة: "السيل" الأولى، فأثبت ما في التاريخ وهو الصواب. يقال: "جاز المكان وأجازه" بمعنى واحد. وفي حديث الصراط: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز عليه" بضم الياء.
(٧) عند هذا الموضع انتهى ما رواه الطبري في تاريخه من هذا الأثر الطويل ١: ٢٤٧.
(٨) أعجبه الأمر يعجبه: استخرج عجبه به، إذ يراه أمرا عجيبا.
(٩) في المطبوعة، أسقط بين الكلامين: "قال"، وهي لا بد منها، لأن الحديث غير متصل، كما سترى الذي يليه: "قال فمر... "، يعني دواد. والصفن (بضم فسكون) : خريطة الراعي، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج إليه.
(١٠) في المطبوعة: "يأثر بعضها على بعض"، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة: " ينترى" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. وانتزى فلان على فلان وتنزى عليه: إذا تسرع إليه بالشر وتواثبا.
من"النزو"، وهو الوثب.
(١١) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه: وبرز جالوت على برذون أبلق في يده قوس نشاب
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرا"
ثم بعد ذلك:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(١٢) في المطبوعة: "قوس ونشاب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(١٣) أفظعه الأمر، وفظع به فظاعة وفظعا (بفتحتين) واستفظعه وأفظعه: رآه فظيعا، فهاله وغلبه، فلم يثق بأن يطيقه.
(١٤) أظل الشيء يظل: أقبل ودنا. وفي حديث مالك: "فلما أظل قادما حضرني بثى".
(١٥) في المطبوعة: أند منه"، ولا يظهر لها معنى. وفي المخطوطة"أند" غير منقوطة، وقرأتها كذلك من"البدد"، وهو عرض ما بين المنكبين، وعظم الخلق، وتباعد ما بين الأعضاء. وهذه صفة إخوته كما سلف في آثار ماضية. هذا على أنهم يقولون في الصفة: "رجل أبد، وامرأة بداء".
(١٦) في المطبوعة: "وأعتى منه"، وفي المخطوطة: " وأعنى منه"، وكأن الصواب ما أثبت.
(١٧) في المخطوطة: "ولا / ببر"، في سطرين، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
367
حين أتاهم، فقالوا: لم جئت؟ قال: لأقتل جالوت، فإن الله قادر أن أقتله. (١) فسخروا منه= قال ابن جريج، قال مجاهد: كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سماهن"إبراهيم" و"إسحاق" و"يعقوب"= قال ابن جريج، قالوا: وهو ضعيف رث الحال، فمر بثلاثة أحجار فقلن له: خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت! فأخذهن داود وألقاهن في مخلاته. فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه: أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثاني: أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثالث: أنا حجر داود الذي أقتل جالوت! فقال الحجران: يا حجر داود، نحن أعوان لك! فصرن حجرا واحدا. وقال الحجر: يا داود، اقذف بي، فإني سأستعين بالريح= وكانت بيضته، فيما يقولون والله أعلم، فيها ستمئة رطل= (٢) فأقع في رأس جالوت فأقتله! قال ابن جريج، وقال مجاهد: سمى واحدا إبراهيم، والآخر إسحاق، والآخر يعقوب، وقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! وجعلهن في مرجمته- قال ابن جريج: فانطلق حتى نفذ إلى طالوت (٣) فقال: إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه! أفلي ذلك إن قتلته؟ قال: نعم! والناس يستهزئون بداود، وإخوة داود أشد من هنالك عليه. وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده، فإذا لم تكن قدرا عليه نزعها عنها. (٤) وكانت درعا سابغة من دروع طالوت، فألبسها داود، فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم. فتقدم داود، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد، وعليه الدرع. فقال له جالوت: ويحك! من أنت؟ إني أرحمك! ليتقدم إلي غيرك من هذه الملوك! أنت إنسان ضعيف مسكين! فارجع. فقال داود: أنا الذي أقتلك بإذن الله، ولن أرجع حتى أقتلك! فلما أبي داود إلا قتاله، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه، فأخرج الحجر من المخلاة، فدعا ربه ورماه بالحجر، فألقت الريح بيضته عن رأسه، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله= قال ابن جريج، وقال مجاهد: لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا، قال الله تعالى:"وقتل داود جالوت". فقال داود لطالوت: ف لي بما جعلت. (٥) فأبى طالوت أن يعطيه ذلك. فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل حتى مات طالوت. فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود فجاؤوا به فملّكوه، وأعطوه خزائن طالوت، وقالوا: لم يقتل جالوت إلا نبي! قال الله:"وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه مما يشاء="والهاء" في قوله:"وآتاه الله"، عائدة على داود ="والملك" السلطان (٦) "والحكمة"، النبوة. (٧) وقوله:"وعلمه مما يشاء"، يعني: علمه صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال الله تعالى ذكره: (وعلمناه صنعة لبوس
(١) "قادر" من قولهم: "قدر الله الشيء وقدره"، قضاه.
(٢) ما بين الخطين، كلام معترض بين كلام الحجر. والضمير في"بيضته"، لجالوت.
(٣) قوله: "فانطلق" الضمير لداود.
(٤) القدر (بفتحتين، وفتح وسكون) : المقدار، أي على مقداره وعلى قدره.
(٥) في المطبوعة: " وف بما جعلت"، وفي المخطوطة"ولي بما جعلت"، وصواب قراءتها ما أثبت وقواه: "ف" هو الأمر من قولهم: " وفى له بالشيء يفي". أمر على حرف واحد.
(٦) انظر تفسير"الملك" فيما سلف ١: ١٤٨- ١٥٠/ ٢: ٤٨٨/ وهذا: ٣١١، ٣١٢، ٣١٤.
(٧) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف ٣: ٨٧، ٨٨، ٢١١/ وهذا: ١٦، ١٧.
370
لكم لتحصنكم من بأسكم) [سورة الأنبياء: ٨٠].
* * *
وقد قيل إن معنى قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، أن الله آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٤٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ، وجعله الله نبيًّا، وذلك قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، قال: الحكمة هي النبوة، آتاه نبوّة شمعون وملك طالوت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس= وهم أهل الطاعة له والإيمان به= بعضًا، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به- كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً: من بَعْثةِ ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله= بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوتَ وجنوده= (١) "لفسدت الأرض"، يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض= (٢) ولكن الله ذو منٍّ على خلقه وتطوُّلٍ عليهم، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر.
* * *
(١) سياق هذا الجملة"كما دفع عن المتخلفين عن جالوت... بمن جاهد معه... جالوت وجنوده"، على دأب أبي جعفر في الفصل الطويل المتتابع.
(٢) انظر معنى"الفساد فيما سلف ١: ٢٨٧، ٤١٦/ ٤: ٢٣٩، ٢٤٣، ٢٤٤.
372
وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم، والمشركين وأهلِ الكفر منهم، وأنه إنما يدفع عنهم معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله، الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله، من النصر في العاجل، والفوز بجنانه في الآجل. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٤٩- حدثني محمد بن عمر قال، حدثنا أبو عاصم عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولولا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض، (٢) "لفسدت الأرض"، بهلاك أهلها.
٥٧٥٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفاع الله بالبَرِّ عن الفاجر، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض (٣) لهلك أهلها.
٥٧٥١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حنظلة، عن أبي مسلم قال: سمعت عليًّا يقول: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم.
(١) في المطبوعة: "في الآخرة"، وفي المخطوطة: "في الأخر"، ولو شاء أن يجعلها على ذلك لقال: "من النصر في العاجلة، والفوز بجنانه في الآخرة". ولكني أجده تصحيف ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "بالبار"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المخطوطة والدر المنثور ١: ٣٢٠" أخلاق الناس"، والأخلاف جمع خلف، بمعنى الذين خلفوا الصالحين من أهل البر والصلاح والتقوى.
373
٥٧٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: لهلك من في الأرض.
٥٧٥٣- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا حفص بن سليمان، عن محمد بن سوقة، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مئةِ أهلِ بيت من جيرانه البلاءَ"، ثم قرأ ابن عمر:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". (١)
٥٧٥٤- حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال:
(١) الحديث: ٥٧٥٣-أحمد بن المغيرة، أبو حميد الحمصي-شيخ الطبري: هو أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار، نسب هنا إلى جده. وهو ثقة، روى عنه النسائي ووثقه. وترجمه ابن أبي حاتم ١/ ١/ ٧٢، باسم: "أحمد بن محمد بن سيار"، وقال"كتب عنه، وهو صدوق ثقة".
يحيى بن سعيد: هو العطار الأنصاري، أبو زكريا، الشامي الحمصي. ضعفه ابن معين وغيره. وقال أبو داود: "جائز الحديث". وقال محمد بن مصفي الحمصي الحافظ: "حدثنا يحيى بن سعيد العطار، ثقة". فهذا بلديه وتلميذه يوثقه، والظن أن يكون أعرف به من غيره. وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٢٧٧، فلم يذكر فيه جرحًا. وجازف ابن حبان -في كتاب المجروحين -مجازفة شديدة دون برهان، فقال: "كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، والمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به بحال، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار لأهل الصناعة".
حفص بن سليمان: هو الأسدي البزاز الكوفي القارئ، صاحب"قراءة حفص" المعروفة، التي يقرأ لها الناس بمصر وغيرها. وهو ضعيف جدًا، متروك الحديث، على إمامته في القراءة. وقد بينت ضعفه مفصلا في شرح المسند: ١٢٦٧.
محمد بن سوقة -بضم السين المهملة - الغنوي الكوفي العابد: ثقة متفق عليه.
وبرة بن عبد الرحمن: تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث ذكره ابن كثير ١: ٦٠٦ ٦٠٧، عن هذا الموضع. وقال: "وهذا إسناد ضعيف. فإن يحيى بن سعيد هذا: هو العطار الحمصي، هو ضعيف جدًا".
وذكره الذهبي في الميزان، في ترجمة"يحيى بن سعيد العطار" ٣: ٢٩٠ -عن يحيى هذا، بهذا الإسناد.
374
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولدِه، وأهلَ دُوَيْرَته ودُويْراتٍ حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على قوله:"العالمين"، وذكرنا الرواية فيه. (٢)
* * *
وأما القرأة، فإنها اختلفت في قراءة قوله:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض".
فقرأته جماعة من القرأة: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ) على وجه المصدر، من قول القائل:
(١) الحديث: ٥٧٥٤ -عثمان بن عبد الرحمن: هكذا في نقل ابن كثير إياه عن هذا الموضع. فإنه يكنه يكن"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني"، فهو من الطبقة، ولكنه لم يذكر في شيوخ"يحيى بن سعيد العطار"، ولا في الرواة عن"محمد بن المنكدر". ولم نجد فيما رأينا من ترجم من اسمه"عثمان بن عبد الرحمن" -من يستقيم به الإسناد غيره.
وهذا الوقاصي: ضعيف جدًا، رماه ابن معين بالكذب. وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، ذاهب الحديث، كذاب". وقال البخاري في الضعفاء، ص: ٢٥: "تركوه".
والراجح -عندي-أن اسم هذا الراوي محرف في نسخ الطبري. وأكاد أجزم أن صوابه"عنبسة بن عبد الرحمن" فهو الذي يروي عن محمد بن المنكدر، ويروي عنه يحيى بن سعيد العطار.
وقد يؤيد ذلك: أن كاتب المخطوطة رسم هذا الاسم بدون ألف بعد الميم -على الكتبة القديمة-"عثمن". ولكن يظهر أنه كتبه على تردد، عن نسخة غير واضحة الرسم. لأنه بسط آخر الكلمة فكتب النون مبسوطة كأنها سين، ثم اشتبه عليه الاسم، فاصطنع الحرف المبسوط جعله نونًا. وتغيير الحرفين قبله سهل: ينقط النون بثلاث نقط فتصير ثاء مثلثة، ثم يدير نبرة الباء فتكون ميما. ويخرج الاسم من"عنبسة" إلى"عثمن".
وأيًا ما كان الراوي هنا"عثمان" أو"عنبسة" -فالحديث واهي الإسناد منهار، لا تقول له قائمة.
فإن"عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص": ضعيف جدًا.
قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، كان يضع الحديث".
واسم جده"عنبسة" كاسمه. ووقع في التهذيب محرفًا"عيينة". وهو خطأ مطبعي.
والحديث ذكره ابن كثير ١: ٦٠٧، وقال: "وهذا أيضًا غريب ضعيف، لما تقدم أيضًا"! يريد لضعف"يحيى بن سعيد العطار". وقد بينا في الحديث السابق أنه غير ضعيف.
وذكره السيوطي ١: ٣٢٠، ونسبه الطبري"بسند ضعيف". ثم لم ينسبه لغير الطبري.
(٢) انظر ما سلف ١: ١٤٣ -١٤٦/ ٢: ٢٣ -٢٦.
375
"دفعَ الله عن خلقه فهو يدفع دفعًا". واحتجت لاختيارها ذلك، بأن الله تعالى ذكره هو المتفرِّد بالدفع عن خلقه، ولا أحد يُدافعه فيغالبه.
* * *
وقرأت ذلك جماعة أُخَر من القرأة: (١) (وَلَوْلا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ) على وجه المصدر، من قول القائل:"دافع الله عن خلقه فهو يُدافع مدافعة ودفاعًا" واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرًا من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم، لله مُدافعون بظنونهم، (٢) ومغالبون بجهلهم، والله مُدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به.
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة، وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع. (٣) ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه مدافع. (٤) ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو معنى"مدافعة الله" عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ: (٥) (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)، وقراءة من قرأ: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض)، في التأويل والمعنى.
* * *
(١) في المطبوعة: "جماعة أخرى من القراء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "مدافعون بباطلهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "فمدافعه عنه دافع"، وفي المخطوطة: "فمدافعة عنه ليس دافع" غير واضحة، والصواب ما أثبت. وذلك لأن الله دافع الكفار عما تضمن للمؤمنين من النصرة ببعض الناس. فصح إذًا أن عبارة الطبري تقتضي أن تكون الكلمة"بشيء".
(٤) في المطبوعة: "لمدافعه مدافع" والصواب من المخطوطة.
(٥) في المطبوعة: "فتبين إذًا"، والصواب من المخطوطة.
376
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك آيات الله" (١) هذه الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله:"والله ذو فضل على العالمين".
ويعني بقوله:"آيات الله"، حججه وأعلامه وأدلته. (٢).
* * *
يقول الله تعالى ذكره: فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد، وأعلمتك= من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل، بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة، وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي، ونصرتي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم= (٣) حججي على من جحد نعمتي، وخالف أمري، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية، التي يعلمون أنها من عندي، (٤).
لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد، لأنك أمي، ولست ممن قرأ الكتب، فيلتبس عليهم أمرك، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم= ولكنها حججي عليهم أتلوها
(١) انظر مجيء"ذلك"و"تلك" بمعنى: "هذا، وهذه"، فيما سلف ١: ٢٢٥ -٢٢٧/ ٣: ٣٣٥.
(٢) انظر تفسير"الآية" فيما سلف ١: ١٠٦، ثم هذا الجزء: ٣٣٧ والمراجع في التعليق هناك.
(٣) في المطبوعة: "حجج على من جحد"، وأثبت ما في المخطوطة. والسياق: "فهذه الحجج... حججي".
(٤) في المخطوطة: "من الأنباء الحصه" غير منقوطة ولا بينة، وما في المطبوعة صحيح المعنى.
377
عليك يا محمد، بالحق اليقين كما كان، لا زيادة فيه، ولا تحريف، ولا تغيير شيء منه عما كان="وإنك" يا محمد"لمن المرسلين"، يقول: إنك لمرسل متبع في طاعتي، وإيثار مرضاتي على هواك، فسألك في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي الذين أقاموا على أمري، وآثروا رضاي على هواهم، ولم تغيرهم الأهواء، ومطامع الدنيا، كما غير طالوت هواه، وإيثاره ملكه، على ما عندي لأهل ولايتي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك.
* * *
378
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك"، الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم = والذي كلمته منهم موسى ﷺ = ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة، كما:-
٥٧٥٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره:"تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض"، قال: يقول: منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة.
٥٧٥٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *
378
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك:=
٥٧٥٧ - قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا" (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (٢) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات"، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته: (٣) من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه.
* * *
ويعني تعالى ذكره بقوله:"وأيدناه"، وقويناه وأعناه= (٤) "بروح القدس"، يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح
(١) الأثر: ٥٧٥٧ -ساقه بغير إسناد، وقد اختلف ألفاظه، وهو من حديث ابن عباس في المسند رقم: ٢٧٤٢، والمسند ٥: ١٤٥، ١٤٧، ١٤٨، ١٦١، ١٦٢ (حلبي) والمستدرك ٢: ٤٢٤ ورواه مسلم بغير اللفظ ٥: ٣، والبخاري، (الفتح ١: ٣٦٩، ٤٤٤) مواضع أخرى. وهو حديث صحيح.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى تعالى ذكره بذلك"، وهو لا يستقيم.
(٣) انظر تفسير"البينات"فيما سلف ٢: ٣٢٨/ ٤: ٢٧١، والمراجع هناك، وانظر فهرس اللغة.
(٤) انظر تفسير"أيد"فيما سلف ٢: ٣١٩، ٣٢٠.
379
القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله=" ما اقتتل الذين من بعدهم"، (٢) يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه.
* * *
ويعني بقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني: من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.
* * *
وقد قيل: إن"الهاء" و"الميم" في قوله:"من بعدهم"، من ذكر موسى وعيسى. * ذكر من قال ذلك:
٥٧٥٨ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات"، يقول: من بعد موسى وعيسى.
(١) انظر ما سلف ٢: ٣٢٠- ٣٢٣.
(٢) في المطبوعة، أتم الآية: "من بعد ما جاءتهم البينات"، وأثبت ما في المخطوطة.
380
٥٧٥٩ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات" يقول: من بعد موسى وعيسى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي، (١) بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته.
ثم قال تعالى ذكره لعباده:"ولو شاء الله ما اقتتلوا"، يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم- عن معصيته فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا="ولكن الله يفعل ما يريد"، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.
* * *
(١) في المخطوطة: "أتوا ما أنزل من الكفر"، وهو سهو فاحش من شدة عجلة الكاتب، كما تتبين ذلك جليا من تغيُّر خطه في هذا الموضع أيضًا.
381
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه:
٥٧٦٠ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم"، قال: من الزكاة والتطوع.
* * *
="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، يقول: ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم، بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه"، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه- بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها- بما أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، (١) لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ- أو
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به"، وهو كلام مختل، سقط فيما أرجح ما أثبته: "رزقتكموها، بما". وسياق العبارة: ما كنتم على ابتياعه... بما أمرتكم به... قادرين". والذي بينهما فواصل.
382
بالعمل بطاعة الله، سبيل (١).
ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم = مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، (٢) إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به = يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) كما قال الله تعالى ذكره، (٣) وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ= مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الإخوان (٤) = لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء: ١٠٠-١٠١]
* * *
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص، وإنما معناه:"من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، لأهل الكفر بالله، لأن أهل
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فيكون لهم إلى ابتياع... " والصواب في هذا السياق: "لكم وقوله: "سبيل" اسم كان في"فيكون لكم إلى ابتياع... ".
(٢) ارتفاع العمل: انقضاؤه وذهابه. يقال: "ارتفع الخصام بينهما"، و"ارتفع الخلاف" أي انقضى وذهب، فلم يبق ما يختلفان عليه أو يختصمان. وهو مجاز من"ارتفع الشيء ارتفاعا": إذا علا. وهذا معنى لم تقيده المعاجم، وهو عربى صحيح كثير الورود في كتب العلماء، ن وقد سلف في كلام أبي جعفر، وشرحته ولا أعرف موضعه الساعة.
(٣) هى آية"سورة الزخرف": ٦٧.
(٤) النصراء جمع نصير. والخلان جمع خليل: والظهراء جمع ظهير: وهو المعين الذي يقوى ظهرك ويشد أزرك.
383
ولاية الله والإيمان به، يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (١).
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:-
٥٧٦١ - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين.
* * *
وأما قوله:"والكافرون هم الظالمون"، فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله="هم الظالمون"، يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله.
* * *
وقد دللنا على معنى"الظلم" بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته (٢).
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع:"والكافرون هم الظالمون"، دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله:"ولا خلة ولا شفاعة"، إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك:"والكافرون هم الظالمون". فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.
* * *
(١) انظر ما سلف ٢: ٢٣، ٣٣.
(٢) انظر معنى"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة / ومعنى"الظلم" فيما سلف ١: ٥٢٣، ٥٢٤، وفي فهارس اللغة.
384
فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟
قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله:"ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر". ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته (١) وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي= من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم= ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، (٢) وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام لعبيدي. وقد:-
٥٧٦٢ - حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال:"والكافرون هم الظالمون"، ولم يقل:"الظالمون هم الكافرون".
* * *
(١) في المطبوعة: "يحض" بالياء في أوله، فعلا. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بباء الجر، اسما. وقوله: "بحض"، متعلق بقوله: "ثم عقب الله".
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "وهذا يومئذ فعل بهم"، وصواب السياق يقتضى ما أثبت.
385
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله:"الله" (١).
* * *
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو" فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول:"الله" الذي له عبادة الخلق="الحي القيوم"، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سِنة ولا نوم، (٢) والذي صفته ما وصف في هذه الآية.
* * *
وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات= (٣) من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض= واختلفوا فيه، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به، ووفقنا للإقرار.
* * *
وأما قوله:"الحي" فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، (٤) إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا
(١) انظر تفسير"الله" فيما سلف ١: ١٢٢- ١٢٦.
(٢) في المطبوعة: "ولا تعبدوا شيئا سواه الحي القيوم"، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "المختلفين في البينات"، بزيادة"في"، وهو خطأ مخل بالكلام، والصواب ما في المخطوطة، و"البينات"فاعل"جاءت به"، و"المختلفين"مفعوله. والجملة التي بين الخطين، معترضة، وقةله: بعد"واختلفوا فيه فاقتتلوا فيه... "، عطف على قوله: "عما جاءت به... ".
(٤) في المطبوعة: "لا أول له يحد" بالياء، فعلا، ثم جعل التي تليها"ولا آخر له يؤمد"، فأتى بفعل عجيب لا وجود له في العربية، وفي المخطوطة: "بحد" غير منقوطة وصواب قراءتها بباء الجر في أوله. وفيها"بأمد" كما أثبت، والأمد: الغاية التي ينتهى إليها. بقول: ليس له أول له حد يبدأ منه وليس له آخر له أمد ينتهى إليه.
386
فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، (١) وينقضي بانقضاء غايتها.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٦٣ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي" حي لا يموت.
٥٧٦٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك (٢).
فقال بعضهم: إنما سمي الله نفسه"حيا"، لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة.
وقال آخرون: بل هو حي بحياة هي له صفة.
وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به، فقلناه تسليما لأمره (٣).
* * *
(١) في المطبوعة: "وآخر مأمود"، أتى أيضًا بالعجب في تغيير المخطوطة، وباستخراج كلمة لا يجيزها اشتقاق العربية، ولم تستعمل في كلام قط. وفي المخطوطة"ممدود"كما أثبتها. وهي من قولهم: "مد له في كذا" أي طويل له فيه. بل أولى من ذلك أن يقال إنها من"المد"، وهي الطائفة من الزمان.
وقد استعملو من المدة: "ماددت القوم". أي جعلت لهم مدة ينهون إليها. وفي الحديث: "يا ويح قريش، لقد نهكتهم الحرب! ما ضرهم لو ماددناهم مدة"، أي جعلنا لهم مدة، وهي زمان الهدنة. وقال ابن حجر في مقدمته الفتح: ١٨٢"قوله: (في المدة التي فيها أبا سفيان) : أي جعل بينه وبينه مدة صلح، ومنه: (إن شاؤوا ماددتهم). فهو"فاعل" من"المد". ولا شك أن الثلاثى منه جائز أن يقال: " مد له مدة" أي جعل له مدة ينتهى من عند آخرها. وكأتى قرأتها في بعض كتب السير، فأرجو أن أظفر بها فأقيدها إن شاء الله، فمعنى قوله: "وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها" أي: آخر قد ضربت له مدة ينقطع بانقطاع غايتها.
(٢) هذه أول مرة يستعمل فيها الطبري: "أهل البحث"، ويعنى بذلك أهل النظر من المتكلمين.
(٣) في المطبوعة: "فقلناه"، وما في المخطوطة صواب أيضًا جيد.
387
وأما قوله:"القيوم"، فإنه"الفيعول" من"القيام" وأصله"القيووم"،: سبق عين الفعل، وهي"واو"،"ياء" ساكنة، فأدغمتا فصارتا"ياء" مشددة.
وكذلك تفعل العرب في كل"واو" كانت للفعل عينا، سبقتها"ياء" ساكنة. ومعنى قوله:"القيوم"، القائم برزق ما خلق وحفظه، كما قال أمية: (١).
لم تخلق السماء والنجوم... والشمس معها قمر يعوم (٢) قدره المهيمن القيوم... والجسر والجنة والجحيم (٣) إلا لأمر شأنه عظيم
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٦٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القيوم"، قال: القائم على كل شيء.
٥٧٦٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
٥٧٦٧ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"القيوم" وهو القائم.
(١) هو: أمية بن أبي الصلت الثقفى.
(٢) ديوانه: ٥٧، والقرطبي ٣: ٢٧١، وتفسير أبي حيان ٢٥: ٢٧٧. وفي المطبوعة والقرطبي"قمر يقوم"، وهو لا معنى له، والصواب في المخطوطة وتفسير أبي حيان. عامت النجوم تعوم عوما: جرب، مثل قولهم: "سبحت النجوم في الفلك تسبح سبحا"
(٣) في المراجع كلها"والحشر"، وهو خطأ وتصحيف لا ريب فيه عندي، وهو في المخطوطة"والحسر" غير منقوطة، وصواب قراءتها"الجسر" كما أثبت. وفي حديث البخاري: "ثم يؤتى بالجسر" قال ابن حجر: أي الصراط، وهو كالقنطرة بين الجنة والنار، يمر عليها المؤمنون. ولم يذكر في بابه في كتب اللغة، فليقيد هناك، فإن هذا هو سبب تصحيف هذه الكلمة. وفي بعض المراجع: "والجنة والنعيم"، والذي في الطبري هو الصواب. هذا وشعر أمية كثير خلطه.
388
٥٧٦٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الحي القيوم"، قال: القائم الدائم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة"، لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما.
* * *
"والوسن" خثورة النوم، (١) ومنه قول عدي بن الرقاع:
"يعني تعالى ذكره بقوله فهزم طالوت "، والسياق يقتضي زيادة"فهزموهم" من نص الآية.
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم (٢)
(١) الخثورة: نقيض الرقة، يقال: "خثر اللبن والعسل ونحوهما"، إذا ثقل وتجمع، والمجاز منه قولهم: "فلان خاثر النفس" أي ثقيلها، غير طيب ولا نشيط، قد فتر فتورا. واستعمله الطبري استعمالا بارعا، فجعل للنوم"خثورة"، وهي شدة الفتور، كأنه زالت رقته واستغلط فثقل، وهذا تعبير لم أجده قبله.
(٢) من أبيات له في الشعر والشعراء: ٦٠٢، والأغانى ٩: ٣١١، ومجاز القرآن ١: ٧٨، واللسان (وسن) (رنق)، وفي جميعها مراجع كثيرة، وقبل البيت في ذكرها صاحبته"أم القاسم": وسنان أقصده النعاس................................
وكأنها وسط النساء أعارها عينيه أحور من جاذر جاسم
يصطاد يقظان الرجال حديثها وتطير بهجتها بروح الحالم
والجآذر بقر الوحش، وهي حسان العيون. وجاسم: موضع تكثر فيه الجآذر. و" أقصده النعاس" قتله النعاس وأماته. يقال: "عضته حبة فإقصدته"، أي قتلته على المكان -أي من فوره. و"رفقت" أي خالطت عينه. وأصله من ترنيق الماء، وهو تكديره بالطين حتى يغلب على الماء. وحسن أن يقال هو من ترنيق الطائر بجناحيه، وهو رفرفته إذا خفق بجناحيه في الهواء فثبت ولم يطر، وهذا المجازأعجب إلى في الشعر.
389
ومن الدليل على ما قلنا: من أنها خثورة النوم في عين الإنسان، قول الأعشى ميمون بن قيس:
تعاطى الضجيع إذا أقبلت... بعيد النعاس وقبل الوسن (١)
وقال آخر: (٢)
باكرتها الأغراب في سنة النو... م فتجري خلال شوك السيال (٣)
(١) ديوانه: ١٥، وهو يلي البيت الذي سلف ١: ٣٤٥، ٣٤٦، وفي ذكر نساء استمع بهن:
إذا هن نازلن أقرانهن... وكان المصاع بما في الجون
تعاطى الضجيع.................................
صريفية طيبا طعمها... لها زبد بين كوب ودن
وقوله"تعاطى" من قولهم للمرأة: "هى تعاطى خلها" أي صاحبها -أن تناوله قبلها وريقها.
وقوله: "أقبلت"، هو عندي بمعنى: سامحت وطاوعت وانقادت، من"القبول" وهو الرضا. ولم يذكر ذلك أصحاب اللغة، ولكنه جيد في العربية، شبيه بقولهم: "أسمحت"، من السماح، إذا أسهلت وانقادت ووافقت ما يطلبه صاحبها. وذلك هو الجيد عندي. ليس من الإقبال على الشيء. بل من القبول. ويروي مكمان ذلك: "إذا سامها"، ورواية الديوان: "بعيد الرقاد وعند الوسن"
والصريفية: الخمر الطيبة، جعلها صريفية، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ، كاللبن الصريف وهو اللبن الذي ينصرف من الضرع حارا إذا حلب. وفي الديون: "صليفية"، باللام، والصواب بالراء يقول: إذا انقادت لصاحبها بعيد رقادها، أو قبل وسنها، عاطته من ريقها خمرا صرفا تفور بالزبد بين الكوب والدن، ولم يمض وقت عليها فتفسد. يقول: ريفها هو الخمر، في يقظتها قبل الوسن -وذلك بدء فتور الفس وتغير الطباع -وبعد لومها، وقد تغيرت أفواه البشر واستكرهت روائحها ينفي عنها العيب في الحالين. وذلك قل أن يكون في النساء أو غيرهن.
(٢) هو الاعشى أيضًا
(٣) ديوانه: ٥، واللسان (غرب)، من قصيدة جليلة، أفضى فيها إلى ذكر صاحبته له يقول قبله:
وكأن الخمر العتيق من الإسفنط... ممزوجة بماء زلال باكرتها الأغراب.........................................................
الإسفنط: أجود أنواع الخمر وأغلاها. وباكرتها، أي في أول النهار مبادرة إليها.
والأغراب جمع غرب (بفتح فسكمون)، وهو القدح. والسيال: شجر سبط الأغصان، عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا اعذارى، وتشبه به أسنانهن يقول: إذا نامت لم يتغير طيب ثغرها، بل كأن الخمر تجرى بين ثناياها طيبة الشذا. وقوله: "باكرتها الأغراب"، وهو كفوله في الشعر السالف أنها"صريفية" أي أخذت من دنها لسعتها. يقول: ملئت الأقداح منها بكرة، يعنى تبادرت إليها الأقداح من دنها، وذلك أطيب لها.
هذا، وقد جاء في شرح الديوان: الأغراب: حد الأسنان وبياضها، وأظال في شرحه، ولكنى لا أرتضيه، والذي شرحته موجود في اللسان، وهو أعرق في الشعر، وفي فهمه.
390
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها، يقال منه:"وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان"، إذا كان كذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٦٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله تعالى:"لا تأخذه سنة" قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم (١).
٥٧٧٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تأخذه سنة" السنة: النعاس.
٥٧٧١ - حدثنا الحسن بن يحيي، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله:"لا تأخذه سنة" قالا نعسة.
٥٧٧٢ - حدثني المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال،
٥٧٧٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن
(١) يعنى أن النوم معروف، والسنة غير النوم، وانظر الأثر الآتي: ٥٧٧٢ وما بعده.
391
جويبر، عن الضحاك:"لا تأخذه سنة ولا نوم" السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال.
٥٧٧٤ - حدثني يحيي بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله سواء.
٥٧٧٥ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تأخذه سنة ولا نوم" أما"سنة"، فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان (١).
٥٧٧٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا تأخذه سنه ولا نوم" قال:"السنة"، الوسنان بين النائم واليقظان.
٥٧٧٧ - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا منجاب بن الحرث، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع:"لا تأخذه سنه" قال: النعاس (٢).
٥٧٧٨ - حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال:"الوسنان": الذي يقوم من النوم لا يعقل، حتى
(١) في المخطوطة"ريح" غير منقوطة. والريح هنا: الغلبة والقوة، كما جاء في شعر أعشى فهو أو سليك بن السلكة.
أتنظران قليلا ريث غفلتهمأوتعدوان فإن الريح للعادى
أي الغلبة. وربما قرئت أيضًا: "الرنح" (بفتح الراء وسكون النون) وهو الدوار. ومنه: "ترنح من السكر" إذا تمايل، و"رنح به" (بالبناء للمجهول مشددة النون) إذا دير به كالمغشى عليه، أو اعتراه وهن في عظامه من ضرب أو فزع أو سكر.
(٢) الأثر: ٥٧٧٧ -"عباس بن أبي طالب"، هو: "عباس جعفر بن الزبرقان" مضت ترجمته في رقم: ٨٨٠، و"المنجاب بن الحارث"، مضت ترجمته في رقم: ٣٢٢ -٣٢٨، و"على بن مسهر القرشي" الكوفي الحافظ، روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، واسماعيل بن أبي خلد. ثقة، مات سنة ١٨٩. مترجم في التهذيب. و" اسناعيل" هو" اسماعيل بن أبي خالد الأحمس" روي عن أبيه، وأبيجحيفة، ن وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث، وأبي كاهل، وهؤلاء صحابة. وعن زيد بن وهب والشعبي وغيرهما من كبار التابعين. كان ثقة ثبتا. مات سنه ١٤٦. مترجم في التهذيب. و"يحيى بن رافع" أبو عيسى الثقفى. روي عن عثمان وأبي هريرة، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد. مترجم في الكبير ٤/ ٢/ ٢٧٣، وابن أبي حاتم ٤/٢/ ١٤٣.
392
ربما أخذ السيف على أهله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن"السنة" و"النوم"، معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه.
* * *
فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"الله لا إله إلا هو الحي" الذي لا يموت="القيوم" على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال="لا تأخذه سنة ولا نوم"، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكا، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه. (١) كما:
٥٧٧٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر= قال: أخبرني الحكم بن أبان، (٢) عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله:"لا يأخذه سنة ولا نوم" أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلى الملائكة، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يديه،
(١) في المطبوعة: "يمانع" بالياء في أوله، وهو خطأ لا خير فيه. وإنما أخطأ قراءة المخطوطة للفتحة على الميم، اتصلت بأولها.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"وأخبرنى الحكم"، وكأن الصواب حذف الواو"أخبرنا معمر قال، أخبرنى الحكم بن أبان" كما أثبته فإن معمرا يروي عن الحكم بن أبان. انظر ترجمته في التهذيب، وكما جاء في ابن كثير ٢: ١١ على الصواب. وقال بمقبه: "وهو من أخبار بني إسرائيل، وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل، وهو منزه عنه". وأصاب ابن كثير الحق، فإن أهل الكتاب ينسبون إلى أنبياء الله، ما لو تركوه لكان خيرا لهم.
393
في كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما= قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله، يقول: فكذلك السموات والأرض في يديه.
٥٧٨٠ - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله ﷺ يحكي عن موسى ﷺ على المنبر، قال: وقع في نفس موسى: هل ينام الله تعالى ذكره؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، أمره أن يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض (١).
* * *
(١) الأثر: ٥٧٨٠ -"إسحق بن أبى إسرائيل-واسمه إبراهيم- بن كما مجرا، أبو يعقوب المروزي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائى وغيرهم. قال ابن معين: "من ثقات المسلمين، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه".
وكرهه أحمد لوقفه في أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فتركه الناس حتى كان الناس يمرون بمسجده، وهو فيه وحيد لا يقربه أحد. وقال أبو زرعة: "عندي أنه لا يكذب، وحدث بحديث منكر". مات سنه ٢٤٠. مترجم في التهذيب.
و"هشام بن يوسف الصنعائي"قاضي صنعاء، ثقة. روى عنه الأئمة كلهم. روي عن معمر، وابن جريج، والقاسم بن فياض، والثوري، وغيرهم. قال عبد الرزاق: "إن حدثكم القاضي -يعنى هشام بن يوسف- فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره". مترجم في التهذيب.
و"أمية بن شبل الصنعائي"، سمع الحكم بن أبان طاوس. روى عنه هشام بن يوسف وعبد الرزاق، وثقه ابن معين، مترجم في الكبير ١/٢/ ١٢، ولم يذكر فيه جرحا، وابن أبي حاتم ١/ ١/ ٣٠٢، ولسان الميزان ١: ٤٦٧. وقال الحافظ في لسان الميزان: "له حديث منكر، رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة، عن أبي هريرة، مرفوعا، قال"وقع في نفس موسى عليه السلام، هل ينام الله"، الحديث، رواه عنه هشام بن يوسف، وخالفه معمر، عن الحكم، عن عكمرمة، فوقفة، وهو أقرب. ولا يسوغ أن يكون هذا وقعا في نفس موسى عليه السلام، وإنما روي أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك".
وساق ابن كثير في تفسير ١: ١١، هذه الآثار، ثم قال: "وأغرب من هذا كله، الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحق بن أبي إسرائيل... "، وساق الخبر، ثم قال: " وهذا حديث غريب، والأظهر أنه إسرائيل لا مرفوع، والله أعلم". والذي قاله ابن حجر قاطع في أمر هذا الخبر.
394
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"له ما في السموات وما في الأرض" أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود (١).
وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه.
* * *
وأما قوله:"من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" يعني بذلك: من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم، إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم. (٢) وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! (٣) فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي.
* * *
(١) انظر ما سلف في تفسير: "له ما في السموات... "، ٢: ٥٣٧.
(٢) انظر معنى"شفع" فيما سلف ٢: ٣١ - ٣٣، وما سلف قريبا: ٣٨٢ - ٣٨٤. ومعنى"الإذن" فيما سلف ٢: ٤٤٩، ٤٥٠/ ثم٤: ٢٨٦، ٣٧٠/ ثم هذا ٣٥٢، ٣٥٥.
(٣) هذا تأويل آية"سورة الزمر": ٣.
395
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٨١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم:"يعلم ما بين أيديهم"، الدنيا="وما خلفهم"، الآخرة.
٥٧٨٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يعلم ما بين أيديهم"، ما مضى من الدنيا="وما خلفهم" من الآخرة.
٥٧٨٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج قوله:"يعلم ما بين أيديهم" ما مضى أمامهم من الدنيا="وما خلفهم" ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة.
٥٧٨٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"يعلم ما بين أيديهم"، قال: [وأما] "ما بين أيديهم"، فالدنيا="وما خلفهم"، فالآخرة (١).
* * *
وأما قوله:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"، فإنه يعني تعالى ذكره: أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله، (٢)
(١) زيادة ما بين القوسين، لاغنى عنها.
(٢) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف ٢: ٢٨٤.
396
محص له دون سائر من دونه= وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم؟! يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها، (١) يعلمها، لا يخفي عليه صغيرها وكبيرها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٨٦ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا يحيطون بشيء من علمه" يقول: لا يعلمون بشيء من علمه ="إلا بما شاء"، هو أن يعلمهم (٢).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الكرسي" الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض.
فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٨٧ - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة، قالا حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وسع كرسيه" قال: كرسيه علمه.
٥٧٨٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مطرف،
(١) في المطبوعة: "أخلصوا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(٢) سقط من الترقيم: ٥٧٨٥، سهوا.
397
عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله= وزاد فيه: ألا ترى إلى قوله:"ولا يؤوده حفظهما"؟
* * *
وقال آخرون:"الكرسي": موضع القدمين.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٨٩ - حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى، قال: الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل (١).
٥٧٩٠ - حدثني موسى بن هاوون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وسع كرسيه السموات والأرض"، فإن السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه.
٥٧٩١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم،
٥٧٩٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، قال: الكرسي: موضع القدمين (٢).
(١) الأثر: ٥٧٨٩ -"علي بن مسلم بن سعيد الطوسي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، ثقة، مات سنة ٢٥٣، مترجم في التهذيب. و"عمارة بن عمير التيمي"، رأى عبد الله لابن عمرو، وروي عن الأسود بن يزيد النخعي، والحارث بن سويد التيمي، وإبراهيم بن أبي موسى الأشعري. لم يدرك أبا موسى. والحديث منقطع. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٢٧، ونسبه لابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقى في الأسماء والصفات.
الأطيط: صوت الرحل والنسع الجديد، وصوت الباب، وهو صوت متمدد خشن ليس كالصرير بل أخشن.
(٢) الأثر: ٥٧٩٢ -خرجه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٣ من طريق سفيان عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ونسبه لوكيع في تفسيره. ورواه الكاكم في المستدرك ٢: ٢٨٢ مثله، موقوفا علي ابن عباس، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ووافقه الذهبى قال ابن كثير: " وقد رواه ابن مردويه، من طريق الحاكم بن ظهير الفزارى الكوفي، وهو متروك، عن السدى عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح أيضًا". وانظر مجمع الزوائد ٦: ٣٢٣: والفتح ٨: ١٤٩.
398
٥٧٩٣ - حدثني عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال: لما نزلت:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: ٦٧] (١).
٥٧٩٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال ابن زيد: فحدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس= قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض (٢).
* * *
وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٩٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: الكرسي هو العرش.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
(١) الأثر: ٥٧٩٣ - لم يرد في تفسير الآية من"سورة الزمر".
(٢) الأثر: ٥٧٩٤ -أثر أبي ذر، خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٢٨، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وخرجه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٣ وساق لفظ ابن مردويه وإسناده، من طريق محمد بن عبد التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر.
399
٥٧٩٦ - حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله" (١).
٥٧٩٧ - حدثني عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
٥٧٩٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نحوه (٢).
* * *
(١) الأثر: ٥٧٩٦ -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد الله بن الحكم بن أبي زيادة" سلفت ترجمته برقم: ٢٢٤٧. و"عبيد الله بن موسي بن أبي المختار، وأسمه باذام، العبسى مولاهم"، روى عنه البخاري، وروى عنه هو والباقون بواسطة أحمد بن أبي سريج الرازى، وأحمد بن إسحق البخاري، وأبي بكر بن أبي شبية، وعبد الله بن الحكم القطواني وغيرهم. ثقة صدوق حسن الحديث، كان عالما بالقرآن رأسا فيه، وأثبت أصحاب إسرائيل. مترجم في التهذيب.
و"عبد الله بن خليفة الهمداني الكوفي" روي عن عمر وجابر، روى عنه أبو إسحق السبيعى ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وهكذا روى الطبري هذا الأثر موقوفا، وخرجه ابن كثير وفي تفسيره ٢: ١٣ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه.
قال ابن كثير: "وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور، وعبد بن بن حميد، وابن جرير في تفسيريهما، والطبراني، وابن أبي عاصم في كتابي السنة، لها، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور. وفي سماعه من عمر نظطر: ثم منهم من يرويه عنه، عن عمر موقوفا -قلت: كما رواه الطبري هنا -ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غربية -قلت: وهي زيادة الطبري في هذا الحديث -ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش، كما رواه أبو داود في كتاب السنة من سنته (رقم: ٤٧٢٦)، والله أعلم".
قال بيده: أشار بها، وانظر ما سلف من تفسير الطبري لذلك في ٢: ٥٤٦ -٥٤٨.
(٢) الأثران: ٥٧٩٧، ٥٧٩٨ -يحيى بن أبي بكير، واسمه نسر، الأسدي"، أبو زكريا الكرماني الأصل. سكن بغداد، روي عن بن عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإسرائيل، وزائدة.
روى عنه الستة، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن أحمد بن أحمد بن أبي خلف، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ٢٠٨ أو ٢٠٩. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"يحيى بن أبي بكر" وهو خطأ.
وهذا الأثر، والذي يليه، إسنادان آخران للأثر السالف رقم: ٥٧٩٦، فانظر التعليق عليهما.
400
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" (١). وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره:"ولا يؤوده حفظهما" على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر: ٧]،
(١) العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى"الكرسي" هو الذي جاء في الحديث الأول، ويكون معناه أيضًا "العلم"، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد علىشرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٣" رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح"، كما بينته في التعليق على الأثر: ٥٧٩٢. ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له. وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي: "والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره. قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله.
وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو"العلم"، بقوله تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما"، فلم لم يجعل"الكرسي" هو"الرحمة"، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في سورة الأعراف: ١٥٦: "قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري، ضعيف جدا، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة.
وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى"الكرسي"، فإن أكثره لا يقوم على شيء، وبعضه منكر التأويل، كما سأبينه بعد إن شاء الله. وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، بالمعنى الذي قالوه، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى"الكرسي"، وذلك قوله تعالى في"سورة ص": "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب". وكتبه محمود محمد شاكر.
401
فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض".
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الكرسي" العلم. (١) ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب"كراسة"، ومنه قول الراجز في صفة قانص:
* حتى إذا ما احتازها تكرسا * (٢).
يعني علم. ومنه يقال للعلماء"الكراسي"، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال:"أوتاد الأرض". يعني بذلك أنهم العلماء الذي تصلح بهم الأرض، (٣) ومنه قول الشاعر: (٤)
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب (٥)
يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء"الكرس"، يقال منه:"فلان كريم الكرس"، أي كريم الأصل، قال العجاج:
(١) أخشى أن يكون الصواب: "وأصل الكرس: العلم" (بفتح الكاف وسكون الراء) مما رواه ابن العرابى من قولهم: "كرس الرجل" (بفتح ثم كسر) : إذا ازدحم علمه على قلبه. وجعل أبي جعفر هذا أصلا، عجب أي عجب! فمادة اللغة تشهد على خلافه، وتفسير ابن الأعرابى هذا أيضًا شاهد على خلافه. وأنما أصل المادة (كرس) من تراكم الشيء وتلبد بعضه على وتجمعه. وقوله بعد: " ومنه قيل للصحيفة كراسة"، والأجود أن يقال: إنه من تجمع أوراقه بعضها على بعض، أو ضم بعضها إلى بعض.
(٢) لم أجد الرجز، وقوله: "احتازها"، أي حازها وضمها إلى نفسه. ولا أدرى إلى أي شيء يعود الضمير: إلى القانص أم إلى كلبه؟ والاستدلال بهذا الرجز على أنه يعنى بقوله: "تكرس"، علم، لا دليل عليه، حتى نجد سائر الشعر، ولم يذكره أحد من أصحاب اللغة.
(٣) هذا التفسير مأخوذ من قول قطرب كما سيأتى، أنهم العلماء، ولكن أصل مادة اللغة يدل على أن أصل ذلك هو ذلك هو الشيء الثابت الذي يعتمد عليه، كالكرسي الذي يجلس عليه، وتسمية العلماء بذلك مجاز محض.
(٤) لم أعرف قائله.
(٥) لم أجد البيت، إلا فيمن نقل عن الطبري، وفي أساس البلاغة (كرس) أنشده بعد قوله: "ويقال للعلماء الكراسي -عن قطرب" وأنشد البت. ولم أجد من ذكر ذلك من ثقات أهل اللغة.
402
قد علم القدوس مولى القدس... أن أبا العباس أولى نفس... * بمعدن الملك الكريم الكِرْس * (١)
يعني بذلك: الكريم الأصل، ويروى:
* في معدن العز الكريم الكِرْس *
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا يؤوده حفظهما"، ولا يشق عليه ولا يثقله.
* * *
يقال منه:"قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا"، (٢) ويقال:"ما آدك فهو لي آئد"، يعني بذلك: ما أثقلك فهو لي مثقل.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٧٩٩ - حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال:
(١) ديوانه: ٧٨، واللسان (قدس) (كرس). و"القدس" هو الله -سبحانه الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. والقدس. ومولاها: ربها. وقد سلف تفسير معنى"القدس" و"القدس" في هذا التفسير ١: ٤٧٥، ٤٧٦/ ٢: ٣٢٢، ٣٢٣. و"أبو العباس" هو أبو العباس السفاح، الخليفة العباسي. وروى صاحب اللسان" القديم الكرس"، و"المعدن" (بفتح الميم وكسر الدال) : مكان كل شيء وأصله الثابت، ومنه: "معدن الذهب والفضة"، وهو الموضع الذي ينبت الل فيه الذهب والفضة، ثم تستخرج منه، وهو المسمى في زماننا"المنجم". يقول: أبو العباس أولى نفس بالخلافة، الثابتة الأصل الكريمته.
(٢) قوله: "إيادا" مصدر لم أجده في كتب اللغة، زادناه الطبري.
403
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه.
٥٨٠٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما.
٥٨٠١ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا يؤوده حفظهما" لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما.
٥٨٠٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه شيء.
٥٨٠٣ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"ولا يؤود حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما.
٥٨٠٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة= وحدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد= قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه.
٥٨٠٥ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن عبيد، عن الضحاك، مثله.
٥٨٠٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته = يعني خلادا = يقول: سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية:"ولا يؤوده حفظهما"، قال: لا يكبر عليه (١).
٥٨٠٧ - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "يكثر عليه" والصواب ما أثبت: "كبر عليه"، ثقل عليه.
404
ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يكرثه (١).
٥٨٠٨ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه.
٥٨٠٩ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه حفظهما.
٥٨١٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يعز عليه حفظهما.
* * *
قال أبو جعفر:"والهاء"، و"الميم" و"الألف" في قوله:"حفظهما"، من ذكر"السموات والأرض". فتأويل الكلام: وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض.
* * *
وأما تأويل قوله:"وهو العلي" فإنه يعني: والله العلي.
* * *
و"العلي""الفعيل" من قولك:"علا يعلو علوا"، إذا ارتفع،"فهو عال وعلي"،"والعلي" ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته.
* * *
وكذلك قوله:"العظيم"، ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. كما:-
٥٨١١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"العظيم"، الذي قد كمل في عظمته.
* * *
(١) كرثه الأمر يكرثه: اشتد عليه وبلغ منه المشقة.
405
قال أبو جعفر: واختلف أهل البحث في معنى قوله: (١).
"وهو العلي".
فقال بعضهم: يعني بذلك; وهو العلي عن النظير والأشباه، (٢) وأنكروا أن يكون معنى ذلك:"وهو العلي المكان". وقالوا: غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم.
* * *
وكذلك اختلفوا في معنى قوله:"العظيم".
فقال بعضهم: معنى"العظيم" في هذا الموضع: المعظم، صرف"المفعل" إلى"فعيل"، كما قيل للخمر المعتقة،"خمر عتيق"، كما قال الشاعر: (٣).
وكأن الخمر العتيق من الإس فنط ممزوجة بماء زلال (٤)
وإنما هي"معتقة". قالوا: فقوله"العظيم" معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإنما يحتمل قول القائل:"هو عظيم"، أحد معنين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم، والآخر: أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا: وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيم في المساحة والوزن، صحة القول بما قلنا.
* * *
(١) انظر ما سلف في ذكره" أهل البحث" فيما سلف قريبا: ٣٨٧، التعليق: ٢.
(٢) في المخطوطة: "النظر"، بغير ياء. و"النظر" (بكسر فسكون)، مثل"النظير"، مثل: "ند ونديد". وجائز أن يكون"النظر" (بضمتين) جمع"نظير"، وهم يكسر"فعيلا" الصفة، على"فعل"، بضمتين تشبيها له"بفعيل" الاسم، كما قالوا في"جديد، جدد"، و"نذير، نذر". أما النظائر جمع نظير، فهو شاذ عن بابه.
(٣) هو الأعشى.
(٤) ديوانه: ٥، وقد مضى هذا البيت في تعليقنا آنفًا: ٣٩٠، تعليق: ٣. والزلال: الماء الصافى العذب البارد السائغ في الحلق.
406
وقال آخرون: بل تأويل قوله:"العظيم" هو أن له عظمة هي له صفة.
وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات، (١).
وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد. لأن ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه"معظم"، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال.
* * *
وقال آخرون: بل قوله: إنه"العظيم" وصف منه نفسه بالعظم. وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨١٢ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة،
(١) الإثبات: إثبات الصفات لله سبحانه كما وصف نفسه، بلا تأويل، خلافا للمعتزلة وغيرهم وانظر ما سلف ١: ١٨٩، تعليق: ١.
407
عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
٥٨١٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد = قال شعبة. وإنما هو مقلات = فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". قال: من شاء أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب (١).
٥٨١٤ - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود= وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود= عن عامر، قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت:"لا إكراه في الدين"، فكان
(١) الأثران: ٥٨١٢، ٥٨١٣ -في ابن كثير ٢: ١٥، والدر المنثور ١: ٣٢٩ قال ابن كثير: "رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به، ومن وجوه أخرى عن شعبة به نحوه. ورواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به". والسنن الكبرى للبيهقى ٩: ١٨٦، وسنن أبي داود -٣: ٧٨ -٧٩ رقم: ٢٦٨٢. وكان في المطبوعة والمخطوطة في رقم ٥٨١٣، "حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد"، وهو خطأ صوابه"شعبة". وقوله: "قال: من شاء أن يقيم أقام" وهو من كلام سعيد بن جبير، كما في السنن للبيهقى. والحديث مرفوع هناك إلى ابن عباس وهو الصواب ولكني تركت ما في الطبري على حاله.
وامرأة مقلت (بضم الميم) ومقلات (بكسر الميم)، هى المرأة التي لايعيش لها ولد. ويأتى أيضًا "مقلات"، أنها المرأة التي ليس لها إلا ولد واحد. ولكن الأول هو المراد في هذا الأثر.
408
فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام، فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الإسلام= ولفظ الحديث لحميد.
٥٨١٥ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه= إلا أنه قال: فكان فصل ما بينهم، إجلاء رسول الله ﷺ بني النضير، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم.
٥٨١٦ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر بنحوه= إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن اختار الإسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر (١).
٥٨١٧ - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك (٢).
٥٨١٨ - حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: نزلت هذه في الأنصار، قال: قلت خاصة! قال: خاصة! قال: كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود،
(١) الآثار ٥٨١٤ -٥٨١٦- هى ألفاظ مختلفة لحديث واحد، وانظر ١: ٣٢٩، وقال": أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر"، ثم انظر الأثرين رقم: ٥٨٢٣، ٥٨٢٤ فيما يأتي بعد.
(٢) الأثر: ٥٨١٧ -انظر ما قاله الحافظ ابن حجر في تحقيق اسم الصحابي في"حصين الأنصاري" غير منسوب، ثم في باب الكنى"أبو الحصين الأنصاري السالمي"، وفيهما تحقيق جيد.
وانظر تفسير ابن ٢: ١٥، والدر المنثور ١: ٣٢٩. وانظر الأثر التالي رقم: ٥٨١٩.
409
تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم" قال: فأجلوهم معهم (١).
٥٨١٩ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" إلى:"لا انفصام لها" قال: نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (٢) إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال:"لا إكراه في الدين" (٣).
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي ﷺ حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء: ٦٥] ثم إنه نسخ:"لا إكراه في الدين" فأمر بقتال أهل الكتاب في" سورة براءة" (٤).
(١) الأثر: ٥٨١٨ -في السنن الكبرى للبيهقى ٩: ١٨٦ من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانة، وذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٢٩ وزاد نسبته إلى"سعيد بن منصور، وعبدبن حميد، وابن المنذر" وفيها زيادة: "كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت نزورا مقلاتا تنذر لئن ولدت ولدا لتجعلنه في اليهود" وسائر الخبر سواء. وكتب في البيهقي والدر المنثور"مقلاة" بالتاء المربوطة وهو خطأ، و"امرأة نزرة" (بفتح وكسر" وامرأة نزور" قليلة الولد. وفي الدر"نزورة" وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "إلى رسول الله صلى عليه وسلم"، والصواب من المخطوطة والدر المنثور.
(٣) في المطبوعة: إتمام الآية"قد تبين الرشد من الغى"، وليس في المخطوطة ولا الدر المنثور.
(٤) الأثر: ٥٨١٩ -في الدر المنثور ١: ٣٢٩، وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وأشار إليه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٥. هذا ولم يذكر أبو جعفر هذا الأثر في تفسير آية"سورة النساء"، ولم يجعلها قولا غير الأقوال التي ذكرها. وهو دليل على اختصاره هذا التفسير، كما رووا عنه.
410
٥٨٢٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا إكراه في الدين" قال: كانت في اليهود بني النضير، (١) أرضعوا رجالا من الأوس، فلما أمر النبي ﷺ بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.
٥٨٢١ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد = جميعا، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"لا إكراه في الدين"، قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
٥٨٢٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا،= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= قال ابن جريج، وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد: أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس، (٢) دانوا بدين النضير.
٥٨٢٣ - حدثني المثنى، قال: لنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار:
(١) في المطبوعة: "كانت في اليهود يهود أرضعوا... "، وفي المخطوطة كانت اليهود يهودا أرضعوا" وهما خطأ. وفي الدر المنثور ١: ٣٢٩: " كانت النضير أرضعت". واستظهرت أن تكون العبارة أثبتها، سقط من الناسخ"بني النضير" -أو يكون صوابها كما سيأتى في الأثر رقم: ٥٨٢٢: "كانت النضير يهودا... ".
(٢) في المخطوطة: "قد دانوا بدينهم أبناء الأوس"، وأخشى أن يكون ما في المطبوعة أصح.
411
يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام، (١).
أفلا نكرههم على الإسلام؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
٥٨٢٤ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود، عن الشعبي مثله = وزاد: قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام (٢).
٥٨٢٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا إكراه في الدين" إلى قوله:"العروة الوثقى" قال: قال منسوخ.
٥٨٢٦ - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ووائل، عن الحسن: أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنزلت:"لا إكراه في الدين".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص من الكفار، ولم ينس منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٢٧ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
(١) في المطبوعة: "فلما أن جاء الإسلام"، وفي المخطوطة: "فلما إذ جاء"، وصواب ذلك ما أثبت.
(٢) الأثران: ٥٨٢٣، ٥٨٢٤ -انظر الآثار السالفة: ٥٨١٤ -٥٨١٦.
412
قتادة:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لأنهم كانوا أمة أميه ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم (١).
٥٨٢٨ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا.
٥٨٢٩ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: أمر رسول الله ﷺ أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا"لا إله إلا الله"، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
٥٨٣٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس، إذا أعطوا الجزية.
٥٨٣١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني: يا جرير أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم.
٥٨٣٢ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال:
(١) في المخطوطة: " فخلى عنهم"، وهما سواء.
413
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية.
* * *
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٣٣ - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، قال: كان رسول الله ﷺ بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس- وقال: عنى بقوله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا (١).
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد دللنا عليه في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي، وباطنه الخصوص، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل (٢).
وإذ كان ذلك كذلك = وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم ﷺ أنه
(١) في المخطوطة: "منسوخ"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) انظر ما قاله فيما سلف في شرط النسخ ٣: ٣٥٨، ٥٦٣.
414
أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم = (١) كان بينا بذلك أن معنى قوله:"لا إكراه في الدين"، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام.
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم، بالإذن بالمحاربة.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه: من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام؟
قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها، على النحو الذي قلنا في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"لا إكراه في الدين". لا يكره أحد في دين الإسلام عليه، (٢) وإنما أدخلت"الألف واللام" في"الدين"، تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله: (٣) "لا إكراه فيه"، وأنه هو الإسلام.
(١) سياق الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك... كان بينا". وما بين الخطين، عطوف متتابعة فاصلة بينهما.
(٢) "عليه"، أي على الإسلام.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "تصريفا للدّين"، وهو تحريف، والصواب الواضح ما أثبت.
415
وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من"الهاء" المنوية في"الدين"، (١) فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي العظيم، لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"قد تبين الرشد"، فإنه مصدر من قول القائل:"رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا"، وذلك إذا أصاب الحق والصواب (٢).
* * *
وأما"الغي"، فإنه مصدر من قول القائل:"قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية"، وبعض العرب يقول:"غوى فلان يغوى"، والذي عليه قراءة القرأة: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [سورة النجم: ٢] بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه، فضل.
* * *
فتأويل الكلام إذا: قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابين= ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه=، (٣).
[أحدا] على دينكم، دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطاغوت".
فقال بعضهم: هو الشيطان.
(١) قوله: "عقيبا" أي بدلا وخلفا منه. أصله من العقيب: وهو كل شيء أعقب شيئا.
وعقيبك: هو الذي يعاقبك في العمل، يعمل مرة، وتعمل أنت مرة.
(٢) انظر ما سلف في معنى"رشد" ٣: ٤٨٤، ٤٨٥.
(٣) أي، فلا تكرهوا من أهل الكتاب... أحدا على دينكم... والزيادة مما يقتضيه السياق.
416
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٣٤ - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر بن الخطاب: الطاغوت: الشيطان (١).
٥٨٣٥ - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر، مثله.
٥٨٣٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان.
٥٨٣٧ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الطاغوت: الشيطان.
٥٨٣٨ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن يكفر بالطاغوت" قال: الشيطان.
٥٨٣٩ - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: الطاغوت: الشيطان.
٥٨٤٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"فمن كفر بالطاغوت" بالشيطان.
* * *
وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٤١ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود،
(١) الأثر: ٥٨٣٤ -"حسان بن فائد العبسي". روى عنه أبو إسحق السبيعي. قال أبو حاتم"شيخ"، وقال البخاري يعد في الكوفيين. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/ ١/ ٢٨، وابن أبي حاتم ١/٢ /٢٢٣. وكان في المطبوعة: "العنسي"، والصواب من المخطوطة. وهذا الأثر ساقه ابن كثير بتمامه في تفسيره ٢: ١٦ -١٧
417
عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر.
* * *
وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية، وأنا أذكر الخلاف بعد (١).
* * *
٥٨٤٢ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن محمد، قال: الطاغوت: الساحر (٢).
* * *
وقال آخرون: بل"الطاغوت" هو الكاهن.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٤٣ - حدثني ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الطاغوت: الكاهن (٣).
٥٨٤٤ - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفيع، قال: الطاغوت: الكاهن (٤).
٥٨٤٥ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان.
* * *
(١) في لأثر الآتي رقم: ٥٨٤٤.
(٢) الأثر: ٥٨٤٢ -حماد بن مسعدة، سلف ترجمته في رقم: ٣٠٥٦. وكان في المطبوعة"حميد بن مسعدة"، وهو هنا خطأ، صوابه من المخطوطة. أما"حميد بن مسعدة، فهو شيخ الطبري، سلف ترجمته في الأثر رقم: ١٩٦.
(٣) الأثر: ٥٨٤٣ -كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد بن جعفر، قال حدثنا سعيد"، والصواب"شعبة"، وانظر مثل ذلك في هذا الإسناد نفسه مما سلف رقم: ٥٨١٣، والتعليق عليه.
(٤) الأثر ٥٨٤٤ -رفيع، هو أبو العالية الرياحي، وقد مضت ترجمته مرارا فيما سلف.
418
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في"الطاغوت"، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانا كان ذلك المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من شيء.
* * *
وأرى أن أصل"الطاغوت"،"الطغووت" من قول القائل:"طغا فلان يطغوا"، إذا عدا قدره، فتجاوز حده، ك"الجبروت"" من التجبر"، و"الخلبوت" من"الخلب"، (١). ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير"فعلوت" بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه - أعني لام"الطغووت" فجعلت له عينا، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما قيل:"جذب وجبذ"، و"جاذب وجابذ"، و"صاعقة وصاقعه"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال.
* * *
فتأويل الكلام إذا: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله، فيكفر به="ويؤمن بالله"، يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده (٢) ="فقد استمسك بالعروة الوثقى"، يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه، كما:-
٥٨٤٦ - حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته، فوجده في السوق وهو يغرغر، لا يفقهون ما يريد.
(١) في المطبوعة والمخطوطة"الحلبوت من الحلب" بالحاء المملة، والصواب ما أثبت. يقال: "رجل خلبوت وامرأة خلبوت"، وهو المخادع الكذوب، وجاء في الشعر، وما أصدق ما قال هذا العربى، وما أبصره بطباع الناس، وما أصدقه على زماننا هذا:
ملكتم فلما أن ملكتم خلبتم وشرالملوك الغادر الخلبوت.
(٢) اطلب معنى"الإيمان" فيما سلف في فهارس اللغة.
419
فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم يريد أن يقول:"آمنت بالله وكفرت بالطاغوت". قال أبو الدرداء: وما علمكم بذلك؟ قالوا: لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم! إن الله يقول:"فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا الفصام لها والله سميع عليم" (١).
* * *
(١) الأثر: ٥٨٤٦-"أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي"، أبو العباس، روي عن بقية بن الوليد، وعثمان بن سعيد الحمصي، روى عنه النسائي. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ١/١ / ٥٣. و"حميد بن عقبة"، هو: حميد بن عقبة بن رومان بن زرارة القرشي و"يقال، الفلسطيني. سمع ابن عمر، وأبا الدرداء. وروى عنه أبو بكر بن مريم والوليد بن سليمان بن أبي السائب. قال أحمد: "حدثنا أبو الغيرة: سألت أبا بكر فقلت: حميد بن عقبة أراه كبيرا، وأنت تحدث عنه عن أبي الدرداء؟ قال: حدثني أن كل شيء حدثني عن أبي الدرداء، سمعه من أبي الدرداء"، مترجم في الكبير ١/ ٢/ ٣٤٧، وابن أبي حاتم ١/ ٢ /٢٢٦، وتعجيل المنفعة: ١٠٦.
يقال: "فلان في السوق، وفي السياق" أي في النزع عند الموت، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه. و"هو يسوق نفسه ويسوق بنفسه": أي يعالج سكرة الموت ونزعه. ويقال: "غرغر فلان يغرغر" جاد بنفسه عند الموت، و"الغرغرة" تردد الروح في الحلق، وأكثر ذلك أن يكون معها صوت، كغرغرة الماء في الحلق. وقوله: "حتى انكسر لسانه": أي عجز عن النطق. وكل من عجز عن شيء، فقد انكسر عنه. وهو هنا عبارة جيدة تصور ما يكون في لسان الميت. * * *
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوه القول في تأويل قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا"
ثم يبدا الجزء بعده:
"بسم الله الرحمن الرحيم،
رب يسر".
420
القول في تأويل قوله: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾
قال أبو جعفر:"والعروة"، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته.
وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله، ومن أوثق عرى الأشياء بقوله:"الوثقى"
* * *
و"الوثقى"،"فعلى" من"الوثاقة". يقال في الذكر:"هو الأوثق"، وفي الأنثى:"هي الوثقى"، كما يقال:"فلان الأفضل، وفلانة الفضلى".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٤٧ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بالعروة الوثقى"، قال: الإيمان.
٥٨٤٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٨٤٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال:"العروة الوثقى"، هو الإسلام.
٥٨٥٠ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير قوله:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، قال: لا إله إلا الله (١).
(١) الأثر: ٥٨٥٠، ٥٨٥١-"أبو السوداء"، هو: "عمرو بن عمران النهدي"، روي عن المسيب بن عبدخير، وأبي مجلز، وعبد الرحمن بن باسط والضحاك بن مزاحم، وروى عنه حفص ابن عبد الرحمن بن سوقة والسفيانان. ثقه، مترجم في التهذيب.
421
٥٨٥١ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن جبير مثله.
٥٨٥٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، الضحاك:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا انْفِصَامَ لَهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا انفصام لها"، لا انكسار لها."والهاء والألف"، في قوله:"لها" عائد على"العروة".
* * *
ومعنى الكلام: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها (١).
* * *
وأصل"الفصم" الكسر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
ومبسمها عن شتيت النبات... غير أكس ولا منفصم (٢)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "كالتمسك بالوثيق". والصواب الذي يقتضيه السياق ما أثبت.
(٢) ديوانه: ٢ من قصيدة من جيد شعر الأعشى، وقبله أبيات من تمام معناه: أتهجر غانية أم تلم... أم الحبل واه بها منجذم
أم الرشد أحجى فإن امرءا... سينفعه علمه إن علم
كما راشد تجدن امرءا... تبين، ثم انتهى إذ قدم
عصى المشفقين إلى غيه... وكل نصيح له يتهم
وما كان ذلك إلا الصبا... وإلا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة... محل الخليط بصحراء زم
ومبسمها....................................
فبانت وفي الصدر صدع لها... كصدع الزجاجة ما يلتئم
وقوله: "ومبسهما" منصوب عطفا ما قبله، وهو مصدر ميمى، أي ابتسامها. والشتيت: المتفرق المفلج، يعنى: عن ثغرها شتيت النبات، غير متراكب نبتة الأسنان. والأكس، من الكسس (بفتحتين) : وهو أن يكون الحنك الأعلى أقصر من الأسفل، فتكون الثنيتان العلييان وراء السفليين من داخل الفم. وهو عيب في الخلفية. ورواية الديوان: "منقصم" وهي أجود معنى. يقال: ينصدع الشيء دون أن يبين. وأما"القصم" فهو أن ينكسر كسرا فيه بينونة. ولكن الطبري استشهد به على"الفصم" بالفاء. وكلاهما عيب.
وكان البيت مصحفا في المطبوعة: "... عن سنب النبات غير كسر"، والصواب في المخطوطة، ولكنه غير منقوط فأساؤوا قراءته.
422
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٥٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا انفصام لها"، قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
٥٨٥٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٨٥٥ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا انفصام لها"، قال: لا انقطاع لها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله سميع"، إيمان المؤمن بالله وحده، الكافر بالطاغوت، عند إقراره بوحدانية الله، وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد
423
من دون الله="عليم" بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه، (١) وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه، لا ينكتم عنه سر، ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازي كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه، وأضمرته نفسه، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
* * *
(١) السياق: "بما عزم عليه... قلبه"، مرفوعا فاعل"عزم".
424
القول في تأويل قوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الله ولي الذين آمنوا"، نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه= (١) "يخرجهم من الظلمات" يعني بذلك: (٢).
يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب"الظلمات" في هذا الموضع، الكفر. وإنما جعل"الظلمات" للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [عن] أبصار القلوب. (٣).
(١) انظر تفسيره"الولى" فيما سلف ٢: ٤٨٨، ٤٨٩ / ثم: ٥٦٣، ٥٦٤.
(٢) انظر القول في"الظلمات" فيما سلف ١: ٣٣٨.
(٣) الزيادة بين القوسين، لا غنى عنها، وليست في المطبوعة ولا المخطوطة.
424
ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به، فقال:"والذين كفروا"، يعني الجاحدين وحدانيته="أولياؤهم"، يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم="الطاغوت"، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يعني ب"النور" الإيمان، على نحو ما بينا="إلى الظلمات"، ويعني ب"الظلمات" ظلمات الكفر وشكوكه، الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٥٦ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الضلالة إلى الهدى="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، الشيطان: ="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الهدى إلى الضلالة.
٥٨٥٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر. (١).
٥٨٥٨ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله تعالى ذكره:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الكفر إلى الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الإيمان إلى الكفر.
(١) في المخطوطة: "من الظلمات إلى الكفر"، وهو خطأ بين جدا.
425
٥٨٥٩- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد أو مقسم في قول الله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، قال: كان قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا ﷺ آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى= أي: يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم= (١) "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم= قال:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات". (٢).
٥٨٦٠ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، إلى"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما جاءهم محمد ﷺ كفروا به، وأنزلت فيهم هذه الآية. (٣).
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة
(١) في المطبوعة: "أي: يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد... "، وهو لايستقيم، وفي المخطوطة: "فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى إلى الإيمان بمحمد... " سقط من الناسخ لعجلته: "أي يخرج الذين كفروا بعيسى"، وهو ما أثبته استظهارا من سياق الكلام، ومن الأثر بالتالي، على خطئه فيه، ومن الدر المنثور ١: ٢٣٠، وانظر التعليق على الأثر التالي.
(٢) الأثر: ٥٨٥٩، -"عبدة بن أبي لبابة الأسدي" روي عن ابن عمر وزر بن حبيش وأبي وائل ومجاهد وغيرها من ثقات أهل الكوفة. مترجم في التهذيب، وكان في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع"عبد الله بن أبي لبابة""، وهو خطأ، وسيأتي فيهما على الصواب في الأثر التالي.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "فلما جاءهم محمد صلى الله عليه آمنوا به". والصواب ما أثبت، أخطأ في نسخه وعجل. وانظر الدر المنثور ١: ٢٣٠، ففيه الصواب، وهو الذي يدل عليه سياق الطبري فيما سيأتي أيضًا.
426
يدل على أن الآية معناها الخصوص، وأنها -إذ كان الأمر كما وصفنا- نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيمن آمن بمحمد ﷺ من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى، وسائر الملل التي كان أهلها يكذِّب بعيسى.
* * *
فإن قال قائل: أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد ﷺ فكذَّبوا به؟
قيل: من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم ﷺ فكان على حق، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: ١٣٦].
* * *
فإن قال قائل: فهل يحتمل أن يكون قوله:"والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونكم من النور إلى الظلمات"، أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة: (١) أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى، أو غير أهل الردة والإسلام؟ (٢).
قيل: نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان، ويضلونهم فيكفرون، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان، يعني صدهم إياهم عنه، وحرمانهم إياهم خيره، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل، كقول الرجل:" أخرجني والدي من ميراثه"، إذا ملك ذلك في حياته غيره، فحرمه منه حظَّه= (٣) ولم يملك ذلك القائل هذا
(١) في المطبوعة: "مجاهد وغيره". وهي في المخطوطة: "عنده" غير منقوطة وإنما عنى عبدة ابن أبي لبابة، كما في الآثار السالفة، وما بعدها.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "الردة والإسلام" وهو هنا عطف لا يستقيم، فإنه إنما عنى المرتدة عن الإسلام.
(٣) في المطبوعة: "فحرمه منه خطيئة"، وهو كلام خلو من المعنى. وفي المخطوطة: "فحرمه منه حطه" غير منقوطة، وكلها فاسدة. أن المعنى: إذا ملك الميراث غير أبيه، فحرمه حظه من ميراث أبيه. والحظ: النصيب.
427
الميراث قط فيخرج منه، ولكنه لما حرمه، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه، قيل:"أخرجه منه"، وكقول القائل:"أخبرني فلان من كتيبته"، يعني لم يجعلني من أهلها، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى، (١) وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية. (٢).
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور"، فجمع خبر"الطاغوت" بقوله:"يخرجونهم"، و"الطاغوت" واحد؟
قيل: إن"الطاغوت" اسم لجماع وواحد، وقد يجمع"طواغيت". وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد، كان نظير قولهم:"رجل عدل، وقوم عدل" و"رجل فطر وقوم فطر"، (٣) وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها، (٤) وكما قال العباس بن مرداس:
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ (٥)
* * *
(١) في المطبوعة: "يحتمل" بالياء في أوله، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة معا: "مجاهد وغيره"، وهو خطأ، وانظر التعليق السالف: ص: ٤٢٧ تعليق: ١.
(٣) أي رجل مفطر، وقوم مفطرون.
(٤) في المطبوعة: "التي تأتي موحدة في اللفظ... "، وفي المخطوطة: "التي يأتي موحد في اللفظ"والصواب ما أثبت.
(٥) سيرة ابن هشام ٤: ٩٥ واللسان (أخو) ومجاز القرآن ١: ٧٩، من قصيدة له طويلة في يوم حنين، وفي هزيمة هوازن: ويذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت، وبعد البيت:وهو يخاطب هوازن بن منصور بن عكرمة، إخوة سليم بن منصور، وهم قوم العباس بن مرداس السلمي. وهذا البيت يجعلونه شاهدا على جمع"أخ" بالواو والنون كقول عقيل بن علقة المري:
كأن القوم - إذ جاؤوا إلينا من البغضاء بعد السلم - عور
وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا
فقوله: "أخوكم"، أي: إخوتكم. فهذا وجه آخر غير الذي استشهد له بهذا البيت والشاهد على قوله الطبري ما جاء في الأثر: "أنتم الوالد ونحن الولد". والإحن جمع إحنة: وهي الحقد الغالب.
428
القول في تأويل قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هؤلاء الذين كفروا="أصحاب النار"، أهل النار الذين يخلدون فيها- يعني في نار جهنم- دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" ألم تر، يا محمد، بقلبك (٢).
="الذي حاج إبراهيم"، يعني الذي خاصم (٣)
(١) انظر تفسير"أصحاب النار""وخالدون" فيما سلف ٢: ٢٨٦، ٢٨٧/ ٤: ٣١٧.
(٢) انظر تفسير"الرؤية"فيما سلف ٣: ٧٥ -٧٩ /٣: ١٦٠ / وهذا الجزء: ٢٦٦، ٢٩١.
(٣) انظر معنى"حاج" فيما سلف ٣: ١٢١ -٢٠٠.
429
"إبراهيم"، يعني: إبراهيم نبي الله ﷺ =" في ربه أن آتاه الله الملك"، يعني بذلك: حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك.
* * *
وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت"إلى" في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج"، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا:"ما ترى إلى هذا"؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟! (١).
* * *
وقيل: إن" الذي حاج إبراهيم في ربه" جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح = وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٦١ - حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: هو نمرود بن كنعان.
٥٨٦٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٨٦٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
٥٨٦٤ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد، مثله. (٢).
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٧٠.
(٢) الأثر: ٥٨٦٤ -"النضر بن عربي الباهلي" مضت ترجمته في: ١٣٠٧، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن عدي"، وهو خطأ.
430
٥٨٦٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ، (١) وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
٥٨٦٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو اسمه نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه.
٥٨٦٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ، وهو أول جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
٥٨٦٨ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان.
٥٨٦٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نمروذ.
٥٨٧٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، مثله.
٥٨٧١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله.
٥٨٧٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو نمرود= قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول ملك في الأرض.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "كنا نتحدث"، وما أثبت هو الصواب.
431
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم:"ربي الذي يحيي ويميت"، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له= وذلك عند العرب يسمى"إحياء"، كما قال تعالى ذكره: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [سورة المائدة: ٣٢] = وأقتل آخر، فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها- إن كنت صادقا أنك إله- من مغربها! قال الله تعالى ذكره:"فبهت الذي كفر"، يعني انقطع وبطلت حجته.
* * *
يقال منه:"بهت يبهت بهتا". وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى:"بهت". ويقال:"بهت الرجل"= إذا افتريت عليه كذبا="بهتا وبهتانا وبهاتة". (١).
* * *
وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ:" فبهت الذي كفر"، بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر.
* * *
(١) "بهاتة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة، وهو صحيح في القياس.
432
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٧٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت"، وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحي الآخر، فقال: أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك:"فإن الله يأتي بالشمس من المغرب فأت بها من المغرب"،"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين".
٥٨٧٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"أنا أحيي وأميت"، أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله. وقال: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم.
٥٨٧٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمروذ، (١). فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت! حتى مر إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله، (٢).
فمر على كثيب أعفر، (٣) فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به
(١) في التاريخ: "نمرود" بالدال المهملة، وفي المخطوطة كذلك، إلا أنها لا تعجم المعجم.
وكلاهما جائز، بالدال المهملة والذال المعجمة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "على أهله"، والجيد ما في تاريخ الطبري، وهو ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "على كثيب من رمل أعفر" بهذه الزيادة، وليست في المخطوطة ولا في التاريخ والأعفر: الرمل الأحمر، أو تخالطه الحمرة.
433
أهلي، (١) فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد (٢)، فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام، (٣) فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله. (٤) وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) (٥) [النحل: ٢٦].
٥٨٧٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه، فإذا دخلوا عليه، قال: من ربكم؟ فيقولون: أنت!
(١) في التاريخ: "هلاّ" (بفتح الهاء وتشديد اللام) وهما سواء، "ألاّ" أيضًا مشددة اللام.
(٢) في المطبوعة: "فإذا هى بأجود طعام رأته"، والذي أثبت نص المخطوطة والتاريخ، فليت شعرى لم غيره المغيرون في الطبع! !.
(٣) الأثر: ٥٨٧٥ -في المطبوعة: "وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام"، وأثبت ما في المخطوطة. والتاريخ، وعجب لهؤلاء المبدلين، استدلوا الركيك الموضوع، بالجزء المرفوع! ! والأثر في التاريخ الطبري ١: ١٤٨.
(٤) في المطبوعة: "ثم أماته الله"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٥) في المخطوطة: "فأتي الله بنيانه من القواعد"، ثم أراد أن يصححها، فكررها كما هى، ولم يضرب على الأولى.
434
فيقول: أميروهم. (١) فلما دخل إبراهيم، ومعه بعير خرج يمتار به لولده، قال: فعرضهم كلهم، فيقول: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم! (٢) حتى عرض إبراهيم مرتين، فقال: من ربك!؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت! قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت استحييتك. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!! " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا، وجوالقا إبراهيم يصطفقان، (٣) حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله، قال: ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق! (٤) لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء، فذهبت بهما، قرت عينا صبيي، حتى إذا كان الليل أهرقته! قال: فملأهما، ثم خيطهما، ثم جاء بهما. فترامى عليهما الصبيان فرحا، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا، (٥) لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط، (٦) فأخذت منه فعجنته وخبزته، (٧) فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شيء هذا يا سارة؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك.
٥٨٧٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت قال هو -يعني نمروذ: فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين، فاستحي أحدهما، وقتل الآخر، قال: أنا أحيي وأميت،= قال: أي أستحيي من شئت= فقال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين".
٥٨٧٨ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما خرج إبراهيم من النار، أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه، وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! أنا أدخل أربعة نفر بيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك، قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون! فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه = أعني نمروذ = وهو قول الله تعالى ذكره: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام: ٨٣]، فكان يزعم أنه رب= وأمر بإبراهيم فأخرج.
٥٨٧٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت= قال ابن جريج، كان أتى
(١) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب)، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة.
(٢) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب)، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة.
(٣) الجُوالق (يضم الجيم، وكسر اللام أو فتحها)، وجمعه جوالق وجوالقات، وهو وعاء من الأوعية، نسميه ونحرفه اليوم"شوال". واصطفق الشيء: اضطرب، يعنى من فراغهما.
(٤) في المطبوعة: "ليحزنني"، والصواب ما في المخطوطة.
(٥) لغب: قد أعيى أشد الإعياء. من اللغوب. وأكثر ما يقولون: لاغب، أما"لغب"، فهو قليل في كلامهم، وهو هنا اتباع.
(٦) الحواري (بضم الخاء وتشديد الواو، والراء مفتوحة) : وهو لباب الدقيق الأبيض وأخلصه وأجوده. والنقى: وهو البر إذا جرى فيه الدقيق.
(٧) في المطبوعة: "فطحنته وعجنته"، وفي المخطوطة"فعجنته وعجنته". واستظهرت أن تكون كما أثبتها.
435
برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي= قال: استحيي= فلا أقتل.
٥٨٨٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لنا والله أعلم: أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، (١) وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره:"فبهت الذي كفر"، يعني وقعت عليه الحجة= يعني نمروذ.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله:"والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة.
* * *
وقد بينا أن معنى"الظلم" وضع الشيء في غير موضعه، (٢) والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
(١) في المطبوعة:
"الذي تعبده وتدعو إلى عبادته"، وفي المخطوطة"الذي تعبدونه وتدعو " صواب قراءتها ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف ١: ٥٢٣، ٥٢٤ / ٢: ٣٦٩، ٥١٩، ثم أخيرا ما سلف قريبا: ٣٨٤.
437
٥٨٨١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق:"والله لا يهدي القوم الظالمين"، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو كالذي مر على قرية"، نظير الذي عنى بقوله:"ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه"، من تعجيب محمد ﷺ منه.
* * *
وقوله:"أو كالذي مر على قرية" عطف على قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإنما عطف قوله:"أو كالذي" على قوله:"إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ = ثم عطف عليه بقوله:"أو كالذي مر على قرية" لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن"الكاف" في قوله،"أو كالذي مر على قرية"، زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر على قرية.
* * *
وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١).
* * *
(١) انظر ما سلف ١: ٤٣٩ -٤٤١ / ٢: ٣٣١، ٤٠٠.
438
واختلف أهل التأويل في" الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها".
فقال بعضهم: هو عزير.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٨٢ - حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناحية بن كعب."أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها" قال: عزير. (١).
٥٨٨٣ - حدثنا ابن حميد. قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: هو عزير.
٥٨٨٤ - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" قال، ذكر لنا أنه عزير.
٥٨٨٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده [مثله]. (٢).
٥٨٨٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير.
٥٨٨٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج عن ابن حريج، عن عكرمة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" قال: عزير.
(١) الأثر: ٥٨٨٢ -"ناجية بن كعب الأسدي" روي عن علي، وعمار بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود. روى عنه أبو إسحق السبيعي، وأبو حسان الأعرج، ويونس بن أبي إسحق. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/ ٢/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١/٤٨٦.
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
439
٥٨٨٨ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي:"أو كالذي مر على قرية" قال: عزير.
٥٨٨٩ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" إنه هو عزير.
٥٨٩٠ - حدثني يونس، قال: قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير. (١).
* * *
وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، (٢) وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر.
٥٨٩١ - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: اسم الخضر= فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران. (٣).
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٩٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنى يحيي هذه الله
(١) الأثر: ٥٨٩٠ -"يونس"، هو يونس بن عبد الأعلى سلفت ترجمته مرارا. و"سلم الخواص" هو: سلم بن ميمون الخواص الرازى الزاهد، من كبار الصوفية. دفن كتبه، وكان يحدث من حفظه فيغلط. قال ابن حبان: كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به. مترجم في لسان الميزان، وفي الجرح ٢/١/ ٢٦٧. وكان في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(٢) هو في كتاب القوم (إرميا). وكان في المطبوعة مثله، ولكنى أثبت ما في المخطوطة لأنه مضى عليه في جميع ما يأتي، وكذلك كان يرسم في غيره من الكتب. انظر"سفر أرميا" في كتابهم.
(٣) هذا القول رده الطبري ونقضه في تاريخه ١: ١٩٤، وما قبلها.
440
بعد موتها"، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها". (١).
٥٨٩٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو أورميا.
٥٨٩٤ - حدثني محمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله.
٥٨٩٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها"، قال: كان نبيا وكان اسمه أورميا.
٥٨٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله.
٥٨٩٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن [مضر]، قال: يقولون والله أعلم: إنه أورميا. (٢).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه ﷺ ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها-"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك
(١) الأثر: ٥٨٩٢ -هو بعض الأثر السالف رقم: ٥٦٦١.
(٢) الأثر: ٥٨٩٧ -في المطبوعة والمخطوطة بياض مكان ما بين القوسين وقد زدته استظهارا من الأسانيد السالفة. وقد مضت ترجمة"بكر بن مضر المصري" في رقم: ٢٠٣١، وانظر هذا الإسناد فيما سيأتي رقم: ٥٩٢٩ - ٥٩٤٩.
441
عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت= من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب= (١) وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدا ﷺ على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد ﷺ في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد ﷺ وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد ﷺ وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، (٢) فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا ﷺ لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في"القرية" التي مر عليها القائل:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
فقال بعضهم: هي بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٩٨ - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن
(١) السياق: " تعريف المنكرين... من قريش... ". وسياق ما بين الخطين: وإنما المقصود بها تعريف المنكرين... وتثبيت الحجة... ".
(٢) يعنى بالأمي: الذي لا كتاب له، وانظر تفسير"الأمي" فيما سلف ٢: ٢٥٧ -٢٥٩.
442
منبه، قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
٥٨٩٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بيت المقدس.
٥٩٠٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.
٥٩٠١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي.
٥٩٠٢ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، أنه مر على الأرض المقدسة.
٥٩٠٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر. (١).
٥٩٠٤ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
* * *
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "بختنصر"، كلمة واحدة، وكذلك في التاريخ وغيره، ولكن المخطوطة في هذا الموضع وكل ما يليه كتبت كلمتين مفصولتين، فأثبتها كما هى، فهى صواب أيضًا.
443
٥٩٠٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ)، قال: قرية كان نزل بها الطاعون= ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ= (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا)، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، (١) فماتوا ثم أحياهم الله، (إ ن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) [سورة البقرة: ٢٤٣]. قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه" إلى قوله"لم يتسنه". (٢).
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل:"أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها" سواءً لا يختلفان.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وهي خاويه" وهي خالية من أهلها وسكانها.
* * *
يقال من ذلك:"خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا"، وقد يقال للقرية:"خَوِيَت"، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نُفَساء فإنه يقال:"خَوِيَت تَخْوَى خَوًى" منقوصًا، وقد يقال فيها:"خَوَت تخوِي، كما يقال في
(١) في الأثر السالف: ٥٦٠٨ -"ذهبوا إليه" بزيادة"إليه".
(٢) الأثر: ٥٩٠٥ - هو بعض الأثر: ٥٦٠٨.
444
الدار. وكذلك:"خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى شديدًا"، (١) ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابًا، غير أن الفصيح ما ذكرت.
* * *
وأما"العُرُوش"، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها"عَرْش"، وجمع قليله"أعرُش". (٢).
وكل بناء فإنه"عرش". ويقال:"عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا"، (٣) ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [سورة الأعراف: ١٣٧] يعني يبنون، ومنه قيل:"عريش مكه"، يعني به: خيامها وأبنيتها (٤).
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
٥٩٠٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"خاوية"، خراب= قال ابن جريج: بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرَّبه بخت نصَّر، (٥) فوقف
(١) في المطبوعة: "خواء شديدًا"، والصواب من المخطوطة، هذا على أنه يقال في ذلك أيضًا، "خواء" ممدودًا، ولكن القصر أعلى.
(٢) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "أعرش"، والذي نص عليه أصحاب اللغة"أعراش"، وكلاهما جمع قلة، ولم يذكروا"أعرش" فيما رأيت، ولكنها قياس الباب، فإن"فعل" (بفتح فسكون) يغلب على جمعه في جمعه في القلة"أفعل" (بضم العين) مثل فلس وأفلس، إلا أن يكون أجوف، واويًا أو بائيًا، فإن الغالب في قلته"أفعال" مثل ثوب وأثواب، وبيت وأبيات. فعن هذا يتبين أن نص الطبري صحيح جار على قياس اللغة، وأن جمعه على"أعراش" مما شذ عن بابه.
(٣) في المطبوعة: "عرش فلان ويعرش ويعرش وعرش عريشًا"، وهو لا يستقيم، وإنما أراد تصحيح ما كان في المخطوطة فأفسده، وإذ لم يحسن قراءته، وفي المخطوطة: "عرش فلان إذا يعرش ويعرش عرشًا" ولكنه كتب أولا"تعرشا" غير منقوطة ثم عاد فوضع العين"ع" في رأس الكلمة"يعر"فلما رأي المصحح في النص"إذا" حذفها، وتصرف في سائره، ولم يحسن التصرف!.
(٤) في اللسان: "العروش بيوت مكة" وفي حديث ابن عمر: " أنه كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عروش مكة". قال ابن الأثير: "بيوت مكة، لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها" وقالوا: وهي بيوت أهل الحاجة منهم.
(٥) انظر التعليق السالف ص: ٤٤٣ رقم: ١.
445
فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ والمال ما كان!! فحزن. (١).
٥٩٠٧ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"وهي خاوية على عروشها" قال: هي خراب.
٥٩٠٨ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر.
٥٩٠٩ - حدثت موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وهي خاويه على عروشها" يقول: ساقطة على سُقُفِها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا: (٢).
أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس = أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به = خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال: أنَّى يحيي هذه الله بعد خرابها؟ (٣).
فقال بعضهم: (٤). كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه.
(١) في المطبوعة: "من المقدس"، وهو خطأ صرف، والقدس: الطهر والتنزيه والبركة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة:
"ومعنى ذلك فيما ذكرت أن "، وهو لا يستقيم، وصواب السياق ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: ذكر نص الآية"بعد موتها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، ليكون تفسرا لقواه: "بعد موتها"، كما يدل عليه السياق. وانظر تفسير"الموت" بمعنى: خراب الأرض، ودثور عمارتها، فيما سلف ٣: ٢٧٤.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعضهم"، كأنه متصل بما قبله، ولو كان ذلك كذلك لفسد سائر الكلام واضطراب، ولاحتاج الطبري أن يذكر أقوال آخرين فيما يأتي، ولكنه لم يفعل.
فالصواب الذي يقتضيه السياق، فيما سبق بعد تصحيحه، وفيما يستقبل، يوجب ما أثبت.
446
فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمرَ ما كان قبل خرابه. (١).
* * *
وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها، (٢). استنكارًا فيما -قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إدواته وفي طعامه، (٣). ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره (٤)، فلما رأى ذلك قال: (أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير).
* * *
وكان سبب قِيله ذلك، كالذي: -
٥٩١٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى
(١) قوله: "أحيى ما رآه... "و"أعمر ما كان... "، هو"أفعل" التفضيل من"الحياة" و"العمارة"، وليسا فعلين، أي أحسن حياة، وأكثر عمرانا.
(٢) انظر تفسير"أني" فيما سلف ٤: ٤١٣ -٤١٦ /وهذا الجزء ٥: ٣١٢.
(٣) في المطبوعة: "وفيما كان من شرابه وطعامه"، لم يحسن قراءة المخطوطة لتصحيفها. وفي المخطوطة: "وفيما كان من إدا وبه وطعامه"، وصواب هذه الجملة المصحفة ما أثبت. والإداوة (بكسر الهمزة) : هي إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعها"أداوى" بفتح الواو، وزدت"في" بين" وطعامه" لضرورتها في السياق.
(٤) في المطبوعة: "بإظهاره إحياء ما كان عجبًا. لرأي عينه"، وفي المخطوطة: "بإظهاره إحيائه ما كان.." وسائره مثله. والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: بإظهاره على إحيائه ذلك رأي عينه"، بحذف اللام من "لرأي"، ونصب "رأي" يقول: أظهره على إحياء ما أحيي رأي العين.
447
بني إسرائيل: (١)."يا أرميا، من قبل أنْ أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك، (٢). ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك، (٣). ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك، (٤). ولأمر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه; قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب، فأوحى الله إلى أورميا: (٥). أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم = ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل = (٦). قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافثُ أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ ربّه، صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يومٌ ولدت فيه، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة، (٧). ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! (٨). لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول، (٩). ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به، (١٠). فقال الله: وعزتي العزيزة، (١١). لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! (١٢). ثم أتى ملكَ بني إسرائيل، وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
= ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، (١٣). وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحيُ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، (١٤). وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم، (١٥). فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن
(١) انظر ما سلف في ص ٤٤٠، وكتابتها هناك "أورميا"، وهي هنا كما أثبتها. وستأتي بعد أسطر على ما سلف.
(٢) في تاريخ الطبري: "في بطن أمك"، سواء.
(٣) في المطبوعة: "نبأتك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. ولأجود ترك الهمزة فيه، وحمله على لفظ"النبي" ونباه: جعله نبيا أو كتبه عنده نبيا. و"تنبى الكذاب"، إذا ادعى النبوة.
(٤) في التاريخ: "اختبرتك"، وما في التفسير، هو الجيد الصواب. وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده صالحا للتعيين.
(٥) أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق السالف رقم: ١.
(٦) ما بين الخطين من كلام أبي جعفر، فقد قطع سياق الخبر، وانتقل إلي ما أراد، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج ١: ٢٨٧.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "لقيت التوراة"، وزدت"فيه" من التاريخ، وهي أجود. وفي التاريخ: "لقنت" من التلقين، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا. لقي الشيء يلقاه (بتشديد القاف والبناء للمجهول) : علمه، ونبه إليه، ولقنه. فهما سواء في المعنى. وبذلك جاء في كتاب الله:
(وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).
(٨) في المخطوطة: "إلا لما هو أشر على"، ولا بأس بها.
(٩) "الخضر" هو"أرميا" نفسه، فيما زعم وهب بن منبه راوي هذا الأثر، كما سلف ذلك عنه في رقم: ٥٨٩١.
(١٠) في المخطوطة والمطبوعة: "أهلكنى في بني إسرائيل" سقط منها"قبل أن أروي"، وأثبت صوابها من التاريخ.
(١١) في التاريخ: "وعزتي وجلالي" والذي في المخطوطة والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت.
(١٢) " لا آمر ربي" يعنى: لا أسأله ذلك ولا أدعوه. وهو مجاز من الأمر" جيد عربي فصيح، وقلما تصيبه في كتب اللغة، وقلما تصيب الشاهد عليه. وذلك أنه إذا دعا قال: "رب أهلكهم"، فذلك دعاء، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر، وليس بأمر لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا المجاز في النفى، أجود منه في الإثبات. وانظر ما سيأتي في الخبر ص: ٤٥٠، وتعليق: ك ٤.
(١٣) في التاريخ: "وتماديا في الشر" وهو أجود.
(١٤) في المطبوعة: "حتى لم يكونوا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو العربي الصحيح.
(١٥) في التاريخ: "وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم".
448
تاب إليه! (١). فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه، (٢). وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان [بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر = ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، الذي حاجّه في ربّه] = (٣). أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس; فلما فصَل سائرًا، أتى ملكَ بني إسرائيل الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك إلى أرميا، فجاءه فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أنّ ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمرُ في ذلك؟ (٤).
(٥). فقال أرميا للملك: إنّ ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
= فلما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله مَلَكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى أرميا فاستفته = وأمره بالذي يستفتيه فيه.
فأقبل الملك إلى أرميا، وقد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل، (٦). فقال له أرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال المَلَك: يا نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حَسَنًا، ولم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله؟ فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله،
(١) في المطبوعة: "رحيم من تاب عليه"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٢) "نزع عن الشيء ينزع نزوعا": كف وانتهى.
(٣) في المطبوعة"بختنصر بن نعون بن زادان، والصواب من المخطوطة والتاريخ. وهذا الزيادة بين القوسين، لم تكن في المخطوطة، ولكنى زدتها من التاريخ، لحاجة الكلام إليها بعد في ذكر سنحاريب، وأنه جد بخت نصر. وقوله: "بن نبوذراذان" هو في كتاب القوم (بن نبو بولا سار)، وأما"نبوذراذان"، فهو مذكور عندهم أنه رئيس حامية"بنو خذ ناصر"، وهو"بخت نصر". وهذا النسب قد ساقه الطبري قبل هذا الموضع في تاريخه ١: ٢٨٣ مع بعض الاختلاف.
(٤) الأمر: الدعاء والسؤال. وانظر التعليق السالف ص: ٤٤٩، تعليق: ٤.
(٥) في المطبوعة"وقد تمثل" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو جيد جدا.
(٦) في المطبوعة: "رجل... " بحذف"أنا" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
450
وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير. فانصرف عنه الملَك; فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! (١). فقال له نبي الله، أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد، (٢). ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضلَ من ذلك! فقال النبي: ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، (٣). وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك من عنده، فلبث أيامًا، وقد نزل بخت نصّر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد، (٤). ففزع بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا أرميا، فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق.
= ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين، (٥). فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي، (٦). فلما
(١) في التاريخ وحده: "أتيتك أستفتيك في شأن أهلي".
(٢) يقال: "رجل طاهر الأخلاق"، أي يتنزه عن دنس الأخلاق، ويكف عن الإثم.
(٣) في التاريخ: "واسأل الله"، بالواو في أوله، وكأنه أمر للرجل. وأن يكون دعاء من النبي له، أقرب وأحسن.
(٤) في المطبوعة: "بجنوده"، وفي المخطوطة"جنوده" بغير واو، وأثبت ما في التاريخ، وفيه أيضًا: "بأكثر من الجراد".
(٥) في التاريخ: "أتيتك في شأن أهلي... ".
(٦) في المطبوعة: "أنما قصدهم في ذلك سخطي"، وفي التاريخ: "أن مآ لهم في ذلك سخطي" وفي المخطوطة: "أنما نهم في ذلك سخطي"، والأول تبديل للنص، والآخران تصحيف، صوابه ما أثبت.
يقال: "ما بك إلا مساءتى"، أي ما تريد إلا مساءتى. فكذلك قوله: "أن ما بهم في ذلك سخطي"، أن الذي يريدون في فعلهم ذلك، سخطي واستثارة غضبى.
451
أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله، ولا يحبه الله، فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي، (١). وصبرتُ لهم ورَجوتهم، ولكن غضبتُ اليوم لله ولك، (٢). فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله -الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. (٣). فقال أرميا: يا مالك السماوات والأرض، (٤). إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها; فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه، ونَبَذ الرَّماد على رأسه، فقال يا ملك السماء، ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا، فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات، وأنه رسول ربه، فطار إرميا حتى خالط الوحوش. = ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرَّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي; (٥). فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعةُ غلمة، وكان من أولئك الغلمان:"دانيال"، و"عزاريا"، و"ميشايل"، و"حنانيا". (٦). وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثًا أقر بالشام، وثلثًا سَبَى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. (٧). وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، (٨). فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم. (٩).
= فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في زُكْرَة وسَلَّة تين، (١٠). حتى أتى إيليا، فلما وقف عليها، ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه وسلة تينه عنده حيث أماته
(١) في المطبوعة وحدها: "ولو كانوا... " بالواو لا بالفاء.
(٢) في المطبوعة وحدها: "ولكن غضبت... ".
(٣) في المطبوعة وحدها: "الذي بعثك" بحذف"هو".
(٤) في المطبوعة وحدها: "يا مالك السموات... ".
(٥) في المطبوعة: "تسعين ألف صبى"، وفي المخطوطة: "سبعين صبى" بإسقاط"ألف"، أما في التاريخ: "فاختار منهم مئة ألف صبى"، ولكنه عاد بعد ذلك فروي سيأتي: "وذهب بالصبيان السبعين الألف"، فأخشى أن يكون ما في التاريخ خطأ، صوابه"فاختار منهم سبعين ألف صبى من مئة ألف صبى".
(٦) "عزريا"، "ميشائيل"، "حننيا" هكذا رسم أسمائهم في"سفر دانيال" الإصحاح الأول. وكان في المطبوعة: "مسايل" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفي التاريخ بعد هذا الموضع تعداد هؤلاء الغلمان من أسباط بني إسرائيل.
(٧) في المطبوعة وحدها: "بأسبية بيت المقدس"، وهو خطأ لا معنى له هنا.
(٨) في المطبوعة والمخطوطة: "التسعين الألف". وهو يخالف ما مضى من الخبر في المخطوطة كما أسلفنا في التعليق: ١، وأثبت ما في التاريخ.
(٩) في المطبوعة وحدها: "الواقعة الأولى التي ذكر الله... "، ثم يلي ذلك في المخطوطة والمطبوعة"... تعالى ذكره نبي الله بإحداثهم... "، والصواب من التاريخ.
(١٠) الزكرة (بضم فسكون) : زق صغير من أدم يجعل فيه الشراب. وفي التاريخ"ركوة"، والصواب ما في التفسير، فإن"الركوة" (بكسر فسكون) : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، هو كالكوب لا كالزق.
452
الله، وأمات حماره معه. (١). فأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى، فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قال: بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه"، يقول: لم يتغير ="وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا" فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى بعض - (٢). وقد كان مات معه - (٣). بالعروق والعصب، ثم كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى، (٤). ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك، فهو الذي يُرَى بفلوات الأرض والبلدان.
٥٩١١ - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر: أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ، فركب حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتين، وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ومات حماره معه"، وأثبت ما في التاريخ.
(٢) في المطبوعة وحدها: " يتصل بعضه إلى بعض"وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ وما سيأتي رقم: ٥٩٣٣، وفي التاريخ"يتصل" كالمطبوعة. وأما قوله: "ياتصل" وأصلها"يفتعل" من"وصل" فأصل الفعل"ارتصل، يوتصل، فهو موتصل"، فلغة أهل الحجاز وقريش خاصة: أن لا تدغم هذه الواو وأشباهها، وغيرها يدغم فيقول"ايتصل، ياتصل، فهو موتصل" ومن"وفق" يقول: "ايتفق ياتفق، فهو موتفق" وما أشبهه ذلك، وقد جرى الشافعي في الرسالة على استعمال ذلك. انظر الفقرات رقم ٩٥، ٥٦٩، ٥٧٤، ٦٦٢، ١٢٧٥، ١٣٣٣، وتعليق أخى السيد أحمد على الفقرة رقم ٩٥. وفي الحديث: "كان اسم نبله عليه السلام: الموتصلة"، سميت بذلك تفاؤلا بوصولها إلى العدو.
وانظر التعليق على الأثر رقم: ٥٩٣٣ فيما سيأتي.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وقد مات معه" بحذف"كان" وأثبت ما في التاريخ، وما سيأتي رقم: ٥٩٣٣.
(٤) في المطبوعة: "ثم كيف كسى... "، وسيأتي في رقم: ٥٩٣٣، كما أثبته، وهو الصواب.
454
حوله من القُرى والمساجد، ونظر إلى خراب لا يوصف، (١). ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: (٢). أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وسار حتى تبوَّأ منها منزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه، وألقى الله عليه السُّبات; فلما نام نزع الله روحه مائة عام; فلما مرّت من المائة سبعون عامًا، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له: يوسك"، (٣). فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا وأرضها، حتى تعود أعمَر ما كانت، فقال الملك: أنظرني ثلاثه أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل، فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان، ودفع إلى كل قَهْرَمَان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، (٤). فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل; (٥). فلما وقعوا في العمل، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا، وآخِرُ جسده ميت، (٦). فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد، (٧). حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه، رد إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، (٨). وقد أتى على ذلك ريحُ مائة عام، وبرد مائة عام، وحرُّ مائة عام، لم تتغير ولم تنتقض شيئًا، (٩). وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحمًا جديدًا، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير). (١٠).
٥٩١٢- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) : أن أرميا لما خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام) ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة; فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، (١١). ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) فقال الله تعالى ذكره: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) قال: فكان طعامه تينًا
(١) في المطبوعة والمخطوطة"ونظر إلى خراب" والصواب حذف هذه الواو، وانظر التعليق التالي.
(٢) في المطبوعة: "ورأى هدم... "، وفي المخطوطة: "وسياق المعنى يقتضى إثبات ما في المخطوطة، وحذف الواو من"ونظر" كما سلف في التعليق قبله.
(٣) لم أعرف صحة هذا الاسم ولم أجده في كتاب آخر.
(٤) القهرمان: من أمناء الملك وخاصته، كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل.
(٥) في المطبوعة: "قهرمته"، والقهارمة جمع قهرمان.
(٦) في المطبوعة: "وآخر جسده ميتا"، والصواب ما في المخطوطة في هذا الموضع، وفيما سيأتي في المخطوطة والمطبوعة رقم: ٥٩٣٨ وقوله: "آخر" هنا بمعنى: الباقى بعد رده الروح رأسه. وهو مجاز عربي لا يعاب. وانظر التعليق على رقم: ٥٩٣٨ فيما سيأتي بعد.
(٧) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "والحروث"، وأخشى أن يكون الصواب: "والحراث" جمع حارث، وهو الذي يحرث الأرض.
(٨) الرمة (بضم الراء، أو كسرها، وتشديد الميم) : قطعة من حبل يقيد به الأسير، أو يوضع في عنق البعير، وأصحاب اللغة يقولون: هي القطعة البالية. ولكنه هنا استعملها بغير هذه الصفة، بل وصفها بأنها رمة جديدة، وهو جيد لا بأس به.
(٩) في المخطوطة والمطبوعة: "لم تنتقص" بالصاد المهملة، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
انتض الحبل وغيره، فسد ما أبرمت منه وضعت قواه وبليت. وقوله: "شيئا"، أي قليلا ولا كثيرا، وهو تعبير جيد في العربية.
(١٠) الأثر: ٥٩١١ -"محمد بن عسكر"، هو: محمد بن سهل بن عسكر البخاري، مضت ترجمته في رقم: ٥٥٩٨. و"ابن زنجويه" رجلان: محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، روى عنه الأربعة وعبد الله بن أحمد وآخرون. مات سنه ٢٥٨. وهو ثقة كثير الخطأ،
والآخر: حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدى، روى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم وغيرهم. كان حسن الفقه، وكتب ورحل، وكان رأسا في العلم، قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "ما قدم علينا من فتيان خراسان مثل ابن زنجويه وابن شبويه". اختلف في وفاته بين سنة ٢٤٧، إلى سنة ٢٥١.
وأطن هذا هو شيخ الطبري، ولعل فيما يأتي ما يرجح تعيينه إن شاء الله.
(١١) التأم الشيء يلتئم، والتام يلتام (بتسهيل الهمزة) : إذا انضم بعضه إلى بعض واجتمع.
455
في مِكتل، وقلّة فيها ماء. (١).
٥٩١٣ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) وذلك أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها، وقف عليها وقلَّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ =ليس تكذيبًا منه وشكًّا= فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير = (لم يتسنَّه)، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ثم بعثه)، ثم أثاره حيًّا من بعد مماته.
* * *
وقد دللنا على معنى"البعث"، فيما مضى قبل. (٢).
* * *
وأما معنى قوله (كم لبثت) فإن"كم" استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، (٣). وهو في هذا الموضع نصب ب"لبثت"، وتأويله: قال الله له:
(١) الأثر: ٥٩١٢ -قد مضى مبتورا في رقم ٥٦٦١، وانظر التعليق عليه هناك. و"المكتل" (بكسر الميم) : الزبيل الذي يجعل فيه التمر أو العنب أو غيرهما.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٨٤، ٨٥.
(٣) انظر ما سلف في معنى"كم" في هذا الجزء ٥: ٣٥٢.
457
كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.
* * *
وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزيرٌ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر.
* * *
وإنما قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) لأن الله تعالى ذكره كان قبض رُوحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد المائة عام فقيل له: (كم لبثت) ؟ قال: لبثت يومًا; وهو يرى أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار، وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: (لبثت يومًا)، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: (أو بعض يوم)، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧]، بمعنى: بل يزيدون. (١). فكان قوله: (أو بعض يوم) رجوعًا منه عن قوله: (لبثت يومًا).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩١٤ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم)، قال: ذكر لنا أنه مات ضُحًى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: (لبثت يومًا). ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: (أو بعض يوم). فقال: (بل لبثت مائة عام).
٥٩١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
(١) انظر ما سلف في"أو" بمعنى"بل" ٢: ٢٣٥ -٢٣٧.
458
عن قتادة: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) قال: مر على قرية فتعجّب، فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) فأماته الله أوّل النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه في آخر النهار، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم)، قال: (بل لبثت مائة عام).
٥٩١٦ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: قال الربيع: أماته الله مائة عام، ثم بعثه، قال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم). قال: (بل لبثت مائة عام).
٥٩١٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت نصر، قال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ! كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضُحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (يومًا). فلما رأى الشمس، قال: (أو بعض يوم).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فانطر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه.
* * *
وكان طعامه -فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة ماء.
وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زِقًّا من عصير. (١).
وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دَنَّ خمر -أو زُكْرَةَ خمر. (٢).
(١) في المخطوطة والمطبوعة: " زق" بالرفع، والنصب أجود.
(٢) الزكرة (بضم فسكون) : سقاء صغير من أدم يجعل فيه شراب أو خل.
459
وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، (١). ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.
* * *
وأما قوله: (لم يتسنَّه) ففيه وجهان من القراءة:
أحدهما:"لَمْ يَتَسَنَّ" بحذف"الهاء" في الوصل، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في"يتسنَّه" زائدة صلة، (٢). كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: ٩٠] وجعل"تفعّلت" منه: (٣)."تسنَّيتُ تسنِّيًا"، واعتل في ذلك بأن"السنة" تجمع سنوات، فيكون"تفعلت" على صحة. (٤).
ومن قال في"السنة""سنينة" فجائز على ذلك = وإن كان قليلا = أن يكون"تسنَّيت" (٥)."تفعَّلت"، بدّلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا:"تظنَّيت" وأصله"الظن"; وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: ٢٦، ٢٨، ٣٣] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك، فهو أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. (٦).
وهو قراءة عامة قراء الكوفة.
* * *
(١) يعنى الآثار التي سلفت في خبر"الذي مر على القرية".
(٢) "صلة" أي زيإدة وحشوا بمعنى الإلغاء، انظر ما سلف ١: ١٩٠، ٤٠٥، تعليق: ٤/ ٤٠٦ تعليق: ٢ثم: ٥٤٨.
(٣) في المطبوعة: "فعلت" وهو خطأ، وأما المخطوطة، فقد كتب الناسخ هذه الكلمة مضطربة فلم يحسن ناشر المطبوعة أن يقرأها على وجهها، وسيأتي بعد قليل جدا ذكر"تفعلت"، هذه، مما يدل على صواب قراءتنا.
(٤) في المطبوعة: "على نهجه" والصواب في المخطوطة: "على صحه"، ولكنها لما كانت غير منقوطة تصرف الطابع فيها ما شاء! ! وفي معاني القرآن للفراء واللسان"على صحة" فلذلك أثبتها منهما.
(٥) في المطبوعة: "تسننت" بالنونات، والصواب ما أثبت من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.
(٦) هذا برمته من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٢، ١٧٣ واللسان (سنة) مع قليل من الخلاف في بعض اللفظ٠٠
460
والآخر منهما: إثبات"الهاء" في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل"الهاء" في"يتسنَّه" لامَ الفعل، ويجعلها مجزومة ب"لم"، ويجعل"فعلت" منه:"تسنَّهت"، و"يفعل":"أتسنَّه تسنُّها"، (١) وقال في تصغير"السنة":"سُنيهة" و"سنيَّة"،"أسنيتُ عند القوم" و"أسنهتُ عندهم"، إذا أقمت سنة. (٢).
وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ"الهاء" في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
* * *
ومعنى قوله: (لم يتسنَّه)، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر، على لغة من قال:"أسنهت عندكم أسْنِه": إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر: (٣).
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ وَلكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ (٤)
(١) أراد هنا بقوله"فعل"و"يفعل" الماضي والمضارع، وهو غير قوله"تفعلت" السالفة التي صححناها كما جاء في ص: ٤٦٠، التعليق رقم: ٣.
(٢) في المطبوعة حذف وزيادة وتغيير، كان فيها: "وقال في تصغير السنة سنيهه، ومنه: أسهنت عند القوم وتسهنت عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب، وإن كانت الشبهة قد دخلت عليه من ذكر"سنية" و"أسنيت"، ولكن جائز أن يكون قائل هذا القول ممن يرى جواز كليهما، فلذلك أثبته كما كان في المخطوطة، ولا يبدل إلا بحجة، وسيأتي كلام الطبري بعد قليل: "أن ذلك وجه صحيح في كلتا الحالتين".
(٣) سويد بن الصامت الأنصاري، ويقال: أحيحة بن الجلاح.
(٤) معاني القرآن للفراء ١: ١٧٣. والأمالى ١: ٢١، وسمط اللآلى: ٣٦١، وتهذيب الألفاظ: ٥٢٠، واللسان (عرا) (قرح) (سنه) (خور) (رجب)، والإصابة في ترجمته، من أبيات يقولها في دين كان قد أدانه فطولب به، فاستغلت في قضائه بقومه فقصر واعنه. وترتيبها فيها أستظهر:
وَأَصْبَحْتُ قد أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي جَنَيْتُ لَهُمْ بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ
أَدِينُ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ وِلكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلاَدِ القَرَاوِحِ
عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ، كَأَنَّ جُذُوعَها طُلِينَ بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ
أَدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا لِمَوْلًى قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ
دان يدين: استقرض مالا. والشم: الطوال. والجلاد: الشديدة الصبر على العطش والحر والبرد، يعنى النخل. والقراوح جمع قراوح: وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت، وذلك أجود لها. والخوار: الغزيرة الحمل. وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة، لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم. والمائح: الذي يمتاح من البئر، أي يستقي. والسنهاء: التي حملت عاما، ولم تحمل آخر، وهذا من عيب النخل. وقوله: "رجبية" (بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة، أو فتحها بغير تشديد) وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون) : وذلك أن تعمد النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها، فيبني تحتها دكان ترجب به -أي تعمد به. وذلك حين تبلغ إلى الضعف، ولكنه يكرمها بذلك. والعرايا جمع عربة: وهي التي يوهب ثمرها في عامها. يفعل بها ذلك لكرمه. والجوائح: السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال.
يقول لقومه: قد جئت أستدينكم، على أن أؤدي من نخلي ومالي، ففيم الجزع؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم.
461
فجعل"الهاء" في"السنة" أصلا وهي اللغة الفصحى.
* * *
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله = في حال وقف أو وصل = لإثباته وجه معروف في كلامها.
فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ، وذلك كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: ٩٠] وقوله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) [الحاقة: ٢٥] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ زائد، فغير جائز = وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ = صرفُه إلى أنه من الزوائد والصلات. (١).
(١) انظر معنى"الصلة" فيما سلف قريبا ص: ٤٦٠ تعليق: ٢.
462
على أن ذلك، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد، (١). فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع، فيكون وَصْلها إياه وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات"الهاء" في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك، وإن كان كذلك، فلقوله: (لم يتسنّه) حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. (٢).
* * *
ومما يدل على صحة ما قلنا، من أن"الهاء" في"يتسنه" من لغة من قال:"قد أسنهت"، و"المسانهة"، ما:-
٥٩١٨ - حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا ابن مهدي، عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير، قال: حدثني هانئ مولى عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله:"لم يتسنّ"، أو"لم يتسنَّه"، فقال عثمان: اجعلوا فيها"هاء".
٥٩١٩ - حدثت عن القاسم = وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار = جميعًا، عن القاسم، قال: حدثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك، قال: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها:"لَمْ يَتَسَنَّ" و"فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين" [الطارق: ١٧] و"لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ" [الروم: ٣٠].
(١) في المطبوعة: "وإن كان زائدا"، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه" بالتذكير، وهو صواب جدا، ولكن لا أدرى لم غير نص المخطوطة.
463
قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ومحا"فأمْهِلْ" وكتب (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) وكتب: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ألحق فيها الهاء. (١).
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان ذلك من"يتسنى" أو"يتسنن" لما ألحق فيه أبيّ"هاء" لا موضع لها فيه، (٢) ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها.
وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لم يتسنَّه).
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٢٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن المفضل، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: (لم يتسنَّه) لم يتغير.
٥٩٢١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لم يتسنَّه) لم يتغير.
٥٩٢٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
٥٩٢٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط،
(١) الأثر: ٥٩١٨ -"هانئ" هو هانئ البربري، مولي عثمان بن عفان مترجم في الكبير ٤/ ٢/ ٢٢٩، وابن أبي حاتم ٤/ ٢/ ١٠٠، وسليمان بن"، روي عن هانئ مولي عثمان روى عنه عبد الله بن المبارك. مترجم في الكبير ٢/ ٢/ ٣٠، وابن أبي حاتم ٢/ ١/ ١٣٣. أما"أبو الجراح" فلم أعرفه، وانظر الأثر التالي، فإني أخشى أن يكون إسنادهما قد اختلط، فإن ابن المبارك هو الذي يروي عن"سليمان بن عمير". وانظر الدر المنثور ١: ٣٢٣.
(٢) في المخطوطة: "لما ألحق فيه أبي هو لا موضع فيه" هذا فاسد، والذي في المطبوعة مستقيم.
464
عن السدي: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول:"فانظر إلى طعامك" من التين والعنب ="وشرابك" من العصير ="لم يتسنه"، يقول: لم يتغير فيحمُض التين والعنب، ولم يختمر العصير، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين، فأماته الله، وأمات حماره، ومر عليهما مائة سنة. (١).
٥٩٢٤ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول: لم يتغير، وقد أتى عليه مائة عام.
٥٩٢٥ - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
٥٩٢٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لم يتسنه) لم يتغير.
٥٩٢٧ - حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة: (لم يتسنه) لم يتغير.
٥٩٢٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (لم يتسنه) لم يتغير في مائة سنة.
٥٩٢٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خرّبها بخت نصر، فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إليها فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فإذا حمارُه حي قائم على رباطه، وإذا طعامه سَلُّ عنب
(١) الأثر: ٥٩٢٣ -هو تمام الأثر السالف رقم: ٥٩١٣.
465
وسَلُّ تين، لم يتغير عن حاله = (١).
قال يونس: قال لنا سلم الخواص: (٢). كان طعامه وشرابه سل عنب، وسل تين، وزِقَّ عصير.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (لم يتسنه) لم ينتن.
٥٩٣١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٩٣٢ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قال مجاهد قوله: (إلى طعامك) قال: سَلُّ تين = (وشرابك)، دنُّ خمر = (لم يتسنه)، يقول: لم ينتن.
* * *
قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما، (٣). رأوا أن قوله: (لم يتسنه) من قول الله تعالى ذكره: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: ٢٦، ٢٨، ٣٣] بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل:"تسنَّن". وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. (٤).
فإن ظن ظانّ أنه من"الأسَن" من قول القائل:"أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا،
(١) الرباط: ما ربط به، وأراد هنا الموضع الذي ربط فيه، وهو المربط. و"السل والسلة"، سواء: وهو الجؤنة التي يحمل فيها الخبز وغيره. ويقال"سل" جمع"سلة"، وهو من الجموع العزيزة، لأنه مصنوع غير مخلوق، لا يكون الفارق بينه وبين واحده التاء، مثل عنب وعنبه، وبر وبرة.
(٢) في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهو سلم بن ميمون الخواص، مضت ترجمته في رقم: ٥٨٩٠.
(٣) لم يذكر الطبري خبرا عن"الربيع" قبل، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ خبره، وقد مضى قول الربيع في تفسير بعض هذه الآية فيما سلف بإسناده رقم: ٥٩١٦.
(٤) انظر ما سلف، ص: ٤٦٠.
466
كما قال الله تعالى ذكره: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد: ١٥]، فإنّ ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن، ولم يكن"يتسنه".
* * *
[فإن قيل] :(١). فإنه منه، غير أنه ترك همزه.
قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديدُ نونه، لأن"النون" غير مشددة، وهي في"يتسنَّه" مشددة، ولو نطق من"يتأسن" بترك الهمزة لقيل:"يَتَسَّنْ" بتخفيف نونه بغير"هاء" تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من "الأسَن".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وانظر إلى حمارك).
فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارَك، وإلى عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا.
ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ.
فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا، ثم أراد أن يحيي حماره = تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = مستنكرًا إحياء الله إياها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم،
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
467
عن وهب بن منبه، قال: بعثه الله فقال: (كم لبثت قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم) إلى قوله: (ثم نكسوها لحمًا) قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض = (١). وقد كان مات معه = بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير). (٢).
٥٩٣٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن الله أحيا عُزيرًا، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا.
فبعث الله ريحًا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، فركّب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق الحمار، فقال: (أعلم أنه الله على كل شيء قديرٌ).
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا، ولنجعلك آية للناس = فيكون في قوله: (وانظر إلى حمارك)، متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: (وانظر إلى العظام) بدلا من"الهاء" المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه - يعني: إلى عظام الحمار.
* * *
(١) في المطبوعة: "يتصل بعض إلى بعض"، وقد مضى في رقم ٥٩١٠، أن المخطوطة هناك"ياتصل"، وعلقت عليها في ص: ٤٥٤، تعليق: ٢ وقد جاءت هنا في المخطوطة"ياتصل" أيضًا، فهذا حجة قاطعة على صواب نص المخطوطة في هذين الموضعين المتابعدين. فراجع ما كتب هناك.
(٢) الأثر: ٥٩٣٣ -هو آخر الأثر السالف رقم: ٥٩١٠.
468
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. (١). قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا، وقبل أن يحيى حماره.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان هذا رجلا من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله، (٢). وإلى حماره حين يحييه الله.
٥٩٣٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٩٣٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وَصَل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره، فإذا حماره قد بَلي وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه، فنودي:"يا عظام اجتمعي، فإن الله منزلٌ عليك روحًا"، فسعى كل عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر، وكان حماره جَذَعًا، فأحياه الله كبيرًا قد تشنَّن، (٣). فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سَلَّ عنب، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
* * *
(١) في المطبوعة: "في عينه" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "فنظر"، وفي المخطوطة: "فنظر" غير منقوطة والصواب كما قرأتها لك.
(٣) الجذع (بفتحتين) : الصغير السن من الحيران وغيره. وتشنن الجلد والسقاء: إذا يبس وتشنج من القدم أو من الهرم.
469
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسدُه ميتٌ، (١). فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٨ - حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده ميت، (٢). فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه، لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً. (٣).
٥٩٤٠ - حدثت عن الحسين، قال: (٤). سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه)، فنظر إلى حماره قائمًا قد مكث مائة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام، (وانظر إلى العظام كيف نُنشرها ثم نكسوها لحمًا) فكان أول شيء أحيا الله منه رأسَه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يُخلق.
٥٩٤١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) فنظر إلى حماره قائمًا، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير، فكان أول شيء خلق منه رأسه، فجعل ينظر
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "وجسده ميتا"، وهو خطأ، ويدل على صواب ما أثبت، الآثار التالية.
(٢) يعنى بقوله: "وآخر جسده ميت"، أي سائره وباقيه، وقد جاءت هذه الكلمة هنا على الصواب في المطبوعة والمخطوطة، وقد مضت في المطبوعة في الأثر رقم: ٥٩١١، محرفة، فهذا دليل آخر على صواب قراءتنا للنص.
(٣) الأثر: ٥٩٣٨ -انظر الأثر السالف رقم: ٥٩١١، والتعليق عليه.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن"، وهو خطأ، بل هو"الحسين بن الفرج"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ٥٩٢٤.
470
إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبيَّن له، قال: (أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير).
٥٩٤٢ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسَه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض، وبِعَيْن نبيّ الله عليه السلام كان ذلك، فقال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير).
٥٩٤٣ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) وكان حماره عنده كما هو = (ولنجعلك آيه للناس)، وانظر إلى العظام كيف ننشزها). قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل انظر! فجعل ينظر إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: (١). (أعلم أن الله على كل شيء قدير).
٤٦٤٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) واقفًا عليك منذ مائة سنة = (ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام) يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا:"كيف نحيي هذه"؟ (٢). قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح، وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه، حتى اتصلت وهو يراها، حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه، فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته،
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "فقيل: أعلم... "، وهو سبق قلم من الناسخ.
(٢) في المطبوعة: "كيف نحيى هذه الأرض بعد موتها"، وليس ذلك في المخطوطة، بل الذي أثبت، وهما سواء.
471
وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق، وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم قال: (انظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا) فلما تبين له ذلك، (قال أعلم أن الله على شيء قدير). قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال: (أنَّى يُحيي هذه الله بعد موتها) كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياهُ.
٥٩٤٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام، ثم بعثه، (١) فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال: وردَّ الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: (أوْ كالذي مرّ على قرية وهي خاوية... )، الآية. (٢).
* * *
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لحمًا، فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها.
* * *
(١) في المطبوعة: "أرميا"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك مرارا، حتى في الأثر الواحد، انظر ما سلف -ص: ٤٤٨ تعليق: ١.
(٢) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوهُ: ومعنى الآية على تأويل هؤلاء:
وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس. * * *
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله وصحبه وسلم كثيرًا"
ثم يبدأ بعده بما نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم".
472
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها) من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأنّ قوله: (وانظر إلى العظام) إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها، ثم نكسوها لحمًا.
وقد كان حماره أدركه من البلى = في قول أهل التأويل جميعًا = نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: (وانظر إلى العظام) إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذْ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (ولنجعلك آيه للناس) أمتناك مائة عام ثم بعثناك.
وإنما أدخلت"الواو" مع اللام التي في قوله: (ولنجعلك آيه للناس) وهو
473
بمعنى"كي"، لأن في دخولها في كي وأخواتها دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. (١). ولو لم تكن قبل"اللام" أعني"لام" كي"واو"، كانت"اللام" شرطًا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس.
* * *
وإنما عنى بقوله: (ولنجعلك آية)، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكَّ في عظمتي، (٢). وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كلُّه، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٤٦ - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: (ولنجعلك آيه للناس) قال: جاء شابًّا وولده شيوخ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدِم عليه من قومه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٤٧ - حدثني موسى، قال، حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبُنيت، وهلك من كان يعرفه،
(١) انظر معاني القرآن ١: ١٧٣.
(٢) انظر معنى"آية" فيما سلف في هذا الجزء ٥: ٣٧٧، والتعليق: ٢، ومراجعه هناك.
474
فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!! قال: فإن عزيرًا أنا هو، كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: أن الله تعالى ذكره، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته، وإحياءَ الله إياه بعد مماته، وعلى من بُعث إليه منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾
قال أبو جعفر: دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي أمِر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته.
* * *
وأما قوله: (كيف ننشزُها) فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأ بعضهم: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركّب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم.
* * *
وأصل"النشوز": الارتفاع، (١). ومنه قيل:"قد نشز الغلام"، إذا ارتفع
(١) جاء في المطبوعة والمخطوطة "وأصل النشز": الارتفاع"، وأنا أرى صوابه: "النشوز"، لأنه هو المصدر، ولا مصدر لهذا الفعل غيره في رواية أهل اللغة، ومحال أن يدع الطبري المعروف إلى المجهول. والمخطوطة في هذا الوضع سيئة جدا، كثيرة التصحيف والإهمال، وبحضه لم أشر إليه لشدة وضوحه، وفساد خط كاتبه وإهماله، كما ترى في التعليق التالي.
475
طوله وشبَّ، ومنه"نشوز المرأة" على زوجها. (١). ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشَز ونَشْز ونشاز"، (٢). فإذا أردت أنك رفعته، قلت:"أنشزته إنشازًا"، و"نشز هو"، إذا ارتفع.
* * *
فمعنى قوله: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد. (٣).
* * *
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٤٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (كيف ننشزها) كيف نُخرجها.
٥٩٤٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف ننشزها) قال: نحرِّكها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا" بضم النون. قالوا: من قول القائل،"أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا"، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٥٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كيف نُنشِرها" قال: انظر إليها حين يحييها الله. (٤).
(١) في المخطوطة: "وفيه نشور المرأة على وجهها"، وهذا دليل على شدة إهماله.
(٢) في المخطوطة: "نشر ونشره ونشاره"، وهو خطأ كله، والصواب ما أثبت.
(٣) في المخطوطة: "فبرزها إلى أماكنها"، وهو فاسد. وفي المطبوعة: " الجسم"، ورددته إلى المخطوطة.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "نظر إليها"، والصواب ما أثبت.
476
٥٩٥١ - حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٩٥٢ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
٥٩٥٣ - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها" قال: كيف نحييها.
* * *
واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس: ٢٢]، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله:"وانظر إلى العظام كيف ننشرها" به. (١).
* * *
وقرأ ذلك بعضهم:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا"، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه. (٢). وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول:"أنشر الله الموتى"، فنشروا هم" بمعنى: أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء: ٢١] ؛ (٣).. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي، الميت وعاش بعد مماته، قيل:"نَشَر"، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: (٤).
حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا:... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (٥)
(١) هو ابن عباس، فيما روى الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٣.
(٢) هو الحسن، فيما روى الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٣.
(٣) سقت الآية بتمامها، وفي المطبوعة والمخطوطة: "آلهة من الأرض هم ينشرون".
(٤) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط: "ومنه"، وهو غير مستقيم.
(٥) ديوانه: ١٠٥، وسيأتي في التفسير ١٩: ١٤ / ٢٥: ٣٢ / ٣٠: ٣٦ (بولاق) وهو في أكثر الكتب، وقد مضى بيتان منها في ١: ٤٧٤، تعليق: ٢ /٣: ١٣١. وقبله يذكر صاحبته، فأجاد وأبدع: عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ... هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ
قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا... فِي مُشْرِقٍ ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا... عَاشَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ
حتَّى يَقُولَ الناسُ..........................
الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح، تراه مشربًا كالجمر يتلألأ. ونائر: نير. يقال: "نار الشيء فهو نير ونائر" و"أنار فهو منير".
477
وروي سماعًا من العرب:"كان به جَرَبٌ فنَشَر"، إذا عاد وَحَيِيَ. (١).
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز" ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام. (٢). وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، (٣). ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. (٤).
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٠.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "... ورد العظام من العظام، وإعادتها لا شك... " وهذا كلام لا يستقيم قط، والنسخة في هذا الموضع محرفة أشد التحريف، والناسخ كثير الإهمال والإسقاط كما سلف في التعليقات الماضية، فلذلك اجتهدت في تصحيح هذا، وما يليه حتى يستقيم معناه ولفظه.
(٣) في المخطوطة: " لا نعماد ومعنها"، والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "لانقياد معنييهما"، أي لاستقامة معنييهما واستوائهما وتساوقهما على نهج واحد لا يختلف، كأن يقود أحدهما الآخر. وانظر ما مضى ٤: ١٠٥ تعليق: ١، في قوله: "قاد قوله" وتفسير قولهم: "هذا لا يستقيم على قود كلامك".
(٤) في المطبوعة: "لإحداهما من القضاء" بزيادة"من"، وفي المخطوطة"لأحدهما من القضاء" بزيادة وخطأ، والصواب ما أثبت.
478
فإن ظنّ ظانٌ أن"الإنشارَ" إذا كان إحياءً، (١). فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = [فقد أخطأ]. (٢). فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يُحيى، (٣). لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. (٤). والذي يدل على ذلك قوله: (ثم نكسوها لحمًا). ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. (٥)
وإذ كان ذلك كذلك، (٦). وكان معنى"الإنشاز" تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى"الإنشار" =. (٧). وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.
* * *
وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي، وهي قراءة من قرأ:"كَيْفَ نَنْشُرُهَا" بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب.
* * *
(١) في المخطوطة: "إذا كان حيا" خطأ صرف، وفي المطبوعة: "إذا كان إحياء"، وهو الصواب، إلا أن حق الكلام في هذا الموضع"إذ" لا"إذا".
(٢) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه السياق. ولا معنى لالتماس تصحيح هذه الجملة، بتعليق قوله: فإن إحياء العظام... " جوابا لقوله: "فإن ظن ظان... ".
(٣) يحيى"بالبناء للمجهول، من"الإحياء".
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "لا إعادة الروح... "، وهو خطأ بين، بدل عليه سياق ما بعده. فإنه يعنى أن"إحياء العظام" مركب من أمرين: رد العظام إلى أماكنها، وإعادة الروح إليها. وسترى ذلك في حجته بعد.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "العظام التي أنشرت" بالراء، وهو خطأ، والصواب بالزاى، أى ركبت وردت إلى مواضعها.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا كان ذلك كذلك"، والصواب"إذ".
(٧) قوله: "وكان ذلك معنى الإنشار"، وكان معنى الإنشار أيضًا، هو رد العظام إلى أما كنها من الجسد لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات، كما سلف منذ قليل.
479
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (١). (ثم نكسوها) أي العظام (لحمًا)، و"الهاء" التي في قوله: (ثم نكسوها لحمًا) من ذكر العظام.
* * *
ومعنى"نكسوها": نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة، (٢). ومنه قول النابغة الجعدي: (٣).
فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا (٤)
فجعل الإسلام -إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه- كُسوةً له وسِربالا.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "بذلك" مكان"بقوله"، وهو لا يستقيم.
(٢) انظر ما سلف في معنى"لباس" و"كسوة" ٣: ٤٨٩ -٤٩٢ / ثم هذا الجزء: ٤٤.
(٣) وينسب هذا البيت إلى"لبيد بن ربيعة العامري" وإلى"قردة بن نفاثة السلولي"، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ٢٢٨: "وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم.
وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:... " وذكر البيت، ثم قال: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولى، وهو أصح عندي". ثم عاد في ص ٥٣٦، فذكر قردة بن نفائة السلولى فقال: "كان شاعرًا، قدم على رسوله الله ﷺ في من بني سلول، فأمّره عليهم بعد أن أسلم وأسلموا، فأنشأ يقول:
بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ بِهِ بَالاَ وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ إِقْبَالاَ
وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ وَقَدْ أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالاَ
الْحَمْدُ لله........... ...................
وقد قيل إن البيت للبيد. قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام غيره". وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه ١٤: ٩٤، وغيره. وانظر معجم الشعراء: ٣٣٨، ٣٣٩، والشعر والشعراء: ٢٣٢ والمعمرين ٦٦، وديوان لبيد، الزيادات: ٥٦. وغيرها كثير.
(٤) انظر التعليق السالف، وهذا البيت ثابت في قصيدة النابغة (في ديوانه: ٨٦)، في هجائه ابن الحيا، والحيا أمه، واسمه سوار بن أوفي القشيري -وكان هجا الجعدي وسب أخواله من الأزد، وهم بأصبهان متجاورون، فقال في ذلك قصيدته التي أولها:
إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ حَسَرَتْ عنِّي، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالاَ
.
480
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فلما تبيَّنَ له)، فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك = (١). (قال: أعلم) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان = (٢). (أن الله على كل شيء قدير).
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: (قال أعلم أن الله).
فقرأه بعضهم:"قَالَ اعْلَمْ" على معنى الأمر بوصل"الألف" من"اعلم"، وجزم"الميم" منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ" على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، (٣). فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس.
٥٩٥٤- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثني حجاج، عن هارون، قال: هي في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ" على وجه الأمر. (٤).
(١) انظر معنى"بين" فيما سلف في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.
(٢) في المطبوعة: "بعد المعاينة والاتضاح به والبيان" وهو فاسد مريض، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "للذي أحيى" وما في المخطوطة عين الصواب.
(٤) الأثر: ٥٩٥٤ -"أحمد بن يوسف التغلبي"، الأحوال، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، مشهور بذلك. روى عن سليمان بن حرب، ومسلم بن إبراهيم، ورويم بن زيد، وأبي عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم. روى عنه أبو عبد الله نفطويه النحوي، ومحمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك، ومكرم بن أحمد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: "ثفة"، مات سنة ٢٧٢، وصحبته لأبي عبيد القاسم ابن سلام ترجم عندي أنه المعنى في الأثر السالف رقم: ٥٩١٩، وانظر التعليق عليه. وفي المطبوعة والمخطوطة: "الثعلبي". وهو خطأ.
481
٥٩٥٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = أحسبه، شكَّ أبو جعفر الطبري =، سمعت ابن عباس يقرأ:"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ" قال: إنما قيل ذلك له.
٥٩٥٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له"انظر"! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقيل:"اعلم أن الله على كل شيء قدير".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبيَّن من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله:"قال اعلم" -وقد قرأه على وجه الأمر- إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا، وكان ذلك كما يقول القائل:"اعلم أن قد كان كذا وكذا"، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (قَالَ أَعْلَمُ)، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز ألف"أعلم" وقطعها، ورفع الميم، بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال المتبيِّن ذلك: (١).
أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير.
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، (٢). وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من
(١) في المخطوطة:
"قال أليس ذلك أعلم الآن "، وهو كلام يرتكس في الفساد ارتكاسًا.
وفي المخطوطة: "المسن" غير منقوطة، وهي الصواب عين الصواب.
(٢) سقط من الناسخ"قرأة" في هذا الموضع والذي يليه، وكتبها في الهامش مرة واحدة، لم يكررها، ولذلك أثبتها الطابع في موضع واحد، هو الأخير منهما.
482
التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٥٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما عاين من قدرة الله ما عاينَ، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير).
٥٩٥٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير).
٥٩٥٩ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: بعين نبيّ الله ﷺ = (١). ، يعني إنشازَ العظام = فقال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير).
٥٩٦٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: قال عزير عند ذلك -يعني عند معاينة إحياء الله حماره- (أعلم أنّ الله على كل شيء قدير).
٥٩٦١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصلُ بعضه إلى بعض، (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير).
٥٩٦٢ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، نحوه.
* * *
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"اعْلَمْ" بوصل
(١) في المطبوعة: "يعنى نبي الله عليه السلام"، وفي المخطوطة مضطربة وغير منقوطة، فمن أجل ذلك لم يحسن قراءتها. أي: أن إنشاز العظام كان بعين النبي، يراه عيانا، وقد مضى مثل ذلك آنفًا في رقم: ٥٩٤٢.
483
"الألف" وجزم"الميم" على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله = الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير = (١). على كل شيء قادرٌ كذلك. (٢)
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره; لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به، وذلك قوله: (فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك... وانظر إلى العظام كيف ننشزها)، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ! قال الله له:"اعلم أن الله" = الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت = على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله، (٣). كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم ﷺ = بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) = (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤). فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها = أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير. (٥).
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "وحفظ عليه طعامه... "، وهو اختلال في الكلام، والصواب ما أثبت. وقوله: "وحفظه" مجرور معوطف على قوله: "من إحيائه إياه وحماره... ".
(٢) قوله: "على كل شيء قادر كذلك" متعلق بقوله: بأن يعلم أن الله... على كل شيء قادر"، وما بينهما صفة لله تعالى، فصلت بين اسم"إن" وخبرها.
(٣) سياق هذه الجملة كالسالفة في التعليق السالف: "أعلم أن الله... على غير ذلك من الأشياء قدير".
(٤) هي الآية التالية من"سورة البقرة".
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "وكذلك أمر الذي سأل... " بالواو، والصواب بالفاء.
هذا وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٣ - ١٧٤.
484
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وإذ قال إبراهيم) على قوله: (أو كالذي مرّ على قرية)، وقوله: (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه) لأن قوله: (ألم تر) ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، (١). فهو وإن كان لفظه لفظ"الرؤية" فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٦٣ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم ﷺ أتى على دابة توزعتها الدوابّ والسباع، فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).
٥٩٦٤ - حدثنا عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد،
(١) انظر معنى"الرؤية" فيما سلف من هذا الجزء ٥: ٤٢٩، والتعليق عليه رقم: ٢.
485
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى) قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباعُ، فقام ينظر، فقال: (١). سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك: فذلك قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى).
٥٩٦٥- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، (٢). وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب، (٣). ثم قال: ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
٥٩٦٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: (٤). يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي!
* * *
وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك، المناظرةُ والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المخطوطة: "فقدم ينظر"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) تمزع القوم الشيء: تقاسموا وفرقوه بينهم،. من التمزيع: وهو التقطيع والتفريق.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "فوقف" بالفاء، والأجود حذفها.
(٤) الخبيث، يعنى إبليس لعنه الله.
486
٥٩٦٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في"سورة الأنبياء"، قال نمروذ، فيما يذكرون، لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت! قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ = ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه = قال: فقال إبراهيم عند ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي = من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال:"ليطمئن قلبي"، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذان القولان -أعني الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا.
* * *
وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٦٨ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره = وكان إبراهيم أغيرَ الناس، إن خرج أغلق الباب = فلما جاء ووجد في داره رجلا
487
ثار إليه ليأخذه، (١). قال: من أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال: يا ملك الموت، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم، ثم أفاقَ وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت، لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين؟ قال: فأعرض! فأعرض إبراهيم، ثم التفت، فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، (٢). في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه.
فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك! قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ = يقول: تصدق = قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. (٣).
(١) في المطبوعة: "فلما جاء وجد في داره رجلا، فثار إليه ليأخذه قال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) من العربي المعرق، عود الضمير على الجمع مذكرًا مفردًا، كما جاء في الخبر، وكما جاء في خبر عمار بن ياسر (ابن سعد ٣ /١ /١٨٣) :" كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا" وكما في الحديث: "خبر النساء صوالح قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، وكقول ذي الرمة. وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيدًا... وَسَالِفَةً، وَأَحْسَنُهُ قَذَالاَ.
(٣) الخلة (بضم وفتح اللام المشددة) والخلالة (بفتح الخاء وكسرها) والخلولة والخلالة (بضم الخاء) : الصداقة.
488
٥٩٦٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: بالخُلَّة. (١).
* * *
وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٧٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. (٢).
٥٩٧١ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل، عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شَبَبَة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (٣). [الزمر: ٥٣] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس: أمَّا إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه
(١) الأثر: ٥٩٦٩ -"عمرو بن ثابت بن هرمز البكري" ويقال له: عمرو بن أبي المقدام روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، والأعمش وغيرهم، روى عنه أبو داود الطيالسي، وسهل بن حماد، ويحيى بن آدم وغيرهم. قال ابن المبارك: "لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف"، وضعفه أبو زرعة وابن معين والبخاري. وقال أبو داود في السنن: " رافضي خبيث وكان رجل سوء". مات سنة ١٧٢، مترجم في التهذيب. وأبو: ثابت بن هرمز أبو المقدام.
روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرها. وروى عنه ابنه والثوري وشعبة وغيرهم. كان شيخًا عاليًا صاحب سنة. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ٥٩٧٠ -أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٣٥ ونسبه لعبد الرزاق وابن جرير. وقوله: "أرجي" أفعل تفضيل من"الرجاء"، وهو الأمل نقيض اليأس.
(٣) زدت في أول الآية: "قل" على سنن القراءة.
489
الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). (١).
٥٩٧٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كلف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) قال: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس، فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى)، قال: (فخذ أربعةً من الطير)، ليريه.
٥٩٧٣ - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قالا حدثنا سعيد بن تليد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال:"نحنُ أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي". (٢).
(١) الأثر: ٥٩٧١ -خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٣٥، ونسبه لعبد بن حميد، وابن المنذر وابن جرير، والحاكم قال: "وصححه". وهو في المستدرك بغير هذا اللفظ ١: ٦٠ من طريق"بشر بن حجر السامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر قال: التقى ابن عباس وابن عمرو، فقال له ابن عباس... " ثم قال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع". وكأن علة انقطاعه أن عبد العزيز بن أبي سلمة لم يدرك محمد بن المنكدر، فإنه مات سنة ١٣٠.
هذا: ومعنى قوله: "أما إن كنت تقول إنها"، فإن في الجملة حذوفًا جارية على لغة العرب في الاجتزاء، ومعناه: "أما إن كنت تقول ذلك، إنها لمن أرجى الآيات، وأرجى منها قول إبراهيم.
وحذف خبر"إن" كثير في العربية، من ذلك ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن الأنصار قد فضلونا، إنهما آوونا، وفعلوا بنا وفعلوا، فقال: ألستم تعرفون ذلك لهم؟ قالوا: بلى! قال: فإن ذلك". فقوله"فإن ذلك"، معناه: فإن ذلك مكافأة منكم لهم، أي معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم، مكافأة لهم. قال أبو عبيد: "وهذا اختصار من كلام العرب، يكتفي منه بالضمير، لأنه قد علم ما أراد به قائله"، انظر أمالي ابن الشجري ١: ٣٢٢، وغيره.
(٢) الأثر: ٥٩٧٣ -"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب. و"سعيد بن تليد"، هو: "سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني" نسب إلى جده. روى عنه البخاري وروى له النسائي بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري. كان ثقة ثبتا في الحديث.
وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري". روى عن مالك الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر، ونافع بن أبي نعيم القاري. قال ابن يونس: "ذكر أحمد بن شعيب النسوي ونحن عنده، عبد الرحمن بن القاسم، فأحسن الثناء عليه وأطنب" وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك، وفرع على أصوله، وذب عنها، ونصر من انتحلها". مترجم في التهذيب. و"عمرو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري". روى عن أبيه وسالم بن أبي النضر، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن القاسم، ويونس بن يزيد الأيلى وهو من أقرانه. روى عنه مجاهد ابن جبر وصالح بن كيسان، وهما أكبر منه، وقتادة وبكير بن الأشج، وهما من شيوخه، ورشدين ابن سعد، وبكر بن مضر وغيرهم. وهو ثقة. قال أبو حاتم: "كان أحفظ أهل زمانه، ولم يكن له نظير في الحفظ" وقال سعيد بن عفير: "كان أخطب الناس وأرواهم". مترجم في التهذيب. وانظر بقية تخريجه في الأثر التالي.
490
٥٩٧٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: فذكر نحوه. (١).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال، وهو قوله:"نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ " = وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: (٢). من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي
(١) الأثر: ٥٩٧٤ -هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، قال: "حدثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن وهب" كمثل إسناد الطبري. وبمثل لفظه في الإسناد السابق. انظر الفتح ٨: ١٥٠، ١٥١، واستوفى الكلام فيه الحافظ في الفتح أيضًا في شرح" كتاب أحاديث الأنبياء"، من البخاري (الفتح ٦: ٢٩٣، ٢٩٤)، وأشار إلى إسناد ابن جرير السالف. وانظر كلام الحافظ في إسناده.
(٢) يعنى الأثر رقم: ٥٩٦٦، والذي قاله الطبري من تمام الأثر فيما أرجح.
491
فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: (أولم تؤمن) ؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت.
٥٩٧٥ - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. (١).
* * *
ومعنى قوله: (ليطمئن قلبي) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه.
* * *
وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله: (ليطمئن قلبي) إلى أنه: ليزداد إيمانًا = أو إلى أنه: ليوقن. (٢).
* ذكر من قال ذلك: ليوقن = أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. (٣).
٥٩٧٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليوقن. (٤).
٥٩٧٧ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني.
٥٩٧٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (ولكن ليطمئن قلبي) يقول: ليزداد يقينًا.
٥٩٧٩ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه.
٥٩٨٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا.
(١) الأثر: ٥٩٧٥ - هو من تمام الأثر الذي أشرت إليه رقم: ٥٩٦٦.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي ٣: ٣٠٠.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي ٣: ٣٠٠.
(٤) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي ٣: ٣٠٠.
492
٥٩٨١ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا.
٥٩٨٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن كثير البصري، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني.
٥٩٨٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقينًا.
٥٩٨٤ - حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا خلف بن خليفة، قال: حدثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وإبراهيم في قوله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.
٥٩٨٥ - حدثنا صالح، قال: حدثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد الله العامري، قال: حدثنا ليث، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير في قول الله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.
* * *
وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) بأني خليلك. (١).
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثران رقم: ٥٩٦٨، ٥٩٦٩.
493
٥٩٨٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليطمئن قلبي) قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
* * *
وأما تأويل قوله: (قال أولم تؤمن)، فإنه: أولم تصدق؟ (١). كما:-
٥٩٨٧ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي.
٥٩٨٨ - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن بأني خليلك؟
٥٩٨٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: (فخذ أربعة من الطير)، فذكر أن الأربعة من الطير: الديكُ، والطاوُوس، والغرابُ، والحمام.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٩٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا.
٥٩٩١ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن
(١) انظر فهارس اللغة فيما سلف"الإيمان" بمعنى التصديق.
494
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام.
٥٩٩٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج: (قال فخذ أربعة من الطير) قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة.
٥٩٩٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (قال فخذ أربعة من الطير) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامًا، وغرابًا، وديكًا; مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد من قول القائل:"صُرْت إلى هذا الأمر" (١). إذا ملت إليه ="أصُورُ صَوَرًا"، ويقال:"إني إليكم لأصْوَر" أي: مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر: (٢).
اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا يَوْمَ الفِرَاقِ إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ (٣)
وهو جمع"أصْور، وصَوْراء، وصُور، مثل أسود وسوداء" ومنه قول الطرماح:
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "صرت هذا الأمر" بإسقاط"إلى"، والصواب ما أثبت.
(٢) غير معروف قائله، وأنشده الفراء.
(٣) اللسان (صور) والخزانة ١: ٥٨، وشرح شواهد المغني: ٢٦٦ وغيرها كثير، وكان في المطبوعة هنا: "إلى أحبابنا"، وأثبت ما في المخطوطة. وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة:
وَأَنَّنِي حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي مِنْ حَوْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
.
495
عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا هَوًى، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ (١)
يعني بقوله:"أو أن يصورها هوى"، يميلها.
* * *
فمعنى قوله: (فصُرْهن إليك) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال:"صُرْ وجهك إليّ"، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله: (فصرهن إليك) إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده: قال: (فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك)، ثم قطعهن، (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا).
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم"الصاد": قطِّعهن، كما قال توبة بن الحميِّر:
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ... بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا...
(١) ديوانه: ١٥٢، وهو من أبيات جياد، قبله:
إِذَا ذُكِرَتْ سَلْمَى لَهُ، فَكَأَنَّمَا تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي الفُؤَادِ وَجِيعُ
وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ، وَطَيْرُنَا سَوَاكِنٌ فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ
قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً فَهُنَّ إلى لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ
عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ...... ...................
فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا وَأَجْدَرَ من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ
قوله: "طفل"، أي من هم الهوى والحب، ينمو منذ كانوا أطفالا. وعياف، والطريدة، لعبتان من لعب صبيان الأعراب، فيقول: إن سلمى وأترابها، قد أدركن وكبرن، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث، وحبب إليهن الحديث والغزل. فهن يخضعن له ويملن، ولكنهن عفيفات مسلمات، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل، وإلا أن يعطف قلوبهن الهوى والعشق، والهوى صروع قتال، يصرع من يلم به. فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط عشقه. وقوله: "أجدر" أي أخرج الشجر ثمره كالحمص. والوليع: طلع النخل. ووادي نطاة: بخبير، وهو كثير النخل.
496
فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا (١)
يعني: يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: (فصرهن)، كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن = ويكون"إليك" من صلة"خذ".
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:"فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ" بالكسر، بمعنى قطعهن.
وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون:"فصُرهن" ولا"فصرهن" بمعنى قطعهن، في كلام العرب -وأنهم لا يعرفون كسر"الصاد" وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، = وأنهما جميعًا لغتان بمعنى"الإمالة" = وأن كسر"الصاد" منها لغة في هذيل وسليم; وأنشدوا لبعض بني سليم: (٢).
وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ عَلَى الِّليتِ قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح (٣)
(١) هذان البيتان من قصيدة طويلة عندي في شعر توبة بن الحير. والبيت الأول هنا ينبغي أن يؤخر، لأن المعنى لا يستقيم على رواية أبي جعفر: وترتيبها في رواية شعره، مع اختلاف الرواية:فَقَالَتْ:
فَنَادَيْتُ لَيْلَى، والحُمُولُ كَأَنَّهَا مَوَاقِيرُ نَخْلٍ زَعْزَعَتْهَا دُبُورَها
أَرَى أَنْ لا تُفِيدَكَ صُحْبَتِى لِهَيْبَةِ أعْدَاءٍ تَلَظَّى صُدُورُهَا
فَمَدَّتْ لِيَ الأَسْبَابَ حتَّى بَلَغْتُهَا بِرِفْقِي، وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
فَلَمَّا دَخَلْتُ الخِدْرَ أَطَلَّتْ نُسُوعُهُ وَأَطْرَافُ عِيْدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
ورواية الطبري"فلما جذبت الحبل" و"بأطراف عبدان"، ليست جيدة، والأسباب جمع سبب: وهي الحبال، حتى يصعد إليها في خدرها. وقوله"نهضي" في روايته، أي نهوضي وحركتي من حيث كنت مختفيًا. وأط الرحل يئط: سمع صوت عيدانه وصريرها. والنسوع جمع نسع: وهو سير مضفور تشديد به الرحال. كانت الحبال جديدة فأطت وسمع صوتها. والأسور جمع أسر: وهو عقد الخلق وقوته. أي أن العيدان جديدة شديدة القوى. متينة. فذلك أشد لأطيطها.
(٢) لا أعرف قائله.
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ١٧٤. اللسان (صير) الفرع الشعر التام الحثل، وحف أسود حسن كثير عزيز، الليت صحفة العنق. وهما الليتان، قنوان: جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه من الرطب. والدوالح جمع دالح: وهو المثقل بالحمل هنا. وأصله فيما يمشي، يقال بعير دالح: إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير منبسط. وكذلك السحاب دالح، أي مثقل بطيء المر. وهي استعارة جيدة محكمة.
497
يعني بقوله:"يصير"، يميل = وأنّ أهل هذه اللغة يقولون:"صاروه وهو يصيره صَيرًا"،"وصِرْ وَجهك إليّ"، أي أمله، كما تقول:"صُره". (١).
* * *
وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: (فصُرهن) ولا لقراءة من قرأ:"فصرهن" بضم"الصاد" وكسرها، وجهًا في التقطيع، (٢). إلا أن يكون"فصِرْ هن إليك"! في قراءة من قرأه بكسر"الصاد" من المقلوب، وذلك أن تكون"لام" فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فيكون من"صَرَى يصري صَرْيًا"، فإن العرب تقول:"بات يَصْرِي في حوضه": إذا استقى، ثم قطع واستقى، (٣). ومن ذلك قول الشاعر: (٤).
صَرَتْ نَطْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ غَدَا وَالْعَوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ (٥)
"صَرَت"، قطعتْ نظرة، ومنه قول الآخر: (٦).
يَقُولُونَ: إنّ الشَّأَمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ... فَمَنْ لِي إِذَا لَمْ آتِهِ بِخُلُودِ... تَعَرَّبَ آبَائِي، فَهَلا صَرَاهُمُ... مِنَ المَوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي! ؟ (٧)
(١) انظر ما سلف في معاني القرآن للفراء ١: ١٧٤.
(٢) أي: بمعنى التقطيع.
(٣) هذا بيان جيد، لا تجده في كتب اللغة.
(٤) لم أعرف قائله.
(٥) اللسان (نعر) (عصا)، ومعاني القرآن ١: ١٧٤ -جوز كل شيء: وسطه، والدراع: لابس الدرع. والعواصى جمع عاص، يقال: "عرق عاص" وهو الذي لا يرقأ ولا ينقطع دمه، كأنه يعصى في الانقطاع الذي يبغي منه ولا يطيع، وأشد ما يكون ذلك في عروق الجوف. ونعر العرق بالدم: إذا فار فورانًا لا يرقأ، كأن له صوتًا من شدة خروج الدم منه. فهو نعار ونعور.
(٦) لم أعرف قائلهما.
(٧) معاني القرآن للفراء ١: ١٧٤، معجم ما استعجم: ٧٧٣، اللسان (عرب) (شأم).
وتعرب القوم: أقاموا بالبادية، ولم يحضروا القرى. يقول سكن آبائي وجدودي البوادي وأقاموا فيها ولم يحضروا القرى، فلم يك ذلك نجاة لهم من المنايا. وقوله: "وجدودي، عطف على"آبائي"، ورواية البيت في اللسان أجود:
تَعَرَّبَ آبائِي، فَهَلاَّ صَرَاهُمُ مِنَ المَوْتِ رَمْلاَ عَالِجٍ وزَرُودِ
وهما موضعان مصحان من أرض العرب.
498
يعني: قطعهم، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحوّلت عينها فجعلت لامها، فقيل:"صار يصير"، كما قيل:"عَثِي يَعْثَى عَثًا"، ثم حولت لامها، فجعلت عينها، فقيل:"عاث يعيث. (١).
* * *
فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: (فصرهن إليك) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما:"صار يصور"، والأخرى:"صَار يصير"، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي (٢).
وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا يَصُورُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ (٣)
(١) انظر ما سلف من ذلك في ٢: ١٢٣، ١٢٤.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "بن حماد"، وهو تصحيف، فإن المراجع كلها اتفقت على أنه"ابن جمال" بالجيم أو"بني حمال" بالحاء. وهو ينسب لأوس بن حجر التميمي، ولآخر غيره يقال له: أوس بن حجر كما ترى في المراجع المذكورة بعد.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨١ وأمالي القالي ٢: ٥٢، والتنبيه: ٩٣، وسمط اللآلي: ٦٨٥، ٦٨٦، ثم في لسان العرب (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عنق) (زنم)، وفي كتب أخرى، ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا:وهو بيت ملفق، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان:
يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمٌ لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ
وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ
يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ لَهُ ظَأْبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ
الخلعة بكسر الخاء وضمها: خيار المال، يعنى المعزي التي سيقت إليه، كانت كلها خيارًا. والدهس جمع دهساء: وهي من المعزى، السوادء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله: "يصوع" هذه الرواية أخرى بمعنى يفرق. وذلك إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. وعنوق جمع عناق: وهي أنثي المعز. وهو جمع عزيز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى السواد، يعنى تيس المعز، ويعنى أنه كريم. والزنيم: الذي له زنمتان في حلقة. والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها) : وهو الفتى الشاب المدمج الخلق، الصلب القوي. ورباع: أي دخل في السنة الرابعة، وذلك في عز شبابه وقوته. وظأب التيس: صوته وجلبته وصياحه وصخبه، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد. والغريم: الذي له الدين على المدين، ويقال للمدين غريم. يقول: إذا أراد سفادها هاج وفرقها، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه.
499
بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها = وببيت خنساء:
*لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ* (١)
يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق -وببيت أبي ذؤيب:
فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ (٢)
قالوا: فلقول القائل:"صُرْت الشيء"، معنيان: أملته، وقطعته. وحكوا سماعًا:"صُرْنا به الحكم": فصلنا به الحكم.
* * *
(١) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨١ وفيه مراجعه. والبيت ليس في ديوانها.
(٢) ديوانه: ١٢ المفضليات: ٨٧٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٨١، والأضداد للأصمعي وابن السكيت ٣٣، ١٨٧. وهذه الرواية التي رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري" فانصرن"، رواية غربية، وهي في سياقه الشعر أغرب. وأنا أنكر معناها وأجده مخلا بالشعر. وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش، ثور من قد تقضى شبايه، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده. فإذا أصبح الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به. فهو لا يزال يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع، فيصدق سمعه ما يرى. وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل، فيقول أبو ذؤيب: يقول: بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه، والقناص يكفها حتى يرسلها جميعا عليه. فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ، وسَدَّ فُرُوجَهُ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ أُولَى سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ
يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد أخذت عليه مذهبه. ويروى"فانصاع من فزع" أي ذهب في شق. والغبر الضواري: هي كلاب الصياد، "منها وافيان": كلبان سالما الأذنين. والأجدع: مقطوع الأذن. إما علامة له، وإما من طول ممارسته لصيد الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه.
500
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين =: من أن معنى الضم في"الصاد" من قوله: (فصرهن إليك) والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى"إليك" تقديمها قبل"فصرهن"، من أجل أنها صلة قوله:"فخذ" = (١). أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويّي الكوفيين، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - (٢). لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله: (فصرهن) غير خارج من أحد معنيين: إما"قطِّعهن"، وإما"اضْمُمْهن إليك"، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك = على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم = أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: (فصرهن) بمعنى فقطعهن، على أنّ أصل الكلام"فاصرهن"، ثم قلبت فقيل:"فصِرْهن" بكسر"الصاد"، لتحول"ياء"،"فاصرهن" مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شكّ -مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم- قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب"فاصِرهن" إلى"فصِرهن" أن يقرأه"فصُرْهن" بضم"الصاد"، وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر"الصاد" بتأويل: التقطيع، مقلوب من:"صَرِي يَصْرَى" إلى"صار يصير" = وجهل من زعم أن قول القائل:"صار يصور"، و"صار يصير" غير معروف في كلام العرب بمعنى: قطع.
* * *
(١) قوله"أولى بالصواب"، خبر قوله: "وهذا القول الذي ذكرناه... أولى بالصواب... ".
(٢) سياق العبارة: "... أولى بالصواب... لإجماع جميع أهل التأويل... ".
501
ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره: (فصرهن) أنه بمعنى: فقطّعهن.
٥٩٩٤ - حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: هي نبطيَّة، فشقِّقْهن. (١).
٥٩٩٥ - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جَمْرة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك)، قال: إنما هو مثلٌ. قال: قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، رُبعًا ههنا، ورُبعًا ههنا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا. (٢).
٥٩٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: قطعهن.
٥٩٩٧ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن.
٥٩٩٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله.
٥٩٩٩ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن
(١) الأثر: ٥٩٩٤ -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط". قال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: صدوق، وسمعت حجاج ابن الشاعر يبالغ في الثناء عليه ويذكره بالخير. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداء ٩: ٥٢. و"محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي" مضى برقم: ٣٠٠٢. و"أبو كدينة" هو: يحيى بن المهلب البجلى. مضى في رقم ٤١٩٣ بغير ترجمة. قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ٥٩٩٥ -"أبو جمرة" هو: نصر بن عمران بن عصام الضبعي. روى عن أبيه وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وعنه شعبة وإبراهيم بن طهمان وابنه علقمة وغيرها. مترجم في التهذيب.
وقد مضى غير مترجم في رقم: ٣٢٥٠، وسقط في الطبع من اسمه راء"جمرة". وفي المطبوعة والمخطوطة"أبو حمزة"، وهو خطأ.
502
جعفر، عن سعيد: (فصرهن) قال: قال جناح ذِه عند رأس ذِه، ورأس ذِه عند جناح ذِه.
٦٠٠٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة في قوله: (فصرهن إليك) قال: قال عكرمة بالنبطيَّة: قطّعهن.
٦٠٠١ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن يحيى، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: قطعهن.
٦٠٠٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا، (١) ثم اخلط لحومهن بريشهن.
٦٠٠٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا. (٢)
٦٠٠٤ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فصرهن إليك) أمر نبيُّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن.
٦٠٠٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فصرهن إليك) قال: فمزقهن. قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش،"ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا".
٦٠٠٦ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا
(١) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى.
(٢) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى.
503
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك: (فصرهن إليك) يقول: فشقِّقهن، وهو بالنبطية"صرّى"، وهو التشقيق.
٦٠٠٧ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فصرهن إليك) يقول قطعهن.
٦٠٠٨ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن إليك ومزقهن تمزيقًا.
٦٠٠٩ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فصرهن إليك) أي قطعهن، وهو"الصَّوْر" في كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله: (فصرهن إليك) أنه بمعنى: فقطعهن إليك، دلالةٌ واضحة على صحة ما قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه.
وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم"الصاد":"فصُرْهن" إليك أو كسرها"فصِرْهن" إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد. (١). غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به"فصُرْهن إليك" بضم"الصاد"، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما في إحياء العرب.
* * *
[وأما قول من تأوّل قوله: (فصرهن إليك) بمعنى: اضممهن إليك ووجّهن نحوك واجمعهن، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر قليل]. (٢).
(١) في المطبوعة: "أن كانت اللغتان معروفتين"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لسرعة الكاتب فيما كتب وإهماله.
(٢) هذا الذي بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق التفسير، وهو رده على القول الأول الذي مضى في ص ٤٦٩ س ٣ إلى ٧، ولم يعد ثانية إلى ذكره. وكان مكانه في المطبوعة: "وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى: أوثق". وهو تصرف من ناسخ قديم أو طابع. أما المخطوطة، فكان نصها هكذا متصلا بما قبله وما بعده. "وأكثرهما في أحياء العرب من أهل التأويل نفر قليل" ذكر من قال ذلك". والذي استظهرته أقرب إلى سياق التفسير إن شاء الله. وهذا دليل آخر على شدة إهمال الناسخ في كثير من المواضع لعجلته وقلة حذره.
504
* ذكر من قال ذلك:
٦٠١٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فصرهن إليك) "صرهن": أوثِقْهُنّ.
٦٠١١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: (فصرهن إليك) قال: اضممهن إليك.
٦٠١٢ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (فصرهن إليك) قال: اجمعهن.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا).
فقال بعضهم: يعني بذلك: على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا منهن.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠١٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، (ثم ادعهن يأتينك سعيا). (١).
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي حمزة"، وهو خطأ. انظر ما سلف من التعليق على الأثر: ٥٩٩٥.
505
٦٠١٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا.
٦٠١٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، (١) وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. (٢). وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
٦٠١٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا، يقول: شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
٦٠١٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ الأطيار الأربعة، ثم قطَّع
(١) لم أفهم لقوله: "شكل على أجنحتهن" معنى، ولعل فيها تصحيفًا لم أتبينه، ولعل معناه أنه نثر ريش أجنحتهن. ولم أجد الخبر في مكان آخر.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " ويلقي كل طير برأسه"، والصواب زيادة"إلى".
506
كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال:"تعالين بإذن الله كما كنتُن"، فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته، حتى عرف ذلك، يعني: ما قال نمروذ من الكذب والباطل. (١).
٦٠١٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. (٢). فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما ناديتهن فجئنَك، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها، أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال.
* كر من قال ذلك:
٦٠١٩ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما قال إبراهيم ما قال = عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطيرُ
(١) في المطبوعة: "بغير ما قال نمرود... " وفي المخطوطة: " بعير ما قال" غير منقوطة، وصواب قراءته ما أثبت. وهذا تفسير للإشارة في قوله: "حتى عرف ذلك".
(٢) الجؤشوش: الصدر. يقال: "مضى جؤشوش من الليل" أي: صدر منه، مجاز من ذلك.
507
والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربّه ما سأل = قال: (فخذ أربعة من الطير) = قال ابن جريج: فذبحها = ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، (١). ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعَيْن، حتى وصلت رأسها.
٦٠٢٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك)، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطّعهن أعضاء، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسَّمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا.
* * *
وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٢١ - حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا)، قال: ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا، وكذلك يُحيي الله الموتى.
٦٠٢٢ - حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن يأتينك سعيًا، كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "ثم خلط... "، فعل ماض، والصواب ما أثبت.
508
٦٠٢٣ - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل = ثم (ادعهن)، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
٦٠٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا.
٦٠٢٥ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا)، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) و"الكل" حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. (١).
فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا. (٢).
فإن كانت"بعضًا" فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم
(١) انظر ما سلف في معنى"كل" ٣: ١٩٥.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "أو جمعا"، والصواب ما أثبت، وسيأتي على الصواب بعد قليل في المخطوطة.
509
السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه.
= أو يكون"جميعا"، فيكون أيضًا كذلك. (١).
وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على"كل جبل"، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، (٢) وإمَّا ما في الأرض من الجبال.
فأما قول من قال:"إن ذلك أربعة أجبل"، وقول من قال:"هن سبعة"، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما أمر الله إبراهيم ﷺ أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن = كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال = أطيارًا أحياءً يطرن، فيطمئنّ قلب إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة، (٣). وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. (٤).
* * *
قال أبو جعفر: و"الجزْء" من كل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف معنى"السهم". لأن"السهم" من الشيء، هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءَهم من المواريث:"السهام" دون"الأجزاء". (٥).
* * *
(١) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "من كل جبل وقد عرفهن... " في المخطوطة: "... قد عرفهن" بغير واو. وقد زدت"من أجبل" حتى تستقيم العبارة، مستظهرًا مما مضى.
(٣) في المطبوعة: "أن كذلك يجمع الله... " وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "قبل الرد"، والصواب من المخطوطة. والردى: الهلاك.
(٥) هذه تفرقة جيدة قلما تصيبها في كتب اللغة، فقيدها.
510
وأما قوله: (ثم ادعهن) فإن معناه ما ذكرت آنفًا عن مجاهد، أنه قال: هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل:"تعالين بإذن الله".
* * *
فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا، أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ ﷺ بدعائهن وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين = كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: ٦٥] = لا أمرَ عبادةٍ، فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (واعلم) يا إبراهيم، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن وردّ إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل تفريقكَهُنّ = (عزيز)، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة، الذين خالفوا أمرَه، وعصوا رُسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم = (حكيم) في أمره.
* * *
٦٠٢٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق: (واعلم أن الله عزيز حكيم)، قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره.
511
٦٠٢٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (واعلم أن الله عزيز) في نقمته = (حكيم) في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية مردودة إلى قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: ٢٤٥] والآياتُ التي بعدها إلى قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله)، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، مما قد ذكرناه قبل = (١). اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة = وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: ٢٤٤]، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم = وقطعًا منه ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم،
(١) سياق الجملة: "والآيات التي بعدها... اعتراض من الله تعالى... " مبتدأ وخبره.
512
ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم، ليعلموا أن ما آتاهم به محمد ﷺ من عند الله، وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق، = وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد ﷺ أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها.
ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن (الذي يقرض الله قرضًا حسنًا) وما عنده له من الثواب على قَرْضه، فقال: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم = (كمثل حبة) من حبات الحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع (١). ="فأنبتت"، يعني: فأخرجت = (سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة)، يقول: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما: -
٦٠٢٨ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) فهذا لمن أنفق في سبيل الله، فله أجره سبعمائة. (٢).
٦٠٢٩ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، قال: هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.
(١) في المطبوعة: "تسنبل سنبلة بذرها زارع"، وضع"سنبلة" مكان"ريعها"، ظنها محرفة.
وريع البذر: فضل ما يخرج من البزر على أصله. وهو من"الريع" بمعنى النماء والزيادة. والمعنى: تسنبل أضعافها زيادة وكثرة.
(٢) في المطبوعة: "فله سبع مائة" بحذف"أجره"، وفي
المخطوطة: "فله سبعمائة" بياض بين الكلمتين، وأتممت العبارة من الدر المنثور ١: ٣٣٦، وفيه: "فله أجره سبعمائة مرة".
513
٦٠٣٠ - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) الآية، فكان من بايع النبي ﷺ على الهجرة، ورابط مع النبي ﷺ بالمدينة، ولم يلق وجهًا إلا بإذنه، (١). كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟ (٢).
قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك، (٣). وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إنْ جَعل الله ذلك فيها.
ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة = فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة، مضافًا إليها،
(١) في المخطوطة: "لم يلف وجها"، والذي في المطبوعة لا بأس به، وإن كنت في شك منه.
وفي الدر المنثور ١: ٣٣٦"لم يذهب وجها".
(٢) في هامش المخطوطة تعليق على هذا السؤال، وهو أول تعليق أجده على هذه النسخة بخط غير حط كاتبها، وهو مغربي كما سيتبين مما كتب، وبعض الحروف متآكل عند طرف الهامش، فاجتهدت في قراءتها:
"أقول: بل ذلك ثابت محقّق مشاهدٌ في البلاد، وأكثر منه. فإن سنبل تلك البلاد يكثر حبّه وفروعه إلى ما يقارب الفتر. ولقد عدت من فروع حبة واحدة ثلاثة وستين فرعًا، وشاهدت من ذلك مرارًا. فقد أراني بعض أصحابي جملة من ذلك... ، كان أقل ما عددناه للحبة ثلاثة عشر سنبلة إلى ما يبلغ أو يزيد على ما ذكرت أولًا من العدد. كتبه محمد بن محمود الجزائري الحنفي"
ثم انظر ما قاله القرطبي وغيره في سائر كتب التفسير.
(٣) في المخطوطة: "قيل قيل أن يكون ذلك موجود فهو ذاك"، وهو خطأ ولا شك، وما في المطبوعة جيد في السياق.
514
لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٣١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)، قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فهذا لمن أنفق في سبيل الله =: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (والله يضاعف لمن يشاء). فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته = بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله، فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. (١).
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله -يعني السبعمائة-
(١) كانت هذه الجملة كلها في المطبوعة: "والله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". وقد غيروا ما كان في المخطوطة لأنه فاسد بلا شك وهذا نصه: "والله يضاعف لمن يشاء أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". ولكنى استظهرت من سياق التفسير بعد، أن الصواب غير ما في المطبوعة، وأن في الكلام تصحيفًا وسقطًا، أتممته بما يوافق المعنى الذي قاله هؤلاء، كما يتبين من كلام أبي جعفر فيما بعد.
515
(والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)، يعني لغير المنفق في سبيله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: (والله يضاعف لمن يشاء) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [العمل في غير سبيله، أو] على غير النفقة في سبيل الله. (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (والله واسع)، أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده = (٢). (عليم) من يستحق منهم الزيادة، كما: -
٦٠٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) قال: (واسع) أن يزيد من سعته = (عليم)، عالم بمن يزيده.
* * *
(١) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه سياق الكلام والتركيب.
(٢) انظر تفسير"واسع" و"عليم" فيما سلف ٢: ٥٣٧، وانظر فهارس اللغة أيضًا.
516
وقال آخرون: معنى ذلك: (والله واسع)، لتلك الأضعاف = (عليم) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم، (١). ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما"الأذى" فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه.
وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله، وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله، لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. (٢). فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "الذين يعينون المجاهدين" بالجمع/ وسياق الجمل بعده بالإفراد، وهو غير جائز.
(٢) في المطبوعة: "مما ابتغى به"، والصواب ما في المخطوطة.
517
عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه.
* * *
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٣٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم)، (١). علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم، فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ). (٢).
٦٠٣٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال للآخرين = يعني: قال الله للآخرين، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم =: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى)، قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) الآية = قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله، (٣). فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. (٤). قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة، تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا، فإنهم لا يخرجون إلا
(١) أتم الآية في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "قول معروف ومعرفة"، وهو دال على كثرة سهو الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا.
(٣) في المطبوعة: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى فقويت في سبيل الله" وهو غير مفهوم، وهو تصرف فيما كان في المخطوطة، ونصه: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في سبيل الله". واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته، وقد أشرت مرارًا لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته. والذي أثبته أشبه بما دل عليه سائر قوله.
(٤) في المطبوعة: "فهو خير من السلام"، ولا معنى له وفي المخطوطة"فنهي خير من الإسلام" وهو أيضًا بلا معنى، وأظن الصواب ما أثبت. وذلك أن زيد بن أسلم قال: "فكف عنه سلامك" فنهاه عن أن يلقي عليه السلام. فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه أنه: "نهى عن خير الإسلام"، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فالسلام خير الإسلام، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي.
518
ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. (١). فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك، ولا في أسهمك، فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه!
٦٠٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى) قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: (لهم أجرهم عند ربهم)، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و"الهاء والميم" في"لهم" عائدة على"الذين".
* * *
ومعنى قوله: (لهم أجرهم عند ربهم)، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله، ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. (٢).
* * *
وقوله: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (٣). يقول: وهم = مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا = (لا خوف عليهم) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا، ولا في أهوال القيامة، وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله = (ولا هم يحزنون) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. (٤).
* * *
(١) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف، وأن يكون صوابها"وفيها أسهم"، والذي هنا مقبول.
(٢) انظر معنى"أجر" فيما سلف ٢: ١٤٨، ٥١٣.
(٣) انظر تفسير: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف ٢: ١٤٨، ٥١٣.
(٤) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا، وفي آخره ما نصه:
"آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم"
وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا"
ثم يبدأ الجزء الخامس، وفي طرته.
" الجزء الخامس من جامع البيان في تأويل القرآن تأليف الشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري"
ثم يلي ذلك نص وقف لله تعالى، استغنينا عن إثباته هنا. ثم يفتح الجزء:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعنْ".
519
القول في تأويل قوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (قول معروف)، قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (١).. = (ومغفرة)، يعني: وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (٢). = (خير) عند الله = (من صدقة) يتصدقها عليه = (يتبعها أذى)، يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: -
٦٠٣٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
(١) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف ٣: ٣٧١، ٣٧٢ / ثم ٤: ٥٤٧، ٥٤٨ / ٥: ٧، ٤٤، ٧٦، ٩٣، ١٧٣.
(٢) انظر تفسير"المغفرة" ٢: ١٠٩، ١١٠، وفهارس اللغة.
جويبر، عن الضحاك: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: (غنيّ حليم) فإنه يعني:"والله غني" عما يتصدقون به = (حليم)، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (١).
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: -
٦٠٣٨ - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (الغني)، الذي كمل في غناه، و (الحليم)، الذي قد كمل في حلمه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (يا أيها الذين آمنوا)، صدّقوا الله ورسوله = (لا تبطلوا صدقاتكم)، يقول: لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله = (رئاء الناس)، وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، (٢). وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا
(١) انظر تفسير"حليم" فيما سلف ٥: ١١٧.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو مريد به غير الله"، وهو سهو من الناسخ، والسياق يقتضي أن تقدم"غير"، وهو نص المعنى.
521
ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم، وهو رجل صالحٌ" فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.
* * *
وأما قوله: (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)، فإن معناه: ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق، لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به حمد الناس عليه. (١). والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان (٢) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٣٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ الخولاني، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ، لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن الرجل ليخرج، (٣). فإذا أصابه من
(١) في المطبوعة: "وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه"، وهو تصرف من الطابع، وفي المخطوطة: "وفي الباطن مربيه عامله مراد به حمد الناس عليه"، وهي غير مفهومة المعنى، وبين أنه قد سقط منها"سريرة" من قوله"مربية سريرة عامله"، وهو إشارة إلى ما مر في تفسيره قبل من قوله: "فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر". فاستظهرت أن الصواب زيادة"سريرة"، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله.
(٢) أخال عليه الأمر يخيل: أشكل عليه واستبهم. وسياق الجملة بعد ذلك: "إنما هي للشيطان لا لله".
(٣) في المطبوعة: "قال: فإن الرجل"، وفي المخطوطة: "فإن إن الرجل" تصحيف والصواب ما أثبت.
522
بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه، وليس له = مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى)، حتى ختم الآية. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر = و"الهاء" في قوله: (فمثله) عائدة على"الذي" = (كمثل صفوان)، و"الصفوان" واحدٌ وجمعٌ، فمن جعله جمعًا فالواحدة"صفوانة"، (٢). بمنزلة"تمرة وتمر" و"نخلة ونخل". ومن جعله واحدًا، جمعه"صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ"، (٣). كما قال الشاعر: (٤).
* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (٥)
(١) الأثر: ٦٠٣٩ -"أبو هانئ الخولاني": هو: حميد بن هانئ المصري من ثفات التابعين، روى عن عمرو بن حريث وغيره. وروى عنه الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة ١٤٢. و"عمرو بن حريث"، هو الذي يروي عنه أهل الشام، وهو غير"عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي. وانظر ترجمته في التهذيب ٨: ١٨.
(٢) في المطبوعة: "واحد وجمع، فمن جعله جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر ما سلف في تفسير"الصفا" ٣: ٢٢٤، ٢٢٥، وقوله: جمعه صفوان" يعنى: بكسر الصاد وسكون الفاء، وهو قول الكسائي، وقد تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه. انظر القرطبي ٣: ٣١٣، وتفسير أبي حيان ٢: ٣٠٢، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم.
(٤) هو الأخيل الطائي.
(٥) سلف شرح هذا البيت وتخريجه ٣: ٢٢٤، وسقط ذكر هذا الموضع في التخريج السالف فأثبته هناك.
523
و"الصفوان" هو"الصفا"، وهي الحجارة الملس.
* * *
وقوله: (عليه تراب)، يعني: على الصفوان ترابٌ = (فأصابه) يعني: أصاب الصفوان = (وابل)، وهو المطر الشديد العظيم، كما قال أمرؤ القيس:
سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ سَاقِطُ الأكْنَافِ وَاهٍ مُنْهَمِرُ (١)
يقال منه:"وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا"، وقد:"وُبلت الأرض فهي تُوبَل".
* * *
وقوله: (فتركه صلدًا) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.
و"الصلد" من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس، (٢). كما قال رؤبة:
لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ بَرَّاقَ أَصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ (٣)
(١) ديوانه: ٩٠، وطبقات فحول الشعراء: ٧٩، وغيرهما كثير. وهو من أبيات روائع، في صفة المطر والسيل أولها:
دِيَمةٌ هَطْلاَءُ فِيهَا وَطَفٌ طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي، وَتَدِرّْ
ثم قال بعد قليل: "ساعة" أي فعلت ذلك ساعة، "ثم انتحاها" أي قصدها، والضمير فيه إلى"الشجراء" في بيت سباق. و"ساقط الأكناف"، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء. "منهمر": متتابع متدفق. واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات.
(٢) هذا البيان عن معاني"صلد"، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة.
(٣) ديوانه: ١٦٥ من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في ١: ١٢٣، ٣٠٩، ٣١٠ /٢: ٢٢٢، والضمير في"رأتني" إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و"خلق": بال. و"المموه" يقال:: وجه مموه" أي مزين بماء الشباب، ترقرق شبابه وحسنه. وقوله"خلق المموه"، بحذف"الوجه" الموصوف بذلك. يقول: قد بلي شبابي وأخلق. "أصلاد الجبين"، يعني أن جبينه قد زال شعره، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها. و"الأجله". الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه: * بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ *
فاستنكرته صاحبته، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! !.
524
ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي:"قِدْرٌ صَلود"،"وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا، ومنه قول تأبط شرًّا:
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ وَلا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ (١)
* * *
ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب، (٢). فأصابه الوابلُ من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء = يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله، اضمحلّ ذلك كله، لأنه لم يكن لله،
(١) اللسان (جلب) (عزل)، وغيرهما. ولم أجد القصيدة، ولكني وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما:
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رِيحٍ وَقِرَّةٍ وَلاَ بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ مَعْزِلِ
ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا"جلب ليل"، والظاهر أن المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في المخطوطة، ولكنى أثبت رواية المخطوطة، فإنها لا تغير وهي سليمة المعاني.
الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل، ويقال أيضًا: هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول: والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد، يقول: لست امرءًا خاليا من الخير، بل مطيفًا بالأذى، كهذا السحاب المخيل المتراكم، مخيف برعده، ويلذغ ببرده، ولا غيث معه. أما رواية اللسان وغيره، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد. وقوله: "أعزل" من"عزل الشيء يعزله" إذا نحاه جانبًا وأبعده، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل"أعزل"، فهو من صميم مادة اللغة، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد. وهذا شاهده بلا شك. أما قوله في الرواية الأخرى"معزل" فهو بمعنى ذلك أيضًا: معتزل عن الخير، أو معزول عنه. وهو مصدر ميمي من ذلك، جاء صفة، كما قالوا: "رجل عدل"، وكما قالوا"فلان شاهد مقنع" أي رضا يقنع به، مصدر ميمي من"قنع"، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه.
(٢) في المخطوطة: "عليه ثواب"، وهو تصحيف غث، ولكنه دليل على شدة إهمال الناسخ وعجلته.
525
كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب، فتركه أملسَ لا شيء عليه
= فذلك قوله: (لا يقدرون)، يعني به: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا، لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما أرادوه وطلبوه بها.
* * *
ثم أخبر تعالى ذكره أنه (لا يهدي القوم الكافرين)، يقول: لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (١).
فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند الله. (٢).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٤٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) فقرأ حتى بلغ: (على شيء مما كسبوا)، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس
(١) في المخطوطة: "ولكنه تركهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "واليوم عند الله" سقط منه "الآخر"، وهو دليل على ما أسلفت من عجلته.
526
عليه شيء، أنقى ما كان عليه. (١).
٦٠٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن) إلى قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين)، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة، يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.
٦٠٤٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى قوله: (على شيء مما كسبوا) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، (٢). ذهب الرياءُ بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى) فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء.
٦٠٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فضرب الله مثلهما جميعًا: (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.
٦٠٤٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنى أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) ليس عليه شيء، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.
٦٠٤٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
(١) في المطبوعة: "أنقى ما كان"، حذف"عليه"، كأنه استنكرها، وهي معرقة في الصواب.
أي: أنقى ما كان عليه من النقاء.
(٢) في المطبوعة: "فكذا هذا الذي ينفق"، لا أدرى لم غير ما في المخطوطة.
527
قال ابن جريج في قوله: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.
٦٠٤٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى)، فقرأ: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) حتى بلغ: (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، وقرأ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ)، فقرأ حتى بلغ: (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ). [البقرة: ٢٧٠-٢٧٢]. (١).
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿صَفْوَانٍ﴾
قد بينا معنى"الصفوان" بما فيه الكفاية، (٢). غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.
٦٠٤٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (كمثل صفوان) كمثل الصفاة.
٦٠٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (كمثل صفوان) والصفوان: الصفا.
٦٠٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
(١) ما في المخطوطة والمطبوعة: "وما أنفقتم من خير فلأنفسكم"، وهو خطأ ظاهر، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها كما أثبتها.
(٢) انظر ما سلف قريبًا ص: ٥٢٣، ٥٢٤ والمراجع في التعليق عليه.
528
٦٠٥٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما (صفوان)، فهو الحجر الذي يسمى"الصَّفاة".
٦٠٥١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
٦٠٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (صفوان) يعني الحجر.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾
قد مضى البيان عنه. (١). وهذا ذكر من قال قولنا فيه:
٦٠٥٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما وابل: فمطر شديد.
٦٠٥٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (فأصابه وابل) والوابل: المطر الشديد.
٦٠٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
٦٠٥٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾
* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك:
٦٠٥٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(١) انظر ما سلف قريبا ص: ٥٢٤.
529
السدي: (فتركه صلدًا) يقول نقيًّا.
٦٠٥٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) قال: تركها نقية ليس عليها شيء.
٦٠٥٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (فتركه صلدًا) قال: ليس عليه شيء.
٦٠٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا، أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (صلدًا) فتركه جردًا.
٦٠٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا معمر، عن قتادة: (، فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.
٦٠٦٢ - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.
* * *
530
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ومثل الذين ينفقون أموالهم) فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته = (١).
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "طلب مرضاته، وتثبيتًا يعنى بذلك وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل، والظاهر أن الناسخ لجلج في كتابته فأعاد وكرر، فحذفت"وتثبيتًا يعني بذلك" وأضفت"بذلك وتثبيتا" بعد"يعنى الثانية التي بقيت.
530
= (وتثبيتًا من أنفسهم) يعني بذلك: وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول القائل:"ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر" - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه -"أثبته تثبيتًا"، كما قال ابن رواحة:
فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (١)
* * *
وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، (٢). يقينًا منها بذلك، (٣). وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: (وتثبيتًا)، وتصديقًا = ومن قال منهم: ويقينًا = لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، (٤). إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
٦٠٦٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: تصديقًا ويقينًا.
(١) سيرة ابن هشام ٤: ١٦، وابن سعد ٣/ ٢ /٨١، والمختلف والمؤتلف للآمدي: ١٢٦ والاستيعاب ١: ٣٠٥، وطبقات فحول الشعراء: ١٨٨، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني"في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا". ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال: "وإياك فثبت الله".
(٢) في المخطوطة: "فيثبتهم في إنفاق أموالهم... "، وهو سهو من الناسخ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها. وفي المطبوعة: "فثبتهم... وصحح عزمهم"، فغير ما في المخطوطة، وجعل"صححت"، "صحح"، لم يفهم ما أراد الطبري. وانظر التعليق التالي.
(٣) في المطبوعة: "وأراهم"، ومثلها في المخطوطة، والصواب"وآراءهم" كما أثبتها. يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم وآراءهم في إنفاق أموالهم. وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري. لقولهم"ثبت فلانا في الأمر"، كما سلف منذ قليل.
(٤) "إياهم" مفعول المصدر"تثبيت"، أي أن أنفسهم ثبتتهم في الإنفاق.
531
٦٠٦٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة.
٦٠٦٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين.
٦٠٦٦ - حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: يقينًا من عند أنفسهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٦٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
٦٠٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم)، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
٦٠٦٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها.
٦٠٧٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم -يعني زكاتهم.
532
٦٠٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ: (ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم)، بمعنى:"وتثبُّتًا"، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان:"وتثبتًا من أنفسهم"; لأن المصدر من الكلام إن كان على"تفعَّلت""التفعُّل"، (١). فيقال:"تكرمت تكرمًا"، و"تكلمت تكلمًا"، وكما قال جل ثناؤه: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: ٤٧]، من قول القائل:"تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا". فكذلك قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم)، لو كان من"تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها"، لكان الكلام:"وتثبُّتًا من أنفسهم"، لا"وتثبيتًا". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) [المزمل: ٨]، ولم يقل:"تبتُّلا".
قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه:"تبتيلا" لظهور"وتبتَّل إليه"، فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه
(١) في المطبوعة: "إن كان على تفعلت"، وأثبت ما في المخطوطة، وعبارة الطبري عربية محكمة، بمعنى: لأن المصدر من الكلام الذي كان... ".
533
قيل:"تبتيلا". وذلك أن المتروك هو:"تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا". وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) [نوح: ١٧]، وقال: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) [آل عمران: ٣٧]، و"النبات": مصدر"نبت". وإنما جاز ذلك لمجيء"أنبت" قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل"نباتًا"، والمعنى:"والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا". وليس [في] قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، (١). ومعنى الكلام:"ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها"، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: (وتبتَّل إليه تبتيلا)، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم)، احتسابًا من أنفسهم.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٧٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: احتسابًا من أنفسهم. (٢).
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى"التثبيت"، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى"الاحتساب"، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به.
* * *
(١) في المطبوعة: "وليس قوله... كلامًا يجوز" بالنصب، وفي المخطوطة: "وليس قوله... كلام يجوز" بالرفع، وظاهر أن الصواب ما أثبت من زيادة: "في"، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه.
(٢) سقط من الترقيم سهوا رقم: ٦٠٧٢.
534
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدقون بها، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده = (كمثل جنة).
* * *
و"الجنة": البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن"الجنة" البستان، بما فيه الكفاية من إعادته. (١).
* * *
= (برَبْوة) والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ (٢)
(١) انظر ما سلف ١: ٣٨٤.
(٢) ديوانه: ٤٣، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير ٢١: ١٩ (بولاق)، من قصيدته البارعة المشهورة. يصف شذا صاحبته حين تقوم:
إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ
مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ
ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار: وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من"فاعل" إلى"فعل". والحزن: موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم= والكوكب: النور والزهر، يلمع كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه.
مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف.
واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول:
ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم.
والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق.
535
فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.
* * *
وفي"الربوة" لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة، وهي"رُبوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق.
و"رَبوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم. و"رِبوه" بكسر الراء، وبها قرأ -فيما ذكر- ابن عباس.
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح"الراء"، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة.
* * *
وإنما سميت"الربوة" لأنها"ربت" فغلظت وعلت، من قول القائل:"ربا هذا الشيء يربو"، إذا انتفخ فعظُم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٧٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كمثل جنة بربوة)، قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي.
536
٦٠٧٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة.
٦٠٧٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (كمثل جنة بربوة) يقولا بنشز من الأرض.
٦٠٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (كمثل جنة بربوة) والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، (١) والذي فيه الجِنان.
٦٠٧٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (بربوة)، برابية من الأرض.
٦٠٧٩ - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (كمثل جنة بربوة)، والربوة النشز من الأرض.
٦٠٨٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: (كمثل جنه بربوة)، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.
* * *
وكان آخرون يقولون: هي المستوية.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٨١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: (كمثل جنه بربوة)، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (أصابها وابل) فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب
(١) في المخطوطة: "الذي تجري فيه الأنهار"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق ما في الدر المنثور ١: ٣٣٩، ولأنه هو صواب المعنى، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر: ٦٠٨٠.
537
الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. (١).
* * *
وقوله: (فآتت أكلها ضعفين)، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.
* * *
و"الأكل": هو الشيء المأكول، وهو مثل"الرُّعْب والهُزْء"، (٢). وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على"فُعْل". وأما"الأكل" بفتح"الألف" وتسكين"الكاف"، فهو فِعْل الآكل، يقال منه:"أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة"، كما قال الشاعر: (٣).
وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام (٤)
ففتح"الألف"، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله:"ولا جَوْعة"، وإن ضُمت الألف من"الأكلة" كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة.
* * *
(١) انظر تفسير"وابل" فيما سلف قريبا ص: ٥٢٤.
(٢) في المطبوعة: "والهدء"، وأثبت ما في المخطوطة. ولم يشر الطبري إلى ضم الكاف في"الأكل" وهي قراءتنا في مصحفنا.
(٣) أبو مضرس النهدي.
(٤) حماسة الشجري: ٢٤، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي التي أثبتها: وكان في المطبوعة: "وما أكلة أكلتها"، وفي المخطوطة: "وما أكله إن أكلتها"، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع"أكلتها" مكان"نلتها"، وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته: "وما أكلته أكلتها... ". وقوله: "بغرام"، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم.
538
وأما قوله: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ) فإن"الطل"، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: -
٦٠٨٢ - حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: (فطل) ندى = عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
٦٠٨٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الطل"، فالندى.
٦٠٨٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ)، أي طشٌ.
٦٠٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (فطلّ) قال: الطل: الرذاذ من المطر، يعني: الليّن منه.
٦٠٨٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فطل) أي طشٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى، قلَّت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته، كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٠٨٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل)، يقول: كما أضعفتُ
539
ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين.
٦٠٨٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل)، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خُلْف، كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال، إمَّا وابلٌ، وإمّا طلّ.
٦٠٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.
٦٠٩٠ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله). الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (فإن لم يصيبها وابل فطل) وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى؟
قيل: يراد فيه"كان"، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل:"حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته"، بمعنى:"إلا أكن" - لا بدَّ من إضمار"كان"، لأنه خبر. (١). ومنه قول الشاعر: (٢).
وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ
وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي
فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ...................
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا (٣)
* * *
(١) هذا كله في معاني القرآن للفراء ١: ١٧٨.
(٢) زائدة بن صعصعة الفقعسي.
(٣) سلف تخريجه وبيانه في ٢: ١٦٥، ٣٥٣.
540
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: (والله بما تعملون) أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها = (بصير)، لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.
وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد. (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: (٢). (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) = (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها
(١) في المطبوعة: "بخلقه". لم يحسن قراءة المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "يعنى تعالى ذكره". لا أدرى لم غيره الطابع.
541
من كل الثمرات وأصَابه الكبر)، الآية. (١)
* * *
ومعنى قوله: (أيود أحدكم)، أيحب أحدكم، (٢). أن تكون له جنة - يعني بستانًا (٣). = (من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار)، يعني: من تحت الجنة = (وله فيها من كل الثمرات)، و"الهاء" في قوله: (له) عائدة على"أحد"، و"الهاء" و"الألف" في: (فيها) على الجنة، (وأصابه)، يعني: وأصاب أحدكم = (الكبر وله ذريه ضعفاء).
* * *
وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب = الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له = (٤). مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس -بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته = (٥). في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا (٦). من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات. (٧).
* * *
(١) يعنى أبو جعفر: أن هذه الآية، مردودة على الآية السابقة التي ساقها.
(٢) انظر تفسير"ود" فيما سلف ٢: ٤٧٠.
(٣) انظر تفسير"جنة" فيما سلف قريبا: ٥٣٥ تعليق: ١، ومراجعه.
(٤) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان... مثلا لنفقة المنافق... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة... من نخيل وأعناب... ".
(٥) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان... مثلا لنفقة المنافق... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة... من نخيل وأعناب... ".
(٦) وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان... مثلا لنفقة المنافق... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة... من نخيل وأعناب... ".
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "بعمله" والصواب ما أثبت، وسياق الجملة:
542
ثم قال جل ثناؤه: (وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء)، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر = (وله ذرية ضعفاء) صغارٌ أطفال = (١). (فأصابها) يعني: فأصاب الجنة - (إعصار فيه نار فاحترقت)، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار.
يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مُسْتَعْتَبَ له، (٢). ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.
* * *
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: (فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا).
* * *
قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي.
(١) قد مضت"ذرية" فيما سلف ٣: ١٩، ٧٣، ولم يفسرها. وذلك من اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول، وكما جاء في ترجمته.
(٢) لا مستعتب: أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله تعالى: من قولهم: "استعتبت فلانًا" أي استقلت مما فعلت، وطلبت رضاه، ورجعت عن الإساءة إليه.
543
٦٠٩١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. (١). فكذلك المنفق رياء.
٦٠٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، (له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت)، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة.
٦٠٩٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٦٠٩٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحوَّل ههنا، لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل
(١) في المخطوطة: "ريح فيها سمره" الهاء الأخيرة متصلة بالراء، ولم أجد لها وجها، والذي في المطبوعة، هو ما في الدر المنثور ١: ٣٤٠، وفي سائر الآثار الأخرى.
544
فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه.
٦٠٩٥ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل عمل السوء. (١).
٦٠٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله ﷺ فقال: فيم تَرَون أنزلت:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا:"نعلم" أو"لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. (٢).
(١) الأثر: ٦٠٩٥ -"محمد بن سليم المكي أبو عثمان". روي عن ابن أبي مليكة، قال الحافظ ابن حجر: "ولم أر له رواية عن غيره". روى عنه وكيع بن الجراح، وعبد الله بن داود الخريبي، وأبو عاصم النبيل. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أشار إليه في الفتح ٨: ١٥١ في كلامه عن الأثر: ٦٠٩٦.
(٢) الأثر: ٦٠٩٦ -رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، وأشار الحافظ في الفتح ٨: ١٥١، إلى رواية الطبري له من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج. وكان في
المطبوعة: "رحل عنى" مهملة، والصواب ما أثبت من المراجع. وانظر التعليق التالي.
545
٦٠٩٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير= قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس= قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله ﷺ فذكر نحوه= إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. (١).
٦٠٩٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها= ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد= قالا ضربت مثلا للأعمال = قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت.
يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي شيئًا، (٢) ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، (٣) كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات= قال
(١) الأثر: ٦٠٩٧ -رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٣، وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٥١ وهو مكرر الذي قبله. وسلقه الحاكم بلفظة وقال"وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(٢) في المطبوعة: "تلقاه"، وفي المخطوطة "للعال" مصحفة مضطربة الخط، وهذا صواب قراءتها.
(٣) في المخطوطة: "من كبره وصغره أن يعملوا جنته"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.
546
ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت = قال ابن جريج، وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، (١) وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة.
٦٠٩٩ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار" الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة (٢) " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله، فإنه قال: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) [سورة العنكبوت: ٤٣]، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر عياله، (٣) ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه؟
٦١٠٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ" إلى قوله:"فاحترقت" يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب="وله ذرية ضعفاء" لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول:"فاحترقت" فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ
(١) في المطبوعة: "حين أحرقت جنته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "سموم شديدة"، و"السموم" مذكر، ويؤنث، لمعنى الريح الحارة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "دق عظمه"، والصواب بالراء، وفي حديث عثمان: "كبرت سني، ورق عظمي"، وقولهم: "رق عظم فلان"، أي كبر وضعف. والرقق (بفتحتين). ضعف العظام، قال الشاعر في ناقته:
"كما وصف جل ثناؤه الجنة، بأن فيها من كل الثمرات".
خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ لم تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا
.
547
ما كان إليه؟
٦١٠١ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال: (١) "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل" إلى قوله:"فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، (٢) كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، (٣) ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، (٤) ولم يستيقن أنه ملاق ربه. (٥).
(١) في المخطوطة: "وقال قال أيوب: أيود أحدكم"، وقوله: "أيوب" لا معنى له هنا، ليس في هذا الإسناد من اسمه"أيوب"، ولو كان أيضًا، لكان سياقًا مضطربًا. وظاهر أن"أيوب" هي"أيود"، والناسخ في هذا الموضع قد اضطرب. كما سترى في التعليق التالي. وصحته ما جاء في الدر المنثور ١: ٣٤٠، كما سترى بعد.
(٢) كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا: "ذرية ضعفاء عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب"، وهو مع البياض خلط من الكلام! وأثبت ما في المطبوعة، وهو نص الأثر كما أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٤٠، ونسبه لابن جرير، وأبي حاتم. وابن كثير في التفسير ٢: ٣٨، ٣٩.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "كما ليس له قوة"، والصواب من الدر المنثور، وابن كثير.
(٤) الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة، أما المخطوطة فكانت: "من أكل أنه ووثق بما عنده" بياض. ولم أجد بقية الأثر في المراجع السالفة، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله. ولو استظهرته لقلت: "من أجل أنه كفر بلقاء ربه"، والله أعلم.
(٥) الأثر: ٦١٠١ -في الدر المنثور ١: ٣٤٠، وابن كثير ٢: ٣٨، ٣٩، كما أسلفت.
548
٦١٠٢ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أيود أحدكم أن تكون له جنة"، الآية، قال: [هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [له فيها من كل الثمرات]، والرجل [قد كبر سنه وضعف]، وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم، (١) فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت، (٢) فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، (٣) ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك؟
٦١٠٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقرأ قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى"، ثم ضرب ذلك مثلا فقال:"أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب"، حتى بلغ"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت". قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته، (٤) حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها،
(١) الذي وضعته بين الأقواس، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة فيما أرجح، وكان مكانه في المخطوطة بياض.
(٢) كان في المخطوطة: "فبعث الله عنها إعصار فيه نار"، وهو تحريف وخطأ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.
(٣) في المخطوطة: "من الكفر". وهو خطأ بين.
(٤) في المطبوعة"فما يحمل"، وفي المخطوطة"كما يحمل"، ثم فيهما جميعًا: "أن يخرج"، وهو كلام لا مفهوم له. واستظهرت قراءاتها كذلك، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس، إنما يتجمل بذلك عندهم. وهذا هو الصواب سياق الأثر. والمخطوطة كما تبين من التعليقات السالفة، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ، ومن عجلته، أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها.
549
وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها.
٦١٠٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار"، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها. (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"وأصابه الكبر"، وهو فعل ماض، فعطف به على قوله:"أيود أحدكم"؟
قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله:"أيود"، يصح أن يوضع فيه"لو" مكان"أن" فلما صلحت ب"لو" و"أن" ومعناهما جميعًا الاستقبال، استجازت العرب أن
(١) انظر ما قاله القرطبي في تفسيره ٣: ٣١٨، في رد اختيار ابن جرير في تفسيره. ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان، وفي الاستدلال.
550
يردّوا"فعل" بتأويل"لو" على"يفعل" مع"أن" (١) فلذلك قال:"فأصابها"، وهو في مذهبه بمنزلة"لو"، إذْ ضارعت"أن" في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت"أن" بجواب"لو" و"لو" بجواب"أن"، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر؟ (٢).
فإن قال: وكيف قيل ههنا:"وله ذرية ضعفاء"، وقال في [النساء: ٩]، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا) ؟
قيل: لأن"فعيلا" يجمع على"فعلاء" و"فِعال"، فيقال:"رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف.
* * *
وأما"الإعصار"، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود، تجمع"أعاصير"، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري:
أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (٣)
* * *
(١) أي: أن يردوا الفعل الماضي بتأويل"لو" على الفعل المضارع مع"أن".
(٢) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٥، وقد استوفى الباب هناك. وانظر ما سلف في جواب"لو" بالماضي من الفعل ٢: ٤٥٨ /٣: ١٨٤، ١٨٥، والتعليق هناك.
(٣) تاريخ الطبري ٦: ١٧٨، والأغاني ١٧: ١٧٨: وسيأتي في التفسير ١٥: ٥٣ مصحفًا أيضًا: "من فسق العراق المبذر". والبيت في المطبوعة والمخطوطة هنا: "من سوء العراق المنذر"، وهو كلام بلا معنى، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف ٤: ٢٩٣ وتعليق: ٢) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد:ثم هجا المنذر بن الجارود فقال:
يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى
تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ
أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ
فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ
وقوله: "من فسو العراق"، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير. والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه. وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله: "أعاصير"!!
قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود، فقال له:
وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!!
فبلغ منه ما بلغ!!، وانظر طبقات فحول الشعراء: ٢٩٨، ٢٩٩، والتعليق هناك.
551
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٠٥ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إعصار فيه نار"، ريح فيها سموم شديدةٌ.
٦١٠٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في:"إعصارٌ فيه نار"، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي تحرق.
552
٦١٠٧ - حدثنا أحمد (١) قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت"، قال: هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. (٢).
٦١٠٨ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت" التي تقتل.
٦١٠٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار.
٦١١٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"، هي ريح فيها سموم شديدٌ.
٦١١١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"إعصار فيه نار"، قال: سموم شديد.
٦١١٢ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"إعصار فيه نار"، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة.
٦١١٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه.
٦١١٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا حميد"، والصواب: "أحمد"، وهو: "أحمد بن إسحق الأهوازي"، كما سلف مئات من المرات في روايته عن أبي أحمد الزبيري، فاطلبه في الفهارس، وانظر الآتي رقم: ٦١٠٩.
(٢) في المطبوعة حذف قوله: "لا تبقي أحدًا"، وعلق عليه بقوله: "في بعض النسخ زيادة: "التي لا تضر أحدًا"، وهي في المخطوطة كذلك، ولكن الناسخ أفسد الكلمة، وصوابها كما أثبت: "لا تبقى أحدًا". وسيأتي في حديث التميمي عن عباس، وهو الحديث التالي: "التي تقتل". فهذا هذا.
553
السدي:"إعصار فيه نار فاحترقت" أما الإعصار فالريح، وأما النار فالسموم.
٦١١٥ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إعصار فيه نار"، يقول: ريح فيها سموم شديد.
* * *
وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد.
* ذكر من قال ذلك:
٦١١٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت"، فيها صِرٌّ وبرد. (١)
٦١١٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إعصار فيه نار فاحترقت"، يعني بالإعصار، ريح فيها بَرْدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ٢٦٦﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك وتعالى أمَر النفقة في سبيله، وكيف وجْهُها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها = كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرّفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حُججها، إنعامًا منه بذلك عليكم ="لعلكم تتفكرون"، يقول: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبّروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(١) الصر (بكسر الصاد). البرد الذي يضرب النبات ويحرقه.
* ذكر من قال ذلك:
٦١١٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: قال مجاهد:"لعلكم تتفكرون" قال: تطيعون.
٦١١٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون" يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه.
* * *
ويعني بقوله:"أنفقوا"، زكُّوا وتصدقوا، كما:-
٦١٢٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول: تصدَّقوا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾
يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيّب ما كسبتم بتصرُّفكم= إما بتجارة، وإما بصناعة= من الذهب والفضة.
ويعني ب"الطيبات"، الجياد، يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهبَ والفضة، الجيادَ منها دون الرديء، كما:-
555
٦١٢١ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من التجارة.
٦١٢٢ - حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
٦١٢٣ - حدثني حاتم بن بكر الضبّي، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم، عن جاهد، مثله.
٦١٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة الحلال.
٦١٢٥ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.
٦١٢٦ - حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة.
٦١٢٧ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة.
٦١٢٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٦١٢٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول: من
556
أطيب أموالكم وأنفَسِه. (١).
٦١٣٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من هذا الذهب والفضة. (٢).
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: ﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض. كما:-
٦١٣١ - حدثني عصام بن رواد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة.
٦١٣٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: النخل.
٦١٣٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: من ثمر النخل.
(١) الأثر: ٦١٢٩ -في الدر المنثور ١: ٣٤٦، وسيأتي الأثر بتمامه في رقم: ٦١٥٢ وقوله: "من أطيب أموالكم وأنفسه"، وهو صحيح في العربية، يعود ضمير المفرد، على الجمع في"أفعل"، وقد مضى ما قلنا في ذلك التعليق على الأثر: ٥٩٦٨، وإن اختلفت العبارتان وافترقتا. وانظر همع الهوامع ١: ٥٩.
(٢) في المطبوعة: حذف"هذا" لغير شيء!!.
557
٦١٣٤ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من التجارة="ومما أخرجنا لكم من الأرض"، من الثمار.
٦١٣٥ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: هذا في التمر والحب.
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا، ولا تقصدوا.
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولا تؤموا) من"أممت"، (١) وهذه من"يممت"، (٢) والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
* * *
يقال:"تأممت فلانا"، و"تيممته"، و"أممته"، بمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الأعشى:
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن (٣)
وكما:-
(١) في المطبوعة: "ولا تأمموا"، وكذلك في القرطبي، ولكن أبا حيان في تفسيره ١: ٣٢٨ قد نص على أن الطبري حكى قراءة عبد الله: "ولا تأملوا" من"أمت"، فوافق ما في المخطوطة، فأثبتها كذلك، وهي الصواب إن شاء الله.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "تيممت"، وهو سقيم، والصواب ما أثبت. وأموا المكان ويموه، بمعنى واحد، وهي على البدل، أبدلت الهمزة ياء، ولذلك كانت في مادة (أمم) من دواوين اللغة، غير الجوهري.
(٣) ديوانه: ١٦، وسيأتي في التفسير ٥: ٦٩ (بولاق). وهو من قصيدته التي أثنى فيها على قيس بن معد يكرب الكندي، وهي أول كلمة قالها له. وقد مضت منها أبيات في ١: ٣٤٥، ٣٤٦، /٣: ١٩١/٥: ٣٩٠ وامهمه: الفلاة المقفرة البعيدة، لا ماء بها ولا أنيس، والشزن والشزونة: الغلظ من الأرض.
558
٦١٣٦ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا.
٦١٣٧ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تيمموا" لا تعمدوا.
٦١٣٨ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه ب"الخبيث": الرديء، غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد.
* * *
وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف - (١) في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم- صدقة من تمره.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٣٩ - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من
(١) القنو: الكباسة، وهي العذق التام بشماريخه ورطبه، هو في التمر، بمنزله العنقود من العنب، وجمعه: أقناء. والحشف: هو من التمر ما لم ينو، فإذا يبس صلب وفسد، لا طعم له ولا لحاء ولا حلاوة.
559
الأرض" إلى قوله:"والله غني حميد"، قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز.
فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. (١).
٦١٤٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب بنحوه= إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم، فيدخل قنو الحشف= ويظن أنه جائز عنه= في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، القنو الذي قد حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. (٢).
٦١٤١ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ
(١) الأثر: ٦١٣٩ -الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، مضى في رقم ١٦٢٥: ١٨٨٣، وهو لين يتكلمون فيه. وأبوة: عمرو بن محمد، ثقة جائز الحديث. أخرجه الحاكم في المستدرك،: ٢: ٢٨٥ من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط بن نصر، وقال: "هذا حديث غريب صحيح على شرطه مسلم، ولم يخرجاه"، وافقه الذهبى. وذكره ابن كثير في تفسير ٢: ٤٠، ٤١ ونسبه للحاكم، وأنه قال: "صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه" فاختلف نص كلام الحاكم.
وسيأتي تمامه برقم: ٦١٥٩، ٦١٦٧.
قوله: "جذاذ النخل"بالذال هنا وفي المستدرك. وجذ النخل جذاذا، صرمه. والأشهر فيه بالدال المهملة: "جد النخل يجده جدادا"، صرمه وقطف ثمره. والحيطان جمع حائط: وهو بستان النخل يكون عليه حائط، فإذا لم يكن عليه حائط. فهو ضاحية.
وقوله: "أقناء البسر" الأقناء جمع قنو، وقد سلف في التعليق الماضي. والبسر: التمر قبل أن يرطب، سمى كذلك لغضاضته، واحدته بسرة، ثم هو بعد البسر، رطب، ثم تمر.
(٢) الأثر: ٦١٤٠ -هذا إسناد آخر للخبر السالف وسيأتي تمامه برقم: ٦١٦٠ وحشف التمر: صار حشفا. وقد مضى تفسيره في التعليق ص: ٥٥٩ رقم: ١. وقوله: "جائز عنه"، أي سائغ مجزي عنه من قولهم: "جاز جوازا"، وأجاز له الشيء وجوزه: إذا سوغ له ما صنعه وأمضاه. وهو تعبير نادر لم تقيده كتب اللغة، ولكنه عربي معرق.
560
تمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" الآية. (١).
٦١٤٢ - حدثني عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألت عليا عن قول الله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه، (٢) فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
٦١٤٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله ﷺ أن يؤخذ في الصدقة. (٣).
(١) الأثر: ٦١٤١ -رواه البيهقي في السنن ٤: ١٣٦ من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن السدي بغير هذا اللفظ، وأتم منه.
(٢) صرم النخل والشجر يصرمه صرما وصراما: قطع ثمرها واجتناها، مثل الجذاذ والجداد فيما سلف في التعليقات ص: ٥٦٠.
(٣) الأثر: ٦١٤٣ -عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أبو مالك المصري. روي عن الزهري، ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني، وروى عنه ابن عجلان، وهو من أقرانه، وموسى بن سلمة، وابن وهب، وغيرهم من المصريين. قال النسائي، "ليس به بأس"، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ١٤٨، مترجم في التهذيب. وهذا الأثر روته النسائي، عن يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن عبد الجليلي بن حميد، في السنن ٥: ٤٣، وآخره"... أن تؤخذ الصدقة الرذالة". وروي من طرق أخرى في سنن أبي داود ٢: ١٤٩ رقم: ١٦٠٧، والحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٤ من طريق سفيان ابن حسين عن الزهري، ومن طريق سليمان بن كثير عن الزهري وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن ٤: ١٣٦، وانظر تفسير ابن كثير ٢: ٤٢، ٤٣.
الجعرور (بضم الجيم). ضرب من التمر صغار لا خير فيه. واللون: نوع من النخل، قيل: هو الدقل، وقيل: النخل كله ما خلا البرني والعجوة، تسميه أهل المدينة"الألوان". وابن حبيق: رجل نسب إليه هذا النخل الرديء، فقيل: لون الحبيق. وتمره رديء أغبر صغير، مع طول فيه.
561
٦١٤٤ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: كانوا يتصدقون - يعني من النخل- بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.
٦١٤٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" إلى قوله:"واعلموا أن الله غني حميد"، ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به، ويخلط فيه من الحشف، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.
٦١٤٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، (١) ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه.
٦١٤٧ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنزلت:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
٦١٤٨ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: في الأقناء التي تعلق، (٢) فرأى فيها حشفا، فقال:
(١) رذالة كل شيء: أردؤه حين ينتقى جيده، ويبقي رديئه. وهو من رذالة الناس ورذالهم. (بضم الراء فيها جميعا).
(٢) قوله: "التي تعلق" مكانها بياض في المخطوطة. وقوله بعد: "فرأى فيها حشفا"، أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
562
ما هذا؟ = قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ بئسما علق هذا!! فنزلت:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، (١).
وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٤٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد - وسألته عن قول الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، - قال: الخبيث: الحرام، لا تتيممه تنفق منه، فإن الله عز وجل لا يقبله.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [عنه] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، [لصحة إسناده]، واتفاق أهل التأويل في ذلك= (٢)
دون الذي قاله ابن زيد. (٣).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم، و"الهاء" في قوله:"بآخذيه" من ذكر الخبيث="إلا أن تغمضوا فيه"، يعني: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "فيه تنفقون"، وهو خطأ بين.
(٢) الزيادة بين الأقواس لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (عنه) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة.
أما الزيادة الثانية، فمكانها بياض في المخطوطة، فأغفله الطابع وساق الكلام سياقا واحدا
(٣) في المخطوطة: "قاله ابن" وبعد ذلك بياض. والذي في المطبوعة هو الصواب.
563
يقال منه:"أغمض فلان لفلان عن بعض حقه، فهو يغمض، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون بالإغماض (١)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٥٠ - حدثنا عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليا عنه فقال:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.
٦١٥١ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. (٢).
(١) ديوانه: ٨٦، من قصيدة مجد فيها قومه، وقبله::
إننا معشر شمائلنا الصبر، إذا الخوف مال بالأحفاض
نصر للذليل في ندوة الحي، مرائيب للثأي المنهاض
من يرم جمعهم يجدهم مر اجيح حماة للعزل الأحراض
الأحفاض: الإبل الصغار الضعاف، ويعنى الضعاف من الناس، لا يصبرون في حرب. مرائيب: من الرأب، وهو الإصلاح، مصلحون. والثأى: الفساد. والمنهاض: الذي فسد بعد صلاح فلا يرجى إصلاح إلا بمشقة. مراجيح: حلماء لا يستخفهم شيء. والأحراض: الضعاف الذين لا يقاتلون. والإغماض: التغاضي والمساهلة. يقول نحن أهل بأس وسطوة، فما أصاب منا أحد فنجا من انتقامنا، ولسنا كأقوام يرضون بالضيم، فيتغاضون عن إدراك تأثرهم ممن نال منهم.
(٢) الأثر: ٦١٥١ -هو من تمام الأثر: ٦١٤١.
564
٦١٥٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله:"إلا أن تغمضوا فيه"، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ (١).
وهو قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). [سورة آل عمران: ٩٢].
٦١٥٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل.
٦١٥٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.
٦١٥٥ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول: لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟
٦١٥٦ - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"
(١) في المطبوعة: "وأنفسها" وأثبت ما في المخطوطة. وهذا الأثر بنصه وتمامه في الدر المنثور ١: ٣٤٦، وانظر التعليق على الأثر: ٦١٢٩، وقوله: "وأنفسه" بضمير الإفراد.
565
إلى قوله:"إلا أن تغمضوا فيه" قال: كانوا -حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة- يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك وقال:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"، يقول:"لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه= فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم= فيأخذ شيئا، وهو مغمض عليه، أنقص من حقه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله -بسعر الجيد، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٥٧ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن الحسن:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو وجدتموه في السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه.
٦١٥٨ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه.
* * *
وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم، إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء منكم ممن أهداه لكم.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٥٩ - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (١).
(١) الأثر: ٦١٥٩ -هو تمام الأثر السالف: ٦١٣٩.
566
٦١٦٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء نحوه= إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (١).
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٦١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل:"ولستم بآخذيه"، يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم="إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: أغمض لك من حقي.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٦٢ - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" -قال: يقول: لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم = قال: وفي كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه" = وهو يعلم أنه حرام باطل.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم، وفرضها عليهم فيها، (٢).
فصار ما فرض من ذلك في أموالهم، حقا لأهل سهمان الصدقة. ثم أمرهم تعالى ذكره أن
(١) الأثر: ٦١٦٠ -هو تمام الأثر السالف: ٦١٤٠.
(٢) "وفرضها عليهم" أي الزكاة. "فيها": في أموالهم.
567
يخرجوا من الطيب- وهو الجيد من أموالهم- الطيب. (١) وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها.
فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه، بإعطائه -بمقدار حقه منه- من غيره مما هو أردأ منه أو أخس. (٢) فكذلك المزكي ماله، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان= مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق، فصاروا فيه شركاء= (٣) من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم.
فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، (٤) ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم.
فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة، فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال
(١) قوله: "الطيب" الثانية، مفعول"يخرجوا".
(٢) في المطبوعة"أو أحسن"، وهو فاسد كل الفساد. والصواب من المخطوطة.
(٣) سياق الجملة: (٤) في المطبوعة: "وتمنعونهم الواجب... "، والذي في المخطوطة صواب، معطوف على: "ولا تيمموا الخبيث".
568
وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن= فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته، أو لعظم خطره= وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل= من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. (١).
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٦٣ - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: ذلك في الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
٦١٦٤ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
٦١٦٥ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه"، فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة.
(١) سياق هذه الجملة: ربما كان أعم نفعا لكثرته... وأحسن موقعا من المسكين... من الجيد لقلته...
569
٦١٦٦ - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التمرة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، (١) وإنما أمركم بها، وفرضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، (٢).
ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم.
* * *
ويعني بقوله:"حميد"، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله. كما:-
٦١٦٧ - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قوله:"والله غني حميد" عن صدقاتكم. (٣).
* * *
(١) انظر تفسير"غنى"فيما سلف من هذا الجزء ٥: ٥٢١.
(٢) العائل: الفقير. عال الرجل يعيل علية: افتقر.
(٣) الأثر: ٦١٦٧ -هو تمام الأثر السالف: ٦١٣٩.
570
القول في تأويل قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"الشيطان يعدكم"، أيها الناس- بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم (١) - أن تفتقروا="ويأمركم بالفحشاء"، يعني: ويأمركم بمعاصي الله عز وجل، وترك طاعته= (٢) "والله يعدكم مغفرة منه" (٣) يعني أن الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم، بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون="وفضلا" يعني: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. (٤).
كما:-
٦١٦٨ - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اثنان من الله، واثنان من الشيطان:"الشيطان يعدكم الفقر"، يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه= ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه"، على هذه المعاصي="وفضلا" في الرزق.
٦١٦٩ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"، يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم.
٦١٧٠ - حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب،
(١) قوله: "بالصدقة... "، أي بسبب الصدقة، وهي جملة فاصلة، والسياق"يعدكم... أن تفتقروا"، كما هو بين.
(٢) انظر ما سلف في تفسير"الفحشاء" ٣: ٣٠٢.
(٣) انظر تفسير"المغفرة"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف ٢: ٣٤٤ /ثم ٥: ١٦٤.
571
عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء". (١)
٦١٧١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان، قال: حدثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: إن للإنسان من الملك لمة، ومن الشيطان لمة. فاللمة من الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، واللمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"= قال عمرو: وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. (٢).
٦١٧٢ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص= أو عن مرة= قال: قال عبد الله: ألا إن للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وذلكم بأن الله يقول: (٣).
"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم"، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. (٤).
(١) الحديث: ٦١٧٠ -أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الكوفي الحافظ. سبق توثيقه: ٢٠١٥٨.
عطاء بن السائب: مضى في: ١٥٨، ٤٤٣٣ أنه تغير في آخر عمره، وأن من سمع منه قديما فحديثه صحيح. والظاهر من مجموع كلامهم أن اختلاطه كان حين قدم البصرة. قال أبو حاتم: "في حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة، لأنه قدم عليهم في آخر عمره". وعطاء كوفي، والراوي عنه هنا أبو الأحوص كوفي أيضًا. فالظاهر أنه سمع منه قبل الاختلاط.
مرة: هو مرة الطيب، وهو ابن شراحيل الهمداني الكوفي. مضت ترجمته: ٢٥٢١.
عبد الله: هو ابن مسعود.
والحديث رواه الترمذي ٤: ٧٧ -٧٨، عن هناد -وهو ابن السري، شيخ الطبري هنا -بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن غريب [وفي بعض نسخه: حسن صحيح غريب]. وهو حديث أبي الأحوص. لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص".
وذكره ابن كثير ٢: ٤٤، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة، عن هناد. ووقع في إسناده هناك تخليط من الناسخين. ثم أشار إلى بعض رواياته مرفوعا وموقوفا.
وذكر ابن كثير أنه رواه أيضًا النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن هناد بن السري. وأنه رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلي الموصلي، عن هناد. وكتاب التفسير في النسائي إنما هو في السنن الكبرى.
وذكره السيوطي ١: ٣٤٨، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي بنحوه، موقونا على ابن مسعود: ٦١٧١، ٦١٧٢، ٦١٧٤، ٦١٧٦، من رواية عطاء، عن مرة، عن مسعود. ويأتي موقونا أيضًا: ٦١٧٣، من رواية الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود. و: ٦١٧٥، من رواية المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن ابن مسعود.
وكأن الترمذي -وتبعه ابن كثير -يريدان الإشارة إلى تعليل هذا الإسناد المرفوع، برواية الحديث موقوفا. ولكن هذه علة غير قادحة بعد صحة الإسناد. فإن الرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة.
وأيضًا: فإن هذا الحديث مما يعلم بالرأي، ولا يدخله القياس، فلا يعلم إلا بالوحي من المعصوم صلى الله عليه وسلم. فالروايات الموقوفة لفظا، هي مرفوعة حكما.
(٢) الحديث: ٦١٧١ -الحكم بن بشير بن سلمان: مضت ترجمته في: ١٤٩٧. ووقع اسم جده في المطبوعة هنا"سليمان"، وهو خطأ.
عمرو: هو ابن قيس الملائي. مضت ترجمته في: ٨٨٦.
والحديث في معنى ما قبله. وهو هنا موقوف لفظا، ولكنه مرفوع حكما، كما ذكرنا. ولكن قول عمرو بن قيس في آخره: "وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال... " -يكون بلاغا منقطعا في هذا الإسناد، وأن كان صحيحا في ذاته بالأسانيد الأخر.
(٣) في المطبوعة: "وذلكم بأن الله... " بزيادة واو، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) الحديث: ٦١٧٢ -أبو الأحوص -شيخ عطاء بن السائب: هو عوف بن مالك ابن نضلة، وهو تابعي ثقة معروف، وثقه ابن معين وغيره.
وتردد عطاء بن السائب في أنه عن"أبي الأحوص" هذا، أو عن"مرة الطيب" -لا يؤثر في صحة الحديث، فأنه انتقال من ثقة إلى ثقة. ولعله مما أخطأ فيه عطاء، لأن ابن علية بصري، فيكون ممن سمع منه بعد تغيره. وقد نص على ذلك الدار قطي، كما في ترجمة عطاء في التهذيب.
ولكن ذكر ابن كثير ٢: ٤٤ أنه رواه"مسعر، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود. فجعله من قوله. فهذا يثبت حفظ رواية عطاء إياه عن أبي الأحوص أيضًا. لأن مسعر بن كدام كوفي قديم، من طبقة شعبة والثوري، فهو ممن سمع من عطاء قبل تغيره.
ولم يشر ابن كثير إلى شيء من الروايات الموقوفة لهذا الحديث، إلا إلى رواية مسعر وحده. والروايات الموقوفة بين يديه في الطبري ستة كما ترى.
572
٦١٧٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء"، قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله؛ ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله. (١).
٦١٧٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاده بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. (٢) فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا هذه الآية:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم". (٣).
٦١٧٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن فطر، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد الله، بنحوه. (٤).
(١) الحديث: ٦١٧٣ -وهذا إسناد صحيح آخر للحديث، من وجه آخر، يؤيد رواية عطاء بن السائب. وهو وإن كان موقوفا لفظا فهو مرفوع حكما، كما قلنا من قبل.
(٢) في المطبوعة: "إيعاد بالخير... إيعاد بالشر" بغير إضافتها إلى الضمير. وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. وصواب أيضًا يقرآا جميعا"ايعادةٌ"، على معنى المرة من"الإيعاد".
(٣) الحديث: ٦١٧٤ -وهذا إسناد صحيح. لأن حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل تغيره، كما نص عليه يعقوب بن سفيان وابن الجارود، في نقل التهذيب عنهما ٧: ٢٠٧.
(٤) الحديث: ٦١٧٥ -فطر -بكسر الفاء وسكون الطاء المهملة وآخره راء: هو ابن خليفة الكوفي، وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما.
المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي: تابعي ثقة، مضى في: ١٢٨.
عامر بن عبدة -بفتح العين المهملة والباء الموحدة -البجلي، أبو إياس الكوفي: تابعي ثقة، والكني للدولابي ١: ١١٥، والمشتبه للذهبي، ص: ٣٣٩.
وهذا إسناد ثالث للحديث صحيح، من وجه آخر، يؤيد روايات عطاء عن مرة، وأبي الأحوص عن ابن مسعود، ورواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود.
574
٦١٧٦ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن للشيطان لمة، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا". (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله واسع" الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه= (٢) "عليم" بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم.
* * *
(١) الحديث: ٦١٧٦ -وهذا إسناد حسن، لأن سماع جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي -من عطاء كان بعد تغيره ولكنه يرتفع إلى درجة الصحة بالمتابعات السابقة الصحيحة.
(٢) انظر تفسير"واسع عليم"فيما سلف ٢: ٥٣٧ /ثم ٥: ٥١٦.
575
القول في تأويل قوله: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا.
* * *
واختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم،"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، هي: القرآن والفقه به.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٧٧ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
٦١٧٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن.
٦١٧٩ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، والحكمة: الفقه في القرآن.
٦١٨٠ - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية:
576
"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، قال: الكتاب والفهم به. (١).
٦١٨١ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء" الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه.
٦١٨٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى"الحكمة"، الإصابة في القول والفعل.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٨٣ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال:"ومن يؤت الحكمة"، قال: الإصابة.
٦١٨٤ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: يؤتي إصابته من يشاء.
٦١٨٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: الكتاب، يؤتي إصابته من يشاء.
* * *
(١) الأثر: ٦١٨٠ -"محمد بن عبد الله الهلالي" هو: محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي، أبو مسعود البصري، روي عن جده عبيد بن عقيل، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمرو ابن عاصم الكلابى وغيرهم، وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. قال النسائي: "لا بأس به". وقال مسلمة: "ثقة". "مسلم بن إبراهيم" الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري الحافظ. قال ابن معين: "ثقة مأمون". وكان يقول: "ما أتيت حلالا ولا حراما قط"، وقال أبو حاتم: "كان لا يحتاج إليه". وكان من المتقنين. مات سنة ٢٢٢. "مهدي بن ميمون" الأزدي المعولي. كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ١٧١. "شعيب بن الحبحاب" و"المعولي" بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو.
وكان في المطبوعة: "والفهم فيه". وهي صواب في المعنى، جيد في العربية وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب جيد.
577
وقال آخرون: هو العلم بالدين.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٨٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"يؤتي الحكمة من يشاء" العقل في الدين، وقرأ:"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".
٦١٨٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل.
٦١٨٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له.
* * *
وقال آخرون:"الحكمة" الفهم.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٩٠ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. (١).
* * *
وقال آخرون: هي الخشية.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٩١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة" الآية، قال:"الحكمة" الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). [سورة فاطر: ٢٨].
* * *
(١) الأثر: ٦١٩٠ -"أبو حمزة" هو أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي، وهو صاحب إبراهيم النخعي. قال البخاري: "ليس بذاك". وقال: "ضعيف ذاهب الحديث". قال أبو موسى: "ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن: سفيان، عن أبي حمزة، قط". وقال ابن عدي: "وأحاديثه خاصة عن إبراهيم، مما لا يتابع عليه". مترجم في التهذيب.
578
وقال آخرون: هي النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٩٢ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة"، الآية، قال: الحكمة: هي النبوة.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"الحكمة"- وأنها مأخوذة من"الحكم" وفصل القضاء، وأنها الإصابة - بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. (١).
* * *
وإذا كان ذلك كذلك معناه، (٢) كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما، (٣).
وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور،"والنبوة" بعض معاني"الحكمة".
* * *
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا.
* * *
(١) انظر تفسير"الحكمة"فيما سلف ٣: ٨٧، ٨٨، ٢١١ /ثم ٥: ١٥، ١٦، ٣٧١.
(٢) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك... " بالفاء، ولا معنى لتغيير ما هو في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "فهما خاشيا... ". وفي المخطوطة: "ففهما"، والصواب قراءتها كما أثبت، بدليل معناه الذي أراده، من إدخال الأنبياء في معنى ذلك، وبدليل قوله بعد: "مفهمون... ".
579
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (٢٦٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات = التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به غيرهم= (١) فيها وفي غيرها من آي كتابه= (٢) فيذكر وعده ووعيده فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به="إلا أولوا الألباب"، يعني: إلا أولوا العقول، الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. (٣).
فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول.
* * *
(١) في المطبوعة: "بما وعظ به غيرهم"، وهو غير مستقيم تمام الاستقامة في السياق. وفي المخطوطة: "بما وعظهم به غيرهم"، والصواب أن تزاد"الواو" قبل"غيرهم"، ليستقيم السياق.
(٢) سياق الجملة: "وما يتعظ بما وعظه به ربه في هذه الآيات... فيذكر وعده ووعيده... " وما بينهما فصل.
(٣) انظر تفسير"الألباب"فيما سلف ٣: ٣٨٣ / ٤: ١٦٢.
580
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأي نفقة أنفقتم- يعني أي صدقة تصدقتم- (١) أو أي نذر نذرتم= يعني"بالنذر"، ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه: من صدقة أو عمل خير="فإن الله يعلمه"،
(١) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف ٥: ٥٥٥.
580
أي أن جميع ذلك بعلم الله، (١) لا يعزب عنه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك.
فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف، ومن كانت نفقته وصدقته رئاء الناس ونذوره للشيطان، جازاه بالذي أوعده، من العقاب وأليم العذاب، كالذي:-
٦١٩٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه"، ويحصيه.
٦١٩٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال:"وما للظالمين من أنصار"، يعني: وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته="من أنصار"، وهم جمع"نصير"، كما"الأشراف" جمع"شريف". (٢) ويعني بقوله:"من أنصار"، من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش، ولا بفدية.
* * *
وقد دللنا على أن"الظالم" هو الواضع للشيء في غير موضعه. (٣).
* * *
وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته، ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه، ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه.
* * *
(١) في المخطوطة: "فإن الله يعلم"، والصواب هنا ما في المطبوعة. ثم في المطبوعة: "جميع ذلك بعلم الله"، وأثبت الصواب من المخطوطة.
(٢) انظر معنى"النصر" و"النصير" فيما سلف ٢: ٤٨٩، ٥٦٤.
(٣) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف ١: ٥٢٣، ٥٢٤ /٢: ٣٦٩، ٥١٩/ ٤: ٥٨٤، وغيرها من المواضع، اطلبها في فهرس اللغة.
581
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال:"فإن الله يعلمه"، ولم يقل:"يعلمهما"، وقد ذكر النذر والنفقة.
قيل: إنما قال:"فإن الله يعلمه"، لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية. (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن تبدوا الصدقات"، إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه="فنعما هي"، يقول: فنعم الشيء هي="وإن تخفوها"، يقول: وإن تستروها فلم تعلنوها= (٢) "وتؤتوها الفقراء"، يعني: وتعطوها الفقراء في السر= (٣) "فهو خير لكم"، يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوع، كما:-
٦١٩٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
٦١٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: كل مقبول إذا كانت النية صادقة،
(١) الكناية، والمكني: هو الضمير، في اصطلاح الكوفيين والبغداديين وغيرهم.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن تعلنوها"، وهو فاسد السياق، والصواب ما أثبت،
(٣) انظر معنى"الإيتاء"، في مادة "أتى" من فهارس اللغة فيما سلف.
582
والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
٦١٩٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة: علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. (١).
٦١٩٨ - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: يقول: هو سوى الزكاة. (٢).
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع، فإخفاؤه أفضل من علانيته.
* ذكر من قال ذلك:
٦١٩٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: (٣) " إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، في الصدقة على اليهود والنصارى. (٤).
(١) في المطبوعة: "في الأشياء كلها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر ٦١٩٨ -مضى رجال هذا الإسناد برقم: ٥٠٠٠، ٥٠٠٩، ويأتي برقم: ٦٢٠٠.
(٣) في المطبوعة: "هذه آية" وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(٤) الأثر: ٦١٩٩ -"عبد الرحمن بن شريح بن عبد الله بن محمود بن المعافري"، أبو شريح الاسكندراني. قال أحمد: ثقة: توفي بالإسكندرية سنة ١٦٧، وكانت له عبادة وفضل.
مترجم في التهذيب.
583
٦٢٠٠ - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر= قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية= يعني الزكاة.
* * *
قال أبو جعفر: ولم يخصص الله من قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي" [شيئا دون شيء]، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، (١) فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: (وتكفر عنكم) بالتاء.
ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم.
* * *
وقرأ آخرون: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) بالياء، بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم.
* * *
(١) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة، فزدت ما بين القوسين لتستقيم العبارة بعض الاستقامة، ولا أشك أنه كان في الكلام سقط من ناسخ، فأتمته بأقل الألفاظ دلالة على المعنى.
وقد مضى كثير من سهو الناسخ في القسم من التفسير، وسيأتي في هذا القسم من التفسير، وسيأتي بعد قليل دليل على ذلك في رقم: ٦٢٠٩.
584
وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة، (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم= بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك، فهو مجزوم على موضع"الفاء" في قوله:"فهو خير لكم". لأن"الفاء" هنالك حلت محل جواب الجزاء.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع" الفاء"، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم تجويزه؟ (١).
قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير- أعني تكفير الله من سيئات المصدق= لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم، مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لأن ما بعد"الفاء" في جواب الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه، في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة، اخترنا جزم"نكفر" عطفا به على موضع
(١) في المطبوعة: "تجويز" بغير إضافة، وأثبت ما في المخطوطة.
585
الفاء من قوله:"فهو خير لكم" وقراءته بالنون. (١).
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دخول"من" في قوله:"ونكفر عنكم من سيئاتكم" قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: معنى"من" الإسقاط من هذا الموضع، (٢) ويتأول معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بما تعملون" في صدقاتكم، من إخفائها، وإعلان وإسرار بها وجهار، (٣) وفي غير ذلك من أعمالكم="خبير" يعني بذلك ذو خبرة وعلم، (٤) لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله، حتى يوفيهم ثواب جميعه، وجزاء قليله وكثيره.
* * *
(١) هذا من دقيق نظر أبي جعفر في معاني التأويل، ووجوده اختيار القراءات. ولو قد وصلنا كتابه في القراءات، الذي ذكره في الجزء الأول: ١٤٨، وذكر فيه اختياره من القراءة، والعلل الموجبة صحة ما اختاره - لجاءنا كتاب لطيف المداخل والمخارج، فيما نستظهر.
(٢) "الإسقاط" يعنى به: الزيادة، والحذف، وهو الذي يسمى أيضًا"صلة"، كما مضى مرارا، واطلبه في فهرس المصطلحات.
(٣) في المطبوعة: "وإجهار"، والصواب من المخطوطة.
(٤) انظر تفسير"خبير"فيما سلف ١: ٤٩٦ /ثم ٥: ٩٤.
586
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة، كما:-
٦٢٠١ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كان النبي ﷺ لا يتصدق على المشركين، فنزلت:"وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله"، فتصدق عليهم.
٦٢٠٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء". (١).
٦٢٠٣ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل،
(١) الأثر: ٦٢٠٢ -"جعفر بن إياس"، هو ابن أبي وحشية اليشكري، أبو بشر الواسطي. ثقة، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير. واختلف في سنة وفاته بين سنة ١٢٣ وسنة: ١٣١. مترجم في التهذيب. وروي الأثر ابن كثير في تفسيره ٢: ٤٩ عن أبي عبد الرحمن النسائي بإسناده، وقال: وكذا رواه أبو حذيفة، وابن المبارك، وأبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحضرمي، عن سفيان -وهو الثوري - به". ولم ينسبه لأبي جعفر، وهذا دليل على ما قدمته في تصدير الأجزاء السالفة أن ابن كثير وغيره، قد أقلوا النقل عن أبي جعفر بعد الجزء الأول من تفسيره.
"رضخ له من ماله يرضخ رضخا، ورضخ له من ماله رضيخة": أعطاه عطية مقاربة، بين القليل والكثير.
587
عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين، حتى نزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء".
٦٢٠٤ - حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" فرخص لهم.
٦٢٠٥ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت:"ليس عليك هداهم... " الآية.
٦٢٠٦ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل الله في ذلك القرآن:"ليس عليك هداهم".
٦٢٠٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء"، قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج، فلا يتصدق عليه، يقول: ليس من أهل ديني!! فأنزل الله عز وجل:"ليس عليك هداهم" الآية.
٦٢٠٨ - حدثني موسى، قال: (١) حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
(١) الأثر: ٦٢٠٨ -في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد، قال حدثنا عمرو... "، والصواب"موسى" وهو موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد" وهو إسناد دائر من أول التفسير. وسيأتي هذا الأثر نفسه، وتتمته برقم: ٦٢١١، وبإسناده على صوابه. وقد مضى بيان أخي السيد أحمد عن هذا الإسناد في الأثر رقم: ١٦٨.
588
السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين، وأما"النفقة" فبين أهلها.
٦٢٠٩ - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدقون [على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم. فنزلت: هذه الآية، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام]. (١).
* * *
..........................................................................
..........................................................................
* * *
كما:-
٦٢١٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"، قال: هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك. (٢).
* * *
(١) الأثر: ٦٢٠٩ -كان الكلام مبتورا في الموضع من المخطوطة والمطبوعة، ولكن الناسخ ساقه سياقا واحدا هكذا: "كانوا يتصدقون، كما حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب... " وقد أشرت في ص: ٥٨٤، التعليق: وغيره من تعليقاتي السالفة، إلى ما وقع فيه الناسخ من الغفلة والسهو.
وقد زدت ما بين القوسين مما رواه القرطبي في تفسيره ٣: ٣٣٧، قال روي سعيد بن جبير مرسلا عن النبي ﷺ في سبب نزول هذه الآية: "أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة... " إلى آخر ما نقلت. فرجحت أن هذا الأثر الساقط من هذا الموضع، فأثبته بنصه من القرطبي، ولكن بقى صدر الكلام الآتي مبتورا، فوضعت نقطا مكان هذا البتر.
(٢) الأثر: ٦٢١٠ -ما قبل هذا الأثر بتر لا أستطيع أن أقدر مبلغه. وأخرج الأثر السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٥٧ -٣٥٨.
589
القول في تأويل قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: أما قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله.
"واللام" التي في"الفقراء" مردودة على موضع"اللام" في"فلأنفسكم" كأنه قال:"وما تنفقوا من خير" - يعني به: وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما اعترض في الكلام بقوله:"فلأنفسكم"، فأدخل"الفاء" التي هي جواب الجزاء فيه، تركت إعادتها في قوله:"للفقراء"، إذ كان الكلام مفهوما معناه، كما:-
٦٢١١ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما:"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين. وأما"النفقة" فبين أهلها، فقال:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله". (١).
* * *
وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء.
* ذكر من قال ذلك:
(١) الأثر: ٦٢١١- انظر الأثر السالف رقم: ٦٢٠٨ والتعليق عليه.
590
٦٢١٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم.
٦٢١٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة.
٦٢١٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدى:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: فقراء المهاجرين.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا. (١).
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى"الإحصار"، تصيير الرجل المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه، وغير ذلك من علله، إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. (٢).
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، (٣).
فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
(١) التصرف: الكسب. يقال "فلان يصرف لعياله، ويتصرف لهم، ويصطرف"، أي يكتسب لهم. وهو من الصرف والتصرف: وهو التقلب والحيلة.
(٢) انظر ما سلف ٤: ٢١ -٢٦.
(٣) في المخطوطة: "وقال: اختلف أهل التأويل... ". وهما سواء.
591
٦٢١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو.
٦٢١٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: كانت الأرض كلُّها كفرًا، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كُفر= وقيل: كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عز وجل:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، كانوا ههنا في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرُّف.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢١٧ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، حصرهم المشركون في المدينة.
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه"أحصِروا"، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا -وهم في سبيل الله- أنفسَهم، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم.
وإنما يقال لمن حبسه العدوّ:"حصره العدوّ"، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ، قيل:"أحصره خوفُ العدّو". (١).
* * *
(١) انظر تفضيل ذلك فيما سلف ٤: ٢١ -٢٦.
592
القول في تأويل قوله: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، (١) فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم. كما:-
٦٢١٨ - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض" حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارةً.
٦٢١٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، يعني التجارة.
٦٢٢٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك:"يحسبهم الجاهل" بأمرهم وحالهم="أغنياء" من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما:-
٦٢٢١ - حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
(١) في المخطوطة: "المكاسر"، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ وعجلته، كما أسلفت مرارًا كثيرة.
593
قوله:"يحسبهم الجاهل أغنياء"، يقول: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. (١).
* * *
ويعني بقوله:"منَ التعفف"، من تَرْك مسألة الناس.
* * *
وهو"التفعُّل" من"العفة" عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما قال رؤبة:
* فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* (٢)
يعني بَرئ وتجنَّبَ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"تعرفهم" يا محمد="بسيماهم"، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [سورة الفتح: ٢٩]، هذه لغة قريش. ومن العرب من يقول:"بسيمائهم" فيمدها.
وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون:"بسيميائهم"; ومن ذلك قول الشاعر: (٣).
(١) الأثر: ٦٢٢١ -كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة: "كما حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد... " أسقط الناسخ من الإسناد"حدثنا بشر قال"، كما زدته، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: ٦٢٠٦.
(٢) مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في ٥: ١١٠، ولم يذكر هناك مجيء ذكره في هذا الموضع من التفسير، فقيده هناك.
(٣) هو ابن عنقاء الفزاري، وعنقاء أمه، وقد اختلف في اسمه، فقال القالي في أماليه ١: ٢٣٧: "أسيد"، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف: ١٥٩، وقال المرزباني في معجم الشعراء: "فيس بن بجرة" (بالجيم)، أو"عبد قيس بن بجرة"، وفي النقائض: ١٠٦"عبد قيس ابن بحرة" بالحاء الساكنة وفتح الباء، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي: ٥٤٣، وغيره العلامة الراجكوتي"بجرة" بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة"قيس بن بجرة" وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة. وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في شرح الكامل ١: ١٠٨ أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو. وهذا كاف في تعيين الاختلاف. وابن عنقاء، عاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام كبيرًا، وأسلم.
594
أن يعطى أهل السهمان من الخبيث الرديء غيره.
غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (١)
* * *
(١) يأتي في التفسير ٤: ٥٥ /٨: ١٤١ (بولاق) والأغاني ١٧: ١١٧، الكامل ١: ١٤، المؤلف والمختلف، ومعجم الشعراء: ١٥٩، ٣٢٣، أمالى القالي ١: ٢٣٧، الحماسة ٤: ٦٨، وسمط اللآليء: ٥٤٣، وغيرها كثير. من أبيات جياد في قصة، ذكرها القالي في أماليه. وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا، فطال عمره، ونكبه دهره، فاختلت حاله، فمر عميلة بن كلدة الفزاري، وهو غلام جميل من سادات فزارة، فسلم عليه وقال: ياعم، ما أصارك إلى ما أدري؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من حالك. فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله، فقالت: لقد غرك كلام جنح ليل!! فبات متململا بين اليأس والرجاء. فلما كان السحر، سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين وساهمه عليه، فقال ابن عنقاء فيه يمجده: وهذا شعر حر، ينبع من نفس حرة. هذا وقد روي الطبري في ٨: ١٤١"رماه الله بالحسن إذ رمي". وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد: "لا يروي بيت ابن عنقاء: "رماه الله بالحسن... " إلا أعمى البصيرة، لأن الحسن مولود، وإنما هو: رماه الله بالخير يافعًا".
رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
وقوله: "لا تشق على البصر"، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما، بل تجلي بها العين، وتسر النفس وترتاح إليها.
595
وقد اختلف أهل التأويل في"السيما" التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم، وأنهم يعرفون بها. (١)
فقال بعضهم: هو التخشُّع والتواضع.
ذكر من قال ذلك:
٦٢٢٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تعرفهم بسيماهم" قال: التخشُّع.
٦٢٢٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٦٢٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشُّع.
* * *
وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٢٥ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"تعرفهم بسيماهم"، بسيما الفقر عليهم.
٦٢٢٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"تعرفهم بسيماهم"، يقول: تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوعُ خفيّ.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٢٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وصفت صفتهم"، وهو مخالف للسياق، والصواب ما أثبت، وصف الله صفتهم.
596
"تعرفهم بسيماهم" قال: السيما: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [أن] تخفى على الناس. (١).
* * *
قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيَّه ﷺ أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ ﷺ يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله (٢) نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾
قال أبو جعفر: يقال:" قد ألحف السائل في مسألته"، إذا ألحّ="فهو يُلحف فيها إلحافًا".
* * *
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لتستقيم العبارة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "كما وصفهم الله"، والسياق يقتضي ما أثبت. والمخطوطة التي نقلت عنها، فيما نظن، كل النسخ المخطوطة التي طبع عنها، مضطربة الخط، كما سلف الدليل على ذلك مرارًا، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ بخاصة.
597
فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف؟
قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، (١) وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي ﷺ إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم.
وفي الخبر الذي:-
٦٢٢٨ - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيتَ رسولَ الله ﷺ فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا، فكان أوّل ما واجهني به:"من استعفّ أعفَّه الله، ومَن استغنى أغناهُ الله، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئًا نجده". قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله! فرجعت، فما سألتُ رسول الله ﷺ شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا، إلا من عَصَم الله. (٢).
* * *
(١) في المطبوعة: "إلحافا وغير إلحاف"، بالواو، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ١٨١، وقد قال: "ومثله قولك في الكلام: قلما رأيت مثل هذا الرجل!، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه" وسيأتي بعد، في ص: ٥٩٩، وفي اللسان (لحف)، وذكر الآية: "أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف، كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة:
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ [إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا]
المعنى: "ليس به منار فيهتدى به".
(٢) الحديث: ٦٢٢٨ -إسناده صحيح.
هلال بن حصن، أخو بني مرة بن عباد، من بني قيس بن ثعلبة: تابعى ثقة. ذكره ابن حبّان في الثقات، ص: ٣٦٤، وترجمه البخاري في الكبير ٤ / ٢/ ٢٠٤، وابن أبي حاتم ٤ /٢/ ٧٣ -فلم يذكرا فيه جرحا. وهو مترجم في التعجيل، ص: ٤٣٤.
والحديث رواه أحمد في المسند: ١٤٢٢١، ١٤٢٢٢ (ج ٣ ص ٤٤ حلبي)، عن محمد بن جعفر وحجاج، ثم عن حسين بن محمد -ثلاثتهم عن شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد. فذكر نحوه بأطول منه.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
أبو حمزة: هو البصري"جار شعبة"، عرف بهذا. واسمه: عبد الرحمن بن عبد الله المازني"، ثقة، مترجم في التهذيب ٦: ٢١٩.
وقد ثبت في ترجمة"هلال بن حصن" -في الكبير، وابن أبي حاتم، والثقات، والتعجيل، أنه روى عنه أيضًا"أبو حمزة". وشك في صحة ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير، واستظهر أن يكون صوابه "أبو جمرة"، يعنى نصر بن عمران الضبعي. ولكن يرفع هذا الشك أنه في المسند أيضًا "أبو حمزة". لاتفاقه مع ما ثبت في التراجم.
" أعوز الرجل فهو معوز": ساءت حاله وحل عليه الفقر.
"أعنق الرجل إلى الشيء يعنق": أسرع إليه إسراعًا.
598
(١).
=الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. (٢).
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله:"لا يسألون الناس إلحافا"، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف (٣).
قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله:"يحسبهم الجاهلُ أغنياء من التعفف"، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما- زاد عبادَه إبانة لأمرهم، وحُسنَ ثناءٍ عليهم، بنفي الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال، عنهم. (٤).
وقد كان بعضُ القائلين يقول: (٥) ذلك نظيرُ قول القائل:" قلَّما رأيتُ مثلَ
(١) سياق الكلام: "وفي الخبر... الدلالة الواضحة... "
(٢) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: ١ ص٥٩٨.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: ١ ص٥٩٨.
(٤) "السؤال" جمع سائل، على زنة""جاهل وجهال". والسياق: "بنفي الشره... عنهم".
(٥) في المطبوعة: و "قال: كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل" هو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "وقال كاد بعض القائلين يقول... "وسائره كالذي كان في المطبوعة" وهو أشدّ اختلالا وفسادًا. وصواب العبارة ما استظهرته فأثبته. وهذا الذي حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني القرآن ١: ١٨١، كما سلف في ص: ٥٩٨ التعليق: ١.
599
فلان"! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٢٩ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: لا يلحفون في المسألة.
٦٢٣٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: هو الذي يلح في المسألة.
٦٢٣١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، ذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول:"إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ= قال: وذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا: قيلا وقالا (١) وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال [ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه، (٢).
وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم.
..........................................................................
..........................................................................
(٣).
(١) في المطبوعة: "قيل وقال" وهو صواب، وهما فعلان من قولهم"قيل كذا" و"قال كذا"، وهو نهى عن القول بما لا يصح ولا يعلم. وأثبت ما في المخطوطة، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى هذين الفعلين الماضين، يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب، على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، فيدخل عليهما حرف التعريف لذلك فيقال: "القيل والقال".
(٢) في المخطوطة: "ذا مال في شهوته" وبين الكلامين بياض، أما في المطبوعة والدر المنثور ١: ٣٦٣، فساقه سياقًا مطردًا: "ذا مال في شهوته"، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد: "ويعدله عن حق الله"، فلذلك وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا هذه العبارة.
(٣) هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما هو، ففي المخطوطة في إثر الأثر السالف ٦٢٣١، الأثر الآتي: ٦٢٣٢ "حدثنا يعقوب بن إبراهيم... ". وقد تنبه طابع المطبوعة، فرأي أن الأثر الآتي، هو من تفسير الآية التي أثبتها وأثبتناها اتباعًا له، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا الموضع تفسير بقية الآتية: "وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم" وشيء قبله، وشيء بعده، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في كتاب آخر، ولكن سياق الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا الخرم. وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب.
600
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) ﴾
[قال أبو جعفر] :
..........................................................................
..........................................................................
* * *
٦٢٣٢ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر، عن أيمن بن نابل، قال: حدثني شيخ من غافق: أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطةً بين البرَاذين والهُجْن. فيقول: أهل هذه - يعني الخيل- من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. (١).
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٣٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
(١) الأثر: ٦٢٣٢ -"أيمن بن نابل الحبشي" أبو عمران المكي، نزيل عسقلان، مولي آل أبي بكر. روي عن قدامة بن عبد الله العامرى، وعن أبيه نابل، والقاسم بن محمد، وطاوس. وروى عنه موسى بن عقبة، وهو من أقرانه، ومعتمر بن سليمان، ووكيع وابن مهدي، وعبد الرزاق، وغيرهم. وهو ثقة، وكان لا يفصح، فيه لكنه. وعاش إلى خلافة المهدي. مترجم في التهذيب.
والبراذين جمع برذون (بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وسكون الواو) : وهو ما كان من الخيل من نتاج غير العراب، وهو دون الفرس وأضعف منه. والهجن جمع هجين: وهو من الخيل الذي ولدته برذونة من حصان غير عربي، وهي دون العرب أيضًا، ليس من عتاق الخيل، وكلاهما معيب عندهم.
601
قوله:"الذين ينفقون أموالهم" إلى قوله:"ولا هم يحزنون"، هؤلاء أهلُ الجنة.
ذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول: المكثِرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون، قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله، إلا مَنْ؟ حتى خشوا أن تكون قد مَضَت فليس لها رَدّ، حتى قال:"إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليلٌ ما هُمْ [قال] :(١) هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى، في غير سَرَف ولا إملاق ولا تَبذير ولا فَساد. (٢).
* * *
وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله:"إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، كان مما يُعملَ به قبل نزول ما في"سورة براءة" من تفصيل الزَّكوات، فلما نزلت"براءة"، قُصِروا عليها.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٣٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، فكان هذا يُعمل به قبل أن تنزل"براءة"، فلما نزلت"براءة" بفرائض الصَّدقات وتفصيلها انتهت الصّدَقاتُ إليها.
* * *
(١) ما بين القوسين، زيادة لا بد منها، فإن هذا الكلام الآتي ولا شك من كلام قتادة، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٦٣ قال: "وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة... "، وساق هذا الشطر الآتي من هذا الأثر. وأما صدره، فهو خبر مرسل كسائر الأخبار السالفة.
(٢) قوله: "إملاق" هو من قولهم: "ملق الرجل ما معه ملقًا، وأملقه إملاقًا"، إذا أنفقه وأخرجه من يده ولم يحبسه وبذره تبذيرًا. والفقر تابع للإنفاق والتبذير، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب، فقالوا: "أملق الرجل إملاقًا"، إذا افتقر فهو"مملق" أي فقير لا شيء معه.
602
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.
* * *
و"الإرباء" الزيادة على الشيء، يقال منه:"أربْى فلان على فلان"، إذا زاد عليه،"يربي إرباءً"، والزيادة هي"الربا"،"وربا الشيء"، إذا زاد على ما كان عليه فعظم،"فهو يَرْبو رَبْوًا". وإنما قيل للرابية [رابية]، (١) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم:"ربا يربو". ومن ذلك قيل:"فلان في رَباوَة قومه"، (٢) يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل"الربا"، الإنافة والزيادة، ثم يقال:"أربى فلان" أي أناف [ماله، حين] صيَّره زائدًا. (٣) وإنما قيل للمربي:"مُرْبٍ"، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً). [آل عمران: ١٣١].
* * *
(١) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(٢) في المطبوعة: "في ربا قومه" وفي المخطوطة: "في رباء قومه"، ولا أظنهما صوابًا، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس: "وفلان في رباوة قومه: في أشرافهم. وهو: في الروابي من قريش"، فأثبت ما في الأساس.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "أي أناف صيره زائدًا"، وهو كلام غير مستقيم ولا تام. والمخطوطة كما أسلفت مرارًا، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا. فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر، حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى.
7
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
٦٢٣٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.
* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٦٢٣٧ - حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.
* * *
قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا="لا يقومون" في الآخرة من قبورهم ="إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس"، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، (١) وهو الذي يخنقه فيصرعه (٢) ="من المس"، يعني: من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٢٣٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(١) تخبله: أفسد عقله وأعضاءه.
(٢) في المطبوعة: "وهو الذي يتخبطه فيصرعه"، وهو لا شيء، إنما استبهمت عليه حروف المخطوطة، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها، وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة: "+يحفه" غير منقوطة إلا نقطة على"الفاء"، وآثرت قراءتها"يخنقه"، لما سيأتي في الأثر رقم: ٦٢٤٢ عن ابن عباس: "يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق"، وما جاء في الأثر: ٦٢٤٧. وهذا هو الصواب إن شاء الله، لذلك، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه، أعاذنا الله وإياك.
8
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.
٦٢٣٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٦٢٤٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: ذلك حين يُبعث من قبره. (١)
٦٢٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بم كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذْ سلاحك للحرب"، وقرأ:"لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: ذلك حين يبعث من قبره.
٦٢٤٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق. (٢)
٦٢٤٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
(١) الأثر: ٦٢٤٠-"ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري"، روى عن أبيه، وبكر ابن عبد الله المزني، والحسن البصري. وروى عنه القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ومسلم ابن إبراهيم، وحجاج بن منهال. قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في الضعفاء: "ليس بالقوي"، وقال أحمد وابن معين: "ثقة". وأبوه: "كلثوم بن جبر"، قال أحمد: "ثقة"، وقال النسائي: "ليس بالقوي". مات سنة: ١٣٠.
(٢) انظر ما سلف في ص: ٨، تعليق: ٢.
9
"الذين يأكلون الربا لا يقومون"، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.
٦٢٤٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.
٦٢٤٥ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: (لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
٦٢٤٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.
٦٢٤٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يعني: من الجنون.
٦٢٤٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون (١).
* * *
(١) في المطبوعة: "إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة"، وهو كلام فاسد. وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه، فدل على خلطه وسهوه. فحذفت من هذه الجملة"يوم القيامة" وجعلت"مع الناس"، "من الناس"، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق، وكأنه الصواب إن شاء الله.
10
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"يتخبطه الشيطانُ من المسّ"، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه:"قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق"، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف: ٢٠١]، ومنه قول الأعشى:
وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى، وكأَنَّمَا أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟
قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
(١) ديوانه: ١٤٧، وروايته"من غب السرى"، ورواية اللسان (ألق)، "ولق"، وهو من قصيدته البارعة في المحرق. ويصف ناقته فيقول قبل البيت، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة:
وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍ إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ
هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى، وَبَيْنى وَبَيْنَها مَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ
وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى..... ...................
"الخرق": المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح. "وناقة جسرة": طويلة شديدة جريئة على السير. و"خب": جرى. و"الآل": سراب أول النهار. "يترقرق": يذهب ويجيء. وقوله: "هي الصاحب الأدنى"، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه، وينصره في الملمات. و"المجوف": الضخم الجوف. و"العلافى": هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له"علاف". و"القطع": طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. و"النمرق والنمرقة": وسادة تكون فوق الرحل، يفترشها الراكب، مؤخرها أعظم من مقدمها، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته. و"غب السرى": أي بعد سير الليل الطويل. و"الأولق": الجنون. ووصفها بالجنون عند ذلك، من نشاطها واجتماع قوتها، لم يضعفها طول السرى.
11
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة البقرة: ٢٧٨-٢٧٩] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، (١) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ من قوله:
٦٢٤٩-"لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بـ"ذلك" جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون:"إنما البيع" الذي أحله الله لعباده ="مثلُ الرّبا". وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم
(١) ولكن أهل الفتنة في زماننا، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا، وقد عظمه الله وقبحه، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله، في الدنيا والآخرة، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين. فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا، وثبتنا على دينك الحق، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه الأيام التي بقيت لنا، وهي الفانية وإن طالت، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا. قيل له: الناس كلهم؟! قال: من لم يأكله ناله من غباره". (سنن البيهقي ٥: ٢٧٥)، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق.
(٢) الأثر: ٦٢٤٩- رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا، وقد استوفى تخريجه ابن كثير في تفسيره ١: ٥٥٠-٥٥١ وساق طرقه مطولا. والسيوطي في الدر المنثور ١: ٣٦٧، من حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد، وأبي يعلى، وابن خزيمة، وابن حبان. وانظر سنن البيهقي ٥: ٢٧٥.
12
على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق:"زدني في الأجل وأزيدك في مالك". فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك:"هذا ربًا لا يحل". فإذا قيل لهما ذلك قالا"سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال"! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال:"وأحلّ الله البيع".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع (١) ="وحرّم الربا"، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، (٢) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين = وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل = وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.
* * *
(١) انظر معنى: "البيع" فيما سلف ٢: ٣٤٢، ٣٤٣.
(٢) في المطبوعة: "وليست الزيادتان"، والصواب ما في المخطوطة.
13
ثم قال جل ثناؤه:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى"، يعني بـ"الموعظة": التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، (١) وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك،"فانتهى" عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (٢) ="فله ما سلف"، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك ="وأمرُه إلى الله"، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك ="ومن عاد"، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله:"إنما البيع مثل الربا" ="فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون. (٣)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٢٥٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله"، أما"الموعظة" فالقرآن، وأما"ما سلف"، فله ما أكل من الربا.
* * *
(١) انظر تفسير: "موعظة" فيما سلف ٢: ١٨٠، ١٨١.
(٢) انظر تفسير: "انتهى" فيما سلف ٣: ٥٦٩.
(٣) انظر تفسير: "أصحاب النار" و"خالدون" فيما سلف ٢: ٢٨٦، ٢٨٧/٤: ٣١٦، ٣١٧/٥: ٤٢٩.
14
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني عز وجل بقوله:"يمحق الله الربا"، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه، كما:-
٦٢٥١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"يمحق الله الربا"، قال: يَنقص.
* * *
وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قال:
٦٢٥٢-"الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ". (١).
* * *
وأما قوله:"ويُرْبي الصّدَقات"، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له. (٢)
* * *
وقد بينا معنى"الرّبا" قبلُ"والإرباء"، وما أصله، بما فيه الكفاية من إعادته. (٣)
* * *
(١) ٦٢٥٢- أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٧ من طريق إسرائيل، عن الركين بن الربيع، عن أبيه الربيع بن عميلة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: "الربا إن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل"، وكذلك ذكره ابن كثير من المسند من طريق شريك عن الركين بن الربيع، بلفظه. ثم ساق ما رواه ابن ماجه. غير أن ابن كثير (٢: ٦١) نقل لفظ الطبري، وساق الخبر كنصه في الحديث، لا كما جاء في المطبوعة والمخطوطة. وانظر الدر المنثور ١: ٣٦٥.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "يضاعف أجرها لربها"، كأنه يريد لصاحبها، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، رب المعروف والصنيعة والنعمة وغيرها - يريها ربًا +ورببها (كلها بالتشديد) : نماها وزادها وأتمها، وجملة"يربها وينميها له" تفسير لقوله: "يضاعف أجرها". وانظر الأثر الآتي رقم: ٦٢٥٣.
(٣) انظر ما سلف قريبا ص: ٧.
15
فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله الصدقات؟
قيل: إضعافه الأجرَ لربِّها، كما قال جل ثناؤه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [سورة البقرة: ٢٦١]، وكما قال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [سورة البقرة: ٢٤٥]، وكما:-
٦٢٥٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) [سورة التوبة: ١٠٤]، و"يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات". (١).
(١) الحديث: ٦٢٥٣- عباد بن منصور الناجي البصري القاضي: ثقة، من تكلم فيه تكلم بغير حجة. وقد حققنا توثيقه في شرح المسند: ٢١٣١، ٣٣١٦، وبينا خطأ من جرحه بغير حق.
القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، التابعي الثقة الفقيه الإمام.
والحديث سيأتي في تفسير سورة التوبة (ج ١١ ص ١٥ بولاق)، عن أبي كريب، بهذا الإسناد ولكن سقط منه هناك"حدثنا وكيع". وهو خطأ ظاهر.
ورواه أحمد في المسند: ١٠٠٩٠ (٢: ٣٧١ حلبي)، عن وكيع، وعن إسماعيل - وهو ابن علية - كلاهما عن عباد بن منصور. بهذا الإسناد. وساقه على لفظ وكيع، كرواية الطبري هنا.
ولكن وقع في المسند خطأ غريب في تلاوة الآية الأولى، ففيه: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات". والآية المتلوة في الحديث هي التي في رواية الطبري هنا: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات)، وهي الآية: ١٠٤ من سورة التوبة. وأما الأخرى فالآية: ٢٥ من سورة الشورى، وتلاوتها: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) وليست تكون موضع الاستشهاد في هذا الحديث.
وهذا الخطأ قديم في نسخ المسند، من الناسخين القدماء، بدلالة أنه ثبت هذا الخطأ أيضًا في نقل الحافظ ابن كثير هذا الحديث عن المسند، في جامع المسانيد والسنن ٧: ٣٢٠ (مخطوط مصور).
بل ظهر لي بعد ذلك أن الخطأ أقدم من هذا. لعله من وكيع، أو من عباد بن منصور. لأن الترمذي روى الحديث ٢: ٢٣، عن أبي كريب -شيخ الطبري هنا - عن وكيع، به. وثبتت فيه تلاوة الآية على الخطأ، كرواية أحمد عن وكيع. ونقل شارحه المباركفوري عن الحافظ العراقي أنه قال: "في هذا تخليط من بعض الرواة. والصواب: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) - الآية. وقد رويناه في كتاب الزكاة ليوسف القاضي، على الصواب".
بل إن الحافظ المنذري غفل عن هذا الخطأ أيضًا. فذكر الحديث في الترغيب والترهيب ٢: ١٩، عن رواية الترمذي، وذكر الآية كرواية المسند والترمذي - مخالفة للتلاوة.
فإذا كان ذلك كذلك، فأنا أرجح أن أبا جعفر الطبري رحمه الله سمعه من أبي كريب عن وكيع، كرواية الترمذي عن أبي كريب، وكرواية أحمد عن وكيع، فلم يستجز أن يذكر الآية على الخطأ في التلاوة، فذكرها على الصواب. وقد أصاب في ذلك وأجاد وأحسن.
وقال الترمذي - بعد روايته: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روي عن عائشة عن النبي ﷺ - نحو هذا".
ورواية عائشة ستأتي: ٦٢٥٥.
وذكره ابن كثير في التفسير ٢: ٦٢، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن عمرو بن عبد الله الأودي، عن وكيع، بهذا الإسناد، لكنه لم يذكر الآية الأولى التي وقع فيها الخطأ.
وذكره السيوطي ١: ٣٦٥، وزاد نسبته للشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر، والدارقطني في الصفات.
ورواه أحمد أيضًا: ٩٢٣٤، عن خلف بن الوليد، عن المبارك، وهو ابن فضالة، عن عبد الواحد ابن صبرة، وعباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة - فذكره بنحوه، مختصرًا، ولم يذكر فيه الآيتين.
وأشار ابن كثير ٢: ٦٢، إلى رواية المسند هذه، ولكن وقع فيه تخليط من الناسخين.
والحديث سيأتي نحو معناه، مطولا ومختصرًا، عن أبي هريرة: ٦٢٥٤، ٦٢٥٦، ٦٢٥٧. وعن عائشة: ٦٢٥٥.
وسنشير إلى بقية تخريجه في آخرها: ٦٢٥٧.
16
٦٢٥٤ - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة = ولا أراه إلا قد رفعه = قال: إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة، ولا يقبلُ إلا الطيب." (١).
(١) الحديث: ٦٢٥٤- سليمان بن عمر بن خالد الأقطع، القرشي العامري الرقي: ترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/١٣١، وذكر أن أباه كتب عنه. ولم يذكر فيه جرحًا.
ابن المبارك: هو عبد الله. وسفيان: هو الثوري.
والحديث مختصر ما قبله. والشك في رفعه - هنا - لا يضر، فقد صح الحديث مرفوعًا بالإسناد السابق والأسانيد الأخر.
وسيأتي الحديث أيضًا، بهذا الإسناد (ج ١١ ص ١٥ بولاق)، ولم يذكر لفظه، بل ذكر أوله، ثم قال: "ثم ذكر نحوه". إحالة على الحديث السابق. فكأنه رواه هناك مطولا، ولكن دون ذكر سياقه كاملا.
وأشار ابن كثير، في تفسير سورة التوبة ٤: ٢٣٥- إلى هذه الرواية والتي قبلها، جعلهما حديثًا واحدًا، عن الثوري ووكيع، عن عباد بن منصور، به. ولكنه لم يذكر تخريجه.
17
٦٢٥٥- حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عباد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات). (١).
(١) الحديث: ٦٢٥٥- محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم، المقدمي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/١٧٩، وابن أبي حاتم ٤/١/٢١. ووقع في المطبوعة هنا غلط في اسم أبيه: "عمرو" بدل"عمر". وسيأتي بتخليط أشد في المطبوعة: ٦٨٠٩، هكذا: "محمد ابن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي"!!
و"المقدمي": بتشديد الدال المهملة المفتوحة، نسبة إلى جده الأعلى"مقدم".
ريحان بن سعيد الناجي البصري: من شيوخ أحمد وإسحاق. وقال يحيى بن معين: "ما أرى به بأسا". وتكلم فيه بعضهم، ولكن البخاري ترجمه في الكبير ٢/١/٣٠١، فلم يذكر فيه جرحًا. وكان إمام مسجد عباد بن منصور، كما في الكبير، وابن أبي حاتم ١/٢/٥١٧. وتكلم فيه ابن حبان والعجلي باستنكار بعض ما روى عن عباد. ولعله كان أعرف به إذ كان إمام مسجده.
وأيا ما كان، فإنه لم ينفرد عن عباد بهذه الرواية، كما سيظهر من التخريج.
فرواه أحمد في المسند ٦: ٢٥١ (حلبي)، عن عبد الصمد، عن حماد، عن ثابت، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: "أن رسول الله ﷺ قال: إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد".
وهذا إسناد صحيح. ولكن الحديث مختصر.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ٥: ٢٣٤-٢٣٥ (من مخطوطة الإحسان). من طريق عبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن القاسم.
ورواه البزار مطولا، من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - ومن طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة، بنحو رواية الطبري هنا، إلا أنه لم يذكر الآية في آخره. نقله ابن كثير ٢: ٦٢-٦٣.
ولكن رواه الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة منقطعة، لأنه إنما يروى عن التابعين.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣: ١١١ مختصرًا كرواية المسند، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح". ثم ذكره مطولا ٣: ١١٢، وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ولكنه ذكره من حديث عائشة وحدها.
وذكر السيوطي ١: ٣٦٥ لفظ الطبري هنا. ثم تساهل في نسبته، فنسبه للبزار، وابن جرير، وابن حبان، والطبراني.
18
٦٢٥٦ - حدثني محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله = أو قال:"في كفِّ الله عز وجلّ = حتى تكون مثلَ أحُد، فتصدّقوا". (١).
٦٢٥٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت
(١) الحديث: ٦٢٥٦-"محمد بن عبد الملك": الراجح عندي أنه"محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي"، فإنه يروي عن عبد الرزاق، وهو من طبقة شيوخ الطبري، وإن لم أجد نصا يدل على روايته عنه. ولكنه بغدادي مثله. فمن المحتمل جدا أن يروى عنه، بل هو هو الأغلب الأكثر في مثل هذه الحال. وهو ثقة، وثقه النسائي وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/١/٥. وتاريخ بغداد ٢: ٣٤٥-٣٤٦.
ومن شيوخ الطبري الذين روى عنهم في التاريخ: "محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب"، وهو ثقة أيضًا، ولكن لم يذكر عنه أنه روى عن عبد الرزاق، والغالب أن ينص على مثل هذا. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/١/٥، وتاريخ بغداد ٢: ٣٤٤-٣٤٥.
وقد انفرد ابن كثير بشيء لا أدري ما هو؟ فحين ذكر هذا الحديث ٢: ٦٢، ذكر أنه"رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق"!! ولم أجد في الرواة من يسمى بهذا. فلا أدري أهو سهو منه، أم تخليط من الناسخين؟
والحديث رواه أحمد في المسند: ٧٦٢٢، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: ٤٤، عن محمد بن رافع، وعبد الرحمن ابن بشر بن الحكم - كلاهما عن عبد الرزاق، به.
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب ٢: ١٩، أنه رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من الطبري - كما أشرنا، ثم قال: "وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق. وهذا طريق غريب صحيح الإسناد، ولكن لفظه عجيب. والمحفوظ ما تقدم"! يعني رواية عباد بن منصور.
ولسنا نرى في هذا اللفظ عجبا، ولا في الإسناد غرابةّ! وهو صحيح على شرط الشيخين.
ثم إن عبد الرزاق لم ينفرد به عن معمر، فقد تابعه عليه محمد بن ثور. فرواه الطبري - فيما سيأتي (ج ١١ ص ١٥-١٦ بولاق)، عن محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، به. نحوه. وهذا إسناد صحيح أيضًا. فإن محمد بن ثور الصنعاني العابد: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، بل فضله أبو زرعة على عبد الرزاق.
19
يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد قال، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله، حتى يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد". (١).
* * *
(١) الحديث: ٦٢٥٧- وهذا إسناد فيه راو مبهم، هو الذي روى عنه يونس، ومن المحتمل جدا أن يكون هو أيوب. ولكن لا يزال الإسناد ضعيفا حتى نجد الدلالة على هذا المبهم.
وأما الحديث في ذاته فصحيح بالأسانيد السابقة وغيرها.
وأصل المعنى ثابت من حديث أبي هريرة، من أوجه كثيرة:
فرواه البخاري ٣: ٢٢٠-٢٢٣، و ١٣: ٣٥٢ ومسلم، ١: ٢٧٧-٢٧٨، والترمذي ٢: ٢٢-٢٣، والنسائي ١: ٣٤٩، وابن ماجه: ١٨٤٢، وابن حبان في صحيحه ٥: ٢٣٤-٢٣٧ (من مخطوطة الإحسان)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد. ص: ٤١-٤٤.
ورواه أحمد في المسند -غير ما أشرنا إليه سابقا-: ٨٣٦٣ (٢: ٣٣١ حلبي)، ٨٩٤٨، ٨٩٤٩ (ص: ٣٨١-٣٨٢)، ٩٢٣٤ (ص٤٠٤)، ٩٤١٣ (ص: ٤١٨)، ٩٤٢٣ (ص: ٤١٩)، ٩٥٦١ (ص: ٤٣١)، ١٠٩٥٨ (ص: ٥٣٨)، ١٠٩٩٢ (ص: ٥٤١).
ورواه البخاري في الكبير، بالإشارة الموجزة كعادته ٢/١/٤٧٦.
وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث: "في يد الله"، و"في كف الله"، و"كف الرحمن"، ونحو هذه الألفاظ. فقال الترمذي ٢: ٢٣-٢٤.
"وقال غير واحد من أهل العلم، في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، وتزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا - قال: قد ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن بها. ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا رُوي عن مالك ابن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، انهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا كيفَ. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه! وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه -: اليد، والسمع والبصر. فتأولت الجهمية هذه الآيات، وفَّسروها على غير ما فَّسر أهلُ العلمّ! وقالوا: إن الله لم يَخْلق آدم بيده! وقالوا: إنما معنى اليد القوة!! وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كَيدٍ، أو مِثْل يَدٍ، أو سمع كسَمْعٍ، أو مثلَ سمعٍ. فإذا قال سمع كسمعٍ أو مثل سمع- فهذا تشبيه. وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر. ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمعٍ - فهذا لا يكون تشبيهاً. وهو كما قال الله تبارك وتعال: (ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البَصير) ".
20
قال أبو جعفر: وأما قوله:"والله لا يحب كل كفار أثيم"، فإنه يعني به: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه،"أثيم"، متماد في الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا = يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه ="وعملوا الصالحات" التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها ="وأقاموا الصلاة" المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها ="وآتوا الزكاة" المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم ="لهم أجرهم"، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم ="عند ربهم" يوم حاجتهم إليه في معادهم = ولا خوف عليهم" يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم،
وتصديقهم بوعد الله ووعيده ="ولا هم يحزنون" على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا بالله وبرسوله="اتقوا الله"، يقول: خافوا الله على أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه="وذروا"، يعني: ودعوا="ما بقي من الربا"، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم. (١).
* * *
قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، (٢) وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه.
* ذكر من قال ذلك:
٦٢٥٨ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" إلى:"ولا تظلمون"، قال: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا
(١) قوله: "بأفعالكم" متعلق بقوله: "محققين... "، أي محققين ذلك بأفعالكم.
(٢) في المخطوطة: "عما كان قد اقتضوه... "، وهو فاسد، والصواب ما في المطبوعة.
22
شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو = (١) وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله"ذروا ما بقي" من فضل كان في الجاهلية ="من الربا".
٦٢٥٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كانت ثقيف قد صالحت النبيّ ﷺ على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب من الله ورسوله"، إلى"ولا تظلمون". فكتب بها رسول الله ﷺ إلى عتّاب وقال:"إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب" = وقال ابن جريج، عن عكرمة، قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، قال: كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود. (٢)
٦٢٦٠ - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر،
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "سلفا في الربا إلى أناس... " بالفعل الماضي، والصواب ما أثبت من الدر المنثور ١: ٣٦٦، والبغوي (بهامش ابن كثير) ٢: ٦٣. والسلف (بفتحتين) : القرض. والفعل: أسلف وسلف (بتشديد اللام).
(٢) الأثر: ٦٢٥٩- انظر ما قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة"هلال الثقفي". وقال: "وفي ذكر مصالحة ثقيف قبل قوله: "فلما كان الفتح" نظر، ذكرت توجيهه في أسباب النزول".
23
عن الضحاك في قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فإن لم تفعلوا) فإن لم تذَروا ما بقي من الربا.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله:"فأذنوا بحرب من الله ورسوله".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة:"فَأْذَنُوْا" بقصر الألف من"فآذنوا"، وفتح ذالها، بمعنى: كونوا على علم وإذن.
* * *
وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين:"فَآذِنُوا" بمدّ الألف من قوله:"فأذنوا" وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيرَكم، أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"فأذَنوا" بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك.
وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه ﷺ أن ينبذ إلى من أقام
24
على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. (١) فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. (٢) لأن الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها.
وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٢٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، إلى قوله: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضَرب عنقه.
٦٢٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذ سلاحك للحرْب". (٣)
٦٢٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
٦٢٦٤ - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا. (٤)
(١) في المطبوعة: "أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يأذنوه". وهو خطأ في الرسم، وفساد في المعنى بهذا الرسم. وصواب رسمه في المخطوطة، وهو صواب المعنى.
(٢) في المخطوطة: "بالإنذار بها إن عزم على ذلك"، وهي صواب في المعنى، ولكن ما في المطبوعة عندي أرجح.
(٣) الأثر: ٦٢٦٢- انظر الأثر السالف رقم: ٦٢٤١، والتعليق عليه.
(٤) البهرج: الشيء المباح. والمكان بهرج: غير حمى. وبهرج دمه: أهدره وأبطله. وفي الحديث: أنه بهرج دم ابن الحارث.
25
٦٢٦٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله.
٦٢٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله"، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل. (١)
٦٢٦٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: (فأذنوا بحرب من الله) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أُمْوَالِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"إن تبتم" فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل ="فلكم رؤوس أموالكم" من الديون التي لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم، كما:
٦٢٦٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال، (٢) جعل لهم
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "أوعد لآكل الربا... " وهو لا شيء، والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "المال الذي لهم" بإسقاط الواو، وأثبت ما في المخطوطة وسيأتي على الصواب رقم: ٦٢٩٧. وفي المخطوطة"ظهور الرحال" بالحاء.
26
رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا.
٦٢٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس أموالهم.
٦٢٧٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، قال: ما كان لهم من دَين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادُوا عليه شيئًا.
٦٢٧١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" الذي أسلفتم، وسقط الربا.
٦٢٧٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله ﷺ قال في خطبته يوم الفتح:"ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب".
٦٢٧٣- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله ﷺ قال في خطبته:"إنّ كل ربا موضوع، وأول ربًا يوضع ربا العباس". (١).
* * *
(١) الأثران: ٦٢٧٢، ٦٢٧٣- حديث خطبته ﷺ في حجة الوداع، رواه مسلم ٨: ١٨٢، ١٨٣ في حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع. وسنن البيهقي ٥: ٢٧٤، ٢٧٥. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٦٧، وقال"أخرج أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع... "، وانظر ابن كثير ٢: ٦٥.
27
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"لا تَظلمون" بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه، أو لم يكن لكم قبلُ="ولا تُظلمون"، يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول، وغيرُه من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٢٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون"، فتُربون،"ولا تظلمون" فتنقصون.
٦٢٧٥ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"، قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وإن كان" ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوسَ أموالكم ="ذو عُسْرَة" يعني: معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء، فأنظروهم إلى ميسرتهم.
28
وقوله:"ذو عسرة"، مرفوع ب"كان"، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت"كان" في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة إلى ميسرة.
وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب: (وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ)، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة ="فنظرة إلى ميسرة". وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين. (١)
* * *
وأما قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) [سورة البقرة: ١٩٦]، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبلُ، فأغنى عن تكريره. (٢).
* * *
و"الميسرَة"، المفعلة من"اليُسر"، مثل"المرْحمة" و"والمشأمة".
* * *
ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، (٣) فيصيرَ من أهل اليُسر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٨٦.
(٢) انظر ما سلف ٤: ٣٤.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يوسر بما ليس لكم"، واجتهد مصحح المطبوعة وقال: "لعل (ليس) زائدة من الناسخ". ولا أراه كذلك، بل قوله"بما ليس"، هي في الأصل الذي نقل عنه الناسخ"بالدين" مرتبطة الحروف، كما يكون كثيرا في المخطوطة القديمة، فلم يحسن الناسخ قراءتها، فقرأها"بما ليس"، وحذف"الذي"، لظنه أنها زائدة سهوا من الناسخ قبله، وتبين صحة ما أثبتناه، من كلام الطبري بعد في آخر تفسير الآية. ولو قرئت: "برأس ما لكم"، لكان صوابا في المعنى، كما يتبين من الآثار الآتية.
29
ذكر من قال ذلك:
٦٢٧٧ - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: نزلت في الربا.
٦٢٧٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح، قال: فقضى عليه وأمرَ بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه مُعسرٌ، والله يقول في كتابه:"وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة"! قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [سورة النساء: ٥٨] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.
٦٢٧٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
٦٢٨٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أيْ فلان، إن كنت مُوسرًا فأدِّ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة. (١)
٦٢٨١- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه مُعسر! ! قال: فظننت أنه يكلِّمه في محبوس، فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار،
(١) الأثر: ٦٢٨٠ - كان في المطبوعة: "مغيرة، عن الحسن... "، وفي المخطوطة"مغيرة، عن الحسى" مشددة الياء بالقلم، والناسخ كثير السهو والغفلة والتصحيف كما أسلفنا. وإنما هو"الشعبي"، وهذا الإسناد إلى الشعبي قد مضى مئات من المرات، انظر مثلا: ٤٣٨٥. وكان في المطبوعة: "الربيع بن خيثم" وهو تصحيف والصواب ما أثبت، وقد مضت ترجمته في رقم: ١٤٣٠.
30
فأنزل الله عز وجل:"وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة" وقال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدّوا الأمانات إلى أهلها.
٦٢٨٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة"، قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.
٦٢٨٣ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها. (١)
٦٢٨٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كان ذو عسرة فنظرة" برأس المال ="إلى ميسرة"، يقول: إلى غنى.
٦٢٨٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، هذا في شأن الربا.
٦٢٨٦ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان قال (٢) سمعت الضحاك في قوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.
(١) في المخطوطة: "ولكن مؤدي الأمانة... "، وهو تصحيف من الناسخ.
(٢) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، والصواب من المخطوطة، وقد مضى الكلام على هذا الإسناد فيما سلف.
31
٦٢٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، يعني المطلوب.
٦٢٨٨ - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله:"وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة"، قال: الموت.
٦٢٨٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله.
٦٢٩٠- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: هذا في الربا.
٦٢٩١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت، أو إلى فُرْقة.
٦٢٩٢- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
٦٢٩٣ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره.
٦٢٩٤ - وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" قال: يؤخره ولا يزدْ عليه.
* * *
32
وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ (١) من أيّ وجهة كان ذلك الحق، من دين حلال أو ربا.
ذكر من قال ذلك:
٦٢٩٥ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على ذلك.
٦٢٩٦- حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" قال: نزلت في الدَّين. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو لزمه
(١) في المخطوطة: "هذه الآية عام... " تصحيف من الناسخ وسهو.
(٢) الأثر: ٦٢٩٦-"علي بن حرب بن محمد بن علي الطائي". قال النسائي: "صالح"، وقال أبو حاتم: "صدوق" توفي سنة ٢٦٥، مترجم في التهذيب.
33
من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا. (١) وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه.
= فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد.
= ويكون في رقبته، (٢) فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد.
فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل. (٣) لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس. (٤)
* * *
(١) سياق العبارة"ويلزمه أداء رأس ماله... إليه... "، وما بينهما فصل.
(٢) في المطبوعة: "ويكون في رقبته"، والصواب من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل" قدم"بحقه"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب جيد.
(٤) في المطبوعة: "فيعاقب بظلمه إياه... "، وفي المخطوطة"فيعاقب بطله إياه.. " وصواب قراءتها ما أثبت. مطله حقه يمطله مطلا، وماطله مطالا: سوفه ودافعه بالعدة والدين. هذا، وأبو جعفر رضي الله عنه، رجل قويم الحجة، أسد اللسان، سديد المنطق، عارف بالمعاني ومنازلها من الرأي، ومساقطها من الصواب. وهذه حجة بينة فاصلة من حججه التي أشرت إليها كثيرا في بعض تعليقي على هذا التفسير الجليل.
34
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، ="خير لكم" أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر ="إن كنتم تعلمون" موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وأن تصدقوا" برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم ="خير لكم".
ذكر من قال ذلك:
٦٢٩٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا ="وأن تصدقوا خير لكم"، يقول: أن تصدقوا بأصل المال، خير لكم. (١)
٦٢٩٨ - حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة:
(١) الأثر: ٦٢٩٧- سلف برقم: ٦٢٦٨. وانظر التعليق هناك.
35
"وأن تصدقوا"، أي برأس المال، فهو خير لكم.
٦٢٩٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: (وأن تصدقوا خير لكم) قال: من رؤوس أموالكم.
٦٣٠٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.
٦٣٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٠٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير، فهو خير لكم، فتصدق به العباس.
٦٣٠٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.
٦٣٠٤ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: (وأن تصدقوا خير لكم)، يعني: على المعسر، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.
٦٣٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن
36
جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة. (١)
٦٣٠٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"، قال: من النظرة ="إن كنتم تعلمون".
٦٣٠٧- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم)، والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، (٢) والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه:"وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم" لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر آيات نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٠٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، = عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا،
(١) النظارة (بكسر النون) : الإنظار وهو الإمهال. وهو مصدر لم أجده في كتب اللغة، ولكنه عريق في عربيته. كالنذارة، من الإنذار، وهو عزيز، ولكنه عربي البناء والقياس.
(٢) يقال: "اخترت فلانا على فلان" بمعنى: فضلت فلانا على فلان، ولذلك عدى بعلى. ومثله"خير فلانا على فلان"، أي فضله عليه. وقد جاء في الأثر: "خير بين دور الأنصار"، أي فضل بعضها على بعض. وقلما تجد هذا التعبير.
37
وإن نبي الله ﷺ قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة. (١)
٦٠٣٩- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله ﷺ قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم". (٢)
(١) الحديث: ٦٣٠٨- سعيد: هو ابن أبي عروبة.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٤٦، عن يحيى، وهو القطان.
و: ٣٥٠، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة. بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: ٢٢٧٦، من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، به.
وذكره ابن كثير ٢: ٥٨، عن الموضع الأول من المسند.
وذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٦٥، وزاد نسبته لابن الضريس، وابن المنذر. وأشار إليه في الإتقان ١: ٣٣، موجزا، منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط.
وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد، لانقطاعه. فإن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، كما بينا في شرح المسند: ١٠٩، وانظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ص: ٢٦-٢٧.
(٢) الحديث: ٦٣٠٩- داود: هو ابن أبي هند. عامر: هو الشعبي.
وهذا الإسناد ضعيف أيضًا، فإن الشعبي لم يدرك عمر، كما قلنا فيما مضى: ١٦٠٨، نقلا عن ابن كثير.
وذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٥٣، منسوبا للطبري، وقال: "وهو منقطع، فإن الشعبي لم يدرك عمر".
وذكر ابن كثير ٢: ٥٨، نحو معناه، قال: "رواه ابن ماجه وابن مردويه، من طريق هياج ابن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر... " إلخ.
وهياج بن بسطام الهروي: اختلفوا فيه جدا، فضعفه أحمد، وابن معين، وابن أبي حاتم، وغيرهم. وقال المكي بن إبراهيم - شيخ البخاري: "ما علمنا الهياج إلا ثقة صادقا عالما". ووثقه محمد ابن يحيى الذهلي. وقد أنكروا عليه أحاديث، ثم ظهر أن الحمل فيها على ابنه خالد الذي رواها عنه. والراجح عندنا هذا، فإن البخاري ترجمه في الكبير ٤/٢/٢٤٢، فلم يذكر فيه جرحا. وكأنه ذهب فيه إلى ما اختاره شيخاه: المكي بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى الذهلي.
وابن كثير لم يبين من رواه عن الهياج. ثم لم أعرف موضعه في ابن ماجه، وليس عندي كتاب ابن مردويه.
ولكني وجدت له إسنادا إلى الهياج. فرواه الخطيب في ترجمته في تاريخ بغداد ١٤: ٨٠-٨١، من طريق محمد بن بكار بن الريان، -وهو ثقة- عن الهياج، بهذا الإسناد.
فعن هذا ظهر أن إسناده صحيح، والحمد لله.
38
٦٣١٠ - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنزل على رسول الله ﷺ آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) ﴾
قال أبو جعفر: وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
٦٣١١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد
(١) الحديث: ٦٣١٠- أبو زيد عمر بن شبة - بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة - النميري النحوي: ثقة صاحب عربية وأدب. قال الخطيب: "كان ثقة عالما بالسير وأيام الناس". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/١١٦، وتاريخ بغداد ١١: ٢٠٨-٢١٠.
قبيصة: هو ابن عقبة. مضت ترجمته في: ٤٨٩، ٢٧٩٢. وهذا الحديث من روايته عن سفيان الثوري. وقد بينا هناك أن روايته عنه صحيحة، خلافا لمن تكلم فيها.
عاصم الأحول: هو عاصم بن سليمان. وقد مضى مرارا. ووقع في المطبوعة هنا"عاصم عن الأحول". وهو خطأ مطبعي. وثبت على الصواب في المخطوطة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح ٨: ١٥٣ (فتح)، عن قبيصة، بهذا الإسناد. ولكنه اقتصر على أوله، إلى قوله"آية الربا" لأن الباقي موقوف من كلام ابن عباس.
وذكر السيوطي ١: ٣٦٥ رواية البخاري، وزاد نسبتها لأبي عبيد، والبيهقي في الدلائل.
وقال الحافظ في الفتح: "المراد بالآخرية في الربا: تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة. وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة، على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران، في أثناء قصة أحد: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) الآية".
39
عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله". (١)
٦٣١٢ - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:
"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت.
٦٣١٣ - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
(١) الحديث: ٦٣١١ -أبو تميلة- بضم التاء المثناة: هو يحيى بن واضح. مضت ترجمته في: ٣٩٢.
الحسين بن واقد: مضت ترجمته في: ٤٨١٠. ووقع هناك في طبعتنا هذه"الحسن". وهو خطأ مطبعي، مع أننا بيناه على الصواب في الترجمة، فيصحح ذلك.
يزيد النحوي: هو يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي، مولى قريش. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وابن معين، وغيرهما. قتله أبو مسلم سنة ١٣١ لأمره إياه بالمعروف. والنحوي": نسبة إلى"بني نحو"، بطن من الأزد.
وهذا إسناد صحيح.
والحديث ذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٥٣، ونسبه للطبري فقط.
وذكره ابن كثير ٢: ٦٩، عن رواية النسائي، فهو يريد بها السنن الكبرى. وكذلك صنع السيوطي في الإتقان ١: ٣٣.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٤، وقال: "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات".
وفي الدر المنثور ١: ٣٦٩-٣٧٠ زيادة نسبته لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.
وظاهر هذه الرواية عن ابن عباس، يعارض ظاهر الرواية السابقة عنه: ٦٣١٠، أن آخر آية زلت هي آية الربا.
فقال الحافظ في الفتح: "وطريق الجمع بين هذين القولين، [يريد الروايتين] : أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا، إذ هي معطوفة عليهن".
ويشير إلى ذلك صنيع البخاري، بدقته وثقوب نظره، فإنه روى الحديث الماضي تحت عنوان: "باب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) ". فجعل بهذه الإشارة الموضوع واحدا، والروايتين متحدتين غير متعارضتين. رحمه الله.
40
الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون". (١)
٦٣١٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله".
٦٣١٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، (٢) عن الضحاك، عن ابن عباس = وحجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس = آخر آية نزلت من القرآن:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" = قال ابن جريج: يقولون إن النبي ﷺ مكث بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، (٣) ومات يوم الاثنين.
٦٣١٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس = يوما ترجعون
(١) الخبر: ٦٣١٣- سهل بن عامر: مضت ترجمته في: ١٩٧١، وأنه ضعيف جدا. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"إسماعيل بن سهل بن عامر"! وهو تخليط من الناسخين، فلا يوجد راو بهذا الاسم. ثم هذا الإسناد نفسه هو الماضي: ١٩٧١. ومضى أيضًا رواية محمد بن عمارة، عن سهل، عن مالك بن مغول: ٥٤٣١.
(٢) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ومن كتب التراجم.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وبدا يوم السبت"، وهو خطأ فاحش، وأشد منه فظاظة شرح من شرحه فقال: "يريد أنه احتجب عن الناس لمرضه، ثم خرج لهم يوم السبت"! وأولى بالمرء أن يدع ما لا يحسن! إنما هو قولهم: "بدئ الرجل" (بالبناء للمجهول) أي مرض. يقال: متى بدئ فلان؟ أي: متى مرض: وفي حديث عائشة: أنها قالت في اليوم الذي بدئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وا رأساه".
وانظر لهذا الخبر ما خرجه السيوطي في الإتقان ١: ٣٣، وابن كثير ٢: ٦٩، ٧٠.
(٤) الحديث: ٦٣١٦ - هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب، ولكنه حديث ضعيف لإرساله، إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به.
والحديث نقله ابن كثير ٢: ٧٠-٧١، عن هذا الموضع بإسناده. وذكره السيوطي ١: ٣٧٠"عن ابن جرير، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب".
41
فيه إلى الله" فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، (١) أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، (٢) لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، (٣) فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. (٤) وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! (٥) كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، (٦) وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ.
* * *
(١) في المطبوعة: "بفضيحات تفضحكم"، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!!
(٢) في المطبوعة: "مجازاة الأعمال"، ولا أدري لم حذف"الباء"!!
(٣) في المطبوعة: "لا يغادر... " بالياء، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: "فتوفى جزاءها"، وفي المخطوطة: "فتوفيت" غير منقوطة كلها، وصوت قراءتها ما أثبت
(٥) في المطبوعة: "كيف" بحذف الواو، والصواب ما في المخطوطة.
(٦) في المطبوعة: "فأخذ" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة.
42
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله:"إذا تداينتم"، يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به ="إلى أجل مسمى"، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمى أجل بيعه، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه. (١) ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه.
* * *
وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
٦٣١٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، قال ابن عباس في:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، قال: السلم في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (٢)
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أجل بيعه"، وهي عبارة غير مفهومة قد أخل بها التصحيف والتحريف، وقد اجتهدت في تصحيحها على هذا الوجه حتى تستقيم بعض الاستقامة. والسلم (بفتحتين) : السلف. يقال: أسلم وسلم (بتشديد اللام) : إذا أسلف، وهو أن تعطى ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أجل معلوم، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة. وحده عند بعض الفقهاء: هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة. أو ما في حكمها، إلى أجل معلوم".
(٢) الأثر: ٦٣١٧- يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي الهشلي الخزاز، سمع سفيان، ومات سنة ٢٠١، وقد تكلموا فيه قال أبو داود: "بلغني عن أحمد أنه أحسن الثناء عليه" وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال العجلي"ثقة"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه لا يتابع عليه".
مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٩٦، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٧٨.
43
٦٣١٨- حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا يحيى بن الصامت قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين"، قال: نزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (١)
٦٣١٩- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، في السلم، في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (٢)
٦٣٢٠- حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن
(١) الحديث: ٦٣١٨- يحيى بن الصامت: هكذا وقع في المخطوطة والمطبوعة، ولم نعرف من؟ ولعله محرف من شيء آخر؟.
والذي في هذه الطبقة، ونرجح أنه الراوي هنا: هو"يحيى بن أيوب المقابري أبو زكريا العابد. فهو الذي يروي عن عبد الله بن المبارك، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، كما في ترجمته في التهذيب ١١: ١٨٨، ولكن فيه"محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرمي"، وهو خطأ في"عبد العزيز" بدل"عبد الله". ويحيى بن أيوب هذا: ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه. و"المقابري": نسبة إلى المقابر، لكثرة زيارته إياها، كما في اللباب ٤: ١٦٧. وله ترجمة في ابن أبي حاتم ٤/٢/١٢٨، وتاريخ بغداد ١٤: ١٨٨-١٨٩.
ومن المحتمل -وهو رجل عابد زاهد- أن يكون"الصامت" لقبا له، فيكون"يحيى الصامت". ولكن لم أجد نصا على ذلك، ولا ما يشير إليه.
سفيان: هو الثوري.
أبو حيان: هو التيمي، يحيى بن سعيد بن حيان. مضت ترجمته في: ٥٣٨٢.
ابن أبي نجيح: هو عبد الله بن يسار الثقفي المكي. وكنية أبيه"أبو نجيح". وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة، فإنه يروى عن التابعين.
وسيأتي الحديث صحيحا، بإسناد آخر صحيح: ٦٣٢١.
وسيأتي بين هذين بإسنادين ضعيفين.
(٢) الحديث: ٦٣١٩- زيد بن أبي الزرقاء: مضت ترجمته في: ١٣٨٤. ووقع في المطبوعة"يزيد" بدل"زيد". وهو خطأ فلا يوجد من يسمى بهذا في الرواة. ثم هذا الشيخ هو الذي روى عن سفيان الثوري، ويروي عنه علي بن سهل الرملي، كما مضى في ذاك الإسناد.
والحديث ضعيف كالذي قبله. فالرجل المبهم الذي يروي عنه أبو حيان -هو ابن أبي نجيح. ولم يدرك ابن عباس.
44
أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، في السلف في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (١)
٦٣٢١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون، إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" (٢)
* * *
(١) الحديث: ٦٣٢٠- محمد بن محبب بن إسحاق القرشي، أبو همام الدلال صاحب الرقيق: ثقة، وثقه أبو داود، وأبو حاتم، وغيرهما. وأخطأ المنذري في تهذيب السنن: ٢٥٣٧، إذ قال: "لا يحتج بحديثه". وإنما قلد ابن الجوزي حين ذكره في الضعفاء. وغلطه في ذلك الذهبي في الميزان.
و"محبب": بباءين موحدتين، وزان"محمد". كذا ضبطه عبد الغني في المؤتلف، ص: ١٢٣، والذهبي في المشتبه، ص: ٤٦٧، والحافظ في التهذيب والتقريب. ووهم ابن أبي حاتم، حين جعله"محبب"، في الجرح ٤/١/٩٦.
"صاحب الرقيق": بالراء، كما في الكبير للبخاري ١/١/٢٤٧، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم. ووقع في التهذيب والخلاصة: "الدقيق" بالدال. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش الجرح: "والرقيق - بالراء: أشبه بقولهم الدلال"، وهو جيد.
والحديث مكرر ما قبله، وهو ضعيف الإسناد كمثله.
(٢) الحديث: ٦٣٢١- معاذ بن هشام الدستوائي: ثقة مأمون. أخرج له الستة.
أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي: إمام ثقة حجة، وكان ممن سمى"أمير المؤمنين في الحديث" - سماه به أبو داود الطيالسي. وقال شعبة: "كان هشام أحفظ مني عن قتادة".
أبو حسان - بالسين: هو أبو حسان الأعرج، مضت ترجمته في: ٥٤٢٢. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"أبو حيان" -بالياء- وهو خطأ وتخليط، كما سيبين من التخريج.
والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف ٤: ٢٥٢ (مخطوط مصور)، عن معمر، عن قتادة، به.
ورواه الشافعي في الأم ٣: ٨٠-٨١، عن سفيان - وهو ابن عيينة، "عن أيوب، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس"، به.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٦، من طريق إبراهيم بن بشار، عن سفيان، وهو ابن عيينة، به.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٦: ١٨، من طريق سعيد بن عامر، عن شعبة، عن قتادة، به.
وتسرع الحافظ الذهبي في مختصر المستدرك، فعقب عليه، كأنه يريد تضعيف إسناده! فقال: "إبراهيم ذو زوائد عن"ابن عيينة"!!
وهي كلمة مرسلة دون تحقيق. فإبراهيم بن بشار الرمادي: مضت ترجمته وتوثيقه في: ٨٩٢، ونزيد هنا: أنه كان مكثرا عن ابن عيينة مغربا. ولكن قال ابن حبان: "كان متقنا ضابطا، صحب ابن عيينة سنين كثيرة، وسمع أحاديثه مرارا". فمثل هذا لا يستبعد عليه أن يأتي عن شيخه بما لم يأت به غيره. هذه واحدة.
وأخرى: أنه لم ينفرد به عن ابن عيينة - كما ترى. وكفى برواية الشافعي إياه عن ابن عيينة ثقة وحجة.
ثم لم ينفرد به ابن عيينة عن أيوب عن قتادة. كما تبين مما ذكرنا من الأسانيد، ومن رواية الطبري هنا. فقد رواه هشام الدستوائي، ومعمر، وشعبة - ثلاثتهم عن قتادة، كما ترى.
ولذلك ذكره ابن كثير ٢: ٧١-٧٢، قال: "وقال قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس... ". فلم يذكر من رواه عن قتادة، لثبوته عنه من غير وجه.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٠، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والبخاري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني.
45
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه قوله:"بدين"، وقد دل بقوله:"إذا تداينتم"، عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال"بدين"؟ قيل: إن العرب لما كان مقولا عندها: "تداينا" بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله:"بدين"، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله:"تداينتم"، (١)
حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [سورة الحجر: ٣٠ سورة ص: ٧٣]، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "الذي قصد تعريفه من قوله تداينتم حكمه". ، وهو غير مستقيم، وفي المخطوطة: "تعريفمن قوله تداينتم حكمه"، بين الكلام بياض، وبالهامش حرف (ط) إشارة إلى الخطأ، فآثرت أن أقيم الجملة بزيادة"سمع" حتى يستقيم الكلام بعض الاستقامة. وقوله"حكمه" مفعول للمصدر في قوله: "تعريف من سمع". ثم انظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: ٨٥، فإنه نقل كلام الطبري مختصرا، آخره: "المعنى الذي قصد له".
(٢) لم أعرف قائله، ولكنه مشهور في كتب التفسير، انظر تفسير أبي حيان ١: ٣٤٣، والقرطبي ٣: ٣٧٧.
46
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فاكتبوه"، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض.
* * *
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب.
فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٢٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: من باع إلى أجل مسمى، أمر أن يكتب، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى.
٦٣٢٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد.
٦٣٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، فكان هذا واجبا.
٦٣٢٥ - وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = وزاد فيه، قال: ثم قامت الرخصة والسعة. (١) قال: (فَإِنْ أَمِنَ
(١) قوله: "ثم قامت الرخصة والسعة"، أي ثبتت واستقامت، وهو مجاز، مثله قولهم: "قام الماء" إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا، وإذا جمد أيضًا. "وقامت عينه": ثبتت لم تتحرك. و"قام عندهم الحق": أي ثبت ولم يبرح. كل ذلك مجاز.
47
بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ).
٦٣٢٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه. (١)
* * *
وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ).
ذكر من قال ذلك:
٦٣٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد، لقوله:"فإن أمن بعضكم بعضا" = قال ابن عيينة، قال ابن شبرمة، عن الشعبي: إلى هذا انتهى.
٦٣٢٨ - حدثنا المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" حتى بلغ هذا المكان:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص من ذلك، (٢) فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
(١) الأثر: ٦٣٢٦-"أبو سلمان المرعشي" في المخطوطة"المدعس"، وفي ابن كثير ٢: ٧٢. وقد ذكر البخاري في الكنى: ٣٧، "أبو سليمان، عن كعب قوله، روى عن قتادة".
(٢) في المطبوعة: "رخص في ذلك"، والذي في المخطوطة صواب، ولكنه سيأتي في المخطوطة كالمطبوعة هنا في رقم: ٦٣٣٤.
48
٦٣٢٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبي، قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.
٦٣٣٠ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية:"فإن أمن بعضكم بعضا"، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله.
٦٣٣١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال غير عطاء: (١) نسخت الكتاب والشهادة:"فإن أمن بعضكم بعضا".
٦٣٣٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: فلولا هذا الحرف، (٢) لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة.
٦٣٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول:"فليؤد الذي اؤتمن أمانته"؟
٦٣٣٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
(١) قوله: "قال غيرعطاء"، لم يمض لقول عطاء ذكر فيما سلف في قول من قال إن الاكتتاب حق واجب وفرض لازم. ولعله سقط أثر فيه التصريح بما قال عطاء، أو لعله اقتصر على ما قاله ابن جريج في الأثر رقم: ٦٣٢٣، كأنه من رواية ابن جريج عن عطاء.
(٢) قوله: "فلولا هذا الحرف"، يعني: فلولا هذا القول من الله تعالى. واستعمال"الحرف" بمعنى القول، لم أجده في كتاب من كتب اللغة، ولكنه مجاز حسن، كما سموا القصيدة"كلمة"، فجائز أن يقال للآية وللقول كله"حرف".
49
داود، عن عامر في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، حتى بلغ هذا المكان:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
٦٣٣٥ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله:"فإن أمن بعضكم بعضا"، قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.
٦٣٣٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين، من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلى قوله: (١) "فإن أمن بعضكم بعضا"، قد نسخ ما كان قبله.
٦٣٣٧ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة، [عن أبيه]، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" إلى:"فإن أمن بعضكم بعضا" = (٢) قال: هذه نسخت ما قبلها. (٣)
* * *
(١) في المخطوطة: "قال فقال إلى قوله.. " بياض بين الكلمتين، و"فقال"، مكان"فقرأ" والذي في المطبوعة أشبه بالصواب.
(٢) في المطبوعة: "قال فقرأ إلى: فإن أمن... " وفي المخطوطة تكرار بعد قوله: "إلى أجل مسمى" نصه: "قال فقرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى. هذه نسخت ما قبلها" ولم يذكر"فإن أمن... " وهي الآية الناسخة. وأثبت الصواب من الناسخ والمنسوخ: ٨٣، وروى الخبر، كما سيأتي.
(٣) الأثر: ٦٣٣٧ -"محمد بن مروان بن قدمة العقيلي" روى عنه البخاري في التعاليق، وأبو داود في المراسيل، وروى عنه مسدد ويحيى معين وغيرهم. قال أحمد: "رأيت محمد بن مروان العقيلي، وحدث بأحاديث وأنا شاهد، لم أكتبها، تركتها على عمد" - كأنه ضعفه. وقال ابن معين: "ليس به بأس"، وعن أبي داود: "صدوق". مترجم في التهذيب. و"عبد الملك بن أبي نضرة العبدي" روى عن أبيه. قال الحافظ في التهذيب: "ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. له عندهما حديث في آية الدين: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم. قلت: وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال الحاكم في المستدرك: من أعز البصريين حديثا". مترجم في التهذيب. وأبوه"أبو نضرة" هو: "المنذر بن مالك بن قطعة العبدي" روى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر، وأبي سعيد، وابن عباس وغيرهم من الصحابة. قال أحمد: "ثقة". وقال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به". مترجم في التهذيب.
هذا، وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة ما وضعناه بين القوسين [عن أبيه]، وهو سهو من الناسخ، وقد جاء على الصواب في الناسخ والمنسوخ: ٨٣ بهذا الإسناد نفسه، كما أشرت إليه في التعليق السالف.
50
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين ="كاتب بالعدل"، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، (١) ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه، كما:
٦٣٣٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل"، قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا.
* * *
وأما قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك، أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك،
(١) في المطبوعة: "لا يحيف ذا الحق"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهي فيها برسم ما أثبت غير منقوط. حاف يحف حيفا: مال وجار، وهو فعل لازم غير متعد. أما"تحيفه ماله وحقه": تنقصه من حافاته.
51
نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٣٩ - حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولا يأب كاتب"، قال: واجب على الكاتب أن يكتب.
٦٣٤٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب"، أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم= قال: ابن جريج، وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب.
٦٣٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، بمثله.
٦٣٤٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت، فلا تأب أن تكتب لهم.
* * *
ذكر من قال:"هي منسوخة". قد ذكرنا جماعة ممن قال:"كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها"، (١) وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.
٦٣٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن
(١) انظر ما سلف من رقم: ٦٣٢٧-٦٣٣٧.
52
جويبر، عن الضحاك:"ولا يأب كاتب"، قال: كانت عزيمة، فنسختها: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).
٦٣٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه، عن الربيع:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" فكان هذا واجبا على الكتاب.
* * *
وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٤٥ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه. (١)
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته". لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله:"فاكتبوه
(١) قوله: "حرجا"، أي آثما. وانظر ما سلف مرارا في التعليق على هذه الكلمة ٢: ٤٢٣/ ثم ٤: ٢٢٤ (تعليق: ١) / ثم ٤٧٥ تعليق: ٢/ ثم ٥٦٦ تعليق: ٣، ثم ص ٥٦٧ وما بعدها.
53
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله".
وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. (١) فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) ناسخا قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" - لوجب أن يكون قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [سورة المائدة: ٦] ناسخا الوضوء بالماء = في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر = الذي فرضه الله عز وجل بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [سورة المائدة: ٦] وأن يكون قوله في كفارة الظهار: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) [سورة المجادلة: ٤] ناسخا قوله: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) (٢) [سورة المجادلة: ٣].
* * *
فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل:"فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته" ناسخٌ قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه": ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله = (٣) فزعم أنّ كل ما أبيح في حال
(١) يعني ما سلف له بيانه في ٣: ٣٨٥، ٥٦٣/ ٤: ٥٨٢، وما سيأتي في هذا الجزء: ١١٨، تعليق: ١.
(٢) ساق رأي الطبري مختصرًا، أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ٨٣، ٨٤، والقرطبي في تفسيره ٣: ٤٠٣، ٤٠٤.
(٣) في المطبوعة: "ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم ما ذكرنا قوله"، أدخل التعريف على"قائل"، وحذف الواو من"وما ذكرنا" فصار الكلام محفوفًا بالفساد والخلط من كل مكان، وتخلع السياق تخلعًا فظيعًا. وقول الطبري"وما ذكرنا" يعني ما ذكره في آية الظهار السالفة. ويعني بقوله: "وما ذكرنا قوله"، أي أنه منسوخ بتمام الآية.
54
الضرورة لعلة الضرورة، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله: نظيرَ قوله في أنّ الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله:"وإن كنتم عَلى سَفر ولم تجدُوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضة فإن أمن بعضُكم بعضًا فليؤدّذ الذي اؤتمن أمانته) ؟
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله:"فإن أمن بعضُكم بعضًا" كلام منقطع عن قوله:"وإن كنتم على سَفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله:"فرهان مقبوضة". وإنما عنى بقوله:"فإن أمن بعضكم بعضًا":"إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمى"، فأمن بعضكم بعضًا، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته.
قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله:"ويُعلّمكم الله واللهُ بكل شيء عليم"؟ (١)
* * *
وأما الذين زعموا أن قوله:"فاكتبوا"، وقوله:"ولا يأب كاتب" على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
ذكر من قال:"العدل" في قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل": الحقّ.
(١) هذه حجة حبر رباني بصير بمعاني الكلام.
55
.........................................................................
.........................................................................
............................................................................ (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾
(٢)
قال أبو جعفر: يعني بذلك:" فليكتب" الكاتب = وليملل الذي عليه الحق"، وهو الغريم المدينُ يقول: ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب ="وليتق الله ربه" المملي الذي عليه الحقّ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به منه تعدّيًا، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته، كما:
٦٣٤٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فليكتب وليملل الذي عليه الحق"، فكان هذا واجبًا -"وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا"، يقول: لا يظلم منه شيئًا.
٦٣٤٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يبخس منه شيئًا"، قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى.
* * *
(١) سقط من الناسخ في هذا المكان، ما رواه أبو جعفر من أقوال القائلين في معنى"العدل" بإسناده إليهم. ولا سبيل إلى إتمام ذلك حتى توجد نسخة من التفسير يقل سهو ناسخها وإغفاله.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: سقط من الناسخ"فليكتب" قبل"وليملل"، فأثبتها.
56
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا"، فإن كان المدين الذي عليه المال"سفيهًا"، يعني: جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب، كما:-
٦٣٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، أما السفيه: فالجاهل بالإملاء والأمور.
* * *
وقال آخرون: بل"السفيه" في هذا الموضع، الذي عناه الله: الطفلُ الصغير.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٤٩ - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، أما السفيه، فهو الصغير.
٦٣٥٠ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا"، قال: هو الصبي الصغير، فليملل وليُّه بالعدل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال:"السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه"، لما قد بينا قبل من أن معنى"السفه" في كلام العرب: الجهلُ. (١)
(١) انظر تفسير"السفه" فيما سلف ١: ٢٩٣-٢٩٥/ ٣: ٩٠، ١٢٩، ١٣٠.
57
وقد يدخل في قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها: كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم = والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدَين إلى أجل مسمى"، والصبي ومن يُولّى عليه، لا يجوز مُداينته، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع السفيه، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم: (١) ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم، غير الصنفين الآخرين. (٢)
وإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف، هو ذو القوة على الإملال، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه = وأن الموصوف بالضعف منهم، هو العاجز عن إملاله، وإن كان شديدًا رشيدًا، إما لعيّ لسانه أو خرس به = وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ، هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.
فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمرَ، عند سقوط فرض ذلك عليهم، وليَّ
(١) في المخطوطة: "فعن فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه، فالصفة ومن لا يستطيع إملاء الكتاب التي وصف الله بها كل واحد منهم... " وهو كلام مضطرب، وقد أصاب ناشر المطبوعة في تصحيحه.
(٢) في المخطوطة: "... الذين بين الله صفاتهم"، وهو تصحيح لما كان في المخطوطة وهو: "الذين سن منه صفاتهم" غير منقطة، ورجحت قراءتها كما أثبتها.
58
الحق بإملاله فقال:"فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل"، يعني: وليُّ الحقّ.
* * *
ولا وجه لقول من زعم أن"السفيه" في هذا الموضع هو الصغير، وأن"الضعيفَ" هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال، يوجب أن يكون قوله:"أو لا يستطيعُ أن يملّ هو" هو، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، لبطل معنى قوله:"فليملل وليه بالعدل"، (١) لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، (٢) ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك، ما يقضي على فساد قول من زعم أن"السفيه" في هذا الموضع، هو الطفل الصغير، أو الكبير الأحمق.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٥١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، يقول: وليّ الحق.
٦٣٥٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل"، قال يقول: إن كان عجز عن ذلك، أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل.
* * *
(١) في المطبوعة: "بطل"، وفي المخطوطة: "فبطل"، ورجحت قراءتها كما أثبتها.
(٢) في المخطوطة: "لا يولى عليه ماله"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.
59
ذكر الرواية عمن قال:"عنى بالضعيف في هذا الموضع: الأحمق"، وبقوله:"فليملل وليه بالعدل"، ولي السفيه والضعيف.
٦٣٥٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو"، قال: أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل.
٦٣٥٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق.
٦٣٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيفُ فالأحمق.
٦٣٥٦ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا" لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه.
* * *
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.
* * *
وأما قوله:"فليملل وليه بالعدل"، فإنه يعني: بالحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.
* * *
يقال:"فلان" شَهيدي على هذا المال، وشاهدي عليه". (١)
* * *
(١) انظر تفسير"شهيد" فيما سلف ١: ٣٧٦، ٣٧٧.
60
وأما قوله:"من رجالكم"، فإنه يعني من أحراركم المسلمين، دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار، كما:-
٦٣٥٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، قال: الأحرار.
٦٣٥٨- حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن سعيد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجلٌ وامرأتان على الشهادة. ورفع"الرجل والمرأتان"، بالرّد على"الكون". وإن شئتَ قلتَ: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجلٌ وامرأتان، (١) كان صوابًا. كل ذلك جائز.
* * *
ولو كان"فرجلا وامرأتين" نصبًا، كان جائزًا، على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فرجل وامرأتان"، والصواب ما أثبت، وهو الوجه الذي ذكره الفراء في معاني القرآن ١: ١٨٤.
(٢) أكثر هذا نص معاني القرآن للفراء ١: ١٨٤. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فرجل وامرأتان" نصبًا، والأجود ما أثبت.
61
وقوله:"ممن ترضون من الشهداء"، يعني: من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم، كما:-
٦٣٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، يقول: في الدَّين ="فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان"، وذلك في الدين ="ممن تَرْضون من الشهداء"، يقول: عدولٌ.
٦٣٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا ذَوَيْ عدل من رجالهم ="فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من الشهداء".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) بفتح"الألف" من"أنْ"، ونصب"تَضلَّ"، و"تذكرَ"، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير. لأن"التذكير" عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان"تضلّ". لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا"تذكّر"، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله، (١) فصار جوابه
(١) في المخطوطة: "لما تقدم تضل بما قبله"، والصواب من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.
62
مردودًا عليه، كما تقول في الكلام:"إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى"، بمعنى: إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو: إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله:"أنْ يسأل" لما تقدم، اتصل بما قبله وهو قوله:"ليعجبني"، ففتح"أنْ" ونصب بها، (١) ثم أتبع ذلك قوله:"يعطى"، فنصبه بنصب قوله:"ليعجبني أن يسأل"، نسقًا عليه، وإن كان في معنى الجزاء. (٢)
* * *
وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين"الذال" من (تُذْكِرَ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك.
وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه: فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما، بمعنى: أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من الذكور في الدَّين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور، (٣) فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى - صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب:"لقد أذكرت بفلان أمُّه"، أي ولدته ذَكرًا،"فهي تُذْكِر به"،"وهي امرأةٌ مُذْكِرٌ"، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينه أنه كان يقوله.
(١) في المطبوعة: "فتح أن ونصب بها"، وفي المخطوطة: "ففلح ونصب بها" تصحيف، وبإسقاط"أن".
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٨٤.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "منزلة شهادة واحد... " بإسقاط الباء، والصواب ما أثبت.
63
٦٣٦١ - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله:"فتذْكر إحداهما الأخرى" من الذِّكْر بعد النسيان، إنما هو من الذَّكَر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة الذكر.
* * *
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى"الذكر" بعد النسيان. (١)
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) "بكسر"إن" من قوله:"إن تضلَ" ورفع"تذكر" وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها، ذكرتها الأخرى، (٢) من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك (٣) = وانقطاع ذلك عما قبله. (٤) ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضَلت ذكرتها الأخرى = على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. (٥)
وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش"تضل"، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو"إن". وتأويل الكلام على
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وقال آخرون منهم يوجهونه" ليس صوابًا، والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة"تذكرها الأخرى"، وفي المخطوطة"وذكرها الأخرى"، والسياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي بعد ما يدل على صواب ما رجحت.
(٣) في المخطوطة: "وتنكيرها ذلك"، تصحيف.
(٤) قوله: "وانقطاع ذلك عما قبله" معطوف على قوله آنفًا: "بمعنى ابتداء الخبر... ".
(٥) في المخطوطة: "من تنكير الأخرى منهما... "، تصحيف، كالسالف في التعليق رقم: ٣.
64
قراءته (١) "إن تَضْللْ"، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى، حركها إلى أخفّ الحركات، ورفع"تذكر" بالفاء، لأنه جواب الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك، قراءةُ من قرأه بفتح"أن" من قوله:"أن تضلّ إحداهما"، وبتشديد الكاف من قوله:"فتذكِّر إحداهما الأخرى". ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى.
وأما نصب"فتذكر" فبالعطف على"تضل"، وفتحت"أن" بحلولها محل"كي" وهي في موضع جزاء، والجواب بعده، اكتفاءً بفتحها = أعني بفتح"أن" = من"كي"، ونسق الثاني - أعني:"فتذكر" - على"تضل"، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن"كي".
وإنما اخترنا ذلك في القراءة، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم، إلى غيرها. وأما اختيارنا"فتذكر" بتشديد الكاف، فإنه بمعنى: ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى، وتعريفها بأنها [نسيت] ذلك، لتذكر. (٢) فالتشديد به أولى من التخفيف.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "تأويل الكلام" بإسقاط الواو، والصواب، ما أثبت.
(٢) مطبوعة بولاق: "فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بأنها ذلك لتذكر" وهو كلام بلا معنى. وفي مطبوعة أخرى قبله، مع"بإنهاء ذلك" مكان"بأنها ذلك" وهو أشد خلوًا من المعنى. وفي المخطوطة: "بمعنى يوره الذكر... بأنها ذلك"، غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت، مع زيادة"نسيت" التي وضعتها بين القوسين.
65
وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويلٌ خطأ لا معنى له، لوجوه شتى:
أحدها: أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل.
والثاني: أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها، (١) إنما هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها، (٢) كضلال الرجل في دينه: إذا تحيَّر فيه فعدَل عن الحق (٣). وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا معها، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ، (٤) لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، (٥) فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، (٦) كما يقال للشيء القوي في عمله:"ذَكرٌ"، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه:"سيف ذكر"، و"رجل ذَكَر" يراد به: ماض في عمله، قويّ البطش، صحيحُ العزم.
فإن كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك؟
(١) في المطبوعة: "أنه معلوم بأن ضلال... " بزيادة الباء، وهو لا خير فيه، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "إنما هو خطؤها عنها بنسيانها"، والصواب من المخطوطة، غير أنها أسقطت الواو قبل"ونسيانها".
(٣) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف ١: ١٩٥ / ثم ٢: ٤٩٥، ٤٩٦.
(٤) في المطبوعة: "فالضالة منهما"، وفي المخطوطة: "ولا الضالة منهما"، والصواب ما أثبت.
(٥) في المطبوعة: "ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره... "، وفي المخطوطة: "سحدتها" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. مجاز من قولهم: "شحذ السكين والسيف": حدده بالمسن ومنه: "شحذ الجوع معدته"، إذا أضرمها وقواها على الطعام وأحدها. ويقال: "اشحذ له غرب ذهنك"، و"هذا الكلام مشحذة للفهم".
(٦) في المخطوطة: "فقوته بالذكر"، وما في المطبوعة أجود.
66
إلا أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك، (١) صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى، القراءةَ التي اخترناها. (٢) ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله:"فتذكر". (٣) ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا. (٤)
* * *
ذكر من تأول قوله:"أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى" نحو تأويلنا الذي قُلنا فيه:
٦٣٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى"، علم الله أن ستكونُ حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربِّكم، وأدرَكُ لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا.
٦٣٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكِّرها الأخرى.
٦٣٦٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
(١) في المطبوعة: "إذا تأول ذلك... " وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "القراءة الذي اخترناها"، وهو سهو من الناسخ الكثير السهو!!
(٣) في المطبوعة: "بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته... " وهو كلام قد أريق معناه ضياعًا. وفي المخطوطة: "بأن +تعين القراءة حينئذ الصحيح بالذي اختار قراءته... "، وهو مصحف، وأرجح أن يكون صواب الجملة كما أثبتها، لأنها عندئذ مصيبة معنى ما أراد أبو جعفر.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "فالصواب في قوله... "، والصواب ما أثبت. وسياق الجملة: "فالصواب في قراءته... ما اخترنا".
67
عن السدي:"أن تضل إحداهما"، يقول: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكّرها الأخرى.
٦٣٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"أن تضل إحداهما"، يقول: إنْ تنسَ إحدَاهما، كذتِّرْها الأخرى.
٦٣٦٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أن تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى"، قال: كلاهما لغة، وهما سواء، ونحن نقرأ:"فتذكِّر".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.
فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٦٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم، (١) فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية:"ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا" ليشهدوا لرجل على رجل.
٦٣٦٨ - حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الرجل يطوف في القوم
(١) الحواء (بكسر الحاء) : بيوت مجتمعة من الناس على ماء.
68
الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عز وجل:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا".
٦٣٦٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دُعيت إلى شهادة.
* * *
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٧٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال:"لا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - للشهادة على من أراد الدّاعي إشهادَه عليه، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٧١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن الحسن:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا"، قال: قال الحسن: الإقامة والشهادة. (١)
٦٣٧٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر
(١) الأثر ٦٣٧١-"أبو عامر" هو: "صالح بن رستم المزني"، روى عن عبد الله بن أبي مليكة، وأبي قلابة، وحميد بن هلال، والحسن البصري، وعكرمة وغيرهم. روى عنه ابنه عامر، وإسرائيل، وهشيم، ومعتمر، وأبو داود الطيالسي. قال ابن معين: "ضعيف". وقال أحمد: "صالح الحديث". وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: "شيخ، يكتب حديثه". وقال أبو داود: "ثقة". وسيأتي في الأسانيد رقم: ٦٣٨٣، ٦٣٨٤، ٦٣٨٧.
69
في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الحسن يقول: جَمَعتْ أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيتَ إلى شهادة.
٦٣٧٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي.
٦٣٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لإقامتها، ولا يبدأ بها، إذا دعاه ليشهده، وإذا دعاه ليقيمها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٧٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد.
٦٣٧٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.
٦٣٧٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: إذا كانوا قد أشْهِدوا.
٦٣٧٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت عندك شهادة فدُعيت.
٦٣٧٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن
70
مجاهد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دُعيت لتشهد، فإن شئتَ فاذْهب، وإن شئت فلا تذهب.
٦٣٨٠ - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصّباح، عن عمران بن حُدَير، قال: قلت لأبي مجلز: ناس يدعونني لأشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت.
٦٣٨١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد.
٦٣٨٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا". قال: لإقامة الشهادة.
٦٣٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة.
٦٣٨٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو عامر المزني قال، سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة = يعني قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا". (١)
٦٣٨٥ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال: فلا تجبْ إن شئت. (٢)
٦٣٨٦ - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم
(١) الأثران: ٦٣٨٣، ٦٣٨٤ - أبو"عامر" مضت ترجمته برقم: ٦٣٧٢.
(٢) الأثر: ٦٣٨٥ -"أبو حرة" البصري، هو: "واصل بن عبد الرحمن". روى عن عكرمة بن عبد الله المزني، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن واسع وغيرهم. روى عنه حماد بن سلمة، وهشيم، والقطان، وابن مهدي، ووكيع، وغيرهم. قال البخاري: "يتكلمون في روايته عن الحسن". قال عبد الله بن أحمد: سألت يحيى بن معين عن أبي حرة فقال: "صالح، وحديثه عن الحسن ضعيف، يقولون: لم يسمعها من الحسن". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: أبو مرة، وهو خطأ.
71
قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئتَ.
٦٣٨٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن عطاء قال: للإقامة. (١)
٦٣٨٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا.
٦٣٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هو الذي عنده الشهادة.
٦٣٩٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد، إذا كان فارغًا.
٦٣٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دُعي أن يكتب وجبَ عليه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثيرٌ.
٦٣٩٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويُقيمها.
٦٣٩٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(١) الأثر: ٦٣٨٧-"أبو عامر"، انظر ما سلف رقم: ٦٣٧٢.
72
"ولا يأب الشهداء"، قال: كان الحسن يتأوّلها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها.
٦٣٩٤ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهِد لرجل فشهد، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه. (١)
* * *
وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق، ابتداءً، لا لإقامة الشهادة، (٢) ولكنه أمر نَدْب لا فرْض.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٩٥ - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد. (٣)
٦٣٩٦ - حدثني أبو العالية قال، حدثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العَصَريّ، عن عطاء، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال:" [معنى]
(١) قوله: "مقطع الحق": هو موضع الفصل في الحكم بين الحق والباطل. من"القطع"، وهو الفصل بين الأجزاء.
(٢) في المطبوعة: "لا إقامة الشهادة"، وفي المخطوطة كتب"لا إقامة" ثم ضرب على الألف ووضع تحت الألف من"لا" همزة، وظاهر أن الذي أثبته هو الصواب.
(٣) الخبر: ٦٣٩٥- إسماعيل بن الهيثم، أبو العالية العبدي، شيخ الطبري: لم نجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع، إلا رواية الطبري هذا الخبر والذي بعده، وروايته عنه في التاريخ ١: ٢٠٦ مرة واحدة، عن أبي قتيبة أيضًا.
وأبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة، مضت ترجمته في: ١٩٢٤.
73
ذلك: (١) ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له".
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عز وجل قال:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا"، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم"الشهداء". وغير جائز أن يلزمهم اسم"الشهداء" إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم"الشهداء". (٢) فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء، فغير جائز أن يقال لهم"شهداء". لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له"شاهد"، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، (٣) أو من قد قام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم = (٤) كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله:"ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دعوا"، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً، أو شَهد، فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد، غيرُ مستحق اسم"شهيد" ولا"شاهد"، لما قد وصفنا قبل.
=مع أن في دخول"الألف واللام" في"الشهداء"، دلالةً واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا بالشهادة،
(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها.
(٢) في المطبوعة: "على ما ألزمهم شهادتهم عليه"، وفي المخطوطة: "لزمهم شهادتهم"، والصواب في قراءة ذلك ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "وإن كان خطأ... " والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "شهادة لغيرهم"، والصواب ما في المطبوعة.
(٤) في المطبوعة: "من قد قام بشهادته"، وفي المخطوطة: "من قد قام شهادته"، وصواب القراءة ما أثبت.
74
وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضونَ من الشهداء". وإذْ كان ذلك كذلك، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد عليها، لقيل: (١) ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى.
غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ داعيه إليها، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرضٌ عليه أن يكتب، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله، فسأله تعليمه وبيان ذلك له، أنْ يعلمه ويبيِّنه له. (٢) ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم. (٣)
* * *
"والشهداء" جمع"شهيد". (٤)
* * *
(١) في المخطوطة: "إلى الشهادة فشهد"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) سياق هذه الجملة: كما فرض على من كان بموضع... أن يعلمه.. ".
(٣) في المطبوعة: "وقد فرضنا على الرجل... "، وهو خطأ فاسد، وتحريف لما في المخطوطة من الصواب المحض.
(٤) انظر ما سلف في بيان"الشهداء" ١/ ٣٧٧/ ثم ٣: ٩٧، ١٤٥/ وما سلف قريبًا ص: ٦٠.
75
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا، أيها الذين تُداينون الناس إلى أجل، أن تكتبوا صغيرَ الحق، يعني: قليله، أو كبيره = يعني: أو كثيره = إلى أجله = إلى أجل الحق، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال.
٦٣٩٧ - حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد:"ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله"، قال: هو الدّين.
* * *
ومعنى قوله:"ولا تسأموا": لا تملوا. يقال منه:"سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً"، ومنه قول لبيد:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا... وَسُؤَالِ هذَا النَّاسِ: كَيْفَ لَبيدُ؟ (١)
ومنه قول زهير:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ، وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ عَامًا، لا أَبَالَكَ، يَسْأَمِ (٢)
يعني مللت.
* * *
وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله:"إلى أجله"، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه. (٣)
* * *
(١) ديوانه، القصيدة رقم: ٧، يذكر فيها طول عمره، ومآثره في ماضيه.
(٢) ديوانه: ٩. تكاليف الحياة: مشقاتها ومتاعبها. وهذا البيت هو مطلع أبياته الحكيمة التي ختم بها معلقته.
(٣) انظر ما قاله في"الأجل" فيما سلف قريبًا ص: ٤٣.
76
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلكم"، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله.
* * *
ويعني بقوله:"أقسط"، أعدل عند الله.
يقال منه:"أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا، وهو مُقسط"، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل:"قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا". ومنه قول الله عز وجل: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [سورة الجن: ١٥]، يعني الجائرون.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٣٩٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ذلكم أقسط عند الله"، يقول: أعدل عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة.
* * *
وأصله من قول القائل:"أقمتُ من عَوَجه"، (١) إذا سويته فاستوى.
* * *
وإنما كان الكتاب أعدل عند الله، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه،
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "أقمته من عوجه"، والصواب ما أثبت.
77
لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه، فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به. واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وأدنى"، وأقرب، من"الدنو"، وهو القرب.
* * *
ويعني بقوله:"أن لا ترتابوا"، أن لا تَشكوا في الشهادة، (١) كما:-
٦٣٩٩ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"ذلك أدنى أن لا ترتابوا"، يقول: أن لا تشكوا في الشهادة.
* * *
وهو"تفتعل" من"الرِّيبة". (٢)
* * *
ومعنى الكلام: ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه، وأقربُ لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "من أن لا تشكوا"، والصواب حذف"من"، أو جعلها"أي أن لا تشكوا".
(٢) في المخطوطة: "وهو تفعيل"، وهو خطأ محض وتحريف.
78
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا﴾
قال أبو جعفر: ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم = ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود الحاضرة يدًا بيد، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض = إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا = ما وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة، (١) فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم، وقد تقابضوا الواجبَ لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء="فليس عليكم جُناح أن لا تكتبوها"، يقول: فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٤٠٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، يقول: معكم بالبلد تَرَوْنها، فتأخذُ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها.
* * *
(١) في المطبوعة: "إذا كان التواجب بينهم فيما يتابعونه بعد ما وجب له قبل مبايعيه.. " وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "إذا كان التواجب بينهم فيما يتبايعون نقدًا ما وجب له قبل مبايعيه"، وقوله"++ ما وجب" غير منقوطة. فرأيت صواب قراءة"التواجب"، "الواجب" وصواب الأخرى"نقدا" فاستقام الكلام. وسياق العبارة: "لأن كل واحد منهم.. يقبض... ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة" وقوله: "إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا"، جملة فاصلة.
79
٦٤٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك."ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله"، إلى قوله:"فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها"، قال: أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ورخصّ لهم أن لا يكتبوه.
واختلفت القرَأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ) بالرفع.
وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. (١) وذلك وإن كان جائزًا في العربية، إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع"كان"، وتضمر معها في"كان" مجهولا فتقول:"إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به"، وترفعها فتقول:"إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به"، فتتبع النكرةَ خبرَها بمثل إعرابها = فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره، الرفعُ في"التجارة الحاضرة"، لإجماع القرأة على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبًا عنهم، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر: (٢)
أَعَيْنيَ هَلا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا إذَا كانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وعِنَاقَا (٣)
(١) في المطبوعة: "فقرأه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٢) لم أعرف قائله، ولكن أخشى أن يكون هو متمم بن نويرة، كما سترى في التعليق التالي.
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ١٨٦. أرجح أن"عفاقًا" هذا، هو"عفاق بن أبي مليل اليربوعي"، الذي قتل يوم العظالى (انظر هذا ١: ٣٣٧، تعليق: ٢) فرثاه متمم بن نويرة اليربوعي، ورثى أخاه بجيرًا، وقد سلف شعر متمم في رثائهما (١: ٣٣٧). ومن أجل ذلك قلت إن الشعر خليق أن يكون لمتمم. أما ما زعمه زاعمون من أنه في"عفاق" الذي أكلته باهلة. والذي يقول فيه القائل:
إنَّ عِفَاقًا أَكلَتْهُ باَهِلَهْ تمشَّشُوا عِظَامَهُ وكاهِلَهْ
فذاك"عفاق" آخر، هو"عفاق بن مرى بن سلمة بن قشير" (القاموس- التاج عفق).
80
وقول الآخر: (١)
وَلِلهِ قَومِي:
أَيُّ قَوْمٍ لِحُرَّةٍ إذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا! ! (٢)
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و"كان" من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما، تذكروا إتباع النكرة خبرَها، وإذا نصبوهما، تذكروا صحبة"كان" لمنصوب ومرفوع. (٣) ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها، وأضمروا في"كان" مجهولا لاحتمالها الضمير.
* * *
وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك:"إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً"، إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ يقرأ"يكون" بالياء، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع"كان" نكرة مؤنثًا بنعتها أو خبرها، أنَّثوا"كان" مرة، وذكروها أخرى، فقالوا:"إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها"، تذكر"كان" - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا، وتؤنث أحيانًا.
* * *
(١) هو عمرو بن شأس، على الشك في ذلك كما سترى في التعليق التالي.
(٢) معاني القرآن للفراء ١: ١٨٦، سيبويه ١: ٢٢، وصدره في سيبويه منسوبًا لعمرو بن شأس: "بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنا"
وأنا أخشى أن يكون الشعر لغير عمرو بن شأس، ولكني لم أجده، وإن كنت أذكر أني قرأته في أبيات غير شعر عمرو. وقوله: "ذا كواكب"، أي شديد عصيب، قد ظهرت النجوم فيه نهارًا، كأنه أظلم فبدت كواكبه، لأن شمسه كسفت بارتفاع الغبار في الحرب، وإذا كسفت الشمس، ظهرت الكواكب. ويقال: "أمر أشنع وشنيع"، أي فظيع قبيح. وكان في المطبوعة: "بحرة"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء. يعني أن أمهم حرة، فولدتهم أحرارًا.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "منصوب ومرفوع" والصواب ما أثبت. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن ١: ١٨٥-١٨٧.
81
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ" مرفوعة فيه"التجارة الحاضرة"، لأن"تكون"، بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازمًا، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك، إذْ لم يكن يجدك لـ"كان" منصوبًا، (١) ووجد"التجارة الحاضرة" مرفوعة، وأغفل جَواز قوله:"تديرونها بينكم" أن يكون خبرًا لـ"كان"، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم.
* * *
والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية، غيرَ أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصحّ: وهو أن يكون في قوله:"تديرونها بينكم" وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب، على أنه حل محل خبر"كان"، و"التجارة الحاضرة" اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع"التجارة الحاضرة"، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسَائه، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدًا بيدٍ ونقدًا، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري، فأنْ يجحد البائعُ
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا لم يكن يجد"، والسياق يقتضي: "إذ".
82
البيع، (١) وله بيِّنة على ملكه ما قد باع، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه، فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به، فيذهب مالُ المشتري باطل وأما على البائع، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قِبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلفُ على ذلك، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.
* * *
ثم اختلفوا في معنى قوله:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، أهو أمرٌ من الله واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟
فقال بعضهم:"هو نَدْبٌ، إن شاء أشهد، وإن شاء لم يُشهد".
ذكر من قال ذلك:
٦٤٠٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله:"فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته"؟
٦٤٠٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا الربيع ابن صبيح قال: قلت للحسن: أرأيتَ قول الله عز وجل:"وأشهدوا إذا تبايعتم"؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس.
٦٤٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة، (٢) أترى
(١) في المطبوعة: ".. البائع المبيع.. "، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "ينقد في شهرين"... ، وأثبت ما في المخطوطة.
83
بأسًا أن لا أشهد عليه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس. (١)
٦٤٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤوا لم يشهدوا.
* * *
وقال آخرون:"الإشهاد على ذلك واجب".
ذكر من قال ذلك:
٦٤٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها"، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ، ما كان يدًا بيد أن يُشهدوا عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا.
٦٤٠٧ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم، لما قد بيَّنا: من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ،
(١) الأثران: ٦٤٠٣، ٦٤٠٤ -"الربيع بن صبيح السعدي". روى عن الحسن، وحميد الطويل ومجاهد بن جبر، وغيرهم. وروى عنه الثوري، وابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم. قال حرملة عن الشافعي: "كان الربيع بن صبيح غزاء - وإذا مدح الرجل بغير صناعته، فقد وهص، أي دق عنقه". وقال أحمد: "رجل صالح لا بأس به". وقال ابن معين وابن سعد والنسائي: "ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "كان من عباد أهل البصرة وزهادهم، وكان يشبه بيته بالليل ببيت النحل من كثرة التهجد، إلا أن الحديث لم يكن من صناعته، فكان يهم فيما يروى كثيرًا، حتى وقع في حديثه المناكير من حيث لا يشعر. لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب.
84
إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد. (١)
* * *
وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال: (٢) ذلك منسوخ بقوله:"فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته"، فيما مضى فأغنى عن إعادته. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ أهله، (٤) فيكتب هذا ما لم يُملله المملي، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد. (٥)
ذكر من قال ذلك:
٦٤٠٨ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:""ولا يضارّ كاتب ولا شهيد"،"ولا يضار كاتب" فيكتب ما لم يملَّ عليه =،"ولا شهيد" فيشهد بما لم يُستشهد.
٦٤٠٩ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان الحسن يقول:"لا يضارّ كاتب" فيزيد شيئًا أو يحرّف ="ولا شهيد"، قال: لا يكتم الشهادة، ولا يشهدْ إلا بحق.
(١) انظر ما سلف قريبًا ص: ٥٣.
(٢) في المخطوطة: "على وهاء قول من قال"، وقد سلف ما قلته في قول الفقهاء"الوهاء" بمعنى"الوهى"، وهو الضعف الشديد في ٤: ١٨ / ثم ص: ١٥٥ تعليق: ١/ ثم ص: ٣٦١، تعليق٣، فراجعه.
(٣) انظر ما سلف قريبًا ص: ٥٣-٥٥.
(٤) في المطبوعة: "نهي من الله لكاتب الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله: "الكاتب الكتاب.. والشهيد" منصوب بالمصدر"نهى"، و"الكتاب" منصوب باسم الفاعل"الكاتب"
(٥) في المخطوطة والمطبوعة: "بما لم يستشهده الشهيد"، وهو محال وخطأ، وإنما"الشهيد الشاهد، وهو لا يعني إلا"المستشهد"، فكذلك أثبتها.
85
٦٤١٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: اتقى الله شاهدٌ في شهادته، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا. (١)
٦٤١١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب ما لم يُملل ="ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد.
٦٤١١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب ما لم يُملل ="ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد.
٦٤١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه.
٦٤١٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والكتاب يومئذ قليلٌ، ولا يدرون أي شيء يُكتب، فيضار فيكتبَ غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضارّ فيحوِّل شهادته، فيبطل حقهم.
* * *
قال أبو جعفر: فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا شهيد، ثم أدغمت"الراء" في"الراء"، لأنهما من جنس، وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم، لأنّ الفتح أخفّ الحركات. (٢)
* * *
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك: ،"ولا يضارّ كاتب ولا شهيد" بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.
(١) الأثر: ٦٤١٠- في المطبوعة: "قال حدثنا يزيد بن قتادة"، وفي المخطوطة: "قال حدثنا يزيد، قال حدثنا يزيد، عن قتادة"، وهو إسناد دائر في الطبري كما أثبته، أقربه رقم: ٦٣٩٣، هذا وقد سلف هذا الأثر مختصرًا برقم: ٦٣٣٨.
(٢) انظر ما سلف ٥: ٤٦-٥٣، وفي"تضار" وقراءاتها، وفي قوله: "لأن الفتح أخف الحركات" ٥: ٥٢، تعليق: ١، ثم هذا فيما سلف قريبا ص: ٦٥ س: ٢.
86
ذكر من قال ذلك:
٦٤١٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: أن يؤديا ما قِبَلهما.
٦٤١٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء."ولا يضار كاتب ولا شهيد"؟ قال:"لا يضار"، أن يؤديا ما عندهما من العلم. (١)
٦٤١٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"لا يضار" كاتب ولا شهيد"، قال: أن يدعوهما، فيقولان: إن لنا حاجة. (٢)
٦٤١٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قالا واجب على الكاتب أن يكتب ="ولا شهيد"، قالا إذا كان قد شهد، اقبلْهُ. (٣)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ والشهيدَ". وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضَارَرْ، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
ذكر من قال ذلك:
٦٤١٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال، كان عمر يقرأ:"ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد".
(١) في المطبوعة: "لا يضارا أن يؤديا" وهو خطأ، وفاسد المعنى، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "فيقولا"، والصواب من المخطوطة.
(٣) قوله: "اقبله"، هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منها، وضبطتها على أقرب المعاني إلى الصواب، ولكني أخشى أن يكون في الكلمة تحريف لم أقف على وجهه.
87
٦٤١٩ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك قال: كان ابن مسعود يقرأ: (ولا يُضَارَرْ).
٦٤٢٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقرأ:"ولا يُضَارَرْ كاتب ولا شهيد"، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه وشاهدَه إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته = وقال مجاهد: لا يقمْ عن شغله وحاجته، فيجدَ في نفسه أو يحرَج.
٦٤٢١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، والضِّرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنىّ: إنّ الله قد أمرك أن لا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم".
٦٤٢٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ؛ فيقول: خلُّوا سبيله.
٦٤٢٣ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول: فلا يضاره.
٦٤٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتبْ لي، واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمسْ غيري! فيقول: اتق الله، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة، ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهدُ بتلك المنزلة.
88
٦٤٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: يدعو الرجل الكاتبَ أو الشهيدَ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما.
٦٤٢٦ - حدثت عن الحسن قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! (١) فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، = يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.
٦٤٢٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته = (٢) ولا شاهدًا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته، وأنتَ تجد غيره.
٦٤٢٨ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: لما نزلت هذه الآية:"ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علَّمه الله"، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي! فيقول: إني مشغول = أو: لي حاجة، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول: إنك
(١) في المطبوعة: "الله أمركما أن تجيبا"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يكتب له"، والسياق يقتضي"لك". وقوله بعد"ولا شاهدًا من شهودك... " معطوف على قوله قبل: "أن تعترض رجلا... ".
89
قد أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فاشهد لي! فيقول: انطلق إلى غيري فإني مشغول = أو: لي حاجة! (١) فيلزمه ويقول: قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، فأنزل الله عز وجل:"ولا يضار كاتب ولا شهيد".
٦٤٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إن لي حاجة فدعني! فيقول: اكتب لي ="ولا شهيد"، كذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، بمعنى: ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ = (٢) على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه:"افعلوا= أو: لا تفعلوا"، إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب، كقوله:"وليكتب بينكم كاتب"، وكقوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، وما أشبه ذلك. فالوجهُ = إذْ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله:"وإن تَفعلوا فإنه فُسوقٌ بكم" = [بأن يكون
(١) في المطبوعة: "ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي. فيقول: اذهب إلى غيري فإني مشغول" وكان في المخطوطة: "ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي إلى غيري فإني مشغول"، وهو فاسدًا، وآثرت تصحيحه على وجه غير الوجه الذي كان في المطبوعة، ليكون أوضح وأقرب إلى معنى الشهادة.
(٢) في المطبوعة: "أن يجيب" وأثبت ما في المخطوطة.
90
الأمر مردودًا على المستكتب والمستشهد]، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد. (١) ومع ذلك، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل: (٢) وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما، لأنهما اثنان، وأنهما غير مخاطبين بقوله:"ولا يضارّ"، بل النهي بقوله:"ولا يضار"، نهيٌ للغائب غير المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان مُنعدِلا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ، وما نُهيتم عنه من ذلك ="فإنه فسوق بكم"، يعني: إثم بكم ومعصيةٌ. (٣)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.
ذكر من قال ذلك:
٦٤٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم"، يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "فالواجب إذ كان المأمورون مخاطبين بقوله: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد"، وهو كلام مختل أشد الاختلال، وهو في المطبوعة أشد اختلالا إذ جعل"إذ كان المأمورون" -"إذ كان... "، وقد وضعت بين القوسين ما هو أشبه بسياق المعنى، وكأنه الصواب إن شاء الله.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "ومع ذلك إن الكاتب والشهيد" والصواب ما أثبت.
(٣) انظر تفسير"الفسوق" فيما سلف ١: ٤٠٩، ٤١٠ / ثم ٢: ١١٨، ١١٩، ٣٩٩ / ثم ٤: ١٣٥-١٤٠.
91
٦٤٣١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، والفسوقُ المعصية.
٦٤٣٢ - حدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، الفسوق العصيان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها ="فإنه فسوق بكم"، يعني: فإنه كذب.
ذكر من قال ذلك:
٦٤٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم"، الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذبٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، إنما معناه: لا يضارّهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية. (١)
فقوله:"وإن تفعلوا" إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما، وأنّ من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به، (٢) وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.
(١) انظر ما سلف قريبًا في تفسير الآية.
(٢) قوله: ""أثم به". قد سلف في ٤: ٥٣٠ تعليق ٣ ما نصه: "آثما بربه" غير منقوطة، كأنها"بربه" ولكني لم أجد في كتب اللغة"آثم بربه" وإن كنت أخشى أن يكون صوابًا له وجه لم أتحققه" وغيرتها هناك"أثم بريائه"، فقد جاء هذا النص هنا محققًا ما خشيت، فصح أن الصواب هناك"آثمًا بربه"، فقيده هناك، وفي كتب اللغة. ومعنى: "أثم بربه": أي: قدم الإثم إلى ربه بمعصيته، فالباء فيه للغاية، كما في قوله تعالى ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ وكما قال كثير:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي، لا مَلُومَةً لَدَيْنَا، ولا مقلِيَّةً إن تَقَلَّتِ
فهذه هي الحجة الناهضة في صواب التعبير الذي جاء في كلام الطبري، والحمد لله رب العالمين على حسن توفيقه إيانا إلى الصواب.
92
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واتقوا الله"، وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه. ويعني بقوله:"ويُعلَّمكم الله"، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به="والله بكل شيء عليم"، يعني: [بكل شيء] من أعمالكم وغيرها، (١) يحصيها عليكم، ليجازيكم بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٤٣٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"ويعلمكم الله"، قال: هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به.
* * *
(١) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة.
93
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا (كَاتِبًا)، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى،"فرهان مقبوضة".
* * *
وقرأ جماعةٌ من المتقدمين: (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا)، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار:"ولم تجدوا كاتبًا"، بمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين.
* * *
[قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه] :(١) وإن كنتم، أيها المتداينون، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك، ليكون ثقةً لكم بأموالكم.
ذكر من قال ما قلنا في ذلك:
٦٤٣٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له
(١) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، حتى يستقيم الكلام.
94
في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن.
٦٤٣٦ - حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا"، يقول: كاتبًا يكتب لكم ="فرهان مقبوضة".
٦٤٣٧ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا]، فرهان مقبوضة. (١)
* * *
ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها:
٦٤٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"فإن لم تجدوا كتابًا"، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم.
٦٤٣٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ:"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا.
٦٤٤٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرأها:"فإن لم تجدوا كتابًا"، ويقول: ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول.
٦٤٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا"، يقول: مدادًا، - يقرأها كذلك - يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة ="فرهن مقبوضة"، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر.
(١) الزيادة بين القوسين، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ.
95
٦٤٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب قال: إن أبا العالية كان يقرؤها،"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال أبو العالية: تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"فرهان مقبوضة".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، بمعنى جماع"رَهْن" كما"الكباش" جماع"كبش"، و"البغال" جماع"بَغل"، و"النعال" جماع"نعل".
* * *
وقرأ ذلك جماعة آخرون: (فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ) على معنى جمع:"رِهان"،"ورُهن" جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع"رَهْن": ، مثل"سَقْف وسُقُف".
* * *
وقرأه آخرون: (فَرُهْنٌ) مخففة الهاء على معنى جماع"رَهْن"، كما تجمع"السَّقْف سُقْفًا". قالوا: ولا نعلم اسمًا على"فَعْل" يجمع على"فُعُل وفُعْل" إلا"الرُّهُنُ والرُّهْن". و"السُّقُف والسُّقْف".
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه:"فرهان مقبوضة". لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على"فَعْل"، كما يقال:"حَبْلٌ وحبال" و"كَعْب وكعاب"، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع"الفَعْل" على"الفُعُل أو الفُعْل" فشاذّ قليل، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل:"سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف""وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب" من:"قلب النخل". (١) "وجَدٌّ وجُدٌّ"، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. (٢) وأما ما جاء من جمع"فَعْل" على"فُعْل"
(١) هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة.
(٢) وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة، وإنما قالوا في جمعه"أجداد وأجد وجدود". وكان في المطبوعة"حد وحد" بالحاء، و"الخط"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط.
96
ف"ثَطٌّ، وثُطّ"، و"وَرْدٌ ووُرْد" و"خَوْدٌ وخُود".
وإنما دعا الذي قرأ ذلك:"فرُهْنٌ مقبوضة" إلى قراءته فيما أظن كذلك، مع شذوذه في جمع"فَعْل"، أنه وجد"الرِّهان" مستعملة في رِهَان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى"الرهان" الذي هو جمع"رَهْن"، ووجد"الرُّهُن" مقولا في جمع"رَهْن"، كما قال قَعْنَب:
بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرُّهُنُ (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، ="فليتق الله"، المدينُ ="رَبّه"، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يَلُطّ دونه، (٢) أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له، (٣) به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه، إليه.
* * *
وقد ذكرنا قول من قال:"هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي
(١) مختارات ابن الشجرى ١: ٦، ولباب الآداب ٤٠٢-٤٠٤، اللسان (رهن)، وروايته هناك"من قبلك"، وهي أجود فيما أرى. غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا: إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده. كان هذا على رسم الجاهلية، فأبطله الإسلام. يقول: فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها، فذهبت بذلك كله، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده.
(٢) يقال: "لط الغريم بالحق دون الباطل": دافع ومنع الحق. و"لط حقه، ولط عليه" جحده ومنعه.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا قبل" بحذف اللام، وما أثبت هو أقرب إلى الجودة.
97
في الآية قبلها: من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب". وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١) وقد:-
٦٤٤٣ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله الضحاك = من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر=، فكما قال، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل.
وأما ما قاله= من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك، مثل الائتمان: في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر= فإنه قولٌ لا معنى له، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
٦٤٤٤- أنه اشترى طعامًا نَسَاءً، ورهن به درعًا لهُ. (٢)
* * *
فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بمالَهُ من حقّ، في السفر والحضر- لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ ﷺ لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن، فالواجب عليهما= إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، أو كان البيع
(١) انظر ما سلف آنفًا: ص ٥٣-٥٥.
(٢) الأثر: ٦٤٤٤- ذكره الطبري بغير إسناد. وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٥: ١٠٠- ١٠٢) ومسلم في صحيحه ١١: ٣٩، ٤٠ من طرق، عن عائشة أم المؤمنين. وسنن البيهقي ٦: ٣٦. يقال نسأت عنه دينه نساء: (بالمد وفتح النون) : أخرته. و"بعته بنسيئة"، أي: بأخرة.
98
أو الدَّين إلى أجل مسمى (١) = أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم، فقال لهم:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا" - ولا تكتموا، أيها الشهود، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه.
ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان، فقال:"ومن يَكتمها". يعني: ومن يكتم شهادته ="فإنه آثم قَلبه"، يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله، (٢) كما:-
٦٤٤٥ - حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه"، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا.
٦٤٤٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
(١) في المطبوعة: "وكان البيع... " وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة.
99
قوله:"ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، يقول: فاجر قلبه.
٦٤٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) (١) [سورة المائدة: ٧٢]، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول:"ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه".
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول:"على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد، ويخبر بها حيثُ استُخبر".
٦٤٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل:"أخْبِر بها عند الأمير"، أخبره بها، لعله يراجع أو يَرْعَوي.
* * *
وأما قوله:"والله بما تعملون عليمٌ"، فإنه يعني:"بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها ="عليمٌ"، يحصيه عليكم، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.
* * *
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن يشرك بالله"، وليست هذه قراءتها، أخطأ الناسخ وسها.
100
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
(١)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لله ما في السموات وما في الأرض"، لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير، وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه.
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه كتمانَ الشهود الشهادةَ، يقول: لا تكتموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتمها يفجُرْ قلبه، ولن يخفى عليّ كتمانه ذلك، لأني بكل شيء عليم، وبيدي صَرْف كل شيء في السموات والأرض ومِلكه، أعلمُ خفيّ ذلك وَجليّه، (٢) فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة = وعيدًا من الله بذلك مَنْ كتمها، وتخويفًا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرَائهم ممن انطوى كشحًا على معصية فأضمرها، أو أظهر مُوبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال:"وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، يقول: وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المالِ الجحودَ والإنكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم، وغير ذلك من سيئ أعمالكم ="يحاسبكم به الله"، يعني
(١) لم تثبت المخطوطة ولا المطبوعة قوله تعالى: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" في هذا الموضع ولا في غيره إلى القول في تفسير تمام الآية، وأثبتها في مكانها.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "أعلمه خفي.. "، والسياق يقتضي ما أثبت. وفي المخطوطة: "وجليله"، ولا بأس بها، ولكن ما في المطبوعة أمثل بالسياق.
101
بذلك: يحتسب به عليكم من أعمالكم، (١) فمجازٍ من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، (٢) وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين. (٣)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله:"وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله".
فقال بعضهم بما قلنا: من أنه عنى به الشهودَ في كتمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها.
ذكر من قال ذلك:
٦٤٤٩ - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله"، يقول: يعني في الشهادة. (٤)
٦٤٥٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: في الشهادة.
٦٤٥١ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال: سئل داود عن قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فحدثنا عن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "يحسب به عليه من أعماله" بالضمير المفرد، والسياق يقتضي الجمع كما أثبته. ويقال: "احتسب عليه بالمال"، أي: عددته عليه وحاسبته به. و"احتسب" من"الحساب" مثل"اعتد" من"العد".
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "فيجازي من شاء.. " والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وغافر منكم لمن شاء... "، وهو تقديم من عجلة الناسخ، والصواب ما أثبت.
(٤) الأثر: ٦٤٤٩-"ابن فضيل"، هو محمد بن فضيل، وقد سلف مرارًا. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو نفيل" وليس في الرواة من يقال له"أبو نفيل" يروي عن يزيد بن أبي زياد، والذي يروي عنه هو ابن فضيل.
102
عكرمة قال: هي الشهادة إذا كتمتها.
٦٤٥٢ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو وأبي سعيد: أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية:"وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: في الشهادة.
٦٤٥٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن الشعبي في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: في الشهادة.
٦٤٥٤ - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية،"وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.
٦٤٥٥ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن عكرمة في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، يعني: كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها.
* * *
وقال آخرون:"بل نزلت هذه الآية إعلامًا من الله تبارك وتعالى عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه".
ثم اختلف متأوِّلو ذلك كذلك.
فقال بعضهم:"ثم نسخ الله ذلك بقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة: ٢٨٦] "
ذكر من قال ذلك:
٦٤٥٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن
103
ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلتْ:"لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، اشتد ذلك على القوم، فقالوا: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا! هلكنا! فأنزل الله عز وجل: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) الآية إلى قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال اللهُ: نعم = (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) إلى آخر الآية = قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم. (١)
٦٤٥٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان بن وكيع
(١) الحديث: ٦٤٥٦- إسحاق بن سليمان الرازي العبدي: ثقة ثبت في الحديث، متعبد كبير، من خيار المسلمين. أخرج له الجماعة.
مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير: تكلم فيه الأئمة، فضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهم. وأثنى عليه الزهري. وقال أبو حاتم: "صدوق كثير الغلط، ليس بالقوي، ويروي عنه إسحاق بن سليمان"، ولكن ترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٣٥٣، فلم يذكر فيه جرحًا. والظاهر أن من ضعفه فإنما ذهب إلى كثرة غلطه، كما فعل أبو حاتم. وأيًا ما كان، فهو لم ينفرد بهذا الحديث، كما سيأتي في التخريج.
والحديث سيأتي بعضه: ٦٥٣٨، بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند: ٩٣٣٣ (٢: ٤١٢ حلبي)، عن عفان، عن عبد الرحمن بن إبراهيم القاص المدني، عن العلاء بن عبد الرحمن، به، مطولا عما هنا.
وعبد الرحمن بن إبراهيم - هذا - ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التعجيل، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢١١.
ورواه مسلم -مطولا أيضًا- ١١: ٤٦-٤٧، وابن حبان في صحيحه: ١٣٩ (١: ٢٢٥-٢٢٦- من مخطوطة الإحسان) - كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن العلاء، به.
ونقله ابن كثير ٢: ٧٩-٨٠، عن رواية المسند.
وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٥٤، من رواية مسلم.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٤، وزاد نسبته لأبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم ينسبه لصحيح ابن حبان.
104
قال: حدثنا أبي = قال، حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء"، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سمعنا وأطعنا وسلَّمنا. قال: فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عز وجل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) = قال أبو كريب: فقرأ: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) = قال فقال: قد فعلت = (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا) = قال: قد فعلت = (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) = قال: قال: قد فعلت = (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) = قال: قد فعلت. (١)
٦٤٥٨ - حدثني أبو الردّاد المصري عبد الله بن عبد السلام قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح قال، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول: قال ابن شهاب، حدثني سعيد ابن مرجانة قال: جئتُ عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاءُ ويعذب من يشاء". ثم قال ابن عمر: لئن آخذَنا بهذه الآية، لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دُموعه. قال، ثم جئتُ عبدَ الله بن العباس فقلت: يا أبا عباس، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، ثم قال: لئن وَاخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتى سالت دموعه! فقال ابن عباس: يغفر الله لعبد الله بن عمر! لقد فَرِق أصحابُ رسول الله ﷺ منها كما فَرِق ابن عمر منها، فأنزل الله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، فنسخ الله الوَسوسة، وأثبت القول والفعلَ. (٢)
٦٤٥٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدث: أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية،"لله ما في السموات وما في الأرض وَإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نَشيجه، فقال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس
(١) الحديث: ٦٤٥٧- سفيان بن وكيع يرويه عن أبيه. وأبوه يرويه عن سفيان، وهو الثوري، ووقع في المطبوعة هنا حذف قوله"قال: حدثنا أبي". وهو خطأ. وسيأتي الإسناد على الصواب: ٦٥٣٧، حيث روى الطبري بعضه مختصرًا. بهذا الإسناد.
آدم بن سليمان القرشي، مولى خالد بن بن خالد بن عقبة بن أبي معيط: ثقة، وهو والد يحيى بن آدم صاحب كتاب الخراج.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٢٠٧٠، عن وكيع، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم ١: ٤٧، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه-: ثلاثتهم عن وكيع، به.
وفي التهذيب، في ترجمة آدم بن سليمان، أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد متابعة؛ وليس كذلك، بل هو أصل لا متابعة، إذ لم يروه مسلم من طريق غيره.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٦، من طريق ابن راهويه، عن وكيع. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير ٢: ٨١، عن رواية المسند. ثم أشار إلى رواية مسلم.
وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٥٤، من رواية مسلم.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٤، وزاد نسبته للترمذي، والنسائي، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات.
وسيأتي بعض معناه: ٦٤٦٤، عن سعيد بن جبير، مرسلا غير متصل، فيستفاد وصله من هذه الرواية.
(٢) الحديث: ٦٤٥٨- أبو الرداد المصري، عبد الله بن عبد السلام - شيخ الطبري: ثقة ترجمة ابن أبي حاتم ٢/٢/١٠٧، وقال: "سمعنا منه بمصر، وهو صدوق".
أبو زرعة وهب الله بن راشد: هذه أول مرة يثبت فيها اسمه في المطبوعة على الصواب، فقد مضى في: ٢٣٧٧، ٢٨٩١، ٥٣٨٦- وكان فيها كلها محرفًا في المطبوعة. وترجمنا له في أولهن.
سعيد ابن مرجانة: هو سعيد بن عبد الله، مولى قريش. ومرجانة - بفتح الميم وسكون الراء: أمه. قال الحافظ في التهذيب: "فعلى هذا فيكتب: ابن مرجانة - بالألف". وهو تابعي ثقة. ثبت سماعه من أبي هريرة، خلافًا لمن زعم غير ذلك، كما بينا في المسند: ٧٥٨٣.
والحديث سيأتي عقبه: ٦٤٥٩، من وجه آخر عن ابن شهاب. ونذكر تخريجه هناك.
105
فذكرتُ لهُ ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لعمري لقد وَجَد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وَجد عبد الله بن عمر، فأنزل اللهُ بعدها (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) إلى آخر السورة. قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أنّ للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القوْل والفعل. (١)
٦٤٦٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعتُ الزهري يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: قرأها ابن عمر فبكى وقال: إنا لمؤاخذون بما نحدِّث به أنفسنا! فبكى حتى سُمع نشيجه، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له، فقال: رَحم الله ابن عُمر! لقد وَجَد المسلمون نحوًا مما وَجدَ، حتى نزلت: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). (٢)
٦٤٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، فبكى. فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك، فضحك ابن عباس فقال: يرحم الله ابن عمر!
(١) الحديث: ٦٤٥٩- هو الحديث السابق، نحوه.
وقد ذكره ابن كثير ٢: ٨١-٨٢، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٥٤، مختصرًا، عن هذا الموضع أيضًا. قال: "أخرج الطبري، بإسناد صحيح عن الزهري... "- إلخ.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٤، ونسبه لعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه، وابن جرير، والطبراني، والبيهقي في الشعب.
وانظر الأحاديث الآتية: ٦٤٦٠-٦٤٦٤.
(٢) الحديث: ٦٤٦٠- هذا حديث مرسل، لم يسمعه الزهري، من ابن عمر، ولا من ابن عباس. وهو مختصر من الحديثين قبله، ومن الحديث: ٦٤٦٢. فقد سمع الزهري القصة من سعيد ابن مرجانة، ومن سالم بن عبد الله بن عمر.
107
أوَ ما يدري فيم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غَمَّت أصحاب رسول الله ﷺ غمًّا شديدًا وقالوا: يا رسول الله، هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا:"سمعنا وأطعنا"، فنسختها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) إلى قوله: (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) فَتُجُوِّز لهم منْ حديث النفس، وأخِذوا بالأعمال. (١)
٦٤٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم: أن أباه قرأ:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فدمعت عينه، فبلغ صَنِيعه ابنَ عباس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن! لقد صَنعَ كما صنع أصحاب رسول الله ﷺ حين أنزلتْ، فنسختها الآية التي بعدها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا). (٢)
(١) الحديث: ٦٤٦١- جعفر بن سليمان: هو الضبعي، وقد مضى توثيقه في: ٢٩٠٥.
حميد الأعرج: هو حميد بن قيس المكي، قارئ أهل مكة. مضى توثيقه في: ٣٣٥٢.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٣٠٧١، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، به.
فظهر من رواية الطبري هذه: أن عبد الرزاق سمعه من شيخين، من معمر، ومن جعفر بن سليمان - كلاهما حدثه به عن حميد الأعرج.
وقد ذكره ابن كثير ٢: ٨١، عن رواية أحمد في المسند، وكذلك ذكره الحافظ في الفتح ٨: ١٥٤، عن رواية أحمد.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٤، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن المنذر.
وهو في معنى الأحاديث السابقة: ٦٤٥٨-٦٤٦٠.
وقوله: "كنت عند ابن عمر فقال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم)... " - هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولعل صوابه: "فقرأ"، بدل"فقال". وهو الثابت في رواية المسند ومن نقل عنه.
وقوله في آخر الحديث: "فتجوز لهم من حديث النفس" - هكذا في المخطوطة والمطبوعة أيضًا. ولعل صوابه"عن حديث النفس"، كرواية المسند.
(٢) الحديث: ٦٤٦٢- سفيان بن حسين الواسطي: مضى الكلام في روايته عن الزهري، وأن فيها تخاليط، في ٣٤٧١. ولكن يظهر لي الآن أن في هذا غلوًا من ابن حبان. فإن البخاري ترجم له في الكبير ٢/٢/٩٠، وأشار إلى رواية عن الزهري، فلم يذكر فيها قدحًا، ثم إن الأئمة صححوا هذا الحديث من روايته عن الزهري، كما سيجيء.
فالحديث رواه أبو جعفر بن النحاس في الناسخ والمنسوخ، ص: ٨٦. والحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٧ - كلاهما من طريق يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ثم قد ذكره ابن كثير ٢: ٨٢، عن هذا الموضع - بعد الروايات السابقة، ثم قال: "فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس".
وقد رجحت توثيق سفيان بن حسين - وفي روايته عن الزهري - فيما كتبت تعليقًا على تهذيب السنن للمنذري، ج٣ ص: ٤٠٢، فأنسيته حين كتبت ما مضى في: ٣٤٧١.
والحديث ذكره أيضًا السيوطي ١: ٣٧٤، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
108
٦٤٦٣ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: نسخت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" - (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا). (١)
٦٤٦٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية:"إن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قالوا: أنؤاخذ بما حدِّثنا به أنفسنا، ولم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، لم تُعطها الأمم قبلها. (٢)
(١) الحديث: ٦٤٦٣- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. وهو يروي عن سفيان الثوري. ويروي عنه محمد بن بشار.
وهذا الحديث مرسل، لأنه حكاية من سعيد بن جبير عن إخبار بنسخ الآية.
وقد سبقت رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس: ٦٤٥٧، لعلها تشير إلى هذا المعنى.
(٢) الحديث: ٦٤٦٤- وهذا حديث مرسل أيضًا، من رواية سعيد بن جبير، ولكنه بعض معنى الحديث السابق: ٦٤٥٧، الذي رواه سعيد عن ابن عباس متصلا.
وسيأتي بعضه: ٦٥٣٩، بهذا الإسناد، مع تحريف في اسم الراوي عن سفيان، كما سنذكر هناك، إن شاء الله.
109
٦٤٦٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل، عن عامر:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"، قال: فنسختها الآية بعدها، قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
٦٤٦٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسختها الآية التي بعدها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) = وقوله:"وإن تُبدوا"، قال: يحاسب بما أبدَى من سرّ أو أخفى من سر، فنسختها التي بعدها.
٦٤٦٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيّار، عن الشعبي، قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء"، قال: فكان فيها شدّة، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، قال: فنسخت ما كان قبلها.
٦٤٦٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: ذكروا عند الشعبي:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" حتى بلغ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، قال، فقال الشعبي: إلى هذا صار، رجَعتْ إلى آخر الآية.
٦٤٦٩ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال قال ابن مسعود: كانت المحاسبة قبل أن تنزل: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها.
٦٤٧٠- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد
110
قال، سمعت الضحاك يذكر، عن ابن مسعود نحوه.
٦٤٧١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: نسخت"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" = (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
٦٤٧٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب = وسفيان، عن جابر، عن مجاهد = وعن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قالوا: نسخت هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا)، "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، الآية.
٦٤٧٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أ، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر بمثله.
٦٤٧٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" إلى آخر الآية، قال: محتها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). (١)
٦٤٧٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه قال: نسخت هذه الآية = يعني قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) = الآية التي كانت قبلها:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله".
٦٤٧٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسختها قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا).
٦٤٧٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" إلى آخر
(١) الأثر: ٦٤٧٤-"حماد" هو حماد بن سلمة، و"حميد" هو حميد الطويل. وكان في المطبوعة والمخطوطة"حماد بن حميد"، وليس في رواة الأثر من يعرف بهذا الاسم، وحجاج بن المنهال يروي عن حماد بن سلمة، وحماد يروي عن خاله حميد الطويل، وحميد الطويل يروي عن الحسن.
111
الآية، اشتدّت على المسلمين، وشقَّتْ مشقةً شديدة، فقالوا: يا رسول الله، لو وَقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وَأخذنا الله به؟ قال:"فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل:"سمعنا وعصينا"! قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله! قال: فنزل القرآن يفرِّجها عنهم:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" إلى قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، قال: فصيَّره إلى الأعمال، وترك ما يقع في القلوب.
٦٤٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا هشيم، عن سيارٍ عن أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسخت هذه الآية التي بعدَها: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
٦٤٧٩ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وإن تبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وَسْوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن عمل أحدُنا وإن لم يعملْ أخِذنا به؟ والله ما نملك الوَسوسة!! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدُ بقوله: (١) (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) الآية، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا. (٢)
* * *
٦٤٨٠ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
(١) في المطبوعة: "التي بعدها بقوله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "مما لم تطيقوا، الآية" أخر الناسخ"الآية"، فرددتها إلى مكانها قبل.
112
وقال آخرون = ممن قال معنى ذلك:"الإعلام من الله عز وجل عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه"= (١) "هذه الآية محكمة غيرُ منسوخة، والله عز وجل محاسبٌ خلقَه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادُوه، فيغفره للمؤمنين، ويؤاخذ به أهلَ الكفر والنفاق".
ذكر من قال ذلك:
٦٤٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فإنها لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جَمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله عز وجل:"إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي"، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدَّثوا به أنفسهم، وهو قوله:"يحاسبكم به الله"، يقول: يخبركم. وأما أهل الشك والرَّيْب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، (٢) وهو قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة: ٢٢٥]، من الشكّ والنفاق.
٦٤٨٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فذلك سِرُّ عملكم وعلانيته، يحاسبكم به الله، فليس من عبد
(١) انظر ما سلف ص: ١٠٣ وما بعدها.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة بعد قوله: "من التكذيب" ما نصه: "وهو قوله: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء". وهي زيادة بلا شك من الناسخ. فإلا تكن منه، فمكانها قبل ذلك بعد قوله"يحاسبكم به الله" وقبل قوله: "وأما أهل الشك والريب... "، ولكني آثرت إسقاطها، لأن السيوطي خرجه في الدر المنثور ١: ٣٧٥ بغير ذكر هذه الزيادة في الموضعين.
113
مؤمن يُسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به، فإن عمل به كُتبت له به عشرُ حسنات، وإن هو لم يُقدَر له أن يعمل به كتبت له به حسنة، من أجل أنه مؤمن، والله يَرْضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم. وإن كان سُوءًا حدَّث به نفسه، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تُبلى السرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوَز الله عنه، كما قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) [سورة الأحقاف: ١٦].
٦٤٨٣ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)، الآية، قال: قال ابن عباس: إن الله يقول يوم القيامة:"إن كُتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظَهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليومَ، فأغفر لمن شئت وأعذّب من شئت".
٦٤٨٤ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا علي بن عاصم قال، أخبرنا بيان، عن بشر، عن قيس بن أبي حازم قال: إذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل يُسمع الخلائق:"إنما كان كُتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فإما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه، أنا اللهُ أعلم بذلك كله منكم، فأغفر لمن شئتُ، وأعذّب من شئت".
٦٤٨٥ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، كان ابن عباس يقول: إذا دعي الناس للحساب أخبرَهم الله بما كانوا يسرُّون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول:"إنه كان لا يعزُب عني شيء، وإني مخبركم بما كنتم تسرُّون من السُّوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطَّلعين عليه". فهذه المحاسبة.
114
٦٤٨٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس نحوه.
٦٤٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: هي محكمة، لم ينسخها شيء يقول:"يحاسبكم به الله"، يقول: يعرّفه الله يوم القيامة:"إنك أخفيتَ في صدرك كذا وكذا"! لا يؤاخذه.
٦٤٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: هي محكمة لم تنسخ.
٦٤٨٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: من الشك واليقين.
٦٤٩٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، يقول: في الشك واليقين. (١)
٦٤٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه على بن أبي طلحة: (٢) وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم، فلم يطلع عليه أحد من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان، وأعذِّب أهلَ الشرك والنفاق في ديني.
* * *
(١) في المطبوعة: "في اليقين والشك"، قدم وأخر، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) هو رقم: ٦٤٨١.
115
وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه، (١) وعلى ما قاله الربيع بن أنس، (٢) فإن تأويلها: إنْ تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه، يُعْلمكم به الله يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء.
* * *
وأما قول مجاهد، (٣) فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة.
* * *
وقال آخرون = ممن قال:"هذه الآية محكمة، وهي غير منسوخة"، ووافقوا الذين قالوا:"معنى ذلك: أن الله عز وجل أعلم عبادَه ما هو فاعل بهم فيما أبدَوْا وأخفوا من أعمالهم" = معناها: إن الله محاسبٌ جميعَ خلقه بجميع ما أبدَوْا من سيئ أعمالهم، وجميع ما أسروه، وُمعاقبهم عليه. غيرَ أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزَنون عليها ويألمون منها.
ذكر من قال ذلك:
٦٤٩٢ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلم يعملها، أرسل الله عليه من الهم والحزَن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها، فكانت كفّارته.
٦٤٩٣ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال،
(١) هي رقم: ٦٤٨٦.
(٢) هو رقم: ٦٤٨٧.
(٣) هو رقم: ٦٤٨٩ وما بعده.
116
سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بمعصية، أو يحدّث بها نفسه، حاسبه الله بها في الدنيا، يخافُ ويحزن ويهتم.
٦٤٩٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو تميلة، عن عبيد، عن الضحاك قال: قالت عائشة في ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية، وحدّث نفسه به، حاسبه الله في الدنيا، يخاف ويحزَن ويشتدّ همّه، لا يناله من ذلك شيء، كما همّ بالسوء ولم يعمل منه شيئًا.
٦٤٩٥ - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أميّة أنها سألت عائشة عن هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء: ١٢٣] فقالت: ما سألني عنها أحد مذْ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عائشة، هذه متابعة الله العبدَ بما يصيبه من الحمَّى والنكبة والشَّوكة، حتى البضاعة يضعها في كمِّه فيفقدها، فيفزع لها فيجدُها في ضِبْنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرُج التبر الأحمر من الكير. (١)
* * *
(١) الحديث: ٦٤٩٥ - علي بن زيد: هو ابن جدعان.
أمية: هي بنت عبد الله، وهي تابعية لم ترو عن عائشة غير هذا الحديث. وعلي بن زيد، هو بن زوجها. وقد مضى البيان عن ترجمتها في: ٤٨٩٧.
ووقع في المطبوعة هنا: "عن أمه". وهو خطأ. وقع مثل ذلك في بعض نسخ الترمذي. ولو صحت هذه النسخ لم يكن بذلك بأس، إذ لا يبعد أن يسميها ربيبها"أمه".
والحديث رواه الطيالسي: ١٥٨٤، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن"أمية بنت عبد الله".
ورواه أحمد في المسند ٦: ٢١٨ (حلبي)، عن بهز، عن حماد - وهو ابن سلمة، وفيه: "عن أمية".
ورواه الترمذي ٤: ٧٨-٧٩، من طريق روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، به. وفيه: "عن أمية"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة".
ورواه ابن أبي حاتم - فيما نقله عنه ابن كثير ٢: ٨٥- من طريق سليمان بن حرب، عن حماد ابن سلمة. وفيه"عن أبيه" بدل"عن أمية"؛ وهو تحريف مطبعي.
وقال ابن كثير: "علي بن زيد بن جدعان: ضعيف يغرب في رواياته. وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه".
أقول: وعلي بن زيد ليس بضعيف، كما قلنا في: ٤٨٩٧، وكما رجحنا في شرح المسند: ٧٨٣.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٥، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في الشعب.
قول"هذه متابعة الله العبد" - يعني ما يصيب الإنسان ما يؤلمه، يتابعه الله به ليكفر عنه من سيئاته. وهذا هو الثابت في الطبري والمسند. والذي في الطيالسي والترمذي والدر المنثور: "معاتبة الله" ومعناه قريب من هذا. وفي ابن كثير: "مبايعة". وهو تحريف.
النكبة - بفتح النون: أن ينكبه الحجر إذا أصاب ظفره أو إصبعه. ومنه قيل لما يصيب الإنسان: نكبة.
البضاعة: اليسير من المال تبعثه في التجارة، ثم سميت السلعة: بضاعة.
الضبن - بكسر فسكون: ما بين الإبط والكشح.
التبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ، فإذا صيغ فهو ذهب أو فضة.
الكير- بكسر الكاف، كير الحداد: وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات، ينفخ النار حتى تتوهج.
117
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال:"إنها محكمة، وليست بمنسوخة". وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه. (١) وليس في قوله جل وعز:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله:"أو تخفوه يحاسبكم به الله". لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه.
وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون: (يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً
(١) في المطبوعة: "إلا ينفيه"، بالياء في أوله، وهو في المخطوطة غير منقوط. وفيهما معًا"بآخر له ناف"، والصواب زيادة"هو" كما أثبت. وبذلك يستقيم الكلام.
وانظر ما قال في"النسخ" فيما سلف ص: ٥٤، والتعليق: ١.
118
إِلا أَحْصَاهَا) [سورة الكهف: ٤٩]. فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) [سورة النساء: ٣١]. فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، (١) بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها، كما بلغنا عن رسول الله ﷺ في الخبر الذي:-
٦٤٩٦ - حدثني به أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي، عن قتادة، عن صَفوان بن مُحْرز، عن ابن عمر، عن نبي الله ﷺ قال: يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرِّره بسيئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم! فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول: (هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ) [سورة الحاقة: ١٩] أو كما قال = وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد. (٢)
٦٤٩٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، وهشام = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا هشام = قالا جميعا في حديثهما عن
(١) في المطبوعة: "فدل أن محاسبة الله... "، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة والمخطوطة بعد: "غير موجبة لهم منه عقوبة"، والسياق يقتضي: "غير موجب.. " كما أثبتها.
(٢) الحديث: ٦٤٩٦- صفوان بن محرز المازني: تابعي ثقة جليل، له فضل وورع. والحديث مختصر من الذي بعده. وسنذكر تخريجه فيه، إن شاء الله.
119
قتادة، عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول:"هل تعرف كذا"؟ فيقول:"رب اغفر" - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال:"فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم". قال: فيعطى صحيفة حسناته - أو: كتابه - بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). (١) [سورة هود: ١٨].
* * *
(١) الحديث: ٦٤٩٧- سعيد: هو ابن أبي عروبة، الثقة المأمون الحافظ. وهشام: هو ابن أبي عبد الله الدستوائي.
ووقع في المطبوعة: "حدثنا ابن أبي عدي، وسعيد، وهشام"، وهو تحريف.
وصوابه: "عن سعيد"، لأن ابن أبي عدي - وهو محمد بن إبراهيم - إنما يروي عن ابن أبي عروبة وعن هشام الدستوائي. فهو ليس من طبقتهما. ثم هو لم يدرك أن يروي عن قتادة. وكذلك ابن بشار - وهو محمد بن بشار. شيخ الطبري - إنما يروي عن ابن أبي عدي وطبقته، لم يدرك أن يروي عن ابن أبي عروبة والدستوائي.
وأيضًا، فإن قوله في الإسناد - بعد تحويله إلى ابن علية عن هشام-"قالا جميعا في حديثهما عن قتادة"، يرجع ضمير المثنى فيه إلى سعيد وهشام، دون ابن أبي عدي. إذ لو كان معهما لكان القول أن يقول: "قالوا جميعا".
ثم قد ثبت أنه"عن سعيد" في نقل ابن كثير هذا الحديث عن هذا الموضع ٢: ٨٤، وإن وقع فيه خطأ مطبعي آخر، إذ فيه: "عن سعيد بن هشام" بدل"وهشام". وفيه بعد ابن علية"حدثنا ابن هشام" بزيادة"ابن" زيادة هي غلط غير مستساغ.
ثم الحديث سيأتي في تفسر الطبري ١٢: ١٤ (بولاق)، بهذا الإسناد، على الصواب. ولكنه جعله هناك إسنادين: فصل إسناد ابن علية عن إسناد ابن أبي عدي.
والحديث رواه أحمد في المسند: ٥٤٣٦، عن بهز وعفان، كلاهما عن همام - وهو ابن يحيى- عن قتادة، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا: ٥٨٢٥، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، به.
ورواه البخاري ٥: ٧٠ (فتح)، ومسلم ٢: ٣٢٩ - كلاهما من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، به.
ورواه البخاري أيضًا ٨: ٢٦٦-٢٦٧، من طريق سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، عن قتادة.
ورواه أيضًا: ١٠: ٤٠٦-٤٠٧، و ١٣: ٣٩٧-٣٩٨، من طريق أبي عوانة، عن قتادة
ورواه أبو جعفر بن النحاس، في كتاب الناسخ والمنسوخ، ص: ٨٦-٨٧، من طريق ابن علية، عن هشام. وقال: "وإسناده إسناد لا يدخل القلب منه لبس. وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة".
وذكره ابن كثير ٢: ٨٤-٨٥، كما قلنا من قبل، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره أيضًا ٤: ٣٥٣، عن رواية المسند الأولى.
وذكره السيوطي ٣: ٣٢٥. وزاد نسبته لابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات.
ونسبه القسطلاني ٤: ٢٠٦، للنسائي في التفسير والرقائق، وابن ماجه في السنة.
ووقع في المخطوطة - هنا -"وأما الكفار أو المنافقين"، وهو خطأ واضح.
120
= أن الله يفعل بعبده المؤمن: (١) من تعريفه إياه سيئات أعماله، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها. فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه، فيستره عليه. وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال:"فيغفر لمن يشاء". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن قوله:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير؟
قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله:"ويعذب من يشاء"، إن كان لها ما كسبت وعليها
(١) سياق هذه الجملة من قبل الخبرين السالفين: "كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... أن الله يفعل بعبده المؤمن... "، فجملة"أن الله يفعل"، هي فاعل قوله: "بلغنا".
(٢) في المطبوعة: "يغفر لمن يشاء" بغير فاء، وأثبت نص الآية كما في المخطوطة.
121
ما اكتسبت، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا -: من هم بذنب، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله:"ويعذب من يشاء"، سعلى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوة نبيه ﷺ وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث - من المنافقين، (١) على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما، إن تأويل قوله:"أو تخفوه يحاسبكم به الله"، على الشك واليقين.
غير أنا نقول إن المتوعد بقوله:"ويعذب من يشاء"، هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله، (٢) وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا = والموعود الغفران بقوله: (٣) "فيغفر لمن يشاء" هو الذي إخفاء ما يخفيه، (٤) الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداءً تحليلُه وإباحته، فحرمه على خلقه جل ثناؤه = (٥) أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله، مما كان جائزا ابتداءً إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك
(١) سياق الجملة: "على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله.. من المنافقين"، وما بينهما صفات فاصلة.
(٢) قوله: "الشك والمرية... " خبر"كان".
(٣) قوله: "الموعود" منصوب معطوف على قوله"إن المتوعد... "، وقوله: "الغفران" منصوب باسم المفعول وهو"الموعود"، أي الذي وعد الغفران.
(٤) في المطبوعة: "هو الذي أخفى وما يخفيه الهمة بالتقدم... " وفي المخطوطة: "هو الذي إحفا وما يخفيه +الهمه" غير منقوطة بهذا الرسم: وصواب قراءة المخطوطة هو ما أثبت.
(٥) قوله: "أو على ترك... " معطوف على قوله آنفًا: "بالتقدم على بعض ما نهاه... "
122
بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به، كما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال:
٦٤٩٨ -"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه". (١)
* * *
فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده، ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله:"ويعذب من يشاء".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا:"وإن تبدوا ما في أنفسكم"، أيها الناس، فتظهروه ="أو تخفوه"، فتنطوي عليه نفوسكم ="يحاسبكم به الله"، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله عز وجل = على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه، وعلى غير ذلك من الأمور = قادر.
* * *
(١) الأثر: ٦٤٩٨- لم يذكر الطبري إسناده، وأحاديث تجاوز الله عن حديث النفس في مسلم ٢: ١٤٦- ١٥٢ بغير هذا اللفظ، ثم سائر كتب السنة.
(٢) في المخطوطة: "فيعرف مؤمنيكم... ويعذب منافقيكم" بالجمع، والذي في المطبوعة أصح وأجود.
123
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول = يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر ="بما أنزل إليه"، يعني: بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد وعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها.
* * *
وذكر أن رسول الله ﷺ لما نزلت هذه الآية عليه قال: يحق له.
٦٤٩٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، ذكر لنا أن نبي الله ﷺ لما نزلت هذه الآية قال: ويحق له أن يؤمن. (١)
* * *
وقد قيل: إنها نزلت بعد قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"، لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي ﷺ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم تقولون:"سمعنا وعصينا" كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا:
(١) الأثر: ٦٤٩٩- أخرج الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٧ من طريق خلاد بن يحيى، عن أبي عقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس قال: "لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأحق له أن يؤمن". ثم قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" واستدرك عليه الذهبي فقال: "منقطع".
124
بل نقول:"سمعنا وأطعنا"! فأنزل الله لذلك من قول النبي ﷺ وقول أصحابه:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. (١)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكتبه".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق (وكتبه) على وجه جمع"الكتاب"، على معنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (وكتابه)، بمعنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك:"وكتابه"، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر: ١-٢]، بمعنى جنس"الناس" وجنس"الكتاب"، كما يقال:"ما أكثر درهم فلان وديناره"، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. (٢) وذلك، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك - أعني بذلك:"وملائكته وكتبه ورسله" - فإلحاق"الكتب" في الجمع لفظا به، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبمعناه.
* * *
(١) انظر ما سلف رقم: ٦٤٧٧.
(٢) انظر ما سلف ٤: ٢٦٣.
125
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾
قال أبو جعفر: وأما قوله:"لا نفرق بين أحد من رسله"، فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ:"لا نفرق بين أحد من رسله" بالنون، متروك، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك المتروك هو"يقولون". وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر"يقولون" لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) [سورة الرعد: ٢٣-٢٤]، بمعنى: يقولون: سلام.
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ب"الياء"، بمعنى: والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه، كما:-
٦٥٠٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا نفرق بين أحد من رسله"، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون:
126
"لا نفرق بين أحد من رسله"، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض، (١) الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط= (٢) بمعنى ما وصفنا من: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله= (٣) ولا يعترض بشاذ من القراءة، على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين:"سمعنا" قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه ="وأطعنا"، يعني: أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له = وقوله:"غفرانك ربنا"، يعني: وقالوا:"غفرانك ربنا"، بمعنى: اغفر لنا ربنا غفرانك، كما يقال:"سبحانك"، بمعنى: نسبحك سبحانك.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن"الغفران" و"المغفرة"، الستر من الله على ذنوب من
(١) في المطبوعة: "التي قامت حجة... "، وفي المخطوطة: "التي قامت حجته"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "التشاغر" بغين معجمة، وهو خطأ غث. والصواب من المخطوطة. و"تشاعروا الأمر، أو على الأمر"، أي تعالموه بينهم. من قولهم: "شعر" أي"علم". وهي كلمة قلما تجدها في كتب اللغة، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء. وانظر الرسالة العثمانية للجاحظ: ٣، وتعلق: ٥، ثم ص: ٢٦٣، وصواب شرحها ما قلت. وانظر ما سيأتي ص: ١٥٥، تعليق ١.
(٣) في المطبوعة: "يعني ما وصفنا"، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "نقلا ورواية"، وفي المخطوطة"نقلا وراثة"، وهي الصواب، وآثرت زيادة الواو قبلها، فإني أرجح أنها كانت كذلك. وقد أكثر الطبري استعمال"وراثة" و"موروثة" فيما سلف، من ذلك فيما مضى في ٤: ٣٣"... بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا ﷺ وراثة... " / ثم في ٥: ٢٣٨"لخلافها القراءة المستفيضة الموروثة... ". وانظر ما سيأتي ص: ١٥٥، تعليق: ١.
127
غفر له، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة - عليه. (١)
* * *
وأما قوله:"وإليك" المصير"، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله:"غفرانك"؟
قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر، وأدت عن معنى الأمر نصبتها، فيقولون: "شكرا لله يا فلان"، و"حمدا له"، بمعنى: اشكر الله واحمده."والصلاة، الصلاة". بمعنى: صلوا. ويقولون في الأسماء:"الله الله يا قوم"، ولو رفع بمعنى: هو الله، أو: هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر، كان جائزا، كما قال الشاعر: (٣)
إن قوما منهم عمير وأشبا... هـ عمير ومنهم السفاح (٤) لجديرون بالوفاء إذا قا... ل أخو النجدة: السلاح السلاح! !
ولو كان قوله:"غفرانك ربنا" جاء رفعا في القراءة، لم يكن خطأ، بل كان صوابا على ما وصفنا. (٥)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله ﷺ ثناء من
(١) انظر ما سلف ٢: ١٠٩، ١١٠.
(٢) انظر ما سلف في تفسير"المصير" ٣: ٥٦.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) معاني القرآن للفراء ١: ١٨٨، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) ٤: ٣٠٦. ولم أستطع تعييني"عمير" و"السفاح"، فهما كثير.
(٥) أكثر هذا من معاني القرآن للفراء ١: ١٨٨.
128
الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء، فسل ربك.
٦٥٠١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر قال: لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه! فسأل:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر السورة. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، (٢) فلا يضيق عليها ولا يجهدها.
* * *
(١) الحديث: ٦٥٠١- بيان: هو ابن بشر الأحمسي، مضت ترجمته في: ٢٥٩. "حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي": تابعي كبير ثقة، أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود، وطلحة، وعبادة بن الصامت. وروى عنه إسماعيل ابن أبي خالد، و"بيان". ثقة. مات في آخر إمارة الحجاج. وقيل سنة ٨٢، وقيل سنة ٩٥. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/١٢. وصرح بأنه سمع عمر.
فهذا الحديث مرسل.
وذكره السيوطي ١: ٣٧٦، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم.
ونقله ابن كثير ٢: ٨٩، عن هذا الموضع من الطبري. ولكن وقع فيه تحريف في الإسناد، من ناسخ أو طابع - هكذا: "عن سنان، عن حكيم، عن جابر"؛ فصار الإسناد موهما أنه حديث متصل من رواية جابر بن عبد الله الصحابي. فيصحح من هذا الموضع.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما يسعها" وبين أن الناسخ عجل فزاد"إلا وسعها"، والسياق يقتضي تركها هنا، فتركتها.
129
وقد بينا فيما مضى قبل أن"الوسع" اسم من قول القائل:"وسعني هذا الأمر"، مثل"الجهد" و"الوجد" من:"جهدني هذا الأمر" و"وجدت منه"، (١) كما:-
٦٥٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاومة، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج: ٧٨]، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة: ١٨٥]، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) [سورة التغابن: ١٦].
٦٥٠٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان! (٣) كيف نتوب من الوسوسة؟ كيف نمتنع منها؟ فجاء جبريل ﷺ بهذه الآية،"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة.
٦٥٠٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، وسعها، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم يطيقوا. (٤)
* * *
(١) انظر ما سلف ٥: ٤٥.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "اتقوا الله.. " وأثبت نص القراءة.
(٣) قوله: "هذا نتوب... "، تعبير فصيح يكون مع التعجب، وقد جاء في الشعر، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده.
(٤) في المطبوعة: "مما لا يطيقون"، وأثبت ما في المخطوطة.
130
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"لها" للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها. يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير ="وعليها"، يعني: وعلى كل نفس ="ما اكتسبت"، ما عملت من شر، (١) كما:-
٦٥٠٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت"، أي: من خير ="وعليها ما اكتسبت"، أي: من شر - أو قال: من سوء.
٦٥٠٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط. عن السدي."لها ما كسبت"، يقول: ما عملت من خير ="وعليها ما اكتسبت"، يقول: وعليها ما عملت من شر.
٦٥٠٧ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتاده، مثله.
٦٥٠٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، عمل اليد والرجل واللسان.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
* * *
(١) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف ٢: ٢٧٣، ٢٧٤ / ثم ٣: ١٠٠، ١٠١، ١٢٨، ١٢٩ / ثم ٤: ٤٤٩.
131
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا" شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله=،"أو أخطأنا" في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ، كما:-
٦٥٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا، أو أخطأنا، [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا. (١)
٦٥١٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: بلغني أن النبي ﷺ قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها. (٢)
٦٥١١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: فقل ذلك يا محمد.
* * *
(١) الزيادة بين القوسين، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام.
(٢) الأثر: ٦٥١٠ - أخرجه مسلم في صحيحه (٢: ١٤٦، ١٤٧) من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة ولفظه: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا".
132
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟
قيل: إن"النسيان" على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.
= فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو"النسيان" الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [سورة طه: ١١٥]، وهو"النسيان" الذي قال جل ثناؤه: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) [سورة الأعراف: ٥١]. فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عز وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.
= وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل
133
يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه.
* * *
وكذلك "الخطأ" وجهان:
= أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ. يقال منه:"خطئ فلان وأخطأ" فيما أتى من الفعل، و"أثم"، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه، (١) ومنه قول الشاعر: (٢)
الناس يلحون الأمير إذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (٣)
يعني: أخطأوا الصواب = وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، (٤) إلا ما كان من ذلك كفرا.
= والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع = أو يؤخر
(١) في المطبوعة: "ما يتأثم فيه"، والصواب من المخطوطة. وانظر معنى"خطئ" فيما سلف ٢: ١١٠.
(٢) هو عبيد بن الأبرص الأسدي، وفي حماسة البحتري، ٢٣٦"عبيد بن منصور الأسدي"، وكأنه تحريف.
(٣) ديوانه: ٥٤، وحماسة البحتري ٢٣٦ واللسان (أمر) ورواية ديوانه:أما رواية اللسان، فهي كما جاءت في الطبري. ولحاه يلحاه: لامه وقرعه. والأمير: صاحب الأمر فيهم، يأمرهم فيطيعونه. والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه الله إلى الصواب. وهو شبيه بقول القطامي:
والناس يلحون الأمير إذا غوى خطب الصواب........
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى، ولأم المخطئ الهبل
(٤) استعمل أبو جعفر"الصفح" هنا بمعنى: الرد والصرف، ولو كان من قولهم"صفح عن ذنبه" لكان صواب العبارة"في صفحه عما كان منه من إثم". واستعمال أبي جعفر جيد صحيح.
134
صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به.
* * *
وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم (١)
وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية، لمن وفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾
قال أبو جعفر: ويعني بذلك جل ثناؤه: قولوا:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا"، يعني ب"الإصر" العهد، كما قال جل ثناؤه: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) [سورة آل عمران: ٨١]. وإنما عنى بقوله:" وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه ="كما حملته على الذين من قبلنا"، يعني: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد ﷺ - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها
(١) انظر أمالي الشريف المرتضى ٢: ١٣١، ١٣٢.
135
أو أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه، مثل الذي أحل بمن قبلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٥١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قي قوله:"لا تحمل علينا إصرا"، قال: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، كما حملته على الذين من قبلنا. يقول: كما غلظ على من قبلنا.
٦٥١٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن مجاهد في قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا (١)
٦٥١٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إصرا"، قال: عهدا.
٦٥١٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"إصرا"، يقول: عهدا.
٦٥١٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا"، والإصر: العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود.
٦٥١٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا لا نطيقه ولا نستطيع
(١) الأثر: ٦٥١٣-"موسى بن قيس الحضرمي" الفراء، الكوفي، لقبه: "عصفور الجنة". روى عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن عجلان، ومسلم البطين وغيرهم. روى عنه وكيع، ويحيى بن آدم، وأبو نعيم، وغيرهم. قال أحمد: "لا أعلم إلا خيرا". وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". ووثقه ابن معين. وقال العقيلي: "كان من الغلاة في الرفض... يحدث بأحاديث مناكير - أو: بواطيل". مترجم في التهذيب.
136
القيام به ="كما حملته على الذين من قبلنا"، اليهود والنصارى فلم يقوموا به، فأهلكتهم.
٦٥١٨ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إصرا"، قال: المواثيق.
٦٥١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الإصر"، العهد. = (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) [سورة آل عمران ٨١]، قال: عهدي.
٦٥٢٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، قال: عهدي.
وقال آخرون:"معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا، كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم".
ذكر من قال ذلك:
٦٥٢١ - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا تمسخنا قردة وخنازير. (١)
٦٥٢٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبةً ولا كفارة.
* * *
وقال آخرون:"معنى"الإصر" بكسر الألف: الثِّقْل".
(١) الأثر: ٦٥٢١-"سعيد بن عمرو السكوني"، سلفت ترجمته في رقم: ٥٥٦٣. أما"علي بن هارون" فلم أجده، وأظن صوابه"يزيد بن هارون"، و"بقية بن الوليد"، يروي عن"يزيد بن هارون" ومات قبله. وهم جميعًا مترجمون في التهذيب.
137
ذكر من قال ذلك:
٦٥٢٣ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، يقول: التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
٦٥٢٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا"، قال: الإصر، الأمر الغليظ.
* * *
قال أبو جعفر: فأما"الأصر"، بفتح الألف: فهو ما عَطف الرجلَ على غيره من رَحم أو قرابة، يقال:"أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه"، بمعنى: عطفتني عليه."وما يأصِرُني عليه"، أي: ما يعطفني عليه."وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا"، يعني به: عاطفة رَحم تعطفني عليه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضًا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، لثِقَل حمله علينا.
وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٢٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، تشديدٌ يشدِّد به، كما شدّد على من كان قبلكم.
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه"، وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة، وهو الذي أثبته هنا.
138
٦٥٢٦ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
٦٥٢٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه.
٦٥٢٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، مَسخُ القردة والخنازير.
٦٥٢٩ - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن سالم بن شابور في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: الغُلْمة. (١)
٦٥٣٠ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، على نحو الذي قلنا في ذلك، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم،
(١) الأثر: ٦٥٢٩-"سلام بن سالم الخزاعي"، سلفت ترجمته برقم: ٢٥٢. وأما"أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي"، فهو"عمر بن سعيد بن سليمان، أبو حفص القرشي الدمشقي"، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي، فكأنه نسب إليه. روى عن محمد بن شعيب ابن شابور. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد (١١: ٢٠٠). و"محمد بن شعيب بن شابور" الدمشقي، أحد الكبار. روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وغيرهما. كان يسكن بيروت، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة ٢٠٠.
والغلمة: غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة.
139
فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين، أولى مما خالف ذلك المعنى.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾
قال أبو جعفر: وفي هذا أيضًا، من قول الله عز وجل، خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك = (١) الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم:"واعف عنا"، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
٦٥٣١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعف عنا"، قال: اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به.
* * *
وكذلك قوله:"واغفر لنا"، يعني: واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها.
* * *
وقد دللنا على معنى"المغفرة" فيما مضى قبل. (٢)
* * *
(١) سياق العبارة: "وفي هذا أيضًا... الدلالة الواضحة" خبر ومبتدأ.
(٢) انظر، ما سلف قريبًا: ١٢٧، ١٢٨ تعليق: ١، والمراجع هناك. وانظر فهارس اللغة (غفر).
140
٦٥٣٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"واغفر لنا" إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَارْحَمْنَا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا، كما:-
٦٥٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله:"وارحمنا"، قال يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. (١) قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أنت مَوْلانا"، أنت وَليُّنا بنصرك، دون من عَاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك =،"فانصرنا"، لأنا حزْبك =
(١) في المطبوعة: "لا نترك"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، منصوبًا بقوله: "تنال" معطوفًا على قوله"العمل".
141
"على القوم الكافرين"، الذين جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.
* * *
و"المولى" في هذا الموضع"المفعَل"، من:"وَلى فلانٌ أمرَ فُلان، فهو يليه وَلاية، وهو وليُّه ومولاه". (١) وإنما صارت"الياء" من"ولى""ألفًا"، لانفتاح"اللام" قبلها، التي هي عينُ الاسم.
* * *
وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجاب الله له في ذلك كله.
ذكر الأخبار التي جاءت بذلك:
٦٥٣٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال، حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى قوله:"غُفرانك ربنا"، قال الله عز وجل:"قد غفرت لكم. فلما قرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا"، قال الله عز وجل: لا أحملكم. فلما قرأ:"واغفر لنا"، قال الله تبارك وتعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ:"وارحمنا"، قال الله عز وجل:"قد رحمتكم"، فلما قرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال الله عز وجل: قد نصرتُكم عليهم. (٢)
(١) انظر تفسير"الولي"، و"المولى" فيما سلف ٢: ٤٨٩، ٥٦٤ / ثم ٥: ٤٢٤.
(٢) الحديث: ٦٥٣٤- محمد بن خلف بن عمار العسقلاني، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في: ١٢٦.
آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني، وهو ثقة مأمون. وكان مكينًا عند شعبة. وقد مضت ترجمته في: ١٨٧.
ورقاء: هو ابن عمر اليشكري، أبو بشر. وهو كوفي ثقة، أثنى عليه شعبة جدًا. والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره، لأنه من القدماء من طبقة شعبة، ولأنه كوفي، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته.
وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من الدواوين، غير تفسير الطبري. فرواه هنا مرفوعًا، ثم سيرويه بنحوه: ٦٥٤٠ موقوفًا على ابن عباس.
وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس. فهو مؤيد لصحة هذا المرفوع.
ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة، فهي مقبولة.
بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك. لأن ورقاء قديم، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل تغيره.
وأما ذاك الإسناد، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء. وابن فضيل سمع من عطاء بأخرة، بعد تغيره. كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه ٣/ ٣٣٤.
ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر، كما مضى في: ٦٤٥٧، من رواية آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهناك الإجابة بعد كل دعاء: "قد فعلت". وهنا الإجابة من لفظ الدعاء. والمعنى واحد.
والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء، سهوًا من الناسخين، عند قوله: "فلما قرأ: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)، قال الله عز وجل: لا أحملكم". وفي الرواية الآتية: "قال: لا أؤاخذكم"، ثم ذكر هناك ما بعدها من الدعاء: (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) -"قال: لا أحمل عليكم". وذاك هو السياق الصحيح الكامل، الذي يدل على نقص من هذا السياق هنا.
واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا، لأنه كرر في متن الحديث: "فلما انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا)، قال الله عز وجل: قد غفرت لكم" - مرتين. ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره.
142
٦٥٣٥ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: أتى جبريل النبيّ ﷺ فقال: يا محمد، قل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. وقال له جبريل: قل:"ربنا ولا تَحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. فقال: قل"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، فقالها، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: قد فعل. فقال: قل:"واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقالها، فقال جبريل: قد فَعل.
143
٦٥٣٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربَنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقال له جبريل: فعل ذلك يا محمد ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقال له جبريل في كل ذلك: فَعَل ذلك يا محمد.
٦٥٣٧ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن آدم بن سليمان، مولى خالد قال، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل من ربه" إلى قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به"، قال: قد فعلت ="واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، قال: قد فعلت. (١)
٦٥٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أنزل الله عز وجل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم. (٢)
٦٥٣٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن آدم بن
(١) الحديث: ٦٥٣٧ - هو مختصر من الحديث: ٦٤٥٧، بهذا الإسناد.
وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب، كما أشرنا هناك.
(٢) الحديث: ٦٥٣٨ - هو مختصر من الحديث: ٦٤٥٦، بهذا الإسناد. وقد أشرنا إليه هناك.
144
سليمان، عن سعيد بن جبير:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال ويقول: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال ويقول: قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، ولم تعطها الأمم قبلها. (١)
٦٥٤٠ - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" إلى قوله:"غفرانك ربنا"، قال: قد غفرت لكم ="لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" = إلى قوله:"لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: لا أؤاخذكم ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا أحمل عليكم = إلى قوله:"واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا"، إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرُتكم على القوم الكافرين. (٢)
* * *
(١) الحديث: ٦٥٣٩ - هو حديث مرسل. وهو بعض الحديث الماضي: ٦٤٦٤، بهذا الإسناد.
ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة"أبو حميد"، بدل"أبو أحمد". وهو خطأ يقينًا، فإنه"أبو أحمد الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير"، كما بينا في: ٦٤٦٣.
ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله"أبو حميد"، وبين"سفيان". وآخر بين قوله"عن سعيد بن جبير"، وبين الآية.
ولعل كاتبها شك في قوله"عن سفيان"، وظنه كالرواية الماضية"حدثنا سفيان"، فترك مكان"حدثنا" بياضا. ثم شك في ذكر الآية بعد اسم"سعيد بن جبير"، دون تمهيد لها بقوله"فنزلت هذه الآية"، كما في الرواية الماضية، فترك لذلك بياضًا.
(٢) الحديث: ٦٥٤٠- علي بن حرب بن محمد بن علي، أبو الحسن الطائي الموصلي: ثقة ثبت، وثقه الدارقطني وغيره. وكان عالمًا بأخبار العرب، أديبًا شاعرًا. روى عنه النسائي، وأبو حاتم، وابنه، وترجمه ٣/١/١٨٣. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد ١١: ٤١٨-٢٤٠.
وهذا الحديث تكرار للحديث: ٦٥٣٤، بنحوه. وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى، وذاك مرفوع لفظًا ومعنى. وذاك أرجح إسنادًا وأصح، كما بينا هناك.
وذكر ابن كثير ٢: ٨٩ قطعة منه، من رواية ابن أبي حاتم، عن علي بن حرب الموصلي، بهذا الإسناد. فلا ندري: أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا، أم اختصره ابن كثير؟
145
= وروى عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ ﷺ خاصّة:
٦٥٤١ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا": كان جبريل عليه السلام يقول له: سلها! (١) فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه، فأعطاه إياها، (٢) فكانت للنبي ﷺ خاصةً.
٦٥٤٢ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال: آمين. (٣)
* * *
آخر تفسير سورة البقرة
* * *
(١) في المخطوطة: "... أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي الله" وما بين الكلام بياض، وأئمته المطبوعة كما ترى. أما الدر المنثور ١: ٣٧٨ فقال: "أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: كان ٣ عليه الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه... " ورقم"٣" دلالة على سقط في الكلام. فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ، ولذلك ترك له السيوطي بياضًا في نسخته من الدر المنثور.
(٢) في المخطوطة: "فأعطاها إياها"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق لما في الدر المنثور.
(٣) الأثر: ٦٥٤٢- في تفسير ابن كثير ٢: ٩١، والدر المنثور ١: ٣٧٨ وفيهما تخريجه.
وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه:
"آخر تفسير سورة البقرة"
"والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم"
"يتلوه تفسير سورة آل عمران. الحمد لله رب العالمين".
146
تفسير سورة آل عمران
147
Icon