ﰡ
الشَّابُّ: لَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الْقَدِيمَ هُوَ حَيٌّ كَمَا أَنَّهُ قَيُّومٌ، فَإِذَا كَانَ
مَعْنَى قَيُّومِيَّتِهِ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ حَيٌّ بِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَهُوَ حَيٌّ بِهِ ; أَيْ إِنَّهُ يَسْتَمِدُّ حَيَاتَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْيَاءَ كُلَّهَا مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ هِيَ حَادِثَةٌ، وَالْحَادِثُ: هُوَ مَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ ذَاتِهِ. فَالْحَيَاةُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، بَلْ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْوُجُودِ. فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْأَزَلِيَّةَ قَدْ صَدَرَتْ عَنْهَا أَشْيَاءُ كُلُّهَا بِلَا حَيَاةٍ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهَا أَحْدَثَ لِنَفْسِهِ حَيَاةً؟ هَذِهِ سَخَافَةٌ لَا تَخْطُرُ فِي بَالِ عَاقِلٍ، فَالْإِنْسَانُ أَرْقَى الْأَحْيَاءِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ مِنْ أَثَرِ حَيَاتِهِ الْعِلْمَ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْإِرَادَةَ وَالتَّدْبِيرَ وَالنِّظَامَ، وَمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ هِبَةِ الْحَيَاةِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَحَقُّ بِالْعَجْزِ.
التِّلْمِيذُ: إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ الَّتِي أَثَرُهَا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّظَامُ هِيَ أَرْقَى مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ وَهِيَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، أَلَا يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ مُشَابَهَةُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ لِحَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّ هَذِهِ الْخَصَائِصَ هِيَ لِحَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - أَيْضًا؟
الشَّيْخُ: اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ ذَاتَ اللهِ - تَعَالَى - لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتَ، وَصِفَاتَهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ، فَإِذْ طَرَأَتْ عَلَيْكَ الشُّبْهَةُ فِي أَثَرِ الْحَيَاةِ فَقَطْ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا مَجْهُولَةٌ فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ، - وَحَيَاةَ الْإِنْسَانِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى - أَزَلِيَّةٌ وَحَيَاةَ الْإِنْسَانِ حَادِثَةٌ، إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى - لَا تُفَارِقُهُ وَحَيَاةَ الْإِنْسَانِ تُفَارِقُهُ حِينَ يَمُوتُ، إِنَّ حَيَاةَ اللهِ - تَعَالَى - هِيَ الَّتِي تُفِيضُ الْحَيَاةَ عَلَى كُلِّ حَيٍّ وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ خَاصَّةٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْإِرَادَةُ وَالنِّظَامُ، كُلُّ ذَلِكَ نَاقِصٌ فِي الْإِنْسَانِ وَاللهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. انْتَهَى الْمُرَادُ نَقْلُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ.
وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ يُجَلِّي لِمَنْ وَعَاهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ هَذَا اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ أَوْ قَالَ: " أَعْظَمُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [٢: ١٦٣] وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ الم اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [٣: ١: ٢] فَالْآيَةُ الْأُولَى: تُثْبِتُ لَهُ - تَعَالَى - وَحْدَانِيَّةَ الْأُلُوهِيَّةِ مَعَ الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ، وَالثَّانِيَةُ: تُثْبِتُ لَهُ مَعَ الْوَحْدَانِيَّةِ
الْحَيَاةَ الَّتِي تُشْعِرُ بِكَمَالِ الْوُجُودِ وَكَمَالِ الْإِيجَادِ بِإِضَافَةِ الْحَيَاةِ عَلَى الْأَحْيَاءِ، وَالْقَيُّومِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ ; أَيْ ثَابِتًا بِذَاتِهِ وَكَوْنُ غَيْرِهِ قَائِمًا بِهِ ; أَيْ ثَابِتًا وَمَوْجُودًا بِإِيجَادِهِ إِيَّاهُ وَحِفْظِهِ لِوُجُودِهِ بِإِمْدَادِهِ بِمَا يَحْفَظُ بِهِ الْوُجُودَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْقَيُّومِيَّةِ: الْقِيَامُ
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ السِّنَةُ: النُّعَاسُ ; وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ:
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ | فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ |
" وَالنَّوْمُ حَالٌ يَعْرِضُ لِلْحَيَوَانِ مِنِ اسْتِرْخَاءِ أَعْصَابِ الدِّمَاغِ مِنْ رُطُوبَاتِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ بِحَيْثُ تَقِفُ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ عَنِ الْإِحْسَاسِ رَأْسًا " وَهُوَ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مُخْتَلِفَةٌ سَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا. قِيلَ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَنْفِيَ النَّوْمَ أَوَّلًا وَالسِّنَةَ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي. وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَا فِي النَّظْمِ جَاءَ عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْوُجُودِ، فَنَفَى مَا يَعْرِضُ أَوَّلًا ثُمَّ مَا يَتْبَعُهُ. وَقَدْ قَالَ: لَا تَأْخُذُهُ دُونَ " لَا تَعْرِضُ لَهُ أَوْ لَا تَطْرَأُ عَلَيْهِ " مُرَاعَاةً لِلْوَاقِعِ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ يَأْخُذَانِ الْحَيَوَانَ عَنْ نَفْسِهِ أَخْذًا، وَيَسْتَوْلِيَانِ عَلَيْهِ اسْتِيلَاءً.
أَقُولُ: وَيَظْهَرُ هَذَا عَلَى رَأْيِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سَبَبِ النَّوْمِ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَإِنْ كَانَ بَدِيهِيًّا فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ بُطْلَانِ عَمَلِ الْمُخِّ بِسَبَبِ مَا تُوَلِّدُهُ الْحَرَكَةُ مِنَ السُّمُومِ الْغَازِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَصَبِ، وَقِيلَ: بِسَبَبِ مَا تُفْرِزُهُ الْحُوَيْصِلَاتُ الْعَصَبِيَّةُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالْفِعْلِ الْكِيمَاوِيِّ وَقْتَ الْعَمَلِ، فَكَثْرَةُ هَذَا الْمَاءِ تُضْعِفُ قَابِلِيَّةَ التَّأَثُّرِ فِيهَا فَتُحْدِثُ فِيهَا الْفُتُورَ فَيَكُونُ النَّوْمُ، وَيَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يَتَبَخَّرَ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَنَبَّهُ الْأَعْصَابُ وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا تَأَثُّرُهَا وَإِدْرَاكُهَا، فَسَبَبُ النَّوْمِ أَمْرٌ جُسْمَانِيٌّ مَحْضٌ، وَاللهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَعَوَارِضِهَا.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُمْ مُلْكُهُ وَعَبِيدُهُ مَقْهُورُونَ لِسُنَّتِهِ خَاضِعُونَ لِمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُصَرِّفُ لِشُئُونِهِمْ وَالْحَافِظُ لِوُجُودِهِمْ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فَيَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَى مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ، وَقَضَتْ بِهِ حِكْمَتُهُ، وَأَوْعَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُ، مِنْ تَعْذِيبِ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ بِالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَدَنَّسَهَا بِالْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ،
وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَأَعْرَضَ عَنِ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى هَذَا مِنْ عَبِيدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ صُورَةٌ وَحَقِيقَةٌ؟ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَصًّا فِي أَنَّ الْإِذْنَ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [١١: ١٠٥] فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [٨٢: ١٩] وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: " بَيَانٌ لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ يُسَاوِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ وَيَسْتَقِلُّ بِأَنْ يَدْفَعَ مَا يُرِيدُهُ شَفَاعَةً وَاسْتِكَانَةً فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعَاوِقَهُ عِنَادًا أَوْ مُنَاصَبَةً ".
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مُحَصَّلُهُ: إِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَطْعًا لِأَمَلِ الشَّافِعِينَ وَالْمُتَّكِلِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَامَّةً بِبَيَانِ انْفِرَادِهِ - تَعَالَى - بِالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ وَعَدَمِ جُرْأَةِ أَحَدٍ مِنْ عَبِيدِهِ عَلَى الشَّفَاعَةِ أَوِ التَّكَلُّمِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَإِذْنُهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مَا قَبْلَهُمْ وَمَا بَعْدَهُمْ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ أُمُورَ الدُّنْيَا الَّتِي خَلَّفُوهَا وَأُمُورَ الْآخِرَةِ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَهَا أَوْ مَا يُدْرِكُونَ وَمَا يَجْهَلُونَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْعِبَادُ فِي الْمَاضِي
رَجَعَ نَظَرَ الْبَصِيرَةِ لَرَأَى أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ أَعْلَمَ السُّلْطَانَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْجَانِيَ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ وَيُهِمُّهُ شَأْنُهُ وَيُرْضِيهِ بَقَاؤُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَالشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يَغْتَرُّ بِهَا الْكَافِرُونَ وَالْفَاسِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَرْجِعُ عَنْ تَعْذِيبِ مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ مِنْهُمْ لِأَجْلِ أَشْخَاصٍ يَنْتَظِرُونَ شَفَاعَتَهُمْ هِيَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا - وَهِيَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ - تَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وَهُوَ ذُو الْعِلْمِ الْمُحِيطِ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى التَّصَدِّي لِإِعْلَامِكَ بِهِ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعْهَدُهُ النَّاسُ وَيَغْتَرُّ بِهِ الْحَمْقَى الَّذِينَ يَرْجُونَ النَّجَاةَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِدُونِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا؟
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ، وَإِذْنُهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ - تَعَالَى -، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ تَرَقٍّ فِي نَفْيِهَا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى آخَرَ، أَيْ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ شَفَاعَةٌ بِمَعْنَى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - كَالدُّعَاءِ الْمَحْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرُؤُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذْنُهُ - تَعَالَى - مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ إِلَّا إِذَا شَاءَ إِعْلَامَهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ إِذْنُهُ - تَعَالَى - بِمَا حَدَّدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِهِ، أَيْ فَمَنْ بُيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِعِقَابِهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ لَا يَجْرُؤُ أَحَدٌ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ بُيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِرِضْوَانِهِ عَلَى هَفَوَاتٍ أَلَمَّ بِهَا لَمْ تُحَوِّلْ وَجْهَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ الَّذِي يَطْبَعُ عَلَى الرُّوحِ فَتَسْتَرْسِلُ فِي الْخَطَايَا حَتَّى تُحِيطَ بِهَا وَتَمْلِكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، فَذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، مُنْتَهٍ إِلَيْهِ بِوَعْدِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ - كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا بِإِذْنِهِ وَاقِعٌ. وَهُوَ أَنَّ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَشْفَعُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُفْتَحُ بَابُ الشَّفَاعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ،
هَذِهِ، وَقُلْنَا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، فَنُفَوِّضُ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يَفْعَلُ اللهُ - تَعَالَى - عَقِبَهُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ أَنْ سَيَفْعَلُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّافِعَ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ وَلَمْ يُحْدِثْ تَأْثِيرًا مَا فِي إِرَادَتِهِ - تَعَالَى - ; وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ كَرَامَةُ اللهِ لِعَبْدِهِ بِمَا أَوْقَعَ الْفِعْلَ عَقِبَ دُعَائِهِ. أَقُولُ: وَبِهَذَا فَسَّرَ الشَّفَاعَةَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا [٢: ٤٨] إِلَخْ.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: كَرَّسَ الرَّجُلُ كَفَرَّحَ، أَيْ كَثُرَ عِلْمُهُ وَازْدَحَمَ عَلَى قَلْبِهِ ; أَيْ إِنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - مُحِيطٌ بِمَا يَعْلَمُونَ مِمَّا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَبِمَا لَا يَعْلَمُونَ مِنْ شُئُونِ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ. فَبِمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الشُّفَعَاءُ؟ وَقِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ، وَاخْتَارَهُ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَهُوَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْمَعْصُومِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِمُلْكِ اللهِ - تَعَالَى -، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ يَضْبِطُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ بِهَا عَلَى تَعْيِينِهِ وَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ عِلْمٌ أَوْ مُلْكٌ أَوْ جِسْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ، أَيْ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ خَلْقًا آخَرَ فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَا نَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالرَّأْيِ. كَمَا قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ هُوَ الْفَلَكُ الثَّامِنُ الْمُكَوْكَبُ مِنَ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدُوهُمْ فَذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِدُونِ عِلْمٍ وَهُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ.
وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ بِمَا فِيهَا وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فَيَتَعَالَى بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ شَأْنُهُ كَشَأْنِ الْبَشَرِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَتَنَزَّهُ بِعَظَمَتِهِ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى مَنْ يُعْلِمُهُ بِحَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، أَوْ يَسْتَنْزِلُهُ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ مِنْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ الْآيَةِ تَمْلَأُ الْقَلْبَ بِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْغُرُورِ بِالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يُعَظِّمُهُمُ الْمَغْرُورُونَ تَعْظِيمًا خَيَالِيًّا غَيْرَ مَعْقُولٍ حَتَّى يَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَبِيدٌ مَرْبُوبُونَ، أَوْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [٢١: ٢٧، ٢٨] فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِمَّا وَرَدَ فِي عِلْمِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا | إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ |
تُعَظِّمُ بِهَا النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَإِنْ جَعَلَتْهَا بِمَعْنًى وَثَنِيٍّ يُخِلُّ بِعَظَمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَنِ اغْتَرَّ بِذَلِكَ فَشَيْطَانُهُ هُوَ الَّذِي يُوَسْوِسُ لَهُ وَيَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ، وَإِنَّهَا لَنُفُوسٌ مَا عَرَفَتْ عَظَمَةَ اللهِ وَلَا شَعَرَتْ بِالْحَيَاءِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهَا وَلَا ظَهَرَ فِي أَعْمَالِهَا أَثَرُ مَحَبَّتِهِ، وَلَا احْتِرَامُ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمَا أَثَّرَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالْحُبُّ لَهُ وَالرَّجَاءُ بِفَضْلِهِ إِلَّا أُخِذَ دِينُهُ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ. وَآيَتُهُ بَذْلُ الْمَالِ وَالرُّوحِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَتَأْيِيدِ شَرِيعَتِهِ، لَا الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِقَبُولِ لَقَبِ الْإِسْلَامِ، وَتَعْظِيمِهِ بِالْقَوْلِ وَالْخَيَالِ، دُونَ الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ عَدْلٌ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [٨٦: ١٣: ١٤].
(الْمُفْرَدَاتُ) الرُّشْدُ - بِالضَّمِّ وَالتَّحْرِيكِ - إِصَابَةُ وَجْهِ الْأَمْرِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ، وَالْهُدَى: إِصَابَةُ الثَّانِي، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الرُّشْدِ، وِمِثْلُهُ الرَّشَادُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَضِدُّهُ الْغَيُّ، وَالطَّاغُوتُ: مَصْدَرُ الطُّغْيَانِ وَمَبْعَثُهُ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ كَالْمَلَكُوتِ مِنَ الْمُلْكِ، أَوْ مَصْدَرٌ. وَيَصِحُّ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَالْعُرْوَةُ مِنَ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ: الْمَقْبَضُ، وَمِنَ الثَّوْبِ: مَدْخَلُ الزِّرِّ، وَمِنَ الشَّجَرِ: الْمُلْتَفُّ الَّذِي تَشْتُو فِيهِ الْإِبِلُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ حَيْثُ لَا كَلَأَ وَلَا نَبَاتَ، أَوْ هُوَ مَا لَا يَسْقُطُ وَرَقُهُ كَالْأَرَاكِ وَالسِّدْرِ، أَوْ مَا لَهُ أَصْلٌ بَاقٍ فِي الْأَرْضِ. أَقْوَالٌ يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ الْعُرْوَةَ هِيَ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ فِي كُلِّ فَصْلٍ لِثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ. وَقَالُوا: إِذَا أَمْحَلَ النَّاسُ عَصَمَتِ الْعُرْوَةُ الْمَاشِيَةَ ; يَعْنُونَ مَا لَهُ أَصْلٌ بَاقٍ كَالنَّصِيِّ وَالْعَرْفَجِ وَأَجْنَاسِ الْخَلَّةِ وَالْحَمْضِ. وَالْوُثْقَى: مُؤَنَّثُ الْأَوْثَقِ، وَهُوَ الْأَشَدُّ الْأَحْكَمُ، وَالْمُوَثَّقُ مِنَ الشَّجَرِ: مَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ النَّاسُ
إِذَا انْقَطَعَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَأَرْضٌ وَثِيقَةٌ: كَثِيرَةُ الْعُشْبِ يُوثَقُ بِهَا. وَالِانْفِصَامُ: الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ، مُطَاوِعُ فَصَمَهُ، أَيْ كَسَرَهُ أَوْ قَطَعَهُ وَلَمْ يَبْنِهِ.
(سَبَبُ النُّزُولِ) رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاةً (أَيْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ
(التَّفْسِيرُ) أَقُولُ: هَذَا هُوَ حُكْمُ الدِّينِ الَّذِي يَزْعُمُ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ - وَفِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ - أَنَّهُ قَامَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ فَكَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّاسِ وَالْقُوَّةُ عَنْ يَمِينِهِ فَمَنْ قَبِلَهُ نَجَا، وَمَنْ رَفَضَهُ حَكَمَ السَّيْفُ فِيهِ حُكْمَهُ، فَهَلْ كَانَ السَّيْفُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي إِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ أَيَّامَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مُسْتَخْفِيًا، وَأَيَّامَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّعْذِيبِ وَلَا يَجِدُونَ رَادِعًا حَتَّى اضْطُرَّ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْهِجْرَةِ؟ أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنِ اعْتَزَّ الْإِسْلَامُ! ! وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي غِرَّةٍ هَذَا الِاعْتِزَازِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ لَا يَزَالُونَ يَقْصِدُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ. نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ عَهْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَادُوا لَهُ وَهَمُّوا بِاغْتِيَالِهِ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ بِجِوَارِهِ فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ
فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ، فَخَرَجُوا مَغْلُوبِينَ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِإِكْرَاهِ أَوْلَادِهِمُ الْمُتَهَوِّدِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ الْيَهُودِ. فَذَلِكَ أَوَّلُ يَوْمٍ خَطَرَ فِيهِ عَلَى بَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَلَلِ - لَا سِيَّمَا النَّصَارَى - حَمْلُ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَلْصَقُ بِالسِّيَاسَةِ مِنْهَا بِالدِّينِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ - عِبَارَةٌ عَنْ إِذْعَانِ النَّفْسِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِذْعَانُ بِالْإِلْزَامِ وَالْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ نَفْيِ الْإِكْرَاهِ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ فِي هَذَا الدِّينِ الرُّشْدَ وَالْهُدَى وَالْفَلَاحَ وَالسَّيْرَ فِي الْجَادَّةِ عَلَى نُورٍ، وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ عَلَى غَيٍّ وَضَلَالٍ. فَمَنْ يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ مَخْلُوقٍ يُعْبَدُ، وَرَئِيسٍ يُقَلَّدُ، وَهَوًى يُتَّبَعُ، وَيُؤْمِنُ بِاللهِ فَلَا يَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَرْجُو غَيْرَهُ وَلَا يَخْشَى
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْعُرْوَةِ يَجِدُ فِيهَا السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ دُونَ غَيْرِهِ. وَمِمَّا خَطَرَ لِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ: أَنَّ عُرْوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا كَانَتْ لَا تَنْقَطِعُ بِالْمُسْتَمْسِكِ بِهَا فَهُوَ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ الْهَلَكَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهَا، فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْآثَارِ فِي صِفَاتِ صَاحِبِهِ وَأَعْمَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوُجُودِ - لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالْخَيْرُ الْمُوَافِقُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ التَّمَسُّكِ بِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالسَّبَبُ الْأَقْوَى لِلثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَالسَّعَةِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِمْسَاكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِجَمِيعِ مَنَاشِئِ الطُّغْيَانِ، وَيَعْتَصِمْ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ مِنْ أَصُولِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ لَا يُعَدُّ مُسْتَمْسِكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِنِ انْتَمَى فِي الظَّاهِرِ إِلَى أَهْلِهَا، أَوْ إِلَى مَا بِهَا إِلْمَامُ الْمُمْسِكِ بِهَا، فَالْعِبْرَةُ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاسْتِمْسَاكِ الْحَقِيقِيِّ، لَا بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ الضَّعِيفِ الصُّورِيِّ، وَالِانْتِمَاءِ الْقَوْلِيِّ وَالتَّقْلِيدِيِّ، وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُدَّعِي الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانِ بِاللهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلِيمٌ بِمَا تُكِنُّهُ قُلُوبُهُمْ مِمَّا يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ. فَمَنْ شَهِدَ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنَ الْكَوْنِيَّةَ مُسَخَّرَةً بِحِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - مُسَيَّرَةً بِقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِسِوَاهَا إِلَّا لِوَاضِعِهَا وَالْفَاعِلِ بِهَا - فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقًّا، وَلَهُ جَزَاءُ الْمُسْتَمْسِكِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، نَاحِلًا مَا جَهِلَ سِرَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الْخَلْقِ قُوَّةً غَيْرَ طَبِيعِيَّةٍ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهَا أَوْ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَصِمٍ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَلَهُ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [١٠: ٩٩] وَيُؤَيِّدُهُمَا الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الدِّينَ هِدَايَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ لِلنَّاسِ تَعْرِضُ عَلَيْهِمْ مُؤَيِّدَةً بِالْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا جَبَّارِينَ وَلَا مُسَيْطِرِينَ، وَإِنَّمَا بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَكِنْ يَرِدُ
عَلَيْنَا أَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بُنِيَ النَّضِيرِ إِذْ أَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِجْبَارَ أَوْلَادَهُمِ الْمُتَهَوِّدِينَ أَنْ يُسْلِمُوا وَلَا يَكُونُوا مَعَ بَنِي النَّضِيرِ فِي جَلَّائِهِمْ كَمَا مَرَّ، فَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي دَعْوَةِ الدِّينِ بَيَانُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَأَنَّ النَّاسَ مُخَيَّرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ وَتَرْكِهِ. شُرِعَ الْقِتَالُ لِتَأْمِينِ الدَّعْوَةِ وَلِكَفِّ شَرِّ الْكَافِرِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِكَيْلَا يُزَعْزِعُوا ضَعِيفَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَمَكَّنَ الْهِدَايَةُ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَقْهَرُوا قَوِيَّهُمْ بِفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي مَكَّةَ جَهْرًا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [٢: ١٩٣] أَيْ حَتَّى يَكُونَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ آمِنًا مِنْ زَلْزَلَةِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ بِإِيذَاءِ صَاحِبِهِ فَيَكُونَ دِينُهُ خَالِصًا لِلَّهِ غَيْرَ مُزَعْزَعٍ وَلَا مُضْطَرِبٍ، فَالدِّينُ لَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ إِلَّا إِذَا كُفَّتِ الْفِتَنُ عَنْهُ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ حَتَّى لَا يَجْرُؤَ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ (قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : وَإِنَّمَا تُكَفُّ الْفِتَنُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
(الْأَوَّلُ) إِظْهَارُ الْمُعَانِدِينَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِاللِّسَانِ ; لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ خُصُومِنَا وَلَا يُبَارِزُنَا بِالْعَدَاءِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ كَلِمَتُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَكُونُ الدِّينُ لِلَّهِ وَلَا يُفْتَنُ صَاحِبُهُ فِيهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ.
(وَالثَّانِي) - وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِكْرَاهِ - قَبُولُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُعْطُونَنَا إِيَّاهُ جَزَاءَ حِمَايَتِنَا لَهُمْ بَعْدَ خُضُوعِهِمْ لَنَا، بِهَذَا الْخُضُوعِ نَكْتَفِي شَرَّهُمْ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَاعِدَةٌ كُبْرَى مِنْ قَوَاعِدِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَرَكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ سِيَاسَتِهِ فَهُوَ لَا يُجِيزُ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَسْمَحُ لِأَحَدٍ أَنَّ يُكْرِهَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَكُونُ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ إِقَامَةِ هَذَا الرُّكْنِ وَحِفْظِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِذَا كُنَّا أَصْحَابَ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ نَحْمِي بِهَا دِينَنَا وَأَنْفُسَنَا مِمَّنْ يُحَاوِلُ فِتْنَتَنَا فِي دِينِنَا اعْتِدَاءً عَلَيْنَا بِمَا هُوَ آمِنٌ أَنْ نَعْتَدِيَ بِمِثْلِهِ عَلَيْهِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّنَا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَنْ نُجَادِلَ الْمُخَالِفِينَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُعْتَمِدِينَ عَلَى تَبَيُّنِ الرُّشْدِ مِنَ الْغَيِّ بِالْبُرْهَانِ: هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ إِلَى الْإِيمَانِ، مَعَ حُرِّيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَأَمْنِ الْفِتْنَةِ، فَالْجِهَادُ مِنَ الدِّينِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جَوْهَرِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سِيَاجٌ لَهُ وَجُنَّةٌ، فَهُوَ أَمْرٌ سِيَاسِيٌّ
وَأَنَّ الْجِهَادَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ، فَالْقُرْآنُ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
وَتَأَمَّلْ مَعَ مَا ذَكَّرْنَاكَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فَهَذَا الْقَوْلُ يَهْدِي إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ يَكُونُ بِتَوْفِيقِ اللهِ - تَعَالَى - مَنْ شَاءَ، وَإِعْدَادِهِ لِلنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الشُّبَهَاتِ بِمَا يَنْقَدِحُ لِنَظَرِهِ مِنْ نُورِ الدَّلِيلِ لَا بِالْإِجْبَارِ وَالْإِكْرَاهِ. فَالْآيَةُ بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَنْعِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، وَالتَّنْبِيهِ لِأُولَئِكَ الْآبَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا إِكْرَاهَ أَوْلَادِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْيَهُودِيَّةِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ هِيَ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، فَإِذَا أَعَدَّتْهَا سُنَنُهُ وَعِنَايَتُهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ كَانَتِ الدَّعْوَةُ الْمُبَيِّنَةُ كَافِيَةً لِجَذْبِهَا إِلَى نُورِ الْهِدَايَةِ وَإِلَّا فَقَدْ تُودَعُ مِنْهَا لِإِحَاطَةِ الظُّلُمَاتِ بِهَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ مُتَوَلِّي أُمُورَ الْمُؤْمِنِينَ يُوَفِّقُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، وَيَمُدُّهُمْ فِي الْهِدَايَةِ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ، كَمَا أَنَّ الطَّاغُوتَ يَمُدُّونَ الْكَافِرِينَ فِي الْغَوَايَةِ، وَيُخْرِجُونَهُمْ بِالْإِغْوَاءِ مِنْ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ. وَهَذَا تَفْسِيرُ الْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ أَسَالِيبَ اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ، أَوْ تَفْسِيرُ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ هُمْ أَجْدَرُ بِعَدَمِ الْفَهْمِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ مَعْنَى سَابِقَتِهَا ظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ عَلَى اعْتِقَادِهِ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَهْتَدِي إِلَى اسْتِعْمَالِ الْهِدَايَاتِ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ الْحَوَاسُّ وَالْعَقْلُ وَالدِّينُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّمَا عَرَضَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ لَاحَ لَهُمْ بِسُلْطَانِ الْوِلَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ شُعَاعٌ مِنْ نُورِ الْحَقِّ يَطْرُدُ ظُلْمَتَهَا فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا بِسُهُولَةٍ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [٧: ٢٠١] جَوَلَانُ الْحَوَاسِّ فِي رِيَاضِ الْأَكْوَانِ، وَإِدْرَاكُهَا مَا فِيهَا مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ وَالْإِتْقَانِ يُعْطِيهِمْ نُورًا، وَنَظَرُ الْعَقْلِ فِي فُنُونِ الْمَعْقُولَاتِ يُعْطِيهِمْ نُورًا، وَمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ يُتِمُّ لَهُمْ نُورَهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أَيْ لَا سُلْطَانَ عَلَى نُفُوسِهِمْ إِلَّا لِتِلْكَ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ السَّائِقَةِ إِلَى الطُّغْيَانِ، فَإِذَا كَانَ الطَّاغُوتُ مِنَ الْأَحْيَاءِ النَّاطِقَةِ وَرَأَى أَنَّ عَابِدِيهِ قَدْ لَاحَ لَهُمْ شُعَاعٌ مِنْ نُورِ الْحَقِّ الَّذِي يُنَبِّهُهُمْ إِلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ بَادَرَ إِلَى إِطْفَائِهِ، بَلْ إِلَى صَرْفِهِمْ عَنْهُ بِمَا
يُلْقِيهِ دُونَهُ مِنْ حَجْبِ الشُّبَهَاتِ وَأَسْتَارِ زَخَارِفِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِقَادِ أَوْ بِنَفْسِ الِاعْتِقَادِ، وَإِذَا كَانَ الطَّاغُوتُ مِنْ غَيْرِ الْأَحْيَاءِ فَإِنَّ سَدَنَةَ هَيْكَلِهِ وَزُعَمَاءَ حِزْبِهِ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي تَنْمِيقِ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ، وَتَزْيِينِ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، أَقُولُ: بَلْ هَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءُ يُعَدُّونَ مِنَ الطَّاغُوتِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِهِ، فَإِنَّهُمْ دُعَاةُ الطُّغْيَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تُعْتَقَدُ فِيهِمُ السُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ وَتُوَلَّهُ الْعُقُولُ
إِحْدَاهُمَا: مَا يُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنَ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِأَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِهِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالسُّلْطَةِ وَالْجَاهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَا يَسْتَرْسِلُ صَاحِبُهَا فِي الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ أَوِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِنُورِ الدِّينِ مَكَانٌ مِنْ قِبَلِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [٨٣: ١٤، ١٥] الْآيَاتِ. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: لَا تُوجَدُ مِرْآةٌ يَرَى فِيهَا عَبَدَةُ الطَّاغُوتِ أَنْفُسَهُمْ كَمَا هِيَ أَجْلَى مِنَ الْقُرْآنِ: أَيْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ، إِمَّا لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى وَأَلِفُوهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ أَمَلٍ فِي شِفَاءِ بَصَائِرِهِمْ وَإِمَّا لِأَنَّ طَاغُوتَهُمْ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لِأَنَّ النَّارَ هِيَ الدَّارُ الَّتِي تَلِيقُ بِأَهْلِ الظُّلُمَاتِ الَّذِينَ لَمْ يَبْقَ لِنُورِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ مَكَانٌ فِي أَنْفُسِهِمْ يَصِلُهَا بِدَارِ النُّورِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ عَاقِبَةُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَوْضَ فِي حَقِيقَةِ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِالنَّارِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنَّمَا يُعْتَقَدُ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ أَنَّهَا دَارُ شَقَاءٍ يُعَذَّبُ الْمَرْءُ فِيهَا بِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ السَّيِّئِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ بِالْبَرْدِ إِذْ وَرَدَ أَنَّ فِيهَا الزَّمْهَرِيرَ. وَأَزِيدُ الْآنَ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ شَبِيهَةً بِالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا مَوَاضِعَ شَدِيدَةَ الْحَرِّ كَالْأَمَاكِنِ الَّتِي فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَمَوَاضِعَ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ كَالْقُطْبَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا أَبْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الِاعْتِدَالِ، فَحَرُّهَا وَبَرْدُهَا أَشَدُّ، وَمَصَادِرُهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لَنَا. أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا وَمِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
هَذَا، وَإِنَّ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ هَدْمِ التَّقْلِيدِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي الْبَصِيرَةِ، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الدَّرْسِ بِالنَّصِّ، بَلْ قَالَ كَلَامًا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُفْهَمُ مِنْهُ ; ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ تَبَيُّنَ الرُّشْدِ وَظُهُورَهُ فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الدِّينِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيَانُ الْكِتَابِ كَافِيًا فِي أَنْ يَتَبَيَّنَ لِلْمُكَلَّفِ مَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَلَا تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بَعْدَ الْبَيَانِ إِلَى النَّاظِرِ، وَلَمَا عُدَّ الْبَيَانُ إِعْذَارًا لَهُ وَإِنْظَارًا، وَلَمَا الْتَأَمَ مَعَ هَذَا قَوْلُهُ:
أَقُولُ: وَمِمَّا يَجِبُ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَ وِلَايَةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَوِلَايَتِهِمْ لَهُ وَوِلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْجَاهِلِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ، فَيَجْعَلُونَ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْوِلَايَةِ مَا هُوَ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَذَلِكَ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ خَفِيٌّ عِنْدَ الْجَاهِلِ، جَلِيٌّ عِنْدَ الْعَارِفِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلٍ فِيهِ.
هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ وِلَايَةَ اللهِ وَحْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ تُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ [٤٢: ٩] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [٤٢: ٢٨] وَثَمَّةَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَنْفِي وِلَايَةَ غَيْرِهِ - تَعَالَى - كَالْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّفَاعَةِ، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ أَمْرِ النَّبِيِّ وَمَنْ مَعَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكَمَ مَنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [١١: ١١٣] وَقَوْلِهِ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [٦: ١٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [٧: ١٩٦] وَكَذَلِكَ أَمَرَ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَلَّا يَتَّخِذُوا وَلِيًّا لَهُمْ غَيْرَ اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ وَأَنْ يُعْلِمُوا أُمَمَهُمْ ذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [١٢: ١٠١] الْآيَةَ وَقَالَ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا [٤: ٤٥] فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَلَى وِلَايَةِ اللهِ وَحْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَهْيِهِمْ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ مِنْ دُونِهِ " وَوَرَدَ فِي وِلَايَتِهِمْ لَهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [١٠: ٦٢، ٦٣] وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ
وَقَالَ - تَعَالَى - فِي وِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [٨: ٧٢] وَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ [٩: ٧١].
يُقَابِلُ وِلَايَةَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ، وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ وَالطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ وَوِلَايَتُهُمْ لَهُمَا كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [٣: ١٧٥] وَقَالَ: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [٤: ٧٦] وَقَالَ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٧: ٣٠] وَيُقَابِلُ
وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [٨: ٧٣] وَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [٥: ٥١].
وَمِنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَاتِ رَأَى مَعَانِيَهَا ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، أَمَّا كَوْنُهُ - تَعَالَى - هُوَ الْوَلِيُّ وَحْدَهُ لَا وَلِيَّ سِوَاهُ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْعِبَادِ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَذَلِكَ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى الَّتِي تُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، بِمَا بَيَّنَ لَهُمْ مِنَ السُّنَنِ وَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذِهِ هِيَ الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَأَمَّا وِلَايَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عِنَايَتِهِ بِهِمْ وَإِلْهَامِهِ وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ الرُّوحَانِيُّ وَالْجُسْمَانِيُّ، بِمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَأَمَّا وِلَايَتُهُمْ لَهُ - تَعَالَى - فَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِوِلَايَتِهِ لَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ، أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِهِمْ وَحْدَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُمْ فِي اسْتِفَادَتِهِمْ بِقُوَاهُمْ مِنْ نَافِعِ الْكَوْنِ وَاتِّقَائِهِمْ لِمَضَارِّهِ يُلَاحِظُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَتَوَلِّيهِ لِأُمُورِهِمْ، إِذْ مَكَّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ لَهُمْ، وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوَاهُمْ دُونَ مَطْلَبٍ مِنْ مَطَالِبِهِمْ أَوْ جَهِلُوا طَرِيقَهُ وَسَبَبَهُ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ مَعَ تَعَاوُنِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ فِي اسْتِمْدَادِ الْعِنَايَةِ وَطَلَبِ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْإِيمَانِ يَتَّقُونَهُ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْإِثْمِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبَ الْبَلَاءِ وَالشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، فَهَذَا مَعْنَى تَفْسِيرِ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَاوُنِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ مَعَ اسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ; لِأَنَّ الْفَسَادَ الشَّخْصِيَّ لَا يَتَّفِقُ مَعَ الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ (٩: ٧١) بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ.
مِنْ أُمُورِهِ فِيمَا وَرَاءَ هَذَا التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ أَشْرَكُ ; إِذِ اعْتَدَى عَلَى وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ بِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ لَا بِالتَّوَسُّطِ عِنْدَهُ وَلَا الِاسْتِقْلَالِ دُونَهُ.
هَذَا الْمَعْنَى هُوَ عَيْنُ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلطَّاغُوتِ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [٣٩: ٣] وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُسَمَّى بِالطَّاغُوتِ بَعْضُ مَنِ اتَّخَذَ وَلِيًّا بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا هَذِهِ الْوِلَايَةَ لِعِيسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا وَحْيَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَوَسَاوِسِهِمْ، فَهُمْ طَاغُوتُهُمْ كَمَا قَالَ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [٦: ١٢١] الْآيَةَ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [٦: ١١٢] وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَتَبَرَّأُ مِنْ بَعْضٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، وَمِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ تَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْنَدَ وِلَايَةَ اللهِ الْخَاصَّةِ إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَوْغَلَ بَعْضُ مُتَّخِذِي الْأَوْلِيَاءِ فِي دُعَاءِ أَوْلِيَائِهِمْ وَمُطَالَبَتِهِمْ بِمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - حَتَّى صَارَ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَيَكْتُبُ أَنَّ فُلَانًا الْوَلِيَّ يُمِيتُ وَيُحْيِي وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي، فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ وَلَا يَغُرَّنَّكَ تَأْوِيلُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ كَيْفَ كَانَ يَهْتَدِي بِوِلَايَةِ اللهِ لَهُ إِلَى الْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَيَظَلُّ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، وَإِلَى الَّذِي حَاجَّهُ كَيْفَ كَانَ بِوَلَايَةِ الطَّاغُوتِ لَهُ يَعْمَى عَنْ نُورِ الْحُجَّةِ وَيَنْتَقِلُ مِنْ ظُلْمَةٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ إِلَى أُخْرَى، قَالُوا: الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ وَغُرُورِ صَاحِبِهَا وَغَبَاوَتِهِ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَوْلُهُ: أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ إِيتَاءُ اللهِ - تَعَالَى - الْمُلْكَ لَهُ، فَكَانَ مَنْشَأَ إِسْرَافِهِ فِي غُرُورِهِ وَسَبَبَ كِبْرِيَائِهِ وَإِعْجَابِهِ بِقُدْرَتِهِ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَكَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَأَلَهُ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ - وَقَدْ كَسَّرَ الْأَصْنَامَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ وَسَفَّهَ أَحْلَامَ عَابِدِيهَا لِأَجْلِهِ - فَأَجَابَ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَأَنْكَرَهُ الْمَلِكُ الطَّاغِيَةُ الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ ادِّعَاءُ الْأُلُوهِيَّةِ لِنَفْسِهِ وَقَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أُحْيِي مَنْ أُحْكِمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْدَامِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَأُمِيتُ مَنْ شِئْتُ إِمَاتَتَهُ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِهِ، فَدَلَّ جَوَابُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمْ يَقِلْ " فَقَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ " لِأَنَّ جَوَابَهُ مُنْقَطِعٌ عَنِ الدَّلِيلِ لَا يَتَّصِلُ بِهِ بِالْمَرَّةِ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالتَّكْوِينِ، لَا فِي اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ وَالتَّوَسُّلِ فِي الشَّيْءِ الْمُكَوَّنِ. فَالْمُرَادُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ الَّذِي يُنْشِئُ الْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَغَيْرِهَا وَيُزِيلُ الْحَيَاةَ بِالْمَوْتِ، وَعَبَّرَ بِالَّذِي الدَّالِّ عَلَى الْمَعُهُودِ الْمَعْرُوفَةِ صِلَتُهُ دُونَ " مَنْ " الَّتِي فِيهَا الْإِبْهَامُ، وَبِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا شَأْنُهُ دَائِمًا كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي الْأَكْوَانِ نَظَرَ الْمُفَكِّرِ الْمُسْتَدِلِّ.
وَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ مُرَادَهُ بِالَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ - مَصْدَرُ التَّكْوِينِ الَّذِي يَحْيَا كُلُّ حَيٍّ بِإِحْيَائِهِ وَيَمُوتُ بِقَطْعِ إِمْدَادِهِ لَهُ بِالْحَيَاةِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَائْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَهَذَا إِيضَاحٌ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَإِزَالَةٌ لِشُبْهَةِ الْخَصْمِ، لَا أَنَّهُ جَوَابٌ آخَرُ كَمَا فَهِمَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبِّي الَّذِي يُعْطِي الْحَيَاةَ وَيَسْلُبُهَا بِقُدْرَتِهِ وَحَكَمْتِهِ هُوَ الَّذِي يُطْلِعُ الشَّمْسَ مِنَ الْمَشْرِقِ، أَيْ هُوَ الْمُكَوِّنُ لِهَذِهِ الْكَائِنَاتِ بِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا عَلَيْهَا. فَإِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ فَغَيِّرْ لَنَا نِظَامَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَائْتِ بِهَا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْجِهَةِ الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِظُهُورٍ مِنْهَا. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أَيْ أَدْرَكَتْهُ الْحَيْرَةُ وَأَخَذَهُ الْحَصْرُ مِنْ نُصُوعِ الْحُجَّةِ وَسُطُوعِهَا فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا. وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَرْشِيحٌ لِلْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ نُورُ الْعَقْلِ الَّذِي يَسِيرُ بِهِ الْمَرْءُ فِي طَرِيقِ الدِّينِ، فَمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِإِطْفَاءِ هَذَا الْمِصْبَاحِ
أَقُولُ: يُرِيدُ بِمُطْفِئِ الْمِصْبَاحِ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْحُكْمَ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِنَظَرِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ الْبَرِيءِ مِنَ الْهَوَى وَنَزَغَاتِ التَّقْلِيدِ، بَلْ يُحَكِّمُ الطَّاغُوتَ الَّذِي اسْتَسْلَمَ لَهُ، كَتَقْلِيدِهِ لِلَّذِينَ وَثِقَ بِهِمْ تَارِكًا مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْفَهْمِ اكْتِفَاءً بِرَأْيِهِمْ، أَوِ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ وَشَهَوَاتِهِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَتُوهِمُهُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الدَّلِيلِ قَدْ يُقْنِعُهُ بِتَرْكِ مَا هُوَ مُتَمَتِّعٌ بِهِ فَيَفُوتُهُ، فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَيَسْتَرْسِلَ فِيمَا هُوَ فِيهِ. مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَحَلَّ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ لِنَمْرُوذَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِذَا كَانَ رَبُّكَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا طَالَبْتَنِي بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَلْيَأْتِ بِهَا يَوْمًا مَا.
قَالَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ خَرَابَ الْعَالَمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: إِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ نَمْرُوذُ ذَلِكَ لَأَلْزَمَهُ، وَقَدْ فَهِمَ نَمْرُوذُ عَلَى طُغْيَانِهِ وَغُرُورِهِ مِنَ الْحُجَّةِ مَا لَا يَفْهَمُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ، فَهِمَ أَنَّ مُرَادَ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ فِي سَيْرِ الشَّمْسِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ حَكِيمٍ، إِذْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّ رَبِّي الَّذِي أَعْبُدُهُ هُوَ ذَلِكَ الْفَاعِلُ الْحَكِيمُ الَّذِي قَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ عَلَى مَا نَرَى، وَمَنْ فَهِمَ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: اطْلُبْ مِنْ هَذَا الْحَكِيمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حِكْمَتِهِ وَيُبْطِلَ سُنَّتَهُ، كَذَلِكَ لَا مَحَلَّ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: لِمَ سَكَتَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ كَشْفِ شُبْهَتِهِ الْأُولَى إِذْ زَعَمَ أَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ إِحْيَاءٌ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّمْسِ قَدْ كَشَفَتْ ذَلِكَ انْكِشَافًا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ
لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
بَيْضٌ ثَلَاثٌ كَنِعَاجٍ جُمِّ | يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ الْمُنْهَمِّ |
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهِي ذَوِي شَطَطٍ | كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتَلُ |
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَحْكِيمَ مَذَاهِبِهِمُ النَّحْوِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَمُحَاوَلَةَ تَطْبِيقِهِ عَلَيْهَا - وَإِنْ أَخَلَّ ذَلِكَ بِبَلَاغَتِهِ - جَرَاءَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَإِذَا كَانَ النَّحْوُ وُجِدَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَلَيْتَهُ لَمْ يُوجَدْ، وَالْقَرْيَةُ - بِالْفَتْحِ -: الضَّيْعَةُ وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ، وَأَصْلُ مَعْنَى الْمَادَّةِ: الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَرْيَةُ النَّمْلِ الْمُجْتَمِعُ تُرَابُهَا، وَيُعَبَّرُ بِالْقَرْيَةِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، يُقَالُ: خَوَى الْمَنْزِلُ خَوَاءً، وَخَوَى بَطْنُ الْحَامِلِ، وَقِيلَ: يَعْنِي سَاقِطَةً؛ مِنْ خَوَى النَّجْمُ إِذَا سَقَطَ، وَالْعُرُوشُ: السُّقُوفُ، وَيَتَسَنَّهُ: يَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ السِّنِينَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّنَهِ، فَهَاؤُهُ أَصْلِيَّةٌ يُقَالُ سَنِهَ " كَتَعِبَ " أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ، وَتَسَهَّنَتِ النَّخْلَةُ: أَتَتْ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَتَسَنَّهَ الطَّعَامُ: تَكَرَّجَ وَتَعَفَّنَ لِطُولِ الزَّمَنِ، أَوْ أَصْلُهُ تَسَنَّى أَوْ تَسَنَّنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ وَنُنْشِزُهَا بِالزَّايِ: نَرْفَعُهَا، مِنْ أَنْشَزَهُ إِذَا رَفَعَهُ، وَ " نَنْشُرُهَا " - بِالرَّاءِ - نُقَوِّيهَا، وَمِنْهُمَا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ " لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ ".
(التَّفْسِيرُ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مُلَخَّصُهُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤَيَّدُ بِآيَاتِ اللهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ
الصَّحِيحُ، مَثَلٌ لِهِدَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ذَلِكَ الْكَافِرِ. وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قِصَّةِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ وَرَدَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مِثْلِهِ أَلَّا يَقَعَ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ عَجِيبًا - لَا يَصِحُّ إِنْكَارُ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ - وَهُوَ مُؤْمِنٌ - فَيَطْلُبُ الْمَخْرَجَ بِالْبُرْهَانِ، فَيَهْدِيهِ اللهُ إِلَيْهِ بِمَا لَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ إِلَى نُورِ الْبُرْهَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَقَدْ قَدَّرُوا هُنَا " أَرَأَيْتَ " لِإِثْبَاتِ التَّعْجِيبِ دُونَ الْإِنْكَارِ، أَيْ أَوْ أَرَأَيْتَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ مِثْلَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فِي إِلْمَامِ ظُلْمَةِ الشُّبْهَةِ بِهِ. وَإِخْرَاجِ اللهِ إِيَّاهُ مِنْهَا إِلَى النُّورِ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَا الْمَارَّ وَهَذِهِ الْقَرْيَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَهَا وَأَصْحَابَهَا، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ
وَقَوْلُهُ: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا مَعْنَاهُ: وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنَ السُّكَّانِ وَاقِعَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَوْلُهُ: عَلَى عُرُوشِهَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِخَاوِيَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهِيَ الْخَاوِيَةُ مِنَ السُّكَّانِ وَقَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: إِذَا نُزِعَتِ الْقَوَائِمُ سَقَطَتِ الْعُرُوشُ، وَالْحَالُ تَأْتِي مِنَ النَّكِرَةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَأَوْقَعَ الْمُفَسِّرِينَ فِي التَّعَسُّفِ فِي التَّأْوِيلِ وَاخْتِيَارِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ عَلَى الْحَالِ الْمُفْرَدِ لِتَمْثِيلِ حَالِ الْقَرْيَةِ فِي النَّفْسِ بِذِكْرِ ضَمِيرِهَا، وَإِسْنَادِ خَاوِيَةٍ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى قَرْيَةٍ خَاوِيَةٍ لَمَا أَفَادَ هَذَا التَّمْثِيلُ.
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ وَيَعُدُّهُ غَرِيبًا لَا يَكَادُ يَقَعُ فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَلْبَثَهُ مِائَةَ عَامٍ مَيِّتًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يَمْتَدُّ زَمَنًا طَوِيلًا، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ فَقْدِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَالْإِدْرَاكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ بِالْمَرَّةِ، وَهُوَ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ - تَعَالَى - بِالضَّرْبِ عَلَى الْآذَانِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ السَّمْعَ آخَرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ
إِدْرَاكِ مَنْ أَخَذَهُ النَّوْمُ أَوِ الْمَوْتُ، وَهَذَا الْمَوْتُ أَوِ الضَّرْبُ عَلَى الْآذَانِ هُوَ الْمُرَادُ بِالشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [٣٩: ٤٢] وَالْبَعْثُ هُوَ الْإِرْسَالُ ; فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوْتِ يَكُونُ بِتَوَفِّي النَّفْسِ، أَيْ قَبْضِهَا فَزَوَالُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِرْسَالِهَا وَبَعْثِهَا.
وَأَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تُحْفَظُ حَيَاتُهُ زَمَنًا طَوِيلًا يَكُونُ فِيهِ فَاقِدَ الْحِسِّ وَالشُّعُورِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّبَاتِ وَهُوَ النَّوْمُ الْمُسْتَغْرِقُ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ وَفَاةً، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى مَجَلَّةِ الْمُقْتَطَفِ سَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّهُ قَرَأَ فِي بَعْضِ التَّقَاوِيمِ أَنَّ امْرَأَةً نَامَتْ ٥٥٠٠ يَوْمًا أَيْ بِلَيَالِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنَّ تَسْتَيْقِظَ سَاعَةً مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَسَأَلَ هَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ فَأَجَابَهُ أَصْحَابُ الْمَجَلَّةِ بِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا شَابًّا نَامَ نَحْوَ شَهْرٍ مِنَ الزَّمَانِ ثُمَّ أُصِيبَ بِدَخَلٍ فِي عَقْلِهِ، وَقَرَءُوا عَنْ أُنَاسٍ نَامُوا نَوْمًا طَوِيلًا أَكْثَرُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَنَامَ إِنْسَانٌ مُدَّةَ ٥٥٠٠ يَوْمًا أَيْ أَكْثَرَ مِنْ ١٥ سَنَةً نَوْمًا مُتَوَالِيًا. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يُصَدِّقُونَ ذَلِكَ. نَعَمْ إِنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَلَكِنَّ الْقَادِرَ عَلَى حِفْظِ الْإِنْسَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، و١٥ سَنَةً قَادِرٌ عَلَى حِفْظِهِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ نَهْتَدِ إِلَى سُنَّتِهِ فِي ذَلِكَ، فَلُبْثُ الرَّجُلِ الَّذِي ضُرِبَ عَلَى سَمْعِهِ - هُنَا مَثَلًا - مِائَةً غَيْرُ مُحَالٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا
قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَفْسُدْ بِمُرُورِ السِّنِينَ. أَقُولُ: لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا - تَعَالَى - نَوْعَ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَذَلِكَ الشَّرَابِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعَدُّ بَقَاؤُهُ مِائَةَ عَامٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُدِلُّ رَائِيَهَا عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا لَا يَفْسُدُ بِطُولِ السِّنِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَوْ تَفَتَّتَتْ عِظَامُهُ، فَلَوْلَا طُولُ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ بَقِيَ حَيًّا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَعْتَنِي بِشَأْنِهِ، كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ وَلَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، فَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مَحْذُوفًا أَيْ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِنُزِيلَ تَعَجُّبَكَ وَنُرِيَكَ آيَاتِنَا فِي نَفْسِكَ وَطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ وَحِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، فَالْعَطْفُ دَلَّنَا عَلَى الْمَحْذُوفِ الْمَطْوِيِّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً وَهَذَا مِنْ لَطَائِفَ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُ مَا رَأَى آيَةً لَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ آيَةً لِلنَّاسِ فَهُوَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِمَوْتِهِ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا يَزَالُ شَابًّا وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ قَدْ شَابُوا وَهَرَمُوا، وَقَدْ عَرَفُوهُ وَعَرَفَهُمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ بَدَنَهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُضْنِيهِ وَتُذْهِبُ بِمَاءِ الشَّبَابِ مِنْهُ فَتُهْرِمُهُ، بَلْ حُفِظَتْ لَهُ حَالَتَهُ الَّتِي تُوُفِّيَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " نُنْشِرُهَا " - بِالرَّاءِ - مِنَ الْإِنْشَارِ - وَالْبَاقُونَ - بِالزَّايِ - مِنَ الْإِنْشَازِ. قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحِمَارَ مَاتَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ هُنَا عِظَامُهُ، وَمَعْنَى نُنْشِزُهَا نَرْفَعُهَا وَنُرَكِّبُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَمَعْنَى " نُنْشِرُهَا ": نُحْيِيهَا، وَلَا مَنْدُوحَةَ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحِمَارَ كَانَ لَا يَزَالُ حَيًّا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ جِنْسُهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ الْآيَةَ الَّتِي تَكُونُ حُجَّةً خَاصَّةً لِمَنْ رَآهَا نَبَّهَهُ إِلَى الْحُجَّةِ الْعَامَّةِ، وَالدَّلِيلِ الثَّابِتِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ وَإِنْشَاءِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَالْإِنْشَاءُ مَعْنَاهُ: التَّقْوِيَةُ، وَالِانْتِشَارُ مَعْنَاهُ: التَّنْمِيَةُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَنْمُو يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَطْلَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَدُلُّكَ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ نَهْدِيكَ إِلَى الْآيَةِ الْكُبْرَى الْعَامَّةِ وَهِيَ كَيْفِيَّةُ التَّكْوِينِ، وَإِنَّمَا
جَدِيدٌ، بَلِ الْحِمَارُ نَفْسُهُ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ثُمَّ مِنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ انْظُرْ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ إِنْشَازِ الْعِظَامِ وَإِنْشَاءِ الْحَيَوَانِ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِذِكْرٍ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ آيَةً. فَهَذَا الْفَصْلُ دَلِيلٌ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ إِلَى الْآيَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الْعِظَامُ تُوجَدُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ عَارِيَةً مِنْ لِبَاسِ الْحَيَاةِ، بَلْ قَالَ فَقِيرَةٌ مِنْ مَادَّتِهَا، فَالْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَكْسُوَهَا لَحْمًا يَمُدُّهَا بِالْحَيَاةِ وَيَجْعَلُهَا أَصْلًا لِجِسْمٍ حَيٍّ - قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْخِصْبَ وَالْعُمْرَانَ لِلْقَرْيَةِ، كَمَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ لُبْثِ مِائَةِ سَنَةٍ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ لُبْثِ الْمَوْتَى أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ، هَكَذَا يُشْبِهُ بَعْضُ أَفْعَالِهِ بَعْضًا.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ ظَهَرَ وَاتَّضَحَ لَهُ مَا ذُكِرَ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عِلْمًا يَقِينًا مُؤَيَّدًا بِآيَاتِ اللهِ فِي نَفْسِي وَفِي الْآفَاقِ. وَسَأَلَ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ سَائِلٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّكَلُّمِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يُبَيِّنْهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ سَامِعٍ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ بَيَانِهِ، أَقُولُ: إِنَّمَا سَأَلَ السَّائِلُ لِأَنَّ الْأُسْتَاذَ جَرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ صِدِّيقٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فَهَذَا التَّكْلِيمُ كَانَ مِنَ الْوَحْيِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْقِصَّةِ لِنَبِيٍّ قُرِّرَتْ بِهِ الْحُجَّةُ هَكَذَا، كَمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ يَقَعُ فِي نُفُوسِ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَفْكَارِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يَقَعُ فِي نُفُوسِ غَيْرِهِمْ، فَيُعَدُّ مِنْ إِلْهَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، كَإِلْهَامِ أُمِّ مُوسَى مَا أُلْهِمَتْ بِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَحْيِ، وَيُحْكَى عَنْهُ بِمِثْلِ مَا يُحْكَى عَنِ التَّكْلِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
عُصْفُورٌ صَوَّارٌ، وَصَارَهُ يَصِيرُهُ: قَطَّعَهُ وَفَصَّلَهُ صُوَرًا صُوَرًا، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَعَ كَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَمَعْنَاهُ التَّصْوِيتُ، أَيْ صَوَّتَ وَصَاحَ بِهِنَّ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.
(التَّفْسِيرُ) هَذَا مِثَالٌ ثَالِثٌ لِوِلَايَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْبَعْثِ، وَأَمَّا الْمِثَالُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ مُحَاجَّةُ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ لِإِبْرَاهِيمَ - فَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وُجُودِ اللهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ مِثَالٍ وَاحِدٍ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِثَالَيْنِ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ أَنَّ مُنْكِرِي الْبَعْثِ أَكْثَرُ مِنْ مُنْكِرِي الْأُلُوهِيَّةِ! ! قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ [٧: ٧٤] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَرَأَيْتَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِلَخْ. وَقَالُوا: إِنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْمِثَالِ الَّذِي قَبْلَهُ بِذِكْرِ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ ; لِأَنَّ فِي سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي سُؤَالِ ذَاكَ، فَصُورَةُ ذَلِكَ صُورَةُ الْإِنْكَارِ وَصُورَةُ هَذَا صُورَةُ الْإِقْرَارِ مَعَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِلْمِ. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى بَدَأَ السُّؤَالَ بِكَلِمَةِ رَبِّ الَّتِي تُفِيدُ عِنَايَتَهُ - تَعَالَى - بِعَبِيدِهِ وَتَرْبِيَتَهُ لِعُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ لِتَكُونَ ثَنَاءً وَاسْتِعْطَافًا أَمَامَ الدُّعَاءِ، أَيْ أَرِنِي بِعَيْنِي كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِكَ لِلْمَوْتَى، وَقَدْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا إِلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي فَهْمِ الْكَلَامِ قَالَ - تَعَالَى - وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ حُذِفَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ لِدَلَالَةِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَقَدَّرُوا لَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُقَدَّرَ: أَلَمْ يُوحَ إِلَيْكَ وَلَمْ تُؤْمِنْ بِذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى أَيْ قَدْ أَوْحَيْتَ إِلَيَّ فَآمَنْتُ وَصَدَّقْتُ بِالْخَبَرِ، وَلَكِنْ تَاقَتْ نَفْسِي لِلْخَبَرِ. وَالْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذَا السِّرِّ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالْعِيَانِ بَعْدَ خَبَرِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - لِإِبْرَاهِيمَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ - إِرْشَادًا إِلَى مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنَّ يَقِفَ عِنْدَهُ وَيَكْتَفِيَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِنَّ الْإِيمَانَ بِهَذَا السِّرِّ الْإِلَهِيِّ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ لِخَبَرِ الْوَحْيِ وَدَلَائِلِهِ وَأَمْثَالِهِ هُوَ مُنْتَهَى مَا يُطْلَبُ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَوْ كَانَ وَرَاءَ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ مَطْلَعٌ لِنَاظِرٍ لَبَيَّنَهُ اللهُ لَكَ، وَفِي هَذَا الْإِرْشَادِ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً وَمَنْعٌ لَهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَإِشْغَالِ نُفُوسِهِمْ بِمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ - تَعَالَى ـ بِهِ فَلَا يَلِيقُ بِهِمُ الْبَحْثُ عَنْهُ.
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قَرَأَ حَمْزَةُ " فَصِرْهُنَّ " - بِكَسْرِ الصَّادِ - وَالْبَاقُونَ - بِضَمِّهَا - مَعَ تَخْفِيفِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَمَعْنَاهُ: أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَيْكَ. وَقِيلَ مَعْنَى قِرَاءَةِ - الْكَسْرِ - فَقَطِّعْهُنَّ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى بِـ " إِلَى " كَمَا تَقَدَّمَ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: إِنَّهُ قَطَّعَهُنَّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِيَارِ الطَّيْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَقَالَ الرَّازِّيُّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الطَّيْرَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَجْمَعُ لِخَوَاصِّ الْحَيَوَانِ، وَلِسُهُولَةٍ تَأَتِّي مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ
التَّقْطِيعِ وَالتَّجْزِئَةِ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الطَّيْرَ أَكْثَرُ نُفُورًا مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الْغَالِبِ، فَإِتْيَانُهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ أَبْلَغُ فِي الْمَثَلِ، وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي أَنْوَاعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَتَكَلَّمُوا فِي أَرْبَعَةٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ الْمُوَافِقُ لِعَدَدِ الطَّبَائِعِ، أَوْ لِعَدَدِ الرِّيَاحِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ أَرْبَعَةً لِيَضَعَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بَعْضَهَا وَهُوَ قَرِيبٌ، وَمَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْوِيضِ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَاصِمٍ " جُزُؤًا " - بِضَمِّ الزَّايِ - حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ - بِسُكُونِهَا - وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى جَزِّئْهُنَّ، وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَرَوَوْا أَنَّهُ ذَبَحَ الطُّيُورَ وَنَتَفَهَا وَقَطَّعَهَا أَجْزَاءً وَخَلَّطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَلَا يَدُلُّ
مُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَأَمَرَهُ - تَعَالَى - بِأَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَيُقَطِّعَهُنَّ أَجْزَاءً يُفَرِّقُهَا عَلَى عِدَّةِ جِبَالٍ هُنَاكَ، ثُمَّ يَدْعُوهَا إِلَيْهِ فَتَجِيئُهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُفَسِّرُ الشَّهِيرُ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا كَلُّ أَمْرٍ يُقْصَدُ بِهِ الِامْتِثَالُ، فَإِنَّ مِنَ الْخَبَرِ مَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لَا سِيَّمَا إِذَا أُرِيدَ زِيَادَةُ الْبَيَانِ، كَمَا إِذَا سَأَلَكَ سَائِلٌ كَيْفَ يُصْنَعُ الْحِبْرُ مَثَلًا؟ فَتَقُولُ خُذْ كَذَا وَكَذَا وَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَكَذَا يَكُنْ حِبْرًا. وَتُرِيدُ هَذِهِ كَيْفِيَّتُهُ وَلَا تَعْنِي تَكْلِيفَهُ صُنْعَ الْحِبْرِ بِالْفِعْلِ. قَالَ: وَفِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا مَثَلٌ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَمَعْنَاهُ خُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَضُمَّهَا إِلَيْكَ وَآنِسْهَا بِكَ حَتَّى تَأْنَسَ وَتَصِيرَ بِحَيْثُ تُجِيبُ دَعْوَتَكَ، فَإِنَّ الطُّيُورَ مِنْ أَشَدِّ الْحَيَوَانِ اسْتِعْدَادًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اجْعَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ ادْعُهَا فَإِنَّهَا تُسْرِعُ إِلَيْكَ لَا يَمْنَعُهَا تَفَرُّقُ أَمْكِنَتِهَا وَبُعْدُهَا مِنْ ذَلِكَ. كَذَلِكَ أَمْرُ رَبِّكَ إِذَا أَرَادَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَدْعُوهُمْ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ " كُونُوا أَحْيَاءً " فَيَكُونُوا أَحْيَاءً كَمَا كَانَ شَأْنُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، إِذْ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. هَذَا مَا نُجْلِي بِهِ تَفْسِيرَ أَبِي مُسْلِمٍ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الرَّازِّيُّ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ: " وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ وَأَنْكَرَ - يَعْنِي أَبَا مُسْلِمٍ - الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَقَطِّعْهُنَّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ:
(الْأَوَّلُ) : أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: فَصُرْهُنَّ أَمِلْهُنَّ، وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَانَ إِدْرَاجُهُ فِي الْآيَةِ إِلْحَاقًا لِزِيَادَةٍ بِالْآيَةِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
(وَالثَّانِي) أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِـ " صُرْهُنَّ " قَطِّعْهُنَّ لَمْ يَقُلْ إِلَيْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِهَذَا الْحَرْفِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَخُذْ إِلَيْكَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ؟ قُلْنَا: الْتِزَامُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُلْجِئٌ إِلَى الْتِزَامِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ.
(وَالثَّالِثُ) أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ادْعُهُنَّ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى أَجْزَائِهَا وَإِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً مُتَفَاصِلَةً وَكَانَ الْمَوْضُوعُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ - يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا إِلَيْهَا وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِينَكَ سَعْيًا عَائِدٌ إِلَيْهَا إِلَى أَجْزَائِهَا. وَعَلَى قَوْلِكُمْ إِذَا سَعَى بَعْضُ الْأَجْزَاءِ إِلَى بَعْضٍ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتِينَكَ عَائِدًا إِلَى أَجْزَائِهَا لَا إِلَيْهَا.
(الْأَوَّلُ) أَنَّ كُلَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَبْحُ تِلْكَ الطُّيُورِ وَتَقْطِيعُ أَجْزَائِهَا فَيَكُونُ إِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارًا لِلْإِجْمَاعِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْغَيْرِ.
(وَالثَّالِثُ) أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ اللهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ فِي الْحَقِيقَةِ.
(وَالرَّابِعُ) أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الطُّيُورَ جُعِلَتْ جُزْءًا جُزْءًا. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّهُ أَضَافَ الْجُزْءَ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُزْءِ هُوَ الْوَاحِدُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْجُزْءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَظْهَرُ. وَالتَّقْدِيرُ فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا أَوْ بَعْضًا ". انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِّيِّ.
آيَةٌ فَهْمِ الرَّازِّيُّ وَغَيْرُهُ فِيهَا خِلَافَ مَا فَهِمَهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ فَهْمَ فِئَةٍ مِنَ النَّاسِ حُجَّةٌ عَلَى فَهْمِ الْآخَرِينَ، عَلَى أَنَّ مَا فَهِمَهُ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا قَالُوهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِوَايَاتٍ حَكَّمُوهَا فِي الْآيَةِ، وَلِآيَاتِ اللهِ الْحُكْمُ الْأَعْلَى، وَعَلَى مَا فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ هِيَ لَا تَدُلُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَزِيَّةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ هَذَا الْمِثَالَ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ اللهِ لِلْمَوْتَى أَوْ لِكَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ: فِيهِ تَوْشِيحٌ لَهَا وَتَحْدِيدٌ لِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ مِنْ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ كَانَ عَامًا فِي النَّاسِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ فِيهِ لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَى أَنَّهُ يَرِدُ مِثْلُ هَذَا الْإِيرَادِ عَلَى حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الَّذِي آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ، وَحُجَّتِهِ عَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَجِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ - تَعَالَى - بِهَا إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِّيُّ وَغَيْرُهُ. فَهَلْ يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِدَايَةً مِنَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِخْرَاجًا مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ الَّتِي كَانَتْ مُحِيطَةً بِأَهْلِ زَمَنِهِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ [٦: ٨٣] الْآيَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ إِجَابَةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَا سَأَلَ لَا تَحْصُلُ بِقَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فَالْأَمْرُ بِعَكْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِتْيَانَ الطُّيُورِ بَعْدَ تَقْطِيعِهَا وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهَا فِي الْجِبَالِ لَا يَقْتَضِي رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا رُؤْيَةُ الطُّيُورِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّقْطِيعِ ; لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَصَلَ فِي الْجِبَالِ الْبَعِيدَةِ. وَافْرِضْ أَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا قُتِلَ وَقُطِّعَ إِرْبًا إِرْبًا ثُمَّ رَأَيْتَهُ حَيًّا أَفَتَقُولُ حِينَئِذٍ: إِنَّكَ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ؟ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ فَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ تَفْسِيرَ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظْمُ،
وَهُوَ الَّذِي يُجَلِّي الْحَقِيقَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ الْإِحْيَاءِ هِيَ عَيْنُ كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِالشَّيْءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ " كُنْ " فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ الْبَشَرُ إِلَى كَيْفِيَّةٍ لَهُ إِلَّا إِذَا أَمْكَنَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَكَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَشْيَاءِ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ - أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ; فَصِفَاتُ اللهِ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْعَجْزُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فِيهَا هُوَ الْإِدْرَاكُ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ فِي النَّظْمِ الْمُحْكَمِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ اجْعَلْ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِمَالَةُ الطُّيُورِ وَتَأْنِيسُهَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ صُرْهُنَّ يَدُلُّ عَلَى التَّأْنِيسِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَقَطِّعْهُنَّ وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْإِمَالَةِ إِلَيْهِ وَيَعْطِفْ جَعْلَهَا عَلَى الْجِبَالِ بِـ " ثُمَّ ". وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا خَتْمُ الْآيَةِ بِاسْمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ دُونَ اسْمِ الْقَدِيرِ. وَالْعَزِيزُ: هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنَالُ. وَمَا صَرَفَ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وُضُوحِهِ إِلَّا الرِّوَايَةُ بِأَنَّهُ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ طُيُورٍ مِنْ جِنْسِ كَذَا وَكَذَا وَقَطَّعَهَا وَفَرَّقَهَا عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا، ثُمَّ دَعَاهَا فَطَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُنَاسِبِهِ حَتَّى كَانَتْ طُيُورٌ تُسْرِعُ إِلَيْهِ ; فَأَرَادُوا تَطْبِيقَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا وَلَوْ بِالتَّكَلُّفِ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَهَمُّهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ خَصَائِصُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، وَلِكُلِّ أَهْلِ زَمَنٍ غَرَامٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَتَحَكَّمُ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ فَهْمَ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي مُسْلِمٍ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ وَأَشَدَّ اسْتِقْلَالَهُ فِيهِ.
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
أَعَادَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ التَّذْكِيرَ هُنَا بِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ مَزْجَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِآيَاتِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ وَالتَّوْحِيدِ ; لِيُقَرِّرَ أَمْرَ الْحُكْمِ وَيَنْصُرَ النُّفُوسَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ (ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ بِتَصَرُّفٍ) : قَدْ قُلْنَا مِرَارًا إِنَّ أَمْرَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَشَقُّ الْأُمُورِ عَلَى النُّفُوسِ، لَا سِيَّمَا إِذَا اتَّسَعَتْ دَائِرَةُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا يُنْفَقُ فِيهِ، وَبَعُدَتْ نِسْبَةُ مَنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ عَنِ الْمُنْفِقِ ; فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ أَهْلِ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِنْفَاقِ لَا يُوصَفُ صَاحِبُهُ بِالسَّخَاءِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ السَّخَاءِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ بِقَدْرِ هَذَا النَّصِيبِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ أَدْنَى نَصِيبٍ فَإِنَّهُ يَرْتَاحُ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَالْجِيرَانِ. فَإِنْ زَادَ أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِ فَأُمَّتِهِ فَالنَّاسِ كُلِّهِمْ وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْجُودِ وَالسَّخَاءِ. وَإِنَّمَا يَصْعُبُ عَلَى الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَنْفَعَةِ مَنْ يَبْعُدُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ فُطِرَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا لَا يَتَصَوَّرُ لِنَفْسِهِ فَائِدَةً مِنْهُ، وَأَكْثَرُ النُّفُوسِ جَاهِلَةٌ بِاتِّصَالِ مَنَافِعِهَا وَمَصَالِحِهَا بِالْبُعْدِ عَنْهَا فَلَا تَشْعُرُ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ الْهَامَّةِ كَإِزَالَةِ الْجَهْلِ بِنَشْرِ الْعِلْمِ وَمُسَاعَدَةِ الْعَجَزَةِ وَالضُّعَفَاءِ وَتَرْقِيَةِ الصِّنَاعَاتِ وَإِنْشَاءِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَلَاجِئِ وَخِدْمَةِ الدِّينِ الْمُهَذِّبِ لِلنُّفُوسِ هُوَ الَّذِي بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا سَعِيدَةً عَزِيزَةً فَعَلَّمَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - أَنَّ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي الْمَصَالِحِ يُضَاعَفُ لَهُمْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً فَهُوَ مُفِيدٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِهِ
الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَانْتِهَاءَهُمْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي يُوَفُّونَ فِيهَا أُجُورَهُمْ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ فِيهِ فِدْيَةٌ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، وَإِنَّمَا تَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي أَهَمُّهَا الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثَلَ لِلْمُضَاعَفَةِ ; أَيْ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَمْرَ الْبَعْثِ بِالدَّلَائِلِ وَالْأَمْثَالِ إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ بِهِ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ.
قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ مَا يُوصِلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ نَفْعُهُ أَعَمَّ وَأَثَرُهُ أَبْقَى كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ أَيْ كَمَثَلِ أَبْرَكِ بَذْرٍ فِي أَخْصَبِ أَرْضٍ نَمَا أَحْسَنَ نُمُوٍّ فَجَاءَتْ غَلَّتُهُ مُضَاعَفَةً سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْخِصْبِ وَالنَّمَاءِ ; أَيْ أَنَّ هَذَا الْمُنْفِقَ يَلْقَى جَزَاءَهُ فِي الدُّنْيَا مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ سَابِقَةٍ. فَالتَّمْثِيلُ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْحَصْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فَيَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً لَا تُقَدَّرُ وَلَا تُحْصَرُ، فَذَلِكَ الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلَا يُحَدُّ عَطَاؤُهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُضَاعَفَةَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَهْدِيهِمْ إِخْلَاصُهُمْ إِلَى وَضْعِ النَّفَقَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي يَكْثُرُ نَفْعُهَا وَتَبْقَى فَائِدَتُهَا زَمَنًا طَوِيلًا، كَالْمُنْفِقِينَ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ عَلَى آدَابِ الدِّينِ وَفَضَائِلِهِ الَّتِي تَسُوقُهُمْ إِلَى سَعَادَةِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَتْ آثَارُ نَفَقَاتِهِمُ النَّافِعَةِ فِي قُوَّةِ مُلْكِهِمْ وَسَعَةِ انْتِشَارِ دِينِهِمْ وَسَعَادَةِ أَفْرَادِ أُمَّتِهِمْ عَادَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِ ذَلِكَ وَفَوَائِدِهِمْ مَا هُوَ مَا أَنْفَقُوا بِدَرَجَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا. وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي الدَّرْسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ فِي خِدْمَةِ الدِّينِ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ: إِنَّ كَلِمَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَشْتَمِلُ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا.
أَقُولُ: وَمَنْ أَرَادَ كَمَالَ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ فَلِيَعْتَبِرْ بِمَا يَرَاهُ فِي الْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ الَّتِي يُنْفِقُ أَفْرَادُهَا مَا يُنْفِقُونَ فِي إِعْلَاءِ شَأْنِهَا بِنَشْرِ الْعُلُومِ وَتَأْلِيفِ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، إِذْ يُرَى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أَدْنَى طَبَقَاتِهَا عَزِيزًا بِهَا مُحْتَرَمًا بِاحْتِرَامِهَا مَكْفُولًا بِعِنَايَتِهَا كَأَنَّ أُمَّتَهُ وَدَوْلَتَهُ مُتَمَثِّلَتَانِ فِي شَخْصِهِ، وَلِيُقَابِلَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ كُبَرَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي ضَعُفَتْ وَذَلَّتْ بِإِهْمَالِ الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْمِلَّةِ كَيْفَ
يَرَاهُمْ أَحْقَرَ فِي الْوُجُودِ مِنْ صَعَالِيكِ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ لِيَرْجِعْ إِلَى نَفْسِهِ وَلِيَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يَصِحُّ أَنْ تُعْتَبَرَ هِيَ الْمُسْعِدَةُ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَجْمُوعَ النَّفَقَاتِ الَّتِي بِهَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ تَتَكَوَّنُ مِمَّا يَبْذُلُهُ الْأَفْرَادُ، فَلَوْلَا الْجُزْئِيَّاتُ لَمْ تُوجَدِ الْكُلِّيَّاتُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ وَالْفِطْرَةِ ; فَكُلُّ مَنْ بَذَلَ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ إِمَامًا وَقُدْوَةً
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى الْآيَةَ: قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ ثَوَابِ الْإِنْفَاقِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّنْوِيهِ بِمَنْفَعَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ شُرِطَ لِهَذَا الثَّوَابِ تَرْكُ الْمَنِّ وَالْأَذَى ; فَأَمَّا الْمَنُّ فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُحْسِنُ إِحْسَانَهُ لِمَنْ أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْهِ يُظْهِرُ بِهِ تَفَضُّلَهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَذَى فَهُوَ أَعَمُّ، وَمِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُحْسِنُ إِحْسَانَهُ لِغَيْرِ مَنْ أَحْسَنَ عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ ذَكَرَهُ لَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَنُّ أَنْ يَعْتَدَّ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقًّا. وَالْأَذَى أَنْ يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَنَّ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ وَتَوْسِيطُ كَلِمَةِ " لَا " لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِ النَّفْيِ بِإِفَادَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى كَافٍ وَحْدَهُ لِإِحْبَاطِ الْعَمَلِ. وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ لِإِظْهَارِ عُلُوِّ رُتْبَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ التَّعْبِيرُ بِثُمَّ الَّتِي تُفِيدُ التَّرَاخِيَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَنَّ أَوِ الْأَذَى الْعَاجِلَ أَضَرُّ وَأَجْدَرُ بِأَنْ يُجْعَلَ تَرْكُهُ شَرْطًا لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَنْ يَقْرِنُ النَّفَقَةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَوْ يُتْبِعُهَا أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا عَاجِلًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَدْخُلَ فِي الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ يُوصَفُ بِالسَّخَاءِ
الْمَحْمُودِ عِنْدَ اللهِ. وَإِذَا كَانَ مَنْ يَمُنُّ أَوْ يُؤْذِي بَعْدَ الْإِنْفَاقِ بِزَمَنٍ بَعِيدٍ لَا يَعْتَدُّ اللهُ بِإِنْفَاقِهِ وَلَا يَأْجُرُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَقِيهِ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ، أَفَلَا يَكُونُ الْمُتَعَجِّلُ بِهِ أَجْدَرَ بِذَلِكَ؟ بَلَى، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي السَّخِيِّ الَّذِي يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مُخْلِصًا مُتَحَرِّيًا لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لَا بَاغِيًا جَزَاءً مِمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَلَا مُكَافَأَةً، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنِّ وَالْأَذَى الْمُحْبِطَيْنِ لِلْأَجْرِ، كَأَنْ يَرَى مِمَّنْ كَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ غَمْطًا لِحِقِّهِ أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهُ وَتَرْكًا لِمَا كَانَ مِنِ احْتِرَامِهِ إِيَّاهُ، فَيُثِيرُ بِذَلِكَ غَضَبَهُ حَتَّى يَمُنَّ أَوْ يُؤْذِيَ، وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فَحَذَّرَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْهُ.
وَأَنْتَ تَرَى مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ بِمَا يُصْنَعُ مِثْلُهُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْآيَةِ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْإِنْفَاقَ فِيهَا عَلَى إِعَانَةِ الْمُجَاهِدِينَ، وَصَوَّرَ الْمَنَّ وَالْأَذَى بِالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ فِي جِهَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ لَمْ يَقُومُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: " وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَوْجَبَ الْأَجْرَ لِمَنْ كَانَ غَيْرَ مَانٍّ وَلَا مُؤْذٍ مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِمَّا ابْتُغِيَ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى قَالُوا: أَيُّ
كَلَامٍ جَمِيلٍ تَقْبَلُهُ الْقُلُوبُ وَلَا تُنْكِرُهُ يُرَدُّ بِهِ السَّائِلُ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، وَسَتْرٍ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَى النُّفُوسِ، أَوْ سَتْرِ حَالِ الْفَقِيرِ بِعَدَمِ التَّشْهِيرِ بِهِ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْفِرَةِ الْمَغْفِرَةُ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِمَنْ يَرُدُّ السَّائِلَ رَدًّا جَمِيلًا، وَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى فَهُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ مِنْ حَيْثُ يَرْجُو الثَّوَابَ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْقَوْلُ بِالْمَعْرُوفِ يَتَوَجَّهُ تَارَةً إِلَى السَّائِلِ إِنْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَمَا إِذَا هَاجَمَ الْبَلَدَ عَدُوٌّ وَأَرَادُوا جَمْعَ الْمَالِ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى دَفْعِهِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَاعِدَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَحُثُّ عَلَى الْعَمَلِ وَيُنَشِّطُ الْعَامِلَ، وَيَبْعَثُ عَزِيمَةَ الْبَاذِلِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَنْ تُغْضِيَ عَنْ نِسْبَةِ التَّقْصِيرِ فِي الْإِنْفَاقِ إِلَيْكَ، وَأَنْ تَظْهَرَ فِي هَيْئَةٍ لَا يَنْفِرُ مِنْهَا الْمُحْتَاجُ وَلَا يَتَأَلَّمُ مَنْ فَقْرِهِ أَمَامَكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُقَابَلَةَ الْمُحْتَاجِ بِكَلَامٍ يَسُرُّ وَهَيْئَةٍ تُرْضِي خَيْرٌ مِنَ الصَّدَقَةِ مَعَ الْإِيذَاءِ بِسُوءِ الْقَوْلِ أَوْ سُوءِ الْمُقَابَلَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمُحْتَاجِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَوْ جَمَاعَةً، فَإِنَّ مُسَاعَدَةَ الْأُمَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ مَعَ سُوءِ الْقَوْلِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي سَاعَدَهَا عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ اسْتِهْجَانِهِ وَبَيَانِ التَّقْصِيرِ فِيهِ أَوْ تَشْكِيكِ النَّاسِ فِي فَائِدَةٍ لَا تُوَازِي هَذِهِ الْمُسَاعَدَةَ. إِحْسَانُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي تُطْلَبُ لَهُ الْمُسَاعَدَةُ وَالْإِغْضَاءُ عَنِ التَّقْصِيرِ الَّذِي رُبَّمَا يَكُونُ مِنَ الْعَامِلِينَ فِيهِ، فَكَوْنُكَ مَعَ الْأُمَّةِ بِقَلْبِكَ وَلِسَانِكَ خَيْرٌ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ تَرْضَخُ بِهِ مَعَ الْقَوْلِ السُّوءِ وَفِعْلِ الْأَذَى، وَمَعْنَى هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ أَنَّهُ أَنْفَعُ وَأَكْثَرُ فَائِدَةٍ لَا أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْبَذْلِ وَيُغْنِي عَنْهُ، فَمَنْ آذَى فَقَدْ بَغَّضَ نَفْسَهُ إِلَى النَّاسِ بِظُهُورِهِ فِي مَظْهَرِ الْبَغْضَاءِ لَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّلْمَ وَالْوَلَاءَ، خَيْرٌ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ،
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُقَرِّرَةٌ لِقَاعِدَةِ: " دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَكُونُ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إِلَى الشَّرِّ، وَمُرْشِدَةٌ إِلَى وُجُوبِ الْعِنَايَةِ بِجَعْلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَالِيًا مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي
تُفْسِدُهُ وَتَذْهَبُ بِفَائِدَتِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ عَجَزَ عَنْ إِحْسَانِ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَجَعْلِهِ خَالِصًا نَقِيًّا أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِحْسَانِ عَمَلٍ آخَرَ يُؤَدِّي إِلَى غَايَتِهِ حَتَّى لَا يُحْرَمَ مِنْ فَائِدَتِهِ بِالْمَرَّةِ، كَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَا يَمُنَّ وَلَا يُؤْذِي فَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ أَوْ جَبَرَ الْفَقِيرَ بِقَوْلِ الْمَعْرُوفِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ لَا يُغْنِي بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يُغْنِي تَرْكُ الشِّرْكِ وَاتِّقَاءُ الْمَفَاسِدِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ.
وَاللهُ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ وَبِمَا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ صَدَقَةِ عِبَادِهِ فَلَا يَأْمُرُ الْأَغْنِيَاءَ بِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِهِ لِحَاجَةٍ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَهُمْ وَيُزَكِّيَهُمْ وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَيُصْلِحَ شُئُونَهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لِيَكُونُوا أَعِزَّاءَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ، وَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُنَافِيَانِ ذَلِكَ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ قَبُولِ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَاتِ. حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُطْلَقُ الْحِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ هَذَا اللَّازِمُ مِنْ لَوَازِمِهِ ; أَيِ الْإِمْهَالُ وَعَدَمُ الْمُعَاجَلَةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ لَازِمٌ آخَرُ هَذَا الْإِغْضَاءُ وَالْعَفْوُ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ لَكَانَ تَحْرِيضًا عَلَى الْأَذَى وَلِكُلِّ مَقَالٍ مَقَامٌ يُعَيِّنُهُ، فَالْأَوَّلُ يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ الْعَجُولِ الطَّائِشِ، وَالثَّانِي فِي مُقَابِلِ الْغَضُوبِ الْمُنْتَقِمِ. وَفِي الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ تَنْفِيسٌ لِكُرَبِ الْفُقَرَاءِ وَتَعْزِيَةٌ لَهُمْ وَتَعْلِيقٌ لِقُلُوبِهِمْ بِحَبَلِ الرَّجَاءِ بِاللهِ الْغَنِيِّ الْمُغْنِي، وَتَهْدِيدٌ لِلْأَغْنِيَاءِ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِحِلْمِ اللهِ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُمْ وَعَدَمِ مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَسْلُبَهَا مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مُولَعَةٌ بِذِكْرِ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْإِحْسَانِ لِلتَّمَدُّحِ وَالْفَخْرِ وَكَانَ ذَلِكَ مَطِيَّةَ الرِّيَاءِ، وَطَرِيقَ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ، لَا سِيَّمَا إِذَا آنَسَ الْمُصَّدِّقُ تَقْصِيرًا فِي شُكْرِهِ عَلَى صَدَقَتِهِ أَوِ احْتِقَارًا لَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَمْلِكُ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ وَيَكُفُّهَا عَنِ الْمَنِّ أَوِ الْأَذَى كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كَانَ مِنَ الْهُدَى الْقَوِيمِ وَمُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ أَنْ يُؤْتَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْحَمْلِ عَلَى تَرْكِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَقُولُ: بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -
فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَنَّ تَرْكَ الْمَنِّ وَالْأَذَى شَرْطٌ لِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا إِلَى قَوْلٍ وَعَمَلٍ آخَرَ يُكْرِمُ بِهِ الْفَقِيرَ، أَوْ تُؤَيَّدُ بِهِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: وَاسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْآيَةِ عَلَى إِحْبَاطِ الْكَبَائِرِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُعْمَلْ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تُبْطِلُوا ثَوَابَ صَدَقَاتِكُمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِحْبَاطِ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَهِيَ تَخْفِيفُ بُؤْسِ الْمُحْتَاجِينَ وَكَشْفُ أَذَى الْفَقْرِ عَنْهُمْ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَتَنْشِيطُ الْقَائِمِينَ بِخِدْمَةِ الْأُمَّةِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، فَإِذَا أُتْبِعَتِ الصَّدَقَةُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَانَ ذَلِكَ هَدْمًا لِمَا بَنَتْهُ وَإِبْطَالًا لِمَا عَمِلَتْهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَقَدْ حَبِطَ وَبَطُلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَكَيْفَ إِذَا أُتْبِعَ بِضِدِّ الْغَايَةِ وَنَقِيضِهَا؟ كَذَلِكَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمُرَائِي بَاطِلَةً ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلْ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِشْعَارُ سُلْطَانِهِ وَالْإِذْعَانُ لِعَظَمَتِهِ وَالشُّكْرُ لِإِحْسَانِهِ، وَقَلْبُ الْمُرَائِي إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يُرَائِيهِ، هَذَا هُوَ مَعْنَى إِبْطَالِ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلصَّدَقَةِ، وَالَّذِي يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنَّ ارْتِكَابَ أَيِّ كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ السَّابِقَةِ وَيُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا هُدَى اللهِ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا فِطْرَةَ الْبَشَرِ الَّتِي جَاءَ الدِّينُ لِتَأْدِيبِهَا، وَقَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ مَنْ أَيَّدَ مَذْهَبَهُ بِهَدْمِ مَذْهَبِهِمْ، هَكَذَا يَتَجَاذَبُ الْقُرْآنَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ كَلٌّ يَجْذِبُهُ إِلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، فَتَرَاهُمْ عِنْدَمَا يُشَاغِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَتَعَلَّقُونَ بِالْكَلِمَةِ الْمُفْرَدَةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَا قَالُوا وَيَجْعَلُونَهَا حُجَّةً لِلْمَذْهَبِ وَيُؤَوِّلُونَ مَا عَدَاهَا وَلَوْ بِالتَّمَحُّلِ، وَأَهْلُ الْخِلَافِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي بَيَانِ مَعَانِيهِ.
ثُمَّ شَبَّهَ - تَعَالَى - أَصْحَابَ الْمَنِّ وَالْأَذَى بِالْمُرَائِي أَوْ إِبْطَالَ عَمَلِهِمْ لِلصَّدَقَةِ بِإِبْطَالِ رِيَائِهِ لَهَا فَقَالَ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ أَيْ لِأَجْلِ رِيَائِهِمْ أَوْ مُرَائِيًا لَهُمْ ; أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَرَوْهُ فَيَحْمَدُوهُ لَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - بِتَحَرِّي مَا حَثَّ عَلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ
عِبَادِهِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَعُوزِينَ، وَتَرْقِيَةِ شَأْنِ الْمِلَّةِ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ إِنَّمَا يُحَاوِلُ إِرْضَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ عِقَابِهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا أَيْ إِنَّ صِفَتَهُ وَحَالَهُ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَا يُنْفِقُ كَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَطَرٌ غَزِيرٌ عَظِيمُ الْقَطْرِ أَزَالَ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ حَتَّى عَادَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ وَبَيْنَ الْمُرَائِي بِنَفَقَتِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَشَّ نَفْسَهُ فَأَلْبَسَهَا ثَوْبَ زُورٍ يُوهِمُ رَائِيهِ
ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشُفُّ عَمَّا تَحْتَهُ | فَإِذَا اكْتَسَيْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارٍ |
بَعْدَ هَذَا ضَرَبَ اللهُ الْمَثَلَ لِلْمُخْلِصِينَ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْمُرَائِينَ وَالْمُؤْذِينَ، وَعَقَّبَهُ بِمَثَلٍ آخَرَ يَتَبَيَّنُ بِهِ حَالُ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
أَوَّلُهُمَا: ابْتِغَاءُ رِضْوَانِهِ لِذَاتِهِ تَعَبُّدًا لَهُ.
وَثَانِيهِمَا: تَزْكِيَةُ أَنْفُسِنَا وَتَطْهِيرُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهَا عَنِ الْكَمَالِ، كَالْبُخْلِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي حُبِّ الْمَالِ، عَلَى أَنَّ هَذَا وَسِيلَةٌ لِذَاكَ وَفَائِدَةُ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَائِدَةٌ عَلَيْنَا وَاللهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. فَإِذَا صَدَقْنَا فِي الْقَصْدَيْنِ صَدَقَ عَلَيْنَا هَذَا الْمَثَلُ وَكُنَّا فِي نَفْعِ إِنْفَاقِنَا كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَيْ بُسْتَانٍ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ - قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ بِفَتْحِ رَاءِ " رَبْوَةٍ " وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا - قَالُوا: وَمَا كَانَ كَذَلِكَ مِنَ الْجَنَّاتِ كَانَ عَمَلُ الشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ فِيهِ أَكْمَلَ، فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَنْظَرًا وَأَزْكَى ثَمَرًا، أَمَّا الْأَمَاكِنُ الْمُنْخَفِضَةُ الَّتِي لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا قَلِيلًا فَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّبْوَةِ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْجَيِّدَةُ التُّرْبَةُ بِحَيْثُ تَرْبُو بِنُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهَا وَتَنْمُو كَمَا قَالَ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ الْآيَةَ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الْمَثَلِ مُقَابِلًا لِمَثَلِ الصَّفْوَانِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ أَيْ فَكَانَ ثَمَرُهَا مِثْلَيْ مَا كَانَتْ تُثْمِرُ فِي الْعَادَةِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ، وَالْأُكُلُ كُلُّ مَا يُؤْكَلُ وَهُوَ - بِضَمَّتَيْنِ، وَتُسَكَّنُ الْكَافُ تَخْفِيفًا - وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ أَيْ فَالَّذِي يُصِيبُهَا طَلٌّ أَوْ فَطَلٌّ يَكْفِيهَا لِجَوْدَةِ تُرْبَتِهَا وَكَرَمِ مَنْبَتِهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَالطَّلُّ: الْمَطَرُ الْخَفِيفُ الْمُسْتَدَقُّ الْقَطْرُ.
أَقُولُ: وَقَدْ عُرِفَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّ الْأَرْضَ الْجَيِّدَةَ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُعْتَدِلَةِ يَكْفِيهَا الْقَلِيلُ مِنَ الرَّيِّ لِرُطُوبَةِ ثَرَاهَا وَجَوْدَةِ هَوَائِهَا ; فَإِنَّ الشَّجَرَ يَتَغَذَّى مِنَ الْهَوَاءِ كَمَا يَتَغَذَّى مِنَ الْأَرْضِ،
وَوَجْهُ الشَّبَهِ عِنْدِي: أَنَّ الْمُنْفِقَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَالتَّثْبِيتِ مِنْ نَفْسِهِ هُوَ فِي إِخْلَاصِهِ وَسَخَاءِ نَفْسِهِ وَإِخْلَاصِ قَلْبِهِ كَالْجَنَّةِ الْجَيِّدَةِ التُّرْبَةِ الْمُلْتَفَّةِ الشَّجَرِ الْعَظِيمَةِ الْخِصْبِ فِي كَثْرَةِ بِرِّهِ وَحُسْنِهِ، فَهُوَ يَجُودُ بِقَدْرِ سَعَتِهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ أَغْدَقَ وَوَسُعَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ قَلِيلٌ أَنْفَقَ مِنْهُ بِقَدْرِهِ، فَخَيْرُهُ دَائِمٌ وَبِرُّهُ لَا يَنْقَطِعُ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ ذَاتِيٌّ لَا عَرَضِيٌّ كَأَهْلِ الرِّيَاءِ وَأَصْحَابِ الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ. هَذَا مَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ، فَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ سَعَةِ الرِّزْقِ وَمَا دُونُ السَّعَةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَا كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَتِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ فِي الْإِنْفَاقِ كَالْوَابِلِ لِلْجَنَّةِ فِيهَا تَكُونُ النَّفَقَةُ نَافِعَةً لِلنَّاسِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَتَحَرَّوْنَ فَيَضَعُونَ نَفَقَتَهُمْ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ لَا يُبَذِّرُونَ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ. ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّلِّ: أَيْ أَنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ لَا يَخِيبُ قَاصِدُهُمْ ; لِأَنَّ رَحْمَةَ قُلُوبِهِمْ لَا يَغُورُ مَعِينُهَا فَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ بِوَابِلٍ مِنْ عَطَائِهَا لَمْ يَفُتْهُ طَلُّهُ، فَهُمْ كَالْجَنَّةِ الَّتِي لَا يُخْشَى عَلَيْهَا الْيُبْسُ وَالزَّوَالُ، وَقَدْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لِيُذَكِّرَنَا بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمُخْلِصُ مِنَ الْمُرَائِي تَحْذِيرًا لَنَا مِنَ الرِّيَاءِ الَّذِي يَتَوَهَّمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ يَغُشُّ النَّاسَ بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ
اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرِيرَتُكَ أَيُّهَا الْمُنْفِقُ فَعَلَيْكَ أَنْ تُخْلِصَ لَهُ.
وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَقَوْلُهُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
(الْمُفْرَدَاتُ) وَدَّ الشَّيْءَ: أَحَبَّهُ مَعَ تَمَنِّيهِ. وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ ثَمَرُ الْكَرْمِ الطَّرِيُّ، وَاحِدَتُهُ عِنَبَةٌ، وَالنَّخِيلُ: جَمْعُ نَخْلٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ، وَهُوَ شَجَرُ التَّمْرِ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَوَاحِدَتُهُ نَخْلَةٌ، وَالْقُرْآنُ يَذْكُرُ الْكَرْمَ بِثَمَرِهِ وَالنَّخْلَ بِشَجَرِهِ وَلَا بِثَمَرِهِ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي النَّخِيلِ نَافِعٌ لِلنَّاسِ فِي ارْتِفَاقِهِمْ: وَرَقَهُ وَجُذُوعَهُ وَأَلْيَافَهُ وَعَثَاكِيلَهُ، فَمِنْهُ يَتَّخِذُونَ الْقُفَفَ وَالزَّنَابِيلَ وَالْحِبَالَ وَالْعُرُوشَ وَالسُّقُوفَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْإِعْصَارُ: رِيحٌ عَاصِفَةٌ تَسْتَدِيرُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْعَكِسُ عَنْهَا إِلَى السَّمَاءِ حَامِلَةً لِلْغُبَارِ، فَتَكُونُ كَهَيْئَةِ الْعَمُودِ، جَمْعُهُ أَعَاصِرُ وَأَعَاصِيرُ. وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ: السَّمُومُ الشَّدِيدُ، أَوِ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ رِوَايَتَانِ عَنِ السَّلَفِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ بِأَسَانِيدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يَحْرِقُ الشَّيْءَ وَلَوْ بِتَجْفِيفِ رُطُوبَتِهِ، وَالصَّرُّ: أَيِ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ كَالْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي ذَلِكَ، كِلَاهُمَا يَحْرِقُ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ.
غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الصَّرِيحَ، الَّذِي طُبِعَ عَلَى الْقَوْلِ الْفَصِيحِ، لَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِكَ " عِنْدِي مَنْ كُلِّ ثَمَرٍ أَوْ لِي بُسْتَانِي مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ " إِلَّا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ لَكَ حَظًّا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَسَهْمًا مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَنَظْمٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَطَبِّقْ عَلَيْهِ وَلَا تُطَبِّقْهُ عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ.
أَمَّا وَجْهُ التَّمْثِيلِ فَقَدْ خَصُّوهُ بِالْمُرَائِي، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ثَوَابِ نَفَقَتِهِ الَّتِي رَاءَى بِهَا، كَذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي احْتَرَقَتْ جَنَّتُهُ الَّتِي لَا مَعَاشَ لَهُ سِوَاهَا عِنْدَمَا كَثُرَ عِيَالُهُ الضُّعَفَاءُ، وَعَجَزَ هُوَ عَنِ الْعَمَلِ فَلَا يَمْلِكُ مِنْ ثَوَابِهَا شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَكْسِبَ مَا يُغْنِيهِ عَنْهُ.
أَقُولُ: إِنَّ الْمَثَلَ يَنْطِقُ أَيْضًا عَلَى مَنْ أَبْطَلَ صَدَقَتَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ ; فَإِنَّ بَاذِلَ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ مَا يُشْبِهُ تِلْكَ الْجَنَّةَ الَّتِي وَصَفَهَا الْمَثَلُ فِي رَوْنَقِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَيُوشِكُ أَنَّ يَذْهَبَ مَالُ هَذَا الْمُنْفِقِ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ وَتَقْصُرُ يَدُهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مُرْتَزَقٌ إِلَّا مَا غَرَسَتْهُ يَدُهُ مِنْ جَنَّتِهِ تِلْكَ فَيُحَاوِلُ أَنْ يَجْنِيَ مِنْهَا فَيَحُولُ دُونَ ذَلِكَ إِعْصَارٌ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، أَوْ مِنْ ظُهُورِ الرِّيَاءِ فَيَحْرِقُهَا حَتَّى تَكُونَ كَالصَّرِيمِ لَا تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا، وَلَا تَسُرُّ رُؤْيَتُهَا، كَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَذَوِى الْمَنِّ وَالْإِيذَاءِ، يَنْبِذُهُمُ النَّاسُ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى النَّاسِ ; لِذَلِكَ أَرْشَدَنَا - تَعَالَى - بَعْدَ الْمَثَلِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَةِ هَذَا الْعَمَلِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - يُبَيِّنُ لَكُمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا وَفَوَائِدِهَا وَغَوَائِلِهَا، مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ الْبَارِزِ فِي أَبْهَى مَعَارِضِ التَّمْثِيلِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ فَتَضَعُونَ نَفَقَاتِكُمْ فِي
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
أَقُولُ: حَثَّتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَبْلَغَ حَثٍّ وَآكِدَهُ، وَأَرْشَدَتْ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُنْفِقُ عِنْدَ الْبَذْلِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ تَثْبِيتِ النَّفْسِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يَتَّقِيَهُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَهُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِرْشَادًا يَتَعَلَّقُ بِالْبَذْلِ وَالْبَاذِلِ، ثُمَّ أَرَادَ - تَعَالَى - أَنَّ يُبَيِّنَ لَنَا مَا يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ فِي الْمَبْذُولِ لِيُكْمِلَ الْإِرْشَادَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَبَيَّنَ نَوْعَ مَا يُبْذَلُ وَمَا يُنْفَقُ وَوَصَفَهُ، أَمَّا الْوَصْفُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالطَّيِّبُ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُسْتَطَابُ وَضِدُّهُ الْخَبِيثُ الْمُسْتَكْرَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مُقَابِلِ هَذَا الْأَمْرِ: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ أَصْلُ تَيَمَّمُوا: تَتَيَمَّمُوا، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الطَّيِّبِ، هَلْ يُرَادُ بِهِ مَا ذُكِرَ أَمْ هُوَ بِمَعْنَى الْحَلَالِ؟ وَأَنْ يُرَجِّحَ بَعْضُ الْمَعْرُوفِينَ بِالتَّدْقِيقِ مِنْهُمُ الثَّانِيَ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَرَدَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ عَزَا الْأَوَّلَ إِلَى الْجُمْهُورِ. نَعَمْ إِنَّ كُلَّ جَيِّدٍ وَحَسَنٍ يُوصَفُ بِالطَّيِّبِ وَإِنْ كَانَ حُسْنُهُ مَعْنَوِيًّا، فَيُقَالُ: الْبَلَدُ الطَّيِّبُ. الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، لَكِنَّ أُسْلُوبَ الْآيَةِ يَأْبَى أَنْ يُرَادَ بِالطَّيِّبَاتِ هُنَا أَنْوَاعُ الْحَلَالِ، وَبِالْخَبِيثِ: الْمُحَرَّمُ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ لَا تَرْضَاهُ، وَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُؤَيِّدُ أُسْلُوبَهَا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْتُونَ بِصَدَقَتِهِمْ مِنْ حَشَفِ التَّمْرِ وَهُوَ رَدِيئُهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ " كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ مِنْ رَذَالَةِ مَالِهِمْ " وَفِي أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إِلَى التَّمْرِ فَيَصْرِمُهُ فَيَعْزِلُ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَعْطَاهُ مِنَ الرَّدِيءِ " وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ. وَالْمَعْنَى: أَنْفَقُوا مِنْ جِيَادِ أَمْوَالِكُمْ وَلَا تَيَمَّمُوا - أَيْ تَقْصِدُوا - الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوا صَدَقَتَكُمْ مِنْهُ خَاصَّةً دُونَ الْجَيِّدِ ; فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ تَعَمُّدِ حَصْرِ الصَّدَقَةِ فِي الْخَبِيثِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ التَّصَدُّقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ وَلَا حَصْرٍ، وَلَوْ أُرِيدَ بِالْخَبِيثِ الْحَرَامُ لَنَهَى عَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ لَا عَنْ قَصْدِ التَّخْصِيصِ فَقَطْ، أَمَا وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
بِالطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ مَا ذُكِرَ لَكَانَ الْخِطَابُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَكَانَ مَنْطُوقُ الْآيَةِ: أَنْفِقُوا مِنَ الْحَلَالِ وَلَا تَتَحَرَّوْا جَعْلَ صَدَقَاتِكُمْ مِنَ الْحَرَامِ وَحْدَهُ، وَمَفْهُومُهَا جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِالْحَرَامِ أَيْضًا، وَهَذَا مَا يَأْبَاهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ وَالشَّرْعُ الْقَوِيمُ، ثُمَّ إِنَّ مَا اخْتَرْنَاهُ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [٣: ٩٢] وَيُوصَفُ الرِّزْقُ بِالْحَلَالِ وَالطَّيِّبِ مَعًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [٥: ٥] وَقَوْلِهِ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [٧: ١٥٧] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَهَلْ تَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى يُحِلُّ لَهُمُ الْحَلَالَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْحَرَامَ وَهُوَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبِيثَ الَّذِي حُرِّمَ أَخَصُّ مِنَ الْخَبِيثِ الَّذِي يُنْهَى عَنْ تَحَرِّي النَّفَقَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ مَا كَانَتْ رَدَاءَتُهُ ضَارَّةً كَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ الْخَبِيثَ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُشْعِرُ بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ ; أَيْ كَيْفَ تَقْصِدُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُ تَتَصَدَّقُونَ وَلَسْتُمْ تَرْضَوْنَ بِمِثْلِهِ لِأَنْفُسِكُمْ إِلَّا أَنْ تَتَسَاهَلُوا فِيهِ تَسَاهُلَ مَنْ أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَنْهُ فَلَمْ يَرَ الْعَيْبَ فِيهِ، وَلَنْ يَرْضَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مَغْبُونٌ مَغْمُوطٌ الْحَقُّ، وَقَدْ صَوَّرُوهُ فِيمَنْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ امْرِئٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ بَدَلًا عَنْهُ مِمَّا هُوَ دُونَهُ جَوْدَةً وَهُوَ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْحُقُوقِ أَيْضًا، فَالرَّدِيءُ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إِلَّا بِإِغْمَاضٍ فِيهِ وَتَسَاهُلٍ مَعَ الْمُهْدِي ; لِأَنَّ إِهْدَاءَ الرَّدِيءِ يُشْعِرُ بِقِلَّةِ احْتِرَامِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، وَمَا يُبْذَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ هُوَ كَالْمُعْطَى لَهُ فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ أَجْوَدِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْسَنِهِ لِيَكُونَ جَدِيرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الَّذِي يَقْبَلُ الرَّدِيءَ مُغْمَضٌ فِيهِ إِنَّمَا يَقْبَلُهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى قَبُولِهِ، وَاللهُ - تَعَالَى - لَا يَحْتَاجُ فَيُغْمِضُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ لِرَدَاءَتِهِ إِلَّا فَقِيرُ الْيَدِ أَوْ فَقِيرُ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُبَالِي يَرْضَى بِمَا يُنَافِي الْحَمْدَ كَقَبُولِ الرَّدِيءِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَأَمَّا نَوْعُ مَا يُنْفِقُ فَهُوَ بَعْضُ مَا يَجْنِيهِ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ كَكَسْبِ الْفَعَلَةِ وَالتُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ، وَبَعْضُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَلَّاتِ الْحُبُوبِ وَثَمَرَاتِ الشَّجَرِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَهُوَ مَا كَانَ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ كَسْبًا ; لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ فَضْلُ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُجَرَّدَ حَرْثِ
الْإِنْسَانِ وَبَزْرِهِ، عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهِ عَمَلٌ مَا، أَوْ مَا لَهُمْ فِيهِ إِلَّا عَمَلٌ قَلِيلٌ لَا يَكَادُ يُذْكَرُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَقْدِيمَ الْكَسْبِ عَلَى مَا يُخْرِجُ اللهُ مِنَ الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ، وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِنْفَاقِ
أَقُولُ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالتَّعْلِيمِ الْكَامِلِ وَالتَّأْدِيبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا الْهُدَى أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِحَسَبِ سَعَتِهِ وَحَالِهِ وَأَنْ يَكُونَ فِي بَذْلِهِ مُخْلِصًا مُتَحَرِّيًا مَوَاقِعَ الْفَائِدَةِ، مُبْتَعِدًا بَعْدَ الْبَذْلِ عَمَّا يَذْهَبُ بِثَمَرَتِهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِيمَانِ يَتَقَلَّبُونَ فِي النِّعَمِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ لَهَا كُفْرًا ; إِذْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ إِمْسَاكًا وَبُخْلًا، وَقَدْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ مُوَاطِنِ الْعَجَبِ، وَلَكِنَّ الْكِتَابَ الْحَكِيمَ قَدْ جَاءَنَا بِمَا لَهُ مِنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، وَأَرْشَدَنَا إِلَى طَرِيقِ التَّفَصِّي مِنْهُ وَالْهَرَبِ فَقَالَ:
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَيِّلُ إِلَيْكُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَذْهَبُ بِالْمَالِ وَيُفْضِي إِلَى سُوءِ الْحَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِمْسَاكِهِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ اسْتِعْدَادًا لِمَا يُوَلِّدُهُ الزَّمَنُ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْأَمْرَ هُنَا عِبَارَةٌ عَمَّا تُوَلِّدُهُ الْوَسْوَسَةُ مِنَ الْإِغْرَاءِ، وَالْفَحْشَاءُ الْبُخْلُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا فَحُشَ ; أَيِ اشْتَدَّ قُبْحُهُ، وَكَانَ الْبُخْلُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَفْحَشِ الْفُحْشِ، قَالَ طَرَفَةُ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي | عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ |
الْخُلْفُ الَّذِي يُعْطِيهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ هَذَا الْخُلْفِ الرِّزْقَ الْمَعْنَوِيَّ وَهُوَ الْجَاهُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِ الْقُلُوبِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ إِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ لِسَعَةِ فَضْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْلَمُ أَيْنَ يَضَعُ مَغْفِرَتَهُ وَفَضْلَهُ، بِمِثْلِ هَذَا يُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَأَقُولُ: إِنَّ اسْمَ عَلِيمٌ يُفِيدُ هُنَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ غَيْبَ الْعَبْدِ وَمُسْتَقْبَلَهُ وَالشَّيْطَانُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَوَعْدُهُ تَغْرِيرٌ لَا يَعْبَأُ بِهِ الْعَاقِلُ النِّحْرِيرُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: اسْتِعْمَالُ الْوَعْدِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ شَائِعٌ لُغَةً، ثُمَّ جَرَى عُرْفُ النَّاسِ أَنْ يَخُصُّوا الْوَعْدَ بِالْخَيْرِ وَالْإِيعَادَ بِالشَّرِّ، فَإِذَا ذَكَرُوا الْوَعْدَ مَعَ الشَّرِّ أَرَادُوا بِهِ التَّهَكُّمَ، عَلَى أَنَّ مَا يَعِدُ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ، وَيَلْزَمُهُ الْوَعْدُ بِالْغِنَى مَعَ الْبُخْلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ فَيُبَيِّنُ لَنَا بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَعِدُ هُوَ - جَلَّ شَأْنُهُ - بِهِ وَمَا يَعِدُ بِهِ الشَّيْطَانُ مَا نَحْنُ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مَعَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ وَالْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَتِلْكَ هِيَ الْحِكْمَةُ.
فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْحِكْمَةَ هُنَا بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ يَكُونُ صِفَةً مُحْكَمَةً فِي النَّفْسِ حَاكِمَةً
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: وَالْمُرَادُ بِإِيتَائِهِ الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ - إِعْطَاؤُهُ آلَتُهَا الْعَقْلُ كَامِلَةً مَعَ تَوْفِيقِهِ لِحُسْنِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآلَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ ; فَالْعَقْلُ هُوَ الْمِيزَانُ الْقِسْطُ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْمُدْرَكَاتُ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ، فَمَتَى رَجَحَتْ فِيهِ كِفَّةُ الْحَقَائِقِ طَاشَتْ كِفَّةُ الْأَوْهَامِ، وَسَهُلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ.
أَقُولُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ " أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْفِقْهُ فِي الْقُرْآنِ " أَيْ مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى، وَالْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا وَحِكَمِهَا; لِأَنَّ هَذَا الْفِقْهَ هُوَ أَجَلُّ الْحَقَائِقِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي النَّفْسِ الْمَاحِيَةِ لِمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْوَسَاوِسِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ الْعَمَلِ
الصَّالِحِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَقِهَ مَا وَرَدَ فِي الْإِنْفَاقِ وَفَوَائِدِهِ وَآدَابِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَا يَكُونُ وَعْدُ الشَّيْطَانِ لَهُ بِالْفَقْرِ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالْبُخْلِ مَانِعًا لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْفِقْهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَحُسْنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْفَهْمِ وَالْبَحْثِ عَنْ فَوَائِدِ الْأَحْكَامِ وَعِلَلِهَا وَدَلَائِلِ الْمَسَائِلِ وَبَرَاهِينِهَا، فَالْخَبَرُ: فَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِالْأَخَصِّ، رِعَايَةً لِلْمَقَامِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَسَّرَهَا بِالْأَعَمِّ بَيَانًا لِشُمُولِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، فَالْآيَةُ بِإِطْلَاقِهَا رَافِعَةٌ لِشَأْنِ الْحِكْمَةِ بِأَوْسَعِ مَعَانِيهَا هَادِيَةً إِلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي أَشْرَفِ مَا خُلِقَ لَهُ. وَمَنْ رُزِئَ بِالتَّقْلِيدِ كَانَ مَحْرُومًا مِنْ ثَمْرَةِ الْعَقْلِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ لِصَاحِبِ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا فَيَكُونُ كَالْكُرَةِ تَتَقَاذَفُهُ وَسْوَسَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَجَهَالَةُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِعُقُولِ النَّاسِ عَنْ عَقْلِهِ، وَبِفِقْهِ النَّاسِ عَنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ جَمَعَ كَلَّ مَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْبَيَانِ، وَقَدْ يَجِدُ فِي فِقْهِ النَّاسِ أَنَّ اللهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ غَيْرَ الزَّكَاةِ الَّتِي لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ، وَأَنَّهُ إِذَا هُوَ وَهَبَ امْرَأَتَهُ مَالَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَوْهَبَهَا إِيَّاهُ بَعْدَ دُخُولِ الْحَوْلِ الْجَدِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَيُمْكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْلِكَ أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَتَمُرَّ عَلَيْهِ السُّنُونَ وَالْأَحْوَالُ لَا يُنْفِقُ مِنْهَا شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ وَيَكُونُ مُؤْمِنًا عَامِلًا بِفِقْهِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْآنِ وَفَقِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ وَلَا غُرُورٍ بِعَظَمَةِ شُهْرَةِ الْمُحْتَالِينَ الْمُحَرِّفِينَ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ بِهَذَا الْمَنْعِ عَدُوًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلِكِتَابِهِ، مَحْرُومًا مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَتَاهُ اللهُ - تَعَالَى - لِأَهْلِهِ.
الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي سَمَّوْهُ فِقْهًا. وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، فَهَلْ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَفِقْهِ حُكْمِهِ وَأَسْرَارِهِ؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَوْسَعَ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِهِ هُمْ فِي الْغَالِبِ أَشَدُّهُمْ بُخْلًا وَحِرْصًا، حَتَّى لَا تَكَادَ تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ مُشْتَرِكًا فِي جَمْعِيَّةٍ خَيْرِيَّةٍ أَوْ مُنْفِقًا فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، بَلْ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْحِيَلَ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ بِالْبِدْعَةِ وَيَلْمِزُ أَهْلَهَا فِي عَمَلِهِمْ، يَعْتَذِرُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ مُسَاعَدَتِهِمْ إِلَّا تَمَسُّكًا بِالشَّرْعِ وَمُحَافَظَةً عَلَى أَحْكَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ: إِنْ صَحَّ مَا تَزْعُمُونَ فَلِمَ لَا تُنْشِئُونَ جَمْعِيَّاتٍ خَيْرِيَّةً لِخِدْمَةِ الْأُمَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْمِلَّةِ؟ شَكَوْا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا لَأَسْرَعَ الْجَمَاهِيرُ إِلَى تَلْبِيَتِهِمْ ; لَأَنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُ يَعْتَقِدُ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُحَافِظُونَ عَلَى الدِّينِ، أَفَرَأَيْتَ مَنْ لَا يَعْمَلُ الْخَيْرَ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، بَلْ يَصُدُّ عَنْهُ يَكُونُ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيمَنْ أُوتِيهَا إِنَّهُ: أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا أَوْ يَكُونُ قَدْ أَوُتِيَ فِقْهَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْحِكْمَةُ؟ لَا نَعْنِي بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَ بِالْفِقْهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بِالْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ.
ثُمَّ أَقُولُ إِيضَاحًا لِلْمَقَامِ: إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ مَعَ الْحِكْمَةِ فِي قَرْنٍ، فَهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ كَمَا لَا يَفْتَرِقُ الْمَعْلُولُ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، فَالْحِكْمَةُ: هِيَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الْمُحَرِّكُ لِلْإِرَادَةِ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ الْخَيْرُ. وَآلَةُ الْحِكْمَةِ هِيَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ، فَمَتَّى حَكَمَ جَزَمَ فَأَمْضَى وَأَبْرَمَ، فَكُلُّ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عَامِلٍ مَصْدَرٌ لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ أَيْ وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَتَّعِظُ بِالْعِلْمِ وَيَتَأَثَّرُ بِهِ تَأَثُّرًا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْخَالِصَةِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَهُوَ تَذْيِيلٌ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ، فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
أَرْشَدَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الْآيَةِ إِلَى أَنَّهُ يُجَازِي عَلَى كُلِّ صَدَقَةٍ وَكُلِّ الْتِزَامٍ لِصَدَقَةٍ وَبِرٍّ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ قَصْدٍ، لِنَتَذَكَّرَ ذَلِكَ فَتَخْتَارَ لِأَنْفُسِنَا أَفْضَلَ مَا نُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَهُ عَنَّا فَقَوْلُهُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ يَشْتَمِلُ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي حَقٍّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي شَرٍّ، وَمَا كَانَ عَنْ إِخْلَاصٍ وَمَا كَانَ رِئَاءَ النَّاسِ مَا أُتْبِعَ مِنْهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَمَا لَمْ يُتْبَعْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا وَقَوْلُهُ: أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يَأْتِي فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَيَشْمَلُ مَا كَانَ نَذْرَ قُرْبَةٍ وَتَبَرُّرٍ وَنَذْرَ لَجَاجٍ وَغَضَبٍ، فَالْأَوَّلُ مَا قُصِدَ بِهِ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ قُرْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ فِيهَا كَأَنْ يَنْذُرَ نَفَقَةً مُعَيَّنَةً أَوْ صَلَاةَ نَافِلَةٍ أَوْ بِشَرْطِ حُصُولِ نِعْمَةٍ أَوْ رَفْعٍ نِقْمَةٍ. كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللهُ فُلَانًا فَعَلَيَّ - أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ - أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا أَوْ أَقِفَ عَلَى الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ كَذَا، وَالثَّانِي مَا يُقْصَدُ بِهِ حَثُّ النَّفْسِ عَلَى شَيْءٍ أَوْ مَنْعُهَا عَنْهُ. كَقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ كَذَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْأَوَّلِ، وَفِي الثَّانِي أَقُولُ: مِنْهَا أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِشَرْطِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِتَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيمَا وَرَدَ وَمَا قِيلَ فِي النَّذْرِ. وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّهُ الْتِزَامُ فِعْلِ الشَّيْءِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِ النَّاذِرِ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا - أَوْ عَلَيَّ لِلَّهِ كَذَا، أَوْ نَذَرْتُ لِلَّهِ كَذَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِالطَّاعَةِ، فَإِنْ نَذَرَ فِعْلَ مَعْصِيَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهَا، وَإِنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَعَلَهُ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَزَائِمِ مِنَ النَّقْصِ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نَذَرَتْ أَنْ تَضْرِبَ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّيَ يَوْمَ قُدُومِهِ بِالْوَفَاءِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ لَا مُبَاحٌ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ ; أَيْ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ مَا ذُكِرَ مِنَ النَّفَقَةِ أَوِ النَّذْرِ، وَيُجَازِي عَلَيْهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَالْجُمْلَةُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَتَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
يَنْصُرُونَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَيَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِجَاهِهِمْ أَوْ يَفْتَدُونَهُمْ مِنْهُ بِمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [٤٠: ١٨] أَقُولُ: وَالظَّالِمُونَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ: هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ; إِذَ لَمْ يُزَكُّوهَا وَيُطَهِّرُوهَا مِنْ هَذِهِ الْفَحْشَاءِ الْبُخْلِ، أَوْ مِنْ رَذَائِلِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى وَظَلَمُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ بِمَنْعِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ لَهُمْ، وَظَلَمُوا الْمِلَّةَ وَالْأُمَّةَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَبِمَا كَانُوا قُدْوَةً سَيِّئَةً لِغَيْرِهِمْ، فَظُلْمُهُمْ عَامٌّ شَامِلٌ. فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا أَغْنِيَاءُ الْمُسْلِمِينَ
الْأُمَمِ عَنِ الْخَيْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَصَالِحِ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَانْتَشَلُوا هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ وَهْدَتِهَا، وَعَادُوا بِهَا إِلَى عِزَّتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ ظَالِمُونَ، قُسَاةٌ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَتَذَكَّرُونَ.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
هَذَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِ الصَّدَقَاتِ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ الْمُخْلِصُونَ الَّذِينَ يَتَحَامَوْنَ الرِّيَاءَ وَالْفَخْرَ فِي الْإِنْفَاقِ، وَمَا كُلُّ مُظْهِرٍ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ مُرَائِيًا بِهِ وَلَكِنْ كُلُّ مُخْفٍ لَهُ بَعِيدٌ عَنِ الرِّيَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أَيْ فَنِعْمَ شَيْئًا إِبْدَاؤُهَا، وَأَصْلُهَا نِعْمَ مَا هِيَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَوَرْشٌ وَحَفْصٌ نِعِمَّا بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ (اخْتِلَاسِهَا) فِي رِوَايَةٍ وَإِسْكَانِهَا فِي أُخْرَى، وَالْأُولَى أَقِيسُ، وَحُكِيَتِ الثَّانِيَةُ لُغَةً. قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنَّ إِعْطَاءَهَا لِلْفُقَرَاءِ فِي الْخُفْيَةِ وَالسِّرِّ أَفْضَلُ مِنَ الْإِبْدَاءِ لِمَا فِي الْإِخْفَاءِ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ شُبْهَةِ الرِّيَاءِ وَمَثَارِهِ، وَمِنْ إِكْرَامِ الْفَقِيرِ وَتَحَامِي إِظْهَارِ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْخُيُورِ وَلَيْسَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ زِيَادَةُ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ: وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ أَيْ وَيَمْحُو عَنْكُمْ بَعْضَ سَيِّئَاتِكُمْ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَيُكَفِّرْ بِالْيَاءِ: أَيِ اللهُ - تَعَالَى -، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ وَيَعْقُوبَ (وَنُكَفِّرُ) بِالنُّونِ مَرْفُوعًا: أَيْ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَنُكَفِّرْ) بِالنُّونِ مَجْزُومًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ الْفَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ نِيَّاتُكُمْ فِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ - فَإِنَّ الْخَبِيرَ هُوَ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ.
بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبْحَثَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ عَامَّةٌ تَشْمَلُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَالتَّطَوُّعَ، فَإِخْفَاءُ كُلِّ فَرِيضَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِبْدَائِهَا. وَقَالَ
الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالتَّطَوُّعِ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَهِيَ شَعَائِرُ لَا يَنْبَغِي إِخْفَاؤُهَا، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. قَالَ: إِنَّ إِبْدَاءَ الْفَرِيضَةِ إِشْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ لَوْ أُخْفِيَتْ لَتُوُهِّمَ مَنْعُهَا،
الْمُتَصَدِّقُ وَرَقَةً مَالِيَّةً لِجَمْعِيَّةٍ خَيْرِيَّةٍ، وَلَا يَذْكُرُ لَهَا اسْمَهُ أَوْ يَذْكُرُهُ لِمَنْ يَبْذُلُ لَهُ الْمَالَ كَرَئِيسِهَا أَوْ أَمِينِهَا فَقَطْ، وَمِنْ دَأْبِ الْجَمْعِيَّاتِ أَنْ تُشِيدَ بِمِثْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بِأَلْسِنَةِ أَعْضَائِهَا وَبِأَلْسِنَةِ الْجَرَائِدِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ طَرْقِ الشُّهْرَةِ فِي عَصْرِنَا وَأَبْعَدُهَا مَدًى.
وَلَا يَبْعُدُ عَنْ هَدْيِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَإِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ لِلتَّرْبِيَةِ الْمِلِّيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ النَّافِعِ، وَإِنْشَاءِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْبِهُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ، فَلَا يَنْبَغِي إِخْفَاؤُهُ وَإِنْ أَخْفَى الْمُنْفِقُ اسْمَهُ، وَإِنَّ تَفْضِيلَ الْإِخْفَاءِ خَاصٌّ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ إِلَخْ. وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتَجْعَلُوهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْفَقِيرِ سَدٌّ لِخَلَّتِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْمُبَارَاةِ فِي الِاسْتِكْثَارِ كَمَا يُحْتَاجُ فِي إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهَا مِنْ سَتْرِ حَالِهِ وَحِفْظِ كَرَامَتِهِ مَا لَا يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمَصَالِحِ.
(الْمَبْحَثُ الثَّانِي) : إِنْ أَطْلَقَ فِي الْآيَةِ لَفْظَ الْفُقَرَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ فُقَرَاءَكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَحَبُّ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ - وَإِنْ كَانَ كَافِرًا - فَكَمَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ الْكَافِرَ فَلَمْ يَحْرِمْهُ لِكُفْرِهِ مِنَ الرِّزْقِ بِسَعْيِهِ، كَذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ الَّذِي يَكْفِيهِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. أَوْرَدَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَالْفُقَهَاءُ لَمْ يَمْنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ إِحْدَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ خَاصَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَنْ مُسْلِمٍ
وَلَا كَافِرٍ، وَلَا بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ، بَلْ قَالُوا: إِذَا اضْطُرَّ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُعَاهِدُ إِلَى الْقُوتِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَدُّ رَمَقِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ سَدُّ رَمَقِ الْمُسْلِمِ الْمُضْطَرِّ إِلَّا مَنْ أَهْدَرَ الشَّرْعُ دَمَهُ، وَعُمُومُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ كَتَبَ الرَّحْمَةَ وَالْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِمَا: فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ يَعْنِي فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ قَدْ أَطْلَقَتْ إِيتَاءَ الْفُقَرَاءِ وَجَعَلَتْهُ عَلَى عُمُومِهِ الشَّامِلِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى عَدَمِ التَّحَرُّجِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَهْدِيِّينَ ; فَإِنَّ الرَّحْمَةَ بِالْفَقِيرِ وَسَدِّ خَلَّتِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَقَّفَ عَلَى إِيمَانِهِ، بَلْ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ عَامًّا، وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِسَائِرِ النَّاسِ بِالْكَرَمِ وَالْفَضْلِ.
أَقُولُ: وَالْخِطَابُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَهْيِهِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّوْجِيهُ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً وَإِنْ جَاءَ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمُفْرِدِ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُ فِي سَائِرِ الْآيَةِ بِضَمَائِرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُكَلَّفْ هِدَايَةَ الْكَافِرِينَ بِالْفِعْلِ وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْبَلَاغَ فَقَطْ، وَأُعْلِمَ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ فِي الِاهْتِدَاءِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَبِّهِمْ، وَمَا وَضَعَهُ لِسَيْرِ عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ مِنَ السُّنَنِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِأَلَا يُكَلَّفَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِذًا أَنْ نَمْنَعَ الْخَيْرَ عَنِ الْكَافِرِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ جَذْبًا لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَاضْطِرَارًا لَهُ إِلَى الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ عَلَيْنَا وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِتَوْفِيقِهِ إِلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الَّذِي يُثْمِرُ الْعَمَلَ. وَأَمَّا الْبَاعِثُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - فِي قَوْلِهِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ إِلَخْ. قَالُوا: مَعْنَى هَذَا أَنَّ نَفْعَ الْإِنْفَاقِ فِي الْآخِرَةِ خَاصٌّ بِكُمْ، هَكَذَا صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَقْيِيدِ النَّفْعِ بِالْآخِرَةِ: وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: أَيْ لِأَنَّ نَفْعَهُ عَائِدٌ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَاصًّا بِالدُّنْيَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ يَكُفُّ شَرَّ الْفُقَرَاءِ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ أَذَاهُمْ فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ إِذَا ضَاقَ بِهِمُ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّتْ بِهِمُ الْحَاجَةُ يَنْدَفِعُونَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَهْلِ الثَّرْوَةِ بِالسَّرِقَةِ وَالنَّهْبِ وَالْإِيذَاءِ بِحَسْبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ يَسْرِي شَرُّهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَرُبَّمَا صَارَ فَسَادًا عَامًّا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ، فَيَذْهَبُ بِالْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْكَلَامِ نَظِيرٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. (قَالَ) وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا عَلَى ظَاهِرِهِ، أَيْ لَا تُنْفِقُونَ لِأَجْلِ جَاهٍ أَوْ مَكَانَةٍ عِنْدَ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُنْفِقُونَ لِوَجْهِ اللهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُعْطٍ وَمُعْطَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْفَقِيرُ مُسْتَحِقًّا يَتَقَرَّبُ بِإِزَالَةِ ضَرُورَتِهِ إِلَى الرَّزَّاقِ
ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ فِي الْآخِرَةِ لَا يُنْقِصُكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَدَ أَوَّلًا بِأَنَّ خَيْرَ الْإِنْفَاقِ عَائِدٌ عَلَى الْمُنْفِقِينَ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: فَلِأَنْفُسِكُمْ ثُمَّ وَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مُوَفًّى تَامًّا، وَقَالَ: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ نَقِيرًا أَوْ فَتِيلًا. أَقُولُ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّهُ جَعَلَ هُنَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فِلِأَنْفُسِكُمْ خَاصًّا بِالدُّنْيَا، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ عَامٌّ قَدْ قَالَهُ فِي الدَّرْسِ، فَهَلْ كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ أَمْ رَجَعَ عَنْهُ عِنْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَكَيْفَ فَاتَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ هَذَا مَا وَجَدْتُهُ فِي مُذَكِّرَتِي لَا أَذْكُرُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ.
أَقُولُ: وَالَّذِي كَانَ تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِي مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [٢: ٢٦٥] أَيْ إِنَّ أَيَّ نَفَقَةٍ مِنَ الْخَيْرِ أَنْفَقْتُمْ فَهِيَ تُفِيدُكُمْ فِي تَثْبِيتِ أَنْفُسِكُمْ فِي مَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مَا تُنْفِقُونَ ذَلِكَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَإِرَادَةَ رِضْوَانِهِ، وَمَتَى كَانَ الْإِنْفَاقُ كَذَلِكَ كَانَ مُزَكِّيًا وَمُثَبِّتًا لِلنَّفْسِ مُعِدًّا لَهَا، وَمُؤَهِّلًا لِرِضْوَانِ اللهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا ; إِذِ الْإِنْفَاقُ لَيْسَ لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَابْتِغَاءِ الْأَجْرِ مِنْهُ، وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَائِدَةَ الذَّاتِيَّةَ لِلْإِنْفَاقِ فِي نَفْسِ الْمُنْفِقِ ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ إِلَخْ. أَيْ وَإِنَّكُمْ عَلَى اسْتِفَادَتِكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي أَنْفُسِكُمْ بِتَرْقِيَتِهَا وَجَعْلِهَا مُسْتَحِقَّةً لِقُرْبِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، لَا يُضِيعُ عَلَيْكُمْ مَا تُنْفِقُونَهُ، بَلْ تُوَفَّوْنَهُ لَا تُظْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَشَدُّ الْتِئَامًا وَأَحْسَنُ نِظَامًا، فَالْجُمْلَتَانِ الشَّرْطِيَّتَانِ فِيهِ مُتَعَاطِفَتَانِ، وَقَوْلُهُ: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ قَيْدٌ فِي الشُّرْطِيَّةِ الْأُولَى ; وَلِلْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَا فَائِدَتَانِ:
أُولَاهُمَا: وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ: تَثْبِيتُ نَفْسِ الْمُنْفِقِ وَتَرْقِيَتُهَا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ.
وَالْأُخْرَى: الثَّوَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ دُونَ الْأُولَى عِنْدَ الْعَارِفِينَ.
وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ دُونَ سِوَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَإِرْضَاءً لَهُ لِذَاتِهِ لَا لِلتَّشَوُّفِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَرْضُهُ عَلَيْهِ وَمُقَابَلَتُهُ بِهِ فَقَطْ، وَلَا يَفْهَمُ هَذَا حَقَّ فَهْمِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَرَاتِبَ النَّاسِ وَمَقَاصِدَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْمُلُوكِ، ذَلِكَ
أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِلْمَلِكِ
وَجْهًا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ الْحَادِثِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ عُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ.
وَوَجْهًا إِلَى الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ وَهُوَ وَجْهُ اللهِ - تَعَالَى -، فَمَعْنَى وَجْهُ اللهِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ، أَنْ يَقْصِدَ بِهِ ثَمَرَتَهُ الدَّائِمَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ بِارْتِقَاءِ النَّفْسِ فِي الْكَمَالِ الَّذِي يُؤَهِّلُهَا لِلْبَقَاءِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
إِذَا فَهِمَتْ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى إِيرَادِ طَرِيقَتَيِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَآيَاتِ الصِّفَاتِ، كَأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوَجْهَ صِفَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَوْ إِنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الذَّاتِ، حَتَّى يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ صِفَةِ اللهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَجْهًا، وَآمِنًا بِهَا مَعَ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَعَلَى الثَّانِي وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ ذَاتِ اللهِ - تَعَالَى -. هَذَا مَا لَا يَظْهَرُ مَعَهُ لِلْآيَةِ مَعْنًى، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَجْلَى، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْأُسْتَاذَ اكْتَفَى - كَالْمُفَسِّرِينَ - بِجَعْلِهِ مَعْنَى مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَبِإِيتَاءِ الْفُقَرَاءِ عَامَّةً نَبَّهَ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ التَّحَرُّجِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَتْهُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَثَانِيهُمَا: بَيَانُ أَحَقِّ النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ ذُكِرَتْ صِفَاتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ خَمْسُ صِفَاتٍ مَنْ أَفْضَلِ الصِّفَاتِ
(قَالَ) وَيَحْتَجُّ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ التَّكَايَا الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ إِلَيْهَا تَارِكِينَ لِلْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ، فَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَيْسَ فِيهِمْ صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بِهَا أَهْلَ الصُّفَّةِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِدِينِهِمْ، يَأْكُلُونَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَاصَّةً، فَهِيَ لَهُمْ كَالْأَدْيَارِ لِلنَّصَارَى وَهُمْ فِيهَا كَالرُّهْبَانِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَزَوَّجُ - وَقَدْ يَخْرُجُ الَّذِي يَتَزَوَّجُ مِنَ التَّكِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ شُرُوطِ الْمُقِيمِ فِيهَا أَلَّا يَتَزَوَّجَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْتَزِمُ الْإِقَامَةَ فِي التَّكِيَّةِ وَإِنَّمَا يَجْمَعُهُ بِأَصْحَابِهَا اسْمُ الطَّرِيقَةِ، كَأَصْحَابِ السَّيَّارَاتِ الَّذِينَ يَنْزِلُ شَيْخُ الطَّرِيقَةِ مِنْهُمْ بِزِعْنِفَةٍ مِنْ جَمَاعَتِهِ
بَلَدًا بَعْدَ آخَرَ، فَيُكَلِّفُونَ مَنْ يَسْتَضِيفُونَهُ الذَّبَائِحَ وَالطَّعَامَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُونَ إِلَّا مُثْقَلِينَ، يُسْأَلُونَ فَيُلْحِفُونَ، بَلْ يَسْلُبُونَ وَيَنْهَبُونَ، فَإِذَا مُنِعُوا مَا أَرَادُوا انْتَقَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْتِقَامِ، أَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَحْفَظُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ضُرُوبِ الْإِيذَاءِ، وَمِنْهُ مَا يُبْرِزُونَهُ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ، حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِنْ قَصَّرَ فِي إِجَابَةِ مَطَالِبِ بَعْضِ الشُّيُوخِ عِنْدَمَا نَزَلَ وَزِعْنِفَتُهُ بِهِ فَأَحْرَقُوا لَهُ جُرْنَ (بَيْدَرَ) الْحِنْطَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ أَحْرَقَهُ بِغَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ كَرَامَةً لِشَيْخِهِمْ، وَحُدِّثْتُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اتَّخَذَ فِي رَأْسِ الْعَلَمِ الَّذِي يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ عَدَسَةً مِنَ الزُّجَاجِ كَانَ يُوَجِّهُهَا مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمْسِ إِلَى الْجُرْنِ الَّذِي يُرِيدُ إِحْرَاقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الْفَلَّاحُونَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُرِيدُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَيَقَعُ الْحَرِيقُ فِيهِ وَلَمْ يَدْنُ أَحَدٌ مِنْهُ، فَلَا يَشُكُّ الْفَلَّاحُونَ الْجَاهِلُونَ فِي أَنَّ الْحَرِيقَ كَانَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ الَّذِي لَا حِرْفَةَ لَهُ إِلَّا أَكَلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْكَذِبِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ الضَّالُّونَ
مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَصَابَتْهُمُ الْجِرَاحَاتُ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - فَصَارُوا زَمْنَى، فَجَعَلَ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ كَانَ لَهُ حُكْمُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْجَزُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَبْسُطَ الْقَوْلَ فِيهَا فَأَقُولُ:
(الصِّفَةُ الْأُولَى) الْإِحْصَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ الْمَانِعُ مِنَ الْكَسْبِ فِيهِ بِسَبَبٍ اضْطِرَارِيٍّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ حَبْسَ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ فِي الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْمَصَالِحُ كَالْجِهَادِ وَالْعِلْمِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الْإِنْسَانَ عَنِ الْكَسْبِ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ لِلْقِيَامِ بِأَوَدِهِ بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ مِنَ
الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ مَعِيشَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْكَسْبَ مُخْتَارًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ، أَمَّا السَّبَبُ الِاضْطِرَارِيُّ لِلْإِحْصَارِ عَنِ الْكَسْبِ فَمِنْهُ مَا هُوَ طَبِيعِيٌّ كَالْعَجْزِ وَمَا هُوَ شَرْعِيٌّ كَالْعِلْمِ بِتَعْطِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا إِذَا هُوَ تَرَكَهَا لِأَجْلِ الْكَسْبِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ النَّاسُ لِذَلِكَ بِأَنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَعْجَزُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَصْلَحَةِ وَكَانَ جَمْعُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ مُتَعَذِّرًا وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْكَسْبِ وَحَبْسُ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَانُوا بِذَلِكَ مُحْصَرِينَ بِالِاضْطِرَارِ الشَّرْعِيِّ، وَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا فَعَلَى أَغْنِيَاءِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِذَلِكَ أُنَاسٌ مَخْصُوصُونَ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ الْإِحْصَارُ لِتَعَلُّمِ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ.
(الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ أَيْ إِنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ، وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ لِنَحْوِ التِّجَارَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا، وَهُنَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا مِنِ اشْتِرَاطِ الِاضْطِرَارِ فِيمَا يُحْصَرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا يُحْصَرُ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا ; وَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ وَلَوْ بِالسَّفَرِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الصَّدَقَةَ.
(الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أَيْ إِذَا رَآهُمُ الْجَاهِلُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ يَظُنُّهُمْ أَغْنِيَاءَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنَزُّهِ عَنِ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ كَالْقَبِيحِ وَالْمُحَرَّمِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ التَّعَفُّفَ: بِالْعِفَّةِ وَبِالصَّبْرِ وَالنَّزَاهَةِ عَنِ الشَّيْءِ، وَجَعَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِلتَّكَلُّفِ، وَلَكِنْ صِيغَةُ " تَفَعَّلٍ " تَأْتِي لِتَكَلُّفِ الشَّيْءِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ هُنَا، لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّفُ الْعِفَّةَ قَلَّمَا يَخْفَى حَالُهُ عَلَى رَائِيهِ،
(الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ أَيْ بِعَلَامَاتِهِمِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، قِيلَ: هِيَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقِيلَ: هِيَ الرَّثَاثَةُ فِي الثِّيَابِ أَوِ الْحَالِ، وَلَيْسَا بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: بِآثَارِ الْجُوعِ وَالْحَاجَةِ فِي الْوَجْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ السِّيمَا لَا تَتَعَيَّنُ بِهَيْأَةٍ خَاصَّةٍ لِاخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تُتْرَكُ إِلَى فِرَاسَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَحَرَّى بِالْإِنْفَاقِ أَهْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَصَاحِبُ الْحَاجَةِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَفَرِّسِ مَهْمَا تَسَتَّرَ وَتَعَفَّفَ، فَكَمْ مِنْ سَائِلٍ يَأْتِيكَ رَثَّ الثِّيَابِ خَاشِعَ الطَّرَفِ وَالصَّوْتِ تَعْرِفُ مِنْ سِيمَاهُ
أَنَّهُ يَسْأَلُ تَكَثُّرًا وَهُوَ غَنِيٌّ، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُقَابِلُكَ بِطَلَاقَةِ وَجْهٍ وَحُسْنِ بِزَّةٍ فَتَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي لَحْنِ قَوْلِهِ، وَمَعَارِفِ وَجْهِهِ أَنَّهُ مِسْكِينٌ عَزِيزُ النَّفْسِ.
(الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ سُؤَالَ إِلْحَاحٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الشَّحَّاذِينَ، وَأَهْلِ الْكُدْيَةِ الْمَعْرُوفِينَ، فَالْإِلْحَافُ: هُوَ الْإِلْحَاحُ فِي السُّؤَالِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ نَفْيُ سُؤَالِ الْإِلْحَافِ لَا مُطْلَقُ السُّؤَالِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ السِّيَاقِ فَهُوَ أَنَّ الْقَيْدَ لِبَيَانِ حَالِ السَّائِلِينَ فِي الْعَادَةِ، وَأَنَّ النَّفْيَ لِلسُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا شَيْئًا لَا سُؤَالَ إِلْحَافٍ وَلَا سُؤَالَ رِفْقٍ وَاسْتِعْطَافٍ، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ مَا تُؤَيِّدُهُ الْأَخْبَارُ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ.
وَالسُّؤَالُ مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ فَالْفَقْرُ الْمُدْقِعُ: هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يُلْصِقُ صَاحِبَهُ بِالدَّقْعَاءِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَالْغُرْمُ - بِالضَّمِّ - مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ تَكَلُّفًا لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَمِنْهُ مَا يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّفَقَةِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، كَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ وَحِفْظِ مَصْلَحَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مُسَاعَدَتَهُ عَلَى مَا يَحْمِلُهُ مِنَ الْمَغَارِمِ. وَقَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ الَّذِي تَسْأَلُ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ مُفْظِعًا أَيْ شَدِيدًا فَظِيعًا، فَإِذَا تَحَمَّلَ غُرْمًا خَفِيفًا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ لِأَجْلِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُتَحَمِّلِينَ، وَأَمَّا ذُو الدَّمِ الْمُوجِعِ فَهُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ عَنِ الْجَانِي مِنْ قَرِيبٍ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ نَسِيبٍ لِئَلَّا يُقْتَلَ فَيَتَوَجَّعَ لِقَتْلِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ مِنْ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُودُ: لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُ كُلُّهَا مَرَاسِيلُ، وَفِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ لِيَعْلَى بْنِ أَبِي يَحْيَى، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ مَجْهُولٌ، وَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا لِحَاجَةٍ تُبِيحُ لَهُ السُّؤَالَ الْمُحَرَّمَ. قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: فِيهِ، أَيِ الْحَدِيثِ الْآمِرِ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِذُلِّ السُّؤَالِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِسُوءِ الظَّنِّ وَاحْتِقَارِهِ، بَلْ يُكْرِمُهُ بِإِظْهَارِ السُّرُورِ لَهُ، وَيُقَدِّرُ أَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي تَحْتَهُ عَارِيَةٌ، أَوْ أَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَخَذُ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرما لإصلاح البين، وما قالوه في الحديث يقال في تفسير السائلين في الآية ١٧٧ من هذه السورة، وتفسير (٥١: ١٩ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) وآية (٧٠: ٢٤ والذين في أموالهم حق
معلوم ٢٥ للسائل والمحروم)
أي إن السائل المؤمن يحمل على الصدق في أنه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال الْمُحَرَّمِ، كَتَحَمُّلٍ غُرْمٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ عَارِضَةٍ فَمَا كَلُّ سَائِلٍ لِفَقْرِهِ هُوَ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كَانَ يَسْأَلُ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ الْمُوسِرِينَ، أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمَالَ لِلْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ وَلِغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَسْأَلُ تَكَثُّرًا وَيَجْعَلُ السُّؤَالُ حِرْفَةً، وَالْأَصْلُ فِي الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ عَزِيزَ النَّفْسِ مُتَنَزِّهًا عَنِ الْحَرَامِ فَلَا يَسْأَلُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تُبِيحُ لَهُ السُّؤَالَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْغَنِيُّ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنْ مَالِهِ الَّذِي يُعِدُّهُ لِلصَّدَقَاتِ لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ أَوِ الضَّرُورَاتِ، وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْأَلُ لِنَفْسِهِ تَكَثُّرًا كَالشَّحَّاذِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ بَيَانِ النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حُسْنُ النِّيَّةِ فِيهِ وَتَحَرِّي النَّفْعِ بِهِ وَوَضْعِهِ فِي مَوْضِعِهِ وَإِيتَائِهِ أَحَقَّ النَّاسِ فَأَحَقَّهُمْ بِهِ، فَهُوَ يُجَازِي عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُرَغِّبٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سِيقَتِ الْهِدَايَةُ إِلَيْهِ.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْإِنْفَاقِ كَانَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَبَيَانِ فَوَائِدِهَا فِي أَنْفُسِ الْمُنْفِقِينَ وَفِي الْمُنْفَقِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْأُمَّةِ الَّتِي يَكْفُلُ أَقْوِيَاؤُهَا ضُعَفَاءَهَا، وَأَغْنِيَاؤُهَا فُقَرَاءَهَا، وَيَقُومُ فِيهَا الْقَادِرُونَ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَفِي آدَابِ النَّفَقَةِ، وَفِي الْمُسْتَحِقِّ لَهَا وَأَحَقِّ النَّاسِ بِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ. فَقَدْ ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَفِيهِ بَيَانُ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ مَعَ عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ، وَفِي تَقْدِيمِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ وَالسِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ إِيذَانٌ بِتَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ، وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْضِعًا
تَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتُفَضِّلُهُ الْمَصْلَحَةُ لَا يَحِلُّ غَيْرُهُ مَحَلَّهُ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ كُلٍّ فِي تَفْسِيرِ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ [٢: ٢٧١] وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ حَالٍ لَا يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ مَهْمَا لَاحَ لَهُمْ طَرِيقٌ لِلْإِنْفَاقِ هُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا نِهَايَةَ الْكَمَالِ فِي الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَطَلَبِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ - عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ - إِذْ أَنْفَقَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قِيلَ: اتَّفَقَ أَنْ كَانَ عَشَرَةٌ مِنْهَا بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ بِالسِّرِّ، وَعَشَرَةٌ بِالْعَلَانِيَةِ، وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ السُّيُوطِيِّ أَنَّ خَبَرَ تَصَدُّقِهِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّازِقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ دِرْهَمًا، وَبِالنَّهَارِ دِرْهَمًا، وَسِرًّا دِرْهَمًا، وَعَلَانِيَةً دِرْهَمًا. وَفِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حَمَلَنِي أَنْ أَسْتَوْجِبَ عَلَى اللهِ الَّذِي وَعَدَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا إِنَّ ذَلِكَ لَكَ وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْفَقَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ تَنْفِيرٌ مِنَ الرِّبَا وَتَبْشِيعٌ لِحَالِ آكِلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ: الْأَخْذُ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ، وَأَكْثَرُ مَكَاسِبِ النَّاسِ تُنْفَقُ فِي الْأَكْلِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ يُقَالُ أَكَلَهُ وَهَضَمَهُ، أَيْ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ تَمَامَ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي رَدِّهِ. وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ، وَالرَّبْوَةُ لِمَا عَلَا مِنَ الْأَرْضِ فَزَادَ عَلَى مَا حَوْلَهُ. وَتَعْرِيفُ الرِّبَا لِلْعَهْدِ، أَيْ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا الَّذِي عَهِدْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَتَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ قَالَ: وَكَانَ أَكْلُهُمْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ طَلَبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ: أَخِّرْ عَنِّي دِينَكَ وَأَزِيدُكُ عَلَى مَالِكَ فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَنَهَاهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي إِسْلَامِهِمْ عَنْهُ، اهـ. وَذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَلِكَ سَنَنْقُلُهَا عَنْهُ فِي مَوْضِعِهَا.
وَأَمَّا قِيَامُ آكِلِي الرِّبَا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُرَادُ: تَشْبِيهُ الْمُرَابِي فِي الدُّنْيَا بِالْمُتَخَبِّطِ الْمَصْرُوعِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُصْرَعُ بِحَرَكَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ جُنَّ. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ: الْقِيَامُ مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ مِنْ عَلَامَةِ الْمُرَابِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ كَالْمَصْرُوعِينَ. وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: " إِيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ " أَقُولُ: وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى جَمِيعِ الْأَفْهَامِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ; لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْقِيَامَ انْصَرَفَ إِلَى النُّهُوضِ الْمَعْهُودِ
فِي بَعْضِهَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَضَعُونَ لَهُ رِوَايَةً يُفَسِّرُونَهُ بِهَا وَقَلَّمَا يَصِحُّ فِي التَّفْسِيرِ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
أَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمَالُ وَاسْتَعْبَدَهُمْ حَتَّى ضَرِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِجَمْعِهِ وَجَعَلُوهُ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ وَتَرَكُوا لِأَجْلِ الْكَسْبِ بِهِ، جَمِيعَ مَوَارِدِ الْكَسْبِ الطَّبِيعِيِّ، تَخْرُجُ نُفُوسُهُمْ عَنِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي حَرَكَاتِ الْمُولَعِينَ بِأَعْمَالِ الْبُورْصَةِ وَالْمُغْرَمِينَ بِالْقِمَارِ يَزِيدُ فِيهِمُ النَّشَاطُ وَالِانْهِمَاكُ فِي أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ خِفَّةً تَعْقُبُهَا حَرَكَاتٌ غَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ حَرَكَاتِهِمْ وَبَيْنَ تَخَبُّطِ الْمَمْسُوسِ، فَإِنَّ التَّخَبُّطَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ ضَرْبٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَكَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَبِهَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا شَنَّعَ بِهِ عَلَى الْمُرَابِينَ مِنْ خُرُوجِ حَرَكَاتِهِمْ عَنِ النِّظَامِ الْمَأْلُوفِ هُوَ أَثَرُ اضْطِرَابِ نُفُوسِهِمْ وَتَغَيُّرِ أَخْلَاقِهِمْ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يُبْعَثُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ تَظْهَرُ النَّفْسُ الْخَسِيسَةُ فِي أَقْبَحِ مَظَاهِرِهَا، كَمَا تَتَجَلَّى صِفَاتُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ فِي أَبْهَى مَجَالِيهَا.
ثُمَّ إِنَّ التَّشْبِيهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَصْرُوعَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَمْسُوسِ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، أَيْ أَنَّهُ يُصْرَعُ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ لَهُ وَهُوَ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَجَارِيًا فِي كَلَامِهِمْ مَجْرَى الْمَثَلِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي التَّشْبِيهِ: " وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيُصْرَعُ، وَالْخَبْطُ: ضَرْبٌ عَلَى غَيْرِ اتِّسَاقٍ كَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ ". اهـ. وَتَبِعَهُ أَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِ، فَذَكَرَ عِبَارَتَهُ بِنَصِّهَا، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا لَا تُثْبِتُ أَنَّ الصَّرْعَ الْمَعْرُوفَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً وَلَا نَنْفِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، أَنْكَرَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ فِي الْإِنْسَانِ غَيْرُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ سَبَبَ الصَّرْعِ مَسُّ الشَّيْطَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّشْبِيهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِيهِ - وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ الصَّرْعَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي تُعَالَجُ كَأَمْثَالِهَا بِالْعَقَاقِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ الْعِلَاجِ الْحَدِيثَةِ، وَقَدْ يُعَالَجُ بَعْضُهَا بِالْأَوْهَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْخَفِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْجِنِّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَوْعُ اتِّصَالٍ بِالنَّاسِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلصَّرْعِ، فَتَكُونُ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ،
وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجِنَّ أَجْسَامٌ حَيَّةٌ خَفِيَّةٌ لَا تُرَى، وَقَدْ قُلْنَا فِي (الْمَنَارِ) غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَجْسَامَ الْحَيَّةَ الْخَفِيَّةَ الَّتِي عُرِفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِوَاسِطَةِ
قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلُ لِلرِّبَا مُسَبَّبٌ عَنِ اسْتِحْلَالِهِمْ لَهُ وَجَعْلِهِ كَالْبَيْعِ وَمَا هُوَ كَالْبَيْعِ ; فَإِنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ عَنْ دِينِهِمْ يَزِيدُونَهَا عِنْدَ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ ; لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَكُلُّ مَا فِيهِ مُعَاوَضَةٌ صَحِيحَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَهِيَ بَيْعٌ حَلَالٌ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا صَاحِبُ الْمَالِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ فِي الْأَجَلِ، وَهِيَ لَا مُعَاوَضَةَ فِيهَا وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فَهِيَ ظُلْمٌ، وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِكَوْنِهِ ظُلْمًا. هَذَا مَا يَظْهَرُ لَنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَتَرَى مُفَسِّرِينَا قَدْ بَنَوْا كَلَامَهُمْ فِيهَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الْبَيْعِ مِثْلَ الرِّبَا إِذْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ الرِّبَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ التَّعَبُّدِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا، فَيَجِبُ أَنْ يُطَاعَ.
وَيَظْهَرُ مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، قَالَ: " هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبْحِ حَالِهِمْ، وَوَحْشَةِ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَسُوءِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ وَيَفْتَرُونَ، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مِثْلُ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ، يَقُولُ الْغَرِيمُ الْحَقُّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: هَذَا رِبًا لَا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالَا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْمَالِ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قِيلِهِمْ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ -
ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا مَا نَصَّهُ - يَعْنِي - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -: وَأَحَلَّ اللهُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَحَرَّمَ الرِّبَا، يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يُزَادُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبِ زِيَادَتِهِ غَرِيمَهُ فِي الْأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ دِينَهُ عَلَيْهِ. يَقُولُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَيْسَتِ الزِّيَادَتَانِ اللَّتَانِ إِحْدَاهُمَا مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ وَالْأُخْرَى مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ سَوَاءٌ ; وَذَلِكَ أَنِّي حَرَّمْتُ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ، وَأَحْلَلْتُ الْأُخْرَى مِنْهُمَا وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ الَّتِي يَبِيعُهَا فَيَسْتَفْضِلُ فَضْلَهَا، فَقَالَ اللهُ
أَقُولُ: أَمَّا مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الرِّبَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ رِبَا النَّسِيئَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَمَّا قَوْلُهُ:
إِنَّهُمْ كَانَ يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا رِبًا مُحَرَّمٌ، وَكَانُوا يُجِيبُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ، إِذِ الْحِكَايَةُ عَنِ الْأَحْوَالِ بِالْأَقْوَالِ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَيَتَوَقَّفُ جَعْلُ الْقَوْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى إِثْبَاتِ اعْتِقَادِ الْعَرَبِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ عَلَى جَعْلِ الْآيَةِ خَاصَّةً بِالْيَهُودِ ; فَإِنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ مُرَابَاةً وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْعَرَبِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [٣: ٧٥] وَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا أَكْلُ أَمْوَالِ إِخْوَتِنَا الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، بَلِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ لِغَيْرِهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي - ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ كَوْنَ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ كَمَا بَيَّنَ هُوَ، وَلَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَمَا سَنُبَيِّنُ ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا اللهُ - تَعَالَى -، فَمَا حَرَّمَ اللهُ - تَعَالَى - شَيْئًا إِلَّا لِأَنَّهُ ضَارٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَحَلَّ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ نَافِعٌ فِي نَفْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْوَعْظِ، وَكَوْنِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَقْرُونَةً بِالْمَوَاعِظِ فِي تَفْسِيرِ (آيَةِ ٢٣٢) أَيْ فَمَنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ اللهِ - تَعَالَى - لِلرِّبَا وَنَهْيُهُ عَنْهُ فَتَرَكَ الرِّبَا فَوْرًا بِلَا تَرَاخٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، انْتِهَاءً
عَمَّا نَهَى الله عَنْهُ فَلَهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الرِّبَا لَا يُكَلَّفُ رَدَّهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، بَلْ يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَلَّا يُضَاعِفَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبَلَاغِ شَيْئًا وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ يَحْكُمُ فِيهِ بِعَدْلِهِ، وَمِنَ الْعَدْلِ أَلَّا يُؤَاخَذَ بِمَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبُلُوغِهِ الْمَوْعِظَةُ مِنْ رَبِّهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا سَلَفَ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَتَوْمِئُ إِلَى أَنَّ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنْ قَبْلِ النَّهْيِ إِلَى أَرْبَابِهِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ مِنْ أَفْضَلِ الْعَزَائِمِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ إِبَاحَةِ مَا سَلَفَ بِاللَّامِ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَفَّارَةِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ [٥: ٩٥] وَأَنَّهُ عَقَّبَ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِإِبْهَامِ الْجَزَاءِ وَجَعَلَهُ إِلَى اللهِ، وَالْمَعْهُودُ فِي أُسْلُوبِهِ أَنْ يَصِلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ مُحَرَّمَاتِ النِّسَاءِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [٤: ٢٣] أَبَاحَ أَكْلَ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَأَبْهَمَ جَزَاءَ آكِلِهِ، لَعَلَّهُ يَغَصُّ بِأَكْلِ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَيْئًا بَعْدَ النَّهْيِ فَقَالَ: وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَيْ وَمَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ يَأْكُلُ مِنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ بَعْدَ
الْمُكْثِ، أَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: مَا كُلُّ مَا يُسَمَّى إِيمَانًا يَعْصِمُ صَاحِبَهُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ ; الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ: إِيمَانٌ لَا يَعْدُو التَّسْلِيمَ الْإِجْمَالِيَّ بِالدِّينِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ الْمَرْءُ أَوْ نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمُجَارَاةَ أَهْلِهِ وَلَوْ بِعَدَمِ مُعَارَضَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِيمَانٌ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ بِالدِّينِ عَنْ يَقِينٍ بِالْإِيمَانِ، مُتَمَكِّنَةٍ فِي الْعَقْلِ بِالْبُرْهَانِ، مُؤَثِّرَةٍ فِي النَّفْسِ بِمُقْتَضَى الْإِذْعَانِ، حَاكِمَةٍ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُصَرِّفَةِ لِلْجَوَارِحِ فِي الْأَعْمَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ صَاحِبُهَا خَاضِعًا لِسُلْطَانِهَا فِي كُلِّ حَالٍ، إِلَّا مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْإِنْسَانُ مِنْ غَلَبَةِ جَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَلَيْسَ الرِّبَا مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُنْسَى أَوْ تَغْلِبُ النَّفْسَ عَلَيْهَا خِفَّةُ الْجَهَالَةِ وَالطَّيْشِ، كَالْحِدَّةِ وَثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ يَقَعُ صَاحِبُهَا مِنْهَا فِي غَمْرَةِ النِّسْيَانِ كَالْغَيْبَةِ وَالنَّظْرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْصِمُ صَاحِبَهُ بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي سُخْطِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِقْدَامِ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ عَمْدًا ; إِيثَارًا لِحُبِّ الْمَالِ وَاللَّذَّةِ عَلَى دِينِ اللهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ صُورِيٌّ فَقَطْ، فَلَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَقْوَالِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَإِنْ جَهِلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ حَتَّى جَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَدْمِ الدِّينِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ السَّعَادَةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَتَبَجَّحُونَ بِارْتِكَابِ الْمُوبِقَاتِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ مَا حُرِّمَ كَمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ كُبَرَائِنَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أُنْكِرُ أَنَّنِي آكُلُ الرِّبَا وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ، أَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَقَدْ فَاتَهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَعِيدِ وَبِأَنَّهُ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَهَلْ يَعْتَرِفُ بِالْمَلْزُومِ أَمْ يُنْكِرُ الْوَعِيدَ الْمَنْصُوصَ فَيُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ؟ نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.
بُيُوتُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ " إِنِ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَعَاقِبَتُهُ تَصِيرُ إِلَى قَلٍّ " وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ هَذَا الْمَحْقَ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُبْطِلَ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ نَفْعُهُ، فَلَا يَبْقَى لِأَهْلِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَحْقِ مَحْقَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ ; فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا يُلَاقِي الْمُرَابِي مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ وَمَا يُصَابُ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَغَيْرِهَا، أَمَّا عَدَاوَةُ النَّاسِ فَمِنْ حَيْثُ هُوَ عَدُوُّ الْمُحْتَاجِينَ وَبَغِيضُ الْمَعُوزِينَ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إِلَى مَفَاسِدَ وَمَضَرَّاتٍ، وَاعْتِدَاءٍ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأُمَمِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الرِّبَا إِذْ قَامَ الْفُقَرَاءُ فِيهَا يُعَادُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيَتَأَلَّبُ الْعُمَّالُ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَعْقَدَ الْمَسَائِلِ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا يُصَابُ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ فَهُوَ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ رَاقَبَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ وَتَلَا أَخْبَارَهُمْ. وَلَا أَذْكُرُ عَنْهُ مِثَالًا عَلَى ذَلِكَ، وَمَا الْأَمْثَالُ فِيهِ بِقَلِيلَةٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْغَلُهُ الْمَالُ عَنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يُقَصِّرَ فِي حُقِّ نَفْسِهِ وَحُقُوقِهِمْ تَقْصِيرًا يُفْضِي إِلَى الْخُسْرِ أَوِ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ لِذَلِكَ الصَّعْبِ وَيَقْتَحِمُ الْخَطَرَ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.
وَأَقُولُ: الْمَحْقُ فِي اللُّغَةِ: مَحْوُ الشَّيْءِ وَالذَّهَابُ بِهِ، كَمُحَاقِ الْقَمَرِ، وَكُلُّ مَا لَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ عَمَلَهُ فَقَدْ مَحَقَهُ - كَمَا فِي الْأَسَاسِ - فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَحْقِ الرِّبَا مَحْوُ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ مِنَ اللَّذَّةِ وَبَسْطَةِ الْعَيْشِ وَالْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ، وَزِيَادَةُ الرِّبَا تَذْهَبُ بِذَلِكَ لِاشْتِغَالِ الْمُرَابِي غَالِبًا عَنِ اللَّذَّةِ وَخَفْضِ الْمَعِيشَةِ بِوَلَهِهِ فِي مَالِهِ وَلِمَقْتِ النَّاسِ إِيَّاهُ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَهُوَ لَمْ يُحْسِنِ التَّصَرُّفَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى ثَمْرَةِ الْمَالِ، وَأَمَّا إِرْبَاءُ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةُ فَائِدَتِهَا وَثَمَرَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَأَجْرِهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الصَّدَقَةِ وَمُضَاعَفَةِ اللهِ إِيَّاهَا، فَمَعْنَى يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ أَنَّ سُنَّتَهُ قَضَتْ فِي عَابِدِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَرْحَمُ مَعُوزًا وَلَا يُنْظِرُ مُعْسِرًا إِلَّا بِمَالٍ يَأْخُذُهُ رِبًا بِدُونِ مُقَابِلٍ أَنْ يَكُونَ مَحْرُومًا مِنَ الثَّمَرَةِ الشَّرِيفَةِ لِلثَّرْوَةِ، وَهِيَ كَوْنُ صَاحِبِهَا نَاعِمًا عَزِيزًا شَرِيفًا عِنْدَ النَّاسِ. لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لِخَيْرِهِمْ وَالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى زَمَنِهِمْ، كَمَا يَكُونُ مَحْرُومًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابِ الْمَالِ، فَهُوَ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهِ هَذَا
الضَّرْبَ مِنَ الِانْتِفَاعِ كَمَنْ مُحِقَ مَالُهُ وَهَلَكَ، وَقَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْبَرَ مِنْ مَالِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فَلَا نُعِيدُهُ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ
قَالَ تَعَالَى: وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ قَالُوا: لَا يُحِبُّ لَا يَرْضَى، وَالْكُفَّارُ: الْمُسْتَحِلُّ لِلرِّبَا، وَالْأَثِيمُ: الْمُقِيمُ عَلَى الْإِثْمِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُبَّ اللهِ لِلْعَبْدِ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ يُعْرَفُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ إِتْمَامَ حُكْمِ اللهِ فِي صَلَاحِ عِبَادِهِ، وَنَفْيُ هَذَا الْحُبِّ يُعْرَفُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَالْكُفَّارُ هُنَا: هُوَ الْمُتَمَادِي عَلَى كُفْرِ إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ إِذْ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِهِ وَلَا يُوَاسِي بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَالَ آلَةً لِجَذْبِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِلَى يَدِهِ فَافْتَرَصَ إِعْسَارَهُمْ لِاسْتِغْلَالِ اضْطِرَارِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ صَدَّقُوا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَغَيْرِهَا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَيِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَشَأْنُ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِينَ، وَالرَّحْمَةُ بِالْبَائِسِينَ، وَإِنْظَارُ الْمُعْسِرِينَ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرِنَ الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ الْمَقْرُونَ بِالْإِذْعَانِ يَتْبَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ حَتْمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي تُذَكِّرُ الْمُؤْمِنَ بِاللهِ - تَعَالَى - فَتَزِيدُ فِي إِيمَانِهِ وَحُبِّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لَهُ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ تَرْكُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالرِّبَا أَسْهَلُ.
وَذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا أَعْظَمَ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، فَمَنْ أَتَى بِهِمَا كَامِلَتَيْنِ سَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا الْجَزَاءِ قَرِيبًا فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ بِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِآكِلِ الرِّبَا - كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ؛ لَكَفَّ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ كَفَّارٌ أَثِيمٌ - وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَذَكَّرَهُمْ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لِمَنْ كَانُوا يُرَابُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ غُرَمَائِهِمْ، ثُمَّ وَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ تَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحْكَامِ فَذَرُوا بَقَايَا الرِّبَا، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُتَّصِفًا بِهَذَا الشَّيْءِ فَافْعَلْ كَذَا، وَيَذْكُرُ أَمْرًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ. أَقُولُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا بَعْدَ نَهْيِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْهُ وَتَوَعُّدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْإِيمَانِ التَّامِّ الشَّامِلِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا كَمَا أُمِرْتُمْ فَاعْلَمُوا وَاسْتَيْقِنُوا بِأَنَّكُمْ عَلَى حَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِذْ نَبَذْتُمْ مَا جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ. فَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا كَقَوْلِهِ: " فَاعْلَمُوا " وَزْنًا وَمَعْنًى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ (فَآذِنُوا) بِمَدِّ الْأَلْفِ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، أَيْ فَأَعْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ - أَيْ لِيُعْلِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا - أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِلْحُكْمِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ عَدَمَ الْخُضُوعِ لِلْأَمْرِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ خَارِجُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُحَارِبُونَ لَهُمَا.
فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَرْبَ اللهِ لَهُمْ بِغَضَبِهِ وَانْتِقَامِهِ. قَالَ: وَنَحْنُ إِنْ لَمْ نَرَ أَثَرَ هَذَا فِي الْمَاضِينَ فَإِنَّنَا نَرَاهُ فِي الْحَاضِرِينَ مِمَّنْ أَصْبَحُوا بَعْدَ الْغِنَى يَتَكَفَّفُونَ، وَمَنْ بَاتُوا وَالْمَسْأَلَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ (مُنَاصَبَةُ الْعُمَّالِ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ) تُهَدِّدُهُمْ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَأَمَّا الْحَرْبُ مِنْ رَسُولِهِ لَهُمْ فَهِيَ مُقَاوَمَتُهُمْ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَعْدَاءً لَهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ أَحَدٌ يُقِيمُ شَرْعَهُ وَإِنْ تُبْتُمْ وَرَجَعْتُمْ عَنِ الرِّبَا امْتِثَالًا وَخُضُوعًا فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ غُرَمَاءَكُمْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِنَقْصِ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، بَلْ تَأْخُذُونَهُ كَامِلًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَجُلٍ مَنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَفَا فِي الرِّبَا إِلَى أُنَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ مَنْ بَنِي عَمْرٍو، وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَجَاءُ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا ; فَأَنْزَلَ اللهُ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ فَضْلٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ اسْتَعْمَلَ عِتَابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبِي بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عِتَابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَكَتَبَ عِتَابُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتِ الْآيَتَانِ فَكَتَبَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عِتَابٍ، وَقَالَ:
وَفِي الْآيَةِ أَنَّ الرِّبَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَلَكِنْ بَعْضُ مَا يَعُدُّهُ الْفُقَهَاءُ مِنْهُ لَا ظُلْمَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ لِلْآخِذِ وَالْمُعْطِي.
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ أَيْ وَإِنْ وُجِدَ غَرِيمٌ مُعْسِرٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ فَأَنْظِرُوهُ وَأَمْهِلُوهُ إِلَى وَقْتٍ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَنَافِعٌ (مُيْسَرَةٍ) - بِضَمِّ السِّينِ - وَهِيَ لُغَةٌ كَالْفَتْحِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ الْبَاقُونَ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ قَالُوا لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ فِي الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ: نَحْنُ الْيَوْمَ أَهْلُ عُسْرَةٍ فَأَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الثَّمْرَةُ فَأَبَوْا ; فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قِصَّتِهِمْ كَالْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَصْلُ تَصَدَّقُوا تَتَصَدَّقُوا قَرَأَ عَاصِمٌ - بِتَخْفِيفِ الصَّادِ - بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا لِلْإِدْغَامِ ; أَيْ: وَتَصَدُّقُكُمْ عَلَى الْمُعْسِرِ بِوَضْعِ الدَّيْنِ عَنْهُ وَإِبْرَائِهِ مِنْهُ - خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْظَارِهِ، فَهُوَ نَدْبٌ إِلَى الصَّدَقَةِ وَالسَّمَاحِ لِلْمَدِينِ الْمُعْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ النَّاسِ وَبِرِّ
بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْأُمَّةِ ; وَلِذَلِكَ نَبَّهَ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ فِي شَيْءٍ؛ لَا يَعْمَلُهُ، وَمَنْ عَلِمَ حَتْمًا ; أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ عَمِلْتُمْ بِهِ وَعَامَلْتُمْ إِخْوَانَكُمْ بِالْمُسَامَحَةِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَهْدِيكُمْ إِلَى خَيْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَجْعَلُكُمْ مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي دَيْنِ الرِّبَا خَاصَّةً. وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْوَاجِبَ يَفْضُلُهُ شَيْءٌ مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اتِّفَاقًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّصَدُّقِ هُنَا الْإِنْظَارُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَهَذَا الْإِنْظَارُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ.
ثُمَّ خَتَمَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - آيَاتِ الرِّبَا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذَا وَعَاهَا السَّمَاحَ بِالْمَالِ، بَلْ وَبِالنَّفْسِ رَجَاءَ أَنْ يَلْقَى اللهَ - تَعَالَى - عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: (تَرْجِعُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَنْ رَجَعَ. وَالْبَاقُونَ: تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مِنْ أَرْجَعَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ; أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ مِنْ غَفَلَاتِكُمْ وَشَوَاغِلِ الْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تَشْغَلُكُمْ عَنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ فَتَصِيرُونَ إِلَى اللهِ، أَيْ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ لَا سُلْطَانَ إِلَّا سُلْطَانُهُ وَلَا مُلْكَ إِلَّا لَهُ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ مَبْسُوطًا: أَمَّا حَقِيقَةُ الرُّجُوعِ
عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سُلْطَانِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ تَمَامُ حِكْمَتِهِ - التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي تَبْطُلُ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاغِلُ، وَتَتَلَاشَى هَذِهِ الصَّوَارِفُ ; حَتَّى لَا يَشْغَلَ الْإِنْسَانَ فِيهِ شَيْءٌ مَا عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْعِبَادِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ تُجَازَى عَلَى مَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً وَافِيًا وَهَمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَدْ يُزَادُ الْمُحْسِنُونَ مِنْهُمْ فَيُعْطَوْنَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. قَالَ فِي الْإِتْقَانِ: وَالْمُرَادُ بِهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ: " مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا " وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ فَقَالَ: " إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنَ نُزُولًا آيَةُ الرِّبَا " وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ الْآيَةَ. وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا. ثُمَّ ذُكِرَ فِي الْإِتْقَانِ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَاشَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ، وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الرِّبَا وَآيَةُ الدَّيْنِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ فَقَطْ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا مُنَافَاةَ عِنْدِي بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا وَآيَةِ الدَّيْنِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَتَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ عَنْ بَعْضِ مَا نَزَلَ بِأَنَّهُ آخِرُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ. اهـ. أَيْ إِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقٍ يَقْتَضِيهِ. وَقِيلَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَفِي مُدَّةِ بَقَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ
بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلُوهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَرْتِيبِ الْآيَاتِ.
(فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا مِثَالُهُ: يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا وَتَرَبَّوْا تَرْبِيَةً عَصْرِيَّةً وَأَخَذُوا الشَّهَادَاتِ مِنَ الْمَدَارِسِ، بَلْ وَمَنْ هُمْ أَكْبَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُنُوا بِالْفَقْرِ، وَذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ إِلَى أَيْدِي الْأَجَانِبِ وَفَقَدُوا الثَّرْوَةَ وَالْقُوَّةَ بِسَبَبِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، فَإِنَّهُمْ لِاحْتِيَاجِهِمْ لِلْأَمْوَالِ يَأْخُذُونَهَا بِالرِّبَا مِنَ الْأَجَانِبِ، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا مِنْهُمْ لَا يُعْطِي بِالرِّبَا. فَمَالُ الْفَقِيرِ يَذْهَبُ وَمَالُ الْغَنِيِّ لَا يَنْمُو، وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَهَمَّ الْمَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ مَا جَنَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا دِينُهُمْ. (قَالَ) وَهَذِهِ أَوْهَامٌ لَمْ تُقَلْ عَنِ اخْتِبَارٍ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُحَكِّمُونَ الدِّينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ وَلَوْ حَكَّمُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا اسْتَدَانُوا بِالرِّبَا وَجَعَلُوا أَمْوَالَهُمْ غَنَائِمَ لِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْلَ الرِّبَا لِأَجْلِ الدِّينِ فَهَلْ يَقُولُ الْمُشْتَبِهُونَ: إِنَّهُمْ تَرَكُوا الصِّنَاعَةَ وَالتِّجَارَةَ وَالزِّرَاعَةَ لِأَجْلِ الدِّينِ؟ أَلَمْ تَسْبِقْنَا جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى إِتْقَانِ ذَلِكَ؟ فَلِمَاذَا لَمْ نُتْقِنْ سَائِرَ أَعْمَالِ الْكَسْبِ لِنُعَوِّضَ مِنْهَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا فَاتَنَا مِنْ كَسْبِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا؟ وَدِينُنَا يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَسْبِقَ الْأُمَمَ فِي إِتْقَانِ كُلِّ شَيْءٍ.
الْحُقُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَغْلَبِ قَدْ نَبَذُوا الدِّينَ ظِهْرِيًّا، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا تَقَالِيدُ وَعَادَاتٌ أَخَذُوهَا بِالْوِرَاثَةِ عَنْ آبَائِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ الدِّينَ عَائِقٌ لَهُمْ عَنِ التَّرَقِّي فَقَدْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ وَأَضَافَ إِلَى جَهَالَاتِهِمْ جَهَالَةً شَرًّا مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا مِنْ عَدَمِ الْبَصِيرَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حَالَةِ الْأُمَّةِ مِنْ بِدَايَتِهَا إِلَى مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَرَفَتِ الْأُمَّةُ نَفْسَهَا لَعَرَفَتْ مَاضِيَهَا كَمَا تَعْرِفُ حَاضِرَهَا، وَلَكِنَّ جَهْلَهَا بِنَفْسِهَا وَعَدَمَ قِرَاءَةِ مَاضِيهَا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهَا فِيمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ. فَهِيَ لَا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُخِذَتْ وَلَا كَيْفَ سَقَطَتْ بَعْدَ مَا ارْتَفَعَتْ. أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّهَا ارْتَفَعَتْ بِالدِّينِ وَسَقَطَتْ بِتَرْكِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِالسَّبَبِ، وَأَفْضَى بِهَا الْجَهْلُ إِلَى أَنْ صَارَتْ تَجْعَلُ عِلَّةَ الرُّقِيِّ وَالِارْتِفَاعِ، هِيَ عَيْنُ الْعِلَّةِ لِلسُّقُوطِ وَالِانْحِطَاطِ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدَانَةُ أَفْرَادِنَا وَحُكُومَاتِنَا مِنَ الْأَجَانِبِ بِالرِّبَا ; فَإِنَّهَا أَضَاعَتْ ثَرْوَتَنَا وَمُلْكَنَا، وَكَانَ الدِّينُ -
لَوِ اتَّبَعْنَاهُ - عَاصِمًا مِنْهَا، فَنَحْنُ نَنْسَى مِثْلَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ الْكُبْرَى لِلدِّينِ فِي الْمَوْضُوعِ نَفْسَهُ، وَنَذْكُرُ مِنْ سَيِّئَاتِ الدِّينِ أَنَّهُ حَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ لَمْ يُحَرِّمْهُ لَجَازَ أَنْ يَكْسَبَ بَعْضُ أَغْنِيَائِنَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكْسِبُونَ الْآنَ. وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: إِنَّ أَثَرَ الرِّبَا فِينَا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُزِيلَهُ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلَوْ أَنَّنَا حَافَظْنَا عَلَى أَمْرِ الدِّينِ فِيهِ لَكُنَّا بَقَيْنَا لِأَنْفُسِنَا، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: (بَقَيْنَا لِأَنْفُسِنَا).
وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ أَجَابَ عَنْ دَعْوَى مُمَاثَلَةِ الْبَيْعِ لِلرِّبَا بِجَوَابٍ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ أَجْوِبَةِ الْخُطَبَاءِ الْمُؤَثِّرِينَ، وَلَا عَلَى طَرِيقَةِ أَقْيِسَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى سُنَّةِ هِدَايَةِ
الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَدْ جَعَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ قَبِيلِ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، أَيْ إِنَّكُمْ تَقِيسُونَ فِي الدِّينِ وَاللهُ - تَعَالَى - لَا يُجِيزُ هَذَا الْقِيَاسَ، وَلَكِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْقُرْآنِ مُقَارَعَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ يَفْهَمُونَ مَعْنَى الْحُجَّةِ فِي رَدِّ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ الْقَوْلِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسَلَّمَةِ مَا هُوَ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ لَا يَفْهَمُونَ الْآيَاتِ إِلَّا بِهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا لِتَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى آرَائِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ فِيهِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ أَنَّ زَعْمَهُمْ مُسَاوَاةَ الرِّبَا لِلْبَيْعِ فِي مَصْلَحَةِ التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أُبِيحَ لِلنَّاسِ أَنْ يَكُونُوا فِي تَعَامُلِهِمْ كَالذِّئَابِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنِ افْتِرَاسِ الْآخَرِ وَأَكْلِهِ، وَلَكِنْ هَاهُنَا إِلَهٌ رَحِيمٌ يَضَعُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُرَبِّيهِمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الرِّبَا الَّذِي هُوَ اسْتِغْلَالُ ضَرُورَةِ إِخْوَانِهِمْ، وَأَحَلَّ الْبَيْعَ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ الرِّبْحُ فِيهِ بِأَكْلِ
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ طَرِيقَ تَعَامُلِ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ أَنْ يَكُونَ اسْتِفَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ بِعَمَلٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقًّا عَلَى آخَرَ بِغَيْرِ عَمَلٍ ; لِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا مُقَابِلَ لَهُ، وَبِهَذِهِ السُّنَّةِ أَحَلَّ الْبَيْعَ لِأَنَّ فِيهِ عِوَضًا يُقَابِلُ عِوَضًا، وَحَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ لَا مُقَابِلَ لَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ قِيَاسَكُمْ فَاسِدٌ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا يَقْتَضِي حِلَّهُ، وَفِي الرِّبَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ يُلَاحَظُ فِيهِ دَائِمًا انْتِفَاعُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ انْتِفَاعًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّ مَنْ يَشْتَرِي قَمْحًا مَثَلًا فَإِنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِيَأْكُلَهُ أَوْ لِيَبْذُرَهُ أَوْ لِيَبِيعَهُ وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِهِ انْتِفَاعًا حَقِيقِيًّا (وَأَقُولُ: وَالثَّمَنُ فِي هَذَا مُقَابِلٌ لِلْمَبِيعِ مُقَابَلَةً مُرْضِيَةً لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِمَا) وَأَمَّا الرِّبَا وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ وَالْمِثْلِيَّاتِ وَأَخْذِهَا مُضَاعَفَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ زِيَادَةُ رَأْسِ الْمَالِ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنْ عَيْنٍ وَلَا عَمَلٍ (أَقُولُ: وَهِيَ لَا تُعْطَى بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، بَلْ بِالْكُرْهِ وَالِاضْطِرَارِ).
وَثَمَّ وَجْهٌ ثَالِثٌ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْ دُونِ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَيْنِ إِنَّمَا وُضِعَا
لِيَكُونَا مِيزَانًا لِتَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ. فَإِذَا تَحَوَّلَ هَذَا وَصَارَ النَّقْدُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِغْلَالِ فَإِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِزَاعِ الثَّرْوَةِ مِنْ أَيْدِي أَكْثَرِ النَّاسِ وَحَصْرِهَا فِي أَيْدِي الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ قَاصِرَةً عَلَى اسْتِغْلَالِ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَيَنْمُو الْمَالُ وَيَرْبُو عِنْدَهُمْ وَيُخَزَّنُ فِي الصَّنَادِيقِ وَالْبُيُوتِ الْمَالِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبُنُوكِ، وَيُبْخَسُ الْعَامِلُونَ قِيَمَ أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ مُعْظَمُهُ مِنَ الْمَالِ نَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَهْلَكُ الْفُقَرَاءُ. وَلَوْ وَقَفَ النَّاسُ فِي اسْتِغْلَالِ الْمَالِ عِنْدَ حَدِّ الضَّرُورَةِ لَمَا كَانَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَضَرَّاتِ، وَلَكِنَّ أَهْوَاءَ النَّاسِ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ تَقِفُ عِنْدَهُ بِنَفْسِهَا (أَيْ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ الْوَازِعِ الَّذِي يُوقِفُهَا بِالْإِقْنَاعِ أَوِ الْإِلْزَامِ) لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا، وَهُوَ لَا يُشَرِّعُ لِلنَّاسِ الْأَحْكَامَ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ كَأَصْحَابِ الْقَوَانِينِ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ، وَأَمَّا وَاضِعُو الْقَوَانِينِ فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ لِلنَّاسِ الْأَحْكَامَ بِحَسَبِ حَالِهِمُ الْحَاضِرَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مُوَافِقَةً لِمَا يُسَمُّونَهُ الرَّأْيَ الْعَامَّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَوَاقِبِهَا، وَلَا فِي أَثَرِهَا فِي تَرْبِيَةِ الْفَضَائِلِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَإِنَّنَا نَرَى الْبِلَادَ الَّتِي أَحَلَّتْ قَوَانِينُهَا الرِّبَا قَدْ عَفَتْ فِيهَا رُسُومُ الدِّينِ، وَقَلَّ فِيهَا التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ، وَحَلَّتِ الْقَسْوَةُ مَحَلَّ الرَّحْمَةِ حَتَّى إِنِ الْفَقِيرَ فِيهَا يَمُوتُ جُوعًا وَلَا يَجِدُ مَنْ يَجُودُ عَلَيْهِ بِمَا يَسُدُّ رَمَقَهُ، فَمُنِيَتْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِمَصَائِبَ أَعْظَمُهَا مَا يُسَمُّونَهُ الْمَسْأَلَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُأَلِّبُ الْفَعَلَةَ وَالْعُمَّالَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ وَاعْتِصَابِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَرْكِ الْعَمَلِ وَتَعْطِيلِ الْمَعَامِلِ وَالْمَصَانِعِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهَا لَا يُقَدِّرُونَ عَمَلَهُمْ قَدْرَهُ، بَلْ يُعْطُونَهُمْ أَقَلَّ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ انْقِلَابًا كَبِيرًا فِي الْعَالَمِ ; وَلِذَلِكَ
قَالَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى -: وَهَذِهِ بِلَادُنَا قَدْ ضَعُفَ فِيهَا التَّعَاطُفُ وَالتَّرَاحُمُ وَقَلَّ
الْإِسْعَادُ وَالتَّعَاوُنُ مُذْ فَشَا فِيهَا الرِّبَا، وَإِنَّنِي لَأَعِي وَأُدْرِكُ مَا مَرَّ بِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كُنْتُ أَرَى رَجُلًا يَطْلُبُ مِنَ الْآخَرِ قَرْضًا فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْمَالِ إِلَى بَيْتِهِ وَيُوصِدُ الْبَابَ عَلَيْهِ مَعَهُ، وَيُعْطِيهِ مَا طَلَبَ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَنَّهُ لَا يُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِهِمْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ (قَالَ) : رَأَيْتُ هَذَا مِنْ كَثِيرِينَ فِي بِلَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرَأَيْتُ مِنْ وَفَاءِ مَنْ يَقْتَرِضُ أَنَّهُ يُغْنِي الْمُقْرِضَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، بَلِ الْمُحَاكَمَةِ. ثُمَّ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً رَأَيْتُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ لَا يُعْطِي وَلَدَهُ قَرْضًا طَلَبَهُ إِلَّا بِسَنَدٍ وَشُهُودٍ. فَسَأَلَتْهُ: أَمَا أَنْتَ الَّذِي كُنْتَ تُعْطِي الْغُرَبَاءَ مَا يَطْلُبُونَ وَالْبَابُ مُقْفَلٌ، وَتُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَوْ تُحَلِّفُهُمْ أَلَّا يَذْكُرُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا بَالُكَ تَسْتَوْثِقُ مِنْ وَلَدِكَ وَلَا تَأْمَنُهُ عَلَى مَالِكَ إِلَّا بِسَنَدٍ وَشُهُودٍ وَمَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ؟ قَالَ: لَا أَعْرِفُ سَبَبَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّنِي لَا أَجِدُ الثِّقَةَ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُهَا فِي نَفْسِي. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ هَذَا الَّذِي سَأَلَ مِنْهُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ وَالِدُهُ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَمَا قَالَهُ فِي مَضَرَّةِ اسْتِغْلَالِ النَّقْدِ - مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامٍ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ وَمُطَبَّقٌ عَلَى حَالِ الْعَصْرِ. وَإِنَّنِي أُورِدُ عِبَارَةَ الْغَزَالِيِّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ (الْإِحْيَاءِ) لِمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَوَائِدِ، قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:
" مِنْ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - خَلْقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبِهِمَا قِوَامُ الدُّنْيَا، وَهُمَا حَجَرَانِ لَا مَنْفَعَةَ فِي أَعْيَانِهِمَا. وَلَكِنْ يَضْطَرُّ الْخَلْقُ إِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَعْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي مَطْعَمِهِ وَمَلْبَسِهِ وَسَائِرِ حَاجَاتِهِ، وَقَدْ يَعْجَزُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، كَمَنْ يَمْلِكُ الزَّعْفَرَانَ مَثَلًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى جَمَلٍ يَرْكَبُهُ وَمَنْ يَمْلِكُ الْجَمَلَ رُبَّمَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى الزَّعْفَرَانِ، فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا بُدَّ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ مِنْ تَقْدِيرٍ، إِذْ لَا يَبْذُلُ صَاحِبُ الْجَمَلِ جَمَلَهُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَالْجَمَلِ حَتَّى يُقَالَ: يُعْطَى مِنْهُ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ أَوِ الصُّورَةِ، وَكَذَا مَنْ يَشْتَرِي دَارًا بِثِيَابٍ أَوْ عَبْدًا بِخُفٍّ أَوْ دَقِيقًا بِحِمَارٍ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَنَاسُبَ فِيهَا، فَلَا يُدْرَى أَنَّ الْجَمَلَ كَمْ يُسَاوِي بِالزَّعْفَرَانِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُعَامَلَاتُ جِدًّا. فَافْتَقَرَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَافِرَةُ إِلَى مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمٍ عَدْلٍ فَيَعْرِفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُتْبَتَهُ
وَمَنْزِلَتَهُ حَتَّى إِذَا تَقَرَّرَتِ الْمَنَازِلُ وَتَرَتَّبَتِ الرُّتَبُ،
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٩: ٣٤] وَكُلُّ مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ آنِيَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةً فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ كَنَزَ ; لِأَنَّ مِثَالَ هَذَا مِثَالُ مَنِ اسْتَسْخَرَ حَاكِمَ الْبَلَدِ فِي الْحِيَاكَةِ وَالْمُكْسِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا أَخِسَّاءُ النَّاسِ وَالْحَبْسُ أَهْوَنُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنِ الْخَزَفَ وَالْحَدِيدَ وَالرَّصَاصَ وَالنُّحَاسَ تَنُوبُ مَنَابَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حِفْظِ الْمَائِعَاتِ عَنْ أَنْ تَتَبَدَّدَ وَإِنَّمَا الْأَوَانِي لِحِفْظِ الْمَائِعَاتِ، وَلَا يَكْفِي الْخَزَفُ وَالْحَدِيدُ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ النُّقُودُ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ
وَكُلُّ مَنْ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الرِّبَا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ وَظَلَمَ ; لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِغَيْرِهِمَا لَا لِنَفْسِهِمَا، إِذْ لَا غَرَضَ فِي عَيْنِهِمَا فَإِذَا اتَّجَرَ فِي عَيْنِهِمَا فَقَدِ اتَّخَذَهُمَا مَقْصُودًا عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ ; إِذْ طَلَبُ النَّقْدِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ظُلْمٌ، وَمَنْ مَعَهُ ثَوْبٌ وَلَا نَقْدَ مَعَهُ فَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ طَعَامًا وَدَابَّةً، إِذْ لَا يُبَاعُ الطَّعَامُ وَالدَّابَّةُ بِالثَّوْبِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي بَيْعِهِ بِنَقْدٍ آخَرَ لِيَحْصُلَ النَّقْدُ فَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ فَإِنَّهُمَا وَسِيلَتَانِ إِلَى الْغَيْرِ لَا غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَمَوْقِعُهُمَا فِي الْأَمْوَالِ كَمَوْقِعِ الْحَرْفِ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّ الْحَرْفَ هُوَ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى فِي غَيْرِهِ، وَكَمَوْقِعِ الْمِرْآةِ مِنَ الْأَلْوَانِ، فَأَمَّا مَنْ مَعَهُ نَقْدٌ فَلَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّقْدِ فَيَتَّخِذَ التَّعَامُلَ عَلَى النَّقْدِ غَايَةَ عَمَلِهِ لَبَقِيَ النَّقْدُ مُتَقَيِّدًا عِنْدَهُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ الْمَكْنُوزُ. وَتَقْيِيدُ الْحَاكِمِ وَالْبَرِيدِ الْمُوصِلِ إِلَى الْغَيْرِ ظُلْمٌ، كَمَا أَنَّ حَبْسَهُ ظُلْمٌ، فَلَا مَعْنَى لِبَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ إِلَّا اتِّخَاذُ النَّقْدِ مَقْصُودًا لِلِادِّخَارِ وَهُوَ ظُلْمٌ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَيَلِيهِ حُكْمُ تَحْرِيمِ أَنْوَاعِ الرِّبَا كُلِّهَا.
مَنْ تَدَبَّرَ مَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ عَلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا هُوَ عَيْنُ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُوَافِقُ لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ الْمُنْطَبِقُ عَلَى قَوَاعِدِ الْفَلْسَفَةِ، وَأَنَّ إِبَاحَتَهُ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ لِلْأَخْلَاقِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، زَادَتْ فِي أَطْمَاعِ النَّاسِ وَجَعَلَتْهُمْ مَادِّيِّينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْمَالِ وَكَادَتْ تُحْصَرُ ثَرْوَةُ الْبَشَرِ فِي أَفْرَادٍ مِنْهُمْ وَتَجْعَلُ بَقِيَّةَ النَّاسِ
عَالَةً عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْمَفْتُونُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ يُنْكِرُونَ مِنْ دِينِهِمْ تَحْرِيمَ الرِّبَا بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا عَقْلٍ فَسَيَجِيءُ يَوْمٌ يُقِرُّ فِيهِ الْمَفْتُونُونَ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ هُوَ النِّظَامُ الَّذِي لَا تَتِمُّ سَعَادَةُ الْبَشَرِ فِي دُنْيَاهُمْ - فَضْلًا عَنْ آخِرَتِهِمْ - إِلَّا بِهِ، يَوْمَ يَفُوزُ الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي الْمَمَالِكِ الْأُورُبِّيَّةِ وَيَهْدِمُونَ أَكْثَرَ دَعَائِمِ هَذِهِ الْأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيُرْغِمُونَ أُنُوفَ الْمُحْتَكِرِينَ لِلْأَمْوَالِ وَيُلْزِمُونَهُمْ بِرِعَايَةِ حُقُوقِ الْمَسَاكِينِ وَالْعُمَّالِ.
(الرِّبَا الْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالرِّبَا الْمُحَرَّمُ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ) التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا ثَبَتَ بِرِوَايَاتِ الْآحَادِ وَأَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ ضَرُورِيَّةٌ، فَإِنَّ مَنْ يَجْحَدْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَمَنْ يَجْحَدْ غَيْرَهُ يُنْظَرْ فِي عُذْرِهِ، فَمَا مِنْ إِمَامٍ مُجْتَهِدٍ إِلَّا وَقَدْ قَالَ أَقْوَالًا مُخَالِفَةً لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، لِأَسْبَابٍ يُعْذَرُ بِهَا وَتَبِعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُعِدُّ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ خُرُوجًا عَنِ الدِّينِ، حَتَّى مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّقْلِيدِ، فَمَا بَالُكَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْأَقْوَالِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْيِسَتُهُمْ.
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ كَانَتْ لِلْمُرَابِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَالْمُرَادُ بِالرِّبَا فِيهَا مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، أَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَالِ لِأَجْلِ الْإِنْسَاءِ، أَيِ التَّأْخِيرِ فِي أَجَلِ الدِّينِ. فَكَانَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ يَخْتَلِفُ سَبَبُهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا اشْتَرَاهُ مِنْهُ
أَوْ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَدِينِ مَالٌ يَفِي بِهِ؛ طَلَبَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يُنْسِئَ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَيَزِيدَ فِي الْمَالِ، وَكَانَ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَهَذَا مَا وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ لَمْ يُحَرَّمْ فِيهِ سِوَاهُ، وَقَدْ وَصَفَهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي جَاءَتْ دُونَ غَيْرِهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [٣: ١٣٠] وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَهُوَ تَحْرِيمٌ لِرِبًا مَخْصُوصٍ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا الْآيَاتِ، يُحْمَلُ الرِّبَا فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي النَّهْيِ الْأَوَّلِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَوِفَاقًا لِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدْعَمُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِالصَّدَقَةِ حَيْثُ ذُكِرَ وَتَسْمِيَتُهُ ظُلْمًا، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ - وَهُوَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَعْلَمُهُمْ بِالرِّوَايَةِ - رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا هُوَ أَشَدُّهُمْ ضَرَرًا وَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ فِي قَوَانِينِ الْأُمَمِ الَّتِي تُبِيحُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدًا وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دِينَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ. وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُعْدَمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ،
لَهُ: أَتَقْتَضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ زَادَهُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرِّبَا ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَالْمُرَابِي ضِدُّ الْمُتَصَدِّقِ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَقَالَ: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [٣٠: ٣٩] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [٣: ١٣٠، ١٣١] ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [٣: ١٣٤] وَهَؤُلَاءِ ضِدُّ الْمُرَابِينَ. فَنَهَى - سُبْحَانَهُ - عَنِ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ وَمِثْلُ هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ، وَأَنَّ الرِّبَا إِنَّمَا هُوَ النَّسِيئَةُ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [٨: ٢] إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [٨: ٤] وَكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَإِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللهَ " انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي الرِّبَا الْجَلِيِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَأَوْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصْلًا فِي رِبَا الْفَضْلِ - الَّذِي حُرِّمَ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ - وَهُوَ: أَنْ يَبِيعَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَذَكَرَ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ.
أَقُولُ: فَهَذَا الرِّبَا الَّذِي سَمَّاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقِيَمِ بِالرِّبَا الْجَلِيِّ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِنَّهُ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ، الْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهُ: هُوَ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ الَّذِي كَانُوا يُضَاعِفُونَهُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ وَفَاءً بِتَوَالِي الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ، هُوَ هُوَ مُخَرِّبُ الْبُيُوتِ، وَمُزِيلُ الرَّحْمَةِ مِنَ الْقُلُوبِ، وَمُوَلِّدُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَمَا مَعْنَى حَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّبَا فِيهِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الرِّبَا الَّذِي تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهَلْ يَسْمَحُ لِعَاقِلٍ عَقْلُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ تَحْرِيمَ هَذَا الرِّبَا ضَارٌّ بِالنَّاسِ أَوْ عَائِقٌ لَهُمْ عَنْ إِنْمَاءِ ثَرْوَتِهِمْ؟ إِذَا كَانَتِ الثَّرْوَةُ لَا تَنْمُو إِلَّا بِتَخْرِيبِ بُيُوتِ الْمَعُوزِينَ لِإِرْضَاءِ نُهْمَةِ الطَّامِعِينَ فَلَا كَانَ بَشَرٌ يَسْتَحْسِنُ إِنْمَاءَ هَذِهِ الثَّرْوَةِ.
أَحْمَدُ - شِرَاءُ أَسْوِرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ بِجُنَيْهَاتٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا وَزْنًا، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مُقَابَلَةِ صَنْعَةِ الصَّانِعِ وَقَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ أَعْظَمَ مِنْ قِيمَةِ مَادَّةِ الْمَصْنُوعِ. فَإِنَّهُ لَا نَسِيئَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ، بَلْ وَلَا رِبًا لَا مُقَابِلَ لَهُ لِيَكُونَ بَاطِلًا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا ظُلْمَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَنْ يُعْطِي آخَرَ مَالًا يَسْتَغِلُّهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ كَسْبِهِ حَظًّا مُعَيَّنًا ; لِأَنَّ مُخَالَفَةَ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ فِي جَعْلِ الْحَظِّ مُعَيَّنًا - قَلَّ الرِّبْحُ أَوْ كَثُرَ - لَا يُدْخِلُ ذَلِكَ فِي الرِّبَا الْجَلِيِّ الْمُرَكَّبِ الْمُخَرِّبِ لِلْبُيُوتِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَافِعَةٌ لِلْعَامِلِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ مَعًا، وَذَلِكَ الرِّبَا ضَارٌّ بِوَاحِدٍ بِلَا ذَنْبٍ غَيْرَ الِاضْطِرَارِ، وَنَافِعٌ لِآخَرَ بِلَا عَمَلٍ سِوَى الْقَسْوَةِ وَالطَّمَعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي عَدْلِ اللهِ وَاحِدًا، بَلْ لَا يَقُولُ عَادِلٌ وَلَا عَاقِلٌ مِنَ الْبَشَرِ: إِنَّ النَّافِعَ يُقَاسُ عَلَى الضَّارِّ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا. إِنْ كَانَ شِرَاءُ ذَلِكَ الْحُلِيِّ وَهَذَا التَّعَامُلُ مِنَ الرِّبَا الْخَفِيِّ الَّذِي يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي عُمُومِ رِوَايَاتِ الْآحَادِ فِي بَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ لَا لِذَاتِهِ، وَهُوَ مِنَ الرِّبَا الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَا مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُكَفِّرَ مُنْكِرَ حُرْمَتِهِ وَنَحْكُمَ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ وَنُحَرِّمَ دَفْنَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَتَأَمَّلِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِقْدَارَ الْحَرَجِ إِذَا حَكَمُوا بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اشْتَرَى حِلْيَةً مِنَ الذَّهَبِ بِنَقْدٍ مِنْهُ وَحِلْيَةً مِنَ الْفِضَّةِ بِنَقْدٍ مِنْهَا، وَكَانَ النَّقْدُ غَيْرَ مُسَاوٍ لِلْحُلِيِّ فِي الْوَزْنِ أَوْ أَجْمَلَ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، وَمُرْتَكِبٌ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهِ.
وَلَوْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْصُوصِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الرِّبَا. وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ فَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْحُجَّةَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ. وَمِمَّا قَالَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا حَرَّمَهُ اللهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ لَا لِذَاتِهِ وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ (رَاجِعْ ص ٢٠٣ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ).
وَمِمَّنْ جَوَّزُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ رِبَا الْفَضْلِ مُطْلَقًا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَوَوْا
عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتُلِفَ فِي رُجُوعِهِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَوْ كَانَ رِبَا الْفَضْلِ كَرِبَا النَّسِيئَةِ لَمْ يَقَعْ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ.
وَالْغَرَضُ مِمَّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أَنْ نَفْهَمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَا حَرَّمَ الْقُرْآنُ مِنَ الرِّبَا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ وَأَنْ نَفْهَمَ حِكْمَتَهُ وَانْطِبَاقَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَمُوَافَقَتَهُ لِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِمْ،
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَمَّا كَانَتْ سُلْطَةُ صَاحِبِ الرِّبَا قَدْ زَالَتْ بِتَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا رَأْسُ الْمَالِ وَقَدْ أُمِرَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ فِيهِ، وَكَانَ لَا بُدَّ لِحِفْظِهِ مِنْ كِتَابَتِهِ إِذْ رُبَّمَا يَخْشَى ضَيَاعَهُ بِالْإِنْظَارِ إِلَى الْأَجَلِ، جَاءَ بَعْدَ أَحْكَامِ الرِّبَا بِأَحْكَامِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَلَهُ الْحَقُّ -: إِنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ طَلَبُ الْإِنْفَاقِ وَالتَّصَدُّقِ ثُمَّ حُكْمُ الرِّبَا الَّذِي يُنَاقِضُ الصَّدَقَةَ ثُمَّ جَاءَ هُنَا بِمَا يَحْفَظُ الْمَالَ الْحَلَالَ، لِأَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَسْبٍ يُنَمِّي مَالَهُ وَيَحْفَظُهُ مِنَ الضَّيَاعِ لِيَتَسَنَّى لَهُ الْقِيَامُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا يُضْطَرُّ بِالْفَاقَةِ إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ فِي دِينِ اللهِ، وَلَا مُبْغَضًا عِنْدَهُ - تَعَالَى - عَلَى الْإِطْلَاقِ ; كَيْفَ وَقَدْ شَرَعَ لَنَا الْكَسْبَ الْحَلَالَ، وَهَدَانَا إِلَى حِفْظِ الْمَالِ وَعَدَمِ تَضْيِيعِهِ، وَإِلَى اخْتِيَارِ الطُّرُقِ النَّافِعَةِ فِي إِنْفَاقِهِ بِأَنْ نَسْتَعْمِلَ عُقُولَنَا فِي تَعَرُّفِهَا، وَنُوَجِّهَ إِرَادَتَنَا إِلَى الْعَمَلِ بِخَيْرِ مَا نَعْرِفُهُ مِنْهَا، فَفِي آيَةِ الدَّيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ - احْتِرَاسٌ أَوِ اسْتِدْرَاكٌ مُزِيلٌ
مَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ وَحِفْظَهُ مَذْمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ بَعْضِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّا لَا نَأْمُرُكُمْ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَإِهْمَالِهِ، وَلَا بِتَرْكِ اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ، إِنَّمَا نَأْمُرُكُمْ بِأَنْ تَكْسِبُوهُ مِنْ طُرُقِ الْحِلِّ، وَتُنْفِقُوا مِنْهُ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا [٨: ٤]، أَيْ تَقُومُ وَتَثْبُتُ بِهَا مَنَافِعُكُمْ وَمَصَالِحُكُمْ. وَحَدِيثُ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلْمَالِ، يَبْخَلُ بِهِ وَيَجْمَعُهُ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ الْحَدِيثَ، وَلَوْلَا أَنَّ إِزَالَةَ هَذَا الْوَهْمِ مَقْصُودَةٌ لَمَا جَاءَتْ آيَةُ الدَّيْنِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا آخَرَ لِلِاتِّصَالِ فِي النَّظْمِ عَزَاهُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ " قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُدَايَنَةِ السَّلَمُ، فَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمَّا مَنَعَ الرِّبَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَذِنَ فِي السَّلَمِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبَا حَاصِلَةٌ فِي السَّلَمِ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا لَذَّةَ وَلَا مَنْفَعَةَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالطَّرِيقِ الْحَرَامِ إِلَّا وَضَعَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِتَحْصِيلِ مِثْلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلَالًا وَسَبِيلًا مَشْرُوعًا ". اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا الْقَطْعِيِّ الْمُحَرَّمِ فِي الْقُرْآنِ وَبَيْنَ السَّلَمِ أَنَّ الرِّبْحَ فِي السَّلَمِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً كَرِبَا النَّسِيئَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا مَعَ إِبَاحَةِ السَّلَمِ فَائِدَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِي أُمُورِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَعَايِشِ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ، وَإِذْ قَدْ فَهِمْتَ وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا فَهَاكَ تَفْسِيرَهُمَا وَفِيهِمَا عِدَّةُ أَحْكَامٍ:
[١] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ تَدَايَنْتُمْ: دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهُوَ يَأْتِي بِمَعْنَى تَعَامَلْتُمْ بِالدَّيْنِ وَبِمَعْنَى تَجَازَيْتُمْ، وَلَمَّا قَالَ بِدَيْنٍ؛
تَعَيَّنَ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ: الْمَالُ الَّذِي يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، لَا الْمَصْدَرُ. وَقَدْ حَمَلَ الْمُدَايَنَةَ بَعْضُهُمْ عَلَى السَّلَفِ (السَّلَمِ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّهُ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَرْضِ وَضَعَّفَهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَمَا فِي الْآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الضَّعِيفُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الدَّيْنَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْقَرْضَ وَالسَّلَمَ وَبَيْعَ الْأَعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِإِنْهَاءِ شَيْءٍ وَالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنُ بِالتَّسْمِيَةِ كَشَهْرٍ وَسَنَةٍ مَثَلًا. بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ إِجْمَالًا بَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا وَمَنْ يَتَوَلَّاهَا فَقَالَ:
[٢] وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ أَيْ لِيَكُنْ فِيكُمْ كَاتِبٌ لِلدُّيُونِ عَادِلٌ فِي كِتَابَتِهِ يُسَاوِي بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِهِمَا فَيَجْعَلُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يَمِيلُ عَنِ الْآخَرِ فَيَبْخَسُهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَاكْتُبُوهُ أَمْرٌ عَامٌّ لِلْمُتَعَامِلِينَ، وَفِيهِمُ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ; وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْكَاتِبِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِشُرُوطِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَحْفَظُ الْحُقُوقَ ; لِأَنَّ الْكَاتِبَ الْجَاهِلَ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الشُّرُوطِ أَوْ يَزِيدُ فِيهَا أَوْ يُبْهِمُ فِي الْكِتَابَةِ بِجَهْلِهِ فَيَلْتَبِسُ بِذَلِكَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَضِيعُ حَقُّ أَحَدِ الْمُتَعَامِلِينَ، كَمَا يَضِيعُ بِتَعَمُّدِ التَّرْكِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْإِبْهَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَادِلًا، وَافَقَهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ. أَقُولُ: وَقَدْ يُغْنِي عَنْ أَخْذِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ - قَوْلُهُ:
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَاتِبَ الْعُقُودِ وَالْوَثَائِقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْكَمَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَخُطُّ بِالْقَلَمِ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَهْلُهُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَاضِيَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَقَالَ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَصْفِ الْكَاتِبِ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِتِلْكَ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ إِلَى نِظَامٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَاتِبُ الدُّيُونِ عَادِلًا عَارِفًا بِالْحُقُوقِ وَالْأَحْكَامِ فِيهَا حَتَّى لَا يَقَعَ التَّنَازُعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْتُبُهُ، وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَكُونَ فِيهِمْ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْكُتَّابِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِإِيجَادِ الْمُقْتَدِرِينَ عَلَى كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ: الْعُقُودَ الرَّسْمِيَّةَ، وَيَتَحَتَّمُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْكَاتِبَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - وَإِنْ كَانَا يُحْسِنَانِ الْكِتَابَةَ - لِئَلَّا يُغَالِطَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يَغُشَّهُ وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ حَتْمٌ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ، فَإِنَّ لِلْعُقُودِ الرَّسْمِيَّةِ كُتَّابًا يَخْتَصُّونَ بِهَا. أَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا دُعِيَ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِبَاءِ عَنِ الْكِتَابَةِ، بَلْ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا صَرِيحًا فَقَالَ: فَلْيَكْتُبْ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ أَهْلِ الْأُصُولُ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ أَمْرًا بِضِدِّهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ غَرِيبٌ فِي نَظَرِ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا.
[٤] وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَيْ وَلْيُلْقِ عَلَى الْكَاتِبِ مَا يَكْتُبُهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ، لِيَكُونَ إِمْلَالُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ تُبَيِّنُهَا الْكِتَابَةُ وَتَحْفَظُهَا. وَالْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ وَاحِدٌ، يُقَالُ: أَمَلَّ عَلَى الْكَاتِبِ وَأَمْلَى عَلَيْهِ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ اللَّامُ. وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَالِهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ كَامِلًا وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا، أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا مَا، وَإِنْ قَلَّ. أَمَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَقْوَى اللهِ فِي إِمْلَالِهِ عَلَى الْكَاتِبِ وَذَكَّرَهُ بِأَنَّ اللهَ رَبَّهُ الَّذِي غَذَّاهُ بِنِعَمِهِ وَسَخَّرَ لَهُ قَلْبَ الدَّائِنِ فَبَذَلَ لَهُ مَالَهُ لِيَحْمِلَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِجَلَالِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْهِيبِ، وَبِجَمَالِ نِعَمِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْغِيبِ عَلَى شُكْرِ اللهِ
وَشُكْرِ الدَّائِنِ بِالِاعْتِرَافِ بِحَقِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ يَبْخَسَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عُرْضَهٌ لِلطَّمَعِ فَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّهُ طَمَعُهُ إِلَى نَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ أَوِ الْإِبْهَامِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يُمْلِي عَلَى الْكَاتِبِ تَمْهِيدًا لِلْمُحَاوَلَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّأْكِيدُ بِالنَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ لِمُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ.
[٥] فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ذِكْرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مُظْهَرًا فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ وَالْبَيَانِ كَمَا قَالُوا، وَفَسَّرَ السَّفِيهَ بِضَعِيفِ الرَّأْيِ، أَيْ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَاجِزُ الْأَحْمَقُ. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ بِالْإِمْلَالِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: هُوَ الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدُ لِدِينِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَالضَّعِيفُ: الصَّبِيُّ وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ. وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْلَالَ: هُوَ الْجَاهِلُ وَالْأَلْكَنُ وَالْأَخْرَسُ. وَوَلِيُّ الْإِنْسَانِ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ وَيَقُومُ بِهَا عَنْهُ، وَقَدِ اكْتَفَى فِي أَمْرِ الْوَلِيِّ بِالْعَدْلِ كَالْكَاتِبِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ وَلَيُّهُ بِمِثْلِ مَا أُمِرَ وَنُهِيَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ بِدُنْيَا نَفْسِهِ.
[٦] وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أَيِ اطْلُبُوا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ مِمَّنْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَوْ أَشْهِدُوهَا عَلَى ذَلِكَ، فَالشَّهِيدُ مَنْ شَهِدَ الشَّيْءَ وَحَضَرَهُ بِإِمْعَانٍ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَاسْتَشْهَدَهُ سَأَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ ; أَيْ أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى الْأَمِينِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَلَعَلَّ الْوَصْفَ مُنْتَزَعٌ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى الشَّهِيدِ اسْمًا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ مَعَ الصِّيغَةِ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْكَمَالِ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ، كَمَا اعْتُبِرَ مِثْلُهُ فِي الْكَاتِبِ وَالْوَلِيِّ، وَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَعْنَى الشَّهِيدِ يَرُدُّ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهِيدَيْنِ مَنْ سَيَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رِجَالِكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَشْهِدُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَوْنُ اسْتِشْهَادِ غَيْرِهِمْ لَيْسَ مَشْرُوعًا لَهُمْ أَوْ لَيْسَ جَائِزًا عَمَلًا
بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ لَا يُعَدُّ نَصًّا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُ إِذَا هُوَ شَهِدَ لَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى شُرُوطٍ فِي الشَّهَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ ; لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [٦٥: ٢] وَجَعَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [٥: ١٠٦] خَاصًّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَأَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْئًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ حَقَّقَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَكُلُّ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ بَيَّنَهُ، كَالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَدْخُلَ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْبَيِّنَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللُّغَةِ إِذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ بِهَا الْحَقُّ.
[٤٠: ٧٤] وَمِثْلُهُ: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [٢٠: ٥٢] وَكَأَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ أَقَرَّهُ عِنْدَ مَا ذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا فِي مَنِ التَّفْكِيكِ، وَبِأَنَّ تَفْسِيرَ الضَّلَالِ بِالنِّسْيَانِ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ لُغَةً. أَقُولُ: وَمَا ذَكَرْتُهُ يُغْنِي عَنْ هَذَا. وَذَكَرَ الْأَلُوسِيُّ فِي وَجْهِ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ: (فَتُذَكِّرَهَا) إِلَى قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى أَنَّهُ رَأَى فِي طِرَازِ الْمَجَالِسِ أَنَّ الْخَفَاجِيَّ سَأَلَ قَاضِيَ للْقُضَاةِ شِهَابَ الدِّينِ الْغَزْنَوِيَّ عَنْ سِرِّ تَكْرَارِ (إِحْدَى) مُعَرِّضًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمَغْرِبِيُّ فَقَالَ:
يَا رَأْسَ أَهْلِ الْعُلُومِ السَّادَةِ الْبَرَرَهْ | وَمَنْ نَدَاهُ عَلَى كُلِّ الْوَرَى نَشَرَهْ |
مَا سِرُّ تَكْرَارِ (إِحْدَى) دُونَ (تُذَكِّرَهَا) | فِي آيَةٍ لَذَوِي الْإِشْهَادِ فِي الْبَقَرَهْ |
وَظَاهِرُ الْحَالِ إِيجَازُ الضَّمِيرِ عَلَى | تَكْرَارِ (إِحْدَاهُمَا) لَوْ أَنَّهُ ذَكَرَهْ |
وَحَمْلُ الِاحْدَى عَلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ فِي | أُولَاهُمَا لَيْسَ مَرْضِيًّا لَدَى الْمَهَرَهْ |
فَغُصْ بِفِكْرِكَ لِاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ | مِنْ بَحْرِ عِلْمِكَ ثُمَّ ابْعَثْ لَنَا دُرَرَهْ |
يَا مَنْ فَوَائِدُهُ بِالْعِلْمِ مُنْتَشِرَهْ | وَمَنْ فَضَائِلُهُ بِالْكَوْنِ مُشْتَهِرَهْ |
يَا مَنْ تَفَرَّدَ فِي كَشْفِ الْعُلُومِ | لَقَدْ وَافَى سُؤَالُكَ وَالْأَسْرَارُ مُسْتَتِرَهْ |
تَضِلُّ إِحْدَاهُمَا " فَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ | كِلَيْهِمَا فَهْيَ لِلْإِظْهَارِ مُفْتَقِرَهْ |
وَلَوْ أَتَى بِضَمِيرٍ كَانَ مُقْتَضِيًا | تَعْيِينَ وَاحِدَةٍ لِلْحُكْمِ مُعْتَبَرَهْ |
وَمَنْ رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الْحَلَّ فَهْوَ كَمَا أَشَرْتُمُ | لَيْسَ مَرْضِيًّا لِمَنْ سَبَرَهْ |
هَذَا الَّذِي سَمَحَ الذِّهْنُ الْكَلِيلُ بِهِ | وَاللهُ أَعْلَمُ فِي الْفَحْوَى بِمَا ذَكَرَهْ |
تَهُمُّهُمْ وَيَكْثُرُ اشْتِغَالُهُمْ بِهَا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اشْتِغَالُ بَعْضِ نِسَاءِ الْأَجَانِبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ إِنَّمَا تُنَاطُ بِالْأَكْثَرِ فِي الْأَشْيَاءِ وَبِالْأَصْلِ فِيهَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ شَهَادَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا تَرَكَتْ إِحْدَاهُمَا شَيْئًا مِنَ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ نَسِيَتْهُ أَوْ ضَلَّ عَنْهَا تُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى وَتُتِمُّ شَهَادَتَهَا، وَلِلْقَاضِي بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ إِحْدَاهُمَا بِحُضُورِ الْأُخْرَى وَيَعْتَدَّ بِجُزْءِ الشَّهَادَةِ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَبِبَاقِيهَا مِنَ الْأُخْرَى، قَالَ: هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَإِنْ كَانَ الْقُضَاةُ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ جَهْلًا مِنْهُمْ، وَأَمَّا الرِّجَالُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قَصَّرَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ نَسِيَ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُذَكِّرَهُ، وَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةً، يَعْنِي إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ وَحْدَهُ غَيْرَ كَافِيَةٍ لِبَيَانِهِ فَإِنَّهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا وَلَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِ وَحْدَهَا وَإِنْ بَيَّنَتْ.
[٩] وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْبَيْعِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْقَوْمِ الْكَثِيرِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَالشُّهَدَاءُ عَلَى هَذَا مَجَازٌ وَرُبَّمَا قَوَّاهُ مَا يَأْتِي مِنَ النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوْ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْإِطْلَاقِ الشَّامِلِ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا وَأَدَاءً مُحَرَّمٌ، وَأَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ بِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ يَقُومُ بِهِ.
[١٠] وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ أَيْ لَا تَمَلُّوا أَوْ تَضْجَرُوا أَوْ لَا تَكْسَلُوا مِنْ كِتَابَةِ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا مُبَيَّنًا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِهِ الْمُسَمَّى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ يُعْمَلُ بِهَا، وَأَنَّهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي
سُدًى، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الِاقْتِصَادِ، وَالْعَمَلُ بِهَا آيَةُ الْكِيَاسَةِ وَالْعَقْلِ، وَكَمْ مِنْ حَرِيصٍ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدَّانَقِ يَجُودُ بِالدَّنَانِيرِ وَالْبَدْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ لَا الْوَاحِدِ مِنْهَا وَتِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الْحُكْمِ، وَعِلَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَعْدَ ذِكْرِهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ لِلْإِشْهَادِ وَقِيلَ: لِلْكِتَابِ ; أَيِ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَعَزَاهُ الْأُسْتَاذُ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْسَطَ عِنْدَ اللهِ أَنَّهُ أَعْدَلُ فِي حُكْمِهِ، أَيْ أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْعَامِلِينَ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَقْوَمَ لِلشَّهَادَةِ أَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَطْلُبَ وَثِيقَةَ الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ لِيَتَذَكَّرَ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَقُومَ لِلشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابَةِ حَتْمًا وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمْلَاءِ، فَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا مَعْنَاهُ وَأَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاءِ ارْتِيَابِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِيَاطَ فِي كِتَابَةِ الْحُقُوقِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَتَقْوَى اللهِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْمُتَعَامِلِينَ وَالْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ يَمْنَعُ كُلَّ رِيبَةٍ وَكُلَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِارْتِيَابِ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْعَدَاوَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الرَّيْبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي جِنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَأَجَلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مَا تَبَادَرَ إِلَى فَهْمِنَا، وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ ثَالِثَةٌ لِلْكِتَابَةِ تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ بِالْأَخْذِ بِهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَجَعْلِهَا مُذَكِّرَةً لِلشُّهُودِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَا إِذَا اسْتَوْفَيَتْ شُرُوطَهَا.
[١١] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا قَرَأَ عَاصِمٌ تِجَارَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَالْإِعْرَابُ ظَاهِرٌ عَلَى الْحَالَيْنِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَقِيلَ: الْإِشْهَادُ، وَقِيلَ هُمَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ تِجَارَةً حَاضِرَةً، أَوْ إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ
حَاضِرَةٌ تُدَارُ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ بِالتَّعَاطِي بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوِ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ كِتَابَتِهَا وَلَا إِثْمَ ; إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الِارْتِيَابِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ
[١٢] وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا التَّبَايُعُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَهُوَ التِّجَارَةُ الْحَاضِرَةُ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْأَوَّلَ، قَالَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْكَالِئِ يَسْتَلْزِمُ الدَّيْنَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَالْإِشْهَادُ لَازِمٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْمُجَاحِدِينَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْمُجَاحَدَةِ أَنْ تَحْصُلَ عَنْ قَرِيبٍ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ لِتَلَافِي مَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنْهَا، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ فَرُبَّمَا يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يَطُولُ زَمَنُهَا لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ بَعِيدًا؛ فَلِهَذَا وَجَبَتْ كِتَابَتُهَا وَشُرِعَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهَا بِالْكِتَابَةِ.
[١٣] وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ لَفْظُ " يُضَارَّ " يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَدْ قَرَءُوا بِفَكِّ الْإِدْغَامِ. فَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الثَّانِي. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرًا لَا قِرَاءَةً، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ نَهْيُ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ أَنْ يَضُرَّا أَحَدَ الْمُتَعَامِلِينَ بِعَدَمِ الْإِجَابَةِ أَوْ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الثَّانِي نَهْيُ الْمُتَعَامِلِينَ عَنْ ضَرِّ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّهِيدِ بِأَنْ يُدْعَيَا إِلَى ذَلِكَ وَهُمَا مَشْغُولَانِ بِمُهِمٍّ لَهُمَا فَيُكَلَّفَانِ تَرْكَهُ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجِيءُ الْكَاتِبَ فَيَقُولُ: " اكْتُبْ لِي " فَيَعْتَذِرُ بِعُذْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَكْتُبَ فَيُلْزَمُ بِذَلِكَ وَيُضَارُّ فَنَزَلَتْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا إِلَّا إِذَا كَانَ نُزُولُ هَذَا النَّهْيِ مُتَرَاخِيًا عَنْ نُزُولِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَأَقْوَى مِنْهَا فِي تَأْيِيدِهِ: مَا قَدِ اشْتَرَطَ فِي
الْكَاتِبِ وَالشُّهَدَاءِ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَضَارَّةِ، فَبَقِيَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُتَعَامِلُونَ بِعَدَمِ مَضَارَّةِ الْكُتَّابِ وَالشُّهَدَاءِ بِإِلْزَامِهِمْ بِتَرْكِ مَنَافِعِهِمْ لِأَجْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ أَوْ بِتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ بِلَا عِوَضٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّهْيِ أَنَّهُ عَنْ مَضَارَّةِ الْمُتَعَامِلِينَ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ. وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى إِعْطَائِهِمَا أُجْرَةً مَا يَحْمِلَانِ مِنَ الْكُلْفَةِ لَمْ يَكُنْ بِبَعِيدٍ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِـ " يُضَارَّ " الْبِنَاءُ لِلْفَاعِلِ وَلِلْمَفْعُولِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَاسْتُعْمِلَ " يُضَارَّ " الدَّالُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ضُرَّ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ ضُرٌّ لِنَفْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ وَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ مِنْ إِضْرَارِ الْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ خُرُوجٌ بِكُمْ عَنْ حُدُودِ طَاعَةِ اللهِ
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُعِينُ النَّفْسَ عَلَى الِامْتِثَالِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيِ اتَّقَوُا اللهَ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ مَا فِيهِ قِيَامُ مَصَالِحِكُمْ وَحِفْظُ أَمْوَالِكُمْ وَتَقْوِيَةُ رَابِطَتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَوْلَا هِدَايَتُهُ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا شَرَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَشْرَعُهُ عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ بِأَسْبَابِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ لِمَنِ اتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَكُرِّرَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ لِكَمَالِ التَّذْكِيرِ وَقُوَّةِ التَّأْثِيرِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: كُرِّرَ لَفْظُ اللهِ فِي الْجُمَلِ الثَّلَاثِ لِاسْتِقْلَالِهَا، فَإِنَّ الْأُولَى حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ وَعْدٌ بِإِنْعَامِهِ، وَالثَّالِثَةُ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَهَذَا مَبْنَيٌّ عَلَى أَنِ الثَّانِيَةَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقِيلَ: هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ فِي مَعْنَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ أَنَّ التَّقْوَى تَكُونُ سَبَبًا لِلْعِلْمِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا يَأْتُونَهُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ وَتِلَاوَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ تُثْمِرُ لَهُمُ الْعُلُومَ الْآلِهِيَّةَ وَعِلْمَ النَّفْسِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ بِدُونِ تَعَلُّمٍ. وَهَذَا الزَّعْمُ فَتَحَ لِلْجَاهِلِينَ
الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ الصَّلَاحِ دَعْوَى الْعِلْمِ بِاللهِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَالْعَامَّةُ تُسَلِّمُ لَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى وَتُصَدِّقُ قَوْلَهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَعْلِيمَهُمْ وَيُسَمُّونَ عِلْمَهُمْ هَذَا بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ. وَيُرَدُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ سِيبَوَيْهِ وَلَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَطْفَ يُعَلِّمُكُمْ عَلَى اتَّقُوا اللهَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لَهُ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَلَوْ قَالَ " يُعَلِّمْكُمْ " بِالْجَزْمِ لَكَانَ مُفِيدًا لَمَا قَالُوهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ لَامُ التَّعْلِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الْمُسَبَّبِ سَبَبًا وَالْفَرْعِ أَصْلًا وَالنَّتِيجَةِ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَعْقُولَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي يُثْمِرُ التَّقْوَى، فَلَا تَقْوَى بِلَا عِلْمٍ فَالْعِلْمُ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْمِعْوَلُ. وَبَعْدَ أَنْ أَطَالَ بَعْضَ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الْعِلْمِ فِي الْإِرَادَةِ بِتَوْجِيهِهَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَصَرْفِهَا عَنِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ - وَتِلْكَ هِيَ التَّقْوَى - قَالَ: إِنَّنَا لَا نُنْكِرُ الْعِلْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ لَدُنِّيًّا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِذَلِكَ الطَّرِيقِ الْجَائِرِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَهْلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِاللهِ - تَعَالَى - وَالْعِلْمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَمَلَ بِهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ قَدْ يَصْرِفُ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الْمُخْلِصَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - حَتَّى يَكُونَ كَالْمُنْفَصِلِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ عَنِ الْعَالَمِ الطَّبِيعِيِّ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ إِشْرَافٌ عَلَى مَا لَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ يَعْنِي مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّحَقُّقِ بِبَعْضِ الْمَعَارِفِ الْغَيْبِيَّةِ، فَيَعْلَمُ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ الْآخِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ نَاظِرٍ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ فِي الْكِتَابِ، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا يَدَّعِيهِ أَعْوَانُ الْجَهْلِ وَأَعْدَاءُ الْعِلْمِ!
قِلَّتِهِمْ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ الَّتِي جَمَعَتْ كَلِمَتَهُمْ وَقَوَّتْ عَزِيمَتَهُمْ. وَالتَّقْوَى تَكُونُ سَبَبَ الْفُرْقَانِ وَالْمَخْرَجِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ وَالْخُذْلَانِ فِي النَّفْسِ وَفِي الْخَارِجِ ; وَلِذَلِكَ يُفَسَّرُ الْمَخْرَجُ فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ - وَهِيَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ - بِمَا لَا يُفَسَّرُ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَهِيَ فِي مَقَامِ الْمُدَافِعَةِ وَالْقِتَالِ لِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَأَهْلِهَا.
هَذَا وَإِنَّ الْفُرْقَانِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصُّبْحُ الَّذِي يَفْرُقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ فُرْقَانًا؛ لِأَنَّهُ كَالصُّبْحِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَقْوَى اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا تُعْطِي صَاحِبَهَا نُورًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ دَقَائِقِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَهِيَ تُفِيدُهُ عِلْمًا خَاصًّا لَمْ يَكُنْ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهِ لَوْلَاهَا. وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّلْقِينِ كَالشَّرْعِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَهُوَ مَا لَا تَتَحَقَّقُ التَّقْوَى بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ - فِعْلًا وَتَرْكًا - بِعِلْمٍ، فَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْوَى وَسَبَبُهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ".
وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهَا وَثَمَرَتُهَا هُوَ مَا تَفْطَنُ لَهُ النَّفْسُ بَعْدُ فَيُفِيدُهَا الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ مُجْمَلًا مُبْهَمًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِذَا عُمِلَ بِهِ صَارَ مُفَصَّلًا جَلِيًّا رَاسِخًا تَتَبَيَّنُ بِهِ الدَّقَائِقُ وَالْخَفَايَا. وَبِذَلِكَ تَفْطَنُ نَفْسُ الْعَامِلِ إِلَى مَسَائِلَ أُخْرَى تَطْلُبُهَا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْبَحْثِ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهَا كَمَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: " وَمَنْ تَعَلَّمَ فَعَمِلَ عَلَّمَهُ اللهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ " رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِذَا عَلِمْتَ
أَنَّ التَّقْوَى عَمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ
[١٤] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو " فَرُهُنٌ " كَسُقُفٍ - بِضَمَّتَيْنِ - وَالْبَاقُونَ " فَرِهَانٌ " كَحِبَالٍ وَكِلَاهُمَا جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى مَرْهُونٍ. وَلَيْسَ تَعْلِيقُ مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الرَّهْنِ بِالسَّفَرِ وَعَدَمِ وُجُودِ كَاتِبٍ يَكْتُبُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِاشْتِرَاطِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ لِعُذْرٍ، وَكَوْنِ الرَّهْنِ يَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابَةِ فِي الِاسْتِيثَاقِ عِنْدَ تَيَسُّرِهَا كَمَا يَكُونُ فِي حَالِ السَّفَرِ، وَإِلَّا فَقَدَ رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعَهُ فِي الْمَدِينَةِ لِيَهُودِيٍّ. وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَدْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَأَقُولُ: إِنَّ فِي جَعْلِ عَدَمِ وُجْدَانِ الْكَاتِبِ مُقَيَّدًا بِحَالِ السَّفَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ مَوَاطِنِ الْإِقَامَةِ أَنْ تَكُونَ خُلُوًّا مِنَ الْكُتَّابِ، وَالْكِتَابَةُ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالْإِيمَانُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ، وَنَاهِيكَ بِالْفَرِيضَةِ إِذَا أُكِّدَتْ كَالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتُوهَا، بَلْ لَا يُفْرَضُ أَنْ يُخَالِفُوهَا وَأَلَّا يُوجَدَ الْكُتَّابُ عِنْدَهُمْ إِلَّا حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ كَمَا يَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنَ الْعِبَارَةِ بِالْإِشَارَةِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ.
[١٥] فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ قَيَّدَ الضَّحَّاكُ جَوَازَ الِائْتِمَانِ بِالسَّفَرِ وَمَنَعَهُ فِي الْإِقَامَةِ حَيْثُ يَجِبُ الِاسْتِيثَاقُ بِالْكُتَّابِ وَالْإِشْهَادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِهِمَا وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا مَعًا فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فَلَا يُعْقَلُ نَسْخُ حُكْمٍ فِيهِمَا قَدْ أُكِّدَ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ بِحُكْمٍ آخَرَ ذُكِرَ مُعَلَّقًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي الْوُقُوعَ وَهِيَ " إِنَّ " وَعِنْدِي أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ هَاهُنَا عَامٌّ يَشْمَلُ الْوَدِيعَةَ وَغَيْرَهَا. فَالْمَعْنَى: إِنِ اتَّفَقَ أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمُ ائْتَمَنَ آخَرَ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَى الْمُؤْتَمَنِ أَنْ
يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ، وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ فَلَا يَتَخَوَّنُ مِنَ الْأَمَانَةِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ بِهَا وَلَا شَهِيدَ ; فَإِنَّ اللهَ رَبَّهُ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُتَّقَى وَيُطَاعَ.
[١٦] وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ إِبَاءِ تَحَمُّلِهَا عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا تَأْكِيدٌ كَتَأْكِيدِ أَمْرِ الْكَاتِبِ بِأَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنِ الْإِبَاءِ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ الْكُتَّابَ وَالشُّهُودَ بِأَنْ يُعِينُوا النَّاسَ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ
هَذَا وَإِنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآيَتَيْنِ - عَلَى كَوْنِهَا أَظْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ مَعْنًى وَعِلَّةً وَحِكْمَةً - قَدْ وَقَعَ فِيهِمَا خِلَافٌ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ، وَقَدْ بَسَطَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ كِتَابَةِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يَكَدْ يَزِيدُ عَلَى مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الْخِلَافِ شَيْئًا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا اخْتُلِفَ وَتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهِ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَيَانِ رَأْيِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ لِلنَّدْبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فَإِنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ.
وَالثَّانِي: كَوْنُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَزِمُوا الْكِتَابَةَ وَالِاسْتِشْهَادَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، بَلْ كَانُوا يَأْتُونَهُ تَارَةً وَيَتْرُكُونَهُ تَارَةً، وَلَوْ فَهِمُوا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَالْتَزَمُوهُ. أَقُولُ: وَجَعَلَ الرَّازِيُّ هَذَا التَّرْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ إِجْمَاعًا وَمَا هُوَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ حَرَجًا وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ.
وَذَهَبَ أَقْوَامٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَتَابَعَتِ الْأَوَامِرُ فِي الْآيَةِ وَتَأَكَّدَتْ حَتَّى فِي حَالِ السَّفَهِ وَالضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، فَقَدْ أُمِرَ وَلِيُّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ يُمْلِيَ عَنْهُ لِلْكَاتِبِ وَلَمْ يُعْفِهِمْ مِنَ الْكِتَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّأْكِيدِ لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ بِكَوْنِ ذَلِكَ أَقْسَطَ
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَمَانَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي عُمُومِهَا مَا ذُكِرَ مِنَ الِائْتِمَانِ عَلَى الثَّمَنِ عِنْدَ فَقْدِ الْكَاتِبِ فَلَا يُجْعَلُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ - وَهُوَ الْكِتَابَةُ - فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الرُّخْصَةَ فِي إِقَامَةِ الرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْكَاتِبِ: لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ إِلَخْ نَاسِخًا قَوْلَهُ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَخْ. لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [٤: ٤٣] نَاسِخًا لِلْوُضُوءِ بِالْمَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ: إِلَخْ قَالُوا: وَأَمَّا دَعْوَى تَعَامُلِ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ كِتَابَةٍ وَلَا إِشْهَادٍ فَهِيَ عَلَى إِطْلَاقِهَا بَاطِلَةٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِمُعَامَلَاتِهِمْ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ شَيْءٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ
وُجُوبِ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ بِمُعَامَلَاتِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَامًّا وَلَمْ يَرْوُوا عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهِ شَيْئًا صَحِيحًا وَاقِعًا بِالْفِعْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي ذَلِكَ ضِيقًا وَحَرَجًا فَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ هُوَ عَيْنُ السُّهُولَةِ وَالسَّعَةِ وَالْيُسْرِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ التَّعَامُلَ الَّذِي لَا يُكْتَبُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ عَمْدٍ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَدَايِنَيْنِ ضَعِيفُ الْأَمَانَةِ فَيَدَّعِي بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ خِلَافَ الْوَاقِعِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ خَطَأٍ وَنِسْيَانٍ، فَإِذَا ارْتَابَ الْمُتَعَامِلَانِ وَاخْتَلَفَا وَلَا شَيْءَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي إِزَالَةِ الرِّيبَةِ وَرَفْعِ الْخِلَافِ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ شُهُودٍ أَسَاءَ كُلٌّ مِنْهُمَا الظَّنَّ بِالْآخَرِ، وَلَمْ يَسْهُلْ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ عَنِ اعْتِقَادِهِ إِلَى قَوْلِ خَصْمِهِ فَلَجَّ فِي خِصَامِهِ وَعَدَائِهِ، وَكَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شُرُورِ الْمُنَازَعَاتِ مَا يُرْهِقُهُمَا عُسْرًا وَيَرْمِيهِمَا بِأَشَدِّ الْحَرَجِ، وَرُبَّمَا ارْتَكَبَا فِي ذَلِكَ مَحَارِمَ كَثِيرَةً.
هَكَذَا أَوْضَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَأَيَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ.
وَمِمَّا قَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا حَرَجًا وَهُوَ مِمَّا لَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَكُونُ الْوُضُوءُ حَرَجًا وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ كُلَّ يَوْمٍ يُصَلِّي فِيهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا كَلُّ مَا يَتَكَرَّرُ يَكُونُ حَرَجًا ; يَعْنِي أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ كَمَا سَيَأْتِي عَنْهُ. وَأَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ وَلَا كُلْفَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْهَا لِلْإِعْنَاتِ وَتَجْشِيمِ الْمَشَاقِّ وَالْإِيقَاعِ فِي الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ تَرْفَعُ الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَيَصْلُحُ بِهَا أَمْرُ
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَبُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَوَامِرَ الْمُؤَكِّدَةَ لِلنَّدْبِ، فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَتْرُكَ الْمُسْلِمُونَ جُمْلَةَ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ كِتَابُ اللهِ بِحُجَّةِ أَنَّ فِيهِ حَرَجًا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَجِ، حَتَّى صَارَ مَنْ تَرَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْنَى بِكِتَابَةِ دُيُونِهِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِضَعْفِ ثِقَتِهِ بِمَدِينِهِ، لَا عَمَلًا بِهِدَايَةِ دِينِهِ، أَلَا إِنَّ الْحَرَجَ فِي هَذَا كَالْحَرَجِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُشْرِكًا بِنَوْعٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَرِّطَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ يَكْفِيهِ كَاتِبٌ وَاحِدٌ لِلدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَقَدْ رَخَّصَ اللهُ لَنَا فِي تَرْكِ كِتَابَةِ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَأُسْلُوبَهَا وَطَرِيقَةَ تَأْدِيَتِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ.
(قَالَ) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ هَذَا بِالْعَمَلِ بِالْخَطِّ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ كَانَ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ الْعَمَلَ بِالْخَطِّ ; إِذْ لَوْ كَانَ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ خِلَافَ مَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ لَكَانَ الْمَصَابُ عَظِيمًا، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْخَطِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّزْوِيرُ، وَزَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْكِتَابَةِ التَّذْكَارُ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ لِأَجْلِ التَّذْكَارِ، وَمَنْشَأُ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْمَرْأَتَيْنِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَالصَّوَابُ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ قَدْ شُرِعَ لِلِاسْتِيثَاقِ بَيْنَ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ لَا لِأَجْلِ التَّذَكُّرِ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَالْكِتَابَةُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ عَوْنٌ لِلشَّهَادَةِ فَهِيَ آلَةُ الِاسْتِيثَاقِ لِلْمُتَعَامِلِينَ، فَالدَّائِنُ يَسْتَوْثِقُ بِمَالِهِ فَيَأْمَنُ مِنْ إِنْكَارِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالْمَدِينُ يَسْتَوْثِقُ بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَخَافُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ، وَالشَّاهِدُ يَسْتَوْثِقُ بِشَهَادَتِهِ فَإِذَا شَكَّ أَوْ نَسِيَ رَجِعَ إِلَى الْكِتَابِ فَتَذَكَّرَ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا وَنَفْعُ الْكِتَابَةِ الْأَكْبَرُ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الشَّهِيدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَضِيعَ الْحُقُوقُ وَلَا حَافِظَ لَهَا حِينَئِذٍ إِلَّا الْكِتَابَةُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَيُعْمَلُ بِهَا.
قَالَ: وَاحْتِجَاجُهُمْ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ، وَأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مُذَكِّرَةً بِهَا بِأَنَّ الْخَطَّ يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّزْوِيرُ مَنْقُوضٌ بِأَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ التَّزْوِيرِ فِي الشَّهَادَةِ أَشَدُّ، بَلْ حُصُولُهُ فِيهَا بِالْفِعْلِ أَكْثَرُ، حَتَّى إِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا تَكَادُ تَكُونُ
كَنِسْبَةِ الْخَمْسَةِ إِلَى
وَمِنْ مَحَاسِنَ الْأَجْوِبَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا وَقَعَ لِأَحَدِ الْقُضَاةِ فِي الْوَجْهِ الْقِبْلِيِّ (الصَّعِيدِ) إِذْ جَاءَهُ مُدَّعٍ يُطَالِبُ آخَرَ بِدَيْنٍ لَهُ كُتِبَ فِي صَكٍّ وَخُتِمَ بَخَاتَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي:
إِنَّ هَذَا الصَّكَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا بُدَّ مِنَ الشُّهُودِ. قَالَ الْمُدَّعِي: مَنْ قَالَ بِهَذَا؟ قَالَ الْقَاضِي: الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ الْمُدَّعِي: هَلْ عِنْدَكَ شُهُودٌ سَمِعَتْ مِنْهُمْ ذَلِكَ؟ فَبُهِتَ الْقَاضِي.
قَالَ الْأُسْتَاذُ فَالْأَشْيَاءُ الْبَدِيهِيَّةُ يُلْهَمُ حُكْمَهَا كُلُّ النَّاسِ: أَقُولُ يَعْنِي بِالنَّاسِ أَصْحَابَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَلَا غَرْوَ فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَلَا يُفْسِدُ الْفِطْرَةَ شَيْءٌ كَالتَّقْلِيدِ.
أَقُولُ: وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْآيَةِ شَهَادَةُ الْأَرِقَّاءِ، فَالظَّاهِرُ دُخُولُهُمْ فِي عُمُومِ رِجَالِكُمْ وَبِذَلِكَ قَالَ شُرَيْحٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ وَلِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُتَعَامِلِينَ بِالْأَمْوَالِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ ضَعِيفَانِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - اشْتَرَطَ فِي الشَّاهِدَيْنِ الْعَدَالَةَ لَا الْحُرِّيَّةَ، وَالرِّقُّ لَا يُنَافِي الْعَدَالَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، يَقُولُ: مَنْ يَتَدَايَنُ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِمْ كَذَا مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، وَالْكُتَّابُ وَالشُّهَدَاءُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْكَاتِبِ لِوَثِيقَةِ الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: تَصِحُّ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ وَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ مَنْدُوبٌ؟ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعُمَرَ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا أُجِّلَ فِيهِ الثَّمَنُ.
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلُهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
(قَالَ) وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْأَشْيَاءُ الثَّابِتَةُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُكُمْ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَأُلْفَةِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ النَّهْيِ أَمْرٌ كَبِيرٌ يَحِلُّ اللهُ عُقُوبَتَهُ فِي الْأُمَّةِ بِسَبَبِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ السُّكُوتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ أُلْفَةُ الْمُنْكِرِ وَالْأُنْسُ بِهِ وَلِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُحَاسَبُ عَلَيْهِ. نَعَمْ إِنَّ الْخَوَاطِرَ وَالْهَوَاجِسَ قَدْ تَأْتِي بِغَيْرِ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا تَعَمُّدٌ وَلَكِنَّهُ إِذَا مَضَى مَعَهَا وَاسْتَرْسَلَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ عَمَلًا يُجَازَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَايَرَهَا مُخْتَارًا وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُطَارَدَتِهَا وَجِهَادِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْخَوَاطِرُ وَالْهَوَاجِسُ صَادِرَةً عَنْ مَلَكَةٍ
فِي النَّفْسِ تُثِيرُهَا أَوْ عَنْ شَيْءٍ لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمَلَكَةِ. مِثَالُ ذَلِكَ الْحَسُودُ تَبْعَثُ مَلَكَةُ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمَحْسُودِ وَالسَّعْيِ فِي إِزَالَةِ نِعْمَتِهِ لِتَمَكُّنِهَا فِي نَفْسِهِ وَامْتِلَاكِهَا لِمَنَازِعِ فِكْرِهِ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ مِمَّا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَهَا وَيُدَافِعَهَا فَذَلِكَ مَا يُكَلَّفُهُ.
وَمِثَالُ الثَّانِي الْمَظْلُومُ يَذْكُرُ ظَالِمَهُ فَيَشْتَغِلُ فِكْرُهُ فِي دَفْعِ ظُلْمِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ أَذَاهُ وَرُبَّمَا اسْتَرْسَلَ مَعَ خَوَاطِرِهِ إِلَى أَنْ تَجُرَّهُ إِلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَمُقَابَلَةِ ظُلْمِهِ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَيْهَا، أَبْدَاهَا أَوْ أَخْفَاهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [٥: ٧٨ و٧٩] وَذَلِكَ أَنَّ فَظَاعَةَ الْمُنْكَرِ زَالَتْ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِالْأُنْسِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الَّتِي أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَمُرُّ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ كَمَا قِيلَ، بَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ وَشَكَوْا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَسْوَسَةَ ; فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدْفَعُ هَذَا؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ وَمُتَمَكِّنٌ مِنْهَا كَالْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ وَالْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِأَثَرِهَا فِيهَا إِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ وَتُرِكَتِ الْمُجَاهَدَةُ. وَكَذَلِكَ يَدْفَعُهُ مَا كَانَ
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُفَصَّلًا وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ، لَا شَكَّ أَنَّ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ مِمَّا فِي النَّفْسِ يَعُمُّ الْمَلَكَاتِ الْفَاضِلَةَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرِيفَةَ، وَإِنَّمَا مُثِّلَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا السِّيَاقِ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَرَدَّ ذَلِكَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصَّصٍ أَيْضًا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِمَا بَعْدَهَا. أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ اشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللهُ فِي أَثَرِهَا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [٢: ٢٨٥] الْآيَةَ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ - تَعَالَى - فَأَنْزَلَ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢: ٢٨٦] إِلَى آخِرِهَا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ. قَالَ نَسَخَهَا مَا بَعْدَهَا، وَاحْتَجُّوا لِلنَّسْخِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ.
وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا قُصَارَاهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ أَنَّهَا نُسِخَتْ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْقَوْلُ بِالنُّسَخِ مَمْنُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ، ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ، وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا إِبْطَالٌ لِلشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، أَوْ إِثْبَاتٌ لِكَوْنِهِ دِينًا جُثْمَانِيًّا مَادِّيًّا لَا حَظَّ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [٢: ٢٢٥] وَقَالَ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [١٧: ٣٦]
أَوْ سُوءِ الْقَصْدِ وَفَسَادِ النِّيَّةِ وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ وَالصِّفَاتُ هِيَ الْأَصْلُ فِي الشَّقَاوَةِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ آثَارًا فِي النَّفْسِ تُزَكِّيهَا أَوْ تُدَسِّيهَا، لَمَا آخَذَ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ أَحَدًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُعَاقِبُ النَّاسَ حُبًّا فِي الِانْتِقَامِ وَلَا يَظْلِمُ نَفْسًا شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يَرْتَقِيَ أَوْ يَتَسَفَّلَ نَفْسًا وَعَقْلًا بِالْعَمَلِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ مَجْزِيًّا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَثَرَهُ فِي النَّفْسِ هُوَ مُتَعَلَّقُ الْجَزَاءِ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْخَوَاطِرَ السَّانِحَةَ وَالْوَسَاوِسَ الْعَارِضَةَ وَحَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْقَصْدِ الثَّابِتِ وَالْعَزْمِ الرَّاسِخِ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُسْتَقِرٌّ وَقَوْلُهُ: فِي أَنْفُسِكُمْ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا وَجْهًا لِإِبْطَالِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا ذُكِرَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا نَاسِخًا لَهُ ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ التَّجَاوُزِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ لَا يُنَافِي الْآيَةَ وَلَا يَصِحُّ دِعَامَةً لِلْقَوْلِ بِنَسْخِهَا.
(رَابِعُهَا) أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ يُنَافِي الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْبَالِغَةَ وَالرَّحْمَةَ الرَّبَّانِيَّةَ السَّابِغَةَ، فَهُوَ لَمْ يَقَعْ فَيُقَالُ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْهُ، وَنُسِخَتْ بِمَا بَعْدَهُ.
(خَامِسُهَا) الْمَعْقُولُ فِي النَّسْخِ أَنْ يُشْرَعَ حُكْمٌ يُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَنٌ أَوْ تَطْرَأُ حَالٌ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْمَصْلَحَةِ وَكَوْنُ مَا فِي النَّفْسِ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرْتَ، فَلِمَاذَا قَالَ الصَّحَابَةُ فِيهَا مَا قَالُوا؟ أَقُولُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالٌ قَدْ تَرَبَّوْا فِي حِجْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْطَبَعَتْ فِي نُفُوسِهِمْ قَبْلَهُ أَخْلَاقُهَا، وَأَثَّرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ عَادَتُهَا فَكَانُوا يَتَزَكُّونَ مِنْهَا، وَيَتَطَهَّرُونَ مَنْ لَوَثِهَا تَدْرِيجًا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَبِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، فِيمَا يَفْعَلُ وَيَقُولُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَافُوا أَنْ يُؤَاخَذُوا عَلَى مَا كَانَ لَا يَزَالُ بَاقِيًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَثَرِ التَّرْبِيَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَنَاهِيكَ بِمَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَاعْتِقَادِ النَّقْصِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى بَعْدَ كَمَالِ التَّزْكِيَةِ وَتَمَامِ الطَّهَارَةِ حَتَّى كَانَ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: " هَلْ يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ ".
أَمَّا إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ فَهُوَ إِظْهَارُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِخْفَاؤُهُ فَهُوَ ضِدُّهُ وَالْإِبْدَاءُ وَالْإِخْفَاءُ سِيَّانِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [٤٠: ١٩] فَالْمَدَارُ فِي مَرْضَاتِهِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَطَهَارَةِ السَّرِيرَةِ لَا عَلَى لَوْكِ اللِّسَانِ وَحَرَكَاتِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا الْمُحَاسَبَةُ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنْ فَسَّرَهَا بَعْضٌ بِالْعِلْمِ، وَبَعْضٌ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ غِبُّهَا وَلَازِمُهَا، ذَلِكَ أَنَّ لِلنُّفُوسِ فِي اعْتِقَادَاتِهَا وَمَلَكَاتِهَا وَعَزَائِمِهَا وَإِرَادَتِهَا مَوَازِينَ يُعْرَفُ بِهَا يَوْمَ الدِّينِ رُجْحَانُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ هِيَ أَدَقُّ مِمَّا وَضَعَ الْبَشَرُ مِنْ مَوَازِينِ الْأَعْيَانِ وَمَوَازِينِ الْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [٢١: ٤٧] وَسَيَأْتِي قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ أَيْ فَهُوَ بِمَا لَهُ مِنَ الْمُلْكِ الْمُطْلَقِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ عَذَابَهُ. وَقَرَأَ غَيْرُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِجَزْمِ: (يَغْفِرْ وَيُعَذِّبْ). بِالْعَطْفِ عَلَى يُحَاسِبْكُمْ وَإِنَّمَا يَشَاءُ مَا فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالْعَدْلُ وَالْحِكْمَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ السَّيِّئُ عَلَى قَدْرِ الْإِسَاءَةِ وَتَأْثِيرِهَا فِي تَدْسِيَةِ نُفُوسِ الْمُسِيئِينَ، وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ عَلَى قَدْرِ الْإِحْسَانِ وَتَأْثِيرِهِ فِي أَرْوَاحِ الْمُحْسِنِينَ، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ يُضَاعِفُ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ وَيَزِيدُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُضَاعِفُ السَّيِّئَةَ، وَالْآيَاتُ الْمُفَصَّلَةُ فِي هَذَا
قَالَ: " وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا نَرْجُو وَنَخَافُ فَآمِنْ خَوْفَنَا وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا " وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ، وَقَدْ قَرَّرَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْمَشِيئَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ فَهُوَ بِقُدْرَتِهِ يُنَفِّذُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، فَنَسْأَلُهُ الْعِنَايَةَ
وَالتَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ لِأَقْوَمِ طَرِيقٍ.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ أَثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمِ الزَّكِيَّةِ وَهِمَمِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ وَاللهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَقَدِ اعْتَرَفَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلُومِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِ أُمَمِ الشَّرْقِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ
وَمُوحًى إِلَيْهِ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى الْوَحْيَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ لِنَشْرِ حِكْمَتِهِ وَالْإِقْنَاعِ بِفَلْسَفَتِهِ أَوْ لِنَيْلِ السُّلْطَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِهِ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَكِتَابِهِ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ الْإِيمَانَ بِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْإِيمَانَ بِسِفَارَتِهِمْ فِي الْوَحْيِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِحَقِّيَّةِ كُتُبِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، لَكِنْ مَا يُفِيدُهُ التَّرْتِيبُ وَالنَّظْمُ مِنْ إِرَادَةِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ حَمَلَةُ الْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَأَمَّا الْبَحْثُ عَنْ ذَوَاتِهِمْ مَا هِيَ وَعَنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كَيْفَ هِيَ؟ فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ فِي دِينِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ جِنْسُهَا ; أَيْ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا فِيمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ وَتَفْصِيلِيًّا فِيمَا فَصَّلَهُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَيَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (لَا يُفَرِّقُ) وَهُوَ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ " كَلٌّ " وَذِكْرُ الْمَقُولِ مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَلَهُ مَوَاضِعُ فِي الْكِتَابِ لَا يَقِفُ الْفَهْمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ فِي الرِّسَالَةِ وَالتَّشْرِيعِ سَوَاءٌ، كَثُرَ قَوْمُ الرَّسُولِ مِنْهُمْ أَمْ قَلُّوا، وَكَثُرَتِ الْأَحْكَامُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ أَمْ قَلَّتْ،
آمَنُوا بِمَا ذُكِرَ قَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفْرِيقِ: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ بُلِّغْنَا فَسَمِعْنَا الْقَوْلَ سَمَاعَ وَعْيٍ وَفَهْمٍ، وَأَطَعْنَا مَا أُمِرْنَا بِهِ فِيهِ، إِطَاعَةَ إِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: وَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِرَارًا أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ إِيمَانِ الْإِذْعَانِ وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ
الْإِنْسَانُ إِيمَانًا وَاعْتِقَادًا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ نَاقِضًا، فَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ اعْتِقَادًا حَقِيقِيًّا، وَقَلَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ تَقْلِيدٌ، بَقَاؤُهُ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ نَاقِضِهِ، وَالْإِذْعَانُ يُنَبِّهُ النَّفْسَ دَائِمًا إِلَى مَا تُذْعِنُ لَهُ، وَيَبْعَثُهَا دَائِمًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ إِلَّا إِذَا عَرَضَ مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْمَرْءُ مِنَ الْمَوَانِعِ ; وَلِهَذَا عَطْفَ أَطَعْنَا عَلَى سَمِعْنَا. وَلَمَّا كَانَ الْعَامِلُ الْمُذْعِنُ الْمُخْلِصُ يُرَاقِبُ قَلْبَهُ وَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى التَّقْصِيرِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ وَيَلُومُهَا عَلَى مَا دُونَ الْكَمَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مَعَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أَيْ يَسْأَلُونَهُ - تَعَالَى - أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعُوقُهَا عَنِ الرُّقِيِّ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ الَّذِي دَعَاهَا إِلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا، وَالْغُفْرَانُ كَالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ، وَسَتْرُ الذَّنْبِ يَكُونُ بِعَدَمِ الْفَضِيحَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ هَذَا بِالتَّوْبَةِ وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ مَعَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ يُمْحَى أَثَرُ الذُّنُوبِ مِنَ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا فَيُرْجَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ نَقِيَّةً زَكِيَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَصِيرَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ النُّفُوسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ.
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يُحَاسِبُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، وَالتَّكْلِيفُ: هُوَ الْإِلْزَامُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: مَا تَسَعُهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا عُسْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا دُونُ مَدَى طَاقَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُ - تَعَالَى - وَسُنَّتَهُ فِي شَرْعِ الدِّينِ أَلَّا يُكَلِّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْلِيفِ، وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ قَرِيبًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لَمْ يَقَعْ كَمَا قَالُوا، امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [٣: ١٠٢] كَمَا قِيلَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ وَجْهَانِ قِيلَ: هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - كَأَنَّهُ بِشَارَةٌ بِغُفْرَانِ مَا طَلَبُوا غُفْرَانَهُ
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ قِيلَ: إِنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ نُقِلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ عَمِلَ وَاعْتَمَلَ، فَكُلُّ مَنِ اكْتَسَبَ وَاعْتَمَلَ يُفِيدُ الِاخْتِرَاعَ وَالتَّكَلُّفَ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَةَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ الشَّرَّ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّأَسِّي. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَعَلَيْهَا عِقَابُ مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ خَيْرٌ بِالطَّبْعِ أَوْ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ؟ وَإِلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَمْيَلُ بِفِطْرَتِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَّفِقُ لَهُ فِي تَرْبِيَّتِهِ، الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى الْخَيْرِ مِمَّا أُودِعَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا فِيهِ نَفْعُ نَفْسِكَ وَنَفْعُ النَّاسِ. وَجُمَّاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِنْسَانُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ بِطَبْعِهِ، وَتَكُونُ فِيهِ لَذَّتُهُ، وَيَمِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ مَغْرُوسٌ فِي الطَّبْعِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ، وَأَقَلُّهُ الْبَشَاشَةُ وَالِارْتِيَاحُ لِلْمُنْعِمِ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَيَرَاهُ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ بِأَسْبَابٍ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِهَا وَلَا مُقْتَضَى فِطْرَتِهَا، وَمَهْمَا كَانَ الْإِنْسَانُ شِرِّيرًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَّ مَمْقُوتٌ فِي نَظَرِ النَّاسِ وَصَاحِبَهُ مَهِينٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ يَنْشَأُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنَ النَّاسِ فَيَتَعَلَّمُهُ، وَإِذَا رَأَى إِعْجَابَ النَّاسِ بِكَلَامِ مَنْ يَصِفُ شَيْئًا يَزِيدُ فِيهِ وَيُبَالِغُ كَاذِبًا اسْتَحَبَّ الْكَذِبَ وَافْتَرَاهُ لِيَنَالَ الْحُظْوَةَ عِنْدَ النَّاسِ، وَيَحْظَى بِإِعْجَابِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَشْعُرُ بِقُبْحِهِ حَتَّى إِذَا نُبِزَ أَمَامَهُ أَحَدٌ بِلَقَبِ الْكَاذِبِ أَوِ الْكَذَّابِ أَحَسَّ بِمَهَانَةِ نَفْسِهِ وَخِزْيِهَا، وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اقْتِرَافِ كُلِّ شَرٍّ يَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِقُبْحِهِ وَيَجِدُ مِنْ أَعْمَاقِ سَرِيرَتِهِ هَاتِفًا يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ وَيُوَبِّخُهُ إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ شَرًّا مَحْضًا - يُرِيدُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَأْلَفُ أَحَدٌ الشَّرَّ وَيَنْطَبِعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ طَبْعًا لَهُ لَا تَشْعُرُ نَفْسُهُ بِقُبْحِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمِلْيُونِ
مِنَ النَّاسِ شِرِّيرٌ وَاحِدٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ شَرٌّ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ أَرَادُوا مِنَ الطَّبْعِ مَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ غَالِبَ النَّاسِ وَلَمْ يُلَاحِظُوا فِيهِ مَعْنَى الْغَرِيزَةِ وَمَنَاشِئَ الْعَمَلِ مِنَ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ بَيْنَ مُنَازَعَاتِ الْكَوْنِ وَفَوَاعِلِ الطَّبِيعَةِ وَأَحْيَائِهَا
هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِيضَاحٍ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَيْرِ: كَسَبَتْ وَفِي الشَّرِّ اكْتَسَبَتْ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - يَرَى أَنَّ أَحَقَّ مَا يُتَعَجَّبُ لَهُ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ كَثْرَةُ عَمَلِ الشَّرِّ وَقِلَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ سَهْلٌ وَعَاقِبَتُهُ حَمِيدَةٌ، وَعَمَلَ الشَّرِّ عَسِرٌ وَمَغَبَّتُهُ ذَمِيمَةٌ، وَلَا عَجَبَ فِي تَعَجُّبِهِ، فَقَدْ كَانَ مَجْبُولًا مِنْ طِينَةِ الْخَيْرِ، سَلِيمَ الْفِطْرَةِ مِنْ عَوَارِضِ الشَّرِّ، حَتَّى لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الشُّرُورُ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْبَسْطِ لِكَثْرَةِ اشْتِبَاهِ النَّاسِ فِيهَا، وَلِشِّدَّةِ مَا عَارَضَنَا فِي تَقْرِيرِهَا الطُّلَّابُ فِي الدَّرْسِ، وَالْبَاحِثُونَ فِي الْمُحَاضَرَاتِ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَا هُوَ الشَّرُّ الْفِطْرِيُّ فِي الْبَشَرِ؟ لَيَقُولُنَّ: حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَالْغَضَبُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الْغَرِيزَتَانِ لَمَا جَلَبَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا، وَلَمَا دَفَعَ ضَرًّا، وَلَمَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ مَا نَرَى مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَمَحَاسِنِ الْخَلِيقَةِ، بَلْ لَوْلَاهُمَا لَبَادَتِ
الْأَفْرَادُ وَانْقَرَضَ النَّوْعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ وَالْمُرْشِدِ إِلَى كَمَالِهَا مَا يَكْفِي لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِيهِمَا غَالِبًا، حَتَّى لَا يَغْلِبَ فِي الْأُمَّةِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ أَصْلًا عَامًّا، وَالشَّرُّ عَرَضًا مُفَارِقًا، وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ جُبِلَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَافِعٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُهُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا، وَأَنَّ هِدَايَاتِهِ الْأَرْبَعَ: الْحِسَّ وَالْوِجْدَانَ وَالْعَقْلَ وَالدِّينَ كَافِيَةٌ لِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَافِعٌ، وَكُلَّ شَرٍّ ضَارٌّ، فَإِذَا قَصَّرَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ فَوَقَعَ فِي الشَّرِّ كَانَ وُقُوعُهُ فِيهِ أَثَرًا لِتَنَكُّبِ طَرِيقِ الْفِطْرَةِ لَا لِلسَّيْرِ عَلَى جَادَّتِهَا، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ النَّاسِ نَافِعَةٌ لَهُمْ غَيْرُ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَذِبِ الْأَطْفَالِ، وَمِنْهُ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَمَجَالِسِ الْبَحْثِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الزِّنَا مَثَلًا، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمِيلُ بِفِطْرَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَمِيلُ إِلَى الْوِقَاعِ، وَهَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَأَصُولِ الْكَمَالِ فِي الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا الزِّنَا وُضِعَ لَهُ فِي غَيْرِ
بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا شَأْنَ الْمُؤْمِنِ فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا يُلِمُّ بِهِ أَوْ يَتَّهِمُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَفَضْلَهُ وَمِنَّتَهُ فِي عَدَمِ تَكْلِيفِ النَّفْسِ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا، ثُمَّ عَلَّمَنَا هَذَا الدُّعَاءَ لِنَدْعُوَهُ بِهِ وَهُوَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فَتَرَكْنَا مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ أَوْ فَعَلْنَا مَا يَجِبُ تَرْكُهُ، أَوْ جِئْنَا بِالشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ أَنْ يُؤَاخَذَ عَلَيْهِمَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْوَجْهِ فِيهِ. وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْمُعَاقَبَةُ، وَهِيَ مِنَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرَادُ عِقَابُهُ يُؤْخَذُ بِيَدِ الْقَهْرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ لَا إِرَادَةَ لَهُمَا فِيمَا فَعَلَاهُ نِسْيَانًا أَوْ خَطَأً، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
وَالْكَلَامِ، وَيَتْبَعُهُ مِنَ الْمُنَاقَشَاتِ مَا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ حُدُودِ الْأَفْهَامِ، وَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ الْأَمْرَ فِي ذَاتِهِ عَلِمَ أَنَّ النَّاسِيَ يَصِحُّ أَنْ يُؤَاخَذَ فَيُقَالَ لَهُ لِمَ نَسِيتَ؟ فَإِنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ وَتَرْكِ إِجَالَةِ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَرْدِيدِهِ فِي النَّفْسِ لِيَسْتَقِرَّ فِي الذَّاكِرَةِ، فَتُبْرِزَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ يَنْسَى الْإِنْسَانُ مَا لَا يُهِمُّهُ وَيَحْفَظُ مَا يُهِمُّهُ، فَإِذَا كَانَ النِّسْيَانُ غَيْرَ اخْتِيَارِيٍّ فَسَبَبُهُ الَّذِي بَيَّنَاهُ آنِفًا اخْتِيَارِيٌّ، وَلِذَلِكَ يُؤَاخِذُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالنِّسْيَانِ لَا سِيَّمَا نِسْيَانُ الْأَدْنَى لِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْأَعْلَى، فَإِذَا عَهِدْتَ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ أَوْ فَضْلٌ بِأَنْ يَفْعَلَ كَذَا أَوْ يَجِيئَكَ فِي يَوْمِ كَذَا فَنَسِيَ وَلَمْ يَمْتَثِلْ فَإِنَّكَ تَسْأَلُهُ وَتُؤَاخِذُهُ بِمَا تَرْمِيهِ بِهِ مِنَ الْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِأَمْرِكَ، وَقَدْ آخَذَ اللهُ آدَمَ عَلَى ذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [٢٠: ١١٥] وَقَالَ فِي جَوَابِ مَنْ يَسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَبَّهُ لِمَ حَشَرَهُ أَعْمَى؟ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [٢٠: ١٢٦] وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [٥: ١٣] وَفِي الْآيَةِ: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [٥: ١٤] وَهُنَاكَ آيَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ فُسِّرَ النِّسْيَانُ فِيهَا بِالتَّرْكِ الَّذِي هُوَ لَازِمُهُ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ هُنَا أَيْضًا لَازِمُهُ، وَهُوَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ. وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ يَنْشَأُ مِنَ التَّسَاهُلِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّرَوِّي، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ الضَّمَانَ فِي إِتْلَافِ الْخَطَأِ وَالدِّيَةَ فِي جِنَايَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ امْرُؤٌ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا فَأَصَابَ إِنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَكَذَا فِي الْقَوَانِينِ
مِنْهُ أَنَّهُمَا مِمَّا يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُمَا إِذَا وَقَعَ الْعَبْدُ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرِّي وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَأَخْذِ الدِّينِ بِقُوَّةٍ وَشَعَرَ بِتَقْصِيرِهِ فَلَجَأَ إِلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يُقَوِّي فِي النَّفْسِ خَشْيَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَالرَّجَاءَ بِفَضْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - نُورًا تَنْقَشِعُ بِهِ ظُلْمَةُ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ، وَلَعَلَّ إِيرَادَ الشَّرْطِ بِأَنَّ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ هَذَا خِلَافَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا. وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا زِدْتُهُ عَلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَقَدْ يَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْفُوعُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي السُّنَنِ وَهُوَ: إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَسْلَمُ لَهُ إِسْنَادٌ، وَلَكِنَّهُ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُعَدُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ (قَالَهُ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ) وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مُخَالَفَتَهُ لِظَاهِرِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى وَضْعِهِ لَا ضَعْفِهِ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنْفُسَهَا مِمَّا يُتَجَاوَزُ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَ صَلَاةً أُعِيدَتْ وَإِنْ كَانَ ذَنْبًا وَجَبَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ، وَإِلَّا أُوخِذَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ دُونَهُمَا، وَقَدْ أَخْطَأَ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ بِمَا كَتَبَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأً نَدْعُو اللهَ أَنْ يَغْفِرَهُ لَهُ.
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا الْإِصْرُ: الْعِبْءُ الثَّقِيلُ، يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ لِثِقَلِهِ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا الرُّسُلُ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ كَانَتِ التَّكَالِيفُ شَاقَّةً عَلَيْهِمْ جِدًّا، وَفِي تَعْلِيمِنَا هَذَا الدُّعَاءَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُكَلِّفُنَا مَا يَشُقُّ عَلَيْنَا. كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَانَ عَلَيْنَا وَإِعْلَامَنَا بِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْنَا الْإِصْرَ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا شُكْرُهُ لِذَلِكَ، وَحِكْمَةُ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ الْآنَ اسْتِشْعَارُ النِّعْمَةِ وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِصْرَ هُوَ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الِامْتِثَالِ وَعَدَمِ حَمْلِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا،
ضَاعَتْ أَوْ تَضَعْضَعَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَنَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ حَتَّى عَادُوا إِلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ.
رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَوْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْفِتَنِ وَالْمِحَنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَجَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ وَالْخِلَافُ فِيهَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ يَجُوزُ عَلَى اللهِ عَقْلًا أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ مَا لَا يُطِيقُونَ أَمْ لَا؟ وَالْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَمَا لَا يُطَاقُ هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي مَكِنَةِ الْإِنْسَانِ وَطَوْقِهِ، وَمَا يُطَاقُ: هُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ جَعَلُوا مَا لَا يُطَاقُ بِمَعْنَى الْمُتَعَذِّرِ الَّذِي يَعْلُو الْقُدْرَةَ كَالَّذِي يَسْتَحِيلُ فِعْلُهُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا، لَا بِعُرْفِ أَفْلَاطُونَ وَفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو، وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَرَبَ تُعَبِّرُ مِمَّا يُطَاقُ عَمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَيْسَ يَبِينُ فَضْلُ الْمَرْءِ إِلَّا | إِذَا كَلَّفْتَهُ مَا لَا يُطِيقُ |
أَنْتَ مَوْلَانَا الَّذِي مَنَحْتَنَا أَنْوَاعَ الْهِدَايَةِ، وَأَيَّدْتَنَا بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِنَايَةِ، فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ، وَجَهِلُوا سُنَنَكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَأَعْرَضُوا عَمَّا مَدَدْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَرْبَابِ، وَالَّذِينَ حَجَبَتْهُمْ سُنَنُكَ الْكَوْنِيَّةُ، عَنِ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ
اسْتَحْسَنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْسِيرَ الْجَلَالِ " النَّصْرَ " بِالْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ وَبِالسَّيْفِ وَقَالَ: إِنَّ النَّصْرَ بِالْحُجَّةِ هُوَ أَعْلَى النَّصْرِ وَأَفْضَلُهُ؛ لِأَنَّهُ نَصْرٌ عَلَى الرُّوحِ وَالْعَقْلِ، وَالنَّصْرُ بِالسَّيْفِ إِنَّمَا هُوَ نَصْرٌ عَلَى الْجَسَدِ وَلَا نُؤْثِرُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْآيَةِ شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِ هَذَا الدُّعَاءِ كُلِّهِ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا عَلَّمَنَا هَذَا الدُّعَاءَ لِأَجْلِ أَنْ نَلُوكَهُ بِأَلْسِنَتِنَا وَنُحَرِّكَ بِهِ شِفَاهَنَا فَقَطْ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، بَلْ عَلَّمَنَا إِيَّاهُ لِأَجْلِ أَنْ نَدْعُوَهُ بِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ لَاجِئِينَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخْذِ مَا أَنْزَلَهُ بِقُوَّةٍ وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُنَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَنْ دَعَاهُ بِلِسَانِ مَقَالِهِ وَلِسَانِ حَالِهِ مَعًا فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ بِلَا شَكٍّ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا حَرَكَةَ اللِّسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَحْكَامِ وَتَنَكُّبِ السُّنَنِ فَهُوَ بِدُعَائِهِ كَالسَّاخِرِ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا مَقْتَهُ وَخُذْلَانَهُ، فَإِذَا كَانَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ بَيَّنَ لَنَا سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ، وَهَدَانَا إِلَى طُرُقِ الْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ، فَأَعْرَضْنَا عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكَّبْنَا سُنَنَهُ فِي خَلِيقَتِهِ، ثُمَّ طَلَبْنَا مِنْهُ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا دُونَ قُلُوبِنَا وَجَوَارِحِنَا، أَفَلَا نَكُونُ نَحْنُ الْجَانِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا؟ وَتَوَقُّفُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَلْزِمُ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْعِلْمِ، فَلَا يَكُونُ الدَّاعِي دَاعِيًا حَقِيقَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَاتَّبَعْهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ. فَإِذَا اتَّخَذَتِ الْأُمَّةُ الْوَسَائِلَ الَّتِي أُمِرَتْ بِهَا وَدَعَتِ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُثَبِّتَهَا وَيُتِمَّ لَهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَجِيبُ لَهَا حَتْمًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ. فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - التَّوْفِيقَ وَهِدَايَةَ أَقْوَمِ طَرِيقٍ.
(وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةُ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ) نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَدِينَةِ وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، مِنْهَا (الم) أَوَّلُ السُّورَةِ عُدَّتْ فِي الْكُوفِيِّ آيَةً (وَالْإِنْجِيلَ) الْأُولَى لَمْ تَعُدَّ فِي الشَّامِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
الِاتِّصَالُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوهٍ:
فَمِنْهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بُدِئَ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَشَأْنِ النَّاسِ فِي الِاهْتِدَاءِ، فَفِي السُّورَةِ الْأُولَى ذَكَرَ أَصْنَافَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ وَالْمُنَاسِبُ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيمُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي أَصْلِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ الزَّائِغِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَيَقُولُونَ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَالْمُنَاسِبُ فِيهِ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا وَقَعَ بَعْدَ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ حَاجَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَفَاضَتْ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَاخْتَصَرَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى، وَالثَّانِيَةَ بِالْعَكْسِ، وَالنَّصَارَى مُتَأَخِّرُونَ عَنِ الْيَهُودِ فِي الْوُجُودِ وَفِي الْخِطَابِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِفَاضَةُ فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ.
(وَمِنْهَا) مَا فِي الْأُولَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ آدَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ عِيسَى، وَتَشْبِيهِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ جَاءَ بَدِيعًا عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ سَابِقَةٍ فِي الْخَلْقِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا.
(وَمِنْهَا) أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامًا مُشْتَرَكَةً كَأَحْكَامِ الْقِتَالِ. وَمَنْ قَابَلَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ رَأَى أَنَّ مَا فِي الْأُولَى أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ وَمَا فِي الثَّانِيَةِ أَجْدَرُ بِالتَّأْخِيرِ.
(وَمِنْهَا) الدُّعَاءُ فِي آخِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالدُّعَاءُ فِي الْأُولَى يُنَاسِبُ بَدْءَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ وَطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى جَاحِدِي الدَّعْوَةِ وَمُحَارِبِي أَهْلِهَا. وَفِي الثَّانِيَةِ يُنَاسِبُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَلَامَ فِي قَبُولِ الدَّعْوَةِ وَطَلَبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. (وَمِنْهَا) مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَتْمِ الثَّانِيَةِ بِمَا يُنَاسِبُ بَدْءَ الْأُولَى كَأَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لَهَا ; ذَلِكَ أَنَّهُ بَدَأَ الْأُولَى بِإِثْبَاتِ الْفَلَاحِ لِلْمُتَّقِينَ. وَخَتَمَ الثَّانِيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (الم) هُوَ اسْمُ السُّورَةِ عَلَى الْمُخْتَارِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَيُقَالُ: قَرَأْتُ (الم) الْبَقَرَةِ و (الم) آلِ عِمْرَانَ وَ (الم) السَّجْدَةِ. وَيُقْرَأُ بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا، وَتُذْكَرُ سَاكِنَةً كَمَا تُذْكَرُ أَسْمَاءُ الْعَدَدِ. فَتَقُولُ: أَلِفْ لَامْ مِيمْ، كَمَا تَقَدَّمَ: وَاحِدْ اثْنَانْ ثَلَاثَةْ، وَتُمَدُّ اللَّامُ وَالْمِيمُ، وَإِذَا وَصَلْتَ بِهِ لَفْظَ الْجَلَالَةِ جَازَ لَكَ فِي الْمِيمِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ بِاتِّفَاقِ
الْجَلَالَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْشَى وَالْبَرْجَمِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَطْعِ الْهَمْزَةِ.
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ تَقْرِيرٌ لِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَّلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالْإِسْهَابِ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أَيْ أَوْحَى إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَكْتُوبَ بِالتَّدْرِيجِ مُتَّصِفًا بِالْحَقِّ مُتَلَبِّسًا بِهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْوَحْيِ بِالتَّنْزِيلِ وَبِالْإِنْزَالِ كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى لِلْإِشْعَارِ بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْمُوحِي عَلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَيَصِحُّ التَّعْبِيرُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ كُلِّ عَطَاءٍ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [٥٧: ٢٥] وَأَمَّا التَّدْرِيجُ فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ صِيغَةِ التَّنْزِيلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْوَقَائِعِ.
وَمَعْنَى تَنْزِيلِهِ بِالْحَقِّ أَنَّ فِيهِ مَا يُحَقِّقُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّيَّتِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُكْمِ حَقٌّ، وَقَدْ يُوصَفُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْفَائِدَةُ تَتَحَقَّقُ بِهِ، وَفِي أَشْهَرِ التَّفَاسِيرِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْعَدْلُ أَوِ الصِّدْقُ فِي الْأَخْبَارِ، أَوِ الْحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَعَمُّ وَأَوْضَحُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ مُبَيِّنًا صِدْقَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ كَوْنُهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَذَلِكَ أَنْ أَثْبَتَ الْوَحْيَ وَذَكَرَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَرْسَلَ رُسُلًا أَوْحَى إِلَيْهِمْ، فَهَذَا تَصْدِيقٌ إِجْمَالِيٌّ لِأَصِلِ الْوَحْيِ لَا يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَ مَا عِنْدَ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْتَمِي إِلَى أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكُتُبِ بِأَعْيَانِهَا وَمَسَائِلِهَا. وَمِثَالُهُ تَصْدِيقُنَا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْدِيقَ كُلِّ مَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ، بَلْ مَا ثَبَتَ مِنْهَا عِنْدَنَا فَقَطْ.
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ التَّوْرَاةُ: كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ مَعْنَاهَا الْمُرَادُ الشَّرِيعَةُ أَوِ النَّامُوسُ، وَهِيَ تُطْلَقُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْفَارٍ يَقُولُونَ إِنَّ مُوسَى كَتَبَهَا، وَهِيَ سِفْرُ التَّكْوِينِ وَفِيهِ الْكَلَامُ عَنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ وَأَخْبَارِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسِفْرُ الْخُرُوجِ، وَسِفْرُ اللَّاوِيِّينَ أَوِ الْأَخْبَارِ، وَسِفْرُ الْعَدَدِ، وَسِفْرُ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ وَيُقَالُ التَّثْنِيَةُ فَقَطْ. وَيُطْلِقُ النَّصَارَى لَفْظَ التَّوْرَاةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَهْدَ الْعَتِيقَ، وَهِيَ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَتَارِيخُ قُضَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكِهِمْ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَمِنْهَا
مَا لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَهُ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْعَهْدِ الْجَدِيدِ مَعًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِنْجِيلِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ. أَمَّا التَّوْرَاةُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ فَهِيَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيُبَلِّغَهُ قَوْمَهُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَحْفَظُوهُ كُلَّهُ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [٥: ١٣] كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا حَفِظُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ. وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْخَمْسَةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تَنْطِقُ بِمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنْ أَنَّ مُوسَى كَتَبَ
" [٢٤] فَعِنْدَمَا كَمَّلَ مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلَى تَمَامِهَا [٢٥] أَمَرَ مُوسَى اللَّاوِيِينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ قَائِلًا [٢٦] خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [٢٧] لِأَنِّي أَنَا عَارِفٌ تَمَرُّدَكُمْ وَرِقَابَكُمُ الصُّلْبَةَ. هُوَ ذَا وَأَنَا بَعْدُ حَيٌّ مَعَكُمُ الْيَوْمَ قَدْ صِرْتُمْ تُقَاوِمُونَ الرَّبَّ فَكَمْ بِالْحَرَى بَعْدَ مَوْتِي [٢٨] اجْمَعُوا إِلَيَّ كُلَّ شُيُوخِ أَسْبَاطِكُمْ وَعَرْفَاءَكُمْ لِأَنْطِقَ فِي مَسَامِعِهِمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَأُشْهِدُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ [٢٩] لِأَنِّي عَارِفٌ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِي تَفْسُدُونَ وَتَزِيغُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَيُصِيبُكُمُ الشَّرُّ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّكُمْ تَعْمَلُونَ الشَّرَّ أَمَامَ الرَّبِّ حَتَّى تَغِيظُوهُ بِأَعْمَالِ أَيْدِيكُمْ [٣٠] فَنَطَقَ مُوسَى فِي مَسَامِعِ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ بِكَلِمَاتِ هَذَا النَّشِيدِ إِلَى تَمَامِهِ " - وَهَاهُنَا ذَكَرَ النَّشِيدَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ أَيِ الْكَاتِبُ لِسِفْرِ التَّثْنِيَةِ - " [٤٤] فَأَتَى مُوسَى وَنَطَقَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذَا النَّشِيدِ فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ هُوَ وَيَشُوعُ بْنُ نُونٍ [٤٥] وَلَمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنْ مُخَاطَبَةِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ بِكُلِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ [٤٦] قَالَ لَهُمْ وَجِّهُوا قُلُوبَكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِهَا الْيَوْمَ لِكَيْ تُوصُوا بِهَا أَوْلَادَكُمْ لِيَحْرِصُوا أَنْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ [٤٧] ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا بَاطِلًا عَلَيْكُمْ بَلْ هِيَ حَيَاتُكُمْ. وَبِهَذَا الْأَمْرِ تُطِيلُونَ الْأَيَّامَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الْأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا "
وَمِنْهُ خَبَرُ مَوْتِ مُوسَى وَكَوْنُهُ لَمْ يَقُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيٌّ مِثْلُهُ بَعْدُ، أَيْ
إِلَى وَقْتِ الْكِتَابَةِ. فَهَذَانَ الْخَبَرَانِ عَنْ كِتَابَةِ مُوسَى لِلتَّوْرَاةِ وَعَنْ مَوْتِهِ مَعْدُودَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَمَا هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى الَّتِي كَتَبَهَا وَوَضَعَهَا بِجَانِبِ التَّابُوتِ، بَلْ كُتِبَا كَغَيْرِهِمَا بَعْدَهُ وَقَدْ ظَهَرَ تَأْوِيلُ عِلْمِ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ فَسَدُوا وَزَاغُوا بَعْدَهُ كَمَا قَالَ.
وَأَضَاعُوا التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا ثُمَّ كَتَبُوا غَيْرَهَا، وَلَا نَدْرِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخَذُوا مَا كَتَبُوهُ عَلَى أَنَّهُ فُقِدَ أَيْضًا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَيَّامِ الثَّانِي " أَنَّ حَلْقِيَا الْكَاهِنَ وَجَدَ سِفْرَ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَسَلَّمَهُ إِلَى شَافَانَ الْكَاتِبِ فَجَاءَ بِهِ شَافَانُ إِلَى الْمَلِكِ " قَالَ صَاحِبُ دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا السِّفْرَ الَّذِي وَجَدَهُ حَلْقِيَا هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ مُوسَى وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُمْ أَضَاعُوهُ أَيْضًا ثُمَّ إِنَّ عِزْرَا الْكَاهِنَ الَّذِي " هَيَّأَ قَلْبَهُ لِطَلَبِ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَالْعَمَلِ بِهَا وَلِيُعَلِّمَ إِسْرَائِيلَ فَرِيضَةً وَقَضَاءً " قَدْ كَتَبَ لَهُمُ الشَّرِيعَةَ بِأَمْرِ أَرْتَحْشِسْتَا مَلَكِ فَارِسٍ الَّذِي أَذِنَ لَهُمْ (أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) بِالْعَوْدَةِ إِلَى أُورْشَلِيمَ.
وَقَدْ أَمَرَ هَذَا الْمَلِكُ بِأَنْ تُقَاوَمَ شَرِيعَتُهُمْ وَشَرِيعَتُهُ كَمَا فِي سِفْرِ عِزْرَا (رَاجِعِ الْفَصْلَ السَّابِعَ مِنْهُ) فَجَمِيعُ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ كَمَا كُتِبَ غَيْرُهَا مِنْ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ الْبَابِلِيَّةِ فِيهَا، وَقَدِ اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللَّاهُوتِ
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ مَنْ يَسْأَلُ: مَنْ أَيْنَ جَمَعَ عِزْرَا تِلْكَ الْكُتُبَ بَعْدَ فَقْدِهَا وَإِنَّمَا يُجْمَعُ الْمَوْجُودُ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ اعْتَمَدَ فِي إِصْلَاحِ غَلَطِهَا؟ قَائِلِينَ: إِنَّهُ كَتَبَ مَا كَتَبَ بِالْإِلْهَامِ فَكَانَ صَوَابًا، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِلْهَامَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ
وَلَا هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى جَمْعِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ الَّذِينَ لَا ثِقَةَ بِنَقْلِهِمْ. وَلَوْ كَتَبَ عِزْرَا بِالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ لَكَتَبَ شَرِيعَةَ مُوسَى مُجَرَّدَةً مِنَ الْأَخْبَارِ التَّارِيخِيَّةِ، وَمِنْهَا ذِكْرُ كِتَابَتِهِ لَهَا وَوَضْعُهَا فِي جَانِبِ التَّابُوتِ وَذِكْرُ مَوْتِهِ وَعَدَمُ مَجِيءِ مِثْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا أَنَّ أَسْفَارَ التَّوْرَاةِ كُتِبَتْ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ كِتَابَةَ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا أَنْ نُطِيلَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي يَشْهَدُ لَهَا الْقُرْآنُ هِيَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى مُوسَى لِيُبَلِّغَهُ قَوْمَهُ بِالْقَوْلِ وَالْكِتَابِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ الَّتِي عِنْدَ الْقَوْمِ فَهِيَ كُتُبٌ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ فِي الْيَهُودِ: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، كَمَا يَقُولُ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تُنْسَى تِلْكَ الْأُمَّةُ بَعْدَ فَقْدِ كِتَابِ شَرِيعَتِهَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا. فَمَا كَتَبَهُ عِزْرَا وَغَيْرُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا حُفِظَ مِنْهَا إِلَى عَهْدِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَهَذَا كَافٍ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَلِلشَّهَادَةِ بِأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللهِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ; وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَبَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَعْرُوفِ فِي تَارِيخِ الْقَوْمِ.
أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْجِيلِ " فَهُوَ يُونَانِيُّ الْأَصْلِ، وَمَعْنَاهُ الْبِشَارَةُ، قِيلَ: وَالتَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ وَهُوَ يُطْلَقُ عِنْدَ النَّصَارَى عَلَى أَرْبَعَةِ كُتُبٍ تُعْرَفُ بِالْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ وَهُوَ هَذِهِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (أَيِ الْحَوَارِيِّينَ) وَرَسَائِلُ بُولِسَ وَبُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَرُؤْيَا يُوحَنَّا، أَيْ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا عَدَا الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ بِالِانْفِرَادِ، وَالْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُتُبٍ وَجِيزَةٍ فِي سِيرَةِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ أَنَاجِيلَ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْكُتُبِ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي تَارِيخِ كِتَابَتِهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي السَّنَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْإِنْجِيلُ الْأَوَّلُ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ وَفِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا ; عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا كُتِبَتْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْمَسِيحِ، لَكِنَّ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِي الْإِنْجِيلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ ٣٧ وَمِنْهَا أَنَّهُ كُتِبَ
وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى رَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يُتَمِّمُ الشَّرِيعَةَ وَالْحُكْمَ وَالْأَحْكَامَ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى فِي (٥: ١٤) أَنَّ النَّصَارَى نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَالْيَهُودِ، وَهُمْ أَجْدَرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ كُتِبَتْ فِي زَمَنِ نُزُولِهَا، وَكَانَ الْأُلُوفُ مِنَ النَّاسِ يَعْمَلُونَ بِهَا، ثُمَّ فُقِدَتْ، وَالْكَثِيرُ مِنْ أَحْكَامِهَا مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ، وَلَا ثِقَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَّا كُتُبُ النَّصَارَى فَلَمْ تُعْرَفْ وَتُشْهَرْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ لِلْمَسِيحِ؛ لِأَنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ، فَلَمَّا أَمِنُوا بِاعْتِنَاقِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ النَّصْرَانِيَّةَ سِيَاسَةً ظَهَرَتْ كُتُبُهُمْ وَمِنْهَا تَوَارِيخُ الْمَسِيحِ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى بَعْضِ كَلَامِهِ الَّذِي هُوَ إِنْجِيلُهُ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً فَتَحَكَّمَ فِيهَا الرُّؤَسَاءُ حَتَّى اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. فَمَنْ فَهِمَ مَا قُلْنَاهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ عُرْفِ الْقُرْآنِ وَعُرْفِ الْقَوْمِ فِي مَفْهُومِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمُمَحِّصُ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي أَضَاعَهَا الْقَوْمُ، وَهِيَ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَصِحُّ أَنَّ يُعَدَّ هَذَا التَّمْحِيصُ مِنْ آيَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأُ هَذِهِ الْأَسْفَارَ وَالْأَنَاجِيلَ الْمَعْرُوفَةَ وَلَا تَوَارِيخَ أَهْلِهَا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ وَأُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ فَقَطْ، بَلْ كَانَ يُجَارِيهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: الْأَنَاجِيلُ لَا الْإِنْجِيلُ. ثُمَّ إِنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا لَا تَرُوجُ عِنْدَهُ شُبَهَاتُ الْقِسِّيسِينَ الَّذِينَ يُوهِمُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ هِيَ الَّتِي شَهِدَ بِصِدْقِهَا الْقُرْآنُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلِمَةِ " أَنْزَلَ " أَنَّ التَّوْرَاةَ نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً فِي الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ فَإِنَّهَا مَعَ تَرْتِيبِهَا مُكَرَّرَةٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَسْفَارَ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْكُتُبَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهَا لَمَا أَفْرَدَ الْإِنْجِيلَ دَائِمًا، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً عِنْدَ النَّصَارَى حِينَئِذٍ، وَحَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَيَانَ اشْتِقَاقِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ أَصْلٍ عَرَبِيٍّ وَمَا هُمَا بِعَرَبِيَّيْنِ، وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ - وَهِيَ عِبْرِيَّةٌ - الشَّرِيعَةُ، وَمَعْنَى الْإِنْجِيلِ - وَهِيَ يُونَانِيَّةٌ - الْبِشَارَةُ، وَإِنَّمَا الْمَسِيحُ
مُبَشِّرٌ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُكْمِلُ الشَّرِيعَةَ لِلْبَشَرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُمَا هُدًى لِلنَّاسِ فَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ أَقُولُ: الْفُرْقَانُ: مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَهُوَ هُنَا مَا يُفَرَّقُ وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُوَ كُلُّ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ كَالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ تَكُونُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِنْزَالُهُ مِنْ قَبِيلِ إِنْزَالِ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عَنِ الْحَضْرَةِ الْعَلِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ يُسَمَّى إِعْطَاؤُهُ إِنْزَالًا، وَمَا قَالَهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ ; فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ آلَةُ التَّفْرِقَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّورَى:
اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ [٤٢: ١٧] وَقَدْ فَسَّرُوا الْمِيزَانَ بِالْعَدْلِ، فَاللهُ - تَعَالَى - قَرَنَ بِالْكِتَابِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْفُرْقَانَ: وَهُوَ مَا نَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ فِي الْعَقَائِدِ فَنُفَرِّقُهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَثَانِيهِمَا الْمِيزَانُ: وَهُوَ مَا نَعْرِفُ بِهِ الْحُقُوقَ فِي الْأَحْكَامِ فَنَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهَا، فَكُلُّ مَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ فِي الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَا قَامَ بِهِ الْعَدْلُ فَهُوَ حُكْمٌ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنَزِّلُ، أَيِ الْمُعْطِي لِلْعَقْلِ وَالْعَدْلِ أَوِ الْفُرْقَانِ وَالْمِيزَانِ كَمَا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْمُنَزِّلُ، أَيِ الْمُعْطِي لِلْكِتَابِ، وَلَسْنَا نَسْتَغْنِي بِشَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَنْ آخَرِ. وَمَا زَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَأَهْلُ التَّوْحِيدِ يَعُدُّونَ الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ هِيَ الْأَصْلَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَيَجِبُ عَلَى عُلَمَاءِ الْأَحْكَامِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ أَنْ يَحْذُوا حَذْوَهُمْ فِي الْعَدْلِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ يُمْكِنَ أَنْ يُعْرَفَ وَيُطْلَبَ لِذَاتِهِ وَأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَهَادِيَةٌ إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَسَاسُهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ. وَالْغَزَالِيُّ يُفَسِّرُ الْمِيزَانَ بِالْعَقْلِ الَّذِي يُؤَلِّفُ الْحُجَجَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ قَوَامُ الْمَرْءِ الْعَقْلُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَابْنِ النَّجَّارِ دِينُ الْمَرْءِ عَقْلُهُ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طُرُقِ السَّعَادَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا يُلْقِي الْكَفْرُ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ الَّتِي تُطْفِئُ نُورَهَا، وَمَا يَجُرُّهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي تُدَسِّي نُفُوسَهُمْ وَتُدَنِّسُهَا حَتَّى تَكُونَ ظُلْمَةُ عُقُولِهِمْ وَفَسَادُ نُفُوسِهِمْ مَنْشَأَ عَذَابِهِمُ الشَّدِيدِ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْحَيَاةُ الرُّوحِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْحَيَاةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ شَاغِلٌ وَلَا مُسَلٍّ مِنَ الْمَادَّةِ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَحِيمِ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ فَهُوَ بِعِزَّتِهِ يُنْفِذُ سُنَنَهُ فَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ خَالَفَهَا بِسُلْطَانِهِ الَّذِي لَا يُعَارَضُ، وَالِانْتِقَامُ مِنَ النِّقْمَةِ وَهِيَ السَّطْوَةُ وَالسُّلْطَةُ، وَيَسْتَعْمِلُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ الِانْتِقَامَ بِمَعْنَى التَّشَفِّي بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -.
وَإِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ فِي نَفْسِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا - كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ - إِنَّهَا نَزَلَتْ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى نَحْوِ ثَمَانِينَ آيَةً فِي نَصَارَى نَجْرَانَ، إِذْ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا فَذَكَرُوا عَقَائِدَهُمْ وَاحْتَجُّوا عَلَى التَّثْلِيثِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ بِكَوْنِهِ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الَّتِي عُرِفَتْ فِي تَوَالُدِ الْبَشَرِ، وَبِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَبِالْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ
الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - غَيْرَ جَازِمٍ بِهِ - وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَمَّا مَا قَالَهُ فِي تَوْجِيهِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بَدَأَ بِذِكْرِ تَوْحِيدِ اللهِ لِيَنْفِيَ عَقِيدَتَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ هَذَا النَّفْيَ كَقَوْلِهِ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَيِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ قَدْ وُجِدَتْ قَبْلَ عِيسَى فَكَيْفَ تَقُومُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنْ قَالَ نَزَّلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَنْزَلَ الْوَحْيَ وَشَرَّعَ الشَّرِيعَةَ قَبْلَ وُجُودِ عِيسَى كَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُنَزِّلَ لِلْكُتُبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ نَبِيًّا مِثْلَهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ الْعَقْلَ لِلْبَشَرِ لِيُفَرِّقُوا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعِيسَى لَمْ يَكُنْ وَاهِبًا لِلْعُقُولِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ السَّائِلِينَ تَجَاوَزُوا حُدُودَ الْعَقْلِ. أَقُولُ: وَفِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْكُتُبِ وَالْفُرْقَانِ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْوَلَدِ وَالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ بِأَحَدٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ. قَالَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى أُلُوهِيَّةِ عِيسَى بِإِخْبَارِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَهُوَ يُثْبِتُ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، وَعِيسَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ إِلَخْ رَدٌّ لِشُبْهَتِهِمْ فِي وِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، أَيِ الْوِلَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ لَيْسَتْ
وَبِوَصْفِهِ - تَعَالَى - بِالْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذِكْرِ الْأَرْحَامِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ عِيسَى تَكَوَّنَ وَصُوِّرَ فِي الرَّحِمِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَهَذَا رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى تَمْيِيزِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ ; إِذْ وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ مَعْنَاهَا حَتَّى حَاوَلْتُمْ جَعْلَهَا نَاقِضَةً لِلْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ.
(بَحْثُ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ) أَقُولُ: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى: وَثَّقَهُ وَأَتْقَنَهُ. وَالْمَعْنَى الْعَامُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْكَمٍ يَمْنَعُ بِإِحْكَامِهِ تَطَرُّقَ الْخَلَلِ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَحِكْمَةُ الْفَرَسِ، قِيلَ وَهِيَ أَصْلُ الْمَادَّةِ. وَ " الْمُتَشَابِهُ " يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا لَهُ أَفْرَادٌ أَوْ أَجْزَاءٌ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَلَى مَا يَشْتَبِهُ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ يَلْتَبِسُ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: " وَتَشَابَهَ الشَّيْئَانِ وَاشْتَبَهَا، وَشَبَّهْتُهُ بِهِ وَشَبَّهْتُهُ إِيَّاهُ وَاشْتَبَهَتِ الْأُمُورُ وَتَشَابَهَتْ: الْتَبَسَتْ لِإِشْبَاهِ بَعْضِهَا بَعْضًا. وَفِي الْقُرْآنِ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ، وَشَبِهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ: لُبِّسَ عَلَيْهِ، وَإِيَّاكَ وَالْمُشْتَبِهَاتِ: الْأُمُورَ الْمُشْكِلَاتِ " وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْإِحْكَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ بِقَوْلِهِ: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [١١: ١] وَهُوَ مِنْ إِحْكَامِ النَّظْمِ وَإِتْقَانِهِ أَوَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ آيَاتُهُ عَلَيْهَا، وَوُصِفَ كُلُّهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [٣٩: ٢٣] أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي هِدَايَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٤: ٨٢] أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [٢: ٢٥] فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا جِيئُوا بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ أَخِيرًا يُشْبِهُ مَا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّهُمُ اشْتَبَهُوا بِهِ لِهَذَا التَّشَابُهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْأَصْلَ فِي وُرُودِ التَّشَابُهِ بِمَعْنَى الْمُشْكِلِ الْمُلْتَبِسِ أَنْ يَكُونَ الِالْتِبَاسُ فِيهِ بِسَبَبِ شَبَهِهِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مُلْتَبِسٍ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَسَاسِ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَتَانِ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ كُلُّهُ بِالْمُحْكَمِ وَبِالْمُتَشَابِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتْقَنٌ وَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِيمَا ذُكِرَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فِي مَعْنًى خَاصٍّ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ هِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [٦: ١٥١] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا. وَالْمُتَشَابِهَاتِ هِيَ الَّتِي تَشَابَهَتْ عَلَى الْيَهُودِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ ; وَذَلِكَ
ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَزَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْوَصَايَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا يُسَمَّى بِالْمُجْمَلِ، أَوْ هُوَ مَا تَكُونُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَهَذَا رَأَيٌّ مُسْتَقِلٌّ يَجْعَلُ الْمَعْنَى الْخَاصَّ عَامًّا وَهُوَ لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا كَانَ دَلِيلُهُ وَاضِحًا لَائِحًا، كَدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ. عَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى الْأَصَمِّ وَبَحَثَ فِيهِ.
(رَابِعُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ كُلُّ مَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ بِدَلِيلٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ، وَالْمُتَشَابِهَ: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَمَقَادِيرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ ذَكَرَهَا الرَّازِيُّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى غَيْرِهَا، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ بَعْضِ مَا ذُكِرَ فَنُورِدُهَا فِي سِيَاقِ الْعَدَدِ.
(خَامِسُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ: مَا أَحْكَمَ اللهُ فِيهَا بَيَانَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَالْمُتَشَابِهَ مِنْهَا: مَا أَشْبَهَ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْمَعَانِي وَإِنِ اخْتَلَفَ أَلْفَاظُهُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِبَارَتُهُ عِنْدَهُ:
مُحْكَمَاتٌ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ يَصْرِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [٢: ٢٦] وَمِثْلُ قَوْلِهِ: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [٦: ١٢٥] وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [٤٧: ١٧] وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا يَعْنِي بِالْمُتَشَابِهِ: مَا فِيهِ إِبْهَامٌ أَوْ عُمُومٌ أَوْ إِطْلَاقٌ، أَوْ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ حُكْمًا عَمَلِيًّا، فَهُوَ عِنْدُهُ خَاصٌّ بِالْإِنْشَاءِ دُونَ الْخَبَرِ.
(سَادِسُهَا) أَنَّ الْمُحْكَمَ مِنْ آيِ الْكِتَابِ: مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهَ: مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِبَارَتُهُ عِنْدَهُ هَكَذَا: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ وَدَفْعُ
الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهَا تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعَتْ عَلَيْهِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَةٌ فِي الصِّدْقِ، لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ ابْتَلَى اللهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، لَا يُصْرَفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَا يُحَرَّفْنَ عَنِ الْحَقِّ اهـ. وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي حِكَايَتِهِ عَنْهُ تَجْعَلُ الْمُحْكَمَ بِمَعْنَى النَّصِّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَشَابِهَ مَا يُقَابِلُهُ.
(سَابِعُهَا) أَنَّ التَّقْسِيمَ خَاصٌّ بِالْقِصَصِ، فَالْمُحْكَمُ مِنْهَا مَا أُحْكِمَ وَفُصِّلَ فِيهِ خَبَرُ الْأَنْبِيَاءِ
(ثَامِنُهَا) أَنَّ الْمُتَشَابِهَ: مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْمُحْكَمُ: مَا يُقَابِلُهُ.
(تَاسِعُهَا) أَنَّ الْمُتَشَابِهَ: مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ، فَالْمُحْكَمُ: هُوَ قِسْمُ الْإِنْشَاءِ.
(عَاشِرُهَا) أَنَّ الْمُتَشَابِهَ: آيَاتُ الصِّفَاتِ (أَيْ صِفَاتُ اللهِ) خَاصَّةً وَمِثْلُهَا أَحَادِيثُهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مَعْنَى الْمُتَشَابِهَاتِ: التَّشَابُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ عَدَمَ فَهْمِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) وَوَصْفُ التَّشَابُهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ لِلْآيَاتِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا، أَيْ إِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَجِدُ مَعَانِيَ مُتَشَابِهَةً فِي فَهْمِهَا مِنَ اللَّفْظِ لَا يَجِدُ الذِّهْنُ مُرَجِّحًا لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا كَانَ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى فِيهِ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَنَفْيُهُ عَنْهُ مُتَسَاوِيَانِ، فَقَدْ تَشَابَهَ فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ أَوْ مَا دَلَّ فِيهِ اللَّفْظُ عَلَى شَيْءٍ وَالْعَقْلُ عَلَى خِلَافِهِ فَتَشَابَهَتِ الدَّلَالَةُ وَلَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ، كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَكَوْنِ عِيسَى رُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَنْفِي الْعَقْلُ شَيْئًا مِنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ، أَمَّا كَوْنُ الْمُحْكَمَاتِ هُنَّ أُمَّ الْكِتَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ أَصْلُهُ وَعِمَادُهُ أَوْ مُعْظَمُهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَكِنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ الَّذِي دُعِيَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَفْهَمُوهَا وَيَهْتَدُوا بِهَا، وَعَنْهَا يَتَفَرَّعُ غَيْرُهَا وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ، فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْنَا شَيْءٌ نَرُدُّهُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّدِّ أَنْ نُئَوِّلَهُ بَلْ أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَسَاسُ الدِّينِ
الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إِلَّا احْتِمَالًا مَرْجُوحًا. مِثَالُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [٢٠: ٥] وَقَوْلُهُ: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [٤٨: ١٠] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [٤: ١٧١] هَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبَ جُمْهُورٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا مُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَخْبَارُ الْغَيْبِ، كَصِفَةِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَى اتِّبَاعِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّنْفِيرِ اسْتِعَانَةً بِمَا فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مِنْ إِنْكَارِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ وَلَا يَنَالُهُ حِسُّهُمْ كَالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَشُئُونِ تِلْكَ الْحَيَاةِ الْأُخْرَى. وَابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: هُوَ أَنْ يَتَّبِعَ أَهْلُ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اسْتَدَلَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْوَقْفِ عِنْدَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَبِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافًا بِأَدِلَّةٍ (مِنْهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَمَّ الدِّينِ يَتَّبِعُونَ تَأْوِيلَهُ وَ (مِنْهَا) قَوْلُهُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ التَّسْلِيمُ الْمَحْضُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ عَرَفَ الشَّيْءَ وَفَهِمَهُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَحْضِ وَهَذَا رَأْيُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ، وَذَهَبَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَجُمْهُورٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ أَنَا أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ". وَقَالُوا فِي اسْتِدْلَالِ أُولَئِكَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - إِنَّمَا ذَمَّ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ التَّأْوِيلَ بِذَهَابِهِمْ فِيهِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْمُحْكَمَاتِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَيْسُوا كَذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْيَقِينِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا زِلْزَالَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، فَهَؤُلَاءِ يُفِيضُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ فَهْمَ الْمُتَشَابِهِ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمُحْكَمِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَحْضِ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَلَّمُوا بِالْمُتَشَابِهِ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِاتِّفَاقِهِ مَعَ الْمُحْكَمِ فَهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى حَقِّ الْيَقِينِ لَا يَضْطَرِبُونَ وَلَا يَتَزَعْزَعُونَ بَلْ يُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَبِذَاكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّنَا، وَلَا غَرْوَ فَالْجَاهِلُ فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ وَالرَّاسِخُ فِي ثَبَاتٍ لَازِمٍ. وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى يَنْبُوعِ الْحَقِيقَةِ لَا تُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْمَجَارِي فَهُوَ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِذَاتِهِ وَيُرْجِعُ كُلَّ قَوْلٍ إِلَيْهِ قَائِلًا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَوْ مَا خَالَفَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْمُرَادَ مِنْهُ وَوُرُودُ الْمُتَشَابِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْقُرْآنِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِ الْوَحْيِ الْإِخْبَارُ بِأَحْوَالِ
يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [٧: ٥٣] فَتَبَيَّنَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنْ لَا يُقَالَ عَلَى هَذَا: لِمَاذَا كَانَ الْقُرْآنُ مِنْهُ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ؟ لِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ فَلَا يُلْتَمَسُ لَهُ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى أَصْلِهِ.
(قَالَ) : وَأَمَّا التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ بَلْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا مِنْ صِفَاتِ اللهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَخْذُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَصِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نَحْوِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [٤: ١٧١] فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ السَّمْعِيُّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْتِي الْخِلَافُ فِي عِلْمِ الرَّاسِخِينَ بِتَأْوِيلِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَالَّذِينَ قَالُوا بِالنَّفْيِ جَعَلُوا حِكْمَةَ تَخْصِيصِ الرَّاسِخِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ هِيَ تَمْيِيزُهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَإِعْطَاءُ كُلٍّ حُكْمَهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَرُدُّونَ مَا تَشَابَهَ ظَاهِرُهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ أَوْ أَنْبِيَائِهِ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْمُحْكَمُ وَيَأْخُذُونَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُحْكَمِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ فَهْمِ الْمُتَشَابِهِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَا خَصَّ الرَّاسِخِينَ بِهَذَا الْعِلْمِ إِلَّا لِبَيَانِ مَنْعِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَوْضِ فِيهِ، قَالَ: فَهَذَا خَاصٌّ بِالرَّاسِخِينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمِ التَّهَجُّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِعَالَمِ الْغَيْبِ.
قَالَ وَهَاهُنَا يَأْتِي السُّؤَالُ: لِمَ كَانَ فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟ وَلِمَ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مُحْكَمًا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ قَدْ نَزَلَ هَادِيًا وَالْمُتَشَابِهُ يَحُولُ دُونَ الْهِدَايَةِ بِمَا يُوقِعُ اللَّبْسَ فِي الْعَقَائِدِ. وَيَفْتَحُ بَابَ الْفِتْنَةِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ؟ أَقُولُ: وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ هَذَا السُّؤَالَ مُفَصَّلًا، وَذَكَرَ لِلْعُلَمَاءِ خَمْسَةَ أَجْوِبَةٍ عَنْهُ، قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْآيَةِ: إِنَّ بَعْضَ الْمُلْحِدَةِ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنِ احْتِجَاجِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ،
كَمَا أَوْرَدَهَا بِاخْتِصَارٍ قَلِيلٍ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْنَى وَهِيَ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُ مَتَّى كَانَتِ الْمُتَشَابِهَاتُ مَوْجُودَةً كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَصْعَبَ وَأَشَقَّ، وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ. قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [٣: ١٤٢].
(الثَّانِي) لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ تَصْرِيحُهُ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، فَالِانْتِفَاعُ بِهِ إِنَّمَا حَصَلَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَعَلَى الْمُتَشَابِهِ فَحِينَئِذٍ يَطْمَعُ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَا يُقَوِّي مَذْهَبَهُ وَيُؤْثِرُ مَقَالَهُ فَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَيَجْتَهِدُ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ وَيَصِلُ إِلَى الْحَقِّ.
(الثَّالِثُ) أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ افْتَقَرَ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنْ ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، وَيَصِلُ إِلَى ضِيَاءِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْبَيِّنَةِ.
(الرَّابِعُ) لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ افْتَقَرُوا إِلَى تَعَلُّمِ طُرُقِ التَّأْوِيلَاتِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتَقَرَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
(الْخَامِسُ) وَهُوَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ اشْتَمَلَ عَلَى دَعْوَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَطَبَائِعُ الْعَوَامِّ تَنْبُو فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْعَوَامِّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عَدَمٌ وَنَفْيٌ فِي التَّعْطِيلِ، فَكَانَ الْأَصَحُّ أَنْ يُخَاطَبُوا بِأَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى بَعْضِ مَا يُنَاسِبُ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ وَيَتَخَيَّلُونَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ، فَالْقَسَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَكْشِفُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُحْكَمَاتُ، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ نَيِّرٍ، وَلَمْ يُحْسِنْ بَيَانَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ، وَأَسْخَفُ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَأَشَدُّهَا تَشَوُّهًا الثَّانِي وَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَجَازَ لَهُ عَقْلُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِالْمُتَشَابِهَاتِ لِيَسْتَمِيلَ أَهْلَ الْمَذَاهِبِ إِلَى النَّظَرِ فِيهِ وَأَنَّ هَذَا طَرِيقٌ إِلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ عِنْدَ نُزُولِهِ؟ وَمَنِ اهْتَدَى مِنْ أَهْلِهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ؟ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ
(١) إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْمُتَشَابِهَ لِيَمْتَحِنَ قُلُوبَنَا فِي التَّصْدِيقِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مَعْقُولًا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَذْكِيَاءِ وَلَا مِنَ الْبُلَدَاءِ لَمَا كَانَ فِي الْإِيمَانِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْخُضُوعِ لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّسْلِيمِ لِرُسُلِهِ.
(٢) جَعَلَ اللهُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ حَافِزًا لِعَقْلِ الْمُؤْمِنِ إِلَى النَّظَرِ كَيْلَا يَضْعُفَ فَيَمُوتَ فَإِنَّ السَّهْلَ الْجَلِيَّ جِدًّا لَا عَمَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَالدِّينُ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَجَالًا لِلْبَحْثِ يَمُوتُ فِيهِ، وَإِذَا مَاتَ فِيهِ لَا يَكُونُ حَيًّا بِغَيْرِهِ، فَالْعَقْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ إِذَا قَوِيَ فِي شَيْءٍ قَوِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا ضَعُفَ ضَعُفَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ - تَعَالَى - أَنْ جَعَلَ فِي الدِّينِ مَجَالًا لِبَحْثِ الْعَقْلِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، فَهُوَ يَبْحَثُ أَوَّلًا فِي تَمْيِيزِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْبَحْثَ فِي الْأَدِلَّةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَطُرُقِ الْخِطَابِ وَوُجُوهِ الدَّلَالَةِ لِيَصِلَ إِلَى فَهْمِهِ وَيَهْتَدِيَ إِلَى تَأْوِيلِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَطَفَ وَالرَّاسِخُونَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَلْيَكُنْ كَذَلِكَ.
(٣) إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا إِلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ سَوَاءٌ كَانَتْ بَعْثَتُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ كَنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَالذَّكِيِّ وَالْبَلِيدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ، وَكَانَ مِنَ الْمَعَانِي مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَتَشْرَحُ كُنْهَهُ بِحَيْثُ يَفْهَمُهُ كُلُّ مُخَاطِبٍ عَامِّيًّا كَانَ أَوْ خَاصِّيًّا، أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ وَالْحِكَمِ الدَّقِيقَةِ مَا يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ
وَالتَّعْرِيضِ وَيُؤْمَرُ الْعَامَّةُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدِّ الْمُحْكَمِ، فَيَكُونُ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحٍ مِنَ اللهِ عَلَى عِيسَى، فَالْخَاصَّةُ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ الْعَامَّةُ ; وَلِذَلِكَ فُتِنَ النَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ إِذْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْمُحْكَمِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ وَاسْتِحَالَةُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جِنْسٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ وَلَدٌ، وَالْمُحْكَمُ عِنْدَنَا فِي هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ [٣: ٥٩] وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَقُولُ: وَعِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْمَسِيحِ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا " [ (١٧: ٣) ] وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ ".
(قَالَ) : وَمِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً وَيَنْطَبِقُ عَلَى حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَوْ أُخِذَ مِنْهَا أَيُّ مَعْنًى وَحُمِلَ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ لَصَحَّ، وَيُوجَدُ هَذَا النَّوْعُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عَلَى
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ وَمَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَيَفْقَهُ حِكْمَتَهُ إِلَّا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ النَّيِّرَةِ وَالْعُقُولِ الْكَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الرَّاسِخُونَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَاسِخِينَ إِلَّا بِالتَّعَقُّلِ وَالتَّدَبُّرِ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي هِيَ
الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ، حَتَّى إِذَا عَرَضَ الْمُتَشَابِهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَسَنَّى لَهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا تِلْكَ الْقَوَاعِدَ الْمُحْكَمَةَ، وَيَنْظُرُوا مَا يُنَاسِبُ الْمُتَشَابِهَ مِنْهَا فَيَرُدُّونَهُ إِلَيْهِ. أَقُولُ: وَهَذَا التَّخْرِيجُ يَصْدُقُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا كَانَ نَبَأً عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ قِيَاسَ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ قِيَاسٌ بِالْفَارِقِ اهـ.
(فَصْلٌ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ مَا يَرْوِي الْغَلِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا صَفْوَةُ مَا قَالُوهُ، وَخَيْرُهُ كَلَامُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِلَى كَلَامٍ فِي الْمُتَشَابِهِ وَالتَّأْوِيلِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ كُنَّا قَرَأْنَا بَعْضَهُ مِنْ قَبْلُ فِي تَفْسِيرِهِ لِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ وَقَرَأْنَاهُ بِإِمْعَانٍ، فَإِذَا هُوَ مُنْتَهَى التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْبَيَانِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ بَيَانٌ، أَثْبَتَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمُتَشَابِهَ إِضَافِيٌّ إِذَا اشْتَبَهَ فِيهِ الضَّعِيفُ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ الرَّاسِخُ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - هُوَ مَا تَئُولُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ فِي الْوَاقِعِ كَكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَكَيْفِيَّةِ عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ غَيْرُهُ - تَعَالَى - قُدْرَتَهُ وَتَعَلُّقَهَا بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَكَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، مَعَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَقَائِمٌ بِقُدْرَتِهِ، وَلَا كَيْفِيَّةَ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ وَلَا نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي هَؤُلَاءِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [٣٢: ١٧]
إِنَّمَا غَلِطَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَإِنَّ تَفْسِيرَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالْمُوَاضَعَاتِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ قَدْ كَانَ مَنْشَأَ غَلَطٍ يَصْعُبُ حَصْرُهُ. ذُكِرَ التَّأْوِيلُ فِي سَبْعِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ - هَذِهِ السُّورَةُ أُولَاهَا، وَالثَّانِيَةُ: (سُورَةُ النِّسَاءِ) وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [٤: ٥٩] فَسَّرَ التَّأْوِيلَ هَاهُنَا مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ بِالْعَاقِبَةِ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْمَآلِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَعَمُّ، فَهُوَ يَشْمَلُ حُسْنَ الْمَآلِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ يَكُونُ التَّنَازُعُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَكْثَرَ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ وَسُنَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ يَكُونُ مَآلُهُ الْوِفَاقُ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَلَا يُحْتَمَلُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ هُنَا التَّفْسِيرَ أَوْ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّنَازُعِ وَحُسْنِ عَاقِبَةِ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ.
وَالثَّالِثَةُ: (سُورَةُ الْأَعْرَافِ) وَفِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٧: ٥٢، ٥٣] فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَأْوِيلَهُ هُنَا بِتَصْدِيقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ; أَيْ يَوْمَ يَظْهَرُ صِدْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَأْوِيلُهُ ثَوَابُهُ، وَمُجَاهِدٌ: جَزَاؤُهُ، وَالسَّدِّيُّ: عَاقِبَتُهُ، وَابْنُ زَيْدٍ: حَقِيقَتُهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَفْسِيرُهُ.
الرَّابِعَةُ: (سُورَةُ يُونُسَ) قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ تَصْدِيقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُنَزَّهًا عَنِ الِافْتِرَاءِ وَالرَّيْبِ، وَدَعْوَاهُمُ الْبَاطِلَةُ فِيهِ وَبَعْدَ تَعْجِيزِهِمْ بِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ -: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [١٠: ٣٩] فَسَّرَ أَهْلُ الْأَثَرِ تَأْوِيلَهُ هُنَا بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ; أَيْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ ظُهُورِ صِدْقِهِ وَوُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمُ الْهَلَاكُ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ كَعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ.
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [١٢: ٣٧] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ مَلَأِ فِرْعَوْنَ: وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ [١٢: ٤٤] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنِ الَّذِي نَجَا مِنْ ذَيْنَكِ الْفَتَيَيْنِ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [١٢: ٤٥] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً لِخِطَابِ يُوسُفَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [١٢: ١٠٠] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [١٢: ١٠١] فَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ وَالْأَحْلَامِ هُوَ الْأَمْرُ الْوُجُودِيُّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا قَوْلٌ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [١٢: ٣٧] فَإِخْبَارُهُ بِالتَّأْوِيلِ هُوَ إِخْبَارُهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي سَيَقَعُ فِي الْمَآلِ، وَفِي قَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ أَيْ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ سُجُودِ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ لَهُ هُوَ الْأَمْرُ الْوَاقِعِيُّ الَّذِي آلَتْ إِلَيْهِ رُؤْيَاهُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [١٢: ٤].
السَّادِسَةُ: (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ) وَفِيهَا قَوْلُهُ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [١٧: ٣٥] أَيْ مَآلًا.
السَّابِعَةُ: (سُورَةُ الْكَهْفِ ١٨) وَفِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْعَبْدِ الَّذِي أَتَاهُ اللهُ رَحْمَةً وَعِلْمًا مِنْ لَدُنْهُ فِي خِطَابِ مُوسَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [١٨: ٧٨] وَقَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ نَبَّأَهُ بِمَا تَئُولُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالُ الَّتِي أَنْكَرَهَا مُوسَى: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [١٨: ٨٢] فَالْإِنْبَاءُ بِالتَّأْوِيلِ إِنْبَاءٌ بِأُمُورٍ عَمَلِيَّةٍ سَتَقَعُ فِي الْمَآلِ لَا بِالْأَقْوَالِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْمَآلِ تَصْدِيقًا لِخَبَرٍ أَوْ رُؤْيَا أَوْ لِعَمَلٍ غَامِضٍ يُقْصَدُ بِهِ شَيْءٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَجِبُ أَنْ تُفَسَّرَ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ التَّأْوِيلُ فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ جَعْلُهُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا، وَلَا عَلَى مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ مِنْ جَعْلِ التَّأْوِيلِ عِبَارَةً عَنْ نَقْلِ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ إِلَى مَا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَهْلِ الْأُصُولِ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ.
بِحَمْلِ التَّأْوِيلِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، تَمَسَّكَتِ الْبَاطِنِيَّةُ فِي دَعْوَاهُمْ إِذْ قَالُوا:
" وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَنْزَلَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ هَذَا تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ لَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، أَوْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ مَعْنَيَانِ يَعْلَمُونَ أَحَدَهُمَا وَلَا يَعْلَمُونَ الْآخَرَ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ، عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ، وَلَيْسَ مَعَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ - وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَعْنَاهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَهُ تَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَذْمُومَ تَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ لِلْمُتَشَابِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ التَّفْسِيرُ فِي لُغَةِ السَّلَفِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ مَعْنَاهَا بَلْ يَتْلُونَ لَفْظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ كِتَابِ التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، أَجْوَدُهُمْ تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهُمْ تَرْصِيفًا، لَهُ زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَانَ
فَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللهَ قَالَ: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا [٥٩: ٨] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ [٥٩: ٩] ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [٥٩: ١٠] قَالُوا: فَهَذَا عَطْفٌ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَالْفِعْلُ حَالٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.
" قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَخُصَّ الرَّاسِخِينَ، بَلْ قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، فَلَمَّا خَصَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ عُلِمَ أَنَّهُمُ امْتَازُوا بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَعَلِمُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ، وَآمَنُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
وَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَكْمَلَ فِي الْوَصْفِ، وَقَدْ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا تَذَكُّرًا يَخْتَصُّ بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ فَإِنْ كَانَ مَا ثَمَّ إِلَّا إِيمَانٌ بِالْأَلْفَاظِ فَلَا يَذَّكَّرُ لِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَى مَا أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فَلَمَّا وَصَفُوهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ قَرَنَ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ أُرِيدَ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ لَقَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كَمَا قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ مُجَرَّدَ الِاخْتِبَارِ بِالْإِيمَانِ جَمَعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
ثَنِي عِمَارَةُ بْنُ رَاشِدٍ الْكِنَائِيُّ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: " يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ لَهُ فِيهِ هَوًى وَنِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ يَلْتَمِسُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ أَمْرًا يَخْرُجُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِهِمْ، أُولَئِكَ يُعْمِي اللهُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الْهُدَى، وَرَجُلٌ يَقْرَؤُهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ هَوًى وَلَا نِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ، فَمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهُ عَمِلَ بِهِ وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَكَلَهُ إِلَى اللهِ، لَيَتَفَقَّهَنَّ أُولَئِكَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَيَبْعَثَنَّ اللهُ لَهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ الْآيَةَ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ يُفْهِمَهُ إِيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ " قَالَ بَقِيَّةُ: اسْتَهْدَى ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدِيثَ عُتْبَةَ هَذَا، فَهَذَا مُعَاذٌ يَذُمُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ لِقَصْدِ الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ الْفِقْهُ فَقَدْ أُخْبِرَ أَنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ الْمُتَشَابِهَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ.
" قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إِذَا عَرَضَ لِأَحَدِهِمْ شُبْهَةٌ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَ عُمَرُ فَقَالَ: " أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ " وَسَأَلَهُ أَيْضًا عُمَرُ: " مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَمِنَّا؟ " وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [٦: ٨٢] شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ [٢: ٢٨٤] شَقَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمُ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ: " أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ " قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إِجْمَاعُ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا جَمِيعَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عِنْدَهَا " وَتَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِدُونِ الْفَهْمِ مُمْتَنِعٌ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَا يُتَدَبَّرُ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْمُتَشَابِهَ بِحَدٍّ ظَاهِرٍ حَتَّى يُجْتَنَبَ تَدَبُّرُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: الْمُتَشَابِهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إِضَافِيٌّ، فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ، لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ بِدُونِ فَهْمِ الْمَعْنَى.
" قَالُوا: وَلِأَنَّ مِنَ الْعَظِيمِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا هُوَ وَلَا جِبْرِيلُ، بَلْ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ. وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَقَلِّ النَّاسِ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِفْهَامُ، فَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَاطِلَ وَالْعَبَثَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ نَزَّلَهُ عَلَى خَلْقِهِ لَا يُرِيدُ بِهِ إِفْهَامَهُمْ؟ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْمُلْحِدِينَ، وَأَيْضًا فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنُوا ذَلِكَ، وَإِذَا قِيلَ: فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يَكُونُ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يَكُونُ فِي آيَاتِ الْخَيْرِ، وَتِلْكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ لِمَعْنَاهَا فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ النُّفَاةِ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنًى لِلْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللهُ لَا مَلَكٌ وَلَا رَسُولٌ وَلَا عَالِمٌ، وَهَذَا خِلَافُ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُتَشَابِهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
" وَأَيْضًا فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ يَكُونُ لِلْمُحْكَمِ كَمَا يَكُونُ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُحْكَمِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَنْفَرِدَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَالْمُحْكَمُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِعِبَادِهِ، فَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَسْتَأْثِرَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ؟ وَمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ كَوَقْتِ السَّاعَةِ لَمْ يَنْزِلْ خِطَابًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ السَّاعَةِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ اسْتَأْثَرَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُطْلِعْ عِبَادَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَلَامٍ أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُدًى وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، وَلَمْ
يُبَيِّنِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ؟ وَلِهَذَا صَارَ كُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آيَاتٍ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَاهَا يَجْعَلُهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ،
" وَمَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ الْيَهُودِ عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي (الم) بِحِسَابِ الْجُمَلِ فَهَذَا نَقْلٌ بَاطِلٌ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَهَذَا قَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَالُوهُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إِنَّمَا نَزَلَ صَدْرُهَا مُتَأَخِّرًا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ، وَفِيهَا فَرْضُ الْحَجِّ وَإِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ وَدَلَالَةَ الْحَرْفِ عَلَى بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَرَادَهُ اللهُ بِكَلَامِهِ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ، بَلْ دَعْوَى دَلَالَةِ الْحُرُوفِ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَقَدَ عَلِمَ النَّاسُ بِذَلِكَ، أَمَّا دَعْوَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ لَا يَعْرِفُهَا الرَّسُولُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ قَدْحِ الْمَلَاحِدَةِ فِيهِ وَكَانَ حُجَّةً لِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعِلْمِيَّةَ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ هَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ لَا يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ وَلَا غَيْرُهُ.
" وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ لَا يَعْلَمُ
مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا يَعْرِفُهُ هَذَا. وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ، وَتَارَةً لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى بِغَيْرِهِ، وَتَارَةً لِشُبْهَةٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَتَارَةً لِعَدَمِ التَّدَبُّرِ التَّامِّ، وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْطُوفًا وَيَجْعَلُ الْوَاوَ لِعَطْفٍ مُفْرَدٍ أَوْ يَكُونُ كِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقًّا وَهِيَ قِرَاءَتَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ غَيْرُ التَّأْوِيلِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ هُوَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهَا وَاوَ اسْتِئْنَافٍ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عِلْمُهُ عَنْ غَيْرِ اللهِ هُوَ الْكَيْفِيَّاتُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّ
" فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الصَّوَابَ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللهُ وَجَعَلَ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ فَهَذَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ عُرِفَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا التَّابِعِينَ بَلْ وَلَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا كَانَ التَّكَلُّمُ بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بَلْ وَلَا عَلِمْتُ أَحَدًا فِيهِمْ خَصَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا، وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ تَخْصِيصُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ بِهَذَا شَائِعًا فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَطِنُوا أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْآيَةِ هَذَا مَعْنَاهُ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مَعَانِيَ تُخَالِفُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَفَرَّقُوا دِينَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا شِيَعًا، وَالْمُتَشَابِهُ الْمَذْكُورُ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، وَإِنَّمَا الْخَطَأُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ مُجَرَّدَ هَذَا الْخِطَابِ لَا يُبَيِّنُ كَمَالَ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَبَيْنَ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ ; فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَنْفِيُّ، بَلْ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَاطِلِ أَلْبَتَّةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ لِظَاهِرِ الْآيَةِ مَعْنًى، إِمَّا مَعْنًى يَعْتَقِدُهُ وَإِمَّا مَعْنًى بَاطِلًا فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَيَكُونُ مَا قَالَهُ بَاطِلًا لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ وَلَا عَلَى الْمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُحْدَثِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إِلَى خِلَافِ مَدْلُولِهِ.
" وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُ وَقَالَ: اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ فَقَدْ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: " عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَأَيْضًا فَالنُّقُولُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ ; فَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَمِنَ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَا مِنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ " وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ يُعْلَمُ تَأْوِيلُهَا وَهِيَ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ وَسَائِرُ الْقُرْآنِ خَبَرٌ عَنِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ
[١٢: ٣٧] " وَأَيْضًا فَقَدْ ذَمَّ اللهُ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [١٠: ٣٨، ٣٩] وَقَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٢٧: ٨٣، ٨٤] وَهَذَا ذَامٌّ لِمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَمَا قَالَهُ النَّاسُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُكَذِّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْآيَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِلْمِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عِلْمًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْذِيبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَنَاقِضَةَ بَعْضُهَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ كَالْمُكَذِّبِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَالْمُكَذِّبُ بِالْحَقِّ كَالْمُكَذِّبِ بِالْبَاطِلِ ; وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ.
" وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِنْ بُنِيَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ إِلَّا اللهُ لَزِمَهُ أَنْ يُكَذِّبَ كُلَّ مَنِ احْتَجَّ بِآيَةٍ خَبَرِيَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ قَالَ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ بَعْضُ الْخَبَرِيَّاتِ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ فَصْلًا يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مَعْنَاهُ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ ذِكْرُ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ بَعْضُ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ أَحَدٌ، وَلَوْ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ انْتَقَضَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
بِعِلْمِ الْمُتَشَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَمِّهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ الذَّمُّ عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا، وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا اللهُ؟ وَمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعُذْرِ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَ بِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ، فَلَوْ لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا الرَّاسِخُونَ كَانَ تَرْكُ هَذَا الْوَصْفِ أَقْرَبَ فِي ذَمِّهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ.
" وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِوَجْهٍ آخَرَ هُوَ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ أَنَّ اللهَ ذَمَّ الزَّائِغِينَ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الْقَصْدِ، فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِتْنَةَ لَا يَقْصِدُونَ الْعِلْمَ وَالْحَقَّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [٨: ٢٣] فَإِنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَسْمَعَهُمْ أَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ، يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ حُسْنَ قَصْدٍ وَقَبُولٍ لِلْحَقِّ لَأَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ، لَكِنْ لَوْ أَفْهَمَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَنِ الْإِيمَانِ وَقَبُولِ الْحَقِّ لِسُوءِ قَصْدِهِمْ، فَهُمْ جَاهِلُونَ ظَالِمُونَ، كَذَلِكَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ مَذْمُومُونَ بِسُوءِ الْقَصْدِ مَعَ طَلَبِ عِلْمِ مَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَيْسَ إِذَا عِيبَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْعِلْمِ وَمُنِعُوهُ يُعَابُ مَنْ حَسُنَ قَصْدُهُ وَجَعَلَهُ اللهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.
" فَإِنْ قِيلَ: فَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ، يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ وَقَتَادَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ: إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ اللهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. قَالَ: وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ [٧: ١٨٧] وَقَوْلِهِ: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [٢٥: ٣٨] فَأَنْزَلَ الْمُحْكَمَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَيَسْعَدَ، وَيَكْفُرَ بِهِ الْكَافِرُ فَيَشْقَى. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالَّذِي يَرْوِي الْقَوْلَ الْآخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَيُقَالُ: قَوْلُ الْقَائِلِ إِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، بَلِ الثَّابِتُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لَيْسَ لَهَا إِسْنَادٌ يُعْرَفُ حَتَّى يُحْتَجَّ بِهَا. وَالْمَعْرُوفُ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " مَا فِي كِتَابِ اللهِ آيَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَاذَا أُنْزِلَتْ " وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا: " أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ
" وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُنَاقِضُهَا، وَأَخَصُّ أَصْحَابِهِ بِالتَّفْسِيرِ مُجَاهِدٌ وَعَلَى تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ يَعْتَمِدُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ أَكْثَرُ الَّذِي يَنْقُلُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَصِحُّ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: جَوَابُهُ أَنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
مِنْ أَصَحِّ التَّفَاسِيرِ، بَلْ لَيْسَ بِأَيْدِي أَهْلِ التَّفْسِيرِ كِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ أَصَحُّ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ مَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا، وَأَيْضًا فَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ يُفَسِّرُ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [١٩: ١٧] وَفَسَّرَ قَوْلَهُ: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٢٤: ٣٥] وَقَوْلَهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [٧: ١٧٢] وَنَقْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا إِسْنَادٌ، وَقَدْ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَيُجِيبُ عَنْهُ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ. وَسُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (كَذَا).
" وَأَمَّا اللُّغَوِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ فَهُمْ
مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَهِيَ خَطَأٌ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي بَالَغَ فِي نَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِي مَعَانِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَاتِ يَذْكُرُ فِيهَا مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَيَحْتَجُّ لِمَا يَقُولُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالشَّاذِّ مِنَ اللُّغَةِ، وَهُوَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَا أَفْقَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِلُّغَةِ، لَكِنَّ بَابَ فِقْهِ النُّصُوصِ غَيْرُ بَابِ حِفْظِ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ، وَقَدْ نَقَمَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ كَوْنَهُ رَدَّ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَشْيَاءَ مِنْ تَفْسِيرِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَابْنُ قُتَيْبَةٍ قَدِ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ وَسَلَكَ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَهُمْ كُلُّهُمْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى اللهِ يَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا بَيَّنُوهُ مِنْ مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ قَدْ أَصَابُوا فِيهِ وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ظَهَرَ خَطَؤُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَلْيَخْتَرْ مَنْ يَنْصُرُ
" وَالَّذِي اقْتَضَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ظُهُورُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَصَارَ أُولَئِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِمُ الْفَاسِدِ وَهَذَا أَصْلٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمُ الْعَقْلِيِّ وَتَأْوِيلِهِمُ اللُّغَوِيِّ، فَتَفَاسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ مَمْلُوءَةٌ بِتَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنْكَارُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ
لِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.
" فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنَ التَّأْوِيلِ فَجَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ انْتَسَبُوا إِلَى السُّنَّةِ بِغَيْرِ خِبْرَةٍ تَامَّةٍ وَبِمَا يُخَالِفُهَا وَظَنُّوا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَظَنُّوا أَنَّ مَعْنَى التَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ فَصَارُوا فِي مَوْضِعٍ يَقُولُونَ وَيَنْصُرُونَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ ثُمَّ يَتَنَاقَصُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ (أَحَدُهَا) : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: النُّصُوصُ تُجْرَى عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى الْمَعْنَى الظَّاهِرِ مِنْهَا، وَلِهَذَا يُبْطِلُونَ كُلَّ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَيُقَرِّرُونَ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَيَقُولُونَ مَعَ هَذَا: إِنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مَا يُنَاقِضُ الظَّاهِرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ؟ وَقَدْ قَرَّرَ مَعْنَاهُ الظَّاهِرُ وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُنَاظِرُوهُمْ حَتَّى أَنْكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. (وَمِنْهَا) أَنَّا وَجَدْنَا هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ لَا فِي مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَلَا فَرْعِيَّةٍ إِلَّا تَأَوَّلُوا ذَلِكَ النَّصَّ بِتَأْوِيلَاتٍ مُتَكَلَّفَةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْمُتَشَابِهَةِ إِلَّا اللهُ؟ وَاعْتَبِرْ هَذَا بِمَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُنَاقِضُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [٢: ٢٠٥]، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [٣٩: ٧]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [٥١: ٥٦]، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [٦: ١٠٣]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦: ٨٢]، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ [٢: ٣٠] وَنَحْوَ ذَلِكَ كَيْفَ
" وَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ الصَّابِرُ فِي الْمِحْنَةِ الَّذِي قَدْ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِعْيَارًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، تَكَلَّمَ فِي مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اتَّبَعَهُ الزَّائِغُونَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آيَةً آيَةً، وَبَيَّنَ مَعْنَاهَا
وَفَسَّرَهَا لِيُبَيِّنَ فَسَادَ تَأْوِيلِ الزَّائِغِينَ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَرَى، وَأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَرْشِ، بِالْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَرَدَّ مَا احْتَجَّ بِهِ النُّفَاةُ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَبَيَّنَ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الَّتِي سَمَّاهَا هُوَ مُتَشَابِهَةً، وَفَسَّرَهَا آيَةً آيَةً. وَكَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالنُّصُوصِ جَعَلَ يُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً وَحَدِيثًا حَدِيثًا، وَيُبَيِّنُ فَسَادَ مَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ الزَّائِغُونَ، وَيُبَيِّنُ هُوَ مَعْنَاهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا إِلَّا اللهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ لَهُ ذَلِكَ، بَلِ الطَّوَائِفُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ عَلَى إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُرَادِ كَمَا يَتَنَازَعُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الزَّائِغُونَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرِ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَيُبْطِلُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَقَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ تَحْتَجُّ بِنُصُوصِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ لِمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ هُوَ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ مُنَازِعُهُ: هَذِهِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَمْسَكُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُنْكِرُ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ بَلَّغَهُمُ الصَّحَابَةُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوهُمْ أَلْفَاظَهُ وَنَقَلُوا هَذَا كَمَا نَقَلُوا ذَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ يَتَأَوَّلُونَ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتٍ تُخَالِفُ مُرَادَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، وَهُمْ مُبْطِلُونَ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا تَأْوِيلَاتُ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَذَا وَأَنْ يُرَادَ كَذَا، وَلَوْ تَأَوَّلَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ كَالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [٨٩: ٢٢] " وَيَنْزِلُ رَبُّنَا "
أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦: ٨٢] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَذَا وَيَجُوزُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا عِلْمًا بِالتَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ ذَكَرَ فِي نَصٍّ أَقْوَالًا وَاحْتِمَالَاتٍ وَلَمْ يَعْرِفِ الْمُرَادَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ ذَلِكَ وَتَأْوِيلَهُ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْمُرَادَ.
" وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَمَضْمُونُ مَدْلُولَاتِهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَفْسِيرَ الْمُحْكَمِ وَلَا تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ وَلَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ. وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَضْلًا عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فِيهِ مِنَ السَّفْسَطَةِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَكُونُ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا مَعْرِفَةٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَلَا بِالْعَقْلِيَّاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [٦٧: ١٠] وَمَدَحَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِهِ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَفْقَهُونَ وَيَعْقِلُونَ. وَذَمَّ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ وَالتَّحْقِيقَ، وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَهُمْ يَجْعَلُونَ أَلْفَاظًا لَهُمْ مُجْمَلَةً مُتَشَابِهَةً تَتَضَمَّنُ حَقًّا وَبَاطِلًا يَجْعَلُونَهَا هِيَ الْأُصُولَ الْمَحْكَمَةَ، وَيَجْعَلُونَ مَا عَارَضَهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا اللهُ وَمَا يَتَأَوَّلُونَهُ بِالِاحْتِمَالَاتِ لَا يُفِيدُ، فَيَجْعَلُونَ الْبَرَاهِينَ شُبْهَاتٍ، وَالشُّبْهَاتِ بَرَاهِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ".
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: " الْمُحْكَمُ: مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيَانٍ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا احْتَمَلَ مِنَ التَّأْوِيلِ وُجُوهًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمُحْكَمُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي تَعْتَوِرُهُ التَّأْوِيلَاتُ ". فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ هُمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ. وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ
وَيُرَجِّحُونَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْأَدِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ لَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ نَصٍّ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ: إِنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا ادَّعَى فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نَصَّهُ مُحْكَمٌ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ النَّصَّ الْآخَرَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ قُوبِلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى.
" فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ هُمُ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمَنْسُوخِ، فَكَانَ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ النَّقْلَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ إِنْ كَانَ هَذَا صِدْقًا وَإِلَّا تَعَارَضَ النَّقْلَانِ عَنْهُمْ. وَالْمُتَوَاتِرُ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ.
" الْقَوْلُ الثَّانِي مَأْثُورٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْكَمُ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ ; فَإِذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ إِلَّا اللهُ، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَعْنَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ حَقَائِقُ مَا يُوجَدُ، وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ. فَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى وَيَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللهُ فَهَذَا خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، يَقُولُ ذَلِكَ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُهُ
وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الرِّسَالَةِ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ الَّذِينَ قَالُوهُ لَمْ يَتَدَبَّرُوا لَوَازِمَهُ وَحَقِيقَةَ مَا أَطْلَقُوهُ، وَكَانَ أَكْبَرُ قَصْدِهِمْ دَفْعَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَصَدُوهُ حَقٌّ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا نَدْفَعُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ آخَرَ، وَلَا نَرُدُّ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةٍ، وَلَا نَرُدَّ تَفْسِيرَ أَهْلِ الْبَاطِلِ لِلْقُرْآنِ بِأَنْ يُقَالَ: الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَفْسِيرَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَفِي هَذَا مِنَ الظَّنِّ فِي الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ خَطَأِ طَائِفَةٍ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا.
" وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ لَيْسَتْ كَلَامًا تَامًّا مِنَ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ مَوْقُوفَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ تُعْرَبْ فَإِنَّ الْإِعْرَابَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَإِنَّمَا
مَعْرُوفًا - وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ - كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومُ الْمَعْنَى وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَعُدُّهَا آيَاتٍ الْكُوفِيُّونَ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا أَيْضًا مُتَشَابِهٌ.
وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ طَلَبِ عِلْمِ الْمَدَدِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَكُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهُ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: " الْمُحْكَمُ: مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فَفَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فِي قَصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ: احْمِلْ فِيهَا [١١: ٤٠] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَاسْلُكْ فِيهَا [٢٣: ٢٧] وَقَالَ فِي عَصَا مُوسَى: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [٢٠: ٢٠] وَفِي مَوْضِعٍ: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [٧: ١٠٧] " وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَمَا يُشْتَبَهُ عَلَى حَافِظِ الْقُرْآنِ هَذَا اللَّفْظُ بِذَاكَ اللَّفْظِ، وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمُتَشَابِهِ ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ يَتَشَابَهُ مَعْنَاهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الْقَارِئِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْمُتَشَابِهُ لَا يَنْفِي مَعْرِفَةَ الْمَعَانِي بِلَا رَيْبٍ، وَلَا يُقَالُ
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا كَمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّكَ لَا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا " وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ، فَالنَّظَائِرُ: اللَّفْظُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَالْوُجُوهُ: الَّذِي اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ، كَمَا يُقَالُ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرِكَةُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ - لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ - وَقَدْ قِيلَ هِيَ نَظَائِرُ فِي اللَّفْظِ وَمَعَانِيهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَتَكُونُ كَالْمُشْتَرِكَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ فِي مَعَانِي الْوُجُوهِ وَفِيمَا يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَمَا يَحْتَمِلُ
وُجُوهًا، فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ مِنَ الْقُرْآنِ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِ الْأُمَّةَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَةِ.
وَالثَّامِنُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ، وَهَذَا أَيْضًا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
وَالْعَاشِرُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ إِنَّمَا ذَمَّ السَّلَفُ مِنْهُ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَنَفَوْا عِلْمَ النَّاسِ بِكَيْفِيَّتِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ: " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ " وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَحِينَئِذٍ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَبَيْنَ الْكَيْفِ الْمَجْهُولِ، فَإِنْ سُمِّيَ الْكَيْفُ تَأْوِيلًا سَاغَ أَنْ يُقَالَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا. وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرُهُ تَأْوِيلًا كَمَا يُجْعَلُ مَعْرِفَةُ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأْوِيلًا، وَقِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [٢٠: ٥] وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [٣٨: ٧٥] وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ [٤٨: ٦] بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ، وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [٣٩: ٦٧] وَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [٦: ١٠٣] وَقَوْلُهُ: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [٤: ١٣٤] وَقَوْلُهُ:
فَمَنْ قَالَ عَنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا - وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، بَلِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهَا كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُونَ لَهَا مَعْنًى ; كَمَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقَوْمِ. وَالنُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا كَمَا يَفْهَمُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ كُنْهُ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يُحِيطُ بِهِ الْعِبَادُ وَلَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا عَلَّمَهُمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، كَمَا أَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ مَوْجُودٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يَنْفِي الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ، بَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّبِّ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي ذَاكَ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَبَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -. قِيلَ: لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ وَتَصَوُّرَ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُرَادَةِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ، فَالْكَلَامُ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ وَيُكْتَبُ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ، فَإِذَا عَرَفَ الْكَلَامَ وَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْبِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا غَيْرُ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَرَفَ الْأَوَّلَ عَرَفَ عَيْنَ الثَّانِي. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ
فَيَعْرِفَ أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [٣: ٩٧] وَكَذَلِكَ أَرْضُ عَرَفَاتٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ [٢: ١٩٨] وَكَذَلِكَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ الَّتِي بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ يُعْرَفُ أَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [٢: ١٩٨] وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا يَرَاهَا الرَّجُلُ وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَابِرُ تَأْوِيلَهَا فَيَفْهَمُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، لَيْسَ تَأْوِيلُهَا نَفْسَ عِلْمِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَكَلَامِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [١٢: ١٠٠] وَقَالَ: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [١٢: ٣٧] فَقَدْ أَنْبَأَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ هَذَا التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [٧: ٥٣] " الْآيَةَ ".
(أَقُولُ) ثُمَّ إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ - أَطَالَ فِي الْبَيَانِ وَالشَّوَاهِدِ وَاحْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَعَلَى الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْفِقْهِ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَنْفِ عَنْ غَيْرِهِ عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ، وَذَكَرَ الْآيَاتِ الشَّاهِدَةَ بِذَلِكَ. وَمِنْهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَالْغَيْبِ فَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ.
(آيَاتُ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ) اعْلَمْ أَنَّ مَا تَلَقَّيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي تُقْرَأُ لِلْمُبْتَدِئِينَ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّنُوسِيَّةِ الصُّغْرَى وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمَا مِنْ شُرُوحٍ وَحَوَاشٍ هُوَ أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِظَاهِرِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَمَّا يُوهِمُهُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْكِتَابَةِ لِيَتَّفِقَ النَّقْلُ مَعَ الْعَقْلِ. وَقَالُوا: إِنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَسْلَمُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَشَابِهُ غَيْرَ مُرَادِ اللهِ - تَعَالَى -، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ النُّصُوصَ جَمِيعَهَا وَيَحْمِلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا
يَكُونُ صَاحِبُهُ مُضْطَرِبًا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْوِيضِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا | أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا |
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى مَذْهَبٍ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّصِّ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي إِذَا صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنَ الْمَجَازِ وَبَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى، فَأَوْجَبَ تَأْوِيلَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: مُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ وَنَافُونَ لَهَا، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلُ الْأَثَرِ مُثْبِتُونَ مُفَوِّضُونَ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ نُفَاةٌ مُؤَوِّلُونَ. قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي مَبْحَثِ الصِّفَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: " وَمِنْهَا مَا وَرَدَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَامْتَنَعَ حَمْلُهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ مِثْلُ الِاسْتِوَاءِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [٢٠: ٥] وَالْيَدِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [٤٨: ١٠]، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [٣٨: ٧٥] وَالْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [٥٥: ٢٧] وَالْعَيْنُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [٢٠: ٣٩]، وَتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [٥٤: ١٤] فَعَنِ الشَّيْخِ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ، وَعَنِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّيْخِ أَنَّهَا مَجَازَاتٌ، فَالِاسْتِوَاءُ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ أَوْ تَمْثِيلٌ وَتَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْيَدُ مَجَازٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَالْوَجْهُ عَنِ الْوُجُودِ، وَالْعَيْنُ عَنِ الْبَصَرِ. فَإِنْ قِيلَ:
جُمْلَةُ الْمُكَوِّنَاتِ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ خَلْقِ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِيَّمَا بِلَفْظِ الْمُثَنَّى؟ وَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: بِأَعْيُنِنَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ أُرِيدَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ وَتَخْصِيصُ آدَمَ تَشْرِيفٌ لَهُ وَتَكْرِيمٌ. وَمَعْنَى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أَنَّهَا تَجْرِي بِالْمَكَانِ الْمُحِيطِ بِالْكِلَاءَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ بِمَرْأًى مِنَ الْمَلِكِ وَمَسْمَعٍ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ تَحُوطُهُ عِنَايَتُهُ وَتَكْتَنِفُهُ رِعَايَتُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَعْيُنُ الَّتِي انْفَجَرَتْ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَفِي كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الْبَيَانِ أَنَّ قَوْلَنَا الِاسْتِوَاءُ مَجَازٌ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ، وَالْيَدُ وَالْيَمِينُ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَيْنُ عَنِ الْبَصَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ وَهْمِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ بِسُرْعَةٍ وَإِلَّا فَهِيَ تَمْثِيلَاتٌ وَتَصْوِيرَاتٌ لِلْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ بِإِبْرَازِهَا فِي الصُّوَرِ الْحِسِّيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " اهـ. كَلَامُ السَّعْدِ وَنَحْوُهُ فِي الْمَوَاقِفِ وَشَرْحُهُ.
وَإِنَّمَا يَرُدُّونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَكَذَا الْعِلْمُ عَلَى صِفَاتِ اللهِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ لَا مَجَازِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْجَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مَنْقُولٌ مِمَّا أُطْلِقَ عَلَى الْبَشَرِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْبَشَرِ تَعَيَّنَ أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ النُّصُوصِ فَنَقُولَ: إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - قُدْرَةٌ حَقِيقَةٌ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَقُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّ لَهُ رَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَةِ الْبَشَرِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي جَمِيعِ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ، وَلَا نَدَّعِي
أَنَّ إِطْلَاقَ بَعْضِهَا حَقِيقِيٌّ وَإِطْلَاقَ الْبَعْضِ الْآخَرِ مَجَازِيٌّ، فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ وَلَا يُجْهَلُ أَثَرُهُ كَذَلِكَ الرَّحْمَةُ شَأْنٌ مَنْ شُئُونِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ وَلَا يَخْفَى أَثَرُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا يُفْهَمُ لَهَا مَعْنًى بِالْمَرَّةِ، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ كَرَحْمَةِ الْإِنْسَانِ وَيَدَهُ كَيَدِهِ، وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَنَابِلَةِ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ، وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يَجْعَلُونَ بَعْضَهَا مُحْكَمًا إِطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ حَقِيقِيٌّ، وَبَعْضَهَا مُتَشَابِهًا إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مَجَازِيٌّ، بَلْ كُلُّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مَجَازٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ كَلَامٍ: " وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ - تَعَالَى - حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَجَازٍ ; إِذًا الْمَحَبَّةُ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُوَافِقِ، وَالْعِشْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ الْغَالِبِ الْمُفْرِطِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْسَانَ مُوَافِقٌ لِلنَّفْسِ، وَالْجِمَالَ مُوَافِقٌ أَيْضًا، وَأَنَّ الْجَمَالَ وَالْإِحْسَانَ تَارَةً يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَتَارَةً يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، وَالْحُبُّ يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُخَصُّ بِالْبَصَرِ، فَأَمَّا حُبُّ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا، حَتَّى إِنَّ اسْمَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ اشْتِرَاكًا لَا يَشْمَلُ الْخَالِقَ وَالْخَلْقَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ مَا سِوَى اللهِ - تَعَالَى - فَوُجُودُهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ وُجُودِ اللهِ
وَقَالَ فِي كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ: " إِنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ
وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ فَهْمُهُمْ إِلَى مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا، فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطُرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تُفْهَمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ فَقُلْنَا لِلَّهِ - تَعَالَى - صِفَةٌ هِيَ الْقُدْرَةُ عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ.
" ثُمَّ الْخَلْقُ يَنْقَسِمُ فِي الْوُجُودِ إِلَى أَقْسَامٍ وَخُصُوصِ صِفَاتٍ، وَمَصْدَرُ انْقِسَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاخْتِصَاصِهَا بِخُصُوصِ صِفَاتِهَا صِفَةٌ أُخْرَى اسْتُعِيرَ لَهَا بِمِثْلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي سَبَقَتْ عِبَارَةَ " الْمَشِيئَةِ " فَهِيَ تُوهِمُ مِنْهَا أَمْرًا مُجْمَلًا عِنْدَ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ الَّتِي هِيَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لِلْمُتَفَاهِمِينَ بِهَا، وَقُصُورُ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى كُنْهِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَحَقِيقَتِهَا كَقُصُورِ لَفْظِ الْقُدْرَةِ.
" ثُمَّ انْقَسَمَتِ الْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْقُدْرَةِ إِلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الْمُنْتَهَى الَّذِي هُوَ غَايَةُ حِكْمَتِهَا وَإِلَى مَا يَقِفُ دُونَ الْغَايَةِ، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِسْبَةٌ إِلَى صِفَةِ الْمَشِيئَةِ لِرُجُوعِهَا إِلَى الِاخْتِصَاصَاتِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ الْقِسْمَةُ وَالِاخْتِلَافَاتُ، فَاسْتُعِيرَ لِنِسْبَةِ الْبَالِغِ غَايَتَهُ عِبَارَةُ " الْمَحَبَّةِ " وَاسْتُعِيرَ لِنِسْبَةِ الْوَاقِفِ دُونَ غَايَتِهِ عِبَارَةُ " الْكَرَاهَةِ ". وَقِيلَ: إِنَّهُمَا دَاخِلَانِ فِي وَصْفِ الْمَشِيئَةِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَاصِّيَّةُ أُخْرَى فِي النِّسْبَةِ يُوهِمُ لَفْظُ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ مِنْهُمَا أَمْرًا مُجْمَلًا عِنْدَ طَالِبِي الْفَهْمِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَاللُّغَاتِ " اهـ. الْمُرَادُ.
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْكُفْرِ وَالشُّكْرِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْضِيَّ عَنْهُ مَنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ مُتَمِّمًا لِحِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي عِبَادِهِ ; أَيْ بِالْقِيَامِ بِسُنَّتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ. وَهُوَ الشَّاكِرُ
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى: " وَكَأَنَّا إِذَا عَرَفْنَا
أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَيٌّ قَادِرٌ عَالِمٌ فَلَمْ نَعْرِفْ أَوَّلًا إِلَّا أَنْفُسَنَا. وَلَمْ نَعْرِفْهُ إِلَّا بِأَنْفُسِنَا إِذِ الْأَصَمُّ لَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ وَالْأَكْمَهُ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى قَوْلِنَا إِنَّهُ بَصِيرٌ، وَكَذَلِكَ إِذْ قَالَ الْقَائِلُ: كَيْفَ يَكُونُ اللهُ - تَعَالَى - عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ؟ فَنَقُولُ لَهُ: كَمَا تَعْلَمُ أَنْتَ أَشْيَاءَ. فَإِذَا قَالَ كَيْفَ يَكُونُ قَادِرًا؟ فَنَقُولُ: كَمَا تَقْدِرُ أَنْتَ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْهَمَ شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ، فَيَعْلَمُ أَوَّلًا مَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ غَيْرَهُ بِالْمُنَاسَبَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ لِلَّهِ وَصْفٌ وَخَاصِّيَّةٌ لَيْسَ فِينَا مَا يُنَاسِبُهُ وَيُشَارِكُهُ وَلَوْ فِي الِاسْمِ لَمْ يُتَصَوَّرْ فَهْمُهُ أَلْبَتَّةَ فَمَا عَرَفَ أَحَدٌ إِلَّا نَفْسَهُ. ثُمَّ قَايَسَ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَبَيْنَ صِفَاتِ نَفْسِهِ وَتَتَعَالَى صِفَاتُ اللهِ - تَعَالَى - وَتَتَقَدَّسُ عَنْ أَنْ تُشْبِهَ صِفَاتَنَا " اهـ.
فَحَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ مِمَّا أُطْلِقَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ ; إِذْ لَوْ وُضِعَ لِصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ وَخُوطِبَ بِهَا النَّاسُ لَمَا فَهِمُوا مِنْهَا شَيْئًا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [١٤: ٤] وَقَدْ جَاءَ الرُّسُلُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ مِنْ تَنْزِيهِهِ - تَعَالَى - عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَوْنِهِ لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ. فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَطْلَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الصِّفَاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَعَلَى الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَاتِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَعَلَى الْإِضَافَةِ كَكَوْنِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ لَا يُنَافِي أَصْلَ التَّنْزِيهِ، بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَبِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَ التَّنْزِيهِ فَنَقُولُ: إِنَّ لَهُ قُدْرَةً لَيْسَتْ كَقُدْرَتِنَا وَرَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَتِنَا وَخَلْقًا لَيْسَ كَخَلْقِنَا.
فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ الْمَعْرُوفُ مِنَ النَّاسِ لِلْأَشْيَاءِ وَهُوَ - تَعَالَى - أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، لَا يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ أَحَدٌ كَمَا قَالَ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [١٣: ١٦]. وَلَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ كَاسْتِوَاءِ الْمُلُوكِ عَلَى عُرُوشِهِمْ، كَمَا أَنَّ عَرْشَهُ لَيْسَ كَعُرُوشِهِمْ، وَلَا عُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ كَعُلُوِّ بَعْضِ الْأَجْسَامِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُ - تَعَالَى - لَيْسَ جِسْمًا مُمَاثِلًا لَهُمْ. وَالسَّلَفُ وَالْخَلَفُ أَوِ الْأَثَرِيُّونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ وَعَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فِي وَصْفِهِ - تَعَالَى - وَالْحِكَايَةِ عَنْهُ خَلْقٌ إِلَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ خَالِقًا عَالِمًا مُرِيدًا قَادِرًا، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ ثَابِتَةٌ لَهُ عَقْلًا، وَعَلَيْهَا مَدَارُ إِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْبُرْهَانِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا. فَمَا يَرِدُ مِنَ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ
يَجِبُ إِرْجَاعُهُ إِلَيْهَا وَلَا نَعُدُّهُ
هَذَا وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ الْأَثَرِيِّينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَدْ وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا فِي التَّجْسِيمِ، أَوْ جَعَلَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ صِفَاتٍ لَا تُفْهَمُ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا كَتَبَهُ عُلَمَاؤُهُمُ الْمُحَقِّقُونَ كَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إِنَّ خَطَأَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ أَكْثَرُ وَخَطَأَ الْأَثَرِيِّينَ فِي الْإِثْبَاتِ أَكْثَرُ. أَقُولُ: وَمِنْ عَجِيبِ صُنْعِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَعَدُّوهَا مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ سَمْعِيَّةً، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحِكْمَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَحَبَّةَ مَعَ أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ بِهَا وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَيْهَا أَظْهَرُ، إِذِ الْعَقْلُ يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مُحِيطَةٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ، وَبِذَلِكَ يُسَمَّى سَمِيعًا بَصِيرًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي إِدْرَاجِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِهَا فِي صِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ.
وَإِنَّنِي أَنْقُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ جُمْلَةً مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَتَابِعِي السَّلَفِ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - لِيَعْلَمَ الْجَامِدُونَ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّفْسِيرِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْأَشَاعِرَةُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا بِعَقْلٍ، وَهُمْ أَجْوَدُ النَّاسِ فَهْمًا لِلنَّقْلِ، جَاءَ فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ السَّفَارِينِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مَا نَصُّهُ:
" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي التَّدْمُرِيَّةِ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُقِرُّ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَيٌّ بِحَيَاةٍ عَلِيمٌ بِعِلْمٍ قَدِيرٌ بِقُدْرَةٍ سَمِيعٌ بِسَمْعٍ بَصِيرٌ بِبَصَرٍ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَيُنَازِعُ
فِي مَحَبَّتِهِ - تَعَالَى - وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا وَيُفَسِّرُهُ إِمَّا بِالْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ، قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَّهُ، بَلِ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ إِرَادَتَهُ مِثْلُ إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ، وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ. وَإِنْ قُلْتَ: لَهُ
وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ فِي عِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضِ مَا يُقَالُ لَهُ فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ. فَإِنْ قَالَ: تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتُّهَا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْإِحْكَامَ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَلْزَمَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَالْحَيُّ لَا يَخْلُو عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَكَ جَوَابَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ، فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَنْفِيَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ، وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ. فَيَجِبُ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ السَّالِمُ عَنِ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ.
(الثَّانِي) أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إِثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَ بِهِ تِلْكَ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ، فَيُقَالُ: نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَمَا يُوجَدُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَكَشْفِ الضُّرِّ عَنِ الْمَضْرُورِينَ، وَأَنْوَاعُ الرِّزْقِ وَالْهُدَى وَالْمَسَرَّاتِ دَلِيلٌ عَلَى رَحْمَةِ الْخَالِقِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَالْقُرْآنُ يُثْبِتُ دَلَائِلَ الرُّبُوبِيَّةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ، تَارَةً يَدُلُّهُمْ بِالْآيَاتِ الْمَخْلُوقَةِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَيُثْبِتُ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ، وَتَارَةً يَدُلُّهُمْ بِالنِّعَمِ وَالْآيَاتِ عَلَى وُجُودِ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ الْمُسْتَلْزِمِ رَحْمَتَهُ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَعِقَابُ الْكُفَّارِ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْخَبَرِ مِنْ إِكْرَامِ
أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ، وَالْغَايَاتُ الْمَوْجُودَةُ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَفْعُولَاتُهُ وَمَأْمُورَاتُهُ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَأَوْلَى لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ ; وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ.
" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - طَيَّبَ اللهُ مِضْجَعَهُ -: وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ كُلِّ مُسْلِمٍ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا أَخْبَرَنَا بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَجَبَ عَلَيْنَا التَّصْدِيقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ ثُبُوتَهُ بِعُقُولِنَا، وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَتَّى يَعْلَمَهُ بِعَقْلِهِ فَقَدْ أَشْبَهَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [٦: ١٢٤] وَمَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ فَلَيْسَ فِي
الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ: وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنَ الصِّفَاتِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ مَعَ إِثْبَاتِهِمْ بَعْضَ صِفَاتِهِ بِالْعَقْلِ وَبَعْضَهَا بِالسَّمْعِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ حَقَائِقَ أَقْوَالِ النَّاسِ بِطُرُقِهِمُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ وَالرَّحْمَةُ فَعَلِمَ الْحَقَّ وَرَحِمَ الْخَلْقَ، وَكَانَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَهَذِهِ خَاصَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ بِاجْتِهَادِهِ حَيْثُ عَذَرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ فَيَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً بَاطِلَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا. انْتَهَى وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
أَقُولُ: وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى رَمَاهُمْ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْقَوْلِ بِالتَّجْسِيمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِالْجِهَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحَدَّ وَالْجِسْمِيَّةَ فَآخَذُوهُمْ بِلَازِمِ الْمَذْهَبِ وَهُمْ يَجْهَلُونَ مَذْهَبَهُمْ وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوَافِقِ لِلْعَقْلِ، وَهَاكَ كَلَامٌ وَاحِدٌ مِنْهُ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ عَقِيدَةِ السَّفَارِينِيِّ وَهُوَ:
" ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ عِمَادُ الدِّينِ أَحْمَدُ الْوَاسِطِيُّ الصُّوفِيُّ الْمُحَقِّقُ الْعَارِفُ تِلْمِيذُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُمَا - الَّذِي قَالَ فِيهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِنَّهُ جُنَيْدُ زَمَانِهِ فِي رِسَالَتِهِ (نَصِيحَةُ الْإِخْوَانِ) مَا حَاصِلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالِاسْتِوَاءِ: هُوَ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - كَانَ وَلَا مَكَانَ وَلَا عَرْشَ وَلَا مَاءَ وَلَا فَضَاءَ وَلَا هَوَاءَ وَلَا خَلَاءَ وَلَا مِلَاءَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ مُتَوَحِّدًا فِي فَرْدَانِيَّتِهِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَوْقَ كَذَا إِذْ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ هُوَ - تَعَالَى -
حُكْمِ الْعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ مُلْكِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَمْلَكَةُ تَحْتَهُ بِاعْتِبَارِ الْحُدُوثِ مِنَ الْكَوْنِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِدَمِ الْمُكَوِّنِ، فَإِذَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ التَّحْتِيَّةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيُمْنَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيُسْرَةِ بَلْ لَا يَلِيقُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ هِيَ بِحَسَبِ الْكَوْنِ وَحُدُوثِهِ وَأَسْفَلِهِ، فَالْإِشَارَةُ تَقَعُ عَلَى أَعْلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَوْنِ حَقِيقَةً وَتَقَعُ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ - تَعَالَى - كَمَا يَلِيقُ بِهِ، لَا كَمَا يَقَعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَحْسُوسَةِ عِنْدَنَا فِي أَعْلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَوْنِ فَإِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى جِسْمٍ وَتِلْكَ إِلَى إِثْبَاتٍ. إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالِاسْتِوَاءُ صِفَةٌ كَانَتْ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي قِدَمِهِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهَا إِلَّا فِي خَلْقِ الْعَرْشِ كَمَا أَنَّ الْحِسَابَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ التَّجَلِّي فِي الْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ إِلَّا فِي مَحَلِّهِ، قَالَ: فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ الَّذِي تَهْرُبُ الْمُتَأَوِّلَةُ مِنْهُ حَيْثُ أَوَّلُوا الْفَوْقِيَّةَ بِفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ وَالِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ هَرَبًا مِنْ ذَلِكَ وَتَنْزِيهًا لِلْبَارِي - تَعَالَى - عَنِ الْحَدِّ الَّذِي لَا يَحْصُرُهُ، فَلَا يُحَدُّ بِحَدٍّ يَحْصُرُهُ، بَلْ بِحَدٍّ تَتَمَيَّزُ بِهِ عَظَمَةُ ذَاتِهِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجِهَةِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْكَوْنِ وَسُفْلِهِ إِذْ لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِلَّا هَكَذَا وَهُوَ فِي قُدْسِهِ - سُبْحَانَهُ - مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ، وَلَيْسَ فِي الْقِدَمِ فَوْقِيَّةٌ وَلَا تَحْتِيَّةٌ، وَإِنَّمَا مَنْ هُوَ مَحْصُورٌ فِي التَّحْتِ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةَ بَارِئِهِ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِ، فَتَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةَ إِشَارَةٍ مَعْقُولَةٍ، وَتَنْتَهِي الْجِهَاتُ عِنْدَ الْعَرْشِ وَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَكْفِيهِ الْوَهْمُ فَتَقَعُ الْإِشَارَةُ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ مُجْمَلًا مُثْبَتًا مُكَيَّفًا لَا مُمَثَّلًا، (قَالَ) : فَإِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَاعْتَقَدْنَاهُ تَخَلُّصًا مِنْ شُبْهَةِ التَّأْوِيلِ وَعَمَاوَةِ التَّعْطِيلِ وَحَمَاقَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَأَثْبَتْنَا عُلُوَّ رَبِّنَا وَفَوْقِيَّتَهُ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَالْحَقُّ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، وَالصَّدْرُ يَنْشَرِحُ لَهُ، فَإِنَّ التَّحْرِيفَ تَأْبَاهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ مِثْلَ تَحْرِيفِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَالْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَغَيٌّ مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لِنَعْرِفَهُ بِهَا، فَوُقُوفُنَا عَنْ إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا عُدُولٌ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِنَا إِيَّاهَا، فَمَا وَصَفَ لَنَا نَفْسَهُ بِهَا إِلَّا لِنُثْبِتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا نَقِفَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ،
أَقُولُ: وَلِأُسْتَاذِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، ذَاتُهُ فِي السَّمَاءِ فَلَا يَعْنُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا وَرَدَ أَنَّ ذَاتَ اللهِ الْقَدِيمِ مَحْصُورَةٌ فِي السَّمَاءِ أَوِ الْعَرْشِ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي الْجِهَةِ الَّتِي فَوْقَ رُءُوسِنَا، بَلْ صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ جِهَةَ الرَّأْسِ كَسَائِرِ الْجِهَاتِ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَغَيْرِهِمَا هِيَ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِمَا عَلِمْتَ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ مَا ذُكِرَ آنِفًا يُشْبِهُ تَأْوِيلَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُلُوَّ عُلُوُّ الْمَرْتَبَةِ أَوْ هُوَ هُوَ أَقُلْ: إِنَّهُ يَتَّفِقُ مَعَهُ فِي تَنْزِيهِ الْبَارِي - تَعَالَى - عَنْ مُمَاثَلَةِ الْأَجْسَامِ الْمَحْدُودَةِ وَالْمُحْدَثَاتِ الْمَقْهُورَةِ الْخَاضِعَةِ لِإِرَادَةِ الْقَاهِرِ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُ يُفَارِقُهُ بِعَدَمِ حَظْرِ اسْتِعْمَالِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ لَا مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ، فَأَهْلُ التَّأْوِيلِ يَحْظُرُونَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ مِثْلَ إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ لِئَلَّا يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ ذَاتَ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ مَحْصُورٌ فِي هَذَا الْمَخْلُوقِ الَّذِي فَوْقَ رُءُوسِنَا فَهُمْ يُرِيدُونَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْزِيهِ، وَالْأَثَرِيُّونَ يُجِيزُونَ اسْتِعْمَالَ كُلِّ مَا وَرَدَ مُحْتَجِّينَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَحْرَصُ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يُبَالِغُ هَؤُلَاءِ فَيَسْتَعْمِلُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ، أَوِ النَّصُّ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ تَوَسُّعًا وَعَمَلًا بِالْقِيَاسِ. وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا مَمْنُوعُ الْمَقَامِ، وَلِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَحْقِيقٌ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَالَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ، فَنَنْقُلُهُ هُنَا مِنْ كِتَابِهِ (إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ) وَهُوَ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي شَرْحِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ) اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، أَعْنِي مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَا أَنَا أُورِدُ بَيَانَهُ وَبَيَانَ بُرْهَانِهِ (فَأَقُولُ) : حَقِيقَةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ - وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا - أَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ عَوَامِّ الْخَلْقِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ سَبْعَةُ أُمُورٍ: التَّقْدِيسُ. ثُمَّ التَّصْدِيقُ، ثُمَّ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ. ثُمَّ السُّكُوتُ. ثُمَّ الْإِمْسَاكُ. ثُمَّ الْكَفُّ؟ ثُمَّ التَّسْلِيمُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، (أَمَّا التَّقْدِيسُ) فَأَعْنِي بِهِ تَنْزِيهَ الرَّبِّ - تَعَالَى - عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَتَوَابِعِهَا. (وَأَمَّا التَّصْدِيقُ) فَهُوَ الْإِيمَانُ بِمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَقٌّ، وَهُوَ فِيمَا قَالَهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ وَأَرَادَهُ. (وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ) فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ مُرَادِهِ لَيْسَتْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَحِرْفَتِهِ.
(الْوَظِيفَةُ الْأُولَى التَّقْدِيسُ) وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الْيَدَ وَالْإِصْبَعَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِهِ وَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ لِمَعْنَيَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ الْوَضْعُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَعَصَبٍ، وَاللَّحْمُ وَالْعَظْمُ وَالْعَصَبُ جِسْمٌ مَخْصُوصٌ وَصِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ، أَعْنِي بِالْجِسْمِ عِبَارَةً عَنْ مِقْدَارٍ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِحَيْثُ هُوَ إِلَّا بِأَنْ يَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ هَذَا اللَّفْظُ أَعْنِي الْيَدَ لِمَعْنًى آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِجِسْمٍ أَصْلًا، كَمَا يُقَالُ: الْبَلْدَةُ فِي يَدِ الْأَمِيرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ مَقْطُوعَ الْيَدِ مَثَلًا، فَعَلَى الْعَامِّيِّ وَغَيْرِ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَحَقَّقَ قَطْعًا وَيَقِينًا أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ جِسْمًا هُوَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَعَظْمٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ وَهُوَ عَنْهُ مُقَدَّسٌ، فَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ اللهَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْضَاءٍ فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ. فَإِنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَعِبَادَةُ الْمَخْلُوقِ كُفْرٌ، وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ كَانَتْ كُفْرًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ مَخْلُوقًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ، فَمَنْ عَبَدَ جِسْمًا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَالْخَلْفِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَثِيفًا كَالْجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلَابِ، أَوْ لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُظْلِمًا كَالْأَرْضِ أَوْ مُشْرِقًا كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، أَوْ مُشِفًّا لَا لَوْنَ لَهُ كَالْهَوَاءِ، أَوْ عَظِيمًا كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَاءِ، أَوْ صَغِيرًا كَالذَّرَّةِ وَالْهَبَاءِ أَوْ جَمَادًا كَالْحِجَارَةِ، أَوْ حَيَوَانًا كَالْإِنْسَانِ. فَالْجِسْمُ صَنَمٌ، فَبِأَنْ يُقَدَّرَ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ أَوْ عِظَمُهُ أَوْ صِغَرُهُ أَوْ صَلَابَتُهُ وَبَقَاؤُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ صَنَمًا، وَمَنْ نَفَى الْجِسْمِيَّةَ عَنْهُ وَعَنْ يَدِهِ وَأُصْبُعِهِ فَقَدْ نَفَى الْعُضْوِيَّةَ وَاللَّحْمَ وَالْعَصَبَ، وَقَدَّسَ الرَّبَّ - جَلَّ جَلَالُهُ - عَمَّا يُوجِبُ الْحُدُوثَ لِيَعْتَقِدَ بَعْدَهُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فِي جِسْمٍ يَلِيقُ
مِثَالٌ آخَرُ: إِذَا سَمِعَ الصُّورَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنِّي رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الصُّورَةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ فِي أَجْسَامٍ مُؤَلَّفَةٍ مُوَلَّدَةٍ مُرَتَّبَةٍ تَرْتِيبًا مَخْصُوصًا مِثْلَ الْأَنْفِ وَالْعَيْنِ وَالْفَمِ وَالْخَدِّ الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ وَهِيَ لُحُومٌ وَعِظَامٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هَيْئَةٍ فِي جِسْمٍ، وَلَا هُوَ تَرْتِيبٌ فِي أَجْسَامٍ، كَقَوْلِكَ عَرَفَ صُورَتَهُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَلْيَتَحَقَّقْ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ الصُّورَةَ فِي حَقِّ اللهِ لَمْ تُطْلَقْ لِإِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ جِسْمٌ لَحْمِيٌّ وَعَظْمِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَنْفٍ وَفَمٍ وَخَدٍّ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ أَجْسَامٌ وَهَيْئَاتٌ فِي أَجْسَامٍ، وَخَالِقُ الْأَجْسَامِ وَالْهَيْئَاتِ كُلِّهَا مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَتِهَا أَوْ صِفَاتِهَا، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا يَقِينًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بَلْ أُمِرَ بِأَلَّا يَخُوضَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ مِمَّا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فِي جِسْمٍ.
مِثَالٌ آخَرُ: إِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ النُّزُولُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النُّزُولَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ، قَدْ يُطْلَقُ إِطْلَاقًا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْسَامٍ: جِسْمٌ عَالٍ هُوَ مَكَانٌ لِسَاكِنِهِ، وَجِسْمٌ سَافِلٌ كَذَلِكَ، وَجِسْمٌ مُنْتَقِلٌ مِنَ السَّافِلِ إِلَى الْعَالِي وَمِنَ الْعَالِي إِلَى السَّافِلِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى عُلُوٍّ سُمِّيَ صُعُودًا وَعُرُوجًا وَرُقِيًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ سُمِّيَ نُزُولًا وَهُبُوطًا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ انْتِقَالٍ وَحَرَكَةٍ فِي جِسْمٍ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [٣٩: ٦] وَمَا رُؤِيَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ بِالِانْتِقَالِ، بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ فِي الْأَرْحَامِ، وَلِإِنْزَالِهَا مَعْنًى لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " دَخَلْتُ مِصْرَ فَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامِي، فَنَزَلْتُ ثُمَّ نَزَلْتُ ثُمَّ نَزَلْتُ ". فَلَمْ يُرِدْ بِهِ انْتِقَالَ جَسَدِهِ إِلَى أَسْفَلَ، فَتَحَقَّقَ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّ النُّزُولَ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ انْتِقَالُ شَخْصٍ وَجَسَدٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ
فَإِنَّ الشَّخْصَ وَالْجَسَدَ أَجْسَامٌ، وَالرَّبَّ - جَلَّ جَلَالُهُ - لَيْسَ بِجِسْمٍ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْ هَذَا فَمَا الَّذِي أَرَادَ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ إِذَا عَجَزْتَ عَنْ فَهْمِ نُزُولِ الْبَعِيرِ مِنَ السَّمَاءِ فَأَنْتَ عَنْ فَهْمِ نُزُولِ اللهِ - تَعَالَى - أَعْجَزُ، فَلَيْسَ هَذَا بِوُسْعِكَ فَاتْرُكْهُ، وَاشْتَغِلْ بِعِبَادَتِكَ أَوْ حِرْفَتِكَ وَاسْكُتْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي
مِثَالٌ آخَرُ: إِذَا سَمِعَ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [٦: ١٨] وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [١٦: ٥] فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْفَوْقَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ لِمَعْنَيَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: نِسْبَةُ جِسْمٍ إِلَى جِسْمٍ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى وَالْآخَرُ أَسْفَلَ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَعْلَى مِنْ جَانِبِ رَأْسِ الْأَسْفَلِ، وَقَدْ يُطْلَقُ لِفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: الْخَلِيفَةُ فَوْقَ السُّلْطَانِ وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، وَكَمَا يُقَالُ الْعِلْمُ فَوْقَ الْعِلْمِ، وَالْأَوَّلُ: يَسْتَدْعِي جِسْمًا يُنْسَبُ إِلَى جِسْمٍ.
وَالثَّانِي: لَا يَسْتَدْعِيهِ، فَلْيَعْتَقِدِ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرَ مُرَادٍ، وَأَنَّهُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ، فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَجْسَامِ أَوْ لَوَازِمِ أَعْرَاضِ الْأَجْسَامِ، وَإِذَا عَرَفَ نَفْيَ هَذَا الْمُحَالِ فَلَا عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ لِمَاذَا أُطْلِقَ وَمَاذَا أُرِيدَ؟ فَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
(الْوَظِيفَةُ الثَّانِيَةُ - الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ) وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أُرِيدَ بِهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقٌ فِي وَصْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ، فَلْيُؤْمِنْ بِذَلِكَ وَلْيُوقِنْ بِأَنَّ مَا قَالَهُ صِدْقٌ وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلْيَقُلْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا، وَأَنَّ مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَهُوَ كَمَا وَصَفَهُ، وَحَقٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: التَّصْدِيقُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّصَوُّرِ، وَالْإِيمَانُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّفَهُّمِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِذَا لَمْ يَفْهَمِ الْعَبْدُ مَعَانِيَهَا كَيْفَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ قَائِلِهَا فِيهَا؟ فَجَوَابُكَ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْأُمُورِ الْجُمْلِيَّةِ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَانٍ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ فَلَهُ مُسَمًّى إِذَا نَطَقَ بِهِ مَنْ أَرَادَ مُخَاطَبَةَ قَوْمٍ قَصَدَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ صَادِقًا
مُخْبِرًا عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَعْقُولٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ غَيْرُ مُفَصَّلَةٍ وَيُمْكِنُ التَّصْدِيقُ، كَمَا إِذَا قَالَ فِي الْبَيْتِ حَيَوَانٌ أَمْكَنَ أَنْ يُصَدَّقَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ غَيْرُهُ، بَلْ لَوْ قَالَ فِيهِ شَيْءٌ أَمْكَنَ تَصْدِيقَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فَهِمَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ إِلَى الْعَرْشِ فَيُمْكِنُهُ التَّصْدِيقُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تِلْكَ النِّسْبَةَ هِيَ نِسْبَةُ الِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهِ أَوِ الْإِقْبَالِ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي النِّسْبَةِ فَأَمْكَنَ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَإِنْ قُلْتَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ؟ فَجَوَابُكَ: أَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الْخِطَابِ تَفْهِيمَ مَنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ فَهِمُوا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَنْ خَاطَبَ الْعُقَلَاءَ بِكَلَامٍ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُ الصِّبْيَانُ وَالْعَوَامُّ
(الْوَظِيفَةُ الثَّالِثَةُ - الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ) وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَحَقِيقَتِهَا وَلَمْ يَعْرِفْ تَأْوِيلَهَا وَالْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يُقِرَّ بِالْعَجْزِ، فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَاجِبٌ وَهُوَ عَنْ دَرْكِهِ عَاجِزٌ، فَإِنِ
ادَّعَى الْمَعْرِفَةَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: الْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ ; يَعْنِي: تَفْصِيلُ الْمُرَادِ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَارِفُونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِنْ جَاوَزُوا فِي الْمَعْرِفَةِ حُدُودَ الْعَوَامِّ وَجَالُوا فِي مَيْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَقَطَعُوا مِنْ بَوَادِيهَا أَمْيَالًا كَثِيرَةً، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ مِمَّا لَمْ يَبْلُغُوهُ - وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ - أَكْثَرُ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا طُوِيَ عَنْهُمْ إِلَى مَا كُشِفَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطْوِيِّ وَقِلَّةِ الْمَكْشُوفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَطْوِيِّ الْمَسْتُورِ.
قَالَ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَكْشُوفِ قَالَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -: أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ أَخْوَفُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ ضَرُورِيًّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُنْتَهَى الْحَالِ، قَالَ سَيِّدُ الصِّدِّيقِينَ: " الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ " فَأَوَائِلُ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ كَأَوَاخِرِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى خَوَاصِّ الْخَلْقِ فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ؟
(الْوَظِيفَةُ الرَّابِعَةُ - السُّكُوتُ عَنِ السُّؤَالِ) وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَوَامِّ لِأَنَّهُ بِالسُّؤَالِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا لَا يُطِيقُهُ وَخَائِضٌ فِيمَا لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، فَإِنْ سَأَلَ جَاهِلًا زَادَهُ جَوَابُهُ جَهْلًا، وَرُبَّمَا وَرَّطَهُ فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَإِنْ سَأَلَ عَارِفًا عَجَزَ الْعَارِفُ عَنْ تَفْهِيمِهِ، بَلْ عَجَزَ عَنْ تَفْهِيمِ وَلَدِهِ مَصْلَحَتَهُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْمَكْتَبِ، بَلْ عَجَزَ الصَّائِغُ عَنْ تَفْهِيمِ النَّجَّارِ صِنَاعَتَهُ، فَإِنَّ النَّجَّارَ - وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِصِنَاعَتِهِ -
الْمُتَشَابِهَاتِ وَكَمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمٍ رَآهُمْ خَاضُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَسَأَلُوا عَنْهُ: فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَفَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ وَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ كَمَا اشْتُهِرَ فِي الْخَبَرِ. وَلِهَذَا أَقُولُ: يَحْرُمُ عَلَى الْوُعَّاظِ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ الْجَوَابُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْخَوْضِ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْصِيلِ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ السَّلَفُ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْدِيسِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا، وَلَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي هَذَا بِمَا أَرَادَ حَتَّى يَقُولَ: كُلُّ مَا خَطَرَ بِبَالِكُمْ وَهَجَسَ فِي ضَمِيرِكُمْ وَتُصُوِّرَ فِي خَاطِرِكُمْ، فَاللهُ - تَعَالَى - خَالِقُهَا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا وَعَنْ مُشَابَهَتِهَا، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِخْبَارِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمُرَادِ فَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَتِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا فَاشْتَغِلُوا بِالتَّقْوَى، فَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَهَذَا قَدْ نُهِيتُمْ عَنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَمَهْمَا سَمِعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاسْكُتُوا، وَقُولُوا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوتِينَا.
(الْوَظِيفَةُ الْخَامِسَةُ - الْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَلْفَاظٍ وَارِدَةٍ) وَيَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْخَلْقِ الْجُمُودُ عَلَى أَلْفَاظِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَالتَّصْرِيفُ وَالتَّفْرِيعُ... إِلَخْ.
(الْأَوَّلُ التَّفْسِيرُ) وَأَعْنِي بِهِ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ بِلُغَةٍ أُخْرَى يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوِ التُّرْكِيَّةِ، بَلْ لَا يَجُوزُ النُّطْقُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ ; لِأَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا، وَمِنْهَا مَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفَرَسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا مِنْهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَكُونُ
وَثَبَاتٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَيَضْطَرِبَ، وَإِشْعَارُهُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِشَارَتُهُ إِلَيْهَا فِي الْعَجَمِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ إِشْعَارِ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهَا، فَإِذَا تَفَاوَتَ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِشْعَارِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِثْلَ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ الْمُرَادِفِ لَهُ الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِمَا لَا يُبَايِنُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَأَدَقِّهِ وَأَخْفَاهُ (مِثَالُ الثَّانِي) أَنَّ الْإِصْبَعَ يُسْتَعَارُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلنِّعْمَةِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ عِنْدِي إِصْبَعٌ: أَيْ نِعْمَةٌ، وَمَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ انكشت، وَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَجَمِ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَوَسُّعُ الْعَرَبِ فِي التَّجَوُّزِ وَالِاسْتِعَارَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَوَسُّعِ الْعَجَمِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ إِلَى جُمُودِ الْعَجَمِ، فَإِذَا حَسُنَ إِيرَادُ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي الْعَرَبِ وَسَمِجَ ذَلِكَ فِي الْعَجَمِ نَفَرَ الْقَلْبُ عَمَّا سَمَجَ وَمَجَّهُ السَّمْعُ وَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَفَاوَتَا لَمْ يَكُنِ التَّفْسِيرُ تَبْدِيلًا بِالْمِثْلِ بَلْ بِالْخِلَافِ، وَلَا يَجُوزُ التَّبْدِيلُ إِلَّا بِالْمِثْلِ (مِثَالُ الثَّالِثِ) الْعَيْنُ، فَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ فَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ بِأَظْهَرِ مَعَانِيهِ فَيَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ - وَهُوَ مُشْتَرَكٌ - فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَيْنَ الْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَبَيْنَ الْمَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلَفْظِ جِسْمٌ - وَهُوَ مُشْتَرَكٌ - هَذَا الِاشْتِرَاكُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَنْبِ وَالْوَجْهِ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَلِأَجْلِ هَذَا نَرَى الْمَنْعَ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّفَاوُتُ إِنِ ادَّعَيْتُمُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ خُبْزٌ وَنَانٌ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ لَحْمٌ وَكوشت، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ فَامْنَعْ مِنَ التَّبْدِيلِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ لَا عِنْدَ التَّمَاثُلِ، فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَعْضِ لَا فِي الْكُلِّ، فَلَعَلَّ لَفْظَ الْيَدِ وَلَفْظَ دست يَتَسَاوَيَانِ فِي اللُّغَتَيْنِ وَفِي الِاشْتِرَاكِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَسَمَ إِلَى مَا يَجُوزُ وَإِلَى مَا لَا يَجُوزُ - وَلَيْسَ إِدْرَاكُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا وَالْوُقُوفُ عَلَى دَقَائِقِ التَّفَاوُتِ جَلِيًّا سَهْلًا يَسِيرًا عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِ الْإِشْكَالُ وَلَا يَتَمَيَّزُ مَحَلُّ التَّفَاوُتِ عَنْ مَحَلِّ التَّعَادُلِ - فَنَحْنُ بَيْنَ أَنْ نَحْسِمَ الْبَابَ احْتِيَاطًا إِذْ لَا حَاجَةَ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ أَنْ نَفْتَحَ الْبَابَ وَنُقْحِمَ عُمُومَ الْخَلْقَ وَرْطَةَ الْخَطَرِ، فَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحْزَمُ وَأَحْوَطُ، وَالْمَنْظُورُ فِيهِ ذَاتُ الْإِلَهِ وَصِفَاتُهُ؟ وَمَا عِنْدِي أَنَّ عَاقِلًا مُتَدَيِّنًا لَا يُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُخْطِرٌ، فَإِنَّ الْخَطَرَ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، كَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ الْعِدَّةَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَلِلْحَذَرِ مِنْ خَلْطِ الْأَنْسَابِ احْتِيَاطًا لِحُكْمِ
الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّسَبِ، فَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْعَقِيمِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَعِنْدَ الْعَزْلِ ; لِأَنَّ بَاطِنَ الْأَرْحَامِ إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، فَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ النَّظَرِ إِلَى التَّفْصِيلِ كُنَّا
(أَمَّا التَّصَرُّفُ الثَّانِي بِالتَّأْوِيلِ) وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَاهُ بَعْدَ إِزَالَةِ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَامِّيِّ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ الْعَامِّيِّ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ (الْأَوْلُ) تَأْوِيلُ الْعَامِّيِّ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِغَالِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ يُشْبِهُ خَوْضَ الْبَحْرِ الْمُغْرِقِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ السِّبَاحَةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَبَحْرُ مَعْرِفَةِ اللهِ أَبْعَدُ غَوْرًا وَأَكْثَرُ مَعَاطِبَ وَمَهَالِكَ مِنْ بَحْرِ الْمَاءِ ; لِأَنَّ هَلَاكَ هَذَا الْبَحْرِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ، وَهَلَاكُ بَحْرِ الدُّنْيَا لَا يُزِيلُ إِلَّا الْحَيَاةَ الْفَانِيَةَ وَذَلِكَ يُزِيلُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ فَشَتَّانَ بَيْنَ الْخَطَرَيْنِ.
(الْمَوْضِعُ الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعَالِمِ مَعَ الْعَامِّيِّ وَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَجُرَّ السَّبَّاحُ الْغَوَّاصُ فِي الْبَحْرِ مَعَ نَفْسِهِ آخَرَ عَاجِزًا عَنِ السِّبَاحَةِ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ. وَذَلِكَ حَرَامٌ " لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ ; فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى حِفْظِهِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْقُرْبِ مِنَ السَّاحِلِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْوُقُوفِ بِقُرْبِ السَّاحِلِ لَا يُطِيعُهُ، وَإِنْ أَمْرَهُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ الْتِطَامِ الْأَمْوَاجِ وَإِقْبَالِ التَّمَاسِيحِ وَقَدْ فَغَرَتْ فَاهًا لِلِانْتِقَامِ، اضْطَرَبَ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ وَلَمْ يَسْكُنْ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ لِقُصُورِ طَاقَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الْحَقُّ لِلْعَالِمِ إِذَا فَتَحَ لِلْعَامِّيِّ بَابَ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خِلَافِ الظَّوَاهِرِ. وَفِي مَعْنَى الْعَوَامِّ الْأَدِيبُ وَالنَّحْوِيُّ وَالْمُحَدِّثُ وَالْمُفَسِّرُ وَالْفَقِيهُ وَالْمُتَكَلِّمُ، بَلْ كُلُّ عَالِمٍ سِوَى الْمُتَجَرِّدِينَ لِتَعَلُّمِ السِّبَاحَةِ فِي بِحَارِ الْمَعْرِفَةِ، الْقَاصِرِينَ أَعْمَارَهُمْ عَلَيْهِ، الصَّارِفِينَ وُجُوهَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْخَلْقِ وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ، وَالْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامِلِينَ بِجَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا فِي الْقِيَامِ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ
الْمُفْرِغِينَ قُلُوبَهُمْ بِالْجُمْلَةِ عَنْ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لِلَّهِ، الْمُسْتَحْقِرِينَ لِلدُّنْيَا بَلِ الْآخِرَةِ وَالْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنْبِ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْغَوْصِ فِي بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، يَهْلَكُ مِنَ الْعَشْرَةِ تِسْعَةٌ إِلَى أَنْ يَسْعَدَ وَاحِدٌ بِالدُّرِّ الْمَكْنُونِ وَالسِّرِّ الْمَخْزُونِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى فَهُمُ الْفَائِزُونَ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ) تَأْوِيلُ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ فِي سِرِّ قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجَهٍ، فَإِنَّ الَّذِي انْقَدَحَ فِي سِرِّهِ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ مَثَلًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مَظْنُونًا ظَنًّا غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فَلْيَعْتَقِدْهُ وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فَلْيَجْتَنِبْهُ، وَلَا يَحْكُمَنْ عَلَى مُرَادِ اللهِ - تَعَالَى - وَمُرَادِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِهِ بِاحْتِمَالٍ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الشَّاكِّ التَّوَقُّفُ. وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَاعْلَمْ أَنَّ لِلظَّنِّ مُتَعَلَّقَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي انْقَدَحَ عِنْدَهُ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ هُوَ مُحَالٌ؟.
دُونَ الدِّمَاغِ لَوْ سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ، وَحَقَّتْ بِهِ الْكَلِمَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ، فَصَارَ خِلَافُهُ مُمْتَنِعًا لَا الْقُصُورُ فِي ذَاتِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ مَا يُخَالِفُ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ وَالْعِلْمَ السَّابِقَ الْأَزَلِيَّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [٣٣: ٦٢] وَإِنَّمَا لَا تَتَبَدَّلُ لِوُجُوبِهَا وَإِنَّمَا وُجُوبُهَا لِصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَاجِبَةٍ، وَنَتِيجَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ وَنَقِيضُهَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا، وَيَمْتَنِعَ نُفُوذُ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَإِذَنْ إِثْبَاتُ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَعَ الْعَرْشِ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ إِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا فَهَلْ هُوَ وَاقِعٌ وُجُودًا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّاظِرُ، وَرُبَّمَا يُظَنُّ وُجُودُ هَذَا مِثَالُ الظَّنِّ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى وَالْأَوَّلُ مِثَالُ الظَّنِّ فِي كَوْنِ الْمَعْنَى مُرَادًا بِاللَّفْظِ، مَعَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا جَائِزًا وَبَيْنَهُمَا فَرْقَانِ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّنَّيْنِ إِذَا انْقَدَحَ فِي النَّفْسِ وَحَاكَ فِي الصَّدْرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ دَفْعُهُ عَنِ النَّفْسِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَلَّا يَظُنَّ ; فَإِنَّ لِلظَّنِّ أَسْبَابًا ضَرُورِيَّةً لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَكِنْ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ:
(إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَعَ نَفْسَهُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِإِمْكَانِ الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ مَعَ نَفْسِهِ بِمُوجِبِ ظَنِّهِ حُكْمًا جَازِمًا.
(وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُطْلَقِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ كَذَا أَوِ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ كَذَا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١٧: ٣٦] لَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ كَذَا فَيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ ضَمِيرِهِ وَلَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى صِفَةِ اللهِ وَلَا عَلَى مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ، بَلْ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَبَأً عَنْ ضَمِيرِهِ.
الْفَطِنَ الْمُتَعَطِّشَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ يَحِيكُ فِي صَدْرِهِ إِشْكَالُ الظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُلْقِيهِ فِي تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ لِشِدَّةِ شَرَهِهِ عَلَى الْفِرَارِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ، وَمَنْعُ الْعِلْمِ أَهْلَهُ ظُلْمٌ كَبَثِّهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ.
وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَفِي مَعْنَى الْعَامِّيِّ كُلُّ مَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِطْعَامِ الرَّضِيعِ الْأَطْعِمَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا، وَأَمَّا الْمَظْنُونُ فَتَحَدُّثُهُ مَعَ نَفْسِهِ اضْطِرَارٌ، فَإِنَّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ ظَنٍّ وَشَكٍّ وَقَطْعٍ لَا تَزَالُ النَّفْسُ تَتَحَدَّثُ بِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ، فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ مَعَ الْعَوَامِّ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَقْطُوعِ، أَمَّا تَحَدُّثُهُ مَعَ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ دَرَجَتِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ أَوْ مَعَ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ جَائِزٌ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: أَظُنُّ كَذَا، وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ بِذِكْرِهِ مُتَصَرِّفٌ بِالظَّنِّ فِي صِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ فِي مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِيهِ خَطَرٌ، وَإِبَاحَتُهُ تُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ وَرَدَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١٧: ٣٦] فَإِنْ قِيلَ: يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (الْأَوَّلُ) الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الصِّدْقِ وَهُوَ صَادِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُ إِلَّا عَنْ ظَنِّهِ وَهُوَ ظَانٌّ (وَالثَّانِي) أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ، إِذْ كَلُّ مَا قَالُوهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ بِالِاجْتِهَادِ ; وَلِذَلِكَ كَثُرَتِ الْأَقَاوِيلُ وَتَعَارَضَتْ (وَالثَّالِثُ) إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِ الْأَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي نَقَلَهَا آحَادُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَتَوَاتَرْ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ الَّذِي نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا رِوَايَتَهُ وَلَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْعَدْلِ إِلَّا الظَّنُّ. (وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ) أَنَّ الْمُبَاحَ صِدْقٌ لَا يُخْشَى مِنْهُ ضَرَرٌ، وَبَثُّ هَذِهِ الظُّنُونِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرَرٍ، فَقَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَعْتَقِدُهُ جَزْمًا فَيَحْكُمُ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ خَطَرٌ، وَالنُّفُوسُ نَافِرَةٌ عَنْ إِشْكَالِ الظَّوَاهِرِ، فَإِذَا وُجِدَ مُسْتَرْوَحًا مِنَ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ مَظْنُونًا سَكَنَ إِلَيْهِ وَاعْتَقَدَهُ جَزْمًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ غَلَطًا، فَيَكُونُ قَدِ اعْتَقَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ الْبَاطِلُ أَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ بِالظَّنِّ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - كَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ وَغَيْرِهِ، بَلْ لَعَلَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ أَوْ فِي حِكَايَاتِ أَحْوَالِ
وَالْأَمْثَالِ وَمَا لَا يَعْظُمُ خَطَرُ الْخَطَأِ فِيهِ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ تَوَاتَرَ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاتُرًا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلَا بِرِوَايَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمَظْنُونِ وَاعْتِمَادٌ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مِنَ الْعُدُولِ وَرَوَوْهَا وَصَحَّحُوهَا. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَجُوزَ اتِّهَامُ الْعَدْلِ بِالْكَذِبِ لَا سِيَّمَا فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا رَوَى الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - خَبَرًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، فَرَدُّ رِوَايَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَنِسْبَةٌ لَهُ إِلَى الْوَضْعِ أَوْ إِلَى السَّهْوِ، فَقَبِلُوهُ وَقَالُوا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَا فِي التَّابِعِينَ، فَالْآنَ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّهَامِ الْعَدْلِ الْتَّقِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَلَّا يَتَّهِمَ ظُنُونَ الْآحَادِ، وَأَنْ يُنْزِلَ الظَّنَّ مَنْزِلَةَ نَقْلِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؟ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ الْعَدْلُ فَصَدِّقُوهُ وَاقْبَلُوهُ وَانْقُلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: مَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ ظُنُونِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ، وَارْوُوا عَنْ ظُنُونِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ مَا قَالَتْهُ، فَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ; وَلِهَذَا نَقُولُ: مَا رَوَاهُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ وَلَا يُرْوَى، وَيُحْتَاطَ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا.
(وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ رَوَتْهَا الصَّحَابَةُ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا يَقِينًا، فَمَا نَقَلُوا إِلَّا مَا تَيَقَّنُوهُ، وَالتَّابِعُونَ قَبِلُوهُ وَرَوَوْهُ، وَمَا قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا، بَلْ قَالُوا: قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولَ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا وَكَانُوا صَادِقِينَ، وَمَا أَهْمَلُوا رِوَايَتَهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى فَوَائِدَ سِوَى اللَّفْظِ الْمُوهِمِ عِنْدَ الْعَارِفِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا يَفْهَمُهُ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا فِي حَقِّهِ: مِثَالُهُ رِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ: يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ؟ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْحَدِيثُ سِيقَ لِنِهَايَةِ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ،
وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي لِلتَّهَجُّدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، فَلَوْ تُرِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْهَامُ لَفْظِ النُّزُولِ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَامِّيِّ الْجَارِي مَجْرَى الصَّبِيِّ، وَمَا أَهْوَنَ عَلَى الْبَصِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِي قَلْبِ الْعَامِّيِّ التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ عَنْ صُورَةِ النُّزُولِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيُسْمِعَنَا نِدَاءَهُ وَقَوْلَهُ فَمَا أَسْمَعَنَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُزُولِهِ؟ وَلَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَادِيَنَا كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا، فَهَذَا الْقَدْرُ يَعْرِفُ
فَهَذِهِ سُبُلُ تَجَاذُبِ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ فِي إِبَاحَةِ ذِكْرِ التَّأْوِيلِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَنْعِ، وَلَا يَبْعُدُ ذِكْرُ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَرَائِنِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَمِعِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرَ تَرَكَهُ، وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ ظَنُّهُ كَالْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ الذِّكْرِ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ لَا تَتَحَرَّكُ دَاعِيَتُهُ بَاطِنًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَا يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالٌ مِنْ ظَوَاهِرِهَا، فَذِكْرُ التَّأْوِيلِ مَعَهُ مُشَوِّشٌ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالُ الظَّاهِرِ حَتَّى يَكَادَ أَنْ يَسُوءَ اعْتِقَادُهُ فِي الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُنْكِرَ قَوْلَهُ الْمُوهِمَ، فَمِثْلُ هَذَا لَوْ ذُكِرَ مَعَهُ الِاحْتِمَالُ الْمَظْنُونُ، بَلْ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ الَّذِي يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ انْتَفَعَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهِ مَعَهُ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ لِدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ دَاءً فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ الدَّوَاعِيَ السَّاكِنَةَ مِنْ أَكْثَرِ الْمُسْتَمِعِينَ، وَقَدْ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ وَعَنْ إِشْكَالِهِ مُنْفَكِّينَ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ السَّلَفِ الْأَوَّلِ زَمَانَ سُكُونِ الْقَلْبِ بَالَغُوا فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ خِيفَةً مِنْ تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي وَتَشْوِيشِ الْقُلُوبِ، فَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْفِتْنَةَ، وَأَلْقَى هَذِهِ الشُّكُوكَ فِي الْقُلُوبِ
مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَبَاءَ بِالْإِثْمِ، أَمَّا الْآنَ وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، فَالْعُذْرُ فِي إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَاءً لِإِمَاطَةِ الْأَوْهَامِ الْبَاطِلَةِ عَنِ الْقُلُوبِ أَظْهَرُ، وَاللَّوْمُ عَنْ قَائِلِهِ أَقَلُّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الْمَقْطُوعِ وَالْمَظْنُونِ، فَبِمَاذَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ التَّأْوِيلِ؟ قُلْنَا بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَقْطُوعًا ثُبُوتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ (وَالثَّانِي) أَلَّا يَكُونَ اللَّفْظُ إِلَّا مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ، وَقَدْ بَطَلَ أَحَدُهُمَا وَتَعَيَّنَ الثَّانِي، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [٦: ١٨] فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ أَنَّ الْفَوْقَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ أَوْ فَوْقِيَّةَ الرُّتْبَةِ، وَلَمَّا بَطَلَ فَوْقِيَّةُ الْمَكَانِ لِمَعْرِفَةِ التَّقْدِيسِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةُ، كَمَا يُقَالُ: السَّيِّدُ فَوْقَ الْعَبْدِ وَالزَّوْجُ فَوْقَ الزَّوْجَةِ، وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، فَاللهُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا كَالْمَقْطُوعِ بِهِ فِي لَفْظِ الْفَوْقِ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
أَمَّا لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ رُبَّمَا لَا يَنْحَصِرُ مَفْهُومُهُ فِي اللُّغَةِ هَذَا الِانْحِصَارَ، وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: مَعْنَيَانِ جَائِزَانِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَمَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْبَاطِلُ، فَتَنْزِيلُهُ عَلَى
(التَّصَرُّفُ الثَّالِثُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: التَّصْرِيفُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [١٣: ٢] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مُسْتَوٍ وَيَسْتَوِي ; لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ: رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الْآيَةَ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [٢: ٢٩] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ قَدِ انْقَضَى مِنْ إِقْبَالٍ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ عَلَى تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ، فَفِي تَغْيِيرِ التَّصَارِيفِ مَا يُوثِقُ فِي تَغْيِيرِ الدَّلَالَاتِ وَالِاحْتِمَالَاتِ، فَلْيَجْتَنِبِ التَّصْرِيفَ كَمَا يَجْتَنِبُ الزِّيَادَةَ، فَإِنَّ تَحْتَ التَّصْرِيفِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ.
(التَّصْرِيفُ الرَّابِعُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ: الْقِيَاسُ وَالتَّفْرِيعُ) مِثْلَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْكَفِّ مُصَيِّرًا إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْيَدِ، وَإِذَا وَرَدَ الْأُصْبُعُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَإِنْ كَانَتِ الْيَدُ الْمَشْهُورَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ الرِّجْلِ عِنْدَ وُرُودِ الْيَدِ، وَإِثْبَاتُ الْفَمِ عِنْدَ وُرُودِ الْعَيْنِ أَوْ عِنْدَ وُرُودِ الضَّحِكِ، وَإِثْبَاتُ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ وُرُودِ
السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَكَذِبٌ وَزِيَادَةٌ، وَقَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَمْقَى مِنَ الْمُشَبِّهَةِ الْحَشْوِيَّةِ ; فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ.
(التَّصَرُّفُ الْخَامِسُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ) وَلَقَدْ بَعُدَ عَنِ التَّوْفِيقِ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَرَسَمَ فِي كُلِّ عُضْوٍ بَابًا، فَقَالَ: بَابٌ فِي إِثْبَاتِ الرَّأْسِ وَبَابٌ فِي الْيَدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ كِتَابَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ صَدَرَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى قَرَائِنَ مُخْتَلِفَةٍ تُفْهِمُ السَّامِعِينَ مَعَانِيَ صَحِيحَةً، فَإِذَا ذُكِرَتْ مَجْمُوعَةً عَلَى مِثَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ صَارَ جَمْعُ تِلْكَ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي السَّمْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَرِينَةً عَظِيمَةً فِي تَأْكِيدِ الظَّاهِرِ وَإِيهَامِ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَطَقَ بِمَا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ وَأَوْقَعُ، بَلِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ صَارَ مُتَوَالِيًا بِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ ; وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الظَّنِّ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِينَ الثَّلَاثَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، بَلْ يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ، وَيَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاجْتِمَاعِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ. وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةَ الِاجْتِمَاعِ إِذْ يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إِلَى قَوْلِ كُلِّ عَدْلٍ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَرَائِنِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ أَوْ ضَعُفَ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ.
الْعَوَامِّ، فَكَيْفَ يُسَلَّطُ الْعَوَامُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّغْيِيرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ بَالَغَ السَّلَفُ فِي الْجُمُودِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَارِدِ التَّوْقِيفِ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ، وَالْحَقُّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابُ مَا رَأَوْهُ، فَأَهَمُّ الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِيَاطِ مَا هُوَ تَصَرُّفُهُ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحَقُّ الْمَوَاضِعِ بِإِلْجَامِ اللِّسَانِ وَتَقْيِيدِهِ عَنِ الْجَرَيَانِ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ، وَأَيُّ خَطَرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ؟
(الْوَظِيفَةُ السَّادِسَةُ فِي الْكَفِّ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ) وَأَعْنِي بِالْكَفِّ كَفَّ الْبَاطِنِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا أَثْقَلُ الْوَظَائِفِ وَأَشَدُّهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ الزَّمِنِ أَلَّا يَخُوضَ غَمْرَةَ الْبِحَارِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاضَاهُ طَبْعُهُ أَنْ يَغُوصَ فِي الْبِحَارِ وَيُخْرِجَ دُرَرَهَا وَجَوَاهِرَهَا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّهُ نَفَاسَةُ جَوَاهِرِهَا مَعَ عَجْزِهِ عَنْ نَيْلِهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَجْزِهِ وَكَثْرَةِ مَعَاطِبِهَا وَمَهَالِكِهَا وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ نَفَائِسُ الْبِحَارِ فَمَا فَاتَهُ إِلَّا زِيَادَاتٌ وَتَوَسُّعَاتٌ فِي الْمَعِيشَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، فَإِنْ غَرِقَ أَوِ الْتَقَمَهُ تَمْسَاحٌ فَاتَهُ أَصْلُ الْحَيَاةِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ قَلْبُهُ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْبَحْثِ فَمَا طَرِيقُهُ؟ قُلْتُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِعِلْمٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ لُغَةٍ أَوْ نَحْوٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ طِبٍّ أَوْ فِقْهٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِحِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَلَوِ الْحِرَاثَةَ وَالْحِيَاكَةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْبَعِيدِ غَوْرُهُ وَعُمْقُهُ، الْعَظِيمُ خَطَرُهُ وَضَرَرُهُ، بَلْ لَوِ اشْتَغَلَ الْعَامِّيُّ بِالْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ رُبَّمَا كَانَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُ الْفِسْقُ، وَهَذَا عَاقِبَتُهُ الشِّرْكُ. وَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤: ٤٨] فَإِنْ قُلْتَ: الْعَامِّيُّ إِذَا لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ جَوَّزْتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصْتَ لَهُ فِي التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: أَنِّي أُجَوِّزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ
فِيهِ إِلَّا تَفْكِيرًا سَهْلًا جَلِيًّا وَلَا يُمْعِنَ فِي التَّفَكُّرِ، وَلَا يُوغِلَ غَايَةَ الْإِيغَالِ فِي الْبَحْثِ.
وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ [١٠: ٣١] وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [٥٠: ٦ - ١٠] وَكَقَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [٨٠: ٢٤ - ٣١] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا إِلَى قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [٧٨: ٦ - ١٦] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ، بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَلْقُ جَلَالَ اللهِ الْخَالِقِ وَعَظَمَتَهُ لَا بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْأَغْرَاضَ حَادِثَةٌ، وَإِنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَخْلُو عَنِ الْأَغْرَاضِ الْحَادِثَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّقْسِيمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَإِثْبَاتَهَا بِأَدِلَّتِهَا الرَّسْمِيَّةِ يُشَوِّشُ قُلُوبَ الْعَوَامِّ، وَالدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْأَفْهَامِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ تَنْفَعُهُمْ وَتُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَتَغْرِسُ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتِ الْجَازِمَةِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُقْنَعُ فِيهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا [٢١: ٢٢] فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الْمُدَبِّرِينَ سَبَبُ إِفْسَادِ التَّدْبِيرِ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [١٧: ٤٢] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [٢٣: ٩١] وَأَمَّا صِدْقُ الرَّسُولِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [١٧: ٨٨] وَبِقَوْلِهِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [٢: ٢٣] وَقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [١١: ١٣] وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [٣٦: ٧٨، ٧٩] وَبِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [٧٥: ٣٦ - ٤٠] وَبِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [٢٢: ٥] وَقَوْلِهِ:
فِيهِ، وَلَخَاضُوا فِي تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ خَوْضًا يَزِيدُ عَلَى خَوْضِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَمْسَكُوا عَنْهُ لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْبِدَعَ إِنَّمَا نَبَعَتْ بَعْدَهُمْ فَعَظُمَ حَاجَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعِلْمُ الْكَلَامِ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِالْبِدَعِ، فَلَمَّا قَلَّتْ فِي زَمَانِهِمْ أَمْرَاضُ الْبِدَعِ قَلَّتْ عِنَايَتُهُمْ بِجَمِيعِ طُرُقِ الْمُعَالَجَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْوَقَائِعِ، بَلْ وَضَعُوا الْمَسَائِلَ وَفَوَّضُوا فِيهَا مَا تَنْقَضِي الدُّهُورُ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ وُقُوعُهُ فَصَنَّفُوا عِلْمَهُ وَرَتَّبُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْخَوْضِ فِيهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَالْعِنَايَةُ بِإِزَالَةِ الْبِدَعِ وَنَزْعِهَا عَنِ النُّفُوسِ أَهَمُّ، فَلَمْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ صِنَاعَةً لِأَنَّهُمْ
(وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ مُنْكِرِيهِ، ثُمَّ مَا زَادُوا فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْعَقَائِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ أَقْنَعَهُ ذَلِكَ قَبِلُوهُ وَمَنْ لَمْ يُقْنَعْ قَتَلُوهُ، وَعَدَلُوا إِلَى السَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ إِفْشَاءِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمَا رَكِبُوا ظَهْرَ اللَّجَاجِ فِي وَضْعِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَتَحْرِيرِ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ، وَتَذْلِيلِ طُرُقِهَا وَمِنْهَاجِهَا، كُلُّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَثَارُ الْفِتَنِ وَمَنْبَعُ التَّشْوِيشِ، وَمَنْ لَا يُقْنِعْهُ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ لَا يَقْمَعُهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، فَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ بَيَانٌ، عَلَى أَنَّنَا نُنْصِفُ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَاجَةَ الْمُعَالَجَةِ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ، وَأَنَّ لِطُولِ الزَّمَانِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ الْإِشْكَالَاتِ، وَأَنَّ لِلْعِلَاجِ طَرِيقَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : الْخَوْضُ فِي الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى أَنْ يَصْلُحَ وَاحِدٌ يَفْسُدُ بِهِ اثْنَانِ، فَإِنَّ صَلَاحَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَكْيَاسِ وَفَسَادَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبُلْهِ، وَمَا أَقَلَّ الْأَكْيَاسَ وَمَا أَكْثَرَ الْبُلْهَ وَالْعِنَايَةُ بِالْأَكْثَرِينَ أَوْلَى.
(وَالطَّرِيقُ الثَّانِي) : طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْكَفِّ وَالسُّكُوتِ وَالْعُدُولِ إِلَى الدِّرَّةِ وَالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقْنِعُ الْأَكْثَرِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْنِعُ الْأَقَلِّينَ، وَآيَةُ إِقْنَاعِهِ أَنَّ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَرَاهُمْ يُسْلِمُونَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ طَوْعًا مَا كَانَ فِي الْبِدَايَةِ كُرْهًا، وَيَصِيرَ
اعْتِقَادُهُ جَزْمًا مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مِرَاءً وَشَكًّا، وَذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُؤَانَسَةِ بِهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ وَرُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ وَخَبَرِهِمْ وَقَرَائِنَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُنَاسِبُ طِبَاعَهُمْ مُنَاسَبَةً أَشَدَّ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْجَدَلِ وَالدَّلِيلِ ; فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِلَاجَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْأَنْفَعِ فِي الْأَكْثَرِ، فَالْمُعَاصِرُونَ لِلطَّبِيبِ الْأَوَّلِ الْمُؤَيَّدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمُكَاشَفِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ بِأَسْرَارِ عِبَادِهِ وَبَوَاطِنِهِمْ أَعْرَفُ بِالْأَصْوَبِ وَالْأَصْلَحِ قَطْعًا، فَسُلُوكُ سَبِيلِهِمْ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى.
(الْوَظِيفَةُ السَّابِعَةُ التَّسْلِيمُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ) : وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا انْطَوَى عَنْهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَأَسْرَارِهَا لَيْسَ مُنْطَوِيًا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ الصِّدِّيقِ وَعَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَعَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا انْطَوَى عَنْهُ لِعَجْزِهِ وَقُصُورِ مَعْرِفَتِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ
مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ) (فَإِنْ قِيلَ) فَالْعَارِفُونَ مُحِيطُونَ بِكَمَالِ مَعْرِفَةِ اللهِ - سُبْحَانَهُ - حَتَّى لَا يَنْطَوِي عَنْهُمْ شَيْءٌ قُلْنَا: هَيْهَاتَ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ فِي كِتَابِ (الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى) أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللهَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ الْخَلَائِقَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُمْ وَغَزُرَ عِلْمُهُمْ - فَإِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللهِ - سُبْحَانَهُ - فَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ مُحِيطَةٌ بِكُلِّ مَا فِي الْوُجُودِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهُ وَأَفْعَالُهُ، فَالْكُلُّ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ فِي الْمُعَسْكَرِ حَتَّى الْحُرَّاسُ هُمْ مِنَ الْمُعَسْكَرِ، فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَأَنْتَ لَا تَفْهَمُ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا بِالتَّمْثِيلِ إِلَى الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ دَاخِلٌ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ فِي مَمْلَكَتِهِ قَصْرٌ خَاصٌّ وَفِي فِنَاءِ قَصْرِهِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ، وَلِذَلِكَ الْمَيْدَانِ عَتَبَةٌ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا جَمِيعُ الرَّعَايَا وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَلَا إِلَى طَرَفِ الْمَيْدَانِ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِخَوَاصِّ الْمَمْلَكَةِ فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ، وَدُخُولِ الْمَيْدَانِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسْبِ مَنَاصِبِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطْرُقْ إِلَى الْقَصْرِ الْخَاصِّ إِلَّا الْوَزِيرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ يُطْلِعُ الْوَزِيرَ مِنْ أَسْرَارِ مُلْكِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَيَسْتَأْثِرُ عَنْهُ بِأُمُورٍ لَا يُطْلِعُهُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ فَافْهَمْ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَفَاوُتَ الْخَلْقِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَالْعَتَبَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَيْدَانِ مَوْقِفُ جَمِيعِ الْعَوَامِّ وَمَرَدُّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مُجَاوَزَتِهَا، فَإِنْ جَاوَزُوا حَدَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الزَّجْرَ وَالتَّنْكِيلَ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ جَاوَزُوا الْعَتَبَةَ وَانْسَرَحُوا فِي الْمَيْدَانِ، وَلَهُمْ فِيهِ جَوَلَانٌ عَلَى حُدُودٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمْ
أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّ الْغَزَالِيَّ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا فَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ عَلِمْتَ صَفْوَةَ الْمَذْهَبِ مِمَّا سَلَفَ. وَنَعُودُ إِلَى تَفْسِيرِ بَاقِي الْآيَاتِ.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
لَمَّا كَانَ الْمُتَشَابِهُ مَزَلَّةَ الْأَقْدَامِ وَمَدْرَجَةَ الزَّائِغِينَ إِلَى الْفِتْنَةِ وَصَلَ الرَّاسِخُونَ الْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ بِهِ بِالدُّعَاءِ بِالْحِفْظِ مِنَ الزَّيْغِ بَعْدَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ يَعْرِفُونَ ضَعْفَ الْبَشَرِ وَكَوْنَهُمْ عُرْضَةً لِلتَّقَلُّبِ وَالنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَعِلْمَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَخَافُونَ أَنْ يُسْتَزَلُّوا فَيَقَعُوا فِي الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَرِينُ الْخَطَرِ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِحْكَامِ الْعِلْمِ فِي مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَإِحْكَامِ الْعَمَلِ بِحُسْنِ الِاهْتِدَاءِ إِلَّا اللُّجْأُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ الزَّيْغِ الْعَارِضِ، وَيَهَبَهُ الثَّبَاتَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ، وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَالرَّحْمَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. أَقُولُ: وَلَا تَلْتَفِتْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى مُجَادَلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إِسْنَادِ الْإِزَاغَةِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - يُسْنَدُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَقَامِ تَقْرِيرِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ فِي زَيْغِهِ. فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الصَّفِّ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ [٦١: ٥] وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنْ لَدُنْكَ مَعْنَاهُ: مِنْ عِنْدِكَ فَإِنَّ (لَدُنْ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرَادِفَةً لَهَا - بَلْ هِيَ أَخَصُّ وَأَقْرَبُ مَكَانًا - وَلَا لِـ (لَدَى).
فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِخَمْسَةِ أُمُورٍ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ " لَدُنْ " إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْحَاضِرِ، فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّوْفِيقُ الَّذِي لَا يَنَالُهُ الْعَبْدُ بِكَسْبِهِ. وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِسَعْيِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِالْهِبَةِ وَوَصْفُهُ - تَعَالَى - بِالْوَهَّابِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ عَطَاءٌ بِلَا مُقَابِلٍ.
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ جَمْعُ النَّاسِ وَحَشْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُمْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْجَزَاءِ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنُهُ
أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ عَنِ الْكِتَابِ فِي نَفْسِهِ، وَالْكَلَامَ هُنَا حِكَايَةٌ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ; وَلِذَلِكَ عَلَّلَ نَفْيَ الرَّيْبِ بِنَفْيِ إِخْلَافِ الْمِيعَادِ، وَجِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِلْإِشْعَارِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْجُمْلَةَ كَالدُّعَاءِ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ - تَعَالَى - لِتَقْرِيرِ قَوْلِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مُنَاسَبَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِلْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْآخِرَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَضْمُونِهِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ يَوْمَ الْجَمْعِ ; لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْفُسَهُمُ الْخَوْفَ مِنْ تَسَرُّبِ الزَّيْغِ الَّذِي يُبْسِلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَهَذَا الْخَوْفُ هُوَ مَبْعَثُ الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّي مِنَ الزَّيْغِ. أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا مَا مِثَالُهُ: يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ سَوَاءٌ كَانَ رَدًّا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ أَوْ كَانَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا ; فَإِنَّ التَّوْحِيدَ لَمَّا كَانَ أَهَمَّ رُكْنٍ لِلْإِسْلَامِ كَانَ مِمَّا تُعْرَفُ الْبَلَاغَةُ
حَالِ أَهْلِ الْمُنَاكَرَةِ وَالْجُحُودِ وَمَنَاشِئِ اغْتِرَارِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَأَسْبَابِ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الْحَقِّ أَوِ اشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ. وَأَهَمُّهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ فَهِيَ تُنْبِئُهُمْ هُنَا بِأَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ ; إِذْ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ النَّاسَ وَيُحَاسِبُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، بَلْ وَلَا فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَمَا أَحْوَجَ الْكَافِرِينَ إِلَى هَذَا التَّذْكِيرِ، إِنَّ الْجُحُودَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ لِلْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ وَتَوَهُّمِهِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْحَقِّ ; فَإِنَّ صَاحِبَ الْقُوَّةِ وَالْجَاهِ إِذَا وُعِظَ بِالدِّينِ عِنْدَ هَضْمِ حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى أَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَاحْتَاجَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِالدِّينِ، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ وَاعِظًا بَعْدَ أَنْ كَانَ جَاحِدًا، فَهُمْ لِظُلْمَةِ بَصِيرَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَجَاهٍ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى فِي الدِّينِ فِي كُلِّ حَالٍ.
قَالَ: فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) (تُغْنِي) بِـ " تَدْفَعُ "، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا (تُغْنِي) هُنَا كَـ " يُغْنِي " فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [٥٣: ٢٨] وَلَا أَرَاكَ تَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهَا لَنْ يَدْفَعَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَإِنَّمَا مَعْنَى (مِنْ) هُنَا الْبَدَلِيَّةُ، أَيْ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَنْ تَكُونَ بَدَلًا لَهُمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - تُغْنِيهِمْ عَنْهُ ; فَإِنَّهُمْ إِذَا تَمَادَوْا عَلَى بَاطِلِهِمْ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي مَا بَعْدَ هَذِهِ - بَلْ تَوَعَّدَهُمْ فِي هَذِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الْوَقُودُ - بِالْفَتْحِ - كَصَبُورٍ: مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ مِنْ حَطَبٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: أَيْ إِنَّهُمْ سَبَبُ وُجُودِ نَارِ الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْوَقُودَ سَبَبُ وُجُودِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ أَنَّهُمْ مِمَّا تُوقَدُ بِهِ، وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [٢: ٢٤] فِيهَا مَزِيدُ بَيَانٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ - تَعَالَى - مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اسْتَغْنَوْا بِمَا أُوتُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَقِّ فَعَارَضُوهُ وَنَاهَضُوهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ فَقَالَ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ وَنَصَرَ مُوسَى عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمُ الْمُكَذِّبِينَ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِكُفْرِهِمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمَا أُخِذُوا إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا نُصِرَ الرُّسُلُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ إِلَّا بِصَلَاحِهِمْ ; فَاللهُ - تَعَالَى - لَا يُحَابِي وَلَا يَظْلِمُ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ عَلَى
مُسْتَحِقِّهِ ; إِذْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَشَدُّهَا الْكُفْرُ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، فَلْيَعْتَبِرِ الْمَخْذُولُونَ إِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْبَاقُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَهَذَا الْكَلَامُ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِحَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمُ الْمُعْتَزِّينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ: إِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ
أَقُولُ: يُشِيرُ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [٣٤: ٣٥] وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ تَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ - إِنْ كَانَ هُنَاكَ آخِرَةٌ - كَمَا تَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - يُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا. كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩: ٧٧، ٧٨] إِلَخْ. وَكَقَوْلِهِ فِي صَاحِبِ الْجَنَّةِ، أَيِ الْبُسْتَانِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [١٨: ٣٥، ٣٦] وَقَدْ رَدَّ الْقُرْآنُ شُبْهَتَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، أَمَّا غُرُورُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِهَا غَالِبِينَ أَعِزَّاءَ دَائِمًا، فَذَلِكَ مَعْهُودٌ وَشُبْهَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ مُنْتَهَى الطُّغْيَانِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [٩٦: ٦، ٧] وَقَدْ أَنْفَذَ اللهُ وَعِيدَهُ الْأَوَّلَ فِي أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فَغُلِبُوا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْيَهُودِ وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا بَنِي قُرَيْظَةَ الْخَائِنِينَ، وَأَجْلَوْا بَنِي النَّضِيرِ الْمُنَافِقِينَ، وَفَتَحُوا خَيْبَرَ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ بِغَلَبِهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلَمْ تُغْنِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، وَسَيَنْفُذُ وَعِيدُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمِهَادُ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ، يُقَالُ: مَهَّدَ الرَّجُلُ الْمِهَادَ إِذَا بَسَطَهُ، وَيُقَالُ: مَهَّدَ الْأَمْرَ، إِذَا هَيَّأَهُ وَأَعَدَّهُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ جُمْلَةَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ، أَيْ وَيُقَالُ لَهُمْ: بِئْسَ الْمِهَادُ.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: (تَرَوْنَهُمْ) بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. يَقُولُ - تَعَالَى -: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمَغْرُورِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَبِأَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَلَا بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمَالُ مِنَ الْعَدَدِ، وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي يُفْضِي إِلَى النَّصْرِ وَالْغَلَبِ، فَإِنَّ فِي الِاعْتِبَارِ بِبَعْضِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ أَوْضَحَ آيَةٍ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْحُسْبَانِ، فَذَكَرَ الْفِئَتَيْنِ، أَيِ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ الْتَقَتَا فِي الْقِتَالِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمِثَالِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ هِيَ مَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى وَقْعَةِ بِدْرٍ - كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) - وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى وَقَائِعَ أُخْرَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَيُرَجَّحُ هَذَا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ ; فَإِنَّ فِي كُتُبِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبْرَةِ كَقِصَّةِ طَالُوتَ وَجَالُوتَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَقُولُ: (أَوْ قِصَّةُ جَدْعُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ) وَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ إِذَا كَانَ
وَقِيلَ: إِنَّ الرَّائِينَ وَالْمَرْئِيِّينِ هُمُ الْمُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ عَدَدًا. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّائِينَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَالْمَرْئِيِّينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ أَنَّ الْكَافِرِينَ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ - عَلَى قِلَّتِهِمْ - مِثْلَيْهِمْ فِي الْعَدَدِ لِمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ، وَقَدْ حَاوَلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا تَطْبِيقَهُ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ أَهْلِ بَدْرٍ: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [٨: ٤٤]، فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا فَتَجَرَّءُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا كَثَّرَهُمُ اللهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، كُلُّ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، فَالْمَعْنَى: تَرَوْنَهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلَيْهِمْ، وَهِيَ لَا تُنَافِي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَرَوْنَ الْكَافِرِينَ
مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ فَهُوَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَأَى ذَلِكَ وَعَلِمَ بِهِ الْآخَرُونَ، وَإِذَا كَانَ لِلْيَهُودِ فَالْيَهُودُ كَانُوا مُشْرِفِينَ أَيْضًا بِكُلِّ عِنَايَةٍ عَلَى مَا جَرَى بِبَدْرٍ وَغَيْرِ بَدْرٍ مِنَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ; عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ نَصًّا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَالْيَهُودُ قَدْ شَهِدُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُسْنِدُ إِلَى الْحَاضِرِينَ مِنَ الْأُمَّةِ عَمَلَ الْغَابِرِينَ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْوَحْدَةِ وَالتَّكَافُلِ، وَظُهُورِ أَثَرِ الْأَوَائِلِ فِي الْأَوَاخِرِ، وَرَأَوْا مِثْلَهُ فِي زَمَنِ الْخِطَابِ فِي حَرْبِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: رَأْيَ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِيَرَوْنَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِلْمِيَّةً اعْتِقَادِيَّةً - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ - فَالْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِثْلَهُمْ عِلْمًا مِثْلَ الْعِلْمِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْفِئَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَةَ تُرْشِدُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمِثْلِ الْوَاقِعَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا الَّتِي غَلَبَتْ فِيهَا فِئَةٌ قَلِيلَةٌ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ أَيْ لِأَصْحَابِ الْأَبْصَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي الْأُمُورِ بِقَصْدِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا لَا لِمَنْ وُصِفُوا بِقَوْلِهِ: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [٧: ١٧٩] وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْأَبْصَارَ هُنَا بِمَعْنَى الْبَصَائِرِ وَالْعُقُولِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي بِأُولِي الْأَبْصَارِ مَنْ أَبْصَرُوا بِأَعْيُنِهِمْ قِتَالَ الْفِئَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْتُهُ أَظْهَرُ، وَلَا أَحْفَظُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عَنِ الْعِبْرَةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا مَزِيدًا فِيهِ: وَجْهُ الْعِبْرَةِ
تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [٨: ٤٥ - ٤٧] أَقُولُ وَهَذَا مِمَّا نَزَلَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ الَّتِي قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حُكْمِهِ مُطْلَقًا فِي عِبَارَتِهِ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ وَبِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ الَّذِي يَشُدُّ عَزَائِمَهُمْ وَيُنْهِضُ هِمَمَهُمْ، وَبِالطَّاعَةِ لَهُ - تَعَالَى - وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ هُوَ الْقَائِدُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ - وَطَاعَةُ الْقَائِدِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الظَّفَرِ - وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ وَأَنْذَرَهُمْ عَاقِبَتَهُ وَهِيَ الْفَشَلُ وَذَهَابُ الْقُوَّةِ، وَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ; إِذْ خَرَجُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لِعِلَّةِ الْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَمُرَاءَاةِ النَّاسِ بِقُوَّتِهِمْ وَعِزِّهِمْ، وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَبِهَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي تُعْرَفُ سُنَّةُ اللهِ فِي نَصْرِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [٨: ٦٠].
أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا وَهَذِهِ الْآيَةَ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَ اللهِ - تَعَالَى - فِي كُلِّ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ فَاجْتَمَعَ لَهُمْ الِاسْتِعْدَادُ وَالِاعْتِقَادُ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُ يُقَاتِلُ ثَابِتًا وَاثِقًا وَالْكَافِرُ مُتَزَلْزِلًا مَائِقًا وَنَصَرُوا اللهَ فَنَصَرَهُمْ وَفَاءً بِوَعْدِهِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [٤٧: ٧] وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [٣٠: ٤٧] فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ بِإِيمَانِهِ الْقُرْآنُ وَإِيتَاؤُهُ مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَأَخْلَاقُهُ وَأَعْمَالُهُ وَحِرْمَانُهُ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ تُكَذِّبُ دَعْوَاهُ. وَغَزَوَاتُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابُهُ شَارِحَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ، وَهَذَا أَكْبَرُ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ عَادُوا إِلَيْهِ وَاتَّحَدُوا فِيهِ وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ لَفَازُوا بِالْعِزِّ الدَّائِمِ وَالسَّعَادَةِ الْكُبْرَى وَالسِّيَادَةِ الْعُلْيَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَلَمَّا رَأَى فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الزِّينَةِ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ رَئِيسَ وَفْدِ نَجْرَانَ ذَكَرَ فِي حَدِيثِهِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ وَبِصِدْقِهِ أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ أَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَمَتَّعَهُ وَأَنَّهُ يَسْلُبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ إِذَا هُوَ آمَنَ. فَبَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ مَا زُيِّنَ لِلنَّاسِ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ حَتَّى صَرَفَهُمْ عَنِ الْحَقِّ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: إِنَّا رُوِّينَا أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ النَّصْرَانِيَّ اعْتَرَفَ لِأَخِيهِ بِأَنَّهُ يَعْرِفُ صِدْقَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مُلُوكُ الرُّومِ الْمَالَ وَالْجَاهَ. (قَالَ) وَرَوَيْنَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا دَعَا الْيَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَاطِلَةٌ وَأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. اهـ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَالِاتِّصَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ ; فَإِنَّهُ بَعْدَمَا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمُ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ لِأَجْلِهَا بَيَّنَ وَجْهَ غُرُورِهِمْ بِهَا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ جَعْلِهَا آلَةً لِلْغُرُورِ وَتَرْكِ الْحَقِّ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَ الْإِنْسَانَ عَنِ الْآخِرَةِ.
وَالنَّاسُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ هُمُ الْمُكَلَّفُونَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِرْشَادِهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِلْبَحْثِ فِي الْأَطْفَالِ هُنَا.
وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ انْفِعَالُ النَّفْسِ بِالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا تَسْتَلِذُّهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ شَائِعَةُ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: هَذَا الطَّعَامُ شَهْوَةُ فُلَانٍ، أَيْ مُشْتَهَاهُ. وَمَعْنَى تَزْيِينِ حُبِّهَا لَهُمْ: أَنَّ حُبَّهَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ شَيْنًا (قَبْحًا) وَلَا غَضَاضَةً، وَقَدْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَرَاهُ مِنَ الشَّيْنِ لَا مِنَ الزَّيْنِ وَمِنَ الضَّارِّ لَا مِنَ النَّافِعِ، وَيَوَدُّ لِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ، وَمَثَّلَ لِذَلِكَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِحُبِّ الْمُسْلِمِ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِحُبِّ بَعْضِ النَّاسِ لِلدُّخَانِ عَلَى تَأَذِّيهِ مِنْهُ، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْمُحِبَّيْنِ يَوَدُّ لَوِ انْقَلَبَ حُبُّهُ كُرْهًا وَبُغْضًا، وَمَنْ أَحْبَّ شَيْئًا وَلَمْ يُزَيَّنْ لَهُ يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُبِّهِ يَوْمًا، وَأَمَّا مَنْ زُيِّنَ لَهُ حُبُّهُ الشَّيْءَ فَلَا يَكَادُ يَرْجِعُ عَنْهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى الْحُبِّ، وَصَاحِبُهُ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ إِنْ كَانَ قَبِيحًا أَوْ ضَارًّا، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ تَأَذَّى بِهِ. قَالَ الْمَجْنُونُ:
وَقَالُوا لَوْ تَشَاءُ سَلَوْتَ عَنْهَا... فَقُلْتُ لَهُمْ: وَإِنِّي لَا أَشَاءُ
وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [٤٧: ١٤] وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي إِسْنَادِ التَّزْيِينِ فِي هَذَا الْمَقَامِ
فَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّ حُبَّ الشَّهَوَاتِ مَذْمُومٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا فَدَخَلَ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتُ فِي رَأْيِهِمْ ; وَلِأَنَّ حُبَّ كَثْرَةِ الْمَالِ مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ بِحَسَبِ فَهْمِهِمْ لَهُ ; وَلِأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عِنْدَهُمْ ; وَلِأَنَّهُ فَضَّلَ عَلَيْهِ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْثَرُ هَذَا الْإِسْنَادُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَبَاحَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٧: ٣٢] فَجَعَلَ إِبَاحَتَهَا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِنَيْلِهَا فِي الْآخِرَةِ ; وَلِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَسَائِلَ لِلْآخِرَةِ بِتَكْثِيرِ النَّسْلِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ وَالْجِهَادِ، وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَسَّمَ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَحْمُودَةٍ وَمَذْمُومَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ. وَقَالَ: إِنَّ اللهَ زَيَّنَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، وَالشَّيْطَانَ زَيَّنَ الْقِسْمَ الثَّانِي. أَقُولُ: وَغَفَلَ الْجَمِيعُ عَنْ كَوْنِ الْكَلَامِ فِي طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِهِ وَأَفْرَادِ وَقَائِعِهِ. فَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْشَأَ النَّاسَ عَلَى هَذَا وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ،
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُشْتَهَيَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا النَّاسُ وَحُبُّهَا مُزَيَّنٌ لَهُمْ وَلَهُ مَكَانَةٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: (أَوَّلُهَا) النِّسَاءُ وَحُبُّهُنَّ لَا يَعْلُوهُ حُبٌّ لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَهُنَّ مَطْمَحُ النَّظَرِ وَمَوْضِعُ الرَّغْبَةِ وَسَكَنُ النَّفْسِ وَمُنْتَهَى الْأُنْسِ، وَعَلَيْهِنَّ يُنْفَقُ أَكْثَرُ مَا يَكْسِبُ الرِّجَالُ فِي كَدِّهِمْ وَكَدْحِهِمْ، فَكَمِ افْتَقَرَ فِي
حُبِّهِنَّ غَنِيٌّ! وَكَمِ اسْتَغْنَى بِالسَّعْيِ لِلْحُظْوَةِ عِنْدَهُمْ فَقِيرٌ! وَكَمْ ذَلَّ بِعِشْقِهِنَّ عَزِيزٌ! وَكَمُ ارْتَفَعَ فِي طَلَبِ قُرْبِهِنَّ وَضِيعٌ! ! وَلَعَلَّ فِي الْقَارِئِينَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ يَغْنَى الْفَقِيرُ وَيَرْتَفِعُ الْوَضِيعُ بِسَبَبِ حُبِّ النِّسَاءِ - إِذَا كَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفَ يَذِلُّ الْعَاشِقُ وَيَفْتَقِرُ - فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ يُحِبُّ ذَاتَ شَرَفٍ وَرِفْعَةٍ وَيَرَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاقْتِرَانِ بِهَا إِلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَتَسَنُّمِ غَارِبِ الْمَعَالِي يُوَجِّهُ جَمِيعَ قُوَاهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَنَالَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُبَّ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ عَلَى أَنَّ حُبَّهُنَّ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِمْ لَهُنَّ، وَلَكِنَّ الْحُبَّ لَا يُبَرِّحُ بِالنِّسَاءِ تَبْرِيحَهُ بِالرِّجَالِ ; فَالْمَرْأَةُ أَقْدَرُ عَلَى ضَبْطِ حُبِّهَا وَكِتْمَانِهِ وَضَبْطِ نَفْسِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا وَإِنَّكَ لَتَسْمَعُ بِأَخْبَارِ الْمِئِينَ وَالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ افْتَقَرُوا أَوِ احْتُقِرُوا أَوْ جُنُّوا فِي حُبِّ النِّسَاءِ، وَلَا تَجِدُ فِي مُقَابَلَتِهِمْ عَشْرُ نِسْوَةٍ قَدْ مُنِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي حُبِّ الرِّجَالِ. ثُمَّ إِنَّ الرِّجَالَ هُمُ الْقَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ لِقُوَّتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْحِمَايَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِسْرَافُهُمْ فِي الْحُبِّ وَاسْتِهْتَارُهُمْ فِي الْعِشْقِ لَهُ الْأَثَرُ الْعَظِيمُ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفِي إِضَاعَةِ الْحَقِّ أَوْ حِفْظِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُبَّ الْوَلَدِ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ الْمَرْأَةِ فَلِمَاذَا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّسَاءِ؟ أَقُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُبَّ الْوَلَدِ - وَإِنْ كَانَ لَا يَزُولُ وَحُبُّ الْمَرْأَةِ قَدْ يَزُولُ - لَا يَعْظُمُ فِيهِ الْغُلُوُّ وَالْإِسْرَافُ كَحُبِّهَا، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ جَنَى عِشْقُهُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ حَتَّى إِنْ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَزَوَّجُوا بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ، فَعَشِقُوا وَاحِدَةً وَمَلُّوا أُخْرَى قَدْ أَهْمَلُوا تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ الْمَمْلُولَةِ، وَحَرَمُوهُمُ الرِّزْقَ مِنْ حَيْثُ أَفَاضُوا نَصِيبَهُمْ عَلَى أَوْلَادِ الْمَحْبُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِأَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ عَلَى مَنْ يَخَافُ أَلَّا يَعْدِلَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُوقِنُ بِذَلِكَ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ؟ وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ عَزِيزٍ يَعِيشُ أَوْلَادُهُ عِيشَةَ الْفُقَرَاءِ الْأَذِلَّاءِ لِعِشْقِ وَالِدِهِمْ لِغَيْرِ أُمِّهِمْ
أَمَّا السَّبَبُ فِي كَوْنِ حُبِّ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ أَقْوَى مِنْ حُبِّهَا لَهُ فَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ الطَّبِيعِيَّ لِهَذَا الْحُبِّ هُوَ دَاعِيَةُ النَّسْلِ لَا قَصْدُهُ، وَالدَّاعِيَةُ فِي الرَّجُلِ أَقْوَى وَأَشَدُّ ; وَلِذَلِكَ تَرَاهُ يُشْغَلُ بِهَا إِذَا بَلَغَ سِنًّا أَكْثَرَ مِنَ الْمَرْأَةِ عَلَى كَثْرَةِ شَوَاغِلِهِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَطْلُبُ الْمَرْأَةَ وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ وَمَالَهُ فِي سَبِيلِهَا مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُمَوِّنَهَا وَيَصُونَهَا
وَيَتَحَمَّلَ أَثْقَالَهَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا عَلَيْهَا هِيَ إِلَّا الْقَبُولُ، فَإِنْ طَلَبَتْ أَجْمَلَتْ فِي الطَّلَبِ، وَإِنْ شِئْتَ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى أَنَّ دَاعِيَةَ النَّسْلِ فِيهِ أَقْوَى، فَتَأَمَّلْ تَجِدْهُ مُسْتَعِدًّا لَهَا فِي كُلِّ حَالٍ طُولَ عُمْرِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَفْقِدُ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَبَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيْضِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا مِنْ سِنِّ الْخَمْسِينَ إِلَى الْخَامِسَةِ وَالْخَمْسِينَ.
فَإِذَا قَبِلَتِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ بَعْدَ هَذَا كَانَ قَبُولُهَا إِيَّاهُ مِنْ بَابِ التَّوَدُّدِ وَالْعُتْبَى أَوْ إِثَارَةِ الذِّكْرَى، وَلَا يَدْخُلُ فِي السَّبَبِ مَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الرِّجَالِ مِنْ كَوْنِ النِّسَاءِ أَوْفَرَ نَصِيبًا مِنَ الْحُسْنِ وَقِسْمًا مِنَ الْقَسَامَةِ وَالْجَمَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الْمُسَلَّمَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الرِّجَالَ أَكْمَلُ وَأَجْمَلُ خَلْقًا كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ، إِذْ نَرَى أَنَّ خِلْقَةَ الذَّكَرِ مِنْهَا أَجْمَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ خِلْقَةِ الْأُنْثَى، كَمَا نَرَاهُ فِي الشُّيُوخِ وَالْعَجَائِزِ مِنَ النَّاسِ، بَلْ نَرَى الْأَبْيَضَ الْقُوقَاسِيَّ يُفَضِّلُ خِلْقَةَ رِجَالِ الزُّنُوجِ عَلَى نِسَائِهِمْ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَشْتَهِي الزِّنْجِيَّاتِ فِي حَالِ الِاعْتِدَالِ، فَمُعْظَمُ حُسْنِ الْمَرْأَةِ وَجَمَالِهَا إِنَّمَا جَاءَ مِنْ زِيَادَةِ حُبِّ الرَّجُلِ إِيَّاهَا.
فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْفُرُوقَ فِي حُبِّ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ يَسْهُلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِحُبِّ النِّسَاءِ حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فَذَكَرَ أَقْوَى طَرَفَيْهِ لِأَنَّ قَصْدَ التَّمَتُّعِ فِيهِ أَظْهَرُ، وَأَثَرَهُ فِي الصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ أَوْ الِاشْتِغَالِ عَنِ الْآخِرَةِ أَقْوَى، وَطَوَى الطَّرَفَ الثَّانِي، وَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْحُبِّ الْمُزَيَّنِ لِلنَّاسِ وَهُوَ حُبُّ الْوَلَدِ، فَكَأَنَّ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكًا، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ وَلَا فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إِلَّا مَا سَيَأْتِي فِي حُبِّ الْوَلَدِ.
(النَّوْعُ الثَّانِي حُبُّ الْبَنِينَ) أَيِ الْأَوْلَادِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ مَا كَانَ حُبُّهُ أَقْوَى وَالْفِتْنَةُ بِهِ أَعْظَمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ أَوْ لِدَلَالَةِ مَا حُذِفَ فِيمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَدَلَالَتِهِ هُوَ عَلَى مَا حُذِفَ مِمَّا قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِبَاكِ أَوْ شِبْهِ الِاحْتِبَاكِ، وَأَخَّرَ فِي الذِّكْرِ عَنْ حُبِّ النِّسَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِتَأَخُّرِهِ فِي الْوُجُودِ إِذِ الْأَوْلَادُ مِنَ النِّسَاءِ. قُلْنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ لِحُبِّ النِّسَاءِ أَوِ الْأَزْوَاجِ هِيَ دَاعِيَةُ النَّسْلِ، فَهَذِهِ الدَّاعِيَةُ تُحْدِثُ فِي النَّفْسِ انْفِعَالًا يُحَفِّزُ صَاحِبَهُ إِلَى الزَّوَاجِ. وَأَمَّا حُبُّ الْأَوْلَادِ فَيَكَادُ يَكُونُ كَحُبِّ النَّفْسِ لَا عِلَّةَ لَهُ غَيْرَ ذَاتِهِ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ عَاطِفَةَ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْوَلَدِ - مُنْذُ يُولَدُ - هِيَ غَيْرُ عَاطِفَةِ حُبِّهِمَا لَهُ وَهِيَ عِلَّتُهُ، وَلَكِنَّ حِكْمَةَ الْخَالِقِ فِي حُبِّ الزَّوْجِيَّةِ وَحُبِّ
الْوَلَدِ وَاحِدَةٌ،
أَمَّا كَوْنُ حُبِّ الْبَنِينَ أَقْوَى وَالتَّمَتُّعِ بِهِ أَعْظَمَ فَلَهُ أَسْبَابٌ:
(مِنْهَا) : الْأَمَلُ فِي نُصْرَةِ الذَّكَرِ وَكَفَالَتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَقَدْ قُلْنَا آنِفًا: إِنَّ الْحُبَّ أَنْوَاعٌ يُغَذِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
(وَمِنْهَا) : كَوْنُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَمُودُ النَّسَبِ الَّذِي تَتَّصِلُ بِهِ سِلْسِلَةُ النَّسْلِ، وَيَبْقَى بِهِ مَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ.
(وَمِنْهَا) : أَنَّهُ يُرْجَى بِهِ مِنَ الشَّرَفِ مَا لَا يُرْجَى مِنَ الْأُنْثَى، كَقِيَادَةِ الْجَيْشِ وَزَعَامَةِ الْقَوْمِ وَالنُّبُوغِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ.
(وَمِنْهَا) : مَا مَضَى بِهِ الْعُرْفُ مِنَ اعْتِبَارِ نَقْصِ الْأُنْثَى وَخُرُوجِهَا عَنِ الصِّيَانَةِ مُجْلِبَةً لِأَكْبَرِ الْعَارِ، وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ أَوْ تَصَوُّرُ احْتِمَالِهِ يُذْهِبُ بِشَيْءٍ مِنْ غَضَاضَةِ الْحُبِّ فَيَلْحَقُهُ الذُّبُولُ أَوِ الذُّوِيُّ.
(وَمِنْهَا) : الشُّعُورُ بِأَنَّ الْأُنْثَى إِنَّمَا تُرَبَّى لِتَنْفَصِلَ مِنْ بَيْتِهَا وَعَشِيرَتِهَا وَتَتَّصِلَ بِبَيْتٍ آخَرَ تَكُونُ عُضْوًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَمَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا وَمَا تُعْطَاهُ يُشْبِهُ الْغُرْمَ وَخِدْمَةَ الْغُرَبَاءِ، فَمَنْ تَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ الْوُجُودِيَّةَ - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا طَبِيعِيَّةً - ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ، وَوَجْهُ كَمَالِ التَّمَتُّعِ بِهِمْ وَكَوْنُهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَدْ يَغْتَرُّ بِهِمُ الْوَالِدُ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ بِهِمْ أَوْ يَشْتَغِلَ بِهِمْ وَبِالْجَمْعِ لَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَيَنْسَى الْآخِرَةَ ; عَلَى أَنَّ حُبَّ الْوَالِدِيَّةِ الْخَالِصِ لِلْبَنَاتِ قَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا أَوْ أَقْوَى مِنْ حُبِّ الْبَنِينَ، وَلَكِنْ مَا يُغَذِّيهِ وَيُقَوِّيهِ أَقَلُّ فَهُوَ مَثَارٌ لِلْفِتْنَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [٦٤: ١٥]، فَذَكَرَ الْأَوْلَادَ عَامَّةً وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ لَيْسَ لِلْحَصْرِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِمَحَبَّةِ الْوَلَدِ طَوْرَانِ: طَوْرُ الصِّغَرِ وَهُوَ حُبٌّ ذَاتِيٌّ لَهُمْ لَا
عِلَّةَ لَهُ وَلَا فِكْرَ فِيهِ وَلَا عَقْلَ وَلَا رَأْيَ، بَلْ هُوَ جُنُونٌ فِطْرِيٌّ وَرَحْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْهِرَّةِ، وَالطَّوْرُ الثَّانِي حُبٌّ مَعْلُولٌ مَعَهُ فِكْرٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَهُوَ حُبُّ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ بِالْوَلَدِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِالْبَنِينَ، وَإِنَّمَا الْحُبُّ عَلَى قَدْرِ الْأَمَلِ، فَإِذَا خَابَ يَضْعُفُ الْحُبُّ وَيَرِثُّ، وَرُبَّمَا انْقَلَبَ إِلَى عَدَاوَةٍ تَسْتَتْبِعُ التَّقَاضِيَ وَطَلَبَ الْعِقَابِ أَوِ الْغَرَامَةِ
(النَّوْعُ الثَّالِثُ - الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : أَيْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَهُوَ مِمَّا أُودِعَ فِي الْغَرَائِزِ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْمَالَ وَسِيلَةٌ إِلَى الرَّغَائِبِ وَمُوَصِّلٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَائِذِ، وَرَغَائِبُ الْإِنْسَانِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَأَفْرَادُ لَذَائِذِهِ غَيْرُ مَعْدُودَةٍ، فَهُوَ لِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي لَا مُنْتَهَى لَهُ يَطْلُبُ الْوَسَائِلَ إِلَى رَغَائِبَ لَا مُنْتَهَى لَهَا، وَهَذِهِ الرَّغَائِبُ يَتَوَلَّدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ | وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ |
وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْكَثْرَةَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَظِنَّةَ الِافْتِتَانِ لِأَنَّهَا تُشْغِلُ بِالتَّمَتُّعِ بِهَا الْقَلْبَ، وَتَسْتَغْرِقُ فِي تَدْبِيرِهَا الْوَقْتَ، حَتَّى لَا يَكَادُ يَبْقَى فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَنْفَذٌ لِلشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْأُخْرَى، وَمَا بَعَثَ اللهُ رَسُولًا فِي أُمَّةٍ وَلَا مُصْلِحًا فِي قَوْمٍ إِلَّا وَكَانَ الْأَغْنِيَاءُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ وَعَانَدَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَإِنَّ مُؤْمِنِي الْأَغْنِيَاءِ أَقَلُّهُمْ عَمَلًا وَأَكْثَرُهُمْ زَلَلًا. قَالَ - تَعَالَى -: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [٤٨: ١١]. وَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [٨: ٢٨]. فَقَدَّمَ الْفِتْنَةَ بِالْأَمْوَالِ عَلَى الْفِتْنَةِ بِالْأَهْلِينَ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَ الْأَمْوَالِ هُنَا عَنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ;
لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي طَبِيعَةِ الْحُبِّ لَا فِي الِاشْتِغَالِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ خَاصٌّ، وَحُبُّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ مَقْصِدٌ، وَحُبُّ الْمَالِ وَسِيلَةٌ لَا يَجْعَلُهُ مَقْصِدًا إِلَّا مَنْ أَعْمَتْهُ الْفِتْنَةُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَخُوضَ فِي شَرْحِ فِتْنَةِ النَّاسِ بِالْمَالِ وَكَيْفَ تَشْغَلُهُمْ عَنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ وَحُقُوقِ مَنْ يُعَامِلُهُمْ، بَلْ وَعَنْ حُقُوقِ بُيُوتِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، بَلْ وَعَنْ حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُثْلِمُونَ شَرَفَهُمْ أَوْ يُقَصِّرُونَ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِمْ لَأَطَلْنَا وَخَرَجْنَا عَنْ حَدِّ الْوُقُوفِ عِنْدَ بَيَانِ كَوْنِ الْمَالِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمِقْدَارِ مَا نَفْهَمُ الْعِبْرَةَ مِنَ الْآيِ، وَنَكُونُ قَدْ جَعَلْنَا الْكَلَامَ فِي الْمَالِ مَقْصِدًا كَمَا جَعَلَهُ الْأَشِحَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مَقْصِدًا، أَمَّا لَفْظُ " الْقِنْطَارِ " فَمَعْنَاهُ الْعُقْدَةُ الْمُحْكَمَةُ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ التُّجَّارُ الْآنَ بِالصَّرِّ أَوِ الصُّرَّةِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ عِنْدِي وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَمِنْهَا أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ وَزْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا
(النَّوْعُ الرَّابِعُ الْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ) : ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَيْلَ الْمُسَوَّمَةَ هِيَ الرَّاعِيَةُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ أَوِ الْمُعَلَّمَةُ بِالْأَلْوَانِ وَالشِّيَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرْسَلَةُ عَلَى الْقَوْمِ. فَالْأَوَّلُ مِنْ مَادَّةِ السَّوْمِ،
يُقَالُ: سَامَ الدَّابَّةَ: رَعَاهَا، وَأَسَامَهَا: أَرْعَاهَا وَأَخْرَجَهَا إِلَى الْمَرَاعِي. وَمِثْلُهَا سَوَّمَهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [١٦: ١٠] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ سَوَّمَ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِهِمْ. وَرَجَّحَ أَنَّ الْمُسَوَّمَةَ بِمَعْنَى الْمُعَلَّمَةِ. وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِسُمْرٍ كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ | عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ |
(النَّوْعُ الْخَامِسُ الْأَنْعَامُ) : وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرَةُ، عِرَابُهَا وَجَوَامِيسُهَا وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَعْزُهَا وَالْأَنْعَامُ مَالُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِهَا ثَرْوَتُهُمْ، وَفِيهَا تَكَاثُرُهُمْ وَتَفَاخُرُهُمْ، وَمِنْهَا مَعَايِشُهُمْ وَمَرَافِقُهُمْ، وَلَعَلَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ ذِكْرِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ يَكُونُ أَوْغَلَ فِي التَّمَتُّعِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَتَاعِ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ وَمَا كُلُّ ذِي أَنْعَامٍ يَقْدِرُ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَيُضَاهِيهِ فِي التَّمَتُّعِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَنْعَامَ أَكْثَرُ نَفْعًا، قَالَ - تَعَالَى - فِي السُّورَةِ الَّتِي يُعَدِّدُ بِهَا النِّعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [١٦: ٥ - ٨].
وَالْحَيَوَانُ ; وَهُوَ لِذَلِكَ لَا فِتْنَةَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَقَلَّمَا يُفَكِّرُ الْإِنْسَانُ بِغِبْطَتِهِ بِهِ أَوْ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ السِّتَّةِ هُوَ مَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا - أَيِ الْأُولَى - وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَرْجِعِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي هَذَا الْمَتَاعِ الْقَرِيبِ الْعَاجِلِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي الْآجِلِ، كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ.
فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا شَرَحْتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ بَيَانٌ لِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ النَّاسَ مِنْ حُبِّهَا وَزَيَّنَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا لَا لِبَيَانِ قُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا فَطَرَ النَّاسَ عَلَى شَيْءٍ قَبِيحٍ بَلْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلَا جَعَلَ دِينَهُ مُخَالِفًا لِفِطْرَتِهِ بَلْ مُوَافِقًا لَهَا كَمَا قَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [٣٠: ٣٠] وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مَذْمُومًا، وَهُوَ وَسِيلَةُ إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ - تَعَالَى - فِي بَقَاءِ النَّوْعِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [٣٠: ٢١] وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُنَّ، وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ الْمَالِ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ جَعَلَ بَذْلَ الْمَالِ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَهُوَ - تَعَالَى - يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ فِي إِنْفَاقِهِ كَمَا يَنْهَى عَنِ الْبُخْلِ بِهِ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَى نَبِيِّهِ بِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَائِلًا أَيْ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ، وَجَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْأُمَمِ وَمُعَزِّزًا لِلدِّينِ وَوَسِيلَةً لِإِقَامَةِ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا أَرَانِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الْكَلَامِ فِي حُبِّ الْبَنِينَ وَالْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ; فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا لِلْغَالِينَ فِي الزُّهْدِ أَضْعَفُ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي أَلَّا يُفْتَنَ بِهَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَيَجْعَلَهَا
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
(الْقِرَاءَاتُ) لِلْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَمْزَتَيْ (أَؤُنَبِّئُكُمْ) أَيْ مَا كَانَتْ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةً وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةً أَرْبَعُ لُغَاتٍ، قُرِئَ بِهَا الْقُرْآنُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ هُنَا.
وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَأُنْزِلَ) فِي سُورَةِ " ص " وَقَوْلِهِ: (أَأُلْقِيَ) فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهَا.
(إِحْدَاهَا) : تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ الْقُرَّاءُ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَهِشَامٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ.
(الثَّانِيَةُ) : تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ مَعَ الْمَدِّ بَيْنَهُمَا وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ هِشَامٍ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ.
(الثَّالِثَةُ) : تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْمَدِّ بَيْنَهُمَا، وَالتَّسْهِيلُ قِرَاءَةُ الْهَمْزَةِ بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ حَرْفِ حَرَكَتِهَا، وَهُوَ أَنْ تُجْعَلَ هُنَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَيُعَبِّرُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمَدِّ بِإِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهِيَ قِرَاءَةُ قَالُونَ.
(الرَّابِعَةُ) : تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ وَرْشٍ وَابْنِ كَثِيرٍ.
وَهُنَاكَ قِرَاءَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ لُغَتَيْنِ، وَهِيَ الْمَدُّ وَعَدَمُهُ مَعَ التَّسْهِيلِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَعَنْ هِشَامٍ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا هُنَا وَمَا فِي " الْقَمَرِ " وَ " ص " وَهُوَ أَنَّهُ الْمَدُّ هُنَا مَعَ التَّحْقِيقِ، وَالْقَصْرُ هُنَاكَ مَعَهُ. وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَرِضْوَانٌ) لُغَتَانِ ضَمُّ الرَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فِيمَا عَدَا قَوْلَهُ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ الْآيَةَ. بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ وَبَدَأَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَجْلِ تَوْجِيهِ النُّفُوسِ إِلَى الْجَوَابِ وَتَشْوِيقِهَا إِلَيْهِ، وَالتَّنْبِئَةُ بِالشَّيْءِ: التَّخْبِيرُ بِهِ كَالْإِنْبَاءِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، وَقَالَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: " النَّبَأُ وَالْإِنْبَاءُ لَمْ يَرِدَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِمَا لَهُ وَقْعٌ وَشَأْنٌ عَظِيمٌ " وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْبِيرُ
بِمَادَّةِ النَّبَأِ تَشْوِيقًا آخَرَ. وَقَوْلُهُ: (لَكُمْ) إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكَوْنُ مَا سَيَأْتِي فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ خَيْرًا مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ يُشْعِرُ بِأَنَّ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا أَوْ لَيْسَتْ بِشَرٍّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا خَيْرٌ وَمِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَعْرِضُ الشَّرُّ فِيهَا كَمَا يَعْرِضُ فِي سَائِرِ نِعَمِهِ - تَعَالَى - عَلَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَحَوَاسِّهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَفِي غَيْرِهَا حَتَّى فِي الشَّرِيعَةِ. فَالَّذِي يُسْرِفُ فِي حُبِّ النِّسَاءِ حَتَّى يُعْطِيَ امْرَأَةً أَوْ وَلَدَهَا حَقَّ غَيْرِهِمَا أَوْ يُهْمِلَ لِأَجْلِهَا تَرْبِيَةَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا أَوْ يَتْرُكَ حَقَّ اللهِ وَطَاعَتَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهَا أَوْ يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُحِبَّ امْرَأَةَ غَيْرِهِ، هُوَ كَمَنْ يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ لِهَضْمِ حُقُوقِ النَّاسِ وَإِيذَائِهِمْ، أَوْ يَحْتَالُ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَيُئَوِّلُهَا حَتَّى يُفَوِّتَ الْغَرَضَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَتُتْرَكَ الْفَرَائِضُ وَتُهْدَمَ الْأَرْكَانُ، فَسُوءُ سُلُوكِ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالنِّعَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّعَمَ شَرٌّ فِي ذَاتِهَا وَلَا كَوْنِ حُبِّهَا شَرًّا مَعَ الْقَصْدِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَالْفِطْرَةِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ جَعَلَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى التَّقْوَى نَوْعَيْنِ: نَوْعًا جُسْمَانِيًّا نَفْسِيًّا وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَاتِ مِمَّا يُعْهَدُ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَنَوْعًا رُوحَانِيًّا عَقْلِيًّا وَهُوَ رِضْوَانُ اللهِ - تَعَالَى - وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّقْوَى وَالْجَنَّاتِ وَالْأَزْوَاجِ الْمُطَهَّرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَلَا يَخْفَى مَا فِي إِضَافَةِ لَفْظِ " رَبِّ " إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْإِشْعَارِ بِفَضْلِهِمْ وَعِنَايَةِ مَنْ رَبَّاهُمْ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ بِشَأْنِهِمْ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرِّضَا مَعَ مَا فِي زِيَادَةِ الْمَبْنَى مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَرِضْوَانٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لَا يَشُوبُهُ وَلَا يَعْقُبُهُ سُخْطٌ، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٩: ٧٢] وَفِي هَذَا مِنْ تَفْضِيلِ الرِّضْوَانِ عَلَى نَعِيمِ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا مَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [٥٧: ٢٠] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْجَزُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا عَلَى أَنَّهَا فِي مَوْضُوعِهَا، وَفِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ بَيَانُ جَزَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَالْمُعْتَدِينَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَشْغَلُهُمْ عَنْ حُقُوقِ اللهِ وَتَحْمِلُهُمْ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِ خَلْقِهِ، وَجَزَاءِ الْمُقْتَصِدِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ فِي تَمَتُّعِهِمْ وَلَا يَنْسَوْنَ اللهَ وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَعَلَّنَا إِذَا أَمْهَلَ الزَّمَانُ وَبَلَغْنَا سُورَةَ الْحَدِيدِ نُبَيِّنُ مَا فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الرِّضْوَانِ فِي الْآيَةِ: وَأَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّاتِ كُلِّهَا رِضْوَانُ اللهِ - تَعَالَى -، وَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ طَبَقَاتٌ وَمَرَاتِبُ كَمَا نَرَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى رِضْوَانِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَا يَكُونُ بَاعِثًا لَهُ عَلَى تَرْكِ الشَّرِّ وَلَا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَكَانَتْ أَحْسَنَ الْأَشْيَاءِ مَوْقِعًا مِنْ نُفُوسِهِمْ فَهُمْ فِيهَا يَرْغَبُونَ وَلِأَجْلِهَا يَعْمَلُونَ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ الْمُتَّقِينَ يَعْرِفُونَ فِي الْآخِرَةِ هَذِهِ اللَّذَّةَ الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ لَهَا مَعْنًى فِي الدُّنْيَا.
وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ -: خَتَمَ الْآيَةَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى التَّقْوَى فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ يَكُونُ مُتَّقِيًا، وَإِنَّمَا الْمُتَّقِي عِنْدَ اللهِ هُوَ مَنْ يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ التَّقْوَى، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَإِيقَاظٌ لِمُحَاسَبَةِ نُفُوسِهِمْ عَلَى التَّقْوَى لِئَلَّا يَغُشَّهُمُ الْعُجْبُ بِأَنْفُسِهِمْ فَيَحْسَبُوهَا مُتَّقِيَةً وَمَا هِيَ بِمُتَّقِيَةٍ.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَصَفَ أَهْلَ التَّقْوَى بِشَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِتَأَثُّرِ قُلُوبِهِمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ تَفِيضُ أَلْسِنَتُهُمْ بِالِاعْتِرَافِ بِهَذَا الْإِيمَانِ فِي مَقَامِ الِابْتِهَالِ وَالدُّعَاءِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَلَامَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَلَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَعَدَمِ الِالْتِبَاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْوَصْفَ فِي الْمَعْنَى لَا فِي عُرْفِ النُّحَاةِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْكَلَامَ مَدْحٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ الْحُسْنُ؟ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ... إِلَخْ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ إِنَّهُمْ رَتَّبُوا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَقُولُ: قَدْ يَصِحُّ هَذَا إِذَا أُرِيدَ مَغْفِرَةُ الشِّرْكِ السَّابِقِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْوِقَايَةِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ كَمَا وَرَدَ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا بَلْ
بِطَبِيعَةِ الْبَشَرِ، وَالْإِجْمَاعُ وَالسَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَحُجِبُوا عَنْهُ بِالْتِمَاسِ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَذَاهِبَهُمْ وَيُفَنِّدُونَ بِهِ مَا خَالَفَهَا، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ مِنْ قَبْلُ، وَلَا نَزَالُ نُبْدِئُ الْقَوْلَ فِيهَا وَنُعِيدُهُ لَعَلَّ التَّكْرَارَ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يُؤَثِّرُ فِي صَخْرَةِ التَّقْلِيدِ الصَّمَّاءِ فَيُفَتِّتُهَا أَوْ يَنْسِفُهَا نَسْفًا فَيَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى إِيمَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَصَفْوَةُ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ كَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَشْرِقِ، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي الْوَسَطِ، وَالْعَلَّامَةِ الشَّاطِبِيِّ صَاحِبِ الْمُوَافَقَاتِ فِي الْمَغْرِبِ - كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَحَسْبُكَ بِالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ الدَّرَجَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ وَصْفٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الْوَصْفُ بِالْمَعْنَى (وَالصَّابِرِينَ) مَنْصُوبٌ
تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الصَّبْرِ وَكَيْفِيَّةِ اكْتِسَابِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّبْرِ تَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَيَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ احْتِمَالُهُ، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِهِ الصَّبْرُ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. فَعِنْدَمَا تَهُبُّ زَوَابِعُ الشَّهَوَاتِ فَتُزَلْزِلُ الِاعْتِقَادَ بِقُبْحِ الْمَعَاصِي وَسُوءِ عَاقِبَتِهَا يَكُونُ الصَّبْرُ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُ الْإِيمَانَ وَيَقِفُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ ;
لِذَلِكَ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ بِالْأَمْرِ بِالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالصَّبْرِ. وَكَمَا يَحْفَظُ النَّفْسَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ يَحْفَظُ شَرَفَ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَيَحْفَظُ حُقُوقَ النَّاسِ أَنْ تَغْتَالَهَا أَيْدِي الْمَطَامِعِ. وَكُتِبَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَصْرِ: " الصَّبْرُ مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ يَتَيَسَّرُ مَعَهَا احْتِمَالُ مَا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ وَالرِّضَا بِمَا يُكْرَهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَهُوَ خُلُقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَالُ كُلِّ خُلُقٍ، وَمَا أُتِيَ النَّاسُ مِنْ شَيْءٍ مِثْلَ مَا أُتُوا مِنْ فَقْدِ الصَّبْرِ أَوْ ضَعْفِهِ، كُلُّ أُمَّةٍ ضَعُفَ الصَّبْرُ فِي نُفُوسِ أَفْرَادِهَا ضَعُفَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ وَذَهَبَتْ مِنْهَا كُلُّ قُوَّةٍ ": وَأَتَى بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ إِذْ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ الصِّدْقُ وَالْقُنُوتُ وَالْإِنْفَاقُ وَالِاسْتِغْفَارُ فِي الْأَسْحَارِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَطِيبُ فِيهِ النَّوْمُ وَيَشُقُّ الْقِيَامُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالصِّدْقُ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْوَصْفِ، يُقَالُ: فُلَانٌ صَادِقٌ فِي عَمَلِهِ، صَادِقٌ فِي جِهَادِهِ، صَادِقٌ فِي حُبِّهِ، كَمَا يُقَالُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ. أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالنِّيَّةُ. وَالصِّدْقُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَحَسْبُكَ فِي بَيَانِ فَضْلِ الصِّدْقِ وَجَزَائِهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [٣٩: ٣٣ - ٣٥] فَقَدْ جَعَلَ الصِّدْقَ مِلَاكَ الدِّينِ كُلِّهِ وَجَاءَ مَعَ حَقِيقَتِهِ، وَجَعَلَ أَسْوَأَ الذُّنُوبِ مَعَهُ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُكَفَّرَ وَيُغْفَرَ، وَأَيُّ ذَنْبٍ يُدَنِّسُ
وَلَا يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ الْمُسْتَغْفِرِينَ هُنَا بِالْمُصَلِّينَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّهَجُّدِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَطْلُبُونَ بِتَهَجُّدِهِمْ مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْفِعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ حَرَكَةِ اللِّسَانِ، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ الطَّلَبُ بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مِنْ شُرُوطِهِ حُضُورَ الْقَلْبِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ أَنَّ اسْتِغْفَارَ اللِّسَانِ وَحْدَهُ نَافِعٌ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ الْمُسْتَغْفِرَ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي يَغَتَرَّ بِهِ الْجَهَلَةُ الْأَغْرَارُ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الِاسْتِغْفَارِ هُنَا بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ السَّحَرِ وَبِصَلَاةِ الصُّبْحِ ; أَيْ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَقَيَّدَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِ وَقْتِ السَّحَرِ: أَنَّ الْعِبَادَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَشَقَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَايَةِ ; لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَطِيبُ فِيهِ النَّوْمُ وَيَعْزُبُ الرِّيَاءُ، وَأَرْوَحُ لِأَهْلِ النِّهَايَةِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ تَكُونُ أَصْفَى وَالْقَلْبَ أَفْرَغُ مِنَ الشَّوَاغِلِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ النُّكْتَةُ فِي نَسَقِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ بِالْعَطْفِ مَعَ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَعْدُودَةَ تُسْرَدُ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ. ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ الْعَطْفَ يُفِيدُ كَمَالَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّنَا لَا نَعْهَدُ مِنْ مَعَانِي الْوَاوِ الْكَمَالَ فِي مَعْطُوفَاتِهَا، وَمَنْ عِنْدَهُ ذَوْقٌ فِي اللِّسَانِ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ فَرْقًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً مِنْهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّقَيْتُهُ | وَلَكِنَّهُ رُمْحٌ وَثَانٍ وَثَالِثُ |
وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ - أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ دَخَلَ تَحْتَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَاسْتَوْجَبَ هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ " وَعِبَارَتُهُ لَا تُفِيدُ اعْتِبَارَ كَمَالِ كُلِّ صِنْفٍ فِي وَصْفِهِ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُفْرَدَةَ يَمْتَنِعُ عَطْفُهَا فِي مَقَامِ سَرْدِهَا مُطْلَقًا ; لِأَنَّهَا عِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ بِمَثَابَةِ الْأَعْدَادِ الَّتِي تُسْرَدُ: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ إِلَخْ. وَلَكِنَّهَا إِذَا لَمْ يَرِدْ سَرْدُهَا كَأَنْ ذُكِرَتْ لِلْحُكْمِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ أَنْ تَجْمَعَ بِالْعَطْفِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ [٩: ١١٢] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ [٦٦: ٥] إِلَخْ. فَإِنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ سُرِدَتْ لِلتَّعْرِيفِ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَمِثَالُ الثَّانِي: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْمَوْصُوفِينَ ابْتِدَاءً، وَيَتَعَيَّنُ إِذَنْ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَمِثْلُهَا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [٩: ٦٠] إِلَخْ. فَإِنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ عَلَى مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ابْتِدَاءً. وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا قَبْلَهُ: أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ نُعُوتًا (نَحْوِيَّةً) لِلَّذِينَ اتَّقَوْا.
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
بُدَّ مِنْ إِقْنَاعِهِ بِوُجُودِ اللهِ إِقْنَاعُهُ بِشَهَادَتِهِ، بَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُودِ اللهِ، وَإِنَّمَا شِرْكُهُ بِاتِّخَاذِ الْوُسَطَاءِ يَكُونُونَ بِزَعْمِهِ وَسَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ يُقَرِّبُونَهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَبِالشُّفَعَاءِ يَكُونُونَ فِي وَهْمِهِ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَاجَاتِهِ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا كَانَتْ تَدِينُ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَائِمًا بِالْقِسْطِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ - تَعَالَى - شَهِدَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَفِي الْكَوْنِ وَالطَّبِيعَةِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: تَقْرِيرُ الْعَدْلِ فِي الِاعْتِقَادِ، كَالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ، وَمِنَ الثَّانِي: جَعْلُ سُنَنِ الْخَلِيقَةِ فِي الْأَكْوَانِ وَالْإِنْسَانِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَةِ الِاعْتِقَادِ قَائِمَةً عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ السُّنَنِ وَنِظَامِهَا الدَّقِيقِ يَتَجَلَّى لَهُ عَدْلُ اللهِ الْعَامِّ، فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ إِلَى الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ شَهَادَتِهِ - تَعَالَى - فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; لِأَنَّ وَحْدَةَ النِّظَامِ فِي هَذَا الْعَدْلِ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ وَاضِعِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُفَنِّدُ تَفْسِيرَ بَعْضِهِمْ لِلشَّهَادَةِ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، كَذَلِكَ كَانَتْ أَحْكَامُهُ - تَعَالَى - فِي الْعِبَادَاتِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ مَبْيِنَّةً عَلَى أَسَاسِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْقُوَى الرُّوحِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَبَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ لِتَرْقِيَةِ الرُّوحِ وَتَزْكِيَتِهِ، وَأَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةَ لِحِفْظِ الْبَدَنِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَنَهَى عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْإِسْرَافِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ عَيْنُ الْعَدْلِ، فَهَذَا هُوَ الْقِسْطُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْطُ فِي الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْقُرْآنِ كَصَرَاحَةِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ. قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [١٦: ٩٠] وَقَالَ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [٤: ٥٨].
وَإِذْ قَدْ تَجَلَّى لَكَ صِدْقُ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْكَ أَنْ تُقِرَّ بِهَا قَائِلًا: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَفَرَّدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَكَمَالِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ عَلَى مَا قَامَ بِهِ مِنْ سُنَنِ الْقِسْطِ وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ (إِنَّ) بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَقَرَأَهَا الْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، أَيْ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ هُوَ الْإِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى (أَنَّهُ) أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ.
أَقُولُ: الدِّينُ فِي اللُّغَةِ: الْجَزَاءُ وَالطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ، أَيْ سَبَبُ الْجَزَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا الْعِبَادُ لِلَّهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ وَالشَّرْعِ. وَقَالُوا: إِنَّ مَا يُكَلِّفُ اللهُ بِهِ الْعِبَادَ يُسَمَّى شَرْعًا بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ وَبَيَانِهِ، وَيُسَمَّى دِينًا بِاعْتِبَارِ الْخُضُوعِ وَطَاعَةِ الشَّارِعِ بِهِ، وَيُسَمَّى مِلَّةً بِاعْتِبَارِ جُمْلَةِ التَّكَالِيفِ، وَالْإِسْلَامُ مَصْدَرُ أَسْلَمَ وَهُوَ بَيَانٌ يَأْتِي بِمَعْنَى خَضَعَ وَاسْتَسْلَمَ، وَبِمَعْنَى أَدَّى، يُقَالُ أَسْلَمْتُ الشَّيْءَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَدَّيْتُهُ إِلَيْهِ، وَبِمَعْنَى دَخَلَ
(أَحَدُهُمَا) : تَصْفِيَةُ الْأَرْوَاحِ وَتَخْلِيصُ الْعُقُولِ مِنْ شَوَائِبَ الِاعْتِقَادِ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ ; لِتَسْلَمَ مِنَ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِمَنْ هُوَ مِنْ
أَمْثَالِهَا، أَوْ لِمَا دُونَهَا فِي اسْتِعْدَادِهَا وَكَمَالِهَا.
(وَثَانِيهِمَا) : إِصْلَاحُ الْقُلُوبِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ، فَمَتَى حَصَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ انْطَلَقَتِ الْفِطْرَةُ مِنْ قُيُودِهَا الْعَائِقَةِ لَهَا عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهَا فِي أَفْرَادِهَا وَجَمْعِيَّاتِهَا، وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ هُمَا رُوحُ الْمُرَادِ مِنْ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا أَعْمَالُ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا شُرِعَتْ لِتَرْبِيَةِ هَذَا الرُّوحِ الْأَمْرِيِّ فِي الرُّوحِ الْخَلْقِيِّ ; وَلِذَلِكَ شَرَطَ فِيهَا النِّيَّةَ وَالْإِخْلَاصَ وَمَتَى تَرَبَّى سَهُلَ عَلَى صَاحِبِهِ الْقِيَامُ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَتَحْقِيقُ أُمْنِيَةِ الْحُكَمَاءِ.
آهٍ مَا أَشَدَّ غَفْلَةَ النَّاسِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ؟ ! أَيُّ سَعَادَةٍ لِلنَّاسِ تَعْلُو عِرْفَانَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ مَا أُوتِيَهُ مَنْ يُوصَفُونَ بِالْوِلَايَةِ وَالْقَدَاسَةِ وَيُدْلُونَ بِالزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْبِدُ بِهَا النَّاسَ اسْتِعْبَادًا رُوحَانِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْبِدُهُمْ بِهَا اسْتِعْبَادًا سِيَاسِيًّا، وَإِخْلَاصُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ فِي عَمَلِهِ الدِّينِيِّ وَعَمَلِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلنَّاسِ، هَذِهِ السَّعَادَةُ هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَحَقِيقَتُهُ حَجَبَتْهَا عَنْ بَعْضِهِمُ الرُّسُومُ الْعِلْمِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْمَذْهَبِيَّةُ، وَعَنْ آخَرِينَ النَّزَعَاتُ النَّظَرِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْوَضْعِيَّةُ، فَالْأَوَّلُونَ يَرْمُونَ بِالْكَفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَذَاهِبَهُمْ، وَالْآخَرُونَ يَنْبِذُونَ بِالْغَبَاوَةِ وَالتَّعَصُّبِ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْذِبْ مَشْرَبَهُمْ، فَمَتَى يَكْثُرُ الْمُسْلِمُونَ
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [٢: ٢١٣] فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالتَّارِيخِ وَخَاصَّةً نَشْأَةَ الْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَفُشُوِّ الْبِدَعِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُ كُنْهَ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا بَغْيُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَنَصْرُ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ لَمَا تَعَصَّبَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ يُشْتَقُّ مِنَ الدِّينِ شِيعَةٌ تَنْصُرُهُ وَتُؤَيِّدُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَتُقَاوِمُ كُلَّ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَتُضِلُّهُمْ مُتَوَكِّئَةً عَلَى عِلْمِ الدِّينِ، وَمُسْتَنِدَةً إِلَى نُصُوصِهِ بِتَفْسِيرِ بَعْضِهَا بِالرَّأْيِ وَالْهَوَى، وَتَأْوِيلِ بَعْضِهَا وَتَحْرِيفِهِ، أَوْ يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ الْمُنْتَحَلَ.
وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَلَّا يَنْظِمَ الْآيَةَ فِي سِمْطِ أَخْبَارِ التَّارِيخِ، وَلَا فِي سِلْكِ عِلْمِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، أَوْ عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجَدَلِ، بَلْ يَتْلُوهَا مُتَذَكِّرًا أَنَّهَا مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا هِدَايَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ ; لِيَتَّقُوا الْخِلَافَ فِي الدِّينِ وَالتَّفَرُّقَ فِيهِ إِلَى شِيَعٍ وَمَذَاهِبَ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ. نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ نَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا، وَأَنَّ أَسَاسَهُ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ، وَأَنَّ الرُّؤَسَاءَ الرُّوحِيِّينَ وَغَيْرَ الرُّوحِيِّينَ لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأَحْبَارُ الرُّومَانِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ بِتَفَرُّقِهِمْ جَعَلُوا ذَلِكَ الدِّينَ الْإِلَهِيَّ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَهْلَهُ شِيَعًا يَفْتِكُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَوْلَا بَغْيُهُمْ لَمَا تَمَزَّقَ شَمْلَ آرْيُوسَ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ بَعْدَ فُشُوِّ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ، إِذْ حَكَمَ الْمَجْمَعُ الَّذِي أَلَّفَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ سَنَةَ ٣٢٥ م بِمُقَاوَمَةِ آرْيُوسَ وَإِحْرَاقِ كُتُبِهِ وَتَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا، وَلَمَّا انْتَشَرَ تَعْلِيمُهُ مِنْ بَعْدِهِ قَضَى تُيُو دُو سْيُوسَ الثَّانِي بِاسْتِئْصَالِ مَذْهَبِهِ وَإِبَادَةِ الْآرْيُوسِيَّةِ بِقَانُونٍ رُومَانِيٍّ صَدَرَ فِي سَنَةِ ٦٢٨م، وَبَقِيَتْ مَذَاهِبُ التَّثْلِيثِ يُكَافِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا، [نَحْنُ] نَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَلَّا نَنْسَى أَنْفُسَنَا وَلَا يَغِيبُ عَنَّا مَا أَصَبْنَا بِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ عَسَى أَنْ يَسْعَى أَهْلُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْغَيْرَةِ فِي نَبْذِ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَالْعَوْدِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا كُنَّا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ.
أَمَّا هَذَا الْكُفْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْإِذْعَانِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالِامْتِثَالِ لَهَا، وَمِنْ لَوَازِمِهِ تَأْوِيلُهَا بِمَا يَصْرِفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا لِتُوَافِقَ مَذَاهِبَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو الْيَهُودَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَى تَرْكِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي دِينِهِمْ وَمَا اعْتَادُوهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ كَمَا نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَ مَجِيءِ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ. فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَإِنْ حَاجُّوكَ) يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ أَوْ عَامًّا، أَيْ فَإِنْ جَادَلُوكَ بَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ، وَأَقَمْتَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتِ وَالْبَرَاهِينَ، وَدَمَغْتَ الْبَاطِلَ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أَيْ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِعِبَادَتِي مُخْلِصًا لَهُ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَنْ يَقْصِدُ إِلَى الْحِجَاجِ بَعْدَ تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَتَفْنِيدِ الْبَاطِلِ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى الْمُجَادَلَةِ وَالْمُشَاغَبَةِ لِمَحْضِ الْعِنَادِ وَالْمُشَاكَسَةِ وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُبْطِلِينَ، وَأَمَّا طَالِبُ الْحَقِّ فَإِنَّهُ يَبْخَلُ بِالْوَقْتِ أَنْ يَضِيعَ سُدًى وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَيْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَى الْأُمِّ لِجَهْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ - وَالْبِعْثَةُ عَامَّةٌ - لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمُ الرَّسُولُ بِالدَّعْوَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَأَسْلَمْتُمْ كَمَا أَسْلَمْتُ لَمَّا وَضَحَتْ لَكُمُ الْحُجَّةُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [٥: ٩١] وَفِيهِ تَعْبِيرٌ لَهُمْ بِالْبَلَادَةِ أَوِ
الْمُعَانَدَةِ اهـ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ رُوحُ الدِّينِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْكِتَابُ وَمَقْصِدُهُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الرُّسُومُ مِنْهُ فَإِنْ أَسْلَمُوا هَذَا الْإِسْلَامَ فَقَدِ اهْتَدَوْا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِأَنَّ هَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ، فَمَنْ أَصَابَهُ فَهُوَ عَلَى هِدَايَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ غَشِيَهُ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ الصُّورِيِّ فَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ مَتَى ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ إِسْلَامُهُمْ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَتْبِعَ اتِّبَاعَكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نَيِّرُ الْقَلْبِ مُتَوَجِّهٌ دَائِمًا إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ، فَهُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ قَتْلُ النَّبِيِّينَ الَّذِي كَانَ مِنْ سَابِقِهِمْ لِاعْتِبَارِ الْأُمَّةِ فِي تَكَافُلِهَا وَجَرْيِ لَاحِقِهَا عَلَى أَثَرِ سَابِقِهَا، كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ - عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ - عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ هَمَّتْ بِقَتْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ - كَمَا عَلِمْتَ - وَهُمْ بِذَلِكَ قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ
مِنْ قَبْلُ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَرْبًا لَهُ وَهُمُ الْمُعْتَدُونَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْأُمِّيِّينَ، فَكُلٌّ قَاتَلَهُ وَقَاتَلَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ حَتَّى عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ (وَيُقَاتِلُونَ الَّذِينَ) لِأَنَّ مُحَاوَلَةَ قَتْلِ نَبِيٍّ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ " يَقْتُلُونَ " النَّبِيِّينَ، وَالْقِتَالُ غَيْرُ الْقَتْلِ وَلِمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمُ النَّبِيِّينَ وَبَعْضُهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، فَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا انْتِقَالٌ إِلَى خِطَابِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، فَالْيَهُودُ هُمُ الَّذِينَ جَرَوْا عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللهِ مِنْ عَهْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كُتُبُهُمْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَعَلَى قَتْلِ النَّبِيِّينَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَكِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ وَجَّهَ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ وَجَعَلَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ حَاوَلُوا قَتْلَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ عَلَى حَدِّ كَوْنِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِغَيْرِ حَقٍّ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ بِمَا يُقَرِّرُ بَشَاعَتَهُ وَانْقِطَاعَ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أَيِ الْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يُرْشِدُونَ النَّاسَ إِلَى الْعَدَالَةِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجْعَلُونَهَا رُوحَ الْفَضَائِلِ وَقِوَامَهَا، وَمَرْتَبَتُهُمْ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَثَرُهُمْ فِي ذَلِكَ يَلِي أَثَرَهُمْ ; ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ طَبَقَاتِ النَّاسِ تَنْتَفِعُ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، كُلُّ صِنْفٍ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِمْ إِلَّا بَعْضُ الْخَوَاصِّ الْمُسْتَعِدِّينَ لِتَلَقِّي الْفَلْسَفَةِ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اصْطَلَمَ التَّوْحِيدُ وَثَنِيَّةَ الْعَرَبِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَيْفَ عَجَزَتْ دَعْوَةُ فَلَاسِفَةِ الْيُونَانَ إِلَى
التَّوْحِيدِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ فِيهَا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ طُلَّابِ الْفَلْسَفَةِ؟ ذَلِكَ بِأَنَّ دَعْوَةَ النَّبِيِّ عَلَى مَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ وَتَأْثِيرِ رُوحِ الْوَحْيِ لَهَا ثَلَاثَةُ مَظَاهِرَ بَيَّنَهَا اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [١٦: ١٢٥] فَالْحِكْمَةُ مَا يُدْعَى بِهِ الْعُقَلَاءُ وَأَهْلُ النَّظَرِ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، وَالْمَوْعِظَةُ مَا يُدْعَى بِهِ الْعَوَامُّ السُّذَّجُ، وَالْجَدَلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَقُوا إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِسُهُولَةٍ، بَلْ يَبْحَثُونَ بَحْثًا نَاقِصًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحُسْنَى فِي مُجَادَلَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّ لَهُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَالْفَضِيلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَلَبِ الْعَدْلِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَدْعُو إِلَى ذَلِكَ مُتَدَيِّنًا وَيَجْرِي فِي الْإِقْنَاعِ بِالدِّينِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَدَيِّنٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْعَقْلِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ مَعَ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ دَلِيلٌ عَلَى غَمْطِ الْعَقْلِ وَمَقْتِ الْعَدْلِ، وَأَقْبِحْ بِذَلِكَ جُرْمًا وَكَفَى بِهِ إِثْمًا. وَلَمْ يُفَسِّرِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ بِالْحُكَمَاءِ، بَلْ قَالَ: إِنَّ مَرْتَبَةَ هَؤُلَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنَ النَّاسِ يُشْعِرُ بِقِلَّتِهِمْ. وَأَقُولُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِيَارِ: إِنَّهُ يُشْعِرُ بِشُمُولِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا فَآمَنَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَذَا تَعْظِيمُ شَأْنِ الْحِكْمَةِ وَالْعَدَالَةِ مَا فِيهِ مِنْ شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَإِرْشَادِ
وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَحْمِلُونَ مِثْلَهُ عَلَى التَّهَكُّمِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا فِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ ; لِأَنَّ التَّبْشِيرَ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالْبُشْرَى وَهِيَ الْخَبَرُ السَّارُّ تَنْبَسِطُ لَهُ بَشَرَةُ الْوَجْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْبَشَرَةِ بِانْبِسَاطٍ أَوِ انْقِبَاضٍ وَكَآبَةٍ، وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْعَذَابُ يُصِيبُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُشَارِكُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ بِمِثْلِ ذُنُوبِهِمْ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَيُّ النَّاسِ
أَحَقُّ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقُسَاةِ الطُّغَاةِ الْمُسْرِفِينَ فِي الشَّرِّ إِسْرَافًا جَعَلَهُمْ عَلَى مُنْتَهَى الْبُعْدِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْآمِرِينَ بِالْقِسْطِ حَتَّى كَانَ مِنْهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ بِالْفِعْلِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ نُفُوسُهُمْ كَنُفُوسِ مَنْ قَتَلُوا وَمَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْفِعْلِ إِلَّا الْعَجْزُ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [٨: ٣٠] فَهَذِهِ النُّفُوسُ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا خَطَايَاهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْفَذٌ لِنُورِ آيَاتِ اللهِ الَّتِي بِهَا يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَهْتَدِي إِلَى إِقَامَةِ الْقِسْطِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِحُسْنِ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَنُفُوسُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَوْغَلَ فِيهَا الْفَسَادُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَفَقَدَتْ الِاسْتِعْدَادَ وَالْقَبُولَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالتَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢١٧) وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنَ اللهِ وَقَدْ أَبْسَلَتْهُمْ ذُنُوبُهُمْ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِفْسَادِ نُفُوسِهِمْ، فَأَيُّ نَاصِرٍ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَهُوَ مِمَّا اقْتَضَتْهُ طَبِيعَتُهُمْ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
أَمَّا قَوْلُهُ: أُوتُوا نَصِيبًا فَقَدْ عُلِمَ مَا هُوَ تَفْسِيرُهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهُ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أُوتُوا الْكِتَابَ وَهُوَ بِمَعْنَى: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [٢: ٧٨] فَالنَّصِيبُ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْأَلْفَاظِ بِتَعْظِيمِهَا وَتَعْظِيمِ مَا تُكْتَبُ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْمَعَانِي بِفِقْهِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا.
قَالَ: وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ مَا يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِمْ (أَوْ قَالَ الْكُتُبَ) وَقَدْ فَقَدُوا سَائِرَهُ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقِيمُونَهُ بِحُسْنِ الْفَهْمِ لَهُ وَالْتِزَامِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا غَرَابَةَ فِي فَقْدِ بَعْضِ الْكِتَابِ ; فَالْكُتُبُ الْخَمْسَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - الَّتِي
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَلِلتَّرَاخِي فِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) اسْتِبْعَادُ تَوَلِّيهِمْ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْفَرِيقُ بَعْدَ تَرَدُّدٍ وَتَرَوٍّ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ أَلَّا يَتَرَدَّدَ الْمُؤْمِنُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِ، أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِالتَّرَدُّدِ حَتَّى تَوَلَّوْا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّوَلِّي عَرَضًا حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُقْبِلِينَ عَلَى الْكِتَابِ خَاضِعِينَ لِحُكْمِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهُمْ لَازِمٌ، بَلِ اللَّازِمُ لَهُمْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كِتَابِ اللهِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ، فَجُمْلَةُ وَهُمْ مُعْرِضُونَ لَيْسَتْ مُؤَكِّدَةً لِلتَّوَلِّي - كَمَا قِيلَ - بَلْ هِيَ مُؤَسِّسَةٌ لِوَصْفِ الْإِعْرَاضِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَيْسَ عَامًّا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَقُولُ: وَهَذَا مِمَّا عَهِدْنَا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنْ تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ وَالِاحْتِرَاسِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ، فَتَارَةً يَحْكُمُ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي مَقَامِ بَيَانِ شُئُونِهِمْ وَتَارَةً يَحْكُمُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَإِذَا أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ يُتْبِعُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ: تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [٢: ٢٤٦].
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ رَوَى جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ قَالُوا ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي عَدَدِ هَذِهِ الْأَيَّامِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَعْدٌ بِالْآخِرَةِ وَلَا وَعِيدٌ، فَكُلُّ
مَا وَعَدَتْ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخَيْرُ وَالْخِصْبُ وَالسُّلْطَةُ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَوْعَدَتْ بِهِ هُوَ سَلْبُ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَسْلِيطُ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ سَوَاءٌ أُوجِدَ فِي كُتُبِهِمْ أَمْ لَمْ يُوجَدْ، يَعْنِي أَنَّنَا نَعُدُّ هَذَا مِمَّا أَضَاعُوهُ وَنَسَوْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ وَالْجُمْلَةُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِسْهَالِ الْعُقُوبَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا اتِّكَالًا عَلَى اتِّصَالِ نَسَبِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَى الدِّينِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِوَعِيدِ الدِّينِ زَاعِمًا أَنَّهُ خَفِيفٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ حَتْمًا تَزُولُ حُرْمَةُ الْأَوَامِرِ
وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِعِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ إِذَا عُوقِبَ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَلِيلَةً كَمَا هُوَ اعْتِقَادُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُرْتَكِبَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِمَّا أَنْ تُدْرِكَهُ الشَّفَاعَاتُ، وَإِمَّا تُنْجِيهِ الْكَفَّارَاتُ، وَإِمَّا أَنْ يُمْنَحَ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنْ فَاتَهُ كُلُّ ذَلِكَ عُذِّبَ عَلَى قَدْرِ خَطِيئَتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ فَهُمْ خَالِدُونَ فِي النَّارِ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ وَمَهْمَا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَالْقُرْآنُ لَا يُقِيمُ لِلِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ مَا وَزْنًا، وَإِنَّمَا يَنُوطُ أَمْرَ النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي دَارِ الْقَرَارِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي وَصَفَهُ وَذَكَرَ عَلَامَاتِ أَهْلِهِ وَصِفَاتِهِمْ، وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مَعَ التَّقْوَى وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَهِيَ خَاصَّةٌ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْ لَمْ تُحِطْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَغْرَقَتْ شُعُورَهُ وَرَانَتْ عَلَى قَلْبِهِ فَصَارَ هَمُّهُ مَحْصُورًا فِي إِرْضَاءِ شَهْوَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ; لِهَذَا يَحْكُمُ هَذَا الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَيَنُوطُ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ أَوْ الِاتِّكَالِ عَلَى مَنْ أَقَامَهُ مِنَ السَّلَفِ فَهُوَ مُغْتَرٌّ بِالْوَهْمِ مُفْتَرٍ يَقُولُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَا قَالَ هُنَا: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ بِمَا زَعَمُوا مِنْ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِلْأُمَّةِ فِي
مَجْمُوعِهَا، وَهَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ الَّذِي كَانَ مَنْشَأَ غُرُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَا بِالْفِكْرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَلَيْسَ فِي الْوَحْيِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلَا يُوثَقُ بِهِ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَا عَهْدَ بِهَذَا وَإِنَّمَا عَهْدُ اللهِ هُوَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢: ٨٠ - ٨٢].
ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الِافْتِرَاءِ بِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِجَزَاءِ يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِي مَجِيئِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ بِأَنْ رَأَتْ مَا عَمِلَتْهُ مُحْضَرًا مُوَفًّى لَا نَقْصَ فِيهِ، فَكَانَ مَنْشَأَ الْجَزَاءِ وَمَنَاطَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاءِ، دُونَ الِانْتِمَاءِ إِلَى دِينِ كَذَا وَمَذْهَبِ كَذَا أَوْ الِانْتِسَابِ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ، أَلَا إِنَّهُمْ يَرَوْنَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنْ دَاخِلِ نُفُوسِهِمْ
وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَلِمَةً أُحِبُّ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا فِيهَا، قَالُوا: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُحْبَطُ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ; لِأَنَّ تَوْفِيَةَ جَزَاءِ إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ لَا تَكُونُ فِي النَّارِ وَلَا قَبْلَ دُخُولِهَا، فَإِذَنْ هِيَ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَالْعِبَارَةُ لِلْبَيْضَاوِيِّ وَنَقَلَهَا أَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْكَسْبَ هُنَا لَيْسَ خَاصًّا بِالْعِبَادَةِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا عَمِلَهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْكَسْبِ - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ - لَزِمَهُمْ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَحْسَنَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ - وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ لَا يُحْسِنُ عَمَلًا قَطُّ - وَجَبَ
أَنْ يُجَازَى عَلَيْهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ خَصَّصُوا وَأَخْرَجُوا الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا، وَإِذَا نَحْنُ جَمَعْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي وَرَدَتْ رَدًّا لِقَوْلِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَآيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى كَسْبِ الْإِنْسَانِ بِحَسْبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِتَأْثِيرِ الْعَمَلِ فِي النَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ أَثَرُهُ السَّيِّئُ قَدْ أَحَاطَ بِعِلْمِهَا وَشُعُورِهَا وَاسْتَغْرَقَ وِجْدَانَهَا كَانَتْ خَالِدَةً فِي النَّارِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ السَّيِّئَ لَمْ يَدَعْ لِلْإِيمَانِ أَثَرًا صَالِحًا فِيهَا يُعِدُّهَا لِدَارِ الْكَرَامَةِ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْهَوَانِ بِطَبْعِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا تَأْثِيرُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، فَكَانَتْ بَيْنَ بَيْنَ جُوزِيَتْ عَلَى كُلٍّ بِحَسَبِ دَرَجَتِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا. وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنْ مَا قُلْنَاهُ مُوَافِقٌ لِمَا قَرَّرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَتَذْكِيرُهُ بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - عَلَى نَصْرِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ دِينِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِذَا تَوَلَّى هَؤُلَاءِ الْجَاحِدُونَ عَنْ بَيَانِكَ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي بُرْهَانِكَ وَظَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي غُرُورِهِمْ فَعَلَيْكَ أَنْ تَلْجَأَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَتَرْجِعَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَتَتَذَكَّرَ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْأَمْرُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهَذَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ مِنْ أَمْرِهِ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - بِقَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ.
قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ أَوْ لَازِمِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُلْكٌ كَبِيرٌ لِأَنَّ سُلْطَانَهَا عَلَى الْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، قَالَ - تَعَالَى -: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [٤: ٥٤] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُلْكُ عَيْنَ النُّبُوَّةِ فَهُوَ لَازِمُهَا، وَنَزْعُ الْمُلْكِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عِبَارَةٌ عَنْ نَزْعِهِ مِنَ الْأُمَّةِ الَّتِي كَانَ يُبْعَثُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ كَأُمَّةِ إِسْرَائِيلَ فَقَدْ نُزِعَتْ مِنْهَا النُّبُوَّةُ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ النَّزْعُ هُنَا بِالْحِرْمَانِ ; فَإِنَّهُ - تَعَالَى - يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّزْعَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ قَدْ وُجِدَ، صَحَّ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لِسَانِ الرُّسُلِ: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا [٧: ٨٩] فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي مِلَّتِهِمْ، إِذْ يَسْتَحِيلُ الْكُفْرُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - هَذَا سِيَاقُهُ - وَقَدْ تَبِعَ فِيهِ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ كَلِمَةَ " أَوْ لَازِمِهَا " وَالتَّمْثِيلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، وَالْآيَةُ حِكَايَةٌ عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [٧: ٨٨] فَهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ وَمِمَّنْ آمَنَ مَعَهُ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي مِلَّتِهِمْ، فَفِي جَوَابِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَغْلِيبٌ لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ.
وَمَثَّلَ الرَّازِيُّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [٢: ٢٥٧] وَفِيهِ مَا فِيهِ.
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ السُّلْطَةُ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْأُمُورِ، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ
عِبَادِهِ، إِمَّا بِالتَّبَعِ لِمَا يَخْتَصُّهُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ كَمَا وَقَعَ لِآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا بِسَيْرِهِمْ عَلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَتَكْوِينِ الْعَصَبِيَّاتِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَمِنَ الْأُسَرِ وَالْعَشَائِرِ وَالْفَصَائِلِ وَالشُّعُوبِ بِتَنَكُّبِهِمْ سُنَنَهُ الْحَافِظَةَ لِلْمُلْكِ، كَالْعَدْلِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ وَإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ كَمَا نَزَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، ذَلِكَ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ مَا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَّا مِنَ الْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ نَظَرْنَا فِيمَا وَقَعَ لِلْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ وَمَحَّصْنَا أَسْبَابَهُ فَأَلْفَيْنَاهَا تَرْجِعُ إِلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا [٣: ١٣٧] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ بَعْضَ هَذِهِ السُّنَنِ فِي نَزْعِ الْمُلْكِ مِمَّنْ يَشَاءُ وَإِيتَائِهِ مَنْ يَشَاءُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [١٤: ١٣، ١٤] وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَفْضَلَ تَفْصِيلٍ فَلْيُرَاجِعِ الْآيَةَ (٢٤٧) مَنْ شَاءَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَكَوْنُهَا بِمَثَابَةِ الدَّلِيلِ لِقَوْلِهِ السَّابِقِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ الْوَعْدِ بِنَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَلْبِ أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ يَوْمَ رَأَى جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ زَاحِفًا إِلَى مَكَّةَ: لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: كَلَّا إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ تَأْسِيسُ مُلْكٍ وَمَا كَانَ الْمُلْكُ مَقْصُودًا، وَلَكِنَّهُ جَاءَ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَابِعًا لَا أَصْلًا، وَالْفَرْقُ عَظِيمٌ، وَالْغَرَضُ مِنَ النُّبُوَّةِ غَيْرُ الْغَرَضِ مِنَ الْمُلْكِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابَةُ مَنْ جَعَلُوهُ رَئِيسَ مُلْكِهِمْ وَمَرْجِعَ سِيَاسَتِهِمْ مَلِكًا، بَلْ سَمَّوْهُ خَلِيفَةً.
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ الْعِزُّ وَالذُّلُّ مَعْرُوفَانِ، وَمِنْ آثَارِ الْأَوَّلِ: حِمَايَةُ الْحَقِيقَةِ وَنَفَاذُ الْكَلِمَةِ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ كَثْرَةُ الْأَعْوَانِ وَمِلْكُ الْقُلُوبِ بِالْجَاهِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ لِلنَّاسِ وَسَعَةُ الرِّزْقِ مَعَ التَّوْفِيقِ لِلْإِحْسَانِ، وَمِنْ آثَارِ الثَّانِي: الضَّعْفُ عَنِ الْحِمَايَةِ، وَالرِّضَى بِالضَّيْمِ وَالْمَهَانَةِ - كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - وَقَدْ يَكُونُ الضَّعْفُ سَبَبًا وَعِلَّةً لِلذُّلِّ لَا أَثَرًا مَعْلُولًا وَهُوَ غَالِبٌ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَلِكُ ذَلِيلًا إِذَا ضَعُفَ
اسْتِقْلَالُهُ بِسُوءِ السِّيَاسَةِ وَفَسَادِ التَّدْبِيرِ، حَتَّى صَارَتِ الدُّوَلُ الْأُخْرَى تَفْتَاتُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ فِي مَظْهَرِ عَزِيزٍ، وَكَمْ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ مَلِكٍ يَغُرُّ الْأَغْرَارَ مَا يَرَوْنَهُ فِيهِ مِنَ الْأُبَّهَةِ وَالْفَخْفَخَةِ فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَزِيزٌ كَرِيمٌ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ذَلِيلٌ مَهِينٌ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ مُلُوكِ مَلَاهِي التَّمْثِيلِ (التَّيَاتْرَاتِ) وَالتَّشْبِيهُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
بِيَدِكَ الْخَيْرُ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَدَّرَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) هُنَا كَلِمَةَ " وَالشَّرُّ " هَرَبًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ نَفْيٌ لِكَوْنِ الشَّرِّ بِيَدِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِثْبَاتٌ لَهُ فَلَا مَعْنًى لِتَصَادُمِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا وَحَسْبُنَا قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَالْبَلَاغَةُ قَاضِيَةٌ بِذِكْرِ الْخَيْرِ فَقَطْ سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ خَاصًّا وَهُوَ مَا كَانَ فِي وَاقِعَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ بِشَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُلْكَ أُمَّتِهِ سَيَبْلُغُ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَامًّا وَهُوَ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمُنْكِرِينَ فَإِنَّهُ مَا أَغْرَى أُولَئِكَ الْمُجَاحِدِينَ بِإِنْكَارِ النُّبُوَّةِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ إِلَّا فَقْرُ الدَّاعِي وَضَعْفُ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّتُهُمْ، فَأَمَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يَلْجَأَ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى مَالِكِ الْمُلْكِ وَالْمُتَصَرِّفِ التَّصَرُّفَ الْمُطْلَقَ فِي الْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ، وَذَكَّرَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ فَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُؤْتِيَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ مَا وَعَدَهُمْ، وَأَنْ يُعِزَّهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الَّذِينَ يَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [٢٨: ٥] عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُ - وَالْمُؤْمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ - بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ
وَيَلْجَئُوا إِلَيْهِ بِهَذِهِ الرَّغْبَةِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرَ الْخَيْرِ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَقَطْ، وَأَنَّهُ بِيَدِهِ وَحْدَهُ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُسْنَدُ إِلَى يَدِهِ - تَعَالَى - أَوْ يَدَيْهِ إِلَّا النِّعَمُ الْجَلِيلَةُ وَالْمَخْلُوقَاتُ الشَّرِيفَةُ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ الشَّرَّ بِيَدِ اللهِ - تَعَالَى -، عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَدَبَّرَهُ هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَالشَّرُّ أَمْرٌ عَارِضٌ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ ; فَلَا تُوجَدُ حَقِيقَةٌ هِيَ شَرٌّ فِي ذَاتِهَا وَإِنَّمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الشَّرِّ عَلَى مَا يَأْتِي غَيْرَ مُلَائِمٍ لِلْأَحْيَاءِ ذَاتِ الْإِدْرَاكِ، وَلَا مُنْطَبِقٍ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ سُوءُ عَمَلِهِمْ الِاخْتِيَارِيِّ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَنْ تُقَوِّضَ الرِّيحُ لَهُمْ بِنَاءً أَوْ يَجْرُفَ السَّيْلُ لَهُمْ رِزْقًا، وَكُلٌّ مِنَ الرِّيحِ وَالسَّيْلِ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرَاتِ فِي ذَاتِهِمَا، وَمِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ مَا قَدَّرَتْهُ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ وَأَخْبَرَ بِهِ الْوَحْيُ مِنْ تَرْتِيبِ الْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ السَّيِّئِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ مُرَبٍّ لِلنَّاسِ وَعَوْنٌ لَهُمْ عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَقِهَ مَا نَقُولُ. وَلِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا بَأْسَ بِإِيرَادِهِ هُنَا.
قَالَ فِي كِتَابِ (شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) وَنَقَلَهُ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ مَا نَصُّهُ:
الْحَقِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا. هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا.
" فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ تَنْقَطِعُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قُلْتُ: هُوَ مِنَ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ فِي ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ، فَهَذِهِ هِيَ الْخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا، فَإِيجَادُ هَذَا السَّبَبِ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَى اللهِ، وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا. فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّهُ إِذَا وَجَدَهُ؟ قُلْتُ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُوجِدُهُ وَيَمُدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَمُدَّهُ بِحِكْمَتِهِ، فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ وَالشَّرُّ وَقَعَ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ.
" فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ فَالْجَوَابُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ تَسَاوِيَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ، بَلِ الْحِكْمَةُ كُلُّ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الْوَاقِعِ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ تَفَاوُتٍ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ | وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ |
تَشَاءُ كَبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّكَ تَتَصَرَّفُ فِي شُئُونِ النَّاسِ كَمَا تَتَصَرَّفُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَالصَّالِحِ مِنَ الطَّالِحِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالْجَاهِلِ مِنَ الْعَالَمِ، وَالشِّرِّيرِ مِنَ الْخَيِّرِ، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ لِلْحَيَاةِ الْحِسِّيَّةِ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالْعَكْسِ، وَخُرُوجِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالطَّائِرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَبِالْعَكْسِ. وَالتَّمْثِيلُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَثْبَتَ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ أَنَّ فِي النُّطْفَةِ حَيَاةً، وَكَذَا فِي الْبَيْضَةِ وَالنَّوَاةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ اصْطِلَاحِيَّةٌ لِأَهْلِ الْفَنِّ فِي عُرْفِهِمْ دُونَ الْعُرْفِ الْعَامِّ الَّذِي جَاءَ التَّنْزِيلُ بِهِ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْعُرْفَيْنِ خُرُوجُ النَّبَاتِ مِنَ التُّرَابِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَسْمِيَةِ مَا يُقَابِلُ الْحَيَّ مَيِّتًا سَوَاءٌ كَانَتِ الْحَيَاةُ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَيِّتِ مِمَّا يَعِيشُ وَيَحْيَا مِثْلُهُ أَمْ لَا وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ فَصِيحٌ، وَالْجُمْلَةُ كَسَابِقَتِهَا مِثَالٌ ظَاهِرٌ لِكَوْنِهِ - تَعَالَى - مَالِكَ الْمُلْكِ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ إِلَى آخِرِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارِ فَقَدْ أَخَرَجَ مِنَ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ كَمَا أَخْرَجَ مِنْ سَلَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ أُولَئِكَ الْأَشْرَارَ الْمُفْسِدِينَ ; ذَلِكَ أَنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ قَدْ أَعَدَّتِ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ لِأَنْ يَظْهَرَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مِنْهَا - أَعَدَّتْهَا لِذَلِكَ بِارْتِقَاءِ الْفِكْرِ وَاسْتِقْلَالِهِ وَبِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا، حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَقْوَى أُمَمِ الْأَرْضِ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الدِّينِ الَّذِي هَدَمَ بِنَاءَ التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِعْبَادِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ بِنَاءَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِقْلَالِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَرْسُفُونَ فِي قُيُودِ التَّقْلِيدِ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، مُرْتَكِسِينَ فِي أَغْلَالِ الِاسْتِبْدَادِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، فَمَا أَعْطَى - سُبْحَانَهُ - مَا أَعْطَى وَنَزَعَ مَا نَزَعَ إِلَّا بِإِقَامَةِ السُّنَنِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ النِّظَامِ وَمَنَاطُ الْإِبْدَاعِ وَالْإِحْكَامِ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ يُطْلَبُ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يُحَاسِبُهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، أَوْ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنْ هَذَا الْمَرْزُوقِ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَلَكِنَّهُ بِقَدْرٍ وَحِسَابٍ مِمَّنْ وَضَعَ السُّنَنَ وَالْأَسْبَابَ.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ الَّتِي نَبَّهَ اللهُ فِيهَا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ مُعْتَرِفِينَ أَنَّ بِيَدِهِ الْمُلْكَ وَالْعِزَّ وَمَجَامِعَ الْخَيْرِ وَالسُّلْطَانَ الْمُطْلَقَ فِي تَصْرِيفِ الْكَوْنِ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِذَا كَانَتِ الْعِزَّةُ وَالْقُوَّةُ لَهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَمِنَ الْجَهْلِ وَالْغُرُورِ أَنْ يُعْتَزَّ بِغَيْرِهِ مِنْ دُونِهِ، وَأَنْ يُلْتَجَأَ إِلَى غَيْرِ جَنَابِهِ، أَوْ يَذِلَّ الْمُؤْمِنُ فِي غَيْرِ بَابِهِ، وَقَدْ نَطَقَتِ السِّيَرُ بِأَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ قَبْلَ الِاطْمِئْنَانِ بِالْإِيمَانِ اغْتِرَارٌ بِعِزَّةِ الْكَافِرِينَ وَقُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، فَيُوَالُونَهُمْ وَيَرْكَنُونَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي الْبَشَرِ.
قَالَ: وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ (زَعِيمِ الْمُنَافِقِينَ) وَقِيلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُوَالُونَ بَعْضَ الْيَهُودِ، وَمَهْمَا كَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمُسْتَجِيبِينَ لَهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، عَلَى أَنَّ مَظَاهِرَ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ تَغُرُّ بَعْضَ الصَّادِقِينَ، وَتُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الْمُخْلِصِينَ فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِمْ! وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِهَا تَفْسِيرًا تَتَّفِقُ بِهِ مَعَانِيهَا.
أَقُولُ: قِصَّةُ حَاطِبٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مُسْنَدَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَمُلَخَّصُهَا: " أَنَّ حَاطِبًا كَتَبَ كِتَابًا لِقُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِيهِ بِاسْتِعْدَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزَّحْفِ عَلَى مَكَّةَ
قَبُولِ الصُّلْحِ - وَمَا كَانَ يُرِيدُ حَرْبًا - وَأَرْسَلَ حَاطِبٌ كِتَابَهُ مَعَ جَارِيَةٍ وَضَعَتْهُ فِي عِقَاصِ شَعْرِهَا فَأَعْلَمَ اللهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهَا عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ قَالَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ! إِنِّي كُنْتُ حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قُرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ وَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، قَالُوا: وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ [٦٠: ١] إِلَخْ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا قَالَ إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ، فَلَعَلَّ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ سَهْوٌ ; سَبَبُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا نَزَلْ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ يَشْتَرِكَانِ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ، وَمَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ - وَهُوَ مُعْظَمُ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ - يُفَسِّرُ لَنَا أَوْ يُفَصِّلُ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ; لِأَنَّ مَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ مُفَصَّلٌ، وَهُوَ مِنْ آخِرِهَا أَوْ آخِرُهَا نُزُولًا، وَمَا عَدَاهُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ الْمُفَصَّلُ.
يَزْعُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَوَى فِي الرَّأْيِ أَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ النَّهْيِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [٥: ٥١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَالِفُوا أَوْ يَتَّفِقُوا مَعَ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ أَوْ الِاتِّفَاقُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَفَاتَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُحَالِفًا لِخُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُتَحَمِّسِينَ فِي الدِّينِ - عَلَى جَهْلٍ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحْسِنَ مُعَامَلَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ أَوْ مُعَاشَرَتَهُ أَوْ يَثِقُ بِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَقَدْ جَاءَتْنَا وَنَحْنُ نَكْتُبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِحْدَى الصُّحُفِ فَرَأَيْنَا فِي أَخْبَارِهَا الْبَرْقِيَّةَ أَنَّ الْأَفْغَانِيِّينَ الْمُتَعَصِّبِينَ سَاخِطُونَ عَلَى أَمِيرِهِمْ أَنْ عَاشَرَ الْإِنْكِلِيزَ فِي الْهِنْدِ وَوَاكَلَهُمْ وَلَبِسَ زِيَّ الْإِفْرِنْجِ، وَأَنَّهُمْ عَقَدُوا اجْتِمَاعًا حَكَمُوا فِيهِ
بِكُفْرِهِ وَوُجُوبِ خَلْعِهِ مِنَ الْإِمَارَةِ، فَأُرْسِلَتِ الْجُنُودُ لِتَفْرِيقِ شَمْلِهِمْ، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَمِّسِينَ الْجَاهِلِينَ أَضَرُّ الْخَلْقِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أَبْعَدُ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَالَمِينَ، وَمَاذَا فَهِمَ أَمْثَالُ أُولَئِكَ الْأَفْغَانِيِّينَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى عُجْمَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِأَسَالِيبِهِ وَبِعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِهِ!
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: الْأَوْلِيَاءُ: الْأَنْصَارُ، وَالِاتِّخَاذُ يُفِيدُ مَعْنَى
عَوْدٌ إِلَى كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: وَقَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ [٥٨: ٢٢] الْآيَةَ، فَالْمُوَادَّةُ مُشَارَكَةٌ فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالْكَافِرِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ فَالْمَمْنُوعُ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ خِذْلَانٌ لِدِينِكَ وَإِيذَاءٌ لِأَهْلِهِ أَوْ إِضَاعَةٌ لِمَصَالِحِهِمْ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ كَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ ضُرُوبِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا تَدْخُلَ فِي ذَلِكَ النَّفْيِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعَامَلَةً فِي مُحَادَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ فِي مُعَادَاتِهِمَا وَمُقَاوَمَةِ دِينِهِمَا.
أَقُولُ: وَإِذَا رَجَعَ الْمُؤْمِنُ إِلَى سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (٦٠) الَّتِي فُصِّلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مَا لَمْ تُفَصَّلْ فِي غَيْرِهَا يَجِدُ الْآيَةَ الْأُولَى - وَقَدْ تَقَدَّمَ صَدْرُهَا فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ - تُقَيِّدُ النَّهْيَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ كَفَرُوا كُفْرًا حَمَلَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاللهِ، فَكُلُّ شَعْبٍ حَرْبِيٍّ يُعَامِلُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ تَحْرُمُ مُوَالَاتُهُ قَطْعًا، ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَهَى عَنْ مُوَالَاتِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ يَثْقَفُوا الْمُؤْمِنِينَ يُعَادُوهُمْ وَيُؤْذُوهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٦٠: ٧ - ٩] فَالْبَصِيرُ يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَجْعَلُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوُا الرَّسُولَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَأَخْرَجُوهُمْ
وَلَا تَنْسَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عُنْفُوَانِ طُغْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَقَدْ عَمِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ الْفَتْحِ بِهَذِهِ الْوَصَايَا فَعَفَا عَنْ قُدْرَةٍ، وَحَلُمَ عَنْ عِزَّةٍ وَسُلْطَةٍ. وَقَالَ: أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ وَأَحْسَنَ إِلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَمِثْلُهُ أَهْلٌ لِلْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَقَدْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وَلَكِنْ بَعُدَ مُتَحَمِّسُو الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ عَنْ سُنَّتِهِ وَعَنْ كِتَابِ اللهِ الَّذِي تَأَدَّبَ هُوَ بِهِ. اللهُمَّ اهْدِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِهِدَايَةِ كِتَابِكَ لِيَكُونُوا بِحُسْنِ عَمَلِهِمْ حُجَّةً لَهُ بَعْدَ مَا صَارَ أَكْثَرُهُمْ بِسُوءِ الْعَمَلِ حُجَّةً عَلَيْهِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَيَتَّخِذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخَالِفُ مَصْلَحَتَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ أَيْ فَلَيْسَ
مِنْ وِلَايَةِ اللهِ فِي شَيْءٍ قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَوِلَايَةُ اللهِ مِنَ الْعَبْدِ طَاعَتُهُ وَنَصْرُ دِينِهِ، وَمِنَ اللهِ مَثُوبَتُهُ وَرِضْوَانُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ غَايَةُ الْبُعْدِ ; أَيْ تَنْقَطِعُ صِلَةُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ - تَعَالَى - ; أَيْ فَيَكُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [٥: ٥١] أَوْ مَعْنَاهُ فَيَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْأُسْتَاذُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ ; أَيْ إِنَّ تَرْكَ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتْمٌ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْخَوْفِ مِنْ شَيْءٍ تَتَّقُونَهُ مِنْهُ، فَلَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَالُوهُمْ بِقَدْرِ مَا يُتَّقَى بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ ; لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةُ تَكُونُ صُورِيَّةً ; لِأَنَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُوَالُوهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَكُمْ أَنْ تَتَّقُوا ضَرَرَهُمْ بِمُوَالَاتِهِمْ، وَإِذَا جَازَتْ مُوَالَاتُهُمْ لِاتِّقَاءِ الضَّرَرِ فَجَوَازُهَا لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ أَوْلَى ; وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحَالِفُوا الدُّوَلَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ لِأَجْلِ فَائِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُوَالُوهُمْ فِي شَيْءٍ يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ رَعِيَّتِهِمْ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةُ لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتِ الضَّعْفِ، بَلْ هِيَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ
مُسْتَحْسِنًا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ كَافِرًا، بَلْ يُعْذَرُ كَمَا عُذِرَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (١٦: ١٠٦) وَكَمَا عُذِرَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي سَأَلَهُ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: " إِنِّي أَصَمُّ " ثَلَاثًا. وَيُنْقَلُ عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّ التَّقِيَّةَ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ جَرَى عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَيُنْقَلُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَنَاقِضَةٌ مُضْطَرِبَةٌ وَخُرَافَاتٌ مُسْتَغْرَبَةٌ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ نَقْلُ الْمُخَالِفِ مِنَ الظِّنَّةِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا مَوْضِعٌ لِلْمُنَاقَشَاتِ وَالْجَدَلِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَقُصَارَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ مِنْ مَضَرَّةِ الْكَافِرِينَ، وَقُصَارَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ (١٦: ١٠٦) مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ لِأَجْلِ الضَّرُورَاتِ الْعَارِضَةِ لَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْمُتَّبَعَةِ دَاالبئِمًا ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَيُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى التَّقِيَّةِ، وَمِنْ عَلَامَةِ الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ أَلَّا يَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ - تَعَالَى -: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [٥: ٤٤] وَقَالَ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [٣: ١٧٥] وَكَانَ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَمَّلُونَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ وَيَصْبِرُونَ.
وَأَمَّا الْمُدَارَةُ فِيمَا لَا يَهْدِمُ حَقًّا وَلَا يَبْنِي بَاطِلًا فَهِيَ كَيَاسَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، يَقْتَضِيهَا أَدَبُ الْمُجَالَسَةِ مَا لَمْ تَنْتَهِ إِلَى حَدِّ النِّفَاقِ وَيُسْتَجَزْ فِيهَا الدِّهَانُ وَالِاخْتِلَاقُ، وَتَكُونُ مُؤَكَّدَةً فِي خِطَابِ السُّفَهَاءِ تَصَوُّنًا مِنْ سَفَهِهِمْ، وَاتِّقَاءً لِفُحْشِهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَهُ - فَقَالَ: بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ. ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ مِنْ أَشَّرِ النَّاسِ مَنْ يَتْرُكُهُ النَّاسُ أَوْ يَدَعُهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: " إِنَّا لَنُكْشِرُ فِي وُجُوهِ
الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِدَفْعِ إِيذَائِهِمْ وَحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَبَيَانِ حَقِيقَتِهَا، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ أَدَبًا فِي مَجْلِسِهِ وَحَدِيثِهِ.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَاهُ عِقَابَ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ النَّفْسَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوَعِيدَ صَادِرٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ كَلَامٌ آخَرُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِي مَا بَعْدَ هَذِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ فَلَا مَهْرَبَ مِنْهُ. قَالُوا: وَفِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ يُشْعِرُ بِتَنَاهِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ فِي الْقُبْحِ.
ثُمَّ قَالَ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمُرَادُ بِمَا فِي الصُّدُورِ: مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الِانْشِرَاحِ وَالْمَيْلِ لِلْكُفْرِ أَوِ الْكُرْهِ لَهُ وَالنُّفُورِ مِنْهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ آنِفًا: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [١٦: ١٠٦] إِلَخْ، أَيْ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُكُمْ وَمَا تَخْتَلِجُ بِهِ قُلُوبُكُمْ إِذْ تُوَالُونَ الْكَافِرِينَ أَوْ تُوَادُّونَهُمْ وَإِذْ تَتَّقُونَ مِنْهُمْ مَا تَتَّقُونَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَيْلٍ إِلَى الْكُفْرِ جَازَاكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ مُطْمَئِنَّةً بِالْإِيمَانِ غَفَرَ لَكُمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ عَلَى عَمَلٍ لَا جِنَايَةَ فِيهِ عَلَى دِينِكُمْ وَلَا إِيذَاءَ لِأَهْلِهِ، فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [٦٧: ١٤] وَهَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا فِي صُدُورِهِمْ ; لِأَنَّهُ عَامٌّ وَدَلِيلُهُ ظَاهِرٌ فِي النِّظَامِ الْعَامِّ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَحَدٌ وَلَا يُعْجِزَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: الْكَلَامُ تَتِمَّةٌ لِوَعِيدِ مَنْ يُوَالِي الْكَافِرِينَ نَاصِرًا إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا وَاحْذَرُوا أَوْ لِتَحْذَرُوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ عَمَلَهَا مِنَ الْخَيْرِ مَهْمَا قَلَّ مُحْضَرًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ " اذْكُرْ " مُتَعَلِّقًا لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَجِدُ كَمَا فَعَلَ (الْجَلَالُ). وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُحْضَرًا أَنَّ فَائِدَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ تَكُونُ حَاضِرَةً لَدَيْهِ، وَأَمَّا عَمَلُ السُّوءِ فَتَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ اقْتَرَفَتْهُ لَوْ بَعُدَ عَنْهَا وَلَمْ تَرَهُ وَتُؤْخَذْ بِجَزَائِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الشَّرِّ يَكُونُ مُحْضَرًا أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِحْضَارَهُ مُؤْذٍ لِصَاحِبِهِ يَوَدُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ ; أَيْ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ إِحْضَارَ عَمَلِ
الْخَيْرِ يَكُونُ غِبْطَةً لِصَاحِبِهِ وَسُرُورًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ كَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ كُتُبِ الْأَعْمَالِ وَأَخْذِهَا بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ
أَقُولُ: وَكَيْفَ لَا تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مُحْضَرًا فَتُسَرُّ الْمُحْسِنَةُ وَتَنْعَمُ بِمَا أَحْسَنَتْ، وَتَبْتَئِسُ الْمُسِيئَةُ وَتُغَمُّ بِمَا أَسَاءَتْ، وَتَوَدُّ لَوْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ مَرْسُومَةٌ فِي صَحَائِفِ هَذِهِ الْأَنْفُسِ وَهِيَ صِفَاتٌ لَهَا، وَعَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ صَدَرَتْ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ فَزَادَتِ الصِّفَاتُ رُسُوخًا وَالنُّقُوشُ فِي النَّفْسِ تَمَكُّنًا، حَتَّى ارْتَقَتْ بِالْمُحْسِنِ إِلَى عِلِّيِّينَ، حَيْثُ كِتَابُ الْأَبْرَارِ، وَهَبَطَتْ بِالْمُسِيءِ إِلَى سِجِّينَ، حَيْثُ كِتَابُ الْفُجَّارِ. وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ مِنْ وَرَائِكُمْ مُحِيطٌ، وَسُنَّتُهُ فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ وَجَعْلِ آثَارِ أَعْمَالِهَا مَصْدَرًا لِجَزَائِهَا حَاكِمَةً عَلَيْكُمْ، أَفَلَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ - وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ - أَنْ تَحْذَرُوهُ بِمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ بِتَرْجِيحِهِ عَلَى مَا يَعْرِضُ عَلَى الْفِطْرَةِ مِنْ تَزْيِينِ عَمَلِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - مِمَّا غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْفِطْرَةَ سَلِيمَةً مَيَّالَةً بِطَبْعِهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَتَتَأَلَّمُ مِمَّا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الشَّرِّ، وَأَنْ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ أَنْوَاعًا مِنَ الْهِدَايَاتِ يَرْجَحُ بِهَا الْخَيْرُ عَلَى الشَّرِّ كَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَأَنْ جَعَلَ جَزَاءَ الْخَيْرِ مُضَاعَفًا، وَأَنْ جَعَلَ أَثَرَ الشَّرِّ فِي النَّفْسِ قَابِلًا لِلْمَحْوِ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ أَكْثَرَ التَّحْذِيرَ مِنْ عَاقِبَةِ السُّوءِ لِيَذْكُرَ الْإِنْسَانُ وَلَا يَنْسَى، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: دُخُولُ الْحَرْفِ الْمَصْدَرِيِّ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَوْ أَنَّ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ الْأَصْلِ فِيهِ الْمَنْعَ وَتَأْوِيلَ مَا سُمِعَ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمَدِ فَقِيلَ: الْغَايَةُ، وَقِيلَ: الْأَجَلُ، وَقِيلَ: الْمَكَانُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَمَدُ وَالْأَبَدُ يَتَقَارَبَانِ، لَكِنَّ الْأَبَدَ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلَا يَتَقَيَّدُ، لَا يُقَالُ: أَبَدَ كَذَا، وَالْأَمَدُ مُدَّةٌ لَهَا حَدٌّ مَجْهُولٌ إِذَا أُطْلِقَ وَقَدْ يَنْحَصِرُ نَحْوَ أَنْ يُقَالَ: أَمَدُ كَذَا كَمَا يُقَالُ: زَمَانُ كَذَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزَّمَانِ وَالْأَمَدِ أَنَّ الْأَمَدَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ، وَالزَّمَانُ
عَامٌّ فِي الْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَدَى وَالْأَمَدُ يَتَقَارَبَانِ.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ كَالْجَوَابِ لِقَوْمٍ ادَّعَوْا أَمَامَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ رَبَّهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَلَوْ بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ لِغَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ يَدَّعِي حُبَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ لِيُخَاطِبَ بِهَا نَصَارَى نَجْرَانَ الَّذِينَ ادَّعَوْا - كَمَا يَدَّعِي أَهْلُ مِلَّتِهِمْ - أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. نَعَمْ إِنَّ أَوَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَتْ إِذْ كَانَ وَفْدُ نَجْرَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْخِطَابَ فِيهَا عَامٌّ وَحُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا قِيمَةُ الدَّعْوَى يُكَذِّبُهَا الْعَمَلُ، وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْحُبُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمَحْبُوبِ وَعَدَمِ الْعِنَايَةِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؟
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ | هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ |
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ | إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ |
قُلْ أَطِيعُوا اللهَ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالرَّسُولَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا وَلَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتَكَ غُرُورًا مِنْهُمْ بِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُحِبُّونَ لِلَّهِ وَأَنَّهُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَصْرِفُهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي آيَاتِ اللهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ الَّذِي نَهَيْتُ عَنْهُ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي أَرْشَدْتُ إِلَيْهِ. هَؤُلَاءِ هُمُ الْكَافِرُونَ وَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ وَاللهَ يُحِبُّهُمْ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا فِي فَهْمِ الْآيَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِيهَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَيْءٌ. وَإِنَّ مِنَ الْبَاحِثِينَ مَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَعْنَى حُبِّ اللهِ لِلنَّاسِ وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ. فَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بَعْضَ الْإِيضَاحِ: حُبُّ النَّاسِ لِلَّهِ يَجْهَلُهُ مَنْ يَعِيشُ كَمَا تَعِيشُ الدِّيدَانُ وَالْبَهَائِمُ لَا يَشْغَلُهُ إِلَّا هَمُّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ، وَيَعْرِفُهُ الْحُكَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ، وَيُمْكِنُ تَقْرِيبُهُ مِنْ فَهْمِ الْجَاهِلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلْعِلْمِ وَتَشْوِيقُهُ إِلَيْهِ بِإِرْشَادِهِ إِلَى مُرَاجَعَةِ فِطْرَتِهِ، وَالْبَحْثِ فِي أَسْبَابِ حُبِّ النَّاسِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا حَيَوَانٌ آخَرُ.
يَجِدُ كُلُّ حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ مَيْلًا مِنْ نَفْسِهِ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُ فِطْرَتِهِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا.
يُحِبُّ الْإِنْسَانُ جَمَالَ الطَّبِيعَةِ، وَيُطْرِبُهُ خَرِيرُ الْمِيَاهِ وَحَفِيفُ الرِّيَاحِ، وَتَغْرِيدُ الْأَطْيَارِ عَلَى أَفْنَانِ الْأَشْجَارِ، فَيَبْذُلَ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِإِنْشَاءِ الْحَدَائِقِ وَالْجَنَّاتِ وَاجْتِلَابِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي بِلَادِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ وَالنَّبَاتِ، يَعْشَقُ جَمَالَ الصَّنْعَةِ فَيُنْفِقُ الْقَنَاطِيرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ الْبَدِيعَةِ وَالنُّقُوشِ الدَّقِيقَةِ، يَهْوَى
الْوُقُوفَ عَلَى مَجَاهِلِ الْأَرْضِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِينَ فَيَرْكَبُ الْأَخْطَارَ وَيَقْتَحِمُ الْبِحَارَ، وَيَسْمَحُ بِالْوَقْتِ وَالدِّينَارِ يَهِيمُ بِالرِّيَاسَةِ فَيَسْتَهِينُ لِأَجْلِهَا بِاللَّذَّاتِ وَيَزْدَرِي الشَّهَوَاتِ وَيُنَافِحُ فِي سَبِيلِهَا الْأَقْرَانَ، وَيُكَافِحُ فِي طَلَبِهَا السُّلْطَانَ، يَفْتَتِنُ بِحُبِّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ فَيَبْذُلُ حَيَاتَهُ لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ وَيَتَحَمَّسُ فِي التَّحَزُّبِ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، يُولَعُ بِكِبَارِ الْعُلَمَاءِ فَيَتَّخِذُهُمْ أَئِمَّةً مُتَّبَعِينَ وَإِنْ حُرِمَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يُؤَيِّدُهُ مِنْ دُونِهِمْ - يَهِيمُ بِالْمَعْقُولَاتِ السَّامِيَةِ، وَالْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ، فَيَحْتَقِرُ دُونَهَا الْمَالَ وَالْحَيَاةَ وَالرِّيَاسَةَ وَالْإِمَارَةَ، وَيَنْزَوِي فِي كَسْرِ بَيْتِهِ يُعْمِلُ الْفِكْرَ، وَيُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَيُصْقِلُ الرُّوحَ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَنْ سَارَ سِيرَتَهُ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ، وَأَنَّ الْغَافِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَغْبُونُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [٢٣: ٥٣]
أَلَا إِنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ أَعْلَى مِنْ كُلِّ ذَلِكَ ; فَهُوَ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ اكْتِشَافِ الْمَجْهُولَاتِ، وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمُجَالَدَةِ جَلِيدِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ. وَمُوَاثَبَةِ أُسُودِ أَفْرِيقِيَّةَ وَأَفَاعِي الْهِنْدِ، وَمُنَاصَبَةِ أَمْوَاجِ الْقَامُوسِ الْأَعْظَمِ، وَمُرَاقَبَةِ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي اللَّيَالِي اللَّيْلَاءِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ عَنِ الْمَاضِي لِيَتَعَرَّفَ مَبْدَأَ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِيَعْلَمَ الْغَايَةَ وَالْمَصِيرَ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَةِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا مِنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَاسْتِعْدَادَهَا وَغَرَضَهَا مِنْ بَحْثِهَا وَاسْتِقْصَائِهَا، تَرَى هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يُحِبُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى ; لِأَنَّهُ خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِمَعْرِفَةٍ لَا تَتَنَاهَى، قَدْ يَهِيمُ حُبًّا فِي بَعْضِهَا حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ سَائِرِهَا، وَكُلَّمَا كَانَ مَوْضُوعُ حُبِّهِ أَعْلَى كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَرْقَى وَأَسْمَى، وَمُنْتَهَى الرُّقِيِّ وَالسُّمُوِّ أَنْ يُحِبَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعْنَى الْجَمَالِ الْمُودَعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْإِبْدَاعُ الْإِلَهِيُّ وَالنِّظَامُ الرَّبَّانِيُّ فَلَا تَحْجُبُهُ الْمَبَانِي عَنِ الْمَعَانِي، وَلَا تَشْغَلُهُ الْأَشْبَاحُ عَنِ الْأَرْوَاحِ، فَيُلَاحِظُ فِي كُلِّ جَمِيلٍ أَحَبَّهُ مَنْشَأَ جَمَالِهِ، وَفِي كُلِّ كَامِلٍ أَجَلَّهُ مَصْدَرَ كَمَالِهِ، وَفِي كُلِّ بَدِيعٍ مَالَ إِلَيْهِ
إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا | وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ |
وَرُؤْيَةِ إِبْدَاعِهِ فِي كُلِّ بَدِيعٍ، وَمَعْرِفَةِ كَمَالِهِ فِي كُلِّ كَامِلٍ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [٣٢: ٧] هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٥٧: ٣] وَأَمَّا حُبُّهُ - تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ - لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَتَّبِعُونَ رَسُولَهُ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ حُبِّهِ وَعِبَادَتِهِ، فَهُوَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ الْإِلَهِيَّةِ فِي عِبَادِهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ ذَاقَهُ، وَعَرَفَ وَصْلَ الْحَبِيبِ وَفِرَاقَهُ، وَصَارَ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَتِهِ، وَمَجْلًى مِنْ مَجَالِي إِبْدَاعِهِ، وَمَصْدَرًا مِنْ مَصَادِرِ الْخَيْرِ فِي عِبَادِهِ، وَرُوحًا مِنْ أَرْوَاحِ النِّظَامِ فِي خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللهِ، وَتَحَقَّقَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ - جَلَّ عُلَاهُ -، حَتَّى صَارَ فِي نَفْسِهِ مِنْ خُلَفَاءِ اللهِ، كَمَا أَرْشَدَهُ كِتَابُ اللهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْإِفْصَاحُ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ لَا بِالْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَذُوقُهُ مَنْ أَحَبَّ اللهَ، وَعَرَفَ كَيْفَ يُعَامِلُ مَنْ أَحَبَّهُ وَاصْطَفَاهُ، فَاعْمَلْ لِذَلِكَ لِتَعْرِفَ مَا هُنَالِكَ.
تَحَبَّبْ فَإِنَّ الْحُبَّ دَاعِيَةُ الْحُبِّ | وَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ مُسْتَوْجِبُ الْقُرْبِ |
فِي دَعْوَى حُبِّهِ لِلَّهِ، وَجَدِيرًا بِأَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا مِنْهُ - جَلَّ عُلَاهُ -، أَتْبَعَ ذَلِكَ ذِكْرَ مَنْ أَحَبَّهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الرُّسُلَ الَّذِينَ يُبَيِّنُونَ طَرِيقَ مَحَبَّتِهِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِهِ مَعَ طَاعَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيِ اخْتَارَهُمْ وَجَعَلَهُمْ صَفْوَةَ الْعَالَمِينَ وَخِيَارَهُمْ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فِيهِمْ، فَآدَمُ أَوَّلُ الْبَشَرِ ارْتِقَاءً إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَمَا تَنَقَّلَ فِي الْأَطْوَارِ إِلَى مَرْتَبَةِ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ اصْطَفَاهُ - تَعَالَى - وَاجْتَبَاهُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [٢٠: ١٢٢] فَكَانَ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَكَانَ فِي ذُرِّيَّتِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مَنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -، وَأَمَّا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ حَدَثَ عَلَى عَهْدِهِ ذَلِكَ الطُّوفَانُ الْعَظِيمُ فَانْقَرَضَ مِنَ السَّلَائِلِ الْبَشَرِيَّةِ مَنِ انْقَرَضَ وَنَجَا هُوَ وَأَهْلُهُ فِي الْفُلْكِ، فَكَانَ بِذَلِكَ أَبًا ثَانِيًا لِلْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ هُوَ نَبِيًّا مُرْسَلًا وَجَاءَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَانْتَشَرَتْ وَفَشَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ حَتَّى ظَهَرَ فِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا مُرْسَلًا وَخَلِيلًا مُصْطَفًى، وَتَتَابَعَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ آلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ أَرْفَعُهُمْ قَدْرًا وَأَنْبَهُهُمْ ذِكْرًا آلُ عِمْرَانَ قَبْلَ أَنْ تُخْتَمَ النُّبُوَّةُ بِوَلَدِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ قِيلَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ مِنْ مَادَّةِ ذَرَأَ الْمَهْمُوزَةِ ; أَيْ خَلَقَ، كَمَا أَنَّ الْبَرِيَّةَ مِنْ مَادَّةِ بَرَأَ، وَقِيلَ: مِنْ مَادَّةِ ذَرَوَ، فَأَصْلُهَا ذُرْوِيَّةٌ، وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الذَّرِّ وَأَصْلُهَا فُعْلِيَّةٌ كَقُمْرِيَّةٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالذُّرِّيَّةُ أَصْلُهَا الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَأَصْلُهُ الْجَمْعُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَ الذُّرِّيَّةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ خِلَافًا لِعُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْمَشْهُورُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ الْأَوْلَادُ فَقَطْ، فَقَوْلُهُ: بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ظَاهِرٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيُخَصُّ عَلَى الثَّانِي بِآلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ اصْطِفَائِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [٩: ٦٧] وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ. أَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُشْبِهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٦: ٨٤ - ٨٧] وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَيْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ سَمِيعًا لِقَوْلِ امْرَأَةِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَرَدَ ذِكْرُ عِمْرَانَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّتَيْنِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُرُودِهِمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَبُو مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَالثَّانِي أَبُو مَرْيَمَ (عَلَيْهَا الرِّضْوَانُ) وَبَيْنَهُمَا نَحْوُ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وَذِكْرُ تَفْصِيلِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْيَهُودِ. وَقَالَ: وَالْمَسِيحِيُّونَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَبَا مَرْيَمَ يُدْعَى عِمْرَانَ وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ حَقِيقَةٍ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ سَنَدٌ لِنَسَبِ الْمَسِيحِ يُحْتَجُّ بِهِ، فَهُوَ كَسِلْسِلَةِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْمُتَصَوِّفَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِعَلِيٍّ أَوْ بِالصِّدِّيقِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ نَسَبَ الْمَسِيحِ فِي إِنْجِيلَيْ مَتَّى وَلُوقَا مُخْتَلٌّ، وَلَوْ كُتِبَ عَنْ عِلْمٍ لَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى قَالُوا: إِنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ، بَلِ التَّحَسُّرُ وَالتَّحَزُّنُ وَالِاعْتِذَارُ. فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهَا نَذَرَتْ تَحْرِيرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللهِ وَالِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ فِيهِ، وَالْأُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ عَادَةً لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ أَيْ بِمَكَانَةِ الْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْهَا وَأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّكُورِ ; فَفِيهِ دَفْعٌ لِمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهَا مِنْ خِسَّةِ الْمَوْلُودَةِ وَانْحِطَاطِهَا عَنْ مَرْتَبَةِ الذُّكُورِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْ أَوْ تَمَنَّتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْ، بَلْ هَذِهِ الْأُنْثَى خَيْرٌ مِمَّا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الذَّكَرِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ (وَضَعْتُ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهَا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا.
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى الْغَيْرِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ، فَمَعْنَى أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَلْجَأُ إِلَيْهِ وَأَعْتَصِمُ بِهِ مِنْهُ، وَأَعَاذَهُ بِهِ مِنْهُ جَعَلَهُ مُعَاذًا لَهُ يَمْنَعُهُ وَيَعْصِمُهُ مِنْهُ، وَالْإِعَاذَةُ بِاللهِ تَكُونُ بِالدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ، وَالرَّجِيمُ: الْمَطْرُودُ عَنِ الْخَيْرِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَاللَّفْظُ هُنَا لْمُسْلِمٍ كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا وَفَسَّرَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَسَّ هُنَا: بِالطَّمَعِ فِي الْإِغْوَاءِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ. وَلَعَلَّ الْبَيْضَاوِيَّ يَرْمِي إِلَى ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَدِيثُ شَقِّ الصَّدْرِ وَغَسْلِ الْقَلْبِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي التَّمْثِيلِ، وَلَعَلَّ
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حَدِيثَ اسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَنَحْوَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُنَافِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [١٥: ٤٢] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفْوَةُ عِبَادِهِ وَخَاتَمُ رُسُلِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَنْفِي سُلْطَةَ الشَّيْطَانِ عَنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ آنٍ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ تَنْفِي السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَا أَصْلَ الْوَسْوَسَةِ، فَإِذَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ وَلَمْ تُطَعْ وَسْوَسَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُلْطَانٌ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْوَسْوَسَةِ وَلَا إِلَى الْأَمْرِ بِالشَّرِّ قَطُّ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عُلْيَا لَا يَرْتَقِي إِلَيْهَا كُلُّ عِبَادِ اللهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِسْلَامُ شَيْطَانِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ مَا، وَلَكِنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ وَطَمَعٌ، فَزَالَ وَغَلَبَهُ نُورُ النُّبُوَّةِ حَتَّى يَئِسَ وَزَالَ حَظُّهُ فَلَمْ يَعُدْ يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ أَوْ أَسْلَمَ كَمَا وَرَدَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ حَدِيثَ مَرْيَمَ وَعِيسَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مُمْتَازَيْنِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يَطْمَعُ فِيهِ وَلَمْ يَطْمَعْ
فِيهِمَا، وَهَذَا مَا يُشَاغِبُ بِهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَفْضِيلِ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْبَشَرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ كِتَابَ هَؤُلَاءِ الدُّعَاةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا مَا نَصُّهُ:
" [١] أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الْأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَكَانَ يَقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ [٢] أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ، وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا [٣] وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ لِهَذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا [٤] فَأَجَابَهُ يَسُوعُ قَائِلًا مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ [٥] ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ [٦] وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ لَكَ أُعْطِي هَذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ لِأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ [٧] فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ [٨] فَأَجَابَهُ يَسُوعُ وَقَالَ اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلَهَكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ [٩] ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورْشَلِيمَ وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكْ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ [١٠] لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ [١١] وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لَا تُصْدَمَ بِحَجْرٍ رِجْلُكَ [١٢] فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ إِنَّهُ قِيلَ لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ [١٣] وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ ". اهـ.
فَهَذَا صَرِيحٌ كَانَ يُوَسْوِسُ لِلْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى يَحْمِلَهُ وَيَأْخُذَهُ
هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُحَقَّقُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَخَيْرُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ
وَالْمُرْسَلُونَ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَرْيَمَ وَعِيسَى مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَمْسَسْهُمَا وَحَدِيثِ إِسْلَامِ شَيْطَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدِيثِ إِزَالَةِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِهِ فَهُوَ مِنَ الْأَخْبَارِ الظَّنِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ. وَلَمَّا كَانَ مَوْضُوعُهَا عَالَمَ الْغَيْبِ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ مِنْ قِسْمِ الْعَقَائِدِ، وَهِيَ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا بِالظَّنِّ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [٥٣: ٢٨] كُنَّا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ الْإِيمَانَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي عَقَائِدِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ فِيهَا بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ لِمَنْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فَلَا نَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّةِ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَلَا فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ حَظِّهِ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ حَقٌّ وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةٍ لِمَرْيَمَ وَابْنِهَا وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ مِنْ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي وَحْدَهَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ; إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مِنَ الْمَزَايَا مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، فَلَيْسَتْ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; لِأَنَّ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُمَا بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخِلَّةِ وَالتَّكْلِيمِ يَعْلُو كَوْنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَمَسَّهُمَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ ; عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ - تَعَالَى - تَقَبَّلَ مِنْ أُمِّهَا إِعَاذَتَهَا وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذِهِ الْإِعَاذَةُ قَدْ كَانَتْ بَعْدَ وِلَادَتِهَا وَالْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُنْثَى، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَسَّ يَكُونُ عِنْدَ الْوَضْعِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِمَا.
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ أَيْ تَقَبَّلَ مَرْيَمَ مِنْ أُمِّهَا وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّرَةً لِلِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (قَبْلِهَا) وَزَادَهُ مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا وَصْفُهُ بِالْحُسْنِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَبِلَهَا رَبُّهَا أَبْلَغَ قَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أَيْ رَبَّاهَا وَنَمَّاهَا فِي خَيْرِهِ وَرِزْقِهِ وَعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ تَرْبِيَةً حَسَنَةً شَامِلَةً لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ كَمَا تُرَبَّى الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ حَتَّى تَنْمُوَ وَتُثْمِرَ الثَّمَرَةَ الصَّالِحَةَ لَا يُفْسِدُ طَبِيعَتَهَا شَيْءٌ ; وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ عَنِ التَّرْبِيَةِ بِالْإِنْبَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا شَائِبَةَ فِيهَا، وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ الْقَبُولَ مَصْدَرُ " قَبِلَ " لَا " تَقَبَّلَ " وَالنَّبَاتُ مَصْدَرٌ لِـ " نَبَتَ " لَا لِـ " أَنْبَتَ " وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُخْرِجُ الْمَصْدَرَ أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ صِيغَةِ الْفِعْلِ، وَالشَّوَاهِدُ
كَافِلًا لَهَا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ ظَاهِرٌ، وَقَرَءُوا (زَكَرِيَّا) بِالْقَصْرِ وَبِالْمَدِّ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْمُصَلَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مُقَدَّمِ الْمَجْلِسِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى مِحْرَابًا إِلَّا إِذَا كَانَ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِالسَّلَالِيمِ. وَأَقُولُ: الْمِحْرَابُ هُنَا هُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْمَذْبَحِ، وَهُوَ مَقْصُورَةٌ فِي مُقَدَّمِ الْمَعْبَدِ لَهَا بَابٌ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِسُلَّمٍ ذِي دَرَجَاتٍ قَلِيلَةٍ وَيَكُونُ مَنْ فِيهِ مَحْجُوبًا عَمَّنْ فِي الْمَعْبَدِ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالُوا: كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ. وَاللهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَا قَالَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا هُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ تَارِيخٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مُتَعَارِضَةٌ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَا فِيهَا، وَمِمَّا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا وَإِنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى حَمْلِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى نَجَّارٍ مِنْهُمْ، فَكَانَ يَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ بِمَا يُصْلِحُهَا فَيُنَمِّيهِ اللهُ وَيُكَثِّرُهُ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا فَيَجِدَ عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ أَيْ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ الْأَيَّامُ أَيَّامُ قَحْطٍ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَازِقِ النَّاسِ بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا تَوَقُّعٍ مِنَ الْمَرْزُوقِ، أَوْ رِزْقًا وَاسِعًا (رَاجِعْ آيَةَ ٢٧) وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِسْنَادُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرَ إِلَى اللهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مَعْهُودٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ سَائِغًا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى عَنَاءٍ وَلَا ذَهَابٍ فِي الدِّفَاعِ عَنْ شَيْءٍ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَعَلَيْنَا أَلَّا نَخْرُجَ عَنْ سُنَّتِهِ وَلَا نُضِيفَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ إِسْرَائِيلِيَّةً أَوْ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيَّةٍ لِجَعْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ الرِّزْقِ مَا هُوَ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ فُضُولٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَلَا لِمَزِيدِ الْعِبْرَةِ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ فِي بَيَانِهِ خَيْرًا لَنَا لَبَيَّنَهُ.
أَمَّا مَا سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَبْحَثَ فِيهِ، وَنَسْتَخْرِجَ الْعِبَرَ مِنْ قَوَادِمِهِ وَخَوَافِيهِ، فَهُوَ تَقْرِيرُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَحْضُ شُبَهِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ احْتَكَرُوا فَضْلَ اللهِ وَجَعَلُوهُ خَاصًّا بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَشُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ
الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ لِأَنَّهُ بَشَرٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ هُوَ تَقْرِيرُ عَقِيدَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَهَمُّ مَسَائِلِهَا مَسْأَلَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالْأَنْبِيَاءِ.
رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ بِجَعْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَتَمْكِينِهِ هُوَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ تَسْخِيرِهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ اصْطِفَاءِ نُوحٍ وَجَعْلِهِ أَبَا الْبَشَرِ الثَّانِي وَجَعْلِ ذُرِّيَّتِهِ هُمُ الْبَاقِينَ، وَمِنَ اصْطِفَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ عَلَى الْبَشَرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُونَ يَفْخَرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يَفْخَرُ الْآخَرُونَ بِاصْطِفَاءِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَفِيدِ إِبْرَاهِيمَ، فَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُرْشِدُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اصْطَفَى هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ مَزِيَّةٍ سَبَقَتْ مِنْهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَهُ فِي اصْطِفَاءِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَبِذَلِكَ اصْطَفَى هَؤُلَاءِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، فَمَا الْمَانِعُ بِهِ مِنَ اصْطِفَاءِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْعَالَمِينَ كَمَا اصْطَفَى أُولَئِكَ؟ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ أَنْ بَعَثَ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ وُجُودِهِمْ. قُلْنَا وَلِمَ اصْطَفَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ؟ بَلَى وَبِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ اصْطَفَى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ الْمُثُلُ مَسْبُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَصْطَفِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ شَاءَ اصْطَفَاهُ فَاصْطَفَاهُ بِالْفِعْلِ فَهُوَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ بِالْفِعْلِ ; إِذْ جَعَلَهُ هَادِيًا لِلنَّاسِ مُخْرِجًا لَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ وَالْفَسَادِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ الْجَامِعِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ أَثَرُ غَيْرِهِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَظْهَرَ مِنْ أَثَرِهِ، بَلْ أَثَرُهُ أَظْهَرُ وَنُورُهُ أَسْطَعُ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى
كُلِّ عَبْدٍ مُصْطَفًى - وَهَذَا بَيَانٌ لِوَجْهِ اتِّصَالِ الْقِصَّةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْمُثُلِ قِصَّةُ مَرْيَمَ فَإِنَّ أُمَّهَا إِذَا كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ وَهِيَ عَاقِرٌ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ كَمَا نُقِلَ، أَوْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ قَبُولُ الْأُنْثَى مُحَرَّرَةً لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَقَبَّلَهُ اللهُ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللهُ مُحَمَّدًا مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْآتِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ أَعْمَالَهُ - تَعَالَى - لَا تَأْتِي دَائِمًا عَلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ وَيَأْلَفُونَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عِنْدَمَا رَأَى زَكَرِيَّا حُسْنَ حَالِ مَرْيَمَ وَمَعْرِفَتَهَا وَإِضَافَتَهَا الْأَشْيَاءَ إِلَيْهِ دَعَا رَبَّهُ مُتَمَنِّيًا لَوْ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ مِثْلُهَا هِبَةً مِنْ لَدُنْهُ - تَعَالَى - وَمِنْ مَحْضِ فَضْلِهِ (وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ لَدُنْ وَلَدَى) وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ (هُنَالِكَ) بِالزَّمَانِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ فِيهَا أَنَّهَا لِلْمَكَانِ ; أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي خَاطَبَتْهُ فِيهِ مَرْيَمُ بِمَا ذَكَرَ، دَعَا رَبَّهُ، وَرُؤْيَةُ الْأَوْلَادِ النُّجَبَاءِ تُشَوِّقُ نَفْسَ الْقَارِئِ وَتُهَيِّجُ تَمَنِّيهِ لَوْ يَكُونُ لَهُ مِثْلُهُمْ، وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ الَّذِي بَعَثَ زَكَرِيَّا إِلَى الدُّعَاءِ هُوَ رُؤْيَةُ فَاكِهَةِ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَعَكْسُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قُبَيْلَ مَجِيءِ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ
يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ زَكَرِيَّا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِإِمْكَانِ الْخَوَارِقِ وَلَا يَقُولُ بِهَذَا مُؤْمِنٌ بِنُبُوَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ تَعَجُّبَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ قَدْ يُشْعِرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ امْتِنَاعَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْخَوَارِقِ هِيَ الَّتِي أَثَارَتْ فِي نَفْسِهِ هَذَا الدُّعَاءَ، ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي مَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ وَهَذَا التَّعَجُّبِ مِنَ اسْتِجَابَتِهِ أَحْسَنَ قَوْلٍ. وَهَاكَهُ بِالْمَعْنَى مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ: إِنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأَى مَا رَآهُ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى مَرْيَمَ فِي كَمَالِ إِيمَانِهَا وَحُسْنِ حَالِهَا وَلَا سِيَّمَا اخْتِرَاقُ شُعَاعِ بَصِيرَتِهَا لِحُجُبِ الْأَسْبَابِ، وَرُؤْيَتُهَا أَنَّ الْمُسَخِّرَ لَهَا هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَخَذَ عَنْ نَفْسِهِ، وَغَابَ عَنْ حِسِّهِ، وَانْصَرَفَ عَنِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ، وَاسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي مُلَاحَظَةِ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ. فَنَطَقَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الدُّعَاءُ جَدِيرًا بِأَنْ يُسْتَجَابَ إِذَا جَرَى بِهِ اللِّسَانُ بِتَلْقِينِ الْقَلْبِ فِي حَالِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي الشُّعُورِ بِكَمَالِ الرَّبِّ، وَلَمَّا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ فِي عَالَمِ الْوَحْدَةِ إِلَى عَالَمِ الْأَسْبَابِ
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فَنَادَاهُ الْمَلَائِكَةُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِمَالَةِ، وَالْبَاقُونَ (فَنَادَتْهُ) بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أَيْ جَمَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْعَرَبُ تُؤَنِّثُ وَتُذَكِّرُ الْمُسْنَدَ إِلَى جَمْعِ الذُّكُورِ الظَّاهِرِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ تَاءٌ كَالطَّلْحَاتِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ يَتَّفِقُ مَعَ الْقِرَاءَتَيْنِ، لِأَنَّهُ رُسِمَ فِيهِ بِالْيَاءِ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ هَكَذَا " فَنَادَهُ " وَمِنْ سُنَّتِهِ رَسْمُ الْأَلِفِ الْمُمَالَةِ يَاءً لِأَنَّهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْهَا، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ مَلَكُ الْوَحْيِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تُخْبِرُ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ يُقَالُ: خَرَجَ فُلَانٌ عَلَى بِغَالِ الْبَرِيدِ، وَإِنَّمَا رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَرَكِبَ السُّفُنَ وَإِنَّمَا رَكِبَ سَفِينَةً وَاحِدَةً، وَكَمَا يُقَالُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الْخَبَرَ؟ فَيُقَالُ: مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [٣: ١٧٣] وَالْقَائِلُ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ فَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَادَتْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا
جَمَاعَةٌ دُونَ الْوَاحِدِ وَجِبْرِيلُ وَاحِدٌ. فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ يُحْمَلَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَلْسُنِ الْعَرَبِ دُونَ الْأَقَلِّ مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَلَمْ تَضْطَرُّنَا حَاجَةٌ إِلَى صَرْفِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُحْتَاجُ لَهُ إِلَى طَلَبِ الْمَخْرَجِ بِالْخَفِيِّ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَعَانِي، وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ. اهـ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادَرِ عِنْدِي أَنَّهُ نُودِيَ وَهُوَ قَائِمٌ يَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِأَطْوَلَ مِمَّا هُنَا، فَالصَّلَاةُ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ صَلَاةٌ، وَقَدْ عَطَفَ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ وَحِكَايَةُ مَا قَبْلَهُ صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ الدُّعَاءِ وَقَعَ فِي الْمِحْرَابِ الَّذِي كَانَتْ مَرْيَمُ فِيهِ، فَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَهُمْ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَيُّ دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ وَلَا دُعَاءَ؟ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى أَيْ بِوَلَدٍ اسْمُهُ يَحْيَى كَمَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى [١٩: ٧] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ " إِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْبَاءِ، أَيْ نَادَتْهُ بِأَنَّ اللهَ يُبَشِّرُهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْبِشَارَةَ مَحْكِيَّةٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَمَا هُنَا لَا يُنَافِي مَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ مِنَ التَّفْصِيلِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُبْشُرُكَ) كَـ " يَنْصُرُكَ " وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَ " يَحْيَى " تَعْرِيبٌ لِكَلِمَةِ " يُوحَنَّا " فِي لُغَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاةِ، فَالِاسْمُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً بِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِوَالِدِهِ وَمِنْ آلِ يَعْقُوبَ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْفَضْلِ، وَقَدْ وَصَفَ - تَعَالَى - هَذَا الْمُبَشَّرَ بِهِ بِعِدَّةِ صِفَاتٍ وَرَدَتْ حَالًا مِنْهُ وَهِيَ قَوْلُهُ:
الْكَتُومِ لِلْأَسْرَارِ وَعَلَى مَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْعِنَّةِ أَوْ لِلْعِفَّةِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا ; وَلِذَلِكَ بَحَثُوا فِي كَوْنِ تَرْكِ التَّزَوُّجِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الرَّازِيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ أَفْضَلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرَةً فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّزَوُّجِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ يَحْيَى بِأَفْضَلَ مِنْ أَبِيهِ وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَسُنَّةُ النِّكَاحِ أَفْضَلُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ لِأَنَّهَا قِوَامُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَسَبَبُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ وَخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ اللهِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ نَبِيًّا مَعْرُوفٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّالِحِينَ أَوْ مِنَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالُوا: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّعَجُّبِ، وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَا قِيلَ فِيهِ. وَلِبَعْضِهِمْ كَلَامٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَلَا يَمْنَعُ مَانِعٌ مَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ تَشَوُّفًا إِلَى مَعْرِفَةِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِنْتَاجُ مَعَ عَدَمِ تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لَهُ بِكِبَرِ سِنِّهِ وَعُقْرِ زَوْجِهِ (قَالَ) - تَعَالَى - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَإِنَّهُ مَتَى شَاءَ أَمْرًا أَوْجَدَ لَهُ سَبَبَهُ، أَوْ خَلَقَهُ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَحُولُ دُونَ مَشِيئَتِهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُفَوِّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً تَتَقَدَّمُ هَذِهِ الْعِنَايَةَ وَتُؤْذِنُ بِهَا، وَمِنْ سَخَافَاتِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ الَّتِي أَوْمَأْنَا إِلَيْهَا آنِفًا زَعْمُهُمْ أَنَّ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَحَيُّ الْمَلَائِكَةِ وَنِدَاؤُهُمْ بِوَحْيِ الشَّيَاطِينِ ; وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُؤَالَ التَّعَجُّبِ، ثُمَّ طَلَبَ آيَةً لِلتَّثَبُّتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي شَكَّكَهُ فِي نِدَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَلَوْلَا الْجُنُونُ بِالرِّوَايَاتِ مَهْمَا هَزُلَتْ وَسَمُجَتْ لَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَكْتُبَ مِثْلَ هَذَا الْهُزْءِ وَالسُّخْفِ الَّذِي يَنْبِذُهُ الْعَقْلُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَرْوِي مِثْلَ هَذَا إِلَّا هَذَا لَكَفَى فِي جَرْحِهِ،
وَأَنْ يُضْرَبَ بِرِوَايَتِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَعَفَا اللهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ إِذْ جَعَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِمَّا يُنْشَرُ. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ تَعْجِزَ
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ
عِمْرَانَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ هَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ بِشَرْعٍ خُصَّتْ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْهَامٌ بِمَكَانَتِهَا عِنْدَ اللهِ رُبَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّكْرِ بِدَوَامِ الْقُنُوتِ وَالصَّلَاةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُكَرَّمٌ اجْتَهَدَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَرَامَتِهِ وَتَبَاعَدَ أَشَدَّ التَّبَاعُدِ عَنْ كُلِّ مَا يُنْقِصُ مِنْهَا، فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ قَدْ زَادَهَا - بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ - تَعَلُّقًا بِالْكَمَالِ كَمَا زَادَهَا رُوحَانِيَّةً بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَمَدَّتْ رُوحَهَا الطَّاهِرَةَ، وَالِاصْطِفَاءُ الْأَوَّلُ هُوَ قَبُولُهَا مُحَرَّرَةً لِخِدْمَةِ اللهِ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالرِّجَالِ، وَالتَّطْهِيرُ قَدْ فُسِّرَ بِعَدَمِ الْحَيْضِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ أَهْلًا لِمُلَازَمَةِ الْمِحْرَابِ وَهُوَ أَشْرَفُ مَكَانٍ فِي الْمَعْبَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَةَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ مَا كَانَتْ تَحِيضُ وَأَنَّهَا لِذَلِكَ لُقِّبَتْ بِالزَّهْرَاءِ. وَقَالَ الْجَلَالُ: إِنَّهُ التَّطْهِيرُ مِنْ مَسِيسِ
يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أَيِ الْزَمِي طَاعَتَهُ مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ السُّجُودُ: التَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّلُ. وَالرُّكُوعُ: الِانْحِنَاءُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي لَازِمِهِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُشُوعُ فِي الْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَرُكُوعُهَا مَعَ الرَّاكِعِينَ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاتِهَا مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَعْبَدِ وَقَدْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمِحْرَابِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ أُطْلِقَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي صَلَاتِنَا عَلَى الْعَمَلِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ إِذِ الدِّينُ يُطَالِبُنَا بِالْخُشُوعِ وَاسْتِشْعَارِ التَّوَاضُعِ فِي هَذَا الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَامُنِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الْيَهُودِ كَصَلَاتِنَا فِي أَعْمَالِهَا وَصُورَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ طُولِبُوا فِيهَا بِمِثْلِ مَا طُولِبْنَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلَّهِ - تَعَالَى -.
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَخْبَارِ مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ لَمْ تَشْهَدْهُ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ، وَلَمْ تَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا نَحْنُ نُوحِيهِ إِلَيْكَ بِإِنْزَالِ الرُّوحِ الْأَمِينِ الَّذِي خَاطَبَ مَرْيَمَ وَزَكَرِيَّا بِمَا خَاطَبَهُمَا بِهِ عَلَى قَلْبِكَ، وَإِلْقَائِهِ فِي رَوْعِكَ خَبَرَ مَا وَقَعَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَضَمِيرُ نُوحِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْغَيْبِ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيْ قِدَاحَهُمُ الْمَبْرِيَّةَ، فَالسِّهَامُ وَالْأَزْلَامُ الَّتِي يَضْرِبُونَ بِهَا الْقُرْعَةَ وَيُقَامِرُونَ تُسَمَّى أَقْلَامًا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أَيْ يَسْتَهِمُونَ بِهَذِهِ الْأَقْلَامِ وَيَقْتَرِعُونَ عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ، حَتَّى قَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَانَ كَافِلَهَا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى كَفَالَتِهَا إِلَّا بَعْدَ الْقُرْعَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعْقَبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَأَخَّرَ خَبَرَ إِلْقَاءِ الْأَقْلَامِ لِكَفَالَةِ مَرْيَمَ وَذَكَرَهُ فِي سِيَاقِ نَفْيِ حُضُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [١٦: ١٠٣] وَرَدَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا إِذْ رَأَوْهُ يَقِفُ عَلَى قَيْنِ (حَدَّادٍ) رُومِيٍّ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ الْقَيْنُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَأَنَّى لِلْقَيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا؟ فَالْقُرْآنُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ ; إِذِ الْأُمِّيُّ النَّاشِئُ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى أَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ مِنْ حَدَّادٍ وَلَا مِنْ عَالِمٍ كَحَبْرٍ أَوْ رَاهِبٍ بِمُجَرَّدِ وُقُوفِهِ عَلَيْهِ أَوِ اجْتِمَاعِهِ بِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ عَقْلًا لَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ أَنْ يَثِقَ بِحِفْظِ ذَلِكَ الْقَيْنِ - أَوْ غَيْرِ الْقَيْنِ - وَبِأَمَانَتِهِ وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَمَالِ عَقْلِهِ وَسُمُوِّ إِدْرَاكِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ إِتْيَانَهُ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّا يُؤَكِّدُ دَفْعَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ الْوَاهِيَةِ، وَيُدَعِّمُ ذَلِكَ الْأَصْلَ الرَّاسِخَ وَهُوَ كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ ; كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [١١: ٤٩] وَقَدْ سَمِعَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَسَائِرَ سُورَتِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَلْ كُنَّا نَعْلَمُهَا، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [٢٨: ٤٤] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
أَمَّا الْمُجَاحِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا سِيَّمَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنُ بِهِ كُتُبَهُمْ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهَا بِدَلِيلِ مُوَافَقَتِهِ لَهَا، وَفِيمَا خَالَفَهَا إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَالَفَهَا، وَفِيمَا لَمْ يُوَافِقْهَا وَلَمْ يُخَالِفْهَا بِهِ إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَنَا، وَهَذَا مُنْتَهَى مَا يُكَابِرُ بِهِ مُنَاظِرٌ مُنَاظِرًا، وَأَبْطَلُ مَا يَرُدُّ بِهِ خَصْمٌ عَلَى خَصْمٍ. وَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا نَحْتَجُّ عَلَى أَنَّ
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
مَعَهُ غَيْرُهُ. وَفِي لَفْظِ كَلِمَةٍ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ لَا كَلِمَةُ الْوَحْيِ ; ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَكَيْفِيَّةِ صُدُورِهِ عَنِ الْبَارِي - عَزَّ وَجَلَّ - مِمَّا يَعْلُو عُقُولَ الْبَشَرِ عَبَّرَ عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦: ٨٢] فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا، وَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ خُلِقَ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ فَلِمَاذَا خَصَّ الْمَسِيحَ بِإِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُنْسَبُ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ الْعَامِّ فِي الْبَشَرِ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَلَمَّا فُقِدَ فِي تَكْوِينِ الْمَسِيحِ وَعُلُوقِ أُمِّهِ بِهِ مَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِلْعُلُوقِ، وَهُوَ تَلْقِيحُ مَاءِ الرَّجُلِ لِمَا فِي الرَّحِمِ مِنَ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْجَنِينُ أُضِيفَ هَذَا التَّكْوِينُ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ، وَأُطْلِقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْمُكَوَّنِ إِيذَانًا بِذَلِكَ، أَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْكَلِمَةِ مُبَالَغَةً، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْمَسِيحِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى بِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، فَهُوَ قَدْ عُرِفَ بِكَلِمَةِ اللهِ، أَيْ بِوَحْيِهِ لِأَنْبِيَائِهِ. قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [٣٧: ١٧١] إِلَخْ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْكَلِمَةِ لِمَزِيدِ إِيضَاحِهِ لِكَلَامِ اللهِ الَّذِي حَرَّفَهُ قَوْمُهُ الْيَهُودُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَجَعَلُوا الدِّينَ مَادِّيًّا مَحْضًا، قَالَهُ الرَّازِيُّ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ وَصْفِ النَّاسِ لِلسُّلْطَانِ الْعَادِلِ بِظِلِّ اللهِ وَنُورِ اللهِ ; لِمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِظُهُورِ ظِلِّ الْعَدْلِ وَنُورِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: فَكَذَلِكَ كَانَ عِيسَى سَبَبًا لِظُهُورِ كَلَامِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِسَبَبِ كَثْرَةِ بَيَانَاتِهِ لَهُ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَاتِ وَالتَّحْرِيفَاتِ عَنْهُ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةُ الْبِشَارَةِ لِأُمِّهِ، فَقَوْلُهُ: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ مَعْنَاهُ بِخَيْرٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِشَارَةٍ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَلْقَى إِلَيَّ فُلَانٌ كَلِمَةً سَرَّنِي بِهَا، بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي خَبَرًا فَرِحْتُ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [٤: ١٧١] يَعْنِي بُشْرَى اللهِ مَرْيَمَ بِعِيسَى أَلْقَاهَا إِلَيْهَا، قَالَ: فَتَأْوِيلُ الْقَوْلِ وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ الْقَوْمِ إِذْ قَالَتْ
الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى فُلَانٍ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْبِشَارَةِ. فَذُكِرَتْ كِنَايَتُهَا كَمَا تُذْكَرُ كِنَايَةُ الذُّرِّيَّةِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَلْقَابِ إِلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
أَمَّا لَفْظُ " الْمَسِيحِ " فَمُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ الْعِبْرَانِيُّ: " مشيحا " بِالْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ الْمَسِيحُ وَهُوَ لَقَبُ الْمَلِكِ عِنْدَهُمْ ; لِمَا مَضَتْ بِهِ تَقَالِيدُهُمْ مِنْ مَسْحِ الْكَاهِنِ كُلَّ مَنْ يَتَوَلَّى الْمُلْكَ بِالدُّهْنِ الْمُقَدَّسِ، وَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنْ تَوْلِيَةِ الْمُلْكِ بِالْمَسْحِ وَعَنِ الْمَلِكِ بِالْمَسِيحِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ بَشَّرُوهُمْ بِمَسِيحٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَلِكٌ يُعِيدُ إِلَيْهِمْ مَا فَقَدُوا مِنَ السُّلْطَانِ فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا ظَهَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسُمِّيَ بِالْمَسِيحِ آمَنَ بِهِ قَوْمٌ وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا يَزَالُ سَائِرُ الْيَهُودِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْبِشَارَةَ لَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ مَلِكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَعْنَى صِدْقِ لَفْظِ الْمَسِيحِ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُوَلُّونَ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ تَقْرِيرِ الْعَدْلِ فِيهِمْ وَرَفْعِ أَثْقَالِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَقَدْ فَعَلَ الْمَسِيحُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عِنْدَ بِعْثَتِهِ فِيهِمْ مُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَخَاضِعِينَ لِأَفْهَامِ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِيسِيِّينَ وَأَوْهَامِهِمْ حَتَّى أَرْهَقَهُمْ ذَلِكَ عُسْرًا وَتَرَكَهُمْ يَئِنُّونَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَثْقَالِ التَّكَالِيفِ، فَرَفَعَ الْمَسِيحُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى مَقَاصِدِ الدِّينِ وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْأُخُوَّةِ الرَّافِعَةِ لِلظُّلْمِ. أَقُولُ: وَقَدْ نَقَلُوا عَنْهُ مَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ مَمْلَكَتَهُ رُوحَانِيَّةٌ لَا جَسَدِيَّةٌ. وَقَدْ لَاحَ لِي عِنْدَ الْكِتَابَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى يُرَادُ بِهِ أَنَّ لَفْظَ الْمَسِيحِ هُنَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ لَا مَجْرَى الْوَصْفِ، وَالْعِلْمُ الْمُشْتَقُّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّاهُ مُتَّصِفًا بِالْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعْمِلَ وَصْفًا، فَإِذَا وَضَعْتَ لَفْظَ " عَلِيٍّ " عَلَمًا عَلَى رَجُلٍ يَصِيرُ مَدْلُولُهُ شَخْصَ ذَلِكَ الرَّجُلِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا عِلَّةٍ أَمْ لَا، وَإِذَا سَمَّيْتَ ابْنَتَكَ " مَلِكَةً " لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُلْمَحَ الْمَعْنَى الَّذِي يُنْقَلُ لَفْظُهُ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ أَحْيَانًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بِضْعَةَ وُجُوهٍ لِتَفْسِيرِ لَفْظِ الْمَسِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَسْحِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَأَمَّا لَفْظُ " عِيسَى " فَهُوَ مُعَرَّبُ " يَشُوعَ " بِقَلْبِ الْحُرُوفِ بَعْدَ جَعْلِ الْمُعْجَمَةِ مُهْمَلَةً وَهَذَا يَكْثُرُ فِي الْمَنْقُولِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ. فَسِينُ الْمَسِيحِ وَمُوسَى شِينٌ فِي
الْعِبْرَانِيَّةِ، وَكَذَلِكَ سِينُ شَمْسٍ فَهِيَ عِنْدُهُمْ بِمُعْجَمَتَيْنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (ابْنُ مُرْيَمَ) مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ لَهَا، إِعْلَامًا لَهَا بِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلِذَلِكَ قَالَتْ بَعْدَ الْبِشَارَةِ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ؟ إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي وَصْفِهِ: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَكُونُ ذَا وَجَاهَةٍ وَكَرَامَةٍ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَوْنَ الْمَسِيحِ ذَا جَاهٍ وَمَكَانَةٍ فِي الْآخِرَةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا وَجَاهَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ قَدْ تَكُونُ مَوْضِعَ إِشْكَالٍ ; لِمَا عُرِفَ مِنَ امْتِهَانِ الْيَهُودِ لَهُ وَمُطَارَدَتِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى فَقْرِهِ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ سَهْلٌ، وَهُوَ أَنَّ الْوَجِيهَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فِي الْقُلُوبِ وَاحْتِرَامٌ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ كَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدُومَ بَعْدَهُ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ غَيْرَ طَوِيلٍ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ مَنْزِلَةَ الْمَسِيحِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدًّا، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ هُوَ مِنَ الْحَقِّ الثَّابِتِ، وَقَدْ بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَهُ، فَهَذِهِ الْوَجَاهَةُ أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ وَجَاهَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يُحْتَرَمُونَ فِي الظَّوَاهِرِ لِظُلْمِهِمْ وَاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ أَوْ لِدِّهَانِهِمْ وَالتَّزَلُّفِ إِلَيْهِمْ، رَجَاءَ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّ هَذِهِ وَجَاهَةٌ صُورِيَّةٌ لَا أَثَرَ لَهَا فِي النُّفُوسِ إِلَّا الْكَرَاهَةَ وَالْبُغْضَ وَالِانْتِقَاصَ، وَتِلْكَ وَجَاهَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُسْتَحْوِذَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ. وَحَقِيقَةُ الْوَجَاهَةِ فِي الْآخِرَةِ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْوَجِيهُ فِي مَكَانٍ عَلِيٍّ وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ يَرَاهُ النَّاسُ فِيهَا فَيُجِلُّونَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُقَرَّبٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُحَدِّدَهَا وَنَعْرِفَ بِمَاذَا تَكُونُ.
قَالَ قَائِلٌ فِي الدَّرْسِ: إِنَّ هَذِهِ الْوَجَاهَةَ تَكُونُ بِالشَّفَاعَةِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَعَالِمٍ وَصَالِحٍ، فَمَا هِيَ مَزِيَّةُ الْمَسِيحِ إِذَنْ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الْوَجَاهَةُ
مُتَعَلِّقَةً بِالنَّاسِ وَمَا يَعُودُ مِنْ مَطَارِحِ أَنْظَارِهِمْ عَلَى شُعُورِ قُلُوبِهِمْ وَخَطِرَاتِ أَفْكَارِهِمْ قَالَ - تَعَالَى - فِيهِ: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَمَا يَنْعَكِسُ عَنْ أَنْظَارِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ هُنَاكَ إِلَى مَرَايَا قُلُوبِهِمْ حَقِيقِيٌّ فِي نَفْسِهِ.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَلَا يَضُرُّ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، وَالْكَهْلُ: الرَّجُلُ التَّامُّ السَّوِيُّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَنٍّ مُعَيَّنَةٍ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَهْدِ يُصَدَّقُ بِمَا يَكُونُ فِي سِنِّ الْكَلَامِ، وَهِيَ سَنَةٌ فَأَكْثَرُ، وَمَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ آيَةٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; لِأَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى النَّاسِ تُفِيدُ أَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ التَّفَاهُمِ، وَكَلَامُ الْأَطْفَالِ فِي الْمَهْدِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ عَادَةً. وَفِي قَوْلِهِ: وَكَهْلًا بِشَارَةً بِأَنَّهُ يَعِيشُ إِلَى أَنْ يَكُونَ
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَالْحَالُ أَنَّنِي لَمْ أَتَزَوَّجْ، فَالْمَسُّ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي وَجْهٍ، وَمَعْنَاهُ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بِزَوَاجٍ يَطْرَأُ أَمْ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ؟ ؟ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لِلتَّعَجُّبِ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَالِاسْتِعْظَامِ لِشَأْنِهِ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَيْ كَمِثْلِ هَذَا الْخَلْقِ الْبَدِيعِ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ الِاخْتِرَاعَ وَالْإِبْدَاعَ. أَقُولُ: وَعَبَّرَ هُنَا بِالْخَلْقِ وَفِي بِشَارَةِ زَكَرِيَّا بِيَحْيَى بِالْفِعْلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَلْقٌ وَفِعْلٌ، لَكِنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِيمَا يَجْرِي عَلَى قَانُونِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَفْظَ الْخَلْقِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِيجَادِ وَلَوْ بِغَيْرِ مَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَيُقَالُ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا يُقَالُ: فَعَلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمَّا كَانَ إِيجَادُ يَحْيَى بَيْنَ زَوْجَيْنِ كَإِيجَادِ سَائِرِ النَّاسِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ آيَةٌ لِزَكَرِيَّا أَنَّ هَذَيْنِ الزَّوْجَيْنِ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِمَا عَادَةً، وَأَمَّا إِيجَادُ عِيسَى فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ فِي التَّوَالُدِ ; لِأَنَّهُ مِنْ أُمٍّ غَيْرِ زَوْجٍ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَأَةِ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ أَشْبَهُ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْخَلْقِ أَلْيَقَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ رُوحَانِيٌّ جَعَلَ أُمَّهُ بِمَعْنَى الزَّوْجِ - كَمَا سَيَأْتِي - وَلَكِنَّ هَذَا السَّبَبَ غَيْرُ مَعْهُودٍ لِلنَّاسِ وَلَا مَعْرُوفٍ لَهُمْ، فَمَرْيَمُ لَا تَعْرِفُهُ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِاللهِ مُوقِنَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ; وَلِذَلِكَ أَحَالَهَا فِي الْبِشَارَةِ عَلَى مَشِيئَتِهِ لِتَكُونَ مُوقِنَةً فَقَالَ: إِذَا قَضَى أَمْرًا
أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا، كَمَا عَبَّرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.
فَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّمْثِيلِ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ، وَالتَّصْوِيرِ لِسُرْعَةِ حُصُولِ مَا يُرِيدُ بِغَيْرِ رَيْثٍ وَلَا تَأَخُّرٍ، بِتَشْبِيهِ حُدُوثِ مَا يُرِيدُهُ عِنْدَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهِ حَالًا بِطَاعَةِ الْمَأْمُورِ الْقَادِرِ عَلَى الْعَمَلِ لِلْآمِرِ الْمُطَاعِ، وَيُسَمُّونَ الْأَمْرَ بِـ (كُنْ) أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [٤١: ١١] أَيْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَا فَكَانَتَا، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُعْرَفُ بِوَحْيِ اللهِ لِأَنْبِيَائِهِ، وَقَدْ مَرَّ الْإِلْمَاعُ لِهَذَا مِنْ قَبْلُ.
وَأَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللهِ يُنْكِرُونَ الْحَمْلَ بِعِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ جُمُودًا عَلَى الْعَادَاتِ، وَذُهُولًا عَنْ كَيْفِيَّةِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ لَهُمْ إِلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَرَوْنَ مِنْ شُئُونِ الْكَوْنِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا مِنْ قَبْلُ، فَمِنْهُ مَا يَعْرِفُونَ لَهُ سَبَبًا وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالِاكْتِشَافِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ سَبَبًا وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقُولُ: إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْفَلَتَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا سَبَبٌ خَفِيٌّ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ تَهْدِيَ هَؤُلَاءِ الْجَامِدَيْنِ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا يُنْكِرُوا كُلَّ مَا يُخَالِفُهَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ لَمْ يَقِفُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْزِلُ أَمْرُ
مِنْ حَيَوَانٍ وَاحِدٍ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحُصُولِ. نَعَمْ إِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنَّ كَوْنَهُ جَائِزًا لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ بِالْفِعْلِ، وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ بِخَبَرِ الْوَحْيِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ.
وَيُمْكِنُ تَقْرِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي نِظَامِ الْكَائِنَاتِ بِوَجْهَيْنِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْقَوِيَّ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ وَيَسْتَحْوِذُ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ يُحْدِثُ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ مِنَ الْآثَارِ مَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ، فَكَمْ مِنْ سَلِيمٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُصَابٌ بِمَرَضِ كَذَا وَلَيْسَ فِي بَدَنِهِ شَيْءٌ مِنْ جَرَاثِيمِ هَذَا الْمَرَضِ، فَوَلَّدَ لَهُ اعْتِقَادُهُ تِلْكَ الْجَرَاثِيمَ الْحَيَّةَ وَصَارَ مَرِيضًا، وَكَمْ مِنَ امْرِئٍ سُقِيَ الْمَاءَ الْقَرَاحَ أَوْ نَحْوَهُ فَشَرِبَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سُمٌّ نَاقِعٌ فَمَاتَ مَسْمُومًا بِهِ، وَالْحَوَادِثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ أَثْبَتَتْهَا التَّجَارِبُ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا بِهَا فِي أَمْرِ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ نَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ لَمَّا بُشِّرَتْ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، وَهِيَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، انْفَعَلَ مِزَاجُهَا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ انْفِعَالًا فَعَلَ فِي الرَّحِمِ فِعْلَ التَّلْقِيحِ، كَمَا يَفْعَلُ الِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ فِي مِزَاجِ السَّلِيمِ فَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ، وَفِي مِزَاجِ الْمَرِيضِ فَيَبْرَأُ، وَكَانَ نَفْخُ الرُّوحِ الَّذِي وَرَدَ فِي سُورَةِ أُخْرَى مُتَمِّمًا لِهَذَا التَّأْثِيرِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ - وَإِنْ كَانَ أَخْفَى وَأَدَقَّ - وَبَيَانُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَجِيزَةٍ فِي تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَشْبَاحِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قِسْمَانِ: أَجْسَامٌ كَثِيفَةٌ وَأَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ، وَأَنَّ اللَّطِيفَ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْكَثِيفِ الْحَيِّ مَا نَرَاهُ فِيهِ مِنَ النُّمُوِّ وَالْحَرَكَةِ وَالتَّوَالُدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ النُّمُوِّ أَوْ يَكُونُ النُّمُوُّ مِنْهُ، فَلَوْلَا الْهَوَاءُ لَمَا عَاشَتْ هَذِهِ الْأَحْيَاءُ، وَالْهَوَاءُ رُوحٌ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ إِذَا تَحَرَّكَ الرِّيحُ، وَأَصْلُهَا " رِوْحُ " بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَلِأَجْلِ الْكَسْرِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَهُ، وَالْمَاءُ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ مُرَكَّبٌ مِنْ رُوحَيْنِ لَطِيفَيْنِ، وَهُوَ يَكَادُ يَكُونُ فِي حَالِ التَّرْكِيبِ وَسَطًا بَيْنَ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الثَّانِي، وَالْكَهْرُبَائِيَّةُ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَنَاهِيكَ بِفِعْلِهَا فِي الْأَشْبَاحِ، فَهَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ اللَّطِيفَةُ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا أَرْوَاحًا هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ مُعْظَمَ التَّغَيُّرِ الَّذِي نُشَاهِدُهُ فِي الْكَوْنِ، حَتَّى إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطِرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءَ فَلَاسِفَتِنَا، وَيَعْتَقِدُ عُلَمَاؤُنَا الْيَوْمَ أَنَّ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَرْوَاحِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهَا تُدْرِكُ وَتُرِيدُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُ الْأَرْوَاحِ الْعَاقِلَةِ الْمُرِيدَةِ أَعْظَمَ! !
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ الْمُسَخِّرَ لِلْأَرْوَاحِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْكَائِنَاتِ قَدْ أَرْسَلَ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مَرْيَمَ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا وَنَفَخَ فِيهَا، فَأَحْدَثَتْ نَفْخَتُهُ التَّلْقِيحَ فِي رَحِمِهَا، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَلْ حَمَلَتْ إِلَيْهَا تِلْكَ النَّفْخَةُ مَادَّةً أَمْ لَا؟ اللهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْبَحْثُ فِي تَمَثُّلِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تُسَمَّى بِلِسَانِ الشَّرْعِ الْمَلَائِكَةً فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [١٩: ١٧] إِذَا أَنْسَأَ اللهُ لَنَا فِي الْأَجَلِ وَوُفِّقْنَا لِلْمُضِيِّ فِي هَذَا الْعَمَلِ (التَّفْسِيرِ) وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الْبَحْثِ.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيُعَلِّمُهُ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ (وَنُعَلِّمُهُ) بِالنُّونِ. وَالْكِتَابُ هُنَا: الْكِتَابَةُ بِالْخَطِّ، وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ الْإِرَادَةَ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ، وَيَقِفُ بِالْعَامِلِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَفِقْهِ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ الْمَسَائِلِ. (وَالتَّوْرَاةَ) : كِتَابُ مُوسَى فَقَدْ كَانَ الْمَسِيحُ عَالِمًا بِهِ يُبَيِّنُ أَسْرَارَهُ لِقَوْمِهِ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ بِنُصُوصِهِ، (وَالْإِنْجِيلَ) : هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ نَفْسِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ الْكَلَامُ فِيهِمَا - وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ وَآيَةُ قَالَتْ رَبِّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ وَيُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ - بِالْيَاءِ أَوِ النُّونِ - رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَحَذَفَ لَفْظَ يُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرَأَيْتُ رُوحَكَ فِي الْوَغَى | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا |
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ | بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ |
بِقَوْلِهِ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَفَسَّرَهُ الْجَلَالُ هُنَا بِالتَّصْوِيرِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّقْدِيرِ.
أَقُولُ: وَذَكَرَ الْجَلَالُ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ مِنَ الطِّينِ صُورَةَ خُفَّاشٍ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَحِلُّهَا الْحَيَاةُ وَتَتَحَرَّكُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَطِيرُ قَلِيلًا ثُمَّ تَسْقُطُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ:
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ يَرْوِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ " أَنَّ عِيسَى - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - جَلَسَ يَوْمًا مَعَ غِلْمَانٍ مِنَ الْكُتَّابِ فَأَخَذَ طِينًا ثُمَّ قَالَ: أَجْعَلُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الطِّينِ طَائِرًا، قَالُوا: وَتَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ بِإِذْنِ رَبِّي، ثُمَّ هَيَّأَهُ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ فِي هَيْئَةِ الطَّائِرِ فَنَفَخَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْ طَائِرًا بِإِذْنِ اللهِ، فَخَرَجَ يَطِيرُ بَيْنَ كَفَّيْهِ " فَكَأَنَّهُ اتَّخَذَ آيَةَ اللهِ عَلَى رِسَالَتِهِ أُلْعُوبَةً لِلصِّبْيَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ صَحِيحٌ بِوُقُوعِ خَلْقِ الطَّيْرِ بَلْ وَلَا عِنْدَ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَنَاقَلُونَ وُقُوعَ سَائِرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إِلَّا مَا فِي إِنْجِيلِ الصِّبَا أَوِ الطُّفُولَةِ مِنْ نَحْوِ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنَ الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْقَانُونِيَّةِ عِنْدَهُمْ وَلَعَلَّ آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَدْنَى إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ: إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [٥: ١١٠] فَإِنَّ جَعْلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ يُؤْذِنُ بِوُقُوعِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ وَالْحَاجَةِ إِلَى تَحَدِّيهِ بِهِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْظَمِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ رُوحَانِيَّةَ عِيسَى كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى جُثْمَانِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الرُّوحَانِيِّينَ ; لِأَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْ بِهِ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَانَ تَجَرُّدُهُ مِنَ الْمَادَّةِ الْكَثِيفَةِ لِلتَّصَرُّفِ بِسُلْطَانِ الرُّوحِ مِنْ قَبِيلِ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ إِذَا نَفَخَ مِنْ رُوحِهِ فِي صُورَةٍ رَطْبَةٍ مِنَ الطِّينِ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ حَتَّى تَهْتَزَّ وَتَتَحَرَّكَ، وَإِذَا تَوَجَّهَ بِرُوحَانِيَّتِهِ إِلَى رُوحٍ فَارَقَتْ جَسَدَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا وَيُعِيدَ اتِّصَالَهَا بِبَدَنِهَا زَمَنًا مَا، وَلَكِنَّ رُوحَانِيَّتَهُ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ إِحْيَاءِ مَنْ مَاتَ فَصَارَ رَمِيمًا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ النَّصَارَى مِنْ إِحْيَاءِ الْمَسِيحِ لِلْمَوْتَى ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ أَحْيَا بِنْتًا قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، وَأَحْيَا الْيَعَازِرَ قَبْلَ أَنْ يَبْلَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَحْيَا مَيِّتًا كَانَ رَمِيمًا، وَأَمَّا إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَهُوَ أَقْرَبُ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَاسِخًا لِلتَّوْرَاةِ بَلْ مُصَدِّقًا لَهَا عَامِلًا بِهَا، وَلَكِنَّهُ نَسَخَ بَعْضَ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَقَدْ كَانَ حُرِّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ بِظُلْمِهِمْ وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ فَأَحَلَّهَا عِيسَى وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ ذِكْرَ الْآيَةَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ إِلَى اللهِ.
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
لِأَجْلِهَا كُلَّ مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مُنْخَلِعِينَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مُتَحَيِّزِينَ وَمُنْزَوِينَ إِلَى اللهِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى خَاذِلِيهِ وَالْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ أَيْ أَنْصَارُ دِينِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ الِانْخِلَاعَ وَالِانْفِصَالَ مِنَ التَّقَالِيدِ السَّابِقَةِ وَالْأَخْذَ بِالتَّعْلِيمِ الْجَدِيدِ، وَبَذْلَ مُنْتَهَى الِاسْتِطَاعَةِ فِي تَأْيِيدِهِ ; فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْحَوَارِيُّونَ: أَنْصَارُ الْمَسِيحِ، وَالنَّصْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ، فَالْعَمَلُ بِالدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ نَصْرٌ لَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا تَتَكَلَّمُ فِي عَدَدِهِمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْهُ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ لَفْظَ " الْحَوَارِيِّ " مَأْخُوذٌ مِنَ " الْحُوَّارَى " وَهُوَ لُبَابُ الدَّقِيقِ وَخَالِصُهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ خِيَارِ الْقَوْمِ وَصَفْوَتِهِمْ، أَوْ مِنَ " الْحَوَرِ " وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ وَمِنْ هُنَا قِيلَ خَاصٌّ بِأَنْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ لَهُ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَعْمَالِهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ (أَحَسَّ) يُسْتَعْمَلُ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ أَحْسَسْتُ مِنْهُ مَكْرًا، وَأَحْسَسْتُ مِنْهُ بِمَكْرٍ، وَمَا أَحْسَسْنَا مِنْهُ خَبَرًا، وَهَلْ تُحِسُّ مِنْ فُلَانٍ بِخَبَرٍ؟ وَالْمَكْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحِسِّيَّةِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِهَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْآيَةِ: " تَحَقَّقَ كُفْرُهُمْ عِنْدَهُ تَحَقُّقَ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ " وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَحَسَّ الشَّيْءَ أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَجَازٌ شُبِّهَ فِيهِ الْمَعْقُولُ بِالْمَحْسُوسِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يُعْرَفُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمَحْسُوسَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْجَارَّ فِي إِلَى اللهِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَنْصَارِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ مَادَّةَ نَصَرَ تُعَدَّى بِـ " إِلَى "، ذَلِكَ بِأَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ هُنَا قَدْ أَشْرَبَ الْكَلِمَةَ مَعْنَى اللُّجْأِ وَالِانْضِمَامِ
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ إِلَخْ أَيْ صَدَّقْنَا بِمَا أَنْزَلْتَ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ
الِاتِّبَاعَ بَعْدَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَمَلِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَنَاقِصًا لَا يَقِينًا وَإِيمَانًا، وَكَثِيرًا مَا يَظُنُّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِشَيْءٍ حَتَّى إِذَا حَاوَلَ الْعَمَلَ بِهِ لَمْ يُحْسِنْهُ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي دَعْوَى الْعِلْمِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَظَلُّ مُجْمَلًا مُبْهَمًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ تَفْصِيلِيًّا، فَذِكْرُ الْحَوَارِيِّينَ الْأَتْبَاعِ بَعْدَ الْإِيمَانِ يُفِيدُ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ فِي مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ التَّفْصِيلِيِّ الْحَاكِمِ عَلَى النَّفْسِ الْمُصَرِّفِ لَهَا فِي الْعَمَلِ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ لِلرَّسُولِ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَعَلَى قَوْمِهِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، فَحَذَفَ مَعْمُولَ الشَّاهِدِينَ لِيَعُمَّ الْمَشْهُودَ لَهُ وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِمْ.
أَوْ يُقَالُ: الشَّاهِدِينَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ حَالَةِ الرَّسُولِ مَعَ قَوْمِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. قَالَ: وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ ; لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ إِلَّا مِنَ الْعَارِفِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، وَقَدْ كَانَ الْحَوَارِيُّونَ كَذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِنْ إِقْرَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ.
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ أَيْ وَمَكَرَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ بِهِ، فَحَاوَلُوا قَتْلَهُ وَأَبْطَلَ اللهُ مَكْرَهُمْ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيهِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَكْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَقَرَّهُمُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَلَكِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِضَافَةَ الْمَكْرِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ بِمَكْرِ النَّاسِ. قَالَ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [٧: ٩٩] وَالْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ: التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ الْمُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السُّوءِ لِأَنَّ مَنْ يُدَبِّرُ لِلْإِنْسَانِ مَا يَسُرُّهُ وَيَنْفَعُهُ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى إِخْفَاءِ تَدْبِيرِهِ، غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَكْرِ فِي التَّدْبِيرِ السَّيِّئِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَكْرِ الْحَسَنِ وَالسَّيِّئِ جَمِيعًا قَالَ - تَعَالَى -: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [٣٥: ٤٣] وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَكْرِ الْحَسَنِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا عَلِمَ بِمَا يُدَبَّرُ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ أَفْسَدَ عَلَى الْفَاعِلِ تَدْبِيرَهُ لِجَهْلِهِ فَيَحْتَاجُ مُرَبِّيهِ أَوْ مُتَوَلِّي شُئُونِهِ إِلَى أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ وَيَمْكُرَ بِهِ لِيُوَصِّلَهُ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْرِفَهُ قَبْلَ الْوُصُولِ ; إِذْ يُوجَدُ فِي الْمَاكِرِينَ الْأَشْرَارِ وَالْأَخْيَارِ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ فَإِنَّ تَدْبِيرَهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى عِبَادِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ، وَكُلُّهَا خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ قَصَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.
مَكْرٌ، فَمَكْرُهُ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى مُوَجَّهٌ إِلَى الْخَيْرِ وَمَكْرُهُمْ هُوَ الْمُوَجَّهُ إِلَى الشَّرِّ.
إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ مَكْرُ اللهِ بِهِمْ ; إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ بِإِنْجَائِهِ مِنْ مَكْرِهِمْ وَجَعْلِ كَيْدِهِمْ فِي نَحْرِهِمْ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، وَالتَّوَفِّي فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا تَامًّا، وَمِنْ ثَمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِمَاتَةِ قَالَ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [٣٩: ٤٢] وَقَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [٣٢: ١١] فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ: إِنِّي مُمِيتُكَ وَجَاعِلُكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي مَكَانٍ رَفِيعٍ عِنْدِي، كَمَا قَالَ فِي إِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [١٩: ٥٧] وَاللهُ - تَعَالَى - يُضِيفُ إِلَيْهِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْأَبْرَارُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ قَبْلَ الْبَعْثِ وَبَعْدَهُ كَمَا قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [٣: ١٦٩] وَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [٥٤: ٥٤، ٥٥] وَأَمَّا تَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُوَ: إِنْجَاؤُهُ مِمَّا كَانُوا يَرْمُونَهُ بِهِ أَوْ يَرُومُونَهُ مِنْهُ وَيُرِيدُونَهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ. هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ الْخَالِي الذِّهْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ وَقَدْ أَيَّدْنَاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ حَوَّلُوا الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ لِيَنْطَبِقَ عَلَى مَا أَعْطَتْهُمُ الرِّوَايَاتُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ بِجَسَدِهِ، وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ:
يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُنَوِّمُكَ، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ بِرُوحِكَ وَجَسَدِكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ بَيَانٌ لِهَذَا التَّوَفِّي، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي أُنَجِّيكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ قَتْلِكَ، وَأُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ ثُمَّ أَرْفَعُكَ إِلَيَّ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَقَالَ: لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا طَرِيقَتَانِ إِحْدَاهُمَا - وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ - أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِشَرِيعَتِنَا ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى.
وَلَهُمْ فِي حَيَاتِهِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ طَوِيلٌ مَعْرُوفٌ، وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَمَّا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْدِيمِ الرَّفْعِ عَلَى التَّوَفِّي بِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. أَقُولُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَلَا نُكْتَةَ هُنَا لِتَقْدِيمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ ; إِذِ الرَّفْعُ هُوَ الْأَهَمُّ
لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّجَاةِ وَرِفْعَةِ الْمَكَانَةِ.
(قَالَ) : وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّ التَّوَفِّيَ عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْعَادِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّفْعَ يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ رَفْعُ الرُّوحِ، وَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ الْخِطَابِ عَلَى شَخْصٍ وَإِرَادَةِ رُوحِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْجَسَدُ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَتَغَيَّرُ، وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانٌ لِأَنَّ رُوحَهُ هِيَ هِيَ. (قَالَ) : وَلِصَاحِبِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ وَالنُّزُولِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَخْرِيجَانِ:
وَثَانِيهِمَا: تَأْوِيلُ نُزُولِهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَرْضِ بِغَلَبَةِ رُوحِهِ وَسِرِّ رِسَالَتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ مَا غَلَبَ فِي تَعْلِيمِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسِّلْمِ وَالْأَخْذِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ دُونَ الْوُقُوفِ عِنْدَ ظَوَاهِرِهَا وَالتَّمَسُّكِ بِقُشُورِهَا دُونَ لُبَابِهَا، وَهُوَ حِكْمَتُهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ ; فَالْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَأْتِ لِلْيَهُودِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيُوقِفُهُمْ عَلَى فِقْهِهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا، وَيَأْمُرُهُمْ بِمُرَاعَاتِهِ وَبِمَا يَجْذِبُهُمْ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ بِتَحَرِّي كَمَالِ الْآدَابِ، أَيْ وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّرِيعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدْ جَمَدُوا عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا بَلْ وَأَلْفَاظِ مَنْ كَتَبَ فِيهَا مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُزْهِقًا لِرُوحِهَا ذَاهِبًا بِحِكْمَتِهَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِصْلَاحٍ عِيسَوِيٍّ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَرُوحَ الدِّينِ وَأَدَبَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَطْوِيٌّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي حُجِبُوا عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ آفَةُ الْحَقِّ وَعَدُوُّ الدِّينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ. فَزَمَانُ عِيسَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَأْخُذُ النَّاسُ فِيهِ بِرُوحِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِإِصْلَاحِ السَّرَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ، وَلَكِنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ تَأْبَاهُ، وَلِأَهْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَدْ نُقِلَتْ بِالْمَعْنَى كَأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ، وَالنَّاقِلُ لِلْمَعْنَى يَنْقُلُ مَا فَهِمَهُ، وَسُئِلَ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَقَتْلِ عِيسَى لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ رَمْزٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالدَّجَلِ وَالْقَبَائِحَ الَّتِي تَزُولُ بِتَقْرِيرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَخْذِ بِأَسْرَارِهَا وَحِكَمِهَا. وَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ هَادٍ إِلَى هَذِهِ
الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لِلْبَشَرِ إِلَى إِصْلَاحٍ وَرَاءَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ، وَسَنَعُودُ إِلَى مَبْحَثِ مَا جَرَى لِلْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ بِالْأَخْذِ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِكَ فَوْقِيَّةً رُوحَانِيَّةً دِينِيَّةً وَهِيَ كَوْنُهُمْ أَحْسَنَ أَخْلَاقًا وَأَكْمَلَ آدَابًا وَأَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالِاعْتِدَاءِ، أَوْ فَوْقِيَّةً دُنْيَوِيَّةً وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَكُونُونَ أَصْحَابَ السِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ لِأَشَدِّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لَهُ، بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ لِلْيَهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمَسِيحِ هُوَ عَيْنُ الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَ بِهَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا. وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَكَذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ بِتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ وَبِحُكْمِهَا فِيهِمْ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [٤١: ١٦] هُنَاكَ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْصَرُوا هُنَا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إِمَّا فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الْأُمَمِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَالْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ النُّفُوسَ بِتَقْوِيمِهَا.
ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِكَ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ الَّذِي يُبَيِّنُ وُجُوهَ الْعِبَرِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحِكَمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِلَى لُبَابِ الدِّينِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِيَتَّعِظَ الْمُتَّعِظُونَ، وَيَصِلَ إِلَى مَقَامِ الْحِكْمَةِ الْعَارِفُونَ. وَلَيْسَ لَدَيْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ
الْإِمَامِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
التَّأَمُّلِ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُنْصَرَفًا. وَالْعَطْفُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ التَّكْوِينِ الْآخَرِ يُفِيدُ تَرَاخِيهِ وَتَأَخُّرَهُ عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَتَقَلَّبُ ذُرِّيَّتُهُ؟ اقْرَأْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [٧١: ١٤] وَقَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [٢٣: ١٢ - ١٦] فَالسُّلَالَةُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْمُكَوِّنُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ الْآنَ بِـ " الْبُرُوتُوبْلَازْمَا "، وَمِنْهَا تَكَوَّنَ أَصْلُنَا فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ السُّلَالَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ التَّوَلُّدِ بِوَاسِطَةِ النُّطْفَةِ فِي الْقَرَارِ الْمَكِينِ وَهُوَ الرَّحِمُ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ تَحَوُّلِ النُّطْفَةِ إِلَى عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةِ إِلَى مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةِ إِلَى هَيْكَلٍ مِنَ الْعِظَامِ يُكْسَى لَحْمًا، وَقَدْ عَدَّ هَذَا طَوْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَنْشَأَهُ خَلْقًا آخَرَ وَهُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ طَوْرًا آخَرَ فِي الْمَوْتِ وَطَوْرًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ آخِرُ أَطْوَارِهِ، فَكُلُّ طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ حَادِثٌ، وَحُدُوثُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِنَظِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَكْوِينِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ فَهَلْ يَعِزُّ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ كَلَّا، وَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى
لِلْكَافِرِينَ وَلِلْمَفْتُونِينَ مَثَلَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ أَعْجَبُ مَنْ خَلْقِ عِيسَى ; لِأَنَّ هَذَا خُلِقَ مِنْ حَيَوَانٍ مِنْ نَوْعِهِ وَذَاكَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، وَفِي الْكَلَامِ إِرْشَادُهُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْخَلِيقَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكُلُّهُ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا إِذَا تَفَكَّرْنَا فِي حَقِيقَتِهَا وَعِلَلِهَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِغَرِيبٍ عِنْدَ الْمُوجِدِ الْمُبْدِعِ، أَمَّا الْقَوَانِينُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْخَلِيقَةِ فَهِيَ قَدِ اسْتُخْرِجَتْ مِمَّا نَعْهَدُهُ وَنُشَاهِدُهُ، وَلَيْسَتْ قَوَانِينَ عَقْلِيَّةً قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا عَدَاهَا، كَيْفَ وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا يُخَالِفُهَا كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْضَاءٌ زَائِدَةٌ وَالَّتِي تُولَدُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَتَرَوْنَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي الْجَرَائِدِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا خَالَفَ مَا نَعْرِفُ لَا مَا يَعْلَمُ اللهُ - تَعَالَى -، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ لِكُلِّ هَذِهِ الشَّوَاذِّ وَالْفَلَتَاتِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً مُحْكَمَةً لَمْ تَظْهَرْ لَنَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ خَلْقِ عِيسَى، فَكَوْنُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ لَيْسَ مَزِيَّةً تَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِلَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عِيسَى قَدْ خُلِقَ مِنْ بَعْضِ جِنْسِهِ فَآدَمُ قَدْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَزِيَّةِ لَوْ كَانَتْ، وَبِالْإِنْكَارِ إِنْ صَحَّ، عَلَى أَنَّ مَا نَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ لَنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرُ، نَصِفُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْقِلْهُ، وَمَاذَا نَعْقِلُ مِنَ الرَّابِطَةِ بَيْنَ الْحِسِّ وَالنُّطْقِ فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا؟ بَلْ مَاذَا نَعْقِلُ مِنْ أَمْرِ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ فِي نَبْتِهَا وَاسْتِوَائِهَا عَلَى سُوقِهَا وَتَنَاسُبِ أَوْرَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عِيسَى وَغَيْرَهُ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَمْرِهِ، الْقَائِلِينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ جَاءَكَ عِلْمُ الْيَقِينُ.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا يُظْهِرُ عِلْمَكَ الْحَقَّ وَارْتِيَابَهُمُ الْبَاطِلَ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ يُقَالُ: ابْتَهَلَ الرَّجُلُ دَعَا وَتَضَرَّعَ، وَالْقَوْمُ تَلَاعَنُوا، وَفُسِّرَ الِابْتِهَالُ هُنَا بِقَوْلِهِ: فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْمُبَاهَلَةِ فَأَبَوْا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: " أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نَفْلَحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. فَقَالَ لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ،
فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَقُلْ تَعَالَوْا الْآيَةَ. فَقَالُوا: أَخِّرْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَهَبُوا إِلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَاسْتَشَارُوهُمْ فَأَشَارُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَالِحُوهُ وَلَا يُلَاعِنُوهُ، وَقَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، فَصَالَحُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَلْفِ حُلَّةٍ فِي صَفَرٍ وَأَلْفٍ فِي رَجَبٍ وَدَرَاهِمَ " وَرُوِيَ فِي الصُّلْحِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ صَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ لِلْمُبَاهَلَةِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهِمَا - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ -، وَخَرَجَ بِهِمْ وَقَالَ: إِنْ أَنَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا أَنْتُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَعْدٍ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقُلْ تَعَالَوْا دَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَقَالَ: اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا الْآيَةَ: قَالَ: " فَجَاءَ بِأَبِي بَكْرٍ وَوَلَدِهِ وَبِعُمَرَ وَوَلَدِهِ وَبِعُثْمَانَ وَوَلَدِهِ وَبِعَلِيٍّ وَوَلَدِهِ " وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَ لِلْمُبَاهَلَةِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهِمَا وَيَحْمِلُونَ كَلِمَةَ وَنِسَاءَنَا عَلَى فَاطِمَةَ وَكَلِمَةَ وَأَنْفُسَنَا عَلَى عَلِيٍّ فَقَطْ، وَمَصَادِرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الشِّيعَةُ وَمَقْصِدُهُمْ مِنْهَا مَعْرُوفٌ، وَقَدِ اجْتَهَدُوا فِي تَرْوِيجِهَا مَا اسْتَطَاعُوا حَتَّى رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّ وَاضِعِيهَا لَمْ يُحْسِنُوا تَطْبِيقَهَا عَلَى الْآيَةِ فَإِنَّ كَلِمَةَ وَنِسَاءَنَا لَا يَقُولُهَا الْعَرَبِيُّ وَيُرِيدُ بِهَا بِنْتَهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَزْوَاجٌ وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ لُغَتِهِمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِأَنْفُسِنَا عَلِيٌّ - عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ -، ثُمَّ إِنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوا الْمُحَاجِّينَ وَالْمُجَادِلِينَ فِي عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَجْمَعُ هُوَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يَلْعَنَ الْكَاذِبَ فِيمَا يَقُولُ عَنْ عِيسَى، وَهَذَا الطَّلَبُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِ صَاحِبِهِ وَثِقَتِهِ بِمَا يَقُولُ، كَمَا يَدُلُّ امْتِنَاعُ مَنْ دَعَوْا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ سَوَاءٌ كَانُوا نَصَارَى نَجْرَانَ أَوْ غَيْرَهَمْ عَلَى امْتِرَائِهِمْ فِي
حِجَاجِهِمْ وَمُمَارَاتِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَزِلْزَالِهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَقِينٍ، وَأَنَّى لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ أَنْ يَرْضَى بِأَنْ يَجْتَمِعَ مِثْلُ هَذَا الْجَمْعِ مِنَ النَّاسِ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي طَلَبِ لَعْنِهِ وَإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَيُّ جَرَاءَةٍ عَلَى اللهِ وَاسْتِهْزَاءٍ بِقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟
قَالَ: أَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى يَقِينٍ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْعُو الْآخَرَ، فَأَنْتُمْ تَدْعُونَ أَبْنَاءَنَا وَنَحْنُ نَدْعُو أَبْنَاءَكُمْ، وَهَكَذَا الْبَاقِي.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْعُو أَهْلَهُ، فَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نَدْعُو أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَنْفُسَنَا وَأَنْتُمْ كَذَلِكَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي وَجْهٍ مِنْ وَجْهَيِ التَّوْزِيعِ فِي دَعْوَةِ الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الشِّيعَةِ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ.
أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ مَا تَرَى مِنَ الْحُكْمِ بِمُشَارَكَةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلْمُبَارَاةِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْمُنَاضَلَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا، كَكَوْنِهَا لَا تُبَاشِرُ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا بَلْ يَكُونُ حَظُّهَا مِنَ الْجِهَادِ خِدْمَةَ الْمُحَارِبِينَ كَمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى، وَقَدْ عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ هِيَ إِظْهَارُ الثِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْيَقِينِ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ اللهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى يَقِينٍ فِي اعْتِقَادِهِنَّ كَالْمُؤْمِنِينَ لَمَا أَشْرَكَهُنَّ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ نِسَائِنَا الْيَوْمَ وَمِنَ اعْتِقَادِ جُمْهُورِنَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُنَّ عَلَيْهِ؟ لَا عِلْمَ لَهُنَّ بِحَقَائِقِ الدِّينِ وَلَا بِمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ غَيْرِنَا مِنَ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، وَلَا مُشَارَكَةَ لِلرِّجَالِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَلَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهَلْ فَرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى نِسَاءِ الْأَغْنِيَاءِ - لَا سِيَّمَا فِي الْمُدُنِ - أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَ التَّطَرُّسِ وَالتَّطَرُّزِ وَالتَّوَرُّنِ وَعَلَى نِسَاءِ الْفُقَرَاءِ - لَا سِيَّمَا فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي - أَنْ يَكُنَّ كَالْأُتُنِ الْحَامِلَةِ وَالْبَقَرِ الْعَامِلَةِ؟ وَهَلْ حَرَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عِلْمَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَالِاشْتِرَاكَ فِي شَيْءٍ مِنْ شُئُونِ الْعَالَمِينَ؟ كَلَّا بَلْ فَسَقَ الرِّجَالُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَوَضَعُوا النِّسَاءَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِحُكْمِ قُوَّتِهِمْ، فَصَغُرَتْ نُفُوسُهُنَّ، وَهَزُلَتْ آدَابُهُنَّ، وَضَعُفَتْ دِيَانَتُهُنَّ.
وَنَحُفَتْ إِنْسَانِيَّتُهُنَّ، وَصِرْنَ كَالدَّوَاجِنِ فِي الْبُيُوتِ، أَوِ السَّوَائِمِ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ السَّوَانِي عَلَى السَّوَاقِي وَالْآبَارِ، أَوْ ذَوَاتِ الْحَرْثِ فِي الْحُقُولِ وَالْغَيْطَانِ، فَسَاءَتْ تَرْبِيَةُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَسَرَى الْفَسَادُ الِاجْتِمَاعِيُّ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فَعَمَّ الْأُسَرَ وَالْعَشَائِرَ وَالشُّعُوبَ وَالْقَبَائِلَ، لَبِثَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَحْقَابًا، حَتَّى قَامَ فِيهِمُ الْيَوْمَ مَنْ يُعَيِّرُهُمْ بِاحْتِقَارِ النِّسَاءِ وَاسْتِبْعَادِهِنَّ، وَيُطَالِبُونَهُمْ بِتَحْرِيرِهِنَّ وَمُشَارَكَتِهِنَّ فِي الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَشُئُونِ الْحَيَاةِ، مِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِهَذَا اتِّبَاعًا لِهَدْيِ الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ تَقْلِيدًا لِمَدَنِيَّةِ أُورُبَّا، وَقَدِ اسْتُحْسِنَتِ الدَّعْوَةُ الْأَوْلَى بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ، وَأُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ الْأُخْرَى بِالْعَمَلِ عَلَى ذَمِّ الْأَكْثَرِينَ لَهَا بِالْقَوْلِ، فَأَنْشَأَ
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فِي شَأْنِ الْمَسِيحِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ لَهُ إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا، وَقَوْلُ الْغَالِينَ فِيهِ: إِنَّهُ اللهُ أَوِ ابْنُ اللهِ فَبَاطِلٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَأَيُّ مَعْنًى تَتَصَوَّرُونَ مِنْ مَعَانِي الْأُلُوهِيَّةِ فَهُوَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي عِزَّتِهِ فِي مُلْكِهِ، وَلَا يُسَامِيهِ مُسَامٍ فِي حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ فَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، أَوْ نِدًّا فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَمَا الْوَلَدُ إِلَّا نُسْخَةٌ مِنَ الْوَالِدِ يُسَاوِيهِ فِي جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - فَوْقَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَفَوْقَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْأَوْضَاعِ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا وَلَمْ يُجِيبُوا الدَّعْوَةَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَلَمْ يَقْبَلُوا عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ لِعَقَائِدِ النَّاسِ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ تَقْلِيدًا مَحْضًا لَا بُرْهَانَ يُؤَيِّدُهُ وَلَا بَصِيرَةَ تُعَضِّدُهُ، وَإِفْسَادُ الْعَقَائِدِ إِفْسَادٌ لِلْعَقْلِ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ فَسَادٍ
قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
لَمَّا بَيَّنَ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْقَصَصَ الْحَقَّ فِي شَأْنِ عِيسَى وَالْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْغَالِبِينَ فِيهِ بِجَعْلِهِ رَبًّا وَإِلَهًا، ثُمَّ أَلْزَمَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوِجْدَانِ أَوِ الضَّمِيرِ - كَمَا يُقَالُ - بِمَا دَعَاهُمْ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ انْقِطَاعُ حِجَاجِ الْمُكَابِرِينَ، وَدَلَّ نُكُولُهُمْ عَنْهَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَفَاقِدُ الْيَقِينِ يَتَزَلْزَلُ عِنْدَمَا يُدْعَى إِلَى شَيْءٍ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ، فَلَمَّا نَكَلُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرُوحُهُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ سَوَاءٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ عَدْلٌ وَوَسَطٌ لَا يَرْجَحُ فِيهِ طَرَفٌ آخَرَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِهَذَا تَقْرِيرُ وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُوَحِّدًا صِرْفًا، وَقَدْ كَانَ الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ لِشَرِيعَةِ مُوسَى قَوْلُ اللهِ لَهُ: " إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى. أَمَامِي لَا تَصْنَعُ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ، وَمِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ، وَمِمَّا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ " وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَنْقُلُونَ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلَهُ: ((يَرَ ١٧: ٣)) " وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " وَغَيْرُ ذَاكَ مِنْ عِبَارَاتِ التَّوْحِيدِ، وَكَانَ يَحْتَجُّ عَلَى الْيَهُودِ بِعَدَمِ إِقَامَتِهِمْ نَامُوسَ مُوسَى (شَرِيعَتَهُ) وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ إِلَّا بَعْضَ الرُّسُومِ الظَّاهِرَةِ وَالتَّشْدِيدَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَمَّا الْوَصَايَا الْعَشْرُ - وَرَأْسُهَا التَّوْحِيدُ وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ - فَلَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّنَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ أَنَّ الْعَالَمَ مِنْ صُنْعِ إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُنَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ. فَتَعَالَوْا بِنَا نَتَّفِقُ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَرَفْضِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهَا، حَتَّى إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ فِيمَا جَاءَكُمْ مِنْ نَبَأِ الْمَسِيحِ شَيْئًا فِيهِ لَفْظُ ابْنِ اللهِ خَرَّجْنَاهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ الثَّابِتَ الْعَامَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ. فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، قُلْنَا: هَلْ فَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إِلَهٌ يُعْبَدُ؟ وَهَلْ دَعَا إِلَى عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ أَمْ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؟ لَا شَكَّ أَنَّكُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلَامَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ أَوِ الْمَجَازِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَمَّيَاتِ وَالْأَلْغَازِ، حَتَّى إِنَّ تَلَامِيذَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُوهُ إِلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِهِ، وَلَقَدْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ يَتَأَخَّرُ أَحْيَانًا إِلَى أَمَدٍ بَعِيدٍ، وَلَفْظُ " ابْنِ اللهِ " أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا. أَمَّا هَذِهِ
وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ [٩: ٣١] فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَيُحَرِّمُونَ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّونَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى. وَسُئِلَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ الْآيَةِ؟ فَأَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْيَهُودُ مُوَحِّدِينَ وَلَكِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ هُوَ مَنْبَعُ شَقَائِهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَهُوَ اتِّبَاعُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ وَجَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْكَامِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَجَرَى النَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ وَزَادُوا مَسْأَلَةَ غُفْرَانِ الْخَطَايَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حَتَّى ابْتَلَعَتْ بِهَا الْكَنَائِسُ أَكْثَرَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهَا وُلِدَتْ مَسْأَلَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا: هَلُمَّ بِنَا نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَابَ مِنْ دُونِ اللهِ وَنَأْخُذَ الدِّينَ مِنْ كِتَابِهِ لَا نُشْرِكَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ.
قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللهِ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ نَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ لَا نَدْعُو سِوَاهُ وَلَا نَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي طَلَبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ، وَلَا نُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ وَلَا نُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى الْمَعْصُومِ. أَقُولُ: يَعْنِي فِي مَسَائِلِ الدِّينِ الْبَحْتَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَمَّا الْمَسَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهِيَ مُفَوَّضَةٌ بِأَمْرِ اللهِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ رِجَالُ الشُّورَى مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَا يُقَرِّرُونَهُ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنَفِّذُوهُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوهُ.
فَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِآرَاءِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
كَمَا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَالْمُقَوْقِسِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا نَصُّ كِتَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَاهِلِ الرُّومِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.
" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا ".
فَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعَمُودُهُ لَمَا جَعَلَهَا آيَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ أَدْخَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَاتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ زَاعِمًا أَنَّهُمْ وَسَائِطُ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَهَذَا عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالِاجْتِهَادِ الْبَاطِلِ، وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الْخَبِيرَ الْعَلِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا قِيَاسَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، أَمْ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَرْبَابًا سَمَّاهُمُ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ، أَوِ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَجَعَلَ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَشَرْعًا مُتَّبَعًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [٤٢: ٢٠] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [١٦: ١٦٦] فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّ الْحُدُودَ وَبَيَّنَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِنَا غَيْرَ نِسْيَانٍ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَنَهَانَا نَبِيُّهُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ وَأَنْ نَزِيدَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَنَا الِاجْتِهَادَ لِاسْتِنْبَاطِ مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُنَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ هَدْيُ الْآيَةِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ الْمُتَكَرِّرِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ. كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَقُولُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِإِجْلَالِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مَا، وَهُوَ خَبَرُ عِيسَى فَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي الْإِفْرَاطِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ إِلَهٌ، وَمِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي التَّفْرِيطِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ دَعِيٌّ كَذَّابٌ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُكُمُ الْقَلِيلُ بِهِ عَاصِمًا لَكُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَهُوَ كَوْنُ إِبْرَاهِيمَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا! أَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَبَّعُوا فِيهِ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مُسْلِمًا وَجْهَهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَالطَّاعَةَ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا مِنَ الِاحْتِرَاسِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَدْعُونَ الْعَرَبَ بِالْحُنَفَاءِ، حَتَّى صَارَ الْحَنِيفُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْوَثَنِيِّ الْمُشْرِكِ، فَلَمَّا وَافَقَهُمُ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَنِيفِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، احْتَرَسَ عَمَّا يُوهِمُهُ
الْإِطْلَاقُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَهُمْ، فَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْمُتَّفَقَ عَلَى إِجْلَالِهِ وَادِّعَاءِ دِينِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مَائِلًا عَنْ مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّقَالِيدِ مُسْلِمًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مُتَحَقِّقًا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ [٣: ١٩] وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهُ ; فَإِنَّ مَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْدُوهُ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُوهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَقَدْ نَسِيَ أَكْثَرُ
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ أَيْ أَجْدَرَهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَأَحْرَاهُمْ بِمُوَافَقَتِهِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي عَصْرِهِ وَأَجَابُوا دَعْوَتَهُ فَاهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُخْلَصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ اتِّخَاذُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا التَّوَسُّلُ بِالْوُسَطَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِي لَا يُبْطِلُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَمَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الدِّينُ كُلُّهُ لَا تُغْنِي عَنْهُ التَّقَالِيدُ وَالرُّسُومُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْوُسَطَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [٢٦: ٨٨، ٨٩] بِأَخْذِهِ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي شُرِعَ لِتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَإِعْدَادِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الْأُخْرَى وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ فِي كَشْفِ ضُرٍّ وَلَا طَلَبِ نَفْعٍ فَهُوَ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيُصْلِحُ شُئُونَهُمْ، وَيَتَوَلَّى إِثَابَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْجُمُودِ عَلَى التَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ الْغَافِلِينَ عَنْ رُوحِ الْإِسْلَامِ الْمَفْتُونِينَ بِاتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ هَذَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قُلْنَاهُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
اعْوِجَاجِ طَرِيقَةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضْلَالِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ هُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ إِنْذَارٌ لِغَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالنَّذِيرِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَوَجْهًا ثَالِثًا هُوَ: أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَهَدُوا فِي إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ - ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ - صَارُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا شَيْئًا وَلَاحَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرُوهُ. وَلَكِنْ يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: وَمَا يَشْعُرُونَ وَهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِخَيْبَتِهِمْ فِي الْإِضْلَالِ، وَلَكِنَّهُمْ لِانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ لَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّ الْمُنْهَمِكَ فِي الشَّيْءِ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِعَوَاقِبِهِ وَآثَارِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - نَادَاهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ حَقِيقَةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لَعَلَّهُمْ يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمُ الَّتِي شُغِلُوا عَنْهَا بِمُحَاوَلَةِ إِضْلَالِ غَيْرِهِمْ فَقَالَ: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الطَّائِفَةِ الْعَارِفَةِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا قَبْلَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ، فَآيَاتُ اللهِ عَلَى هَذَا هِيَ الْبِشَارَاتُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ وَمِثْلُهَا بِشَارَاتُ الْإِنْجِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَالْكُفْرُ بِهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْآيَاتُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنًى وَحِسًّا، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ مَا يَلِيقُ بِمَنْ يُكَابِرُ الْوُجُودَ وَيَجْحَدُ الْمَشْهُورَ.
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَيْ تَخْلِطُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وَعَمَلُ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْبِشَارَةِ بِنَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُعَلِّمُ النَّاسَ
الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَيَجْعَلُونَ الْكِتَابَ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا، وَيَأْكُلُونَ بِذَلِكَ السُّحْتَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْحَشْوِيَّةِ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا سَمَاوِيًّا وَشَرْعًا إِلَهِيًّا.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّيْفِ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً حَتَّى نُلَبِّسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أَقُولُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِبَعْضٍ: " أَعْطُوهُمُ الرِّضَا بِدِينِهِمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ فِيهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " كَانَ أَحْبَارُ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَيْ عَشَرَ حَبْرًا فَقَالُوا لِبَعْضِهِمْ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ فَمَا بَالُهُمْ "؟ فَأَخْبَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْقَوْلِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " يَهُودٌ صَلَّتْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْرًا مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاسَ أَنْ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ الضَّلَالَةُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبِعُوهُ ".
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي تَحْكِيهِ الْآيَةُ مِنْ صَدِّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِّ أَلَّا يَرْجِعَ عَنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَقَدْ فَقِهَ هَذَا
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ: " هَلْ يَرْجِعُ عَنْهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا " وَقَدْ أَرَادَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ تَغُشَّ النَّاسَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لِيَقُولُوا: لَوْلَا أَنْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ بُطْلَانُ الْإِسْلَامِ لَمَا رَجَعُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ، وَاطَّلَعُوا عَلَى بَاطِنِهِ وَخَوَافِيهِ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَيَرْغَبَ عَنْهُ بَعْدَ الرَّغْبَةِ فِيهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ رَغْبَةً لَا حِيلَةً وَمَكِيدَةً كَمَا كَادَ هَؤُلَاءِ. فَمَاذَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ رَغْبَةً فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ وَخَابَ ظَنُّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِلَّا لِتَخْوِيفِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْمَكَايِدَ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْكِيكِ فِيهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَكَايِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي نُفُوسِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَصَلُوا فِيهِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَخْدَعُ الضُّعَفَاءَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْوَثَنِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ; وَبِهَذَا يَتَّفِقُ الْحَدِيثُ الْآمِرُ بِذَلِكَ مَعَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْمُنْكِرَةِ لَهُ - فِيمَا أَرَى - وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ كَمَا يَظْهَرُ لِي وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْكَائِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَآمَنَ لَهُ: صَدَّقَهُ وَسَلَّمَ لَهُ مَا يَقُولُ. قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [٢٩: ٢٦] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [١٢: ١٧].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ بِالتَّصْدِيقِ الثِّقَةَ وَالرُّكُونَ، كَقَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [٩: ٦١] أَيْ فَيَكُونُ تَصْدِيقًا خَاصًّا تَضَمَّنَ مَعْنًى زَائِدًا.
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ حَصَرُوا الثِّقَةَ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِمْ، بَلْ غَلَوْا فِي التَّعَصُّبِ وَالْغُرُورِ حَتَّى حَقَّرُوا جَمِيعَ النَّاسِ فَجَعَلُوا كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَسَنًا وَمَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبِيحًا، وَهَذَا مِنَ الِانْتِكَاسِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ، وَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ مَنْ يُحَاوِلُ تَغْرِيرَ قَوْمِهِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ يُحَقِّرُونَ كُلَّ مَا لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ،
وَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ هَؤُلَاءِ بِمَا رَدَّ اللهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ لَا هُدَى شَعْبٍ مُعَيَّنٍ هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يُبَيِّنُ هُدَاهُ عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لَا تَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهُ بِأَحَدٍ وَلَا بِشَعْبٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وَقَدْ قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ " أَآنَ " بِهَمْزَتَيْنِ مَعَ تَلْيِينِ الثَّانِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا حَكَاهُ - تَعَالَى - مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ يُرِيدُ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَيْ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ، أَوْ هُوَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ يَجِيءُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ.
كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [٢٧: ٣٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا.
قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِدَّ الْقَوْمِ فِي حِفْظِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَعْظَمَ مِنْ جِدِّهِمْ فِي حِفْظِ غَيْرِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِقْرَارِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَانِبِ؟ فَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّهْيَ بِإِفْشَاءِ هَذَا التَّصْدِيقِ فِيمَا بَيْنَ أَتْبَاعِهِمْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِنِ اتَّفَقَ مِنْكُمْ تَكَلُّمٌ بِهَذَا فَلَا يَكُنْ إِلَّا عِنْدَ خُوَيِّصَتِكُمْ وَأَصْحَابِ أَسْرَارِكُمْ، عَلَى أَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا، وَلَكِنَّ الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ عَنْ غَيْرِهِمْ. هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ إِظْهَارُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ تَصْدِيقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ ; أَيْ الِاعْتِرَافُ لَهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قَالَ لَكُمْ قَائِلٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى غَيْرُكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ فَكَذِّبُوهُ وَلَا تُؤْمِنُوا لَهُ، وَالْمَفْهُومُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا لِبَعْضِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِذَا قَالُوا بِهَذَا الْجَوَازِ كَالْمُتَّفِقِينَ مَعَهُمْ عَلَى
ثُمَّ قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ بَيْنَ جُزْئَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ؟ قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَمَا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلًا بَاطِلًا لَا جَرَمَ، أَدَّبَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُقَابِلَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى حِكَايَةِ تَمَامِ كَلَامِهِمْ ; كَمَا إِذَا حَكَى الْمُسْلِمُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ قَوْلًا فِيهِ كُفْرٌ فَيَقُولُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ: آمَنْتُ بِاللهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَوْ تَعَالَى اللهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْحِكَايَةِ. اهـ.
أَقُولُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمَحْذُوفَةُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ مُخَادَعَةً وَاكْفُرُوا آخِرَهُ مُكَايَدَةً، وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا ثَابِتًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَأَقَرَّكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ إِتْيَانِ أَحَدٍ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، أَوْ بِسَبَبِ مَا يُخْشَى مِنْ مُحَاجَّتِهِ
لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالسَّبَبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا يَكُنْ إِتْيَانُ مُحَمَّدٍ بِدِينٍ حَقٍّ وَشَرْعٍ إِلَهِيٍّ كَالَّذِي أُوتِيتُمُوهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى سَبَبًا فِي الْإِيمَانِ لَهُ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالِاسْتِفْهَامِ: فَأَقْرُبُ مَا تُفَسَّرُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ - أَيْ وَجْهِ كَوْنِ الْكَلَامِ حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ - أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ وَالْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَإِتْيَانُ أَحَدٍ بِمِثْلِ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْ دِينَكُمْ؟ أَيْ إِنَّ هَذَا مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا وَلَا مَا قَبْلَهُ لِأَحَدٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ حِكَايَةَ كَلَامِ الْيَهُودِ قَدِ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ: دِينَكُمْ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ أَظْهَرَ. وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا: أَتَكِيدُونَ هَذَا الْكَيْدَ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مَا أُوتِيتُمْ؟ أَوْ: أَإِيتَاءُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ؟ وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بِمَعْنَى حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ، إِذْ وَرَدَتْ (أَوْ) بِمَعْنَى " حَتَّى " أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قِيلَ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أَلِأَجْلِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَمَّا يَتَّصِلْ بِذَلِكَ مُحَاجَّتُكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ كِدْتُمْ ذَلِكَ الْكَيْدَ؟ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ يَجُوزُ حَذْفُهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِلَحْنِ الْقَوْلِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ. وَيَجُوزُ فِيهَا وُجُوهٌ أُخْرَى أَظْهَرُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى الَّذِي هُوَ هُدَى اللهِ هُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ وَذَلِكَ جَائِزٌ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَةِ اللهِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَأَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْهُدَى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
دِينَهُمْ أَوْ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَهُمْ إِذَا هُمُ ادَّعَوْهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْأَخِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [٢: ٧٦] هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَمَا عَدَا هَذَا مِمَّا أَكْثَرُوا فِيهِ فَانْتِزَاعٌ بَعِيدٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ إِلَّا بِاسْتِكْرَاهٍ وَتَكَلُّفٍ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ لِبَيَانِ سِعَةِ فَضْلِهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُسْتَحِقِّ لَهُ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ ضَيَّقُوا بِزَعْمِهِمْ حَصْرَ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ - هَذَا الْفَضْلُ الْوَاسِعُ - وَجَهِلُوا كُنْهَ هَذَا الْعِلْمِ الْمُحِيطِ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ فَضْلَهُ الْوَاسِعَ وَرَحْمَتَهُ الْعَامَّةَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ لَا لِوَسَاوِسِ الْمَغْرُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ حَجَرُوهُمَا بِجَهْلِهِمْ فَقَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَهُوَ يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ نَبِيًّا وَيَبْعَثُهُ رَسُولًا، وَمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا يَخْتَصُّهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ لَا بِعَمَلٍ قَدَّمَهُ، وَلَا لِنَسَبٍ شَرَّفَهُ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ - تَعَالَى - يُحَابِي الْأَفْرَادَ أَوِ الشُّعُوبَ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ، - تَعَالَى - اللهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بِبَعْضِ التَّفْصِيلِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ غُرُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصِّ، وَأَنَّ الدِّينَ وَالْحَقَّ مِنْ خَصَائِصِهِمْ. وَابْتِدَاؤُهَا بِالْعَطْفِ يُشْعِرُ بِمَعْطُوفٍ مَحْذُوفٍ حُذِفَ إِيجَازًا، لِأَنَّ السِّيَاقَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [٣: ١١٣] إِلَخْ. فَكَأَنَّهُ هَاهُنَا يَعْطِفُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، أَيْ مِنْهُمْ كَذَا وَمِنْهُمْ كَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ: كَأَنَّهُ؛ لِأَنَّ آيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... إِلَخْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَعَلَّ جَعْلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَبْتَدِئِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: " وَمِنْهُمْ " - وَالْكَلَامُ فِيهِمْ - لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاسْمِ الْكِتَابِ الَّذِي حَرَّفُوا نَهْيَهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ إِلَّا عَنْ خِيَانَةِ إِخْوَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ (آيَةُ ١٤) وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا مَعْنَاهُ إِلَّا مُدَّةَ دَوَامِكَ أَيُّهَا الْمُؤْتَمِنُ لَهُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ تُلِحُّ بِالْمُطَالَبَةِ، أَوْ تَلْجَأُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْمُحَاكَمَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ ذَلِكَ التَّرْكُ لِلْأَدَاءِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ أَيِ الْعَرَبِ تَبِعَةٌ وَلَا ذَنْبٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اسْتِحْلَالَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ جَاءَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ بِشَعْبِهِمْ وَالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ احْتِقَارَ الْمُخَالِفِ احْتِقَارًا يُهْضَمُ بِهِ حَقُّهُ الثَّابِتُ فِي الْمُعَامَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَعْبِ اللهِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ نَظَرِ اللهِ وَمَبْغُوضٌ عِنْدَهُ، فَلَا حُقُوقَ لَهُ وَلَا حُرْمَةَ لِمَا لَهُ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَتَى أَمْكَنَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ إِبَاحَةُ خِيَانَةِ الْأُمِّيِّينَ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ الدِّينَ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَجَئُوا إِلَى التَّقْلِيدِ فَعَدُّوا كَلَامَ أَحْبَارِهِمْ دِينًا يَنْسُبُونَهُ إِلَى اللهِ،
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي الدِّينِ بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُؤَيِّدُوا بِذَلِكَ أَقْوَالَهُمْ، فَكُلُّ هَذِهِ الدَّوَاهِي جَاءَتْهُمْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، نَاحِيَةِ التَّقْلِيدِ وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إِلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ. وَانْظُرْ كَيْفَ أَنْصَفَهُمُ الْكِتَابُ فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْوَفِيَّ وَالْخَائِنَ، وَلَا يَكُونُ أَفْرَادُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ خَائِنِينَ، وَنَاهِيكَ بِأُمَّةٍ مِنْهَا السَّمَوْأَلُ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ الْحَقِّ فِي الْمُعَامَلَةِ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الْعَهْدُ: مَا تَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِهِ لِغَيْرِكَ، فَإِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَقُومَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً وَمُجَازَاةً يُقَالُ: إِنَّهُمَا تَعَاهَدَا، وَيُقَالُ: عَاهَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عَهْدًا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعُقُودُ الْمُؤَجَّلَةُ وَالْأَمَانَاتُ، فَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقْرَضَكَ مَالًا إِلَى
أَجَلٍ أَوْ بَاعَكَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَجَبَ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءُ حَقِّهِ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُلْجِئَهُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، بِذَلِكَ تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ وَتُحَتِّمُهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِثَالُ الْعَهْدِ مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلُوا الْعَهْدَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَجَبَ الْوَفَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيٍّ فَلَا عَهْدَ لَهُ وَلَا حَقَّ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِطْلَاقِ عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ الْمُؤْمِنُ الْوَفَاءَ لَهُ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَعَهِدَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْيَهُودِ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُوفُونَ بِهَذَا الْعَهْدِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلَوْ أَوْفَوْا بِهِ لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا أَوْصَاهُمُ اللهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَلَفْظُ (بَلَى) جَاءَ لِإِثْبَاتِ مَا نَفَوْهُ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَهُوَ يَقُولُ: بَلَى عَلَيْكُمْ سَبِيلٌ وَأَيُّ سَبِيلٍ ; إِذْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ أَهْلِ الْوَفَاءِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ وُرُودَ الْجَوَابِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَفَادَنَا قَاعِدَةً عَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَهِيَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَاتِّقَاءَ الْإِخْلَافِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِمَحَبَّتِهِ لَا كَوْنُهُ مِنْ شَعْبِ كَذَا، وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْلَمُ خَطَأُ الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الرَّأْيِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِكُلِّ دِينٍ قَوِيمٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَ أَهْلِ الْغَدْرِ وَالْإِخْلَافِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَشْعَثَ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: " أَحْلِفُ "
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنْ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً لَهُ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ مَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ فَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَالْأَيْمَانُ فِيهَا جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْيَدِ الَّتِي تُقَابِلُ الشِّمَالَ ثُمَّ سَمَّى الْحَلِفَ وَالسَّقَمَ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَهْدِ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ مَنْ يُعَاهِدُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْعَهْدِ وَتَوْثِيقِهِ، حَتَّى إِنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَضَافَ الْعَهْدَ هَاهُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - عَهِدَ إِلَى النَّاسِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا كَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَتَّقُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَعَهْدُ اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ النَّاكِثُ لِلْعَهْدِ لَا يَنْكُثُ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنْهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، وَسَمَّى الْعِوَضَ ثَمَنًا قَلِيلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ فِي الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا إِذَا أُوتُوا عَلَيْهِ أَجْرًا كَبِيرًا وَثَمَنًا كَثِيرًا لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْ
عَلَى عَمَلٍ لَهُ صَالِحٍ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ؟ لَمْ يَكْتَفِ - تَعَالَى - بِحِرْمَانِ بَائِعِي الْعَهْدِ بِالثَّمَنِ مِنَ النَّعِيمِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى بَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي دَرَكَةٍ مِنَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ لَا تُرْجَى لَهُمْ فِيهَا رَحْمَةٌ وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ - تَعَالَى - كَلِمَةَ عَفْوٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ، فَعَدَمُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَمُنْتَهَى الْغَضَبِ الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ وَلَا أَمَلَ.
إِنَّ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرَ وَالرِّبَا وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَتَوَعَّدْ مُرْتَكِبِي هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ بِمِثْلِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ نَاكِثِي الْعُهُودِ وَخَائِنِي الْأَمَانَاتِ ; لِأَنَّ مَفَاسِدَ النَّكْثِ وَالْخِيَانَةِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا تِلْكَ الْجَرَائِمُ، فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ التَّدَيُّنَ وَيَتَّسِمُونَ بِسِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِالْعُهُودِ وَلَا يَحْفَظُونَ الْأَيْمَانَ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ صَغِيرًا مِنْ حَيْثُ يُكَبِّرُونَ أَمْرَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا. الْإِيمَانُ بِاللهِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْخِيَانَةِ وَالنَّكْثِ فِي نَفْسٍ، وَقَدْ عَدَّ - تَعَالَى - أَخَصَّ وَصْفٍ لِزُعَمَاءِ الْكُفْرِ يُبِيحُ قِتَالَهُمْ كَوْنَهُمْ لَا وَفَاءَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ إِذْ قَالَ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [٩: ١٢] وَقَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ - إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا وَقَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
شَاكِلَتِهِمْ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَرْوُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدِ زُعَمَائِهِمُ الْمُلِحِّينَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيذَائِهِ وَالْإِغْرَاءِ بِهِ، غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُمْ وَجَعَلُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ ; يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ يُنْبِئُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِمْسَاكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَصَارَ الِانْتِصَارُ لَهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِمْ، بَلْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَنْ كِتَابِهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ لِمُقَاوَمَةِ الْغَرِيبِ، وَيُعِدُّونَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لَهُ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، فَقَدْ يَعُدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ وَالْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِعَقَائِدِهِ وَأُصُولِهِ وَلَا بِفُرُوعِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَا هُوَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يَعُدُّونَهُ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ عَادَى مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِسَبَبٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، بَلْ يُعِدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ مَنْ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوهُ لَا لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ جَاءَ بِهِ. وَقَدْ يُحَرِّفُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّأْوِيلِ لِتَأْيِيدِ تَقَالِيدِهِمْ وَبِدَعِهِمْ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ اعْتِذَارًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُطَالَبِينَ بِأَخْذِ دِينِهِمْ مِنْهُ بَلْ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا لَيُّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ فَتْلُهُ لِلْكَلَامِ وَتَحْرِيفُهُ لَهُ بِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ وَقَدْ وَصَفَ - تَعَالَى - بِهِ الْيَهُودَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ [٤: ٤٦] فَهَذَا مِثَالٌ مِنْ لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا كَلِمَةَ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ جُمْلَةِ " لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا " الدِّعَائِيَّةِ الَّتِي تُقَالُ عَادَةً عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلِمَةَ رَاعِنَا مَكَانَ كَلِمَةِ " انْظُرْنَا " الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ لِمَنْ يَطْلُبُونَ مَعُونَتَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ وَإِنَّمَا قَالُوا: غَيْرَ مُسْمَعٍ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِمَعْنَى " لَا سَمِعْتَ " وَقَالُوا: رَاعِنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ كَانُوا يَتَسَابُّونَ
بِهَا - كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ - وَمِثْلُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضْغِمُونَ كَلِمَةَ السَّلَامِ فَيُخْفُونَ اللَّامَ قَائِلِينَ " السَّامُ عَلَيْكُمْ " غَيْرَ مُفْصِحِينَ بِالْكَلِمَةِ، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، فَاللَّيُّ وَالتَّحْرِيفُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُمْ أَحْيَانًا بِتَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ وَأَحْيَانًا بِصَرْفِهِ إِلَى غَيْرِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا اللَّيُّ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ النَّاطِقُ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ. مِثَالُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَكَلِمَةِ ابْنِ اللهِ وَتَسْمِيَةِ اللهِ أَبًا لَهُ وَأَبًا لِلنَّاسِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا، وَلَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ وَحْدَهُ أَيْ فَهُمْ يُفَسِّرُونَ لَفْظًا بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ فِي الْكِتَابِ يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّ الْكِتَابَ جَاءَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ كَاذِبُونَ.
أَكَّدَ الْخَبَرَ بِتَعَمُّدِهِمُ التَّحْرِيفَ وَسَجَّلَ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ عَلَيْهِمْ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُمْ لَا يُعَرِّضُونَ وَلَا يُوَرُّونَ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُونَ بِالْكَذِبِ تَصْرِيحًا لِفَرْطِ جَرَاءَتِهِمْ وَعَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُمْ رَسْمٌ ظَاهِرٌ وَجِنْسِيَّةٌ هِيَ مَصْدَرُ الْغُرُورِ ; إِذْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ جَمِيعُ مَا يَجْتَرِمُونَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ سُلَالَةِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ، وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتْمًا، مَهْمَا كَانَتْ سِيرَتُهُ سَيِّئَةً وَعَمَلُهُ قَبِيحًا.
فَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ الشَّفَاعَاتُ أَدْرَكَتْهُ الْمَغْفِرَةُ، وَيَعْنُونَ بِالْمُسْلِمِ مَنِ اتَّخَذَ الْإِسْلَامَ جِنْسًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ صَدَقَ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
النَّفْسُ فِيهَا مَذَاهِبَ التَّأْوِيلِ، فَالْعَمَلُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ الْحَقَّ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ بِفِقْهِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَالنُّبُوَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُقَالُ إِنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي الْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ بِمَعْنَى عَابِدٍ، وَالْعَبِيدُ جَمْعٌ لَهُ بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ أَيْ بِأَنْ تَتَّخِذُونِي إِلَهًا أَوْ رَبًّا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ كَائِنِينَ لِي مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ كُونُوا عَابِدِينَ لِي مِنْ دُونِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَجَاوِزِينَ اللهَ - تَعَالَى - أَيْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَقَطَعَ أَبُو السُّعُودِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَصْدُقُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا. وَلَهُ عِنْدِي وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا خَلُصَتْ لَهُ وَحْدَهُ فَلَمْ تَشُبْهَا شَائِبَةٌ مَا مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ: قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [٣٩: ١٤] وَقَالَ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [٩٨: ٥] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
فَمَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ فَقَدْ دَعَا النَّاسَ إِلَى أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ، بَلْ وَإِنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَمَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَاسِطَةً فِي الْعِبَادَةِ
وَمَتَى انْتَفَى الْإِخْلَاصُ انْتَفَتِ الْعِبَادَةُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [٣٩: ٢ - ٣] الْآيَةَ فَلَمْ يَمْنَعْ تَوَسُّلُهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - أَنْ يَقُولَ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ لِلَّذِي عَمِلَ لَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ يَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَمُقَرِّبٌ مِنْهُ وَشَفِيعٌ عِنْدَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالنَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَتَوَجُّهُهُ هَذَا إِلَيْهِ عِبَادَةٌ لَهُ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِهَا فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ
التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِأَنَّ النُّصُوصَ مُؤَيِّدَةٌ لَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ أَجَازُوا لِلْعَامَّةِ اتِّخَاذَ أَوْلِيَاءَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَوَسُّلًا بِهِمْ إِلَى اللهِ إِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَتَلَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [٤٠: ٦٠] الْآيَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أَيْ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُمُ النَّبِيُّ الَّذِي أُوتِيَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ بِأَنْ يَكُونُوا مَنْسُوبِينَ إِلَى الرَّبِّ مُبَاشَرَةً مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِهِ هُوَ وَلَا التَّوَسُّلِ بِشَخْصِهِ وَإِنَّمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْوَسِيلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ تَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَدِرَاسَتُهُ، فَبِعِلْمِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ رَبَّانِيًّا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - ; فَالْكِتَابُ هُوَ وَاسِطَةُ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالرَّسُولُ هُوَ الْوَاسِطَةُ الْمُبَلِّغَةُ لِلْكِتَابِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [٤٢: ٤٨] فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِشَخْصِ الرَّسُولِ بَلْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ ٣١) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَالْآيَاتُ الْمُقَرِّرَةُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مُفَصَّلًا: أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ رَبَّانِيًّا بِعِلْمِ الْكِتَابِ وَدَرْسِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ لِلنَّاسِ وَنَشْرِهِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لَا يَبْعَثُ إِلَى الْعَمَلِ لَا يُعَدُّ عِلْمًا صَحِيحًا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ مَا كَانَ صِفَةً لِلْعَالِمِ وَمَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ آثَارُ الصِّفَاتِ وَالْمَلَكَاتِ، وَالْمُعَلِّمِ يُعَبِّرُ عَمَّا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يُحَصِّلْ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ إِلَّا صُوَرًا وَتَخَيُّلَاتٍ تَلُوحُ فِي الذِّهْنِ وَلَا تَسْتَقِرُّ فِي النَّفْسِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا لَهُ يُفِيضُ الْعِلْمَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ، أَيْ فِي نَحْوِ الْعُلُومِ الْفَنِّيَّةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْهَنْدَسَةِ إِلَّا بَعْضَ
فَتَارَةً يُذْكَرُ الْمَلْزُومُ وَتَارَةً يُذْكَرُ اللَّازِمُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ " يَأْمُرَكُمْ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى (ثُمَّ يَقُولَ) وَ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُجَاءُ بِهَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ السَّابِقِ. وَهُوَ هُنَا قَوْلُهُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَهُ. تُنْقَلُ عِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاتَّخَذَ بَعْضُ الْيَهُودِ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنًا لِلَّهِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمَسِيحِ أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ بِعِبَادَتِهِ بَعْدَ إِذْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِمُقْتَضَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ مَنْ عَرَفْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى جَوَابِ مَنْ طَلَبَ السُّجُودَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ نَسُوا هُنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ هُوَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا أَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ ١٩) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ تَقْرِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِأَنَّهُمْ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ آمَنُوا بِهِ وَنَصَرُوهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ. وَحَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْفَاسِقِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ الَّذِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ التَّنْزِيلُ، وَكَوْنُ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ وَاحِدًا، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ النَّبِيِّينَ، وَكَوْنُ اللهِ - تَعَالَى - مُخْتَارًا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنْ مَزِيَّةٍ أَوْ نُبُوَّةٍ وَقَدْ سَبَقَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ لِإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِزَالَةِ شُبْهَاتِ مَنْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْثَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّتَهُمْ وَبَيَانَ خَطَئِهِمْ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُقَرِّرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْحُجَجِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِمْ لِدَحْضِ مَزَاعِمِهِمْ وَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ بِأَنَّ مَا يُعْطُونَهُ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ - وَإِنْ عَظُمَ أَمْرُهُ - فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَنْ يُرْسَلُ مِنْ بَعْدِهِمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْهُ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ. أَيْ فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ.
أَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ مِنَ الْمَرْءِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ الْمُؤَكَّدُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُعَاهِدُ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) يَلْتَزِمُ لِلْآخِذِ وَهُوَ الْمُعَاهَدُ (بِفَتْحِ الْهَاءِ) أَنْ يَفْعَلَ كَذَا مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْيَمِينِ أَوْ بِلَفْظٍ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ أَوِ الْمُوَاثَقَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: " الْمِيثَاقَ مِنَ النَّبِيِّينَ ". فَالنَّبِيُّونَ هُمُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ سَارِيًا عَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالْأَوْلَى، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ إِضَافَةَ مِيثَاقٍ إِلَى النَّبِيِّينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحَابُهُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُوثِقِ لَا إِلَى الْمُوثَقِ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُ اللهِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ مَسْكُوتًا عَنْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِكُمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: " مِيثَاقَ أُمَمِ النَّبِيِّينَ "، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالثَّانِي مِنْ آلِ الْبَيْتِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ قَالَ: هُوَ عَلَى حَدِّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [٦٥: ١]. فَالْخِطَابُ فِيهِ لِلنَّبِيِّ وَالْمُرَادُ أَمَتُّهُ عَامَّةً.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَوِ الطَّرِيقَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ
عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي أُوتِيَتِ الْكِتَابَ إِذَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِمِيثَاقِ اللهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ مِيثَاقِهِ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَا آتَيْتُكُمْ لَامُ التَّوْطِئَةِ لِأَخْذِ الْمِيثَاقِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ أَيْ أَنَّ الْمِيثَاقَ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، فَأَخْذُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ وَ " مَا " الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: مَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَاللَّامُ فِي لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ قَدْ أُخِذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مَا جَاءَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَكَانَ اللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِيثَاقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْضِ أَيْ إِذَا فُرِضَ أَنْ جَاءَكُمْ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ.
أَقُولُ: وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ مَرْتَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ النَّبِيِّينَ إِذَا فُرِضَ أَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ الرَّئِيسَ الْمَتْبُوعَ لَهُمْ ; فَمَا قَوْلُكُ إِذًا فِي أَتْبَاعِهِمْ لَا سِيَّمَا بَعْدَ زَمَنِهِمْ؟ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْهُدَى الْأَخِيرِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْبَشَرُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ مَعَهُ سِوَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَجِيئُونَ بِهَا هِدَايَةً مَوْقُوتَةً خَاصَّةً بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُجَجٍ مِنْهَا حَدِيثُ وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ أُخِذَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ إِرْسَالِهِمْ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُتَكَافِلِينَ مُتَنَاصِرِينَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ آخَرَ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ، كَمَا آمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ إِذْ كَانَ فِي زَمَنِهِ.
وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ سَبَبًا لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَيْدِ لَهُ فَكَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ فَلَا يَلْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الْخِلَافَ وَالشَّحْنَاءَ.
وَسُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنْ إِيمَانِ نَبِيٍّ بِنَبِيٍّ آخَرَ يُبْعَثُ فِي عَصْرِهِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَسْخَ الثَّانِي لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَصْدِيقُ دَعْوَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَيُنَاوِئُهُ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ شَرِيعَةُ الثَّانِي نَسْخَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ لَهُ وَإِلَّا صَدَّقَهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَيُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ أُمَّتِهِ أَعْمَالَ عِبَادَتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفَرُّقًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يَأْتِي فِي
أَقُولُ: وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ لِلْمَسْأَلَةِ مِثْلَ عَامِلَيْنِ يُرْسِلُهُمَا الْمَلِكُ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ إِلَى وِلَايَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْدِيقُ الْآخَرِ وَنَصْرُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِلسَّلْطَنَةِ أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ، وَمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي طِبَاعِ الْأَهَالِي وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَحَالُ الْبِلَادِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ كَأَنْ تَكُونَ الضَّرَائِبُ قَلِيلَةً فِي إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةً فِي الْأُخْرَى، وَكُلٌّ مِنَ الْعَامِلَيْنِ يُؤْمِنُ لِلْآخَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْآخَرُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْأُصُولِ دُونَ جَمِيعِ الْفُرُوعِ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَخَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ آخَرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وَأَمَّا إِذَا بُعِثَ الرَّسُولَانِ فِي أُمَّةٍ
وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُمَا يُكُونَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَنْسَ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَمَّا مَجِيءُ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ مُعْظَمَ فُرُوعِ شَرْعِهِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ مَعْنَى تَصْدِيقِ نَبِيِّنَا بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلِمَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ التَّفْصِيلِيُّ مُوَافِقًا لِشَرَائِعِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ أَقْوَامَهُمْ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ.
قَالَ - تَعَالَى - لِمَنْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمِيثَاقَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ أَيْ قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمُصَدِّقِ لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ إِصْرِي أَيْ عَهْدِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ فَلْيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ شَاهِدٌ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِي شَيْءٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَلْيَشْهَدْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [٧: ١٧٢] وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَبَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَاعْلَمُوا ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، كَالْعِلْمِ بِالْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ إِنَّ الْعَهْدَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أُمَمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مَعَهُمْ شَهِيدٌ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ وَقَعَتْ وَهَذِهِ الْأَقْوَالَ قِيلَتْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَقْرِيرُ الْمَعْنَى وَتَوْكِيدُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ.
أَقُولُ: وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَلَزِمَ قَرَارُهُ مَكَانَهُ، زِيدَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، فَقِيلَ أَقَرَّ الشَّيْءَ إِذَا أَثْبَتَهُ، وَأَقَرَّ بِهِ إِذَا نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَالْأَخْذُ التَّنَاوُلُ، وَفَسَّرْنَاهُ هُنَا بِالْقَبُولِ وَهُوَ غَايَتُهُ ; لِأَنَّ آخِذَ الشَّيْءِ يَقْبَلُهُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [٢: ٤٨]
وَالْخَيْرَاتِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي يَحْبِسُ صَاحِبَهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِيمَا الْتَزَمَهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي آيَةِ شَهِدَ اللهُ [٣: ١٨] إِلَخْ.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ دُعَاتَهُ مُتَّفِقُونَ مُتَّحِدُونَ فَمَنْ تَوَلَّى - بَعْدَ الْمِيثَاقِ عَلَى ذَلِكَ - عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ وَاتَّخَذَ الدِّينَ آلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ الْمُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ كَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُؤْذُونَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيِ الْخَارِجُونَ مِنْ مِيثَاقِ اللهِ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ وَلَيْسُوا مِنْ دِينِهِ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ. أَقُولُ: وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَى الْأُمَمِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ دِينَهُ وَاحِدٌ وَأَنَّ رُسُلَهُ مُتَّفِقُونَ فِيهِ قَالَ فِي مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَبْغُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى " غَيْرِ " عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ وَعَيَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ. وَالْمَعْنَى: أَيَتَوَلَّوْنَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ فَيَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ قَدْ خَضَعُوا لَهُ - تَعَالَى - وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ لَا بِالتَّكْلِيفِ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ الْمُنْقَادُونَ لِتَصَرُّفِهِ وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْنَى الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا يَحِلُّ بِالْعُقَلَاءِ مِنْ تَصَارِيفِ الْأَقْدَارِ، مِنْهُ مَا يَصْحَبُهُ اخْتِيَارُهُمْ عَنْ رِضًا وَاغْتِبَاطٍ فَيَكُونُونَ خَاضِعِينَ لَهُ طَوْعًا، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَحِلُّ بِهِمْ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [١٧: ٤٤].
وَيُقَابِلُ هَذَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالدِّينَ فَقَطْ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُفَسِّرُ إِسْلَامَ الْكُرْهِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ الْمُلْجِئَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [٣١: ٣٢]
وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ أَعَمُّ مِنْ إِسْلَامِ التَّكْلِيفِ وَإِسْلَامِ التَّكْوِينِ فَهُوَ يَشْمَلُ مَا يَكُونُ بِالْفِطْرَةِ وَمَا يَكُونُ بِالِاخْتِيَارِ. وَفِي هَذَا الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ قَالَ الْحَسَنُ: الطَّوْعُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَبَعْضُهُمْ بِالطَّوْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالْكُرْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُنْقَادُونَ لِإِلَهِيَّتِهِ طَوْعًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [٣١: ٢٥] وَمُنْقَادُونَ لِتَكَالِيفِهِ وَإِيجَادِهِ لِلْآلَامِ كُرْهًا. وَقِيلَ: الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ طَوْعًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ كُرْهًا فِيمَا يُخَالِفُ طِبَاعَهُمْ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَهُمْ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ كُرْهًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي التَّكْلِيفِ وَالتَّكْوِينِ. وَهَذِهِ وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا طَوْعًا لَهُمُ اخْتِيَارٌ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا كُرْهًا فَهُمُ الَّذِينَ فُطِرُوا عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْكُرْهِ يُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الِاخْتِيَارَ وَيَقْهَرُهُ ; فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدِ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّكْوِينِ: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [٤١: ١١] فَأَطْلَقَ الْكَرْهَ وَأَرَادَ بِهِ لَازِمَهُ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ. أَقُولُ: وَهَذَا سَهْوٌ فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَكُنْتُ - فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ - أُرَاجِعُهُ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوِ الطَّبْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تَتِمَّةَ الْآيَةِ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ مِنْ قِسْمِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ بِالِاخْتِيَارِ فَمِنْهُ مَا يُفْعَلُ طَوْعًا وَمَا يُفْعَلُ كَرْهًا. وَكَذَا مَا يَقَعُ بِهِمْ مِنْهُ مَا يَكُونُونَ كَارِهِينَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُونَ رَاضِينَ بِهِ. فَإِذَا كَانَ مُرَادًا فِي الْآيَةِ فَالطَّوْعُ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَا. وَصَفْوَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ هُوَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ -
تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصُ فِي الْخُضُوعِ لَهُ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أُمَمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ، فَجَاءَهُمُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ بِذَلِكَ قَدِ ابْتَغَوْا غَيْرَ دِينِهِ الَّذِي زَعَمُوهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَرَأَ حَفْصٌ يَرْجِعُونَ بِالْيَاءِ كَمَا قَرَأَ يَبْغُونَ وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ " تَبْغُونَ " بِالتَّاءِ كَالْجُمْهُورِ فَهُوَ قَدْ جَعَلَ الْخِطَابَ أَوَّلًا لِلْيَهُودِ وَجَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْمَرْجِعِ عَامًّا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " تَرْجِعُونَ " وِفَاقًا لِقِرَاءَتِهِمْ " تَبْغُونَ ".
كَمَا خَتَمَ - تَعَالَى - آيَةَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [٣: ٦٤] جَاءَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ تَوْلِيَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَأْمُرُنَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ آمَنَّا بِاللهِ أَيْ آمَنْتُ أَنَا وَمَنْ مَعِي بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [٢: ١٣٦] إِلَخْ وَقَدْ عُدِّيَ الْإِنْزَالُ هُنَاكَ بِـ " إِلَى " الدَّالَّةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالِانْتِهَاءِ، وَهُنَا بِـ " عَلَى " الَّتِي لِلِاسْتِعْلَاءِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ رَامِيًا بِالتَّعَسُّفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّعَدِّيَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَتَيْنِ إِذْ هُوَ هُنَاكَ الْمُؤْمِنُونُ وَهَاهُنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِـ " إِلَى " وَرَدَتْ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ، وَالتَّعْدِيَةَ بِـ " عَلَى " وَرَدَتْ فِي خِطَابِ غَيْرِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْوَحْيُ فَرْعٌ لَهُ، إِذْ هُوَ وَحْيُهُ - تَعَالَى - إِلَى رُسُلِهِ.
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ أَيْ وَآمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالْإِجْمَالِ أَيْ صَدَّقْنَا بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيًا لِهِدَايَةِ أَقْوَامِهِمْ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِي أَصْلِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْقَصْدِ مِنْهُ أَخْبَرَنَا
اللهُ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [٨٧: ١٤] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ [٣٥: ٣٦، ٣٧] إِلَخْ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [٤: ١٦٣] إِلَخْ. وَأَمَّا عَيْنُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي أَيْدِي الْأُمَمِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ التَّوْرَاةِ لِلْأَوَّلِ وَالْإِنْجِيلِ لِلثَّانِي، (وَ) مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَيْنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ نَبِيًّا ظَهَرَ فِي الْهِنْدِ أَوِ الصِّينِ قَبْلَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ نُؤْمِنُ بِهِ. وَارْجِعْ إِلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي اسْتِبَانَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِنْزَالِ وَالتَّعْبِيرِ بِالْإِتْيَانِ، قَالَ
افْتَتَحَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ وَخَتَمَهَا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ فِي
كَمَالِهِ ثَمَرَتُهُ وَغَايَتُهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الدِّينِيُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لِأَنَّ الدِّينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِسْلَامَ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا فَمَا هُوَ إِلَّا رُسُومٌ وَتَقَالِيدُ يَتَّخِذُهَا الْقَوْمُ رَابِطَةً لِلْجِنْسِيَّةِ، وَآلَةً لِلْعَصَبِيَّةِ وَوَسِيلَةً لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْقُلُوبَ فَسَادًا، وَالْأَرْوَاحَ إِظْلَامًا. فَلَا يَزِيدُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عُدْوَانًا، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَّا خُسْرَانًا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ هُنَالِكَ خَاسِرًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ إِذْ لَمْ يُزَكِّهَا بِالْإِسْلَامِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ لَهُ جَلَّ عُلَاهُ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٧: ٥٣] فِي الدِّينِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنَاطُ النَّجَاةِ وَوَسِيلَةُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ ; إِذْ يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْعَدُوا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُلُوكِ سُبُلِ الشَّقَاءِ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [٣٩: ١٤ - ١٥] وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ نَبَّهَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خُسْرَانِ الْآخِرَةِ
وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ هَاهُنَا إِشْكَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَإِذْ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [٤٩: ١٤] يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِسْلَامِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ اهـ. كَلَامُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُبْهَمٌ وَقَدْ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُولَى الْآيَةَ الَّتِي تُفَسِّرُهَا وَبِالثَّانِيَةِ قَالَتِ الْأَعْرَابُ وَالْمَعْنَى
أَنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يُسْلِمُوا الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ وَإِنَّمَا انْقَادُوا لِأَهْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ مَا نَصُّهُ:
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مَعَ هَذَا؟ نَقُولُ: بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَرْقٌ، فَالْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِسْلَامُ أَعَمُّ لَكِنَّ الْعَامَّ فِي صُورَةِ الْخَاصِّ مُتَّحِدٌ مَعَ الْخَاصِّ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ غَيْرَهُ. مِثَالُهُ: الْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ لَكِنَّ الْحَيَوَانَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ أَمْرًا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْعُمُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْوُجُودِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [٥١: ٣٥ - ٣٦].
وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَاتَيْنِ مَا نَصُّهُ: " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِطْلَاقُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ. فَإِذَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُسْلِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَفْهُومَيْهِمَا فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: أَخْرَجْنَا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا الْأَعَمَّ مِنْهُمْ إِلَّا بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِغَيْرِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ لَهُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَحَدٌ غَيْرُ زَيْدٍ فَيَكُونُ مُخْبِرًا لَهُ بِخُلُوِّ الْبَيْتِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ غَيْرِ زَيْدٍ " اهـ.
أَقُولُ: وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ فِي كَلَامِهِ اضْطِرَابًا وَسَبَبُهُ تَزَاحُمُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْإِطْلَاقَاتِ اللُّغَوِيَّةِ فِي ذِهْنِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَفْهُومَيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ مُتَبَايِنَانِ فَالْإِسْلَامُ: الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْحَرْبِ وَعَلَى السَّلَامَةِ وَالْخُلُوصِ وَعَلَى الِانْقِيَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ كَأَنْ يَقُولَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَتَعْتَقِدَ صِدْقَهُ. وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ كَأَنَّ نَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، وَقَدْ أُطْلِقَ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
الْيَقِينِيُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْوِجْدَانِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٤٩: ١٥] وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْإِخْلَاصُ لَهُ - تَعَالَى - فِي التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا هَدَى إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى دِينُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ. فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَنَاوَلُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارٍ ; وَلِذَلِكَ عُدَّا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَنِ إِيمَانِ الْأَعْرَابِ وَإِسْلَامِهِمْ فِي (٤٩: ١٥) ثُمَّ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٤٩: ١٦ - ١٧] فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ وَالْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ وَهُمَا الْمَطْلُوبَانِ لِأَجْلِ السَّعَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمَا ظَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ نِفَاقٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ الشِّقُّ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [٢: ٦٢] الْآيَةَ فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهَذَا الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ وَقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ إِلَخْ هُوَ الْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ النَّجَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا أَيْ دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ الَّذِي هُوَ مُسَالَمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا حَرْبًا لَهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِخْلَاصَ وَالِانْقِيَادَ مَعَ الْإِذْعَانِ وَإِلَّا لَمَا نَفَى إِيمَانَ الْقَلْبِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ عَقَائِدَ وَتَقَالِيدَ وَأَعْمَالٍ فَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ " الدِّينُ مَا عَلَيْهِ الْمُتَدَيِّنُونَ " فَالْبُوذِيَّةُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ الْمَعْرُفُونَ بِالْبُوذِيَّةِ، وَالْيَهُودِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْبُ
الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَهُودِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا نَصَارَى وَهَكَذَا. وَهَذَا هُوَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ سَمَاوِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ فَيَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ حَتَّى يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ أَصْلِهِ فِي قَوَاعِدِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُهُ لَا بِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ، وَتَحَوُّلُ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى جِنْسِيَّةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَدَّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ بَيَانِ رُوحِ دِينِ اللهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ
كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ أَرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّازِقِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ كَفَرَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ وَاللهِ - مَا عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللهَ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ اهـ. (مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ).
وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَوْا نَعْتَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ وَأَقَرُّوا وَشَهِدُوا أَنَّهُ حَقٌّ، فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَسَدُوا الْعَرَبَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرُوهُ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ حَسَدًا لِلْعَرَبِ حِينَ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا.
(٢) وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا.
(٣) نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَتَقَدَّمَ خَبَرُهُ.
أَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ مِنْ أَحَدٍ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهِ وَجَزَاءَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ وَقَدْ رَآهَا أَصْحَابُ أُولَئِكَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا صَادِقَةً عَلَى مَنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ فَذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَأَشَدُّهَا الْتِئَامًا مَعَ السِّيَاقِ رِوَايَةُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَعَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فَهُوَ اسْتِبْعَادٌ
لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِيئَاسٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَفَسَّرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْطَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ: بِخَلْقِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَهُمَا الرَّازِيُّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ، فَأَمَّا الْإِرْشَادُ فَقَدْ أُوتُوهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ لِإِيمَانِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مَعْنًى، وَالصَّوَابُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ هِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَإِيئَاسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْحَقِّ هِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَعَ عَدَمِ الْمَوَانِعِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى طَلَبِ الْمَطْلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ ; وَلِذَلِكَ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ: وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ كَفَرُوا مُكَابَرَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمُعَانَدَةً لِلرَّسُولِ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ. أَوِ الْمَعْنَى: بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ تَكُونُ هِدَايَةُ مَنْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا لِغَلَبَةِ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا بِذَلِكَ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ طَرِيقَتَانِ، إِحْدَاهُمَا شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ: هِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا جَاءَ فِي زَمَنِهِمْ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ الْعَلَامَاتُ وَظَهَرَتْ فِيهِ الْبِشَارَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَعَانَدُوهُ بَعْدَ مَجِيئِهِ بِالْبَيِّنَاتِ لَهُمْ وَظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَاللهُ لَا يَهْدِي أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْجَانِينَ عَلَيْهَا. وَوَضَعَ الْوَصْفَ الظَّالِمِينَ مَكَانَ الضَّمِيرِ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَجِبُ سُلُوكُهُ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، فَذَكَرَهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ ادِّعَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَنَكُّبِ هَؤُلَاءِ بِاخْتِيَارِهِمْ لِطَرِيقِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُدَى النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَا عَرَفُوهُ بِالْبَيِّنَاتِ هُوَ نِهَايَةُ الظُّلْمِ. (قَالَ) : وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ الَّتِي أُمِرْنَا بِطَلَبِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ الْإِيصَالُ إِلَى الْحَقِّ ;
لِأَنَّ سَائِرَ مَعَانِي الْهِدَايَةِ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ - فَالرَّسُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْجِنْسِ - وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حُظُوطِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا فِي الدِّينِ وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: كَيْفَ تَرْجُو يَا مُحَمَّدُ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ لَكَ ظَنًّا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ جَعَلَتْهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جِئْتَ بِهِ بَعْدَمَا عَلِمْتَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِحَقِيقَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ. أَقُولُ: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَهِ الطَّرِيقَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ كَالشَّخْصِ لِتَكَافُلِهَا كَمَا قَرَّرَهُ مِرَارًا، فَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرُ مَجْمُوعِ الْحَاضِرِينَ وَأَمْثَالِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِ مَجْمُوعِ سَلَفِهِمْ لَا أَنَّ كَلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعْنَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ سُخْطِهِ، وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِمَّا سُخْطُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا وَإِمَّا الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّعْنَةِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ " لَعَنَهُ أَهْلُهُ: طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ وَهُوَ لَعِينٌ طَرِيدٌ " وَبِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْكَلِمَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ [٢: ٨٨] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا اللَّعْنُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قَالَهُ هُنَا هُوَ التَّفْسِيرُ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ ; فَإِنَّ الطَّرِيدَ لَا يُطْرَدُ إِلَّا وَهُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: " اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ. وَذَلِكَ مِنَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُولِ رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَمِنَ الْإِنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ:
وَيُفَسِّرُونَ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ مِنْهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَدُلُّ فِي الْبَشَرِ عَلَى الِانْفِعَالَاتِ تُفَسَّرُ بِآثَارِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَكِنَّ السَّلَفِيِّينَ يُعِدُّونَ هَذَا تَأْوِيلًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ كَغَيْرِهَا شُئُونٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يُدْرِكُ الْبَشَرُ كُنْهَهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا آثَارُهَا، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَانَ سَلَفِيَّ الْعَقِيدَةِ فِي سِنِيهِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَفْنَاهُ فِيهَا، فَلَا يُبَالِي بِإِمْضَاءِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ تَفْسِيرَ مِثْلِ " عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ " بِعَلَيْهِ السُّخْطُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِعَلَيْهِ الطَّرْدُ، فَمَا قَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [١٦: ١٠٦] فَعَبَّرَ عَنْ وُقُوعِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ بِعَلَى، وَعَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ بِاللَّامِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَلْعَنُونَهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مَجْلَبَةٌ لِلَّعْنَةِ بِطَبْعِهَا مِنْ كُلِّ مَنْ عَرَفَهَا، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ لَعْنِ الْكَافِرِ وَالْمُبْطِلِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ إِنْ كَانَ لَا يَلْعَنُهُ، كَأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّعْنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [٢٩: ٢٥] وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ.
خَالِدِينَ فِيهَا أَيْ فِي اللَّعْنَةِ أَيْ يَكُونُونَ مَطْرُودِينَ، أَوْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ إِلَى الْأَبَدِ، أَوْ فِي أَثَرِهِ، وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا ; لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا تَكَيَّفَتْ بِهِ نُفُوسُهُمُ الظَّالِمَةُ، وَهِيَ مَعَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالشَّيْءُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْإِمْهَالُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ ذَنْبِهِمْ وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الظُّلْمِ الَّذِي
دَنَّسُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَتَرَكُوهُ مُسْتَقْبِحِينَ لَهُ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنْهُ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ بِمَا صَارَ لِلْإِيمَانِ الرَّاسِخِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالتَّصْرِيفِ لِإِرَادَتِهِمْ، أَوْ أَصْلَحُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَمُدُّ الْإِيمَانَ وَتُغَذِّيهِ وَتَمْحُو مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَتُثْبِتُ فِيهِ أَضْدَادَهَا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنَالُهُمْ مِنْ مَغْفِرَتِهِ مَا يُزَكِّي نُفُوسَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَيُصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدُخُولِ جَنَّتِهِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِالْكَيْدِ وَالتَّشْكِيكِ وَبِالْحَرْبِ وَالْكِفَاحِ، أَوِ الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَازْدِيَادُ الْكُفْرِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُنَمِّيهِ وَيُقَوِّيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَاوَمُ بِهَا الْإِيمَانُ، فَالْكُفْرُ يَزْدَادُ قُوَّةً وَاسْتِقْرَارًا وَتَمَكُّنًا بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ يُعِدُّونَهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ فِي الظَّاهِرِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [٤٢: ٢٥] فَقَالَ الْقَاضِي
وَالْقَفَّالُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ مَنْ كَفَرَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلُ اللَّعْنَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ كَفَرَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ تِلْكَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى تَصِيرُ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. اهـ. مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ بِتَصَرُّفٍ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ حُمِلَتْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ،
فَأَمَّا إِنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَكُفْرِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ ضَعْفَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوْبَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَجَزَمَ: (أَيِ ابْنُ جَرِيرٍ) بِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَكُونُ مَقْبُولًا وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ،
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَهِيَ أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّوْبَةِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّنْبِ الَّذِي تِيبَ عَنْهُ، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَجْهٌ يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ التَّوْبَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ ازْدَادُوا كُفْرًا قَدْ يَحْدُثُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَلَمٌ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَقَدْ يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ الْأَلَمُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَالشُّرُورِ. قَالَ: فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُصْلِحُوا أَمْرَهُمْ وَيُخْلِصُوا لِلَّهِ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ، فَالتَّوْبَةُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْمُحِقِّينَ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ - تَعَالَى - ; يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا لَصِقَ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْأَوْزَارِ، وَلَيْسَ هَذَا عَيْنُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ هِيَ تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَبِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْيٌّ لِلتَّوْبَةِ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لَهَا، بَلْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تُوغِلُ فِي الشَّرِّ وَتَتَمَكَّنُ فِي الْكُفْرِ حَتَّى تُحِيطَ بِهَا خَطِيئَتُهَا وَتَصِلَ إِلَى مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ قَدْ جَحَدَ الْحَقَّ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا وَضَلَّ عَلَى عِلْمٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ وَأَنْ يُحَاوِلَهَا وَلَكِنْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ وَالْحَوَائِلِ دُونَ قَبُولِهَا لِلْخَيْرِ
صَاحِبُهُ فَيَغْسِلُهُ فَيَنْظُفُ، فَإِذَا كَانَ اللَّوَثُ قَلِيلًا وَبَادَرَ إِلَى غَسْلِهِ بُعَيْدَ طُرُوئِهِ يُرْجَى أَنْ يَزُولَ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ. وَلَكِنَّ هَذَا الثَّوْبَ إِذَا دُسَّ فِي الْأَقْذَارِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتَّى تَخَلَّلَتْ جَمِيعَ خُيُوطِهِ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا فَاصْطَبَغَ بِهَا صِبْغَةً جَدِيدَةً ثَابِتَةً تَعَذَّرَ تَنْظِيفُهُ وَإِعَادَتُهُ إِلَى نَصَاعَتِهِ الْأُولَى. وَبَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الطَّرَفَيْنِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [٤: ١٧، ١٨] تِلْكَ حَالَةُ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْهَازِئِينَ بِالدِّينِ الْمُتَقَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ الْعَرِيقِينَ فِي الشَّرِّ ; وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الرُّسُوخَ فِي الضَّلَالِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ أَوِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الْمُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَحَسْبُكَ بِضَالٍّ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ، فَالْأَوَّلُ مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً مَقُبُولَةً مِنَ الْكُفْرِ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فَيَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ. وَالثَّانِي مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ إِمَّا لِفَسَادِهَا فِي نَفْسِهَا وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ حَتَّى يُدْرِكَهُمُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا إِذَا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥: ٢٣] فَهُوَ لَا يُفِيدُ فِي نَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَرْتَقِ رُوحُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى دَرَجَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهَا لَا تَرْتَقِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَاوِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ وَالْجَحِيمَ إِلَى دَرَجَةٍ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا الَّتِي تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ
فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [٥٧: ١٥] بَلْ لَا تُقْبَلُ الْفِدْيَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَامَّةٍ، وَلَيْسَتْ عِلَّةُ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ - تَعَالَى - غَنِيًّا عَنِ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُفْتَدَى بِهِ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - غَنِيٌّ أَيْضًا عَنْ إِيمَانِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَ نَجَاةِ النَّاسِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَلَا أَمْرَ فَوْزِهِمْ بِنَعِيمِهَا مِمَّا يَكُونُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ كَمَالٌ يُبْذَلُ وَعَظِيمٌ يَنْفَعُ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ دَاخِلِيٍّ، مُتَعَلِّقًا بِجَوْهَرِ النَّفْسِ، فَمَنْ زَكَّاهَا بِالْإِيمَانِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَفْلَحَ وَمَنْ دَسَّاهَا بِالْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ خَابَ وَخَسِرَ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَاتَّقُوا يَوْمًا [٢: ٤٨، ١٢٣] إِلَخْ - وَتَفْسِيرَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [٢: ٢٥٤] إِلَخْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مِنَ التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى الذَّهَبِ وَلَا إِلَى إِنْفَاقِهِ، لِأَنَّ الْأَشْقِيَاءَ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلِيَاءُ فِي غِنًى بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ عَمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلِافْتِدَاءِ لَوْ أُرِيدَ. لَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ غَيْرُ هَذَا.
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَوْ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَصِيرًا مَا، كَمَا تُفِيدُهُ (مِنْ) الدَّالَّةُ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَيُسَمُّونَهَا زَائِدَةً ; لِأَنَّهَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهَا فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ لَا لِأَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا فِي الْكَلَامِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلَنْ يُقْبَلَ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: لَنْ تُقْبَلَ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ فِيهَا، قَالَ: " قَدْ أُوذِنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْكَلَامَ بُنِيَ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَبُولِ الْفِدْيَةِ هُوَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَبِتَرْكِ الْفَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى التَّسَبُّبِ، كَمَا تَقُولُ: الَّذِي جَاءَنِي لَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ تَجْعَلِ الْمَجِيءَ سَبَبًا فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّرْهَمِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: فَلَهُ دِرْهَمٌ " أَيْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الدِّرْهَمَ جَزَاءً لِمَجِيئِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ. فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَةِ أُولَئِكَ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ كَوْنِهِمْ كَفَرُوا، وَلَا عَنْ كَوْنِهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ وَمَنِ ازْدَادَ كُفْرًا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمَا إِذَا صَحَّتْ، وَقَدْ عُلِمَ سَبَبُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْقِعِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدَى بِهِ عَلَى ظُهُورِهِ فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الزَّجَاجِ النَّحْوِيِّ: إِنَّهَا لِلْعَطْفِ وَالتَّقْدِيرُ لَوْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ: وَهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّغْلِيظِ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ
أَقُولُ: وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَظْهَرُ وَبِالنَّظْمِ أَلْيَقُ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ رَأْيِ الزَّجَّاجِ: (الثَّانِي) الْوَاوُ دَخَلَتْ لِبَيَانِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ، فَنَصَّ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ بِجِهَةِ الْفِدْيَةِ. أَقُولُ: وَلَوْ قَالَ التَّخْصِيصَ بَعْدَ التَّعْمِيمِ لَكَانَ أَظْهَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ وَاحِدٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ أَوْ يَحْتَمِلُهُ الْمُجْمَلُ لَيْسَ تَفْصِيلًا لَهُ. ثُمَّ قَالَ: (الثَّالِثُ) وَهُوَ وَجْهٌ خَطَرَ بِبَالِي وَهُوَ أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ فَإِذَا أَتْحَفَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْفِدْيَةَ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَضَبِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ، فَحَكَمَ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَبِأَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا مِنْهُ بِسَائِرِ الطُّرُقِ أَوْلَى. اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ - وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ شَوَاهِدَ وَأَمْثِلَةً ثُمَّ قَالَ - وَأَنْ يُرَادَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أَيْضًا لَمْ يُقْبَلْ. اهـ.
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
ذَكَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِبَيَانِ مَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ إِثْرَ بَيَانِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ
الْخِطَابَ لَا يَزَالُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. ذَلِكَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْرِنَ الْكَلَامَ فِي الْإِيمَانِ بِذِكْرِ آثَارِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَدَلُّهَا عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَمَّا حَاجَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي دَعَاوِيهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَكَوْنِهِمْ شَعْبَ اللهِ الْخَاصَّ وَكَوْنِ النُّبُوَّةِ مَحْصُورَةً فِيهِمْ، وَكَوْنِهِمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ وَمِيزَانِهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْجُوحُ وَالرَّجِيحُ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِتِلْكَ الدَّعَاوِي وَالْمُفْتَخِرُونَ بِالْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّصَالِ حَبْلِ النَّسَبِ بِالنَّبِيِّينَ قَدْ أُحْضِرَتْ أَنْفُسُكُمُ الشُّحُّ وَآثَرْتُمْ شَهْوَةَ الْمَالِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَإِذَا أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مَا فَإِنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ أَرْدَأِ مَا يَمْلِكُ وَأَبْغَضِهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَهِهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ لِأَجْلِ حُبِّهِ - تَعَالَى - وَالْمَالُ يَجْمَعُ جَمِيعَ الْمَحْبُوبَاتِ وَيُوَصِّلُ إِلَيْهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرِّ الْمُرَادِ هُنَا الَّذِي لَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ - أَيْ يُصِيبُهُ وَيُدْرِكُهُ - إِلَّا إِذَا أَنْفَقَ مِمَّا يُحِبُّ فَقِيلَ: هُوَ بِرُّ اللهِ - تَعَالَى - وَإِحْسَانُهُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَارًّا وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [٢: ١٧٧] الْآيَةَ، وَفِيهَا وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى إِلَخْ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
جَعَلَ إِيتَاءَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الْبِرِّ، كَمَا جَعَلَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ إِطْعَامَ الطَّعَامِ عَلَى حُبِّهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْأَبْرَارِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا جَعَلَ الْإِنْفَاقَ مِمَّا يُحِبُّ غَايَةً لَا يَنَالُ الْبِرَّ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا. وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مِمَّا يُحِبُّ كَانَ بَرًّا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِسَائِرِ شُعَبِ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالصَّبْرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، وَلَيْسَ مَا فُهِمَ بِصَوَابٍ، إِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ بَارًّا بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الْخِصَالِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ - الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ - وَمَا جَعَلَهَا غَايَةً إِلَّا وَهِيَ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْحُصُولِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَوَهَبَهُ الْكَمَالَ.
وَهَذَا الْإِنْفَاقُ غَيْرُ الزَّكَاةِ، خِلَافًا لِمَا نُقِلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ عُدَّتْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ شُعَبِ الْبِرِّ وَأَرْكَانِهِ بَعْدَ ذِكْرِ إِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الزَّكَاةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّ الْمُؤَدِّي، بَلْ وَرَدَ أَمْرُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا بِاتِّقَاءِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْنَا أَنِ اكْتَفَى مِنَّا فِي نَيْلِ الْبِرِّ بِأَنْ نُنْفِقَ مِمَّا نُحِبُّ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْنَا أَنْ نُنْفِقَ جَمِيعَ مَا نُحِبُّ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ
وَيَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ جَعْلِ مَا يُحِبُّونَ لِلَّهِ - تَعَالَى -. ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بَعْضَ الْوَقَائِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ نَخْلًا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْمَسْجِدَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ
مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، إِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ بِحَيْثُ أَرَاكَ اللهُ - تَعَالَى -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَخٍ بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ " فَجَعَلَهَا بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ يُقَالُ لَهَا سُبُلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَالَ: وَهِيَ صَدَقَةٌ فَقَبِلَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ أُسَامَةَ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي وَجْهِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَبِلَهَا مِنْكَ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ " فَكَأَنَّ زَيْدًا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَمَا إِنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَهَا " وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ سِيَاسَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقُلُوبِ. رَأَى أَنَّ زَيْدًا وَأَبَا طَلْحَةَ قَدْ خَرَجَا بِعَاطِفَةِ الْإِيمَانِ عَنْ أَحَبِّ أَمْوَالِهِمَا إِلَيْهِمَا عَلَى تَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِكَرَائِمِ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَقْرَبِينَ مِنْهُمَا لِيُثَبِّتَ قُلُوبَهُمَا فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ سَبِيلٌ إِلَى الْوَسْوَسَةِ لَهُمَا بِالنَّدَمِ أَوْ الِامْتِعَاضِ إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ فِي أَيْدِي الْغُرَبَاءِ، وَقَدْ يَمْتَعِضُ الْمَرْءُ بَعْدَ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ وَإِنْ فَارَقَهُ مُخْتَارًا مُرْتَاحًا لِعَاطِفَةٍ أَوْ أَرْيَحِيَّةٍ طَارِئَةٍ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُعَاوِدَهُ مِنَ الْحَنِينِ إِلَيْهِ مَا لَا يُعَاوِدُهُ إِلَى مَا هُوَ أَغْلَى مِنْهُ ثَمَنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَرَائِمِ الْمَحْبُوبَةِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ عُمَّالَ الصَّدَقَةِ بِاتِّقَاءِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ إِلَخْ فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللهُ - تَعَالَى - فَلَمْ أَجِدْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ - جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ - فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ - تَعَالَى -، فَلَوْ أَنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ
وَمِمَّا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ جَلُولَاءَ يَوْمَ فُتِحَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى فِي قِتَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ ".
وَآثَارُ السَّلَفِ فِي الْإِيثَارِ وَبَذْلِ الْمَحْبُوبَاتِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَثِيرَةٌ " نَزَلَ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَيْفٌ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَهْلِهِ شَيْئًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - هُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ - فَذَهَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّعَامَ وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِطْفَاءِ السِّرَاجِ، فَقَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُهُ فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ كَأَنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يَأْكُلُ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ وَبَقِيَ هُوَ وَعِيَالُهُ مَجْهُودِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ عَجِبَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ صَنِيعِكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَى ضَيْفِكُمْ وَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [٥٩: ٩] رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَاشْتَهَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ سَمَكَةً، وَكَانَ قَدْ نَقِهَ مِنْ مَرَضٍ فَالْتُمِسَتْ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ تُوجَدْ حَتَّى وُجِدَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَاشْتُرِيَتْ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَشُوِيَتْ وَجِيءَ بِهَا عَلَى رَغِيفٍ فَقَامَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْغُلَامِ لُفَّهَا بِرَغِيفِهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ فَأَبَى الْغُلَامُ فَرَدَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: كُلْ هَنِيئًا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَعْطَيْتُهُ دِرْهَمًا وَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لُفَّهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غُفِرَ لَهُ أَوْ غَفَرَ اللهُ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَ شَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا كَانَ أَحْوَجَ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا أَحْوَجُ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهُ سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ وَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ " نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ فِي الْقُوتِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَنْطَاكِيِّ الصُّوفِيِّ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ نَفْسًا وَنَيِّفٌ وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ بِقُرْبِ الرَّيِّ وَلَهُمْ أَرْغِفَةٌ مَعْدُودَةٌ لَا تُشْبِعُ جَمِيعَهُمْ، فَكَسَرُوا الرُّغْفَانَ وَأَطْفَئُوا السِّرَاجَ وَجَلَسُوا لِلطَّعَامِ وَأَوْهَمَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ، فَلَمَّا رُفِعَ إِذَا الطَّعَامُ بِحَالِهِ لَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا.
وَفِي هَذِهِ الْآثَارِ وَأَمْثَالِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَيَنْتَمِي إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِ بِدَعِهِمْ وَمَا اسْتَحْدَثُوا فِي دِينِهِمْ. أَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَفِي دَفْعِ شُبْهَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ شُبُهَاتِ الْيَهُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَرَّرَهُمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَكَذَا:
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ هُوَ جَوَابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَكِنَّ الْجَلَالَ وَكَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَرِّرُونَ الشُّبْهَةَ وَلَا يُبَيِّنُونَ وَجْهَ دَفْعِهَا بَيَانًا مُقْنِعًا، إِذْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُوَضِّحُهَا، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حَلَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَأْدِيبًا، كَمَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [٤: ١٦٠] الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِإِسْرَائِيلَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ، كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ، لَا يَعْقُوبُ نَفْسُهُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِ الشَّعْبِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ: أَنَّهُ ارْتَكَبَ الظُّلْمَ وَاجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ التَّحْرِيمِ، كَمَا صَرَّحَتِ الْآيَةُ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَطْعِمَةِ الْحِلَّ، وَكَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرُمَ عَلَى إِسْرَائِيلَ تَأْدِيبًا عَلَى جَرَائِمَ أَصَابُوهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ لَمْ يَجْتَرِحُوا تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتُ؟ ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا تَقْرِيرَ الدَّفْعِ وَسَنَدَهُ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ ; لَا تَخَافُونَ أَنْ تُكَذِّبَكُمْ نُصُوصُهَا.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ جِئْتُمْ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْهَا لَمَا كَانَ إِلَّا مُؤَيِّدًا لِلْقُرْآنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنَّهَا هِيَ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمْتُ. وَعُلِّلَتْ جُمْلَةُ التَّكَالِيفِ بِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ مُتَمَرِّدٌ يُقَاوِمُ الرَّبَّ، كَمَا قَالَ مُوسَى عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ (اقْرَأِ
الْفَصْلَ ٣١ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ) وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُصُولِ التَّوْرَاةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا قَوْلُ الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ يَعْقُوبَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - فَنَذَرَ إِنْ شُفِيَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْإِبِلِ، فَهُوَ دَسِيسَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَا الْعِرْقَ. وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ الْتَقَى فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِالرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَصَارَعَا إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَادَ يَعْقُوبُ يَغْلِبُهُ، وَلَكِنِ اعْتَرَاهُ عِرْقُ النَّسَا. إِلَخْ مَا حَرَّفُوهُ. أَقُولُ: وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ - كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ - ((٣٢: ٢٥)) وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخِذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخِذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ [٢٦] وَقَالَ أَطْلِقْنِي لِأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَقَالَ
وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مَا امْتَنَعُوا عَنْ أَكْلِهِ وَحَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالتَّقْلِيدِ لَا بِحُكْمٍ مِنَ اللهِ، كَمَا يُعْهَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الْعَرَبِ لِلْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي دَفَعَتْهَا الْآيَةُ هِيَ إِنْكَارُ النَّسْخِ، فَأَلْزَمَهُمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ نَفْسَهَا نَسَخَتْ بَعْضَ مَا كَانَ
عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْرَائِيلُ، وَهُوَ إِلْزَامٌ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّفَصِّي مِنْهُ ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ أَخْبَرَهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا يَسْقُطُ بَحْثُهُمْ فِي كَوْنِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الطَّعَامَ مَا يُطْعَمُ، أَيْ يُتَنَاوَلُ لِأَجْلِ الْغِذَاءِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: طَعِمَ الْمَاءَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَكَانَ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْخُبْزِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَكَلَ الطَّعَامَ مَأْدُومًا، وَعَلَى الْبُرِّ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ " كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ " إِلَخْ. - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ حَتْمًا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [٥: ٩٦] وَعَلَى الذَّبَائِحِ أَوْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [٥: ٥] الْآيَةَ. وَالْحِلُّ بِالْكَسْرِ: مَصْدَرُ حَلَّ الشَّيْءُ ضِدَّ حَرُمَ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَلِّ الْعُقْدَةِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ. وَإِسْرَائِيلُ: لَقَبُ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَعْنَاهُ " الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللهِ " وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عِنْدَهُمْ فِي سَبَبِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ مِنَ الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى مُوسَى فَمَا دُونَهُمَا.
قُلْ صَدَقَ اللهُ فِيمَا أَنْبَأَنِي بِهِ مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ عَلَى إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّنِي مُبَلِّغٌ عَنْهُ، إِذْ مَا كَانَ لِي لَوْلَا وَحْيُهُ أَنْ أَعْرِفَ صِدْقَكُمْ مِنْ كَذِبِكُمْ فِيمَا تُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْ أَنْبِيَائِكُمْ، وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا لَا غُلُوَّ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ الْقَوِيمَةُ وَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ
الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَحْدَهُ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ - تَعَالَى -، أَوْ يَخَافُونَ الضُّرَّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَّتُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ جَوَابُ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ الَّذِي نَسْتَقْبِلُهُ فِي صَلَاتِنَا هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مَعْبَدًا لِلنَّاسِ، بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَهُ بِعِدَّةِ قُرُونٍ، بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَتَوَجَّهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ هَلْ هِيَ أَوَّلِيَّةُ الشَّرَفِ أَمْ أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْأَنْبِيَاءُ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعٌ بَنَاهُ الْأَنْبِيَاءُ أَقْدَمَ مِنْهُ فِيمَا يُعْرَفُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الشَّرَفِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ زَمَانِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِ الْبُيُوتِ مُطْلَقًا. فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَتْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بُنِيَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا شَيْءَ فِي الْعَقْلِ يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى ثُبُوتِهِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْإِطْلَاقُ قَدْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ٨٠٠ سَنَةٍ - كَذَا قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ - وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّهُ تَمَّ بِنَاؤُهُ سَنَةَ ١٠٠٥ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدَيْنِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ الْوَضْعِ لَا الْبِنَاءِ. قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَنَى أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِلْعِبَادَةِ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ الَّذِي أَسَّسَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَعْقُوبُ وَإِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ مُجَدِّدًا لَهُ. هَذَا وَإِنَّ أَخْبَارَ التَّارِيخِ لَيْسَتْ مِمَّا بَلَغَ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ يُتَّبَعُ، وَالْمَوْضُوعَاتُ الْمَرْوِيَّةُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي ذِكْرِهَا وَبَيَانِ وَضْعِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْبَيْتِ: مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالِهِ الْحَسَنَةِ الْحِسِّيَّةِ وَحَالِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَمَّا الْأُولَى: فَهِيَ مَا أُفِيضُ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَثَمَرَاتِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كَوْنِهِ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فَتَرَى الْأَقْوَاتَ وَالثِّمَارَ فِي مَكَّةَ أَكْثَرَ وَأَجْوَدَ وَأَقَلَّ ثَمَنًا مِنْهَا فِي مِثْلِ مِصْرَ وَكَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ هَوَى أَفْئِدَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِتْيَانُهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُشَاةً وَرُكْبَانًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وَتَوْلِيَةُ وُجُوهِهِمْ شَطْرَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَعَلَّهُ لَا تَمُرُّ سَاعَةٌ وَلَا دَقِيقَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلَيْسَ فِيهَا أُنَاسٌ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يُصَلُّونَ. فَأَيُّ هِدَايَةٍ لِلْعَالَمِينَ أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ؟ تِلْكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [١٤: ٣٧] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢٨: ٥٧] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مُبَارَكًا يَشْمَلُ الْبَرَكَاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ " بَكَّةَ " اسْمٌ لِمَكَّةَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قِيلَ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ إِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَسَمَدَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ، وَضَرْبَةِ لَازِمٍ وَضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَرَاتِمٍ وَرَاتِبٍ، وَنَمِيطٍ وَنَبِيطٍ وَقِيلَ: بَكَّةُ اسْمُ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ، أَوْ حَيْثُ الطَّوَافُ مِنَ التَّبَاكِ، أَيِ الِازْدِحَامِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ بَطْنِ مَكَّةَ حَيْثُ الْحَرَمِ.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ فِيهِ دَلَائِلُ أَوْ عَلَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى
أَحَدٍ، أَحَدُهَا أَوْ مِنْهَا: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ مَوْضِعُ قِيَامِهِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. فَأَيُّ دَلِيلٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا عَلَى كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وُضِعَ لِيَعْبُدَ النَّاسُ فِيهِ رَبَّهُمْ؟ وَإِبْرَاهِيمُ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ أَثَرُهُمْ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ فِيهِمْ لَا يُعْرَفُ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ أَثَرٌ وَلَا يُحْفَظُ لَهُ نَسَبٌ.
وَيُرَدُّ عَلَى إِقْرَارِ الْإِسْلَامِ لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ فَتْحُ مَكَّةَ بِالسَّيْفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهَا حَلَّتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَخْصِيصِهِ لِمَا وُضِعَ لَهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُرْمَةَ مَكَّةَ كُلِّهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ ضَوَاحِيهَا وَحِلَّهَا لِلنَّبِيِّ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ أَمْنُ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً وَلَا بَعْضَ سَاعَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَادِيهِ يُنَادِي بِأَمْرِهِ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ وَلَمَّا أَخْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حَامِلِ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ لَهُ فِي الطَّرِيقِ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ (رَاجِعِ السِّيَرَ).
وَأَمَّا فِعْلُ الْحَجَّاجِ - أَخْزَاهُ اللهُ - فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّذُوذِ الَّذِي لَا يُنَافِي الِاتِّفَاقَ عَلَى احْتِرَامِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَأْمِينِ مَنْ دَخَلَهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ الْإِيقَاعِ بِهِ عَجْزًا طَبِيعِيًّا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَلْهَمَهُمُ احْتِرَامَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَحَرَّمَ الْإِلْحَادَ وَالِاعْتِدَاءَ فِيهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْحَجَّاجُ وَجُنْدُهُ يَعْتَقِدُونَ
حِلَّ مَا فَعَلُوا مِنْ رَمْيِ الْكَعْبَةِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَلَكِنَّهَا السِّيَاسَةُ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ، وَتُوقِعُهُ فِي الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنَّ مَا يُفْعَلُ الْآنَ فِي الْحَرَمِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ الْمُسْتَمِرِّ لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَلَا ضَرُورَةَ مُلْجِئَةٌ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ السِّيَاسَةُ السَّوْءَى قَضَتْ بِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْ أُمَرَاءِ مَكَّةَ وَشُرَفَائِهَا وَإِبْعَادِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا قُوَّةٌ فِي الدِّينِ، وَلَا فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ! ! وَمَاذَا يَكُونُ مِنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْقُوَّةِ؟ يُوَسْوِسُ لَهُمْ شَيْطَانُ السِّيَاسَةِ أَنَّ عُمْرَانَ الْحِجَازِ وَثِقَةَ النَّاسِ بِأُمَرَائِهِ وَشُرَفَائِهِ، وَأَمْنَ الْعُقَلَاءِ وَالسَّرَوَاتِ فِيهِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي إِنْشَاءِ خِلَافَةٍ عَرَبِيَّةٍ فِيهِ. إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَابِغِيهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دُونَ أَدَائِهِمْ لِفَرِيضَةِ الْحَجِّ عَقَبَاتٍ سِيَاسِيَّةً لَا يَسْهُلُ اقْتِحَامُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي صُحُفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَمِيرَ مِصْرَ اسْتَأْذَنَ السُّلْطَانَ فِي حَجِّ وَالِدَتِهِ وَبَعْضِ أُمَرَاءِ أُسْرَتِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ. وَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَجَّ
وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ كَمَا قِيلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَهُوَ بَيَانُ آيَةٍ ثَالِثَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْبَيْتِ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْفَرْضِيَّةِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ مَزَايَاهُ وَدَلَائِلِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْمُعْتَرِضِينَ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى اسْتِقْبَالِهِ
فِي الصَّلَاةِ، فَهُوَ يُفِيدُ بِمُقْتَضَى السِّيَاقِ مَعْنًى خَبَرِيًّا وَبِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ مَعْنًى إِنْشَائِيًّا وَهُوَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ - وَإِنْ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ - هِيَ وَارِدَةٌ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ. وَأَيُّ تَعْظِيمٍ أَكْبَرُ مِنِ افْتِرَاضِ حَجِّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ وَمَا زَالُوا يَحُجُّونَهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَرَبَ عَنْ ذَلِكَ شِرْكُهَا وَإِنَّمَا كَانُوا يَحُجُّونَ عَمَلًا بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ عَمَلٌ عَامٌّ جَرَوْا عَلَيْهِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذِهِ آيَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى نِسْبَةِ هَذَا الْبَيْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ نُقُولِ الْمُؤَرِّخِينَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَبِهَذَا وَبِمَا سَبَقَهُ بَطَلَ اعْتِرَاضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ دُونَهُمْ.
أَمَّا الْحِجُّ فَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَصْدُ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ - وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ - وَفَتْحِهَا - وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي بُعْدِهِمْ عَنِ الْبَيْتِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ - وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا - مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا نِحْرِيرًا، وَمَا زَادَ النَّاسَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَّا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَتِهَا الْوَاضِحَةِ مِنَ الْآيَةِ أَتَمَّ الْوُضُوحِ ; إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهَا أَمْنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْأَمْنَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ
وَكَيْفَ وَقَدْ أُلْقِيَ بَعْضُ عُلَمَائِهَا فِي ظُلْمَةِ السِّجْنِ مُكَبَّلًا بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَا ذَنْبَ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا أَيَّدَ فِيهِ التَّوْحِيدَ وَبَيَّنَ فَسَادَ مَا طَرَأَ عَلَى النَّاسِ مِنْ نَزَعَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ؟
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَ مِثْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الَّذِي كَانَ يُنْكِرُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ حَيًّا، أَكَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ، وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي عَصْرِ الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ؟ وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِي الْأَرْوَاحِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا الْيَوْمَ مِنْ مَادِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، دَعِ الْفِرَقَ الَّتِي وُسِمَتْ بِالِابْتِدَاعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السُّنَّةِ يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ فِي بَعْضِ الْآرَاءِ أَيَّامَ كَانَ قُرْبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَبُعْدِهِمْ عَنْهُ الْيَوْمَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا إِنَّهُ بَيَانٌ لِمَوْقِعِ الْإِيجَابِ وَمَحَلِّهِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ مُوَجَّهَةٌ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ وَوَعِيدٌ عَلَى جُحُودِهِ، وَبَيَانٌ لِتَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - بِإِزَالَةِ مَا عَسَاهُ يَسْبِقُ إِلَى أَوْهَامِ الضُّعَفَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ نِسْبَةِ الْبَيْتِ إِلَى اللهِ، وَالْعِلْمِ بِفَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحُجُّوهُ مِنْ كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ. فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ: جُحُودُ كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ لِلْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِمَا فَرَضَ اللهُ مِنْ حَجِّهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ لَا مُتَمِّمَ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا وَإِنْ دَعَّمُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ بِاخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ. وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ إِلَّا مَا قِيلَ فِي رِوَايَةٍ مَوْقُوفَةٍ، بَلْ عَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَأَمْثَلُ طُرُقِهِ الْمَرْفُوعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - بِلَفْظِ: مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كِتَابِهِ:
أَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَزَايَا وَآيَاتٍ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ. فَالْمَزَايَا كَوْنُهُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مُبَارَكًا، وَكَوْنُهُ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. وَالْآيَاتُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ دَاخِلِهِ، وَالْحَجُّ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَذْكُرُ لَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا خَصَائِصَ وَمَزَايَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ " مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْآيَاتُ وَإِنَّ قَوْلَهُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. قَالَ الرَّازِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَقَرُّهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَعَبَدَ اللهَ فِيهِ. اهـ. وَلَعَلَّ الدَّافِعَ لَهُمْ إِلَى هَذَا فَهْمُهُمْ أَنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ تَابِعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مُحَاوَلَةُ الْآخَرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ عِدَّةِ آيَاتٍ. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْآيَاتِ ; لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ ; لِأَنَّهُ لَانَ مِنَ الصَّخْرَةِ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ، وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - آيَةٌ خَاصَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ أُلُوفَ السِّنِينَ آيَةٌ. فَثَبَتَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. اهـ.
أَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [٢: ١٢٥] أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَقَامَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْقِفِهِ حَيْثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَثَرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْأَثَرُ نَفْسُهُ فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي لَامِيَّتِهِ:
وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ | عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ |
وَمِمَّا عَدُّوهُ مِنَ الْآيَاتِ: قَصْمُ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ بِسُوءٍ كَأَصْحَابِ الْفِيلِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ مِنَ الْحَجَّاجِ وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَعَدَمُ تَعَرُّضِ ضَوَارِي السِّبَاعِ لِلصَّيُودِ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الضَّعْفِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ آيَةً. وَعَدَمُ نَفْرَةِ الطَّيْرِ مِنَ النَّاسِ هُنَاكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّيْرَ تَأْلَفُ النَّاسَ لِعَدَمِ تَعَرُّضِهِمْ لَهَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُهُ فِي الْأَرْضِ.
وَانْحِرَافُ الطَّيْرِ عَنْ مُوَازَاتِهِ وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ. وَكَوْنُ وُقُوعِ الْغَيْثِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْخِصْبِ، فَإِذَا عَمَّهُ كَانَ الْخِصْبُ عَامًّا وَإِذَا وَقَعَ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ كَانَ الْخِصْبُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ آيَةٌ وَهْمِيَّةٌ.
وَلَعَمْرِي إِنَّ بَيْتَ اللهِ غَنِيٌّ عَنِ اخْتِرَاعِ الْآيَاتِ وَإِلْصَاقِهَا بِهِ مَعَ بَرَاءَتِهِ، فَحَسْبُهُ شَرَفًا كَوْنُهُ حَرَمًا آمِنًا وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَمُبَارَكًا هَدًى لِلْعَالَمِينَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ وَإِقْسَامُهُ - تَعَالَى - بِهِ وَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِهِ فِي حُرْمَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَفَضْلِهِ، كَكَوْنِهِ لَا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ - أَيْ لَا يُقْطَعُ نَبَاتُهُ - وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُمْلَكُ لُقَطَتُهُ، وَكَوْنُ قَصْدِهِ مُكَفِّرًا لِلذُّنُوبِ مَاحِيًا لِلْخَطَايَا، وَكَوْنُ
الْعِبَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهِ لَا تُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ رَمْزًا إِلَى مُبَايَعَةِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهِ، وَكَوْنُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ فِي غَيْرِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ تُطْلَبُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ وَكُتُبِ السُّنَنِ.
قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
أَقُولُ لَمَّا أَقَامَ - سُبْحَانَهُ - الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنِهِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ أَنْ يُبَكِّتَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْإِيمَانِ، وَابْتِغَائِهِ عِوَجًا، وَضَلَالِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ. فَقَالَ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي بَيْتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَتِهِ وَعَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لَهُ
قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ تَصْرِفُونَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ سَبِيلُ اللهِ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ بِمَا تُرَقِّي مِنْ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَمِنْ نَفْسِهِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، تَصُدُّونَ عَنْهَا بِالتَّكْذِيبِ كِبْرًا وَحَسَدًا، وَإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ الْبَاطِلَةِ مُكَابَرَةً وَبَغْيًا وَالْكَيْدِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بَغْيًا وَعُدْوَانًا تَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْهَا قَاصِدِينَ بِصَدِّكُمْ أَنْ تَكُونَ مُعْوَجَّةً فِي نَظَرِ مَنْ يُؤْمِنُ لَكُمْ وَيَغْتَرُّ بِكَيْدِكُمْ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بِأَنَّهَا سَبِيلُ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةُ، لَا تَرَوْنَ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتَا، عَارِفُونَ بِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ صَدَّ عَنْهَا
ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ فِي قَوْمِكَ، تُوصَفُونَ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ، وَتَسْتَشْهِدُونَ فِي الْقَضَايَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الصَّدِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى بَقَايَا الْكِتَابِ وَمَا يُؤْثَرُ عَنِ النَّبِيِّينَ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ السَّبِيلِ: سَبِيلِ الْحَقِّ وَالسَّبْقِ إِلَيْهَا بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ هَذَا الصَّدِّ وَغَيْرِهِ فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ. فَالتَّذْيِيلُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ، وَقَدْ جَاءَ بِنَفْيِ الْغَفْلَةِ ; لِأَنَّ صَدَّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ كَانَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ وَالْحِيَالِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى الْغَافِلِ. كَمَا خَتَمَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا عَلَى عَمَلِهِمْ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهَا هُوَ ظَاهِرٌ مَشْهُودٌ، فَذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.
أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمَا شَرٌّ، فَبَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ ذَكَرُوا مَا (كَانَ) بَيْنَهُمْ حَتَّى غَضِبُوا وَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ فَنَزَلَتْ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا ". وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ - وَكَانَ يَهُودِيًّا - عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَتَحَدَّثُونَ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ تَآلُفِهِمْ بَعْدَ الْعُدْاوَنِ، فَأَمَرَ شَابًّا مَعَهُ مِنْ يَهُودَ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ فَيُذَكِّرَهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَفَعَلَ، فَتَنَازَعُوا وَتُفَاخَرُوا حَتَّى وَثَبَ رَجُلَانِ: أَوْسُ بْنُ قُرَظِيٍّ مِنَ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ فَتَقَاوَلَا، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ، وَتَوَاثَبُوا لِلْقِتَالِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ حَتَّى وَعَظَهُمْ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، فَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا فَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَوْسٍ وَجَبَّارٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ مُفَصَّلًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ - وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الضَّغَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ - عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ
مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ - وَكَانَ مَعَهُ - فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ - أَوْسُ بْنُ قُرَظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَوْسِ وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ - فَتَقَاوَلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَتَحَاوَرَ النَّاسُ، فَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللهَ اللهَ، أَتَدْعُونَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا! ؟ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدٌ مِنْ عَدُّوِهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللهِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَنْزَلَ اللهُ فِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَوْسِ بْنِ قُرَظِيٍّ وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَأَوْرَدَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةً، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ مُتَّصِلَتَيْنِ بِالْآيَاتِ الْآتِيَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنْ صَحَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ هُوَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ الَّتِي كَانَ الْكُفْرُ سَبَبَهَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ عَلَى هَذَا هُوَ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةٌ يَانِعَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَإِذَا لَمْ نَنْظُرْ إِلَى مَا وَرَدَ مِنَ السَّبَبِ فَالْمَعْنَى: وَضَعُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا أَطَعْتُمُوهُمْ وَسَلَكْتُمْ مَسَالِكَهُمْ فَإِنَّكُمْ تَكْفُرُونَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.
أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكُفْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: حَقِيقَتُهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ إِذَا أَصْغَيْتُمْ إِلَى مَا يُلْقِيهِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ مِنْ مُثِيرَاتِ الْفِتَنِ وَاسْتَجَبْتُمْ لِمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ فَكُنْتُمْ طَائِعِينَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْنَعُونَ مِنْكُمْ بِالْعَوْدِ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، بَلْ يَتَجَاوَزُونَ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [٢: ١٠٩] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَدَّتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [٣: ٦٩] وَلَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ إِتْيَانِ مَا يَوَدُّ إِلَّا عَجْزُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا - وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ - فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أَيْ وَاجِبٌ تَقْوَاهُ وَمَا يَحِقُّ مِنْهَا، كَمَا فِي الْكَشَّافِ، قَالَ: مِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤: ١٦] أَيْ بَالِغُوا فِي التَّقْوَى حَتَّى لَا تَتْرُكُوا مِنَ الْمُسْتَطَاعِ مِنْهَا شَيْئًا. اهـ.
هَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْعِبَارَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ بِحَسْبَ ذَوْقِهِ السَّلِيمِ وَفَهْمِهِ الدَّقِيقِ، ثُمَّ نَقَلَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِيهِمَا، وَمَا قَالَهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَمَعْنَى الْعِبَارَتَيْنِ عَلَيْهِ وَاحِدٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَهِمَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ،
حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الثَّانِيَةَ نَسَخَتِ الْأُولَى، وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا ومَرْفُوعًا. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ: أَنَّ مَعْنَى اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ " أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكُرَ فَلَا يُكْفَرُ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ فَقَامُوا " فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ " حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَتِ الْآيَةَ الْأُولَى، كَذَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ النَّسْخَ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَدَمُ نَسْخِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَهَا بِأَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. أَيْ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَاتِ الَّتِي تُقَرِّرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ مِمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَسْخِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَمَعْنَاهُ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: اسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَحَافِظُوا عَلَى أَعْمَالِهِ حَتَّى الْمَوْتِ. فَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا الدِّينُ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى حَقِّ التَّقْوَى. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصُ، وَقِيلَ الْإِيمَانُ دُونَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَمِرُّ إِلَى الْمَوْتِ. أَقُولُ: وَهَذَا النَّهْيُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ أَنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَاشَ عَلَى الْيَقِينِ حَقَّ التَّقْوَى وَالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يُنَافِي الْإِسْلَامَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ الَّذِي كَانَتْ تِلْكَ الْقَاعِدَةُ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - مَا بِهِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَقَالَ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا حَبْلُ اللهِ: هُوَ الْقُرْآنُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: " كِتَابُ اللهِ هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ " عُلِّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْحُسْنِ. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: " حَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ " وَقِيلَ: هُوَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْعِبَارَةَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، شُبِّهَتْ فِيهَا حَالَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي اهْتِدَائِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ وَتَكَاتُفِهِمْ بِحَالَةِ اسْتِمْسَاكِ الْمُتَدَلِّي مِنْ مَكَانٍ عَالٍ بِحَبْلٍ مَتِينٍ يَأْمَنُ مَعَهُ مِنَ السُّقُوطِ.
وَصَوَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ التَّمْثِيلَ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ هَذَا، قَالَ مَا مَعْنَاهُ: الْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ تَمْثِيلًا، كَأَنَّ الدِّينَ فِي سُلْطَانِهِ عَلَى النُّفُوسِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْإِرَادَاتِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى حَسَبِ هَدْيِهِ حَبْلٌ مَتِينٌ يَأْخُذُ بِهِ الْآخِذُ فَيَأْمَنُ السُّقُوطَ، كَأَنَّ الْآخِذِينَ بِهِ قَوْمٌ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ يُخْشَى عَلَيْهِمُ السُّقُوطُ مِنْهُ. فَأَخَذُوا بِحَبَلٍ مَوَثَّقٍ جَمَعُوا بِهِ قُوَّتَهُمْ فَامْتَنَعُوا مِنَ السُّقُوطِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنْ تَفْسِيرِ حَبْلِ اللهِ بِكِتَابِهِ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ كَانَ آخِذًا بِالْإِسْلَامِ. وَلَا يَظْهَرُ تَفْسِيرُهُ بِالْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِمَاعُ هُوَ نَفْسُ الِاعْتِصَامِ، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ أَنَّ اجْتِمَاعَنَا وَوَحْدَتَنَا بِكِتَابِهِ، عَلَيْهِ نَجْتَمِعُ، وَبِهِ نَتَّحِدُ، لَا بِجِنْسِيَّاتٍ نَتَّبِعُهَا، وَلَا بِمَذَاهِبَ نَبْتَدِعُهَا، وَلَا بِمُوَاضَعَاتٍ نَضَعُهَا، وَلَا بِسِيَاسَاتٍ نَخْتَرِعُهَا، ثُمَّ نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِانْفِصَامِ بَعْدَ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَالِاعْتِصَامِ، لِمَا فِي التَّفَرُّقِ مِنْ زَوَالِ الْوَحْدَةِ الَّتِي هِيَ مَعْقِدُ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَبِالْعِزَّةِ يَعْتَزُّ الْحَقُّ فَيَعْلُو فِي
غَيْرَ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي هُوَ كِتَابُهُ. فَمِنْ تِلْكَ السُّبُلِ الْمُفَرِّقَةِ: إِحْدَاثُ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [٦: ١٥٩] وَمِنْهَا عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا مَعَهَا فِيهَا، لِمَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَا كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ وَحِسَانٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَيُهْرِيقَ دَمَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَقَدِ اعْتَصَمَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَهْلُ أُورُبَّا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَرَى سُمُّ ذَلِكَ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ مُتَفَرْنِجَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْمُسْلِمِينَ جِنْسِيَّاتٍ وَطَنِيَّةً لِتَعَذُّرِ الْجِنْسِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ، وَيُوجَدُ فِي مِصْرَ مَنْ يَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ مُخَادِعِينَ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَنْهَضُونَ بِالْوَطَنِ وَيُعْلُونَ شَأْنَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ حَيَاةَ الْوَطَنِ وَارْتِقَاءَهُ بِاتِّحَادِ كُلِّ الْمُقِيمِينَ فِيهِ عَلَى إِحْيَائِهِ، لَا فِي تَفَرُّقِهِمْ وَوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَّحِدِينَ مِنْهُمْ فِي اللُّغَةِ وَالدِّينِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، لَا مِنْ وَسَائِلِ التَّقَدُّمِ وَالْعُمْرَانِ، فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِاتِّحَادِ اتِّفَاقِ كُلِّ قَوْمٍ تَضُمُّهُمْ أَرْضٌ وَتَحْكُمُهُمُ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِيهَا - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ وَأَجْنَاسُهُمْ - وَيَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ أَوْسَعَ، وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ وَالْأَجْنَاسِ، لِتَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ الْأُخُوَّةُ فِي اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ
الَّتِي بِهَا قَاسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْظُرْ آيَةَ اللهِ، قَوْمٌ مُتَخَالِفُونَ بَيْنَ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ، يَتَرَبَّصُ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ الْهَلَكَةَ عَلَى يَدِهِ، فَيَأْتِي اللهُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ فَيَجْمَعُهُمْ وَيُزِيلُ كُلَّ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّنَافُرِ وَيَجْعَلُهُمْ إِخْوَانًا تَرْجِعُ أَهْوَاؤُهُمْ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ
لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ بِهَا لِلِاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ فَلَا تَعُودُوا إِلَى عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعُدْوَانِ.
ثُمَّ قَالَ: التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ الْبَشَرُ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ فِي الْآيَاتِ، وَقِسْمٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْخِلَافُ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِمَّا فُطِرَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١: ١١٨، ١١٩] فَاسْتِوَاءُ النَّاسِ
وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ مَا جَاءَتِ الْأَدْيَانُ لِمَحْوِهِ - فَهُوَ تَحْكِيمُ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا فِي الْبَشَرِ ; لِأَنَّهُ يَطْمِسُ أَعْلَامَ الْهِدَايَةِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا فِي إِزَالَةِ الْمَضَارِّ الَّتِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْخِلَافِ.
أَمَّا كَوْنُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ غَيْرُ ضَارٍّ فَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِي الصَّادِقِينَ فِي مَحَبَّتِي وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِي خِلَافًا فِي إِلْقَاءِ هَذَا الدَّرْسِ هُنَا، فَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ إِلْقَاءَ دَرْسِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَزْهَرِ عَمَلٌ وَاجِبٌ عَلَيَّ وَخَيْرٌ لِي، وَلَا أَشُكُّ فِي هَذَا كَمَا أَنَّنِي لَا أَشُكُّ فِي هَذَا الضَّوْءِ الَّذِي أَمَامِي، وَيُوجَدُ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَرْكَ هَذَا الدَّرْسِ خَيْرٌ لِي مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَيُحَاجُّونِي فِي ذَلِكَ قَائِلِينَ: إِنَّ تَأَخُّرِي لِأَجْلِ الدَّرْسِ إِلَى اللَّيْلِ ضَارٌّ بِصِحَّتِي وَإِنَّهُ مُثِيرٌ لِحَسَدِ الْحَاسِدِينَ لِي، وَدَافِعٌ لَهُمْ إِلَى الْكَيْدِ وَالْإِيذَاءِ، وَأَنَّ الدَّرْسَ نَفْسَهُ عَقِيمٌ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ لَا يَفْقَهُونَ مَا أَقُولُ وَلَا يَفْهَمُونَ، وَمَنْ فَهِمَ لَا يُرْجَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِغَلَبَةِ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ، هَذِهِ حُجَّةُ بَعْضِ أَصْحَابِي فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِي وَاعْتِقَادِي يُصَرِّحُونَ لِي بِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْقَاهُمْ وَيَلْقَوْنَنِي لَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ
مِنْ مَوَدَّتِنَا شَيْئًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَنَا، فَأَنَا أَعْذُرُهُمْ فِي رَأْيِهِمْ مَعَ اعْتِقَادِي بِإِخْلَاصِهِمْ، وَهُمْ يَعْذُرُونَنِي كَذَلِكَ، وَلَنَفْرِضْ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ كَأَنْ أَعْتَقِدُ أَنَا أَنَّ فِعْلَ كَذَا حَرَامٌ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، أَكَانَ يَكُونُ بَيْنَنَا تَفَرُّقٌ لِأَجْلِهِ؟ كَلَّا لَا رَيْبَ عِنْدِي، إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ وَإِنَّنَا نَبْقَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَصْدِقَاءٌ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: كَذَلِكَ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَمَالِكٌ قَدْ نَشَأَ فِي الْمَدِينَةِ وَرَأَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا مِنْ حُسْنِ الْحَالِ وَسَلَامَةِ الْقُلُوبِ، فَقَالَ: إِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِي ; لِأَنَّهُمْ عَلَى حُسْنِ حَالِهِمْ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى غَيْرِ مَا مَضَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ عَمَلًا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَنَشَأَ فِي الْعِرَاقِ وَأَهْلُهَا - كَمَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ - أَهْلُ شِقَاقٍ وَنِفَاقٍ، فَهُوَ مَعْذُورٌ إِذْ لَمْ يَحْتَجَّ بِعَمَلِهِمْ وَلَا بِعَمَلِ غَيْرِهِمْ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَا لَعَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ ; لِأَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي اسْتِبَانَةِ الْحَقِّ مَعَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَعْذُرُ الْآخَرِينَ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَنَكَّبَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَوَائِفُ جَاءَتْ بَعْدَهُمْ تُقَلِّدُهُمْ فِيمَا نُقِلَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ لَا فِي سِيرَتِهِمْ، حَتَّى صَارَ الْهَوَى هُوَ الْحَاكِمَ فِي الدِّينِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا، يَتَعَصَّبُ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى رَأْيٍ مِنْ مَسَائِلِ
هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخِلَافِ هُوَ الَّذِي ذَلَّتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَ عِزِّهَا، وَهَوَتْ بَعْدَ رِفْعَتِهَا وَضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّتِهَا، هُوَ الِافْتِرَاقُ فِي الدِّينِ وَذَهَابُ أَهْلِهِ مَذَاهِبَ تَجْعَلُهُمْ شِيَعًا تَتَحَكَّمُ فِيهِمُ الْأَهْوَاءُ كَمَا حَصَلَ مِنَ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ
خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ إِلَّا وَيُبَادِرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِالتَّأْلِيفِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَضْلِيلِهِ وَتَفْنِيدِ مَذْهَبِهِ، وَيُقَابِلُهُ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، لَا يُحَاوِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُحَادَثَةَ الْآخَرِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى دَلَائِلِهِ وَوَزْنَهَا بِمِيزَانِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ، فَالْوَاجِبُ أَوَّلًا: مُحَاوَلَةُ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ فِي الْبَحْثِ وَالْمُذَاكَرَةِ - أَيْ وَلَوْ كِتَابَةً - وَثَانِيًا: أَلَّا يَكُونَ الْخِلَافُ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ. قَالَ: فَمَا دَامَ الْمُسْلِمُ لَا يُخِلُّ بِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ وَلَا بِاحْتِرَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى إِسْلَامِهِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَحَكَّمَ الْهَوَى فَلَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَدْ بَاءَ بِهَا مَنْ قَالَهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَرْجِعُونَ فِي النِّزَاعِ إِلَى حُكْمِ اللهِ وَأَهْلِ الذِّكْرِ مِنْهُمْ ; يَعْنِي أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ. فَإِذَا امْتَثَلْنَا أَمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ فَاتَّقَيْنَا الْخِلَافَ الَّذِي لَنَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَحَكَّمْنَا كِتَابَ اللهِ وَمَنْ أَمَرَ اللهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ فِيمَا نَتَنَازَعُ فِيهِ أَمِنَّا مِنْ غَائِلَةِ الْخِلَافِ، وَكُنَّا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
وَيَدْخُلُ فِي كَلِمَةِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهَا كُلِّهَا إِلَى هَدْيِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ وَرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ وَسَّعْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [٢: ٢٥٣] الْآيَةَ.
تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ وَضَعَ لَنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَاعِدَةً نَرْجِعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأَهْوَاءِ وَاخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهِيَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِهِ ; وَلِذَلِكَ نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ، الَّذِي قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِجَمْعِ أَهْوَائِهِمْ وَضَبْطِ إِرَادَتِهِمْ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُسَلَّمَةِ: أَنَّهُ لَا تَقُومُ لِقَوْمٍ قَائِمَةٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ جَامِعَةٌ تَضُمُّهُمْ وَوَحْدَةٌ تَجْمَعُهُمْ وَتَرْبِطُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ أُمَّةً حَيَّةً كَأَنَّهَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ. وَحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. فَإِذَا كَانَتِ الْجَامِعَةُ الْمُوَحِّدَةُ لِلْأُمَّةِ هِيَ مَصْدَرُ حَيَاتِهَا - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُؤْمِنَةً أَمْ كَافِرَةً - فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْوَحْدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ إِلَهًا وَاحِدًا يَرْجِعُونَ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمْ إِلَى حُكْمِهِ الَّذِي يَعْلُو جَمِيعُ الْأَهْوَاءِ، وَيَحُولُ دُونَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، بَلْ هَذَا هُوَ يَنْبُوعُ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِمَا دُونَ الْأُمَمِ مِنَ الْجَمْعِيَّاتِ حَتَّى الْبُيُوتِ (الْعَائِلَاتِ) وَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ جَامِعَةٍ وَكُلِّ وَحْدَةٍ حِفَاظٌ يَحْفَظُهَا أَرْشَدَنَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إِلَى مَا نَحْفَظُ بِهِ جَامِعَتَنَا الَّتِي هِيَ مَنَاطُ وَحْدَتِنَا - وَأَعْنِي بِهَا الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِهِ - فَقَالَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْكُمْ هَلْ مَعْنَاهُ: بَعْضُكُمْ، أَمْ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ؟ ذَهَبَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالثَّانِي، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَدِّ " لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ " فَالْأَمْرُ عَامٌّ، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [١٠٣: ١ - ٣] فَإِنَّ التَّوَاصِيَ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٥: ٧٨، ٧٩] وَمَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَفِي النَّاسِ جَاهِلُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ خِطَابُ التَّنْزِيلِ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجْهَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعِلْمِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ مَا عَرَفَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ وَهُوَ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَلَا يَلْزَمُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا قِرَاءَةُ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَى الدُّرِّ، وَلَا فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا الْمُرْشِدُ إِلَيْهِ - مَعَ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ - كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ الْمَنْقُولَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ دِينًا.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَهَا مَرَاتِبٌ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ دَعْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَائِرَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَهُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ بِهِ قَوْلُ الْمُفَسِّرِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ: الْإِسْلَامُ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْإِسْلَامَ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالرُّجُوعُ عَنِ الْهَوَى إِلَى حُكْمِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِنَّا بِحُكْمِ جَعْلِنَا أُمَّةً وَسَطًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ آيَاتٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِنَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ - وَبِحُكْمِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [٢٢: ٤١]
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: هِيَ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِلَى الْخَيْرِ وَتَآمُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهِيهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعُمُومُ فِيهَا ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَلَهُ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ - قَالَ: كَهَذَا الدَّرْسِ - بِبَيَانِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي النُّفُوسِ الَّتِي يَأْخُذُ كُلُّ سَامِعٍ مِنْهَا بِحَسَبِ حَالِهِ. وَإِنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الْعَارِفُونَ بِأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ وَحِكْمَةِ الدِّينِ وَفِقْهِهِ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [٩: ١٢٢] وَمِنْ مَزَايَا هَؤُلَاءِ: تَطْبِيقُ أَحْكَامِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ بِالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى مِقْدَارِ عِلْمِهِمْ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الدَّعْوَةُ الْجُزْئِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَعَارِفِينَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ مِنَ الْفَرِيضَةِ الْعَامَّةِ بِقَدْرِهِ.
أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حِفَاظًا لِلْوَحْدَةِ وَسِيَاجًا دُونَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ فِي الدِّينِ يُعَمِّمُونَ دَعْوَتَهُمْ وَإِرْشَادَهُمْ فِي الْأُمَّةِ وَيُوَاصِلُونَهَا لَكَانُوا مَوَارِدَ لِحَيَاتِهَا وَمَعَاقِدَ لِرَابِطَةِ وَحْدَتِهَا، وَكَذَلِكَ
عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي، فَإِنَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ إِذَا قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَصِيحَةِ الْآخَرِ - دَعْوَةً وَأَمْرًا وَنَهْيًا - امْتَنَعَ فُشُوُّ الشَّرِّ وَالْمُنْكَرِ فِيهِمْ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمْ. فَكَيْفَ تَجِدُ الْفُرْقَةُ مَنْفَذًا إِلَيْهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَقِرُّ الْخِلَافُ فِي الدِّينِ بَيْنَهُمْ؟ وَنَاهِيكَ إِذَا قَامَ - كُلٌّ عَلَى طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ - الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ، وَجَمِيعُ الْأَفْرَادِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ وَمَعَاهِدِهِمْ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّنَا نَرَى التَّصَدِّيَ لِنَصِيحَةِ الْأَفْرَادِ وَأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مَجْلَبَةً لِلْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، لَا دَاعِيَةً إِلَى الْوِفَاقِ وَالْوَحْدَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَأَجَابَ عَنْهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ: كَيْفَ يَكُونُ التَّآمُرُ وَالتَّنَاهِي حَافِظًا لِلْوَحْدَةِ وَنَحْنُ نَرَى الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ؟ نَرَى التَّنَاصُحَ سَبَبُ التَّخَاصُمِ وَالتَّدَابُرِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَالْأَصْحَابِ
وَتَكَادُ الْأُمَّةُ الَّتِي يَفْشُو هَذَا فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأُمَمُ الَّتِي تُوُدِّعَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَشْعُرُونَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ أَشَفَوْا عَلَيْهَا، وَمَعَ مَنْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي شُعُورِهِمْ ذَاكَ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّتَهُمْ فِي الِاهْتِدَاءِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ; كَمَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالضِّيَاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ أَثَرُ تَفْرِيطٍ كَبِيرٍ تَمَادَى فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ بَعْدَمَا عَظُمَ التَّسَاهُلُ فِي تَرْكِ التَّنَاصُحِ، وَبَطَلَ رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ - أَيْ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - وَخَوَتِ الْقُلُوبُ مِنِ احْتِرَامِ الدِّينِ حَتَّى لَمْ يَعُدْ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الْإِرَادَةِ، بَلْ صَارَ كُلُّ شَخْصٍ أَسِيرَ هَوَاهُ. وَمَتَى أَمْسَى النَّاسُ هَكَذَا - لَا دِينَ وَلَا مُرُوءَةَ وَلَا أَدَبَ - فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الطَّائِفَةِ مِنْهُمْ وَالْقَطِيعِ مِنَ الْمَعْزِ أَوِ الْبَقَرِ؟
عِنْدَ هَذَا سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [٥: ١٠٥] فَأَجَابَ: إِنَّ هَذَا بَعْدَ الْقِيَامِ بِفَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضُرُّهُ ضَلَالُ غَيْرِهِ إِذَا هُوَ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا مَعَ تَرْكِهِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ. ثُمَّ قَالَ: مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اشْتَرَطُوا لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ شَرْطًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَمْ يُنْزِلْهُ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا مَنْ كَانَ مُؤْتَمِرًا وَمَنْهِيًّا، فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَيْنِ يَقُولَانِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الْوَاعِظِ الْمُتَصَدِّي لِلْإِرْشَادِ وَالدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مُهْتَدِيًا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُتَّصِفًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَنْعِ أُولَئِكَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ مِنْ تَسَلُّقِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي فَرْضِيَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِائْتِمَارُ
فَحَاصِلُ رَأْيِهِ: أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِرْشَادِ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَفُقَهَاءِ النُّفُوسِ فِيهَا. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَامِلًا بِعِلْمِهِ مُهْتَدِيًا بِمَا يَهْدِي إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْعَمَلَ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا، وَقُلْنَا إِنَّهُ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْغَزَّالِيِّ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ كُلِّ نَصِيحَةٍ وَأَيِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ بَلْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ
لَبِسَهُ الْعَارُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ | عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ |
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَدِيمَةٌ عَرَضَتْ لِلنَّاسِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - وَأَبُو يَعْلَى وَالْكَجِّيُّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: " قَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِذَا رَأَى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ سُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَبِيبَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ.... ثُمَّ فَسَّرَهَا، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ لَنَا أَنْ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِمُنْكَرٍ وَيُفْسَدُ فِيهِمْ بِقَبِيحٍ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ إِلَّا حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا ثُمَّ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: أَلَّا أَكُونَ سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَبِيبِ صُمَّتَا ".
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَيَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلْوُجُوبِ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ الْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا: عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْعُوَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
أَقُولُ: وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوفًا بِالْمَكَارِهِ وَالْمَخَاوِفِ، وَكَمْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مِنْ نَبِيٍّ وَصِدِّيقٍ فَكَانُوا أَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فِي ذَاتِ اللهِ - تَعَالَى - فَقَتَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ حَفِيدَ الْعَطَّارِ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ أَيْضًا عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَوَضَعَ بِجَانِبِهِ عَلَامَةَ الصَّحِيحِ.
أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ تَصَدِّي عُلَمَاءِ السَّلَفِ لِنَصِيحَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ وَإِيذَاءِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ وَسَفْكِهِمْ دِمَاءَ بَعْضِهِمْ مَا يَرُدُّ شَرْطَ أُولَئِكَ الْمُشْتَرِطِينَ لِلْأَمْنِ عَلَيْهِمْ وَيَضْرِبُ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ التَّوَقِّي مِنَ الْهَلَكَةِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا يَجِبُ فِي حَالِ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ، فَلَا نَتْرُكُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَلَا الْجِهَادَ دُونَهُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِنَا وَحِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا نُفَرِّطُ بِأَنْفُسِنَا فِي أَثْنَاءِ دَعْوَتِنَا وَجِهَادِنَا فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ الدَّعْوَةُ وَلَا حِمَايَتُهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرُ مَا يُصِيبُ الدَّاعِيَ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الْأَذَى نَاشِئًا عَنْ طَرِيقَةِ الدَّعْوَةِ
وَكَيْفِيَّةِ سَوْقِهَا إِلَى الْمَدْعُوِّ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ مُؤَيَّدَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [١٦: ١٢٥].
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِدُّوا لِذَلِكَ عُدَّتَهُ وَيَعْرِفُوا سُبُلَهُ وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي السُّنَّةِ، كَقِصَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُنَادِي فِي الطَّرِيقِ: أُرِيدُ أَنْ أَزْنِيَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبَ عَلَى
أَقُولُ: أَمَّا قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ الزِّنَا فَهِيَ كَمَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا، فَهَمَّ مَنْ كَانَ قُرْبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَنَاوَلُوهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ فَبِكَذَا فَبِكَذَا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَاكْرَهْ مَا كَرِهَ اللهُ وَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ كَذَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ، وَذَكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ فِي بَابِ آدَابِ الْمُحْتَسِبِ مِنْ كِتَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ " أَنَّ غُلَامًا شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا؟ فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَرِّبُوهُ، أُدْنُ. فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا، جَعَلَنِي اللهُ فَدَاءَكَ. قَالَ: كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ
لِأُخْتِكَ؟ وَزَادَ ابْنُ عَوْفٍ أَنَّهُ ذَكَرَ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ: لَا، جَعَلَنِي اللهُ فَدَاءَكَ " وَقَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا أَعْنِي ابْنَ عَوْفٍ وَالرَّاوِيَ الْآخَرَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: اللهُمَّ طَهِّرْ قَلْبَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْهُ - يَعْنِي مِنَ الزِّنَا - قَالَ الشَّارِحُ: قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. أَقُولُ: أَمَّا سِيَاقُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَلَا أَذْكُرُ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَدْ قَصَدَ الْمَعْنَى دُونَ نَصِّ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَاهَدَ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ لَا أَتَذَكَّرُ مَخْرَجَهُ، وَإِنَّمَا أَتَذَكَّرُ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَدَعَ لَهُ النَّبِيُّ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ اعْتَادَهَا: الْكَذِبَ، وَالْخَمْرَ، وَالزِّنَا - فَعَاهَدَهُ عَلَى تَرْكِ الْكَذِبِ فَكَانَ وَسِيلَةً إِلَى تَرْكِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ - مَقَامِ أَمْنِ الْمُتَصَدِّي لِلدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ كَمَا قِيلَ - يَأْتِي بَحْثُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مَرْتَبَةٌ غَيْرُ مَرْتَبَةِ التَّنَاصُحِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُدْرَةٍ خَاصَّةٍ.
وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْحُكَّامِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا إِذْنُهُمْ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَا يُشْتَرَطُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ
وَأَسَالِيبُ مُتَعَدِّدَةٌ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
قَالَ: نَعَمْ إِنَّ دَعْوَةَ الْأُمَّةِ غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ لَا يُطَالَبُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ بِالْفِعْلِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ فَرْدٍ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ حَتَّى إِذَا عَنَّ لَهُ بِأَنْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْأُمَمِ دَعَاهُ، لَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ لِذَلِكَ وَيُسَافِرُ لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَذَا طَائِفَةٌ يُعِدُّونَ لَهُ عُدَّتَهُ، وَسَائِرُ الْأَفْرَادِ يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ يُشْبِهُ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ آكَدُ مِنْ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الِاسْتِطَاعَةُ لِأَنَّهَا مُسْتَطَاعَةٌ دَائِمًا. عِنْدَ هَذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَطْعًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا طَائِفَةَ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ مُلْتَزَمَةً عِنْدَهُمْ صَارُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً عِنْدَمَا يَعِنُّ لَهُمْ مَنْ يَدْعُونَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي بَيْرُوتَ احْتَاجَ إِلَى ظِئْرٍ لِإِرْضَاعِ بِنْتٍ لَهُ فَجِيءَ بِظِئْرٍ شِيعِيَّةٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلَةِ فَكَانَتْ فِي الدَّارِ تَدْعُو النِّسَاءَ إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَالَ: إِنَّ رُعَاةَ الْإِبِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَرَادَتِ الدَّعْوَةَ لَا يَقِفُ فِي سَبِيلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا.
ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: جُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ حَتْمٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ فِي ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [٥: ٧٩] وَكَذَلِكَ عَمَلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَكَوْنُ هَذَا حِفَاظًا لِلْأُمَّةِ وَحِرْزًا ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوا دَعْوَةَ الْخَيْرِ وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ خَرَجُوا عَنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ وَكَانُوا أَفْذَاذًا مُتَفَرِّقِينَ لَا جَامِعَةَ لَهُمْ ; وَلِهَذَا ضَرَبَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَاهِنِ مِثْلَ رَاكِبٍ
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [٨: ٢٥] فَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا سِيَّمَا أُمَّهَاتُ الْمُنْكَرَاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ كَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْحَسَدِ وَالْغِشِّ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَتَوَاكَلُ فِيهَا النَّاسُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هُنَا مَيِّتًا أَنْ يَنْتَظِرَ غُسْلَهُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ عَلَى رَأْيِهِ.
أَقُولُ: وَيَظْهَرُ تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا لَا يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْقَائِمِينَ بِمَا ذُكِرَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ مِنَ السَّعَادَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ دُونَ سِوَاهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْقَائِمِينَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفَسَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا، فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَتْرُكُ ذَلِكَ تَكُونُ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَا الْمُفْلِحِينَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَقِيَ عَلَيْنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ " مَنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ طَائِفَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَقُومُ بِالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا جَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، فَهُمُ الْمُكَلَّفُونَ أَنْ يَنْتَخِبُوا مِنْهُمْ أُمَّةً تَقُومُ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ، فَهَاهُنَا فَرِيضَتَانِ إِحْدَاهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لِلدَّعْوَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى هَذَا حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِفَهْمِ مَعْنَى لَفْظِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْجَمَاعَةَ - كَمَا قِيلَ - وَإِلَّا لَمَا اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأُمَّةَ أَخَصُّ مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ أَفْرَادٍ لَهُمْ رَابِطَةٌ تَضُمُّهُمْ وَوَحْدَةٌ يَكُونُونَ بِهَا كَالْأَعْضَاءِ فِي بِنْيَةِ الشَّخْصِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً مُخَاطَبِينَ بِتَكْوِينِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِرَادَةٌ وَعَمَلٌ فِي إِيجَادِهَا وَإِسْعَادِهَا، وَمُرَاقَبَةِ سَيْرِهَا بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مِنْهَا خَطَأً أَوِ انْحِرَافًا أَرْجَعُوهَا إِلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا سِيَّمَا زَمَنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى هَذَا النَّهْجِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ لِلْقَائِمِينَ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، حَتَّى كَانَ الصُّعْلُوكُ مِنْ رُعَاةِ الْإِبِلِ يَأْمُرُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - وَيَنْهَاهُ فِيمَا يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ،
وَلَا بِدْعَ فَالْخُلَفَاءُ عَلَى نَزَاهَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ لَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ عُمَرُ بِخَطَئِهِ وَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَالَ: وَمِنَ الْعِبَرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: تَنْفِيذُ بِلَالٍ الْحَبَشِيِّ الْعَتِيقِ لِأَمْرِ عُمَرَ بِمُحَاسَبَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيِّدِ بَنِي مَخْزُومٍ بَعْدَ تَبْلِيغِهِ عَزْلَهُ عَنْ قِيَادَةِ الْجَيْشِ بِالشَّامِ. وَذَكَرَ مُجْمَلَ الْقِصَّةِ، وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ عِنْدَمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ فِي جَيْشٍ عَلَى الشَّامِ يُوَلِّيهِ إِمَارَةَ الْجَيْشِ الْعَامَّةَ وَيَعْزِلُ خَالِدًا عَنْهَا، وَكَانَ الْجَيْشُ عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ أَوْ فِي الْيَرْمُوكِ (رِوَايَتَانِ) فَكَتَمَ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - مَا مِثَالُهُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ: إِذَا كَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ مُكَلَّفًا الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَخْتَارُوا أُمَّةً مِنْهُمْ تَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ لِأَجْلِ أَنْ تُتْقِنَهُ وَتَقْدِرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِطَبْعِهِ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِقَامَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ فَرْضُ عَيْنٍ
يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ مَعَ الْآخَرِينَ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي هَذَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِأَهْلِ كُلِّ قَرْيَةٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَنْ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِهَذَا الْعَمَلِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ: وَيَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالْوَاحِدِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى مَنْ يَخْتَارُ مِنْ سَائِرِ الْقُرَى وَالْبِلَادِ لِأَجْلِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ بِلَادِهِ، أَوْ لِإِقَامَةِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ وَالشَّعَائِرِ، أَوْ إِزَالَةِ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَخْتَارُوا جَمَاعَةً يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ " الْأُمَّةِ " وَيَعْمَلُوا مَا تَعْمَلُهُ بِالِاتِّحَادِ وَالْقُوَّةِ لِيَتَوَلَّوْا إِقَامَةَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِيهَا، كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ إِسْلَامِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَوَاضِرِ أَوِ الْبَوَادِي، فَإِنَّ مَعْنَى الْأُمَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْنَى الِارْتِبَاطِ وَالْوَحْدَةِ الَّتِي تَجْعَلُ أَفْرَادَهَا عَلَى اخْتِلَافِ وَظَائِفِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ - حَتَّى فِي إِقَامَةِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ تَشَعُّبِ الْأَعْمَالِ فِيهَا - كَأَنَّهُمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَصَرَّحَ بِهِ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْأُمَّةُ يَدْخُلُ فِي عَمَلِهَا الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَأْنِ الْحُكَّامِ وَأُمُورُ الْعِلْمِ وَطُرُقُ إِفَادَتِهِ وَنَشْرِهِ، وَتَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ وَأُمُورُ الْعَامَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ أُمَّةً، وَفِي مَعْنَى الْأُمَّةِ الْقُوَّةُ وَالِاتِّحَادُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقُوَّةِ وَالِاتِّحَادِ، فَالْأُمَّةُ الْمُتَّحِدَةُ لَا تُقْهَرُ وَلَا تُغْلَبُ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَلَا تَعْتَذِرُ بِالضَّعْفِ يَوْمًا مَا، فَتَتْرُكُ مَا عُهِدَ
(١) الْعِلْمُ التَّامُّ بِمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ - ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الدُّعَاةِ الْعِلْمُ بِالْقُرْآنِ، وَالْعِلْمُ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَسَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ، وَبِالْقَدْرِ الْكَافِي مِنَ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، أَهَمُّهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى كَوْنِهِ هُدًى وَعِبْرَةً وَمَوْعِظَةً عَلَى نَحْوِ تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَمَا صَحَّ مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ وَسِيرَتِهِ وَيُنْظَرُ فِي هَذَا أَيْضًا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا تَوَاتَرَ عَمَلًا وَمَا صَحَّ سَنَدًا وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
(٢) الْعِلْمُ بِحَالِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ فِي شُئُونِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَطَبَائِعِ بِلَادِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، أَوْ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ الْعَصْرِ بِحَالِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ارْتِضَاءِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كَوْنَهُ أَنْسَبَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ أَعْلَمَ بِالْأَنْسَابِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ " بَحْرِ الْأَنْسَابِ " يُرَاجِعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَهُمْ بِأَحْوَالِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَبُطُونِهَا، وَتَارِيخِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَسَابِقِ أَيَّامِهَا، وَأَخْلَاقِهَا كَالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ وَالْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَمَكَانِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَمَا كَانَ إِقْدَامُهُ - مَعَ لِينِهِ وَسُهُولَةِ خُلُقِهِ الَّتِي يَعْرِفُهَا لَهُ كُلُّ أَحَدٍ حَتَّى الْإِفْرِنْجِ - عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ إِلَّا لِهَذَا الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَلَمْ يَهَبْ وَلَمْ يَخَفْ، وَقَدْ خَافَ عُمَرُ وَأَحْجَمَ عَلَى شِدَّتِهِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ; أَيْ خَافَ أَنْ تَضْعُفَ بِمُحَارَبَتِهِمْ شَوْكَةُ الْإِسْلَامِ... حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " فَهَذِهِ قُوَّةُ الْعِلْمِ لَا قُوَّةُ الْجَهْلِ، وَأَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ الْخَاصَّ بِحَالِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِلْعِلْمِ بِهَذِهِ الْعُلُومِ فِي نَفْسِهَا، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ.
(٣) مَنَاشِئُ عِلْمِ التَّارِيخِ الْعَامِّ لِيَعْرِفُوا الْفَسَادَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، فَيَبْنُونَ
(٤) عِلْمُ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ لِيُعِدَّ الدُّعَاةُ لِكُلِّ بِلَادٍ مِنْهَا عُدَّتَهَا إِذَا أَرَادُوا السَّفَرَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِالتَّارِيخِ وَمَا يُسَمَّى الْآنَ بِتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَبِالْجُغْرَافِيَا ; وَلِذَلِكَ أَقْدَمُوا عَلَى الْفُتُوحِ وَمُحَارَبَةِ الْأُمَمِ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ لَا بِالْجَهْلِ، فَلَوْ كَانُوا يَجْهَلُونَ مَسَالِكَ بِلَادِهِمْ وَطُرُقَهَا وَمَوَاقِعَ الْمِيَاهِ وَمَا يَصْلُحُ مَوْقِعًا لِلْقِتَالِ فِيهَا لَهَلَكُوا، وَكَانَ الْجَهْلُ أَوَّلَ أَسْبَابِ هَلَاكِهِمْ، وَمَنْ قَرَأَ مَا حُفِظَ مِنْ خُطَبِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَرَاسَلُونَ بِهَا، وَمُحَاوَرَاتِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ يَظْهَرُ لَهُ ذَلِكَ بِأَجْلَى بَيَانٍ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْفِرُ مِنَ التَّارِيخِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِهِ، وَمَا أَضَرَّ هَؤُلَاءِ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ! ! فَقَدْ قَطَعُوا الصِّلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ سَلَفِهِمْ حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَبْدَأَ الْإِسْلَامِ وَلَا كَيْفِيَّةَ نَشْأَتِهِ وَلَا كَيْفَ انْتَسَبُوا إِلَيْهِ، فَالتَّارِيخُ يُعَرِّفُ الْإِنْسَانَ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَدَيِّنٌ إِنَّ كَانَ لَهُ دِينٌ، أَوْ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ إِنَّ كَانَ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ، وَمَا أَضَرَّ بِالْفِقْهِ شَيْءٌ كَالْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ ; لِأَنَّنَا لَوْ حَفِظْنَا تَارِيخَ النَّاسِ - وَمِنْهُ عَادَاتُهُمْ وَعُرْفُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ فِي الْبِلَادِ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْوَاضِعُونَ لِهَذَا الْفِقْهِ - لَكُنَّا نَعْرِفُ مِنْ أَسْبَابِ خِلَافِهِمْ وَمَدَارِكِ أَقْوَالِهِمْ مَالَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ جُزَافًا وَلَا عَبَثًا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ بَعْدَ مَجِيئِهِ إِلَى مِصْرَ مَذْهَبًا جَدِيدًا غَيْرَ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامَ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِغَيْرِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ؟ وَكَذَلِكَ كَانَ مَا خَالَفَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ أُسْتَاذَهُ أَبَا حَنِيفَةَ مِمَّا يَرْجِعُ الْكَثِيرُ مِنْهُ إِلَى مَا اخْتَبَرَهُ مِنْ حَالِ النَّاسِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ، فَبِاللهِ كَيْفَ يَنْتَسِبُ امْرُؤٌ إِلَى إِمَامٍ وَيَشْتَغِلُ بِعِلْمِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ تَارِيخَهُ وَتَارِيخَ عَصْرِهِ! ! وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّارِيخِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا مِنَ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ الْآمِرَةِ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِيَةِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْجَى قَبُولُهُ.
(٥) عِلْمُ النَّفْسِ وَهُوَ يُسَاوِي عِلْمَ التَّارِيخِ فِي الْمَكَانَةِ وَالْفَائِدَةِ، أَيِ الْعِلْمَ الْبَاحِثَ عَنْ قُوَى النَّفْسِ وَتَصَرُّفِهَا فِي عُلُومِهَا وَتَأْثِيرِ عُلُومِهَا فِي أَعْمَالِهَا الْإِرَادِيَّةِ. مِثَالُ ذَلِكَ
أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ تَابِعًا لِلْعِلْمِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَمَلَ كَذَا ضَارٌّ وَيَأْتُونَهُ، وَعَمَلَ كَذَا نَافِعٌ وَيَتْرُكُونَهُ (وَالْمُحَرَّمُ شَرْعًا كُلُّهُ ضَارٌّ وَالْحَلَالُ كُلُّهُ نَافِعٌ) فَمَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُحْسِنُ دَعْوَةَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَإِقْنَاعَهُمْ بِتَرْكِ الشَّرِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِمَاذَا تَرَكُوا الْخَيْرَ وَاقْتَرَفُوا الشَّرَّ؟ فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ هِيَ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ صِفَةً لِلنَّفْسِ حَاكِمَةً عَلَى إِرَادَتِهَا مُصَرِّفَةً لَهَا فِي أَعْمَالِهَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ صُورَةٌ تَعْرِضُ لِلذِّهْنِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْإِرَادَةِ
(٦) عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنِ الْفَضَائِلِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْبِيَةِ الْمَرْءِ عَلَيْهَا، وَعَنِ الرَّذَائِلِ وَطُرُقِ تَوَقِّيهِ مِنْهَا وَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُغْنِي بِشُهْرَتِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْآنَ كَلِمَةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُورِدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي صَرَّحَتْ لِزَوْجِهَا بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّهُ: " إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ الرَّجُلَ مِنَّا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا يُبْنَى عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ يَتَعَاشَرُونَ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ " فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَلِيلَةُ لَا تَخْرُجُ بِالْبَدَاهَةِ هَكَذَا
إِلَّا مِنْ فَمِ حَكِيمٍ قَدِ انْطَوَى فِي نَفْسِهِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمُ الِاجْتِمَاعِ أَيْضًا، وَوَقَفَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ وَاخْتَبَرَهُمْ أَتَمَّ الِاخْتِبَارِ.
(٧) عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْصِيلًا وَلَا إِجْمَالًا، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ عَدَمُ وُجُودِ كُتُبٍ فِيهِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَرْغَبُ طُلَّابُ الْأَزْهَرِ فِيهَا إِلَّا مَا فِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ خَلْدُونَ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي بَدَاوَتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَأَسْبَابِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا وَتَدَلِّيهَا وَتَرَقِّيهَا ; عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ عِلْمِ التَّارِيخِ وَعِلْمِ الْأَخْلَاقِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ فِي بِنَاءِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ وَالسَّدَادِ، وَإِنْ كَانَتْ دِرَاسَتُهُ مَزِيدَ كَمَالٍ فِيهِ وَفِي فَوَائِدِهِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ وَحَثِّ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ مِنَّا عَلَى التَّصْنِيفِ فِيهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَا صَنَّفَهُ الْغَرْبِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ كُلُّ مُرِيدٍ لَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُطَّلِعٍ عَلَى التَّارِيخِ وَعِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَهْلًا لِاسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْأَقَلِّينَ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَهُمْ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ مَنْ كَتَبُوا فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ قَوَاعِدِ هَذَا الْعِلْمِ فَغَفَلَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْهُ وَلَمْ
(٨) عِلْمُ السِّيَاسَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا مُجْمَلًا وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهِ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي كَتَبَ فِيهَا ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا وَلَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِحَالِ دُوَلِ الْعَصْرِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ وَالْمُعَاهَدَاتِ وَمَا لَهَا مِنْ طُرُقِ الِاسْتِعْمَارِ. فَالْأُمَّةُ الَّتِي تُؤَلِّفُ لِلدَّعْوَةِ فِي بِلَادٍ غَيْرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَقِلَّةِ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا ذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَارِفَةً بِسِيَاسَةِ حُكُومَةِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَهَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ حَالِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الدَّعْوَةُ، وَالسِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ.
(٩) الْعِلْمُ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ الَّتِي تُرَادُ دَعْوَتُهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِتَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ لِأَجْلِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اسْتَعْرَبُوا، فَمَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ لُغَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ إِلَّا مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الْفَهْمِ عَنْهُمْ وَمَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ شَأْنِهِمْ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تُؤَلِّفُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَنْ تَعَلُّمِ لُغَاتِ الْأُمَمِ بِالْمُتَرْجِمِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا إِنْ ظَفِرَتْ بِالْمُتَرْجِمِ الْأَجْنَبِيِّ الْأَمِينِ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا أَنْ تُفْهِمَهُ مِنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ عِنْدَ التَّرْجَمَةِ مَا يَفْهَمُهُ الْعَالِمُ الْمُسْلِمُ، وَإِنَّمَا يُلْجَأُ إِلَى مَثَلِ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَأْلِيفُ جَمْعِيَّةٍ لِلدَّعْوَةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَاتِ مَنْ يَكْفِيهَا الْحَاجَةَ إِلَى تَرْجَمَةِ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا تَفْعَلُ جَمْعِيَّاتُ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّ أَفْرَادًا مِنْهَا يَتَعَلَّمُونَ لُغَاتِ جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَلَمْ يُبَيِّنِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا فِي الدَّرْسِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّ إِلَى بَيَانِ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي تَعْمِيمِهِ وَكَمَالِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا يَتَيَسَّرُ لِأَهْلِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَوْ شَرَحَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَوَائِدَ تَعَلُّمِ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَتَوَقُّفِ مَا يَجِبُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا لَقَامَ أَعْدَاءُ الْإِصْلَاحِ وَخَاذِلُو الدِّينِ الْقَاعِدُونَ لَهُ كُلَّ مَرْصَدٍ يَصِيحُونَ فِي الْجَرَائِدِ وَالْمَحَافِلِ بِأَنَّ الشَّيْخَ الْمُفْتِي يُرِيدُ أَنْ يَهْدِمَ الدِّينَ فِي الْأَزْهَرِ بِحَثِّ طُلَّابِهِ عَلَى تَعَلُّمِ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ حَثِّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ التَّارِيخِ وَتَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَبَعْضِ الْفُنُونِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَإِنَّ صِيَاحَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ اللُّغَاتِ يَكُونُ أَوْضَحَ شُبْهَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَاهِلِ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَحْثُ بِأَجْنَبِيٍّ عَنِ التَّفْسِيرِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ مَبَاحِثِ الرَّازِيِّ فِي عُلُومِ الْيُونَانِ وَتَوَسُّعِ غَيْرِهِ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَوِ اللُّغَوِيَّاتِ ; لِأَنَّ قَصْدَنَا مِنَ التَّفْسِيرِ بَيَانُ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَطُرُقِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَنْ نَكُونَ مُهْتَدِينَ بِهِ حَتَّى تَكُونَ مِنَّا أُمَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي يُرْجَى نَفْعُهَا وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ خَطَأَ مَنْ يَصُدُّ عَنْهُ.
مَا يَفْهَمُ بِهِ الدُّعَاةُ مَا يُورَدُ عَلَى الدِّينِ مِنْ شُبُهَاتِ تِلْكَ الْعُلُومِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِمَا يَلِيقُ بِمَعَارِفِ الْمُخَاطَبِينَ بِالدَّعْوَةِ.
(١١) مَعْرِفَةُ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَمَذَاهِبِ الْأُمَمِ فِيهَا لِيَتَيَسَّرَ لِلدُّعَاةِ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ بُطْلَانُ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي سَنَةِ الْمَنَارِ الثَّالِثَةِ مَقَالَةً فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا جَعَلْتُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ وَمَا قَبْلَهُ وَاحِدًا، فَقُلْتُ فِيهِ (ص ٤٨٤ م ٣) " ثَالِثُهَا - أَيِ الشُّرُوطُ - الْوُقُوفُ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالدَّعْوَةِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا الْقَدْرِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ، وَحَلِّ عُقَدِ الْمُشْكِلَاتِ، وَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الشَّرْطُ وَمَا قَبْلَهُ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ - لَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ وَالْأَحْلَامِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ سَادَةِ الدُّعَاةِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَقَدْ عَلِمَ رُؤَسَاءُ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِالْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَمُعَادَاتِهِمْ لَهَا، وَتَحْكِيمِهِمُ الدِّينَ فِيهَا مُؤْذِنٌ بِاضْمِحْلَالِهَا، وَمُفْضٍ إِلَى زَوَالِهَا، فَأَخَذُوا بِزِمَامِهَا، وَقَادُوهَا بِخِطَامِهَا، وَقَرَّبُوا بَيْنَ عَالَمَيِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَقَرَنُوا بَيْنَ عِلْمِيِ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، وَبِهَذَا أَمْكَنَهُمْ حِفْظُ حُرْمَةِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ بَيْنَ الْعَالَمِينَ.
وَدِينُنَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بَيْنَ الْعَالَمِينَ، وَلَكِنَّنَا نَقْطَعُ الرَّوَابِطَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ وَلَكِنَّنَا نَهْدِمُ الْجَوَامِعَ، وَلِهَذَا جَهِلْنَا وَتَعَلَّمُوا، وَسَكَتْنَا وَتَكَلَّمُوا، وَتَأَخَّرْنَا وَتَقَدَّمُوا، وَنَقَصْنَا وَزَادُوا، وَاسْتُعْبِدْنَا وَسَادُوا ". اهـ.
كُلُّ هَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلِلدَّعْوَةِ شُرُوطٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِتَرْبِيَةِ الدُّعَاةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ سَنَشْرَحُهَا فِي تَفْسِيرِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [١٦: ١٢٥] إِنْ أَمْهَلَ الزَّمَانُ. وَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِ فُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ
وَالْأُصُولِ لِأَجْلِ فَهْمِ الدِّينِ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِ طُرُقِ الدَّعْوَةِ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِطَرِيقَةٍ صِنَاعِيَّةٍ، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَدْ تَيَسَّرَتْ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ صِنَاعِيٍّ وَلَا تَأْلِيفِ جَمْعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا كَانَ فَهْمُ الدِّينِ مُتَيَسِّرًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ صِنَاعِيٍّ فَفِي هَذَا الزَّمَانِ يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الدِّينِ عَلَى التَّعْلِيمِ الصِّنَاعِيِّ، وَتَتَوَقَّفُ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَمَا حَظَرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ عَلَى تَعْلِيمٍ خَاصٍّ وَتَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ تَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَلَا يَنْتَشِرُ الدِّينُ وَلَا يُحْفَظُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بِهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ أَقْبَحُ الْمُنْكَرِ، وَالظَّالِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوِيًّا وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِي النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تُخَالَفُ وَلَا تُغْلَبُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ الَّتِي تُقَوِّمُ عِوَجَ الْحُكُومَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الشُّورَى، وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَدَلَالَتُهَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [٤٢: ٣٨] لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ خَبَرِيٌّ لِحَالِ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَكْثَرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَمْدُوحٌ فِي نَفْسِهِ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، وَأَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [٣: ١٥٩] فَإِنَّ أَمْرَ الرَّئِيسِ بِالْمُشَاوَرَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَامِنٌ يَضْمَنُ امْتِثَالَهُ لِلْأَمْرِ فَمَاذَا يَكُونُ إِذَا هُوَ تَرَكَهُ؟ وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَفْرِضُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ جَمَاعَةٌ مُتَّحِدُونَ أَقْوِيَاءُ يَتَوَلَّوْنَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحُكَّامِ وَالْمَحْكُومِينَ، وَلَا مَعْرُوفَ أَعْرَفُ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا مُنْكَرَ أَنْكَرُ مِنَ الظُّلْمِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " لَا بُدَّ أَنْ يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا "
هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ الطُّلَّابِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَفَسَّرَهُ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُفْنُوهُمْ أَيِ الظَّالِمِينَ وَيُبِيدُوهُمْ وَهُوَ كَمَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ مَعْزُوٌّ إِلَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُّنَ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ " وَعَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي فَنَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ
بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا " وَقَدْ أَوْرَدَ الْفِقْرَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَقَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ: " تَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ " تَعْطِفُوهُ عَلَيْهِ. اهـ.
أَقُولُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ تَابِعَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِفَرِيضَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَجَالِسِ النُّوَّابِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَكَأَنَّ الْآيَةَ بَيَانٌ لِكَوْنِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى وَأَمْرُهُمْ شُورَى وَمَعْنَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا كَذَا، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنَ النَّصَّيْنِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ حُكُومَةِ
قَالَ: وَمِمَّا يُنَاطُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مَعْرُوفٍ - النَّظَرُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ فِي مَكَانٍ مَا طَائِفَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ بِمَا يَجِبُ اتَّخَذْتَ الْوَسَائِلَ لِتَعْلِيمِهِمْ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدُّوا لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُوهُمْ، وَلَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ مُنْتَظِرًا سُؤَالَ النَّاسِ لِيُفِيدَهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ اهْتِدَاءً بِهَدْيِهِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْقَائِمِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أُمَّةً يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهَا رِيَاسَةٌ تُدَبِّرُهَا ; لِأَنَّ أَمْرَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ رِيَاسَةٍ يَكُونُ مُخْتَلًّا مُعْتَلًّا، فَكُلُّ كَوْنٍ لَا رِيَاسَةَ فِيهِ فَاسِدٌ، فَالرَّأْسُ هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْضَاءِ فِي أَعْمَالِهَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ رَئِيسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَصْدَرَ النِّظَامِ وَتَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْعَامِلِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى إِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَمَقَامُ الرِّيَاسَةِ يَخْتَارُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِكُلِّ عَمَلٍ وَلِكُلِّ بِلَادٍ مَنْ يَكُونُونَ أَكْفَاءَ لِلْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا ; لِتَكُونَ أَعْمَالُهُمْ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَقْصِدِ الْأُمَّةِ الْعَامِّ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ مِنْهُمْ وَحْدَةٌ فِي الْقَصْدِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَسَيْرِهِمْ فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَقَاصِدُ فَسَدَ الْعَمَلُ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَتَنْكِيثِ الْقُوَى ; وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ مُنْتَخَبَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَامَّةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِلْعَامَّةِ رِقَابَةٌ وَسَيْطَرَةٌ عَلَى الْخَاصَّةِ تُحَاسِبُهَا عَلَى تَفْرِيطِهَا وَلَا تُعِيدُ انْتِخَابَ مَنْ يُقَصِّرُ فِي عَمَلِهِ لِمِثْلِهِ. فَالْأُمَّةُ الصُّغْرَى الْمُنْتَخَبَةُ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ الْكُبْرَى الْمُنْتَخِبَةِ (بِكَسْرِ الْخَاءِ) وَهَذِهِ تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَّةِ الصُّغْرَى، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ فِي تَكَافُلٍ وَتَضَامُنٍ.
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِأَنْ تَكُونَ مِنَّا أُمَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دُونَ سِوَاهُمْ - لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الدِّينَ وَيَحْفَظُونَ سِيَاجَهُ، وَبِهِمْ تَتَحَقَّقُ الْوَحْدَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ - نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِتِلْكَ الْوَحْدَةِ وَيَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ شِيعَةٍ تَذْهَبُ مَذْهَبًا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْأُخْرَى، وَصَارَ كُلٌّ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ
تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَقَاصِدِ، وَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ وَتَعَدَّدَتْ فِيهِمُ الْمَذَاهِبُ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَمَا بَعْدَهَا، فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي يَجْعَلُ الْأُمَّةَ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ هِيَ الَّتِي تَغْذُو هَذِهِ الْوَحْدَةَ وَتَمُدُّهَا وَتُنَمِّيهَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقُومُ بِهِ أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهَا وَيُؤَيِّدُهَا وَيَشُدُّ أَزْرَهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وِجْهَةُ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ الْآمِرَةِ النَّاهِيَةِ وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مَا أَفْلَحُوا لِعَدَمِ وَحْدَتِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَكَوَّنَ فِيكُمْ أُمَّةٌ لِلدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ طَبِيعِيٌّ، إِذْ مِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الْمُتَّفِقِينَ فِي الْمَقْصِدِ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا ضَارًّا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْمَقَاصِدِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْأَهْوَاءِ بِذَهَابِ كُلٍّ إِلَى تَأْيِيدِ مَقْصِدِهِ وَإِرْضَاءِ هَوَاهُ فِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ لِأَجْلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، وَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ.
أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا قَوْلَيْنِ أَقْرَبُهُمَا ثَانِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: " فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ:
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَسَدُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَالُوا فِي إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ حَذَّرَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ وَاسْتِخْرَاجُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الرَّافِعَةِ لِدَلَالَةِ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ تِلْكَ النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ جُمْلَةِ
الْآيَاتِ.
وَ (الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ هَذَا التَّكْلِيفِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَعَالِينَ، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ إِلَّا إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، لَا جَرَمَ حَذَّرَهُمْ - تَعَالَى - مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ ; لِكَيْلَا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ.
وَعُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ نَاشِئًا عَنِ التَّفَرُّقِ لَا كُلُّ اخْتِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي وَسَائِلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ الَّذِي لَا يَدُومُ مَعَهُ خِلَافٌ، وَإِذَا دَامَ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ فِي الْعَمَلِ، إِذِ الْمُتَّفِقُونَ الْمُخْلِصُونَ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَوْلِ مَنْ ظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ الْبُرْهَانُ مِنْهُمْ وَإِلَّا عَمِلُوا بِرَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فِيمَا لَا يَظْهَرُ لِلْأَقَلِّينَ بُرْهَانُهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَخُوضُ فِي أَقْوَالِ الْمُئَوِّلِينَ الْمُتَحَكِّكِينَ بِالْأَلْفَاظِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ كَحَمْلِ بَعْضِهِمُ التَّفَرُّقَ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْعَقَائِدِ، وَالِاخْتِلَافَ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ، وَادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْآيَةُ ظَاهِرَةُ الْمَعْنَى. أَقُولُ: وَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الرَّازِيُّ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا بِسَبَبِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ حَاوَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ. وَهَذَا وَاقِعٌ وَلَكِنَّهُ تَفْسِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ وَكُلُّهُ أَثَرٌ لِلتَّفَرُّقِ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا بِأَبْدَانِهِمْ بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ رَئِيسًا فِي بَلَدٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْقَوْلِ: " وَأَقُولُ إِنَّكَ إِذَا أَنْصَفْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَانِ صَارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ " اهـ.
أَقُولُ: وَتَبِعَ الرَّازِيَّ فِي قَوْلِهِ هَذَا فِي الْعُلَمَاءِ نِظَامُ الدِّينِ الْحَسَنُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (كَعَادَتِهِ) فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَفَرُّقِ الْأَحْبَارِ وَاخْتِلَافِهِمْ: " وَلَعَلَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَنَسْأَلُ اللهَ الْعِصْمَةَ وَالسَّدَادَ " اهـ. وَسَبَقَهُمَا حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيُّ إِلَى بَيَانِ سُوءِ حَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاخْتِلَافِ مَا عَدَا الْأَفْرَادَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ التَّقْلِيدَ وَيَقُولُونَ
بِوُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ - وَهُوَ كِتَابُهُ - وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ صَوْتُ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ لَا يُسْمَعُ بَيْنَ جَلَبَةِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابُ الْمَنَاصِبِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يُدَعِّمُونَ سُلْطَتَهُمْ بِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمُ الْعَامَّةُ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ الْأَفْرَادَ الَّذِينَ تَنَبَّهُوا فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى إِلَى سُوءِ حَالِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يُلَقِّبُهُمُ الْغَزَّالِيُّ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ لَمْ يُحَاوِلُوا مُعَالَجَةَ هَذَا الدَّاءِ وَاصْطِلَامِ أَرْوِمَتِهِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ الْمَذَاهِبِ وَالتَّعَصُّبُ لَهَا بِالدَّوَاءِ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ تَأْلِيفُ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَى الِاعْتِصَامِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلِ اكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِالشَّكْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنْكَارِهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، أَوْ بِاللِّسَانِ لِبَعْضِ تَلَامِيذِهِ كَمَا نَقَلَ الرَّازِيُّ
قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - فِي بَعْضِ مَسَائِلَ وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ! يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا " اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ الرَّازِيَّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كَانَ يُقَرِّرُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ عِنْدَمَا يُفَسِّرُ آيَاتِهَا وَيَنْسَاهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَيَتَعَصَّبُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةَ. وَهَذَا هُوَ أَصُولُ الدَّاءِ الَّذِي يَشْكُو مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ سَبَبِهَا. أَمَّا الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فَقَدْ تَجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ كُلِّهَا فِي نِهَايَتِهِ، وَوَصَفَ الدَّوَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (رَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص ١١ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ إِلَى تَأْلِيفِ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَقُومُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ الرَّازِيُّ وَشَيْخُهُ يَقُولَانِ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ السَّابِعِ، وَالْغَزَّالِيُّ يَقُولُ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ مَا قَالُوا فَمَاذَا نَقُولُ فِي أَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِمَا نَعْرِفُهُ مِنْ
كَوْنِهِمْ لَا يَشُقُّونَ لِأُولَئِكَ غُبَارًا؟ أَلَسْنَا الْآنَ أَحْوَجَ إِلَى الْإِصْلَاحِ مِنَّا إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الَّتِي اعْتَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الظُّلُمَاتِ فِيهَا غَشِيَتِ النُّورَ، حَتَّى ضَلَّ بِالِاخْتِلَافِ الْجُمْهُورُ؟ بَلَى، وَهُوَ مَا نُعَانِي فِيهِ مَا نُعَانِي وَإِلَى اللهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤَاخَذُ عَلَى تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ إِلَّا إِذَا بُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، أَوْ صَارَ بِحَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ لَوْ نَظَرَ فِيهِ، وَالْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ بَعْدَ الْبَيَانِ، كَمَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَّامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
قَالَ - تَعَالَى - فِي الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَهَذَا الْوَعِيدُ يُقَابِلُ الْوَعْدَ الْكَرِيمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الدَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْفَلَاحُ فِي ذَلِكَ الْوَعْدِ يَشْمَلُ الْفَوْزَ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَذَابُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ يَشْمَلُ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَحَكَّمُوا فِي دِينِهِمْ آرَاءَهُمْ يَكُونُ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَيَشْقَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يُبْتَلَوْنَ بِالْأُمَمِ الطَّامِعَةِ فِي الضُّعَفَاءِ فَتُذِيقُهُمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، وَتَسْلُبُهُمْ عَزَّةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى.
ذَلِكَ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ يَكُونُ لِلْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ.
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
قِيلَ: إِنَّ بَيَاضَ الْوُجُوهِ وَسَوَادَهَا هُنَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [٣٩: ٦٠] وَقِيلَ - وَهُوَ الرَّاجِحُ - إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ فِي مَادَّةٍ (بَيَضَ) مِنْ مُفْرَدَاتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ " وَلَمَّا كَانَ الْبَيَاضُ أَفْضَلَ الْأَلْوَانِ عِنْدَهُمْ كَمَا قِيلَ: الْبَيَاضُ أَفْضَلُ وَالسَّوَادُ أَهْوَلُ، وَالْحُمْرَةُ أَجْمَلُ وَالصُّفْرَةُ أَشْكَلُ: عَبَّرَ عَنِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ بِالْبَيَاضِ حَتَّى قِيلَ لِمَنْ لَمْ يَتَدَنَّسْ بِمُعَابٍ هُوَ أَبْيَضُ الْوَجْهِ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ فَابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَرَّةِ وَاسْوِدَادُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْغَمِّ وَعَلَى ذَلِكَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [١٦: ٥٨] وَعَلَى نَحْوِ الِابْيِضَاضِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [٨٠: ٣٨، ٣٩] اهـ.
وَقَالَ فِي مَادَّةِ (سَوَدَ) :" السَّوَادُ: اللَّوْنُ الْمُضَادُّ لِلْبَيَاضِ. يُقَالُ اسْوَدَّ وَاسْوَادَّ. قَالَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَرَّةِ وَاسْوِدَادُهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَاءَةِ وَنَحْوُهُ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [١٦: ٥٨] وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الِابْيِضَاضَ وَالِاسْوِدَادَ عَلَى الْمَحْسُوسِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ سُودًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِيضًا، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْبَيَاضِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [٧٥: ٢٢] وَقَوْلُهُ فِي السَّوَادِ: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [٧٥: ٢٤] وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [٨٠: ٤٠، ٤١] وَقَالَ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [١٠: ٢٧] وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَا رُوِيَ " أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحْشَرُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ " اهـ.
يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي | عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُونِ |
فَلَعَمْرِي لَأُخْفِيَنَّكَ جَهْدِي | عَنْ عِيَانِي وَعَنْ عِيَانِ الْعُيُونِ |
بِسَوَادٍ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي | وَسَوَادٍ لِوَجْهِكِ الْمَلْعُونِ |
الْآخِرَةِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا فِي بَحْثِ اسْتِعْمَالِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي الْمَعَانِي ; إِذْ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِهِ مَا مِثَالُهُ:
أَمَّا الْمُتَّفِقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا عَزَائِمَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ أُمَّتِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، وَاعْتَصَمُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ الَّتِي فِيهَا عِزَّتُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَأَصْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ وَوَلِيًّا لَهُ فَأُولَئِكَ تَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ - أَيْ تَنْبَسِطُ وَتَتَلَأْلَأُ بَهْجَةً وَسُرُورًا - عِنْدَ ظُهُورِ أَثَرِ الِاتِّفَاقِ وَالِاعْتِصَامِ وَنَتَائِجِهِمَا، وَهِيَ السُّلْطَةُ وَالْعِزَّةُ وَالشَّرَفُ وَارْتِفَاعُ الْمَكَانَةِ وَسِعَةُ السُّلْطَانِ. وَهَذَا الْأَثَرُ ظَاهِرٌ فِي الْأُمَمِ الْمُتَّفِقَةِ الْمُتَّحِدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّمُ مَجْمُوعُهَا إِذَا أُهِينَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَتُجَيَّشُ جَمِيعُهَا مُطَالِبَةً بِنَصْرِهِ وَالِانْتِقَامِ لَهُ ; لِأَنَّهُ ظُلِمَ وَأُهِينَ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهَا أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ثُمَّ يُظْلَمُ أَوْ يُهَانُ وَتَكُونُ هِيَ رَاضِيَةً نَاعِمَةَ الْبَالِ، أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ تَرَى عَلَى وُجُوهِهِمْ لَأْلَاءُ الْعِزَّةِ وَتَأَلُّقُ الْبِشْرِ بِالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِبَيَاضِ الْوَجْهِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفُونَ لِافْتِرَاقِهِمْ فِي الْمَقَاصِدِ، وَتَبَايُنِهِمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، الَّذِينَ لَا يَتَنَاصَرُونَ وَلَا يَتَعَاضَدُونَ وَلَا يَهْتَمُّ أَفْرَادُهُمْ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا شَرَفُ الْمِلَّةِ وَعِزَّةُ الْأُمَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ بِالذِّلَّةِ وَالْكَآبَةِ يَوْمَ تَظْهَرُ عَاقِبَةُ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ بِقَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُمْ وَنَزْعِهِ السُّلْطَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الْمَاضِينَ، وَالْمُشَاهَدَةُ أَصْدَقُ وَأَقْوَى حُجَّةً فِي الْحَاضِرِينَ.
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِلْأُمَّةِ الَّتِي وَقَعَ لَهَا ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهَا لِأَنَّ عَمَلَهَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُوَبِّخُهُمُ اللهُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ.
وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الشَّأْنِ لَا الْحِكَايَةَ عَنْ قَوْلٍ لِسَانِيٍّ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ أَوْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، بَلْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عِنْدِي، وَالْكَلَامُ
هُمُ الظَّالِمُونَ [٢: ٢٥٤] فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ. فَمِنْ عُرْفِهِ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي الدِّينِ يُعَدُّونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [٣٠: ٣١، ٣٢] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [٦: ١٥٩] فَمَنْ تَذَكَّرَ هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَا يُجِيزُ لِنَفْسِهِ صَرْفَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا لِأَجْلِ مُطَابَقَةِ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَرْجِعُ مَسَائِلُ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَحْدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَا اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ ثُمَّ كَذَّبَهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَعُدُّ الْخُرُوجَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْعَمَلِ مِنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْظَمِهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ (مَثَلًا) فَمَنِ اسْتَرْسَلَ فِي الظُّلْمِ حَتَّى صَارَ صِفَةً لَهُ كَانَ كَافِرًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٢: ٢٥٤] فَإِذَا كَانَ الظَّالِمُونَ كَافِرِينَ فِي عُرْفِهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُتَفَرِّقُونَ الْمُخْتَلِفُونَ كَافِرِينَ، وَالِاعْتِصَامُ بِالْوَحْدَةِ وَتَرْكُ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِهِ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ أَسَاسُهُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَاؤُهُ إِلَّا عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنَّ مَا قَرَّرْتُهُ مِنْ وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَاطَةِ الدَّعْوَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِأُمَّةٍ قَوِيَّةٍ مُتَّحِدَةٍ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا سُلُوكُهَا لِنَمُوتَ مُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ الْمُرَادُ بِرَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - هُنَا أَثَرُهَا مِنْ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ يَكُونُونَ خَالِدِينَ فِي النِّعْمَةِ بِالدُّنْيَا مَا دَامُوا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ نِعْمَةٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ فِي الْأَعْمَالِ.
وَتَرْتِيبُ الْخُلُودِ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ: ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ ابْيِضَاضَ الْوُجُوهِ وَمَا كَانَ سَبَبًا فِيهِ عِلَّةٌ لَهُ، وَالْمَعْلُومُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ، وَأَمَّا أَمْرُ الْخُلُودِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَظْهَرُ.
تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَهُوَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي شُئُونِهِمْ وَإِلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ تَرْجِعُ أُمُورُهُمْ وَلِكُلِّ سُنَّةٍ مِنْهَا غَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، فَلَا يَطْمَعُ أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ بِالْوُصُولِ إِلَى غَايَةِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ كَالدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّنَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ هُوَ الظُّلْمُ بِالتَّشْرِيعِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي أَحْكَامِ الصِّيَامِ: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢: ١٨٥] وَقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] إِلَخْ. وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْخِلَافِ وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ لَوْلَا الْمَذَاهِبُ الَّتِي وُضِعَتْ أُصُولُهَا وَقَوَاعِدُهَا ثُمَّ نَظَرَ أَصْحَابُهَا فِي الْقُرْآنِ يَلْتَمِسُونَ تَأْيِيدَهَا بِهِ وَحَمْلَهُ عَلَيْهَا. فَقَدْ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ جَاءَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ عَامُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ مُطْلَقًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَا مِنْ
أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ حَتْمًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا هُوَ ظُلْمٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ مِنْهُمْ لَا مِنْهُ، وَوَجَّهُوا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا. وَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ: إِنَّ وُقُوعَ الظُّلْمِ مِنْهُ - تَعَالَى - مُحَالٌ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ مِلْكٌ فَيَكُونُ ظَالِمًا بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ بَعْدَ نَفْيِ إِرَادَةِ الظُّلْمِ أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَنَحْنُ نَقُولُ - أَوَّلًا: إِنَّ الْآيَتَيْنِ فِي وَادٍ وَهَذِهِ الْمَسَائِلَ الْكَلَامِيَّةَ فِي وَادٍ آخَرَ، وَثَانِيًا: إِنَّ الظُّلْمَ مُحَالٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - لَا لِأَنَّ الظُّلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِ الْمُتَصَرِّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ ; لِأَنَّهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ وَالْكَمَالَ فِي النِّظَامِ وَفِي التَّشْرِيعِ، وَمَنْ حَمَّلَ عَبِيدَهُ أَوْ دَوَابَّهُ مَا لَا تُطِيقُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ ظَلَمَهَا، بَلْ قَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ الْأَرْضَ وَلَمْ تَكُنْ مَوْضِعًا لِلْحَفْرِ: إِنَّهُ ظَلَمَهَا وَسَمَّوْهَا الْأَرْضَ الْمَظْلُومَةَ وَسَمَّوُا التُّرَابَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَظْلُومُ، وَمَنْ نَقَصَ امْرَأً حَقَّهُ فَقَدْ ظَلَمَهُ قَالَ - تَعَالَى -: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [١٨: ٣٣] وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى الظُّلْمِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الظُّلْمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ إِمَّا بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ وَإِمَّا بِعُدُولٍ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ مَكَانِهِ " فَالظُّلْمُ الَّذِي يَنْفِيهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ فِي الْأَحْكَامِ هُوَ مَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْعِبَادِ وَهِدَايَتَهُمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي الْخَلْقِ مَا يُنَافِي النِّظَامَ وَالْإِحْكَامَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّشْرَ فِي آيَةِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ إِلَخْ. عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ اللَّفِّ إِذْ ذَكَرَ فِي اللَّفِّ الِابْيِضَاضَ قَبْلَ الِاسْوِدَادِ، وَذَكَرَ فِي النَّشْرِ حُكْمَ مَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ قَبْلَ حُكْمِ مَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَلَيْسَ اللَّفُّ وَالنَّشْرُ يُسَمُّونَهُ الْمُرَتَّبَ أَبْلَغَ مِمَّا يُسَمُّونَهُ الْمُشَوَّشَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ فَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نُكْتَةَ التَّرْجِيحِ هُنَا جَعْلُ مَطْلَعِ الْكَلَامِ وَمَقْطَعِهِ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَزَائِهِمْ فَوَافَقَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانَ الْبُلَغَاءِ جَعْلُهُمَا مِمَّا يَسُرُّ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَقِيلَ: إِنَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَلْقِ الرَّحْمَةُ دُونَ الْعَذَابِ ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ وَخَتَمَ بِذِكْرِ جَزَائِهِمْ وَأَدْمَجَ ذِكْرَ الْآخَرِينَ فِي الْأَثْنَاءِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ تَرْجِيحٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَالثَّانِي تَرْجِيحٌ
بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ خَالِدُونَ فِيهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَهْلَ الْعَذَابِ خَالِدُونَ فِيهِ. نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الرَّازِيُّ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَضَافَ الرَّحْمَةَ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ الْعَذَابِ وَسَبَبَهُ وَهُوَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ قَالَ: " وَهَذَا جَارٍ مَجْرَى الِاعْتِذَارِ عَنِ الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ مُغَلَّبٌ " فَيَا وَيْلَ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ الْمُتَعَادِينَ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ الَّذِي يَأْخُذُ بِحُجُزِهِمْ أَنْ يَقْتَحِمُوا فِي الْعَذَابِ وَهُمْ يَتَهَافَتُونَ عَلَيْهِ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ.
بَعْدَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَذَكَّرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ مَا نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَتَوَعَّدُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ - بَيَّنَ فَضْلَ الْمُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ، الْمُتَآخِينَ فِي دِينِهِ، الْمُتَحَابِّينَ فِيهِ، وَوَصَفَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأُمَّةِ وَفَضْلَهَا عَلَى غَيْرِهَا تَكُونُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْإِيمَانُ بِاللهِ - تَعَالَى -.
فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كُنْتُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهَا تَامَّةٌ فَالْمَعْنَى وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الْوُجُودِ الْآنَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ فَلَا يُعْرَفُ فِيهَا الْمَعْرُوفُ وَلَا يُنْكَرُ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَزَعُ أَهْلَهُ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْرِفُهُمْ
إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ كَمَا فِي كُتُبِهَا الْمُبَشِّرَةِ بِكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لِمَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَالْمَعْنَى: كُنْتُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ شَأْنُكُمْ كَذَا وَكَذَا ; وَبِذَلِكَ كَانَ لَكُمْ هَذَا الْجَزَاءُ الْحَسَنُ، فَالْكَلَامُ عِنْدَهُ تَتِمَّةٌ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَكَمَا ذَكَرَ فِيهَا مَا يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ذَكَرَ أَيْضًا مَا يُقَالُ لِمَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَقِيلَ عَلَى هَذَا - أَيْ كَوْنِهَا نَاقِصَةً - غَيْرُ ذَلِكَ.
إِذَا فُسِّرَتْ كَلِمَةُ كُنْتُمْ بِغَيْرِ مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ شَهَادَةً مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَى زَمَنِ نُزُولِهَا بِأَنَّهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا الثَّلَاثِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِيهَا كَانَ لَهُ حُكْمُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الدَّعْوَى وَجَعْلِ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لَهُمْ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالْتَزَمَ الْحَلَالَ وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ مَعَ الْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ مَعَ اتِّقَاءِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ فِي الدِّينِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: هَذَا الْوَصْفُ يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا، وَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ -، فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَهُمُ الَّذِينَ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ فَيَذْهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ تَتَعَصَّبُ لِكُلِّ مَذْهَبٍ شِيعَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَخَافُ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ قَوِيًّا، وَلَا يَهَابُ صَغِيرٌ كَبِيرًا، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، وَمَلَكَ أَزِمَّةَ أَهْوَائِهِمْ حَتَّى كَانَ هُوَ الْمُسِيِّرَ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ - ذَلِكَ الْإِيمَانُ الَّذِي بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - خَوَاصَّهُ وَصِفَاتَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ فَوَائِدُهُ وَآثَارُهُ فِي تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَيْدِيهِمْ - ذَلِكَ الْإِيمَانُ الَّذِي قَالَ - تَعَالَى - فِي أَهْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٤٩: ١٥] وَقَالَ فِيهِمْ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [٨: ٢] إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [٨: ٤] وَقَالَ فِيهِمْ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [٢٣: ١، ٢] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى أَمْثَالِهَا فِي أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ " وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ " هِيَ مِنْ لَفْظِهِ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةَ وَالْمَزَايَا الْكَامِلَةَ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ لَمْ تَكُنْ لِكُلِّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي يُسْلِمُ وَيَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [٤٨: ٢٩] فَهُمُ الَّذِينَ تَصْدُقَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَأَفْضَلُهَا وَأَعْلَاهَا الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَالْإِيوَاءُ وَالنَّصْرُ مِنْ أَهْلِهَا ; لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي أَثَارَهَا مُعَاوِيَةُ عَلَى عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَلْ خَرَجَتِ الْأُمَّةُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ لَمْ يَكُنْ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ اعْتِقَادُ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ مَذْهَبٌ جَدِيدٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَالدِّينُ نَفْسُهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ مُعَاوِيَةَ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ التَّفَرُّقَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ; فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْهِجْرَةُ، أَوْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ
كَمَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مُسْلِمًا. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ: وَهَذَا يُعَارِضُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: " فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ ": يَعْنِي مُعَاوِيَةَ. وَسَوَاءٌ صَحَّ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ أَوْ لَا فَمُعَاوِيَةُ لَمْ يُهَاجِرْ، وَنَقَلَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَخَافُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ أُمِّي كَانَتْ تَقُولُ: إِنْ خَرَجْتَ قَطَعْنَا عَنْكَ الْقُوتَ، وَمَا كَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَّا قَلِيلٌ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يُطَالِبُ بِحَقٍّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَهُ - وَهُوَ الْقِصَاصُ مِنْ قَاتِلِي عُثْمَانَ - ثُمَّ يَدْخُلُ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ.
(ثَالِثُهَا) قَدْ عَرَفَ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى التَّارِيخِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَا وُجِدُوا، وَإِنَّمَا ضَعُفَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَكْثَرِهِمْ، وَهَذَانِ الرُّكْنَانِ هُمَا بَعْدَ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ أَرْكَانِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ، فَمَا عَرَضَ مِنَ التَّفَرُّقِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْخِلَافِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ زَالَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ ; لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالْخِلَافَ لَا يَدُومُ فِي أُمَّةٍ تُقِيمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَوْ بِغَيْرِ
الْحَقَّ أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَا فَتِئَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ خَرَجَتْ لِلنَّاسِ حَتَّى تَرَكَتِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا تَرَكَتْهُمَا رَغْبَةً عَنْهُمَا أَوْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - بِإِقَامَتِهِمَا، بَلْ مُكْرَهَةً بِاسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ سَارَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ مِنْهُمْ أَظْهَرَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ جَهْرًا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ إِذْ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللهَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ " فَقَدْ كَانَتْ شَجَرَةُ بَنِي مَرْوَانَ الْخَبِيثَةِ هِيَ الَّتِي سَنَّتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَّةَ الِاسْتِبْدَادِ، فَمَا زَالَ يَعْظُمُ وَيَتَفَاقَمُ حَتَّى سَلَبَ الْأُمَّةَ أَفْضَلَ مَزَايَاهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ بَيَّنَ (الْفَخْرُ الرَّازِيُّ) فِي تَفْسِيرِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ وَصْفِ الْأُمَّةِ هُنَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِيمَانِ عِلَّةً لِكَوْنِهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَقَالَ:
" وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ عِلَّةِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ
أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ مَقْرُونًا بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَهَاهُنَا حَكَمَ - تَعَالَى - بِثُبُوتِ وَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذَا الْحُكْمَ وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ ; أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانِ، فَوَجَبَ كَوْنُ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ " ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْهُ فَقَالَ:
" مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَقْتَضِي الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللهِ كَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ الْأُمَمِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ الْقَفَّالُ: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْقِتَالُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ وَأَقْوَاهَا مَا يَكُونُ بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي خَطَرِ الْقَتْلِ، وَأَعْرَفُ الْمَعْرُوفَاتِ الدِّينُ الْحَقُّ وَالْإِيمَانُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَاتِ الْكُفْرُ بِاللهِ، فَكَانَ الْجِهَادُ فِي الدِّينِ مَحْمَلًا لِأَعْظَمِ الْمَضَارِّ لِغَرَضِ إِيصَالِ الْغَيْرِ إِلَى أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ أَعْظَمَ الْعِبَادَاتِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْجِهَادِ فِي شَرْعِنَا أَقْوَى مِنْهُ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ لَا جَرَمَ صَارَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِفَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيُقِرُّوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ.
ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: (فَائِدَةٌ) الْقِتَالُ عَلَى الدِّينِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْصِفٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَدْيَانَهُمْ بِسَبَبِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ، وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي الدَّلَائِلِ الَّتِي تُورَدُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أُكْرِهَ [الْمَرْءُ]
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدَ غَيْرِ ثَابِتَةٍ (مِنْها) تَوَهُّمُ الْقَفَّالِ وَالرَّزِايِّ أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا جِهَادٌ دِينِيٌّ قَوِيٌّ وَلَا إِكْرَاهٌ عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ اطِّلَاعِهِمَا عَلَى الْأَدْيَانِ وَالتَّارِيخِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا أَشَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حُرُوبِهِمُ الدِّينِيَّةِ
وَوَرَدَ عَنْهُمْ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ مَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الدِّينِ مَنْفِيٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يُحَارِبِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا حَارَبَ دِفَاعًا، وَكَيْفَ يُحَاوِلُ الْإِكْرَاهَ وَاللهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لَهُ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [١٠: ٩٩] وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ آيَاتِ الْقِتَالِ فِي الْبَقَرَةِ وَآيَةِ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [٢: ٢٥٦].
(وَمِنْهَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَجْعَلُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِلْزَامِ بِهِ، وَالْآيَةُ السَّابِقَةُ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ غَيْرَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ وَغَيْرَ الْإِلْزَامِ بِقَبُولِهِ بِهَا وَهُوَ عَمَلٌ لَا إِرْشَادٌ وَتَعْلِيمٌ. [وَمِنْهَا] أَنَّ فَرِيضَتَيِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرُ فَرِيضَةِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. [وَمِنْهَا] أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُمْ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [٢٢: ٤١] فَجَعَلَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَوْصَافِهِمْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ ; وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْجِهَادِ بَلْ بَعْدَهُ.
فَيَا لِلْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ يَأْخُذُونَ الْمَسْأَلَةَ التَّقْلِيدِيَّةَ قَضِيَّةً مُسَلَّمَةً ثُمَّ يُحَكِّمُونَهَا فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، وَيَجْعَلُونَهَا قَاعِدَةً لِتَفْسِيرِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِآيَاتِهِ الصَّرِيحَةِ، ثُمَّ هُمْ يَأْتُونَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَمْتَازُ بِهِ الْإِسْلَامُ هُوَ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَنَزْعُ قَلَائِدِ التَّقْلِيدِ، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى تَقَلُّدِ هَذِهِ الْقَلَائِدِ. أَلَمْ تَتَأَمَّلْ مَا قَالَهُ (الْقَفَّالُ) فِي فَائِدَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْنِي بِأَكْثَرِ النَّاسِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَدْيَانَهُمْ بِحَسَبِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ إِلَّا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالدَّلَائِلِ فَلَا يَقْبَلُونَ فِي دِينِهِمْ شَيْئًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَبِهَذَا كَانَ لَهُمُ الْحَقُّ عِنْدَهُ بِإِكْرَاهِ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مِثْلَهُمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ. وَأَيْنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ الْيَوْمَ وَفِي زَمَنِ (الْقَفَّالِ) أَيْضًا؟ !
ثُمَّ إِنَّ السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ (الرَّازِيُّ) وَارْتَضَى فِي جَوَابِهِ مَا قَالَهُ (الْقَفَّالُ) مَبْنِيٌّ عَلَى
لِلنَّاسِ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُخْرِجَتْ صِلَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ لِلنَّاسِ اهـ. وَهَذَا الْأَخِيرُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.
وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا السُّؤَالِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ تَعْلِيلَ الْخَيْرِيَّةِ بِمَا ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ لِأَنَّهُ كُلُّ السَّبَبِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، بَلْ لِأَنَّ مَا كَانَتْ بِهِ خَيْرَ أُمَّةٍ لَا يُحْفَظُ وَلَا يَدُومُ إِلَّا بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ ; وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَرَضِهَا فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا وَحِفْظِ وَجُودِهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَأَنَّهَا لَوْلَا ذَلِكَ لَا تَكُونُ مُسْتَحِقَّةً لِلْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِي آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَظِيرٌ فِي كِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَقُمْ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَقَوْلُ الرَّازِيِّ: " إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي سَائِرِ الْأُمَمِ " غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ (الرَّازِيُّ) هُنَا سُؤَالًا آخَرَ وَأَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: " لِمَ قُدِّمَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُحِقَّةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَى حَالًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، فَإِذَنِ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ فَهُوَ شَرْطٌ لِتَأْثِيرِ هَذَا الْمُؤَثِّرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِفَةِ الْخَيْرِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ هُوَ كَوْنُهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا إِيمَانُهُمْ فَذَاكَ شَرْطُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرُ أَلْصَقُ بِالْأَثَرِ مِنْ شَرْطِ التَّأْثِيرِ ; فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللهُ - تَعَالَى - ذِكْرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ " اهـ. بِمَا فِيهِ مِنْ تَكْرَارٍ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْإِيمَانِ فَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ (الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ) مَحْمُودَةٌ فِي عُرْفِ جَمِيعِ النَّاسِ: مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، يَعْتَرِفُونَ لِصَاحِبِهَا بِالْفَضْلِ وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمِ قَدَّمَ الْوَصْفَ الْمُتَّفَقَ عَلَى حُسْنِهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَهُنَاكَ حِكْمَةٌ
أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الْإِيمَانِ وَحِفَاظُهُ (كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ) فَكَانَ تَقْدِيمُهُ فِي الذِّكْرِ مُوَافِقًا لِمَعْهُودٍ عِنْدَ النَّاسِ فِي جَعْلِ سِيَاجِ كُلِّ شَيْءٍ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ.
أَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّعْرِيضِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَيْ لَوْ آمَنُوا الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى النُّفُوسِ وَيَمْلِكُ أَزِمَّةَ الْأَهْوَاءِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا لِأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ الَّذِي لَا يَزَعُ عَنِ الشُّرُورِ، وَلَا يَرْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَنْدَفِعُ سُؤَالٌ ثَالِثٌ لِلرَّازِيِّ وَهُوَ: لِمَ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالنُّبُوَّةِ؟ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِرَسُولِهِ وَهُوَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَوِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ كَافَّةً وَأَهْلُ الْكِتَابِ اشْتَهَرُوا بِذَلِكَ، وَجَوَابُ الرَّازِيِّ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ. ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ بَلْ أَطْلَقَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِكُلِّ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.
وَجَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَعَلِّقَةً بِمَجْمُوعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَقَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ مَا نَهَانَا - سُبْحَانَهُ - عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ كَمَا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَأَمَرَنَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَذَكَرَ أَنَّنَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِهَذَا أَوْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ وَالِاتِّبَاعِ الْعَمَلِيِّ - نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمُخْتَلِفِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ هَذَا الْإِيمَانَ الْخَالِصَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ - تَعَالَى - وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ثَمَرَةً مِنْ ثِمَارِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَثَرًا مِنْ آثَارِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِيمَانِ
شَيْءٌ أَخَصُّ مِنَ الْإِيمَانِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ دِينٌ وَكِتَابٌ بَلْ هُوَ مَا عَرَّفْنَاهُ آنِفًا وَقَبْلَ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ هَذَا الْإِيمَانَ الْإِذْعَانِيَّ الَّذِي يَصْحَبُهُ الْإِخْلَاصُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرَى مِنْهُ أُمَّةٌ لَهَا دِينٌ سَمَاوِيٌّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ فَعُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ عَلَى أَكْثَرِ أَفْرَادِهَا فَهُمُ الَّذِينَ فَسَقُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لَا اسْتِطْرَادٌ كَمَا قِيلَ.
هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ آمَنَ
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [٣: ٧٥] الْآيَةَ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [٧: ١٥٩] وَقَالَ فِيهِمْ وَفِي النَّصَارَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [٥: ٦٦] وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا، فَقَدْ أَثْبَتَ لِبَعْضِهِمُ الْإِيمَانَ وَالِاقْتِصَادَ أَيِ الِاعْتِدَالَ فِي الدِّينِ وَالْهِدَايَةَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَقَالَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [٤: ١٦٢] فَجَعَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الدَّلَائِلَ وَالْبَرَاهِينَ، وَأَهْلَ الْإِيمَانِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يَتَحَرَّوْنَ الْحَقَّ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ دَعْوَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُوَّةِ اسْتِعْدَادِهِمْ. وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرَ الْمُتَشَبِّعَ بِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ الَّذِي لَمْ يَخْتَبِرْ غَيْرَهَا وَلَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَحَقَائِقِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لَا يَكَادُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَالتَّقْوَى تُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، فَهُوَ يُطَبِّقُ الْآيَاتِ عَلَى اخْتِبَارِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ الْآنَ مَا قَالَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَدِينَةِ جِنِيفَ عَاصِمَةِ سِوِيسْرَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً عَالِمَةً تَقِيَّةً رَاقَبَتْ سَيْرَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَصِيفِهِ هُنَاكَ لِغَرَابَةِ زِيِّهِ وَدِينِهِ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ وَلَا يَخْطُرُ فِي بَالِي قَبْلَ مَعْرِفَتِكَ أَنَّ الْقَدَاسَةَ وَالتَّقْوَى فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ حَقَائِقَ مَا عَلَيْهِ الْأُمَمُ فِي عَقَائِدِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَأَعْمَالِهَا، يَزِنُ ذَلِكَ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالدِّقَّةُ الَّتِي نَرَاهَا فِي تَحَرِّيهِ الْحَقِيقَةَ لَمْ نَعْهَدْهَا فِي كِتَابِ عَالِمٍ وَلَا مُؤَرِّخٍ، فَإِذَا نَحْنُ جَمَعْنَا مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَعَرَضْنَاهُ عَلَى عُلَمَائِهِمْ
وَلَكِنْ وُجِدَ فِينَا مَنْ طَمَسَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ وَجَعَلُوا كُلَّ مَا يُنْكِرُهُ الْقُرْآنُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ مِنْ قَبِيلِ هَجْوِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلَّ مَا يَحْمَدُهُ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، حَتَّى كَأَنَّهُ شِعْرٌ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا مَدْحُ أُنَاسٍ وَذَمُّ آخَرِينَ، وَبِهَذَا يُنَفِّرُونَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَيَحُولُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالِاتِّعَاظِ وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ. وَلِهَذَا الْبَحْثِ بَقِيَّةٌ تَأْتِي فِي تَفْسِيرِ لَيْسُوا سَوَاءً إِلَخْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَعْرُوفِ فِي الْأُصُولِ فَحَمَّلَهَا مَالَا تَحْمِلُ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى
أَيْ إِنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِكُمْ وَلَكِنْ يُؤْذُونَكُمْ بِنَحْوِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَالْخَوْضِ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إِلَّا ضَرَرًا خَفِيفًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ تَأْثِيرٍ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ: كِنَايَةٌ عَنِ الِانْهِزَامِ لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يُحَوِّلُ ظَهْرَهُ إِلَى جِهَةِ مُقَاتِلِهِ وَيَسْتَدْبِرُهُ فِي هَرَبِهِ مِنْهُ، فَيَكُونُ دُبُرُهُ أَيْ قَفَاهُ إِلَى جِهَةِ وَجْهِ مَنِ انْهَزَمَ هُوَ مِنْهُ. ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ عَلَيْكُمْ قَطُّ مَا دَامُوا عَلَى فِسْقِهِمْ وَدُمْتُمْ عَلَى خَيْرِيَّتِكُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ إِخْبَارِيَّةً مُسْتَقِلَّةً لَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ بِنُونِ الرَّفْعِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ بِشَارَاتٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَكُلُّهَا تَحَقَّقَتْ وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ " الرَّازِيُّ " عَلَى الْوَعْدِ بِأَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ: أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي الْيَهُودِ دُونَ النَّصَارَى أَيْ إِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُنْصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنِ انْكِسَارِهِمْ فِي الْحِجَازِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ سِجَالًا ثُمَّ صَارُوا هُمُ الْمَنْصُورِينَ، وَأَجَابَ (الرَّازِيُّ) عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْيَهُودِ، نَعَمْ وَمَا قُلْنَاهُ يَصْلُحُ جَوَابًا مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ - تَعَالَى - نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ إِيَّاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [٤٧: ٧] وَبِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَمِثْلُهُ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ [٩: ١١٢] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرَّةٍ وَسَنُفَصِّلُهُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ تَفْصِيلًا.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ثُقِفُوا: وُجِدُوا. وَالذِّلَّةُ بِكَسْرِ الذَّالِ: ضَرْبٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الذُّلِّ لِأَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْهَيْئَةِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْجِزْيَةُ، وَقِيلَ: مَا يُحْدِثُهُ فِي النَّفْسِ مِنْ فَقْدِ السُّلْطَةِ وَهَذَا هُوَ
الْمَضْرُوبَةِ بِمَنْ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [٢: ٦١] الْآيَةَ فَلْيُرَاجَعْ ; فَإِنَّ مَا هُنَا لَا يُغْنِي عَنْهُ. وَالْحَبْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَرْتَبِطُونَ بِالْعُهُودِ كَمَا يَقَعُ الِارْتِبَاطُ الْحِسِّيُّ بِالْحِبَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَتَتْهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ: " أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّا قَاطِعُونَ فِيكَ حِبَالًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ " وَيُسَمَّى السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ حَبْلًا وَالْحَبْلُ سَبَبًا. قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى " إِلَّا بِعَهْدٍ " أَوْ سَبَبٍ يَأْمَنُونَ بِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: السَّبَبُ مِنَ اللهِ الْإِسْلَامُ، وَالسَّبَبُ مِنَ النَّاسِ الْعَهْدُ أَوِ التَّأْمِينُ. وَاخْتَارَ (الرَّازِيُّ) أَنَّ الْحَبَلَ مِنَ اللهِ هُوَ الْجِزْيَةُ، أَيِ الذِّمَّةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقَبُولِهِمْ دَفْعَ الْجِزْيَةِ. وَالْحَبْلُ مِنَ النَّاسِ هُوَ مَا فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيَزِيدُ فِيهِ تَارَةً وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ حَالَهُمْ مَعَكُمْ أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مَهْضُومِي الْحُقُوقِ رَغْمَ أُنُوفِهِمْ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَا قَرَّرَتْهُ شَرِيعَتُهُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا فِي حُكْمِكُمْ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ وَالْقَضَاءِ وَتَحْرِيمِ إِيذَائِهِمْ وَهَضْمِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعِيشَةِ مِنِ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْكُمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ; أَيْ فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الذِّلَّةِ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ لَا عِزَّةَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ قَدْ فُقِدَا مِنْهُمْ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَظْهَرُ وَأَشَدُّ انْطِبَاقًا عَلَى الْوَاقِعِ، فَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيَقْتَرِضُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَ، وَقَضِيَّةُ عَلِيٍّ مَعَ الْيَهُودِيِّ عِنْدَ عُمَرَ مَشْهُورَةٌ، وَفِيهَا أَنَّ عَلِيًّا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ مُخَاطَبَتَهُ أَمَامَ خَصْمِهِ الْيَهُودِيِّ بِالْكُنْيَةِ وَفِيهَا تَعْظِيمٌ يُنَافِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا. بَاءُوا بِالْغَضَبِ: كَانُوا أَحِقَّاءَ بِهِ مِنَ الْبَوَاءِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، يُقَالُ بَاءَ فُلَانٌ بِدَمِ فُلَانٍ أَوْ بِفُلَانٍ إِذَا كَانَ حَقِيقًا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، أَوْ أَقَامُوا فِيهِ وَلَبِثُوا مِنَ الْمَبَاءَةِ أَيْ حَلُّوا مُبَوَّأً أَوْ بِيئَةً مِنَ الْغَضَبِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَسْكَنَةَ بِالْفَقْرِ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ: إِنَّ الْيَهُودَ فِي الْغَالِبِ أَهْلُ فَقْرٍ وَمَسْكَنَةٍ! وَلَيْسَتِ الْمَسْكَنَةُ هِيَ الْفَقْرُ وَإِنَّمَا هِيَ سُكُونٌ عَنْ ضَعْفٍ أَوْ حَاجَةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: إِنَّ الْمَسْكَنَةَ حَالَةٌ لِلشَّخْصِ مَنْشَؤُهَا اسْتِصْغَارُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَدَّعِيَ لَهُ حَقًّا، وَالذِّلَّةُ حَالَةٌ تَعْتَرِي الشَّخْصَ مِنْ سَلْبِ غَيْرِهِ لِحَقِّهِ وَهُوَ يَتَمَنَّاهُ، فَمَنْشَؤُهَا
وَسَبَبُهَا غَيْرُهُ لَا نَفْسُهُ
وَهَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهُمُ الْمَسْكَنَةُ فَيَكُونُ لَهُمْ مُلْكٌ وَسُلْطَانٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ؟ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَسْطٍ، فَأَمَّا مِنَ الْجِهَةِ الدِّينِيَّةِ فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ مُبَشَّرُونَ بِذَلِكَ بِظُهُورِ مَسِيحِ " مسيا " فِيهِمْ وَمَعْنَاهُ ذُو الْمُلْكِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُرَادُ بِالْمُلْكِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ: الْمُلْكُ الرُّوحَانِيُّ الْمَعْنَوِيُّ. وَفِي إِنْجِيلِ بَرْنَابَا عَنِ الْمَسِيحِ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ فَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي اسْتَتْبَعَتِ الْمُلْكَ. وَمَحَلُّ هَذَا الْبَحْثِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [١٧: ٨] فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مِنَ الْجِهَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَرْضِ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَعَنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ فُنُونِ الْحَرْبِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الزِّرَاعِيَّةِ لِعِنَايَتِهِمْ بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَارِدِ وَأَكْثَرِهَا نَمَاءً وَأَقَلِّهَا عَنَاءً كَالرِّبَا. وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِ عَلَاقَتِهِ بِالْمُلْكِ.
ثُمَّ عَلَّلَ - تَعَالَى - هَذَا الْجَزَاءَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ
وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ: أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ، وَخِلَافَتِهِمْ بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: إِعْرَابُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ " إِلَّا مُعْتَصِمِينَ أَوْ مُتَمَسِّكِينَ أَوْ مُتَلَبِّسِينَ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ " وَالْمَعْنَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ اعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللهِ وَحَبْلِ النَّاسِ.
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَيْسُوا سَوَاءً كَلَامٌ تَامٌّ، أَيْ لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ مُتَسَاوِينَ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا، بَلْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمُ الْفَاسِقُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ فَهُوَ بَيَانٌ لَهُ بَعْدَ وَصْفِ الْفَاسِقِينَ وَذِكْرِ مَا اسْتَحَقَّتِ الْأُمَّةُ بِسُوءِ عَمَلِهِمْ. وَلَمَّا بَيَّنَ وَصْفَ فَاسِقِيهِمْ كَانَ مِنَ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ أَنْ يُبَيِّنَ وَصْفَ مُؤْمِنِيهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
الْآيَاتِ، قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْوَاقِعِ وَإِزَالَةِ الْإِيهَامِ السَّابِقِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخَذَهُ بِإِذْعَانٍ، وَعَمِلَ فِيهِ بِإِخْلَاصٍ فَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَفِي هَذَا الْعَدْلِ قَطْعٌ لِاحْتِجَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعَمَلِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - يَعْنِي الْأُسْتَاذُ: أَنَّهُ لَوْلَا مِثْلُ هَذَا النَّصِّ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا سَاوَانَا بِغَيْرِنَا مِنَ الْفَاسِقِينَ وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِهِ مُخْلِصُونَ لَهُ - وَفِيهِ اسْتِمَالَةٌ لَهُمْ وَتَنَاهٍ عَنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ فِيهَا أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِفَضِيلَةٍ وَلَا مَزِيَّةٍ لِلْآخَرِ، كَأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ - وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا - تَتَبَدَّلُ حَسَنَاتُهُ
سَيِّئَاتٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ خِلَافًا لِمُفَسِّرِنَا (الْجَلَالِ) وَغَيْرِهِ الَّذِينَ حَمَلُوا الْمَدْحَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُمْدَحُونَ بِوَصْفِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا يُمْدَحُونَ بِعُنْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: قَائِمَةٌ وَرَجَّحَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَوْجُودَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ، قَالَ: وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنْحَرِفِينَ عَنِ الْحَقِّ بِأَنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُودِ وَإِنَّمَا حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْعَدَمِ، وَأَطَالَ فِي وَصْفِ مَنْ لَا خَيْرَ فِي وُجُودِهِمُ الَّذِينَ قَالَ فِي مِثْلِهِمُ الشَّاعِرُ:
خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ | فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا |
رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ | فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا |
وَأَقُولُ: إِنَّ اسْتِقَامَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْحَقِّ مِنْ دِينِهِمْ لَا يُنَافِي مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِ كُتُبِهِمْ وَتَحْرِيفِ بَعْضِهِمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهَا، فَإِنَّ مَنْ يَعْرِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ السُّنَّةِ وَيَحْفَظُ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فَيَعْمَلُ بِمَا عَلِمَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مُخْلِصًا فِيهِ يُقَالُ: إِنَّهُ قَائِمٌ بِالسُّنَّةِ السَّنِيَّةِ عَامِلٌ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ قَدْ نُقِلَ بِالْمَعْنَى وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ وَبَعْضُ النَّاسِ كَالْحَشْوِيَّةِ حَرَّفُوهَا بَلْ حَرَّفُوا بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا لِيُدَعِّمُوا بِهَا مَذَاهِبَهُمْ وَآرَاءَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ فَمَعْنَاهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الْمُخْتَارِ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ مُنَاجَاةِ اللهِ وَدُعَائِهِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِهِمْ لَا سِيَّمَا زَبُورُ (مَزَامِيرِ) دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَقَوْلِهِ فِي الْمَزْمُورِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ: ( [٥] يَا رَبِّ فِي السَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ أَمَانَتُكَ إِلَى الْغَمَامِ [٦] عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ اللهِ وَأَحْكَامُكَ لُجَّةٌ عَظِيمَةٌ. النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ تُخْلِصُ يَا رَبِّ. [٧] مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اللهُ فَبَنُو الْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ [٨] يَرْوُونَ مِنْ دَسَمِ بَيْتَكَ وَمِنْ نَهْرِ نِعْمَتِكَ تَسْقِيهِمْ [٩] لِأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُورًا [١٠] أَدِمْ رَحْمَتَكَ لِلَّذِينَ يَعْرِفُونَكَ وَعَدْلَكَ لِلْمُسْتَقِيمِي الْقَلْبِ [١١] لَا تَأْتِينِي رِجْلُ الْكِبْرِيَاءِ وَيَدُ الْأَشْرَارِ لَا تُزَحْزِحُنِي [١٢] هُنَاكَ سَقَطَ فَاعِلُو الْإِثْمِ دُحِرُوا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْقِيَامَ. " وَقَوْلِهِ فِي الْمَزْمُورِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ: " [١] إِلَيْكَ يَا رَبِّ أَرْفَعُ نَفْسِي [٢] يَا إِلَهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ.
فَلَا تَدَعْنِي أُخْزَى. لَا تُشْمِتْ بِي أَعْدَائِي [٣] أَيْضًا كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لَا يُخْزُوا. لِيُخْزَ الْغَادِرُونَ بِلَا سَبَبٍ [٤] طُرُقَكَ يَا رَبِّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي [٥] دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لِأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهُ خَلَاصِي. إِيَّاكَ انْتَظَرْتُ الْيَوْمَ كُلَّهُ [٦] أَذْكُرُ مَرَاحِمَكَ يَا رَبِّ وَإِحْسَانَاتِكَ لِأَنَّهَا مُنْذُ الْأَزَلِ هِيَ [٧] لَا تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلَا مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ اذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبِّ ".
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَالْمُنَاجَاةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَإِذَا رَآهَا الْعَرَبِيُّ الْبَلِيغُ غَرِيبَةَ الْأُسْلُوبِ فَلْيَذْكُرْ أَنَّهَا تَرْجَمَةٌ ضَعِيفَةٌ وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا بِلُغَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ مِنْ قِرَاءَةِ تَرْجَمَتِهَا هَذِهِ.
أَمَّا السُّجُودُ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ فَهُوَ إِمَّا عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاتِهِمْ، وَإِمَّا اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ التَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ مَرْيَمَ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [٣: ٤٣].
ثُمَّ قَالَ: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أَيْ فَلَنْ يَضِيعَ ثَوَابُهُ كَمَا يُكْفَرُ
الشَّيْءُ أَيْ يُسْتَرُ حَتَّى كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ - تَعَالَى - إِثَابَتَهُ لِلْمُحْسِنِينَ شُكْرًا وَسَمَّى نَفْسَهُ شَكُورًا فَحَسُنَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ عَدَمِ الْإِثَابَةِ بِالْكُفْرِ الَّذِي يُقَابِلُ الشُّكْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ " كَفَرَ " عُدِّيَ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْحِرْمَانِ، فَالْمَعْنَى: لَنْ يُحْرَمُوا جَزَاءَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ، فَمَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا وَاتَّقَى مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ ثَمَرَاتِ إِيمَانِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، فَلَا عِبْرَةَ بِجِنْسِيَّاتِ الْأَدْيَانِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالتَّقْوَى مَعَ الْإِيمَانِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
قَالَ (الرَّازِيُّ) فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعِقَابِ، وَأُخْرَى أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوَابِ، جَامِعًا بَيْنَ الزَّجْرِ وَالتَّرْغِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمَّا وَصَفَ مَنْ آمَنَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِمَا تَقَدَّمَ
وَيَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْكُفَّارِ عَامَّةً لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ وَكَذَا مُشْرِكُو مَكَّةَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، قَالُوا: إِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَيُعَيِّرُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتْبَاعَهُ بِالْفَقْرِ وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْحَقِّ مَا تَرَكَهُ رَبُّهُ فِي هَذَا الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ إِذْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ قَلَّمَا يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ هِدَايَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ أَدَبٍ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [٩٦: ٦، ٧] وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا [٣: ١٠] الْآيَةَ.
وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ (تُغْنِيَ) بِتَدْفَعَ، أَيْ لَا تَدْفَعُ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْغَنَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَاخْتَارَ أَنَّ (شَيْئًا) هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ قَالَ: أَيْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَنَاءِ، أَوْ لَا تُغْنِي غَنَاءً مَا، قَالَ: وَذَكَرَ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ إِنَّمَا يَصُدُّهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ أَوِ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ الِاسْتِغْنَاءُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَعْظَمُهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ، فَالَّذِي يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا بِمِثْلِ ذَلِكَ قَلَّمَا يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ أَوْ يُصْغِي إِلَى الدَّاعِي إِلَيْهِ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يُوَجِّهْ نَظَرَهُ إِلَى الْحَقِّ لَا يُبْصِرُهُ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْهُ تَخَبَّطَ فِي دَيَاجِيرِ الضَّلَالِ عُمْرَهُ حَتَّى يَتَرَدَّى فَيَهْلِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ مَالُهُ فَيَفْتَدِي بِهِ أَوْ يَنْتَفِعُ بِمَا كَانَ أَنْفَقَهُ مِنْهُ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ أَرْوَاحِهِمُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْهَاوِيَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُسْتَعِرَةِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَهُمْ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فَتَنَتْهُمْ فَشَغَلَتْهُمْ عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَغْرَتْهُمْ بِمُقَاوَمَتِهِ فَقَالَ: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ قَالَ (الرَّاغِبُ) : مَثَلُ الشَّيْءِ - بِالتَّحْرِيكِ: مِثْلُهُ وَشِبْهُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، وَالْمَثَلُ فِي الْكَلَامِ: عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ فِي شَيْءٍ يُشْبِهُ قَوْلًا فِي
شَيْءٍ آخَرَ لِيُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ وَيُصَوِّرَهُ: أَيْ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّ بَيَانَ الْحَقَائِقِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ
لَا تَعْدِلَنَّ أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ | نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأَصْحَابِ الْمُحِلَّاتِ |
وَلَمْ تَغْلِبِ الْخَصْمَ الْأَلَدَّ وَتَمْلَأِ الْـ | جِفَانَ سَدِيفًا يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ |
أَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الرِّيحَ الْمُهْلِكَةَ مِثَالٌ لِلْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ
فِي لَذَّاتِهِمْ وَجَاهِهِمْ وَنَشْرِ سُمْعَتِهِمْ وَتَأْيِيدِ كَلِمَتِهِمْ فَيَصُدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ هِيَ مِثَالُ الْحَرْثِ، أَيْ إِنَّ الْمَالَ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ فِيمَا ذُكِرَ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَأَهْلَكَ عُقُولَهُمْ بِمَا صَرَفَهَا عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَلَفَتَهَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي جَعْلِ التَّشْبِيهِ فِي الْمَثَلِ مُرَكَّبًا وَهُوَ أَنَّ حَالَهُمْ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْخَيْرِ كَحَالِ الرِّيحِ ذَاتِ الصِّرِّ الْمُهْلِكَةِ لِلزَّرْعِ، فَهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ نَفَقَتِهِمْ شَيْئًا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ هَذَا فِيمَا يُنْفِقُونَهُ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُقَاوَمَةِ دَعْوَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُنْفِقُونَ هُمُ الْيَهُودُ أَوْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِيمَا يُنْفِقُ
أَمَّا وَصْفُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَهْلَكَتِ الرِّيحُ حَرْثَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ مُبَيِّنًا نُكْتَتَهُ مَا نَصُّهُ: " فَأُهْلِكُ عُقُوبَةً لَهُمْ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ عَنْ سُخْطٍ أَشَدُّ وَأَبْلَغُ " وَفِي هَامِشِهِ كَتَبَ بِإِمْلَائِهِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنْفِقِينَ لَا يَسْتَفِيدُونَ شَيْئًا مِنْهُ ; لِأَنَّ حَرْثَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِيهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا حَرْثُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَذْهَبُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ صُورَةً إِلَّا أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ أَغْرَاضٍ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ بِالصَّبْرِ عَلَى الذَّهَابِ " اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَوَائِحَ قَدْ تَنْزِلُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ حَرْثٍ وَنَسْلٍ عُقُوبَةً عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ تَعْلِيلِ الْكَشَّافِ آنِفًا، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهَا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ عَلَى الْبَارِئِ الْحَكِيمِ الَّذِي وَضَعَ سُنَنَ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ فِي عَالَمِ الْحِسِّ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُنَنِهِ الْخَفِيَّةِ فِي إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ فِي الْبَشَرِ لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي يَسْتَفِيدُونَهَا مِنَ النَّظَرِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ، وَيُسَمَّى مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُدُوثُ الشَّيْءِ سَبَبًا لَهُ وَمَا قَارَنَ
الْمُسَبِّبَ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَضُرِّ بَعْضِهِمْ بِهِ حِكْمَةً لَهُ، وَكُلٌّ مِنْ سَبَبِ الشَّيْءِ وَحِكْمَتِهِ أَوْ حُكْمِهِ مَقْصُودٌ لِلْخَالِقِ الْحَكِيمِ.
رَأَيْنَا فِي مَذْهَبِ (دَارْوِنَ) الْعَالِمِ الطَّبِيعِيِّ الشَّهِيرِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَلْوَانِ الثِّمَارِ كَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ وَالْبُرْقُوقِ هِيَ إِغْرَاءُ أَكَلَتِهَا مِنَ الطَّيْرِ وَالنَّاسِ بِهَا لِتَأْكُلَهَا فَيَسْقُطُ عَجَمُهَا عَلَى الْأَرْضِ لِيَنْبُتَ فِيهَا بِسُهُولَةٍ فَيَحْفَظَ نَوْعَهُ بِتَجَدُّدِ النَّسْلِ أَوْ مَا هَذَا حَاصِلُهُ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لِتِلْكَ الْأَلْوَانِ أَسْبَابًا طَبِيعِيَّةً تَتَعَلَّقُ بِاسْتِعْدَادِ نَبَاتِهَا وَتَأْثِيرِ النُّورِ فِيهِ. فَهَلَّا تُسْتَنْكَرُ عَلَى حِكْمَةِ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ فِي الثِّمَارِ وَبَيْنَ مَصْلَحَةِ الطَّيْرِ بِهِدَايَتِهِ إِلَيْهَا وَحِفْظِ النِّظَامِ الْعَامِّ بِبَقَاءِ أَنْوَاعِهَا أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ أَسْبَابِ إِرْسَالِ الْعَوَاصِفِ وَالْأَعَاصِيرِ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ مِنَ الْبَشَرِ لِيَكُونَ لَهُمْ زَاجِرَانِ عَنِ الذُّنُوبِ، أَحَدُهُمَا: حَذَرُ آثَارِهَا الطَّبِيعِيَّةِ الضَّارَّةِ بِهِمْ فَإِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ ضَرَرًا لِأَجْلِهِ كَانَ مُحَرَّمًا، إِذْ لَا يُحَرِّمُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: مَا سَأَلَنِي عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، وَهُوَ مَا مَعْنَى جَعْلِ الشُّهُبِ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لِمَعْرِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ لِلشُّهُبِ أَسْبَابًا طَبِيعِيَّةً؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْحَكِيمَ الْخَبِيرَ - الَّذِي يُوَفِّقُ أَقْدَارًا لِأَقْدَارٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّبَبِ وَمُسَبِّبِهِ وَبَيْنَ أُمُورٍ أُخْرَى تَسُوقُهَا أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ بِهَا لِحِكْمَةٍ وَرَاءَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ - هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْوَحْيُ وَنَطَقَ بِهَا الذِّكْرُ، وَمِثْلُهَا فِي عَالِمِ الطَّبِيعَةِ كَثِيرٌ، وَلَعَلَّ لِبَعْضِ الْمَادِّيَّاتِ تَأْثِيرًا فِي الْأَرْوَاحِ الْغَيْبِيَّةِ كَتَأْثِيرِهَا فِي أَرْوَاحِنَا وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [١٧: ٨٥] أَكْتَفِي هُنَا بِهَذَا التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَمْ أَرَ فِي كِتَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ لِسَانِ أَحَدٍ قَوْلًا فِيهَا وَإِنَّ لَهَا لِمَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [٤٢: ٣٠] وَسَنَعْقِدُ لَهَا فَصْلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهُنَالِكَ نُجِيبُ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ يَعْنِي أُولَئِكَ الَّذِينَ أَهْلَكَتِ الرِّيحُ ذَاتُ الصِّرِّ حَرْثَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ هَلَاكُ زَرْعِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ لَا إِيذَاءً آنِفًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ تَأْكِيدًا ذَاهِبًا بِكُلِّ شُبْهَةٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ لِلْمُنْفِقِينَ الَّذِينَ ضُرِبَ الْمَثَلُ لِبَيَانِ حَالِهِمْ، فَهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالذَّاتِ. وَالْمَعْنَى مَا ظَلَمَهُمُ اللهُ بِأَنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ بِنَفَقَاتِهِمْ بَلْ هُمْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا بِإِنْفَاقِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ.
أَمَّا كَوْنُهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ دُونَ غَيْرِهَا أَوْ دُونَ أَنْ يَظْلِمَهُمْ أَحَدٌ - كَمَا تَقَدَّمَ أَخْذًا مِنْ تَقْدِيمِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى عَامِلِهِ - فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا كَانَ يُنْفِقُهُ أَهْلُ مَكَّةَ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوِ الْيَهُودُ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُقَاوَمَتِهِ، إِذْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَضُرُّوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ بِهِ، بَلْ كَانُوا سَبَبَ سِيَادَتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ، وَظَاهِرٌ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ النَّفَقَاتِ مَا كَانَ يَضَعُهُ الْمُنَافِقُونَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبِرِّ رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْ تَقِيَّةً، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِقُ فِي طُرُقِ الْبِرِّ حُبًّا فِي الْبِرِّ وَرَغْبَةً فِي الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُرَائِي - لَا تُفِيدُهُ نَفَقَتُهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْإِيمَانُ، وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِتَرْكِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا ظَهَرَتْ لَهُ، أَوْ بِالْجُحُودِ بَعْدَ النَّظَرِ وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ نَفَقَتَهُ لَا تُفِيدُهُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهَا لَا تَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَلَا يُوجَدُ
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ كَانَتْ فِي الْحِجَاجِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّبَعِ وَالْمُنَاسِبَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَإِرْشَادِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ، أَيْ إِنَّ أَكْثَرَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ:
(١) أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ صِلَاتٌ كَانَتْ مَدْعَاةً إِلَى الثِّقَةِ بِهِمْ وَالْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِالسِّرِّ وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ، مِنْهَا الْمُحَالَفَةُ وَالْعَهْدُ، وَمِنْهَا النَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ، وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ.
(٢) إِنَّ الْغِرَّةَ مِنْ طَبْعِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَبْنِي أَمْرَهُ عَلَى الْيُسْرِ وَالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَلَا يَبْحَثُ عَنِ الْعُيُوبِ ; وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا مَا لَا يَظْهَرُ لَهُ هُوَ وَإِنْ كَانَ ذَكِيًّا.
(٣) إِنَّ الْمُنَاصِبِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ هَمُّهُمُ الْأَكْبَرُ إِطْفَاءَ نُورِ الدَّعْوَةِ وَإِبْطَالَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْأَكْبَرِ نَشْرَ الدَّعْوَةِ وَتَأْيِيدَ الْحَقِّ، فَكَانَ الْهَمَّانِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَالْقَصْدَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ حَالَةُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ.
بِطَانَةُ الرَّجُلِ: وَلِيجَتُهُ وَخَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَتَوَلَّوْنَ سِرَّهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْبَاطِنُ مِنْهُ، كَمَا يُسَمَّى الْوَجْهُ الظَّاهِرُ: ظِهَارَةً، وَمِنْ دُونِكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَيَأْلُونَكُمْ مِنَ الْإِلْوِ: وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالضَّعْفُ، وَ " الْخَبَالُ " فِي الْأَصْلِ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْمُخِّ فَيَخْتَلُّ إِدْرَاكُ الْمُصَابِ بِهَا، أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يَنُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِكُمْ، وَالْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ " أَلَا " أَنْ يُقَالَ فِيهِ نَحْوُ: " لَا آلُو فِي نُصْحِكَ " وَسُمِعَ مِثْلُ " لَا آلُوكَ نُصْحًا " عَلَى مَعْنَى لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ التَّضْمِينَ. وَعَنِتُّمْ مِنَ الْعَنَتِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْبَغْضَاءُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ.
أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ: فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ - يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ - هَذِهِ الْآيَةَ ". وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا: أَنَّهَا فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ عَامَّةً. قَالَ: " وَأَمَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ فَهَذَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذَا كَانَ عَامًّا وَآخِرَهَا إِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يَكُنْ خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ مَانِعًا عُمُومَ أَوَّلِهَا " وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنَ الْكَافِرِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَأْلُونَكُمْ إِلَخْ نُعُوتٌ لِلْبِطَانَةِ هِيَ قُيُودٌ لِلنَّهْيِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِلتَّعْلِيلِ، فَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِمَنْ كَانُوا فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا وَإِفْسَادًا لِأَمْرِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أَيْ تَمَنَّوْا عَنَتَكُمْ، أَيْ وُقُوعَكُمْ فِي الضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أَيْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ بَغْضَائِهِمْ لَكُمْ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَهِيَ لِشِدَّتِهَا مِمَّا يَعُوزُهُمْ كِتْمَانُهَا وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ إِخْفَاؤُهَا، عَلَى أَنَّ
مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا مَنْ نُهِيَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ بِطَانَةً لَوْ فُرِضَ أَنِ اتَّصَفَ بِهَا مَنْ هُوَ مُوَافِقُ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالْجِنْسِ وَالنَّسَبِ لَمَا جَازَ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ بِطَانَةً لَكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، فَمَا أَعْدَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ وَمَا أَعْلَى هَدْيَهُ وَأَسْمَى إِرْشَادَهُ! لَقَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتُ وَالْقُيُودُ فَظَنُّوا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ مُطْلَقًا، وَلَوْ جَاءَ هَذَا النَّهْيُ مُطْلَقًا لَمَا كَانَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا إِلْبًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ إِذْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِتِلْكَ الْقُيُودِ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - وَهُوَ مُنَزِّلُهَا - يَعْلَمُ مَا يَعْتَرِي الْأُمَمَ وَأَهْلَ الْمِلَلِ مِنَ التَّغَيُّرِ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ كَمَا وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ قَدِ انْقَلَبُوا فَصَارُوا عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ فُتُوحَاتِهِمْ (كَفَتْحِ الْأَنْدَلُسِ) وَكَذَلِكَ كَانَ الْقِبْطُ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ فِي مِصْرَ فَكَيْفَ يَجْعَلُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْحُكْمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَاحِدًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَبَدَ الْأَبِيدِ؟ أَلَا إِنَّ هَذَا مِمَّا تَنْبِذُهُ الدِّرَايَةُ. وَلَا تَرْوِي غُلَّتَهُ الرِّوَايَةُ، فَإِنَّ أَرْجَحَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ.
قَالَ (ابْنُ جَرِيرٍ) يَرُدُّ عَلَى (قَتَادَةَ) الْقَائِلِ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَيُؤَيِّدُ رَأْيَهُ الْمُوَافِقَ لِمَا اخْتَرْنَاهُ مَا نَصُّهُ: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - إِنَّمَا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِمَّنْ قَدْ عَرَفُوهُ
بِالْغِشِّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْبَغْضَاءِ إِمَّا بِأَدِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِظْهَارِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ وَالْمُنَاصَبَةِ لَهُمْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَسُّوهُ - مَعْرِفَةً أَنَّهُ الَّذِي نَهَاهُمُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُبَاطَنَتِهِ - وَإِمَّا جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ مُخَالَّتِهِ وَمُصَادَقَتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهُمْ إِمَّا بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، وَإِمَّا بِصِفَاتٍ قَدْ عَرَّفُوهُمْ بِهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ إِبْدَاءُ الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ بَغْضَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى إِخْوَانِهِمُ الْكُفَّارِ - أَيْ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ - غَيْرَ مُدْرِكٍ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مَعْرِفَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا وَصَفَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، فَعَرَفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِالصِّفَةِ الَّتِي نَعَتَهُمُ اللهُ بِهَا. وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ - اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ - بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
وَعَمَلِهِمْ عَلَى شُئُونِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَصَوْنِ حُقُوقِهَا وَمُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهَا؟
مَا أَشْبَهَ هَذَا النَّهْيَ فِي قُيُودِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَفَّارِ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ، إِذْ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٦٠: ٨، ٩] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [٣: ٢٨].
هَذَا التَّسَاهُلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى جَعْلِ رِجَالِ دَوَاوِينِهِ مِنَ الرُّومِ، وَجَرَى الْخَلِيفَتَانِ الْآخَرَانِ وَمُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَقَلَ الدَّوَاوِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مِنَ الرُّومِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَبِهَذِهِ السِّيرَةِ وَذَلِكَ الْإِرْشَادِ عَمِلَ الْعَبَّاسِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوْطِ أَعْمَالِ الدَّوْلَةِ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَكْثَرَ سُفَرَائِهَا وَوُكَلَائِهَا فِي بِلَادِ الْأَجَانِبِ مِنَ النَّصَارَى. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ يَقُولُ مُتَعَصِّبُو أُورُبَّا: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا تَسَاهُلَ فِيهِ! ! " رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ " أَلَا إِنَّ التَّسَاهُلَ قَدْ خَرَجَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ حَدِّهِ، حَتَّى كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَقَالَهُ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
" قَالُوا: تُصَانُ الْبِلَادُ وَيُحْرَسُ الْمُلْكُ بِالْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ وَالْقِلَاعِ الْمَنِيعَةِ وَالْجُيُوشِ الْعَامِلَةِ وَالْأُهَبِ الْوَافِرَةِ وَالْأَسْلِحَةِ الْجَيِّدَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ، هِيَ أَحْرَازٌ وَآلَاتٌ لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْعَمَلِ فِيمَا يَقِي الْبِلَادَ، وَلَكِنَّهَا لَا تَعْمَلُ بِنَفْسِهَا وَلَا تَحْرُسُ بِذَاتِهَا فَلَا صِيَانَةَ بِهَا وَلَا حِرَاسَةَ إِلَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ أَعْمَالَهَا رِجَالٌ ذَوُو خِبْرَةٍ وَأُولُو رَأْيٍ وَحِكْمَةٍ يَتَعَهَّدُونَهَا بِالْإِصْلَاحِ زَمَنَ السِّلْمِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا قُصِدَتْ لَهُ زَمَنَ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ بِكَافٍ حَتَّى يَكُونَ رِجَالٌ
مِنْ ذَوِي التَّدْبِيرِ وَالْحَزْمِ وَأَصْحَابِ الْحِذْقِ وَالدِّرَايَةِ يَقُومُونَ عَلَى سَائِرِ شُئُونِ الْمَمْلَكَةِ، يُوَطِّئُونَ طُرُقَ الْأَمْنِ وَيَبْسُطُونَ بِسَاطَ الرَّاحَةِ وَيَرْفَعُونَ بِنَاءَ الْمُلْكِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَيُوقِفُونَ الرَّعِيَّةَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ يُرَاقِبُونَ رَوَابِطَ الْمَمْلَكَةِ مَعَ سَائِرِ الْمَمَالِكِ الْأَجْنَبِيَّةِ لِيَحْفَظُوا لَهَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي تَلِيقُ بِهَا بَيْنَهَا، بَلْ يَحْمِلُوهَا عَلَى أَجْنِحَةِ السِّيَاسَةِ الْقَوِيمَةِ إِلَى أَسْمَى مَكَانَةٍ تُمْكِنُ لَهَا، وَلَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لِلْقِيَامِ عَلَى هَذِهِ الشُّئُونِ الرَّفِيعَةِ حَتَّى تَكُونَ قُلُوبُهُمْ فَائِضَةً بِمَحَبَّةِ الْبِلَادِ طَافِحَةً بِالْمَرْحَمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى سُكَّانِهَا، وَحَتَّى تَكُونَ الْحَمِيَّةُ ضَارِبَةً فِي نُفُوسِهِمْ آخِذَةً بِطِبَاعِهِمْ، يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَبِّهًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَزَاجِرًا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَغَضَاضَةً وَأَلَمًا مُوجِعًا عِنْدَمَا يَمَسُّ مَصْلَحَةَ الْمَمْلَكَةِ ضَرَرٌ وَيُوجَسُ عَلَيْهَا مِنْ خَطَرٍ ; لِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِحْسَاسِ وَتِلْكَ الصِّفَاتِ أَنْ يُؤَدُّوا أَعْمَالَ وَظَائِفِهِمْ - كَمَا يَنْبَغِي - وَيَصُونُوهَا مِنَ الْخَلَلِ رُبَّمَا يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ كَبِيرٍ فِي الْمُلْكِ. فَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ بِهَذِهِ الْخِلَالِ هُمُ الْمَنَعَةُ الْوَاقِيَةُ وَالْقُوَّةُ الْغَالِبَةُ.
" يَسْهُلُ عَلَى أَيِّ حَاكِمٍ فِي أَيِّ قَبِيلٍ لِأَنْ يُكَتِّبَ الْكَتَائِبَ وَيَجْمَعَ الْجُنُودَ وَيُوَفِّرُ الْعُدَدَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِنَقْدِ النُّقُودِ وَبَذْلِ النَّفَقَاتِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يُصِيبُ بِطَانَةً مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ: عُقَلَاءَ رُحَمَاءَ أُبَاةً أَصْفِيَاءَ تُهِمُّهُمْ حَاجَاتُ الْمُلْكِ كَمَا تُهِمُّهُمْ ضَرُورَاتُ حَيَاتِهِمْ؟ لَا بُدَّ أَنْ يُتَّبَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ قَانُونُ الْفِطْرَةِ، وَيُرَاعَى نَامُوسُ الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ هَذَا النَّامُوسِ تَحْفَظُ الْفِكْرَ مِنَ الْخَطَأِ وَتَكْشِفُ لَهُ خَفِيَّاتِ الدَّقَائِقِ، وَقَلَّمَا يُخْطِئُ فِي رَأْيِهِ أَوْ يَتَأَوَّدُ فِي عَمَلِهِ مَنْ أَخَذَ بِهِ دَلِيلًا وَجَعَلَ لَهُ مِنْ هَدْيِهِ مُرْشِدًا. وَإِذَا نَظَرَ الْعَاقِلُ فِي أَنْوَاعِ الْخَطَأِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ كُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ وَطَلَبَ أَسْبَابَهَا لَا يَجِدُ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ سِوَى الْمَيْلِ عَنْ قَانُونِ الْفِطْرَةِ وَالِانْحِرَافِ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
مِنْ أَحْكَامِ هَذَا النَّامُوسِ الثَّابِتِ أَنَّ الشَّفَقَةَ وَالْمَرْحَمَةَ وَالنَّعْرَةَ عَلَى الْمُلْكِ وَالرَّعِيَّةِ، إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ أَصْلٌ رَاسِخٌ وَوَشِيجٌ يَشُدُّ صِلَتَهُ بِهَا. هَذِهِ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، إِنَّ الْمُلْتَحِمَ مَعَ الْأُمَّةِ بِعَلَاقَةِ الْجِنْسِ يُرَاعِي نِسْبَتَهُ إِلَيْهَا وَنِسْبَتَهَا إِلَيْهِ، وَيَرَاهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ سَائِرِ نِسْبَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ فَيُدَافِعُ الضَّيْمَ عَنِ الدَّاخِلِينَ مَعَهُ فِي تِلْكَ النِّسْبَةِ دِفَاعَهُ عَنْ
الْمِصْرِيِّينَ أَوْ مِصْرِيٍّ يَنْتَقِدُ السُّورِيِّينَ " هَذَا إِلَى مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَنَّ مَا تَنَالُهُ أُمَّةٌ مِنَ الْفَوَائِدِ يَلْحَقُهُ حَظٌّ مِنْهَا وَمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْأَرْزَاءِ يُصِيبُهُ سَهْمٌ مِنْهُ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ بِيَدِهِ هَامَاتُ أُمُورِهَا وَفِي قَبْضَتِهِ زِمَامُ التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَإِنَّ حَظَّهُ " حِينَئِذٍ " مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْفَرُ وَمُصِيبَتَهُ بِالْمَضَرَّةِ أَعْظَمُ وَسَهْمَهُ مِنَ الْعَارِ الَّذِي يَلْحَقُ الْأُمَّةَ أَكْبَرُ، فَيَكُونُ اهْتِمَامُهُ بِشُئُونِ الْأُمَّةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا وَحِرْصُهُ عَلَى سَلَامَتِهَا بِمِقْدَارِ مَا يُؤَمِّلُهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ يَخْشَاهُ مِنَ الْمَضَرَّةِ.
" فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي مَمْلَكَةٍ أَلَّا يَكِلَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ يَتَّصِلُ بِهِ فِي جِنْسِيَّةٍ سَالِمَةٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالتَّمْزِيقِ مُوَقَّرَةٍ فِي نُفُوسِ الْمُنْتَظِمِينَ فِيهَا مُحْتَرَمَةٍ فِي قُلُوبِهِمْ يَحْمِلُهُمْ تَوْقِيرُهَا وَاحْتِرَامُهَا عَلَى التَّغَالِي فِي وِقَايَتِهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ يَدْنُو مِنْهَا، وَلَمْ تُوهِنْ رَوَابِطهَا اخْتِلَافَاتُ الْمَشَارِبِ وَالْأَدْيَانِ، وَإِمَّا رَجُلٌ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي دِينٍ قَامَتْ جَامِعَتُهُ مَقَامَ الْجِنْسِيَّةِ، بَلْ فَاقَتْ مَنْزِلَتُهُ مِنَ الْقُلُوبِ مَنْزِلَتَهَا كَالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الَّذِي حَلَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شُعُوبُهُمْ - مَحَلَّ كُلِّ رَابِطَةٍ نَسَبِيَّةٍ ; فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَامِعَتَيْنِ " الْجِنْسِيَّةِ عَلَى النَّحْوِ السَّابِقِ وَالدِّينِيَّةِ " مَبْدَآنِ لِلْحَمِيَّةِ عَلَى الْمُلْكِ وَمَنْشَآنِ لِلْغَيْرَةِ عَلَيْهِ.
" أَمَّا الْأَجَانِبُ الَّذِينَ لَا يَتَّصِلُونَ بِصَاحِبِ الْمُلْكِ فِي جِنْسٍ وَلَا فِي دِينٍ تَقُومُ رَابِطَتُهُ مَقَامَ الْجِنْسِ فَمَثَلُهُمْ فِي الْمَمْلَكَةِ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ فِي بِنَاءِ بَيْتٍ لَا يَهُمُّهُ إِلَّا اسْتِيفَاءُ أُجْرَتِهِ، ثُمَّ لَا يُبَالِي أَسَلِمَ الْبَيْتُ أَوْ جَرَفَهُ السَّيْلُ أَوْ دَكَّتْهُ الزَّلَازِلُ، هَذَا إِذَا صَدَقُوا فِي أَعْمَالِهِمْ يُؤَدُّونَ مِنْهَا بِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْأَجْرِ، وَاقِفِينَ فِيهَا عِنْدَ الرَّسْمِ الظَّاهِرِ ; فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ خَادِمٌ فِيهَا وَلَا يَمَسُّهُ شَيْءٌ مِمَّا يَمَسُّهَا مِنَ الضَّعَةِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، إِذَا فَقَدَ الْعَيْشَ فِيهَا فَارَقَهَا وَارْتَدَّ إِلَى مَنْبَتِهِ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ فِي حَالِ عَمَلِهِ وَخِدْمَتِهِ لِغَيْرِ جِنْسِهِ لَاصِقٌ بِمَنْبَتِهِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِ مَاعَدَا الْأَجْرَ الَّذِي يَأْخُذُهُ - وَهَذَا مَعْلُومٌ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ - فَلَا يَجِدُ فِي طَبِيعَتِهِ وَلَا فِي خَوَاطِرِ قَلْبِهِ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى الْحَذَرِ الشَّدِيدِ مِمَّا يُفْسِدُ الْمُلْكَ أَوِ الْحِرْصَ الزَّائِدَ عَلَى مَا يُعْلِي شَأْنَهُ، بَلْ لَا يَجِدُ بَاعِثًا عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا يُقَوِّمُ مَصْلَحَتَهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ. هَذِهِ حَالُهُمْ هِيَ لَهُمْ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ لَوْ فَرَضْنَا صِدْقَهُمْ وَبَرَاءَتَهُمْ مِنْ أَغْرَاضٍ أُخَرَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْأَجَانِبِ لَوْ كَانُوا نَازِحِينَ مِنْ بِلَادِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَضَرَبُوا فِي أَرْضِ
غَيْرِهِمْ طَلَبًا لِلْعَيْشِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِهِ صَدَقُوا أَوْ كَذَبُوا، وَسَوَاءٌ وَفَوْا أَوْ قَصَّرُوا، وَسَوَاءٌ رَاعَوُا الذِّمَّةَ أَوْ خَانُوا، أَوْ لَوْ كَانُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ يَخْدِمُونَ مَقَاصِدَ لِأُمَمِهِمْ يُمَهِّدُونَ لَهَا طُرُقَ الْوِلَايَةِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى الْأَقْطَارِ الَّتِي يَتَوَلَّوْنَ الْوَظَائِفَ فِيهَا - كَمَا هُوَ حَالُ الْأَجَانِبِ فِي الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَامِلًا عَلَى الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَلَكِنْ
" نَعَمْ كَمَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ فِي بَعْضِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا الطَّبِيعِيَّةِ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ كَذَلِكَ يَحْصُلُ الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ فِي حَمِيَّةِ أَبْنَاءِ الدِّينِ أَوِ الْأُمَّةِ، وَيَطْرَأُ النَّقْصُ عَلَى شَفَقَتِهِمْ وَمَرْحَمَتِهِمْ فَيَنْقُصُ بِذَلِكَ اهْتِمَامُ الْعُظَمَاءِ مِنْهُمْ بِمَصَالِحِ الْمُلْكِ إِذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يُقَدِّرُ أَعْمَالَهُمْ حَقَّ قَدْرِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَدِّمُونَ مَنَافِعَهُمُ الْخَاصَّةَ عَلَى فَرَائِضِهِمُ الْعَامَّةِ فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي نِظَامِ الْأُمَّةِ وَيَضْرِبُ فِيهَا الْفَسَادُ، وَلَكِنْ مَا يَكُونُ مِنْ ضُرِّهِ أَخَفُّ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّلَافِي مِنَ الضَّرَرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُهُ اسْتِلَامَ الْأَجَانِبِ لِهَامَاتِ الْأُمُورِ فِي الْبِلَادِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ اللُّحْمَةِ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ مَرِضَتْ أَخْلَاقُهُ وَاعْتَلَّتْ صِفَاتُهُ إِلَّا أَنَّ مَا أَوْدَعَتْهُ الْفِطْرَةُ وَثَبَتَ فِي الْجِبِلَّةِ لَا يُمْكِنُ مَحْوُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا أَسَاءَ فِي عَمَلِهِ مَرَّةً أَزْعَجَهُ مِنْ نَفْسِهِ صَائِحُ الْوَشِيجَةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِحْسَانِ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّ مَا شُدَّ بِالْقَلْبِ مِنْ عَلَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْجِنْسِ لَا يَزَالُ يَجْذِبُهُ آوِنَةً بَعْدَ آوِنَةٍ لِمُرَاعَاتِهَا وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَيُمِيلُهُ إِلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِتِلْكَ الْعَلَائِقِ وَإِنْ بَعُدُوا.
وَلِهَذَا يَحِقُّ لَنَا أَنْ نَأْسَفَ غَايَةَ الْأَسَفِ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّرْقِ وَأَخُصُّ مِنْ بَيْنِهِمْ
أُمَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ سَلَّمُوا أُمُورَهُمْ وَوَكَّلُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ كِتَابَةٍ وَإِدَارَةٍ وَحِمَايَةٍ لِلْأَجَانِبِ عَنْهُمْ، بَلْ زَادُوا فِي مُوَالَاةِ الْغُرَبَاءِ وَالثِّقَةِ بِهِمْ حَتَّى وَلُّوهُمْ خِدْمَتَهُمُ الْخَاصَّةَ بِهِمْ فِي بُطُونِ بُيُوتِهِمْ، بَلْ كَادُوا يَتَنَازَلُونَ لَهُمْ عَنْ مَلِكَتِهِمْ فِي مَمَالِكِهِمْ بَعْدَمَا رَأَوْا كَثْرَةَ الْمَطَامِعِ فِيهَا لِهَذَا الزَّمَانِ، وَأَحَسُّوا بِالضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ أَجْيَالٍ بَعِيدَةٍ بَعْدَ مَا عَلَّمَتْهُمُ التَّجَارِبُ أَنَّهُمْ إِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا، وَإِذَا عَزَّزُوا أَهَانُوا. يُقَابِلُونَ الْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ وَالتَّوْقِيرَ بِالتَّحْقِيرِ، وَالنِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، وَيُجَازُونَ عَلَى اللُّقْمَةِ بِاللَّطْمَةِ، وَالرُّكُونَ إِلَيْهِمْ بِالْجَفْوَةِ، وَالصِّلَةَ بِالْقَطِيعَةِ، وَالثِّقَةَ فِيهِمْ بِالْخُدْعَةِ.
" أَمَا آنَ لِأُمَرَاءِ الشَّرْقِ أَنْ يَدِينُوا لِأَحْكَامِ اللهِ الَّتِي لَا تُنْقَضُ؟ أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى حِسِّهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ؟ أَلَمْ يَأْتِ وَقْتٌ يَعْمَلُونَ فِيهِ بِمَا أَرْشَدَتْهُمُ الْحَوَادِثُ وَدَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا
هَذَا بَيَانٌ يُرِيكَ بِالْحُجَجِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاهِضَةِ أَنَّ الْغَرِيبَ عَنِ الْمِلَّةِ لَا يُتَّخَذُ بِطَانَةً لِلْقَائِمِينَ بِأَمْرِ الْمِلَّةِ، وَالْغَرِيبُ عَنِ الدَّوْلَةِ لَا يُتَّخَذُ بِطَانَةً لِرِجَالِ الدَّوْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُتَّصِفِينَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْعُدْوَانِ وَالْبَغْضَاءِ فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ؟
بَيَّنَتْ لَنَا الْآيَةُ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا بَعْضَ حَالِ أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدُونَكَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ.
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ فَالْقُرْآنُ يَنْطِقُ بِأَفْصَحِ عِبَارَةٍ وَأَصْرَحِهَا وَاصِفًا الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَثَرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَهُمُ
الَّذِينَ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِهِمْ وَتَمَنِّي عَنَتِهِمْ عَلَى أَنَّ بَغْضَاءَهُمْ لَهُمْ ظَاهِرَةٌ وَمَا خَفِيَ مِنْهَا أَكْبَرُ مِمَّا ظَهَرَ، أُولَئِكَ الْمُبْغِضُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ أَوْ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ [٥: ٨٢] إِلَخْ. يَعْنِي أُولَئِكَ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ فِي الْحِجَازِ.
أَلَيْسَ حُبُّ الْمُؤْمِنِينَ لِأُولَئِكَ الْيَهُودِ الْغَادِرِينَ الْكَائِدِينَ وَإِقْرَارُ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْإِسْلَامِ فِي نُفُوسِهِمْ، هُوَ أَقْوَى الْبَرَاهِينِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ حُبٍّ وَرَحْمَةٍ وَتَسَاهُلٍ وَتَسَامُحٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَوِّبَ الْعَقْلُ نَظَرَهُ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ؟ بَلَى، وَلَكِنْ وُجِدَ فِي النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَيَصِفُهُ بِضِدِّهِ زُورًا وَبُهْتَانًا، بَلْ تَعَصُّبًا خَرُّوا عَلَيْهِ صُمًّا وَعُمْيَانًا.
مَنْ هُمُ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ دِينُ بُغْضٍ وَعُدْوَانٍ؟ لَا أَقُولُ إِنَّهُمُ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا أَجْدَرَ بِحُبِّنَا وَوُدِّنَا مِنَ الْيَهُودِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى بَلْ هُمْ قُسُوسُ أُورُوبَّا الْمُتَعَصِّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَسَاسَتُهَا الْمُتَعَصِّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرْعٌ وَنِظَامٌ قَامَتْ بِهِ دُوَلٌ وَمَمَالِكُ. فَأُورُوبَّا الَّتِي تَتَّهِمُ الْإِسْلَامَ - وَالشَّرْقَ الْأَدْنَى كُلَّهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ -
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ سَوَاءٌ مِنْهُ مَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ وَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ فِي نُفُوسِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَا مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى بُغْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَنْتُمْ تُحِبُّونَهُمْ بِمُقْتَضَى إِيمَانِكُمْ هَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ تُؤْمِنُونَ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ مَعَ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ وَكِتَابِكُمْ
فَكَيْفَ لَوْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ؟ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِبُغْضِهِمْ، أَيْ وَمَعَ ذَلِكَ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ.
قَالَ (ابْنُ جَرِيرٍ) :" فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَانَةٌ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَرَحْمَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرَأْفَتُهُمْ بِأَهْلِ الْخِلَافِ لَهُمْ، وَقَسَاوَةُ قُلُوبِ أُولَئِكَ وَغِلْظَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلَهُ: هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ فَوَاللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُحِبُّ الْمُنَافِقَ وَيَأْوِي إِلَيْهِ وَيَرْحَمُهُ وَلَوْ أَنَّ الْمُنَافِقَ يَقْدِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِ مِنَ الْمُنَافِقِ لَلْمُؤْمِنُ يَرْحَمُهُ، وَلَوْ يَقْدِرُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى مِثْلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ مِنْهُ لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُ ". اهـ.
فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ خَيْرٌ لِلْكَافِرِ وَلِلْمُنَافِقِ مِنْهُمَا لَهُ حُبًّا وَرَحْمَةً وَمُعَامَلَةً. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي السُّنِّيِّ مَعَ الْمُبْتَدِعِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، قَالُوا: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْحَمُوا الْمُخَالِفَ لَهُمْ وَلَا يَقْطَعُوا أُخُوَّتَهُ فِي الدِّينِ ; وَلِذَلِكَ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ " لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ " بَلْ كَانَ رُوَاةُ الْحَدِيثِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ يَرْوُونَ عَنِ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ إِلَى عَدَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ. وَنَتِيجَةُ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي التَّسَاهُلِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِإِخْوَانِهِ الْبَشَرِ عَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِهِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَقُرْبِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَاللهُ يَقُولُ لِخِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ فَبِهَذَا نَحْتَجُّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ دِينَنَا يُغْرِينَا بِبَغْضِ الْمُخَالِفِ لَنَا كَمَا نَحْتَجُّ
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لِشَأْنِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى قَاعِدَةِ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ
وَكَوْنِهَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ نِفَاقًا وَخِدَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُظْهِرُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَنْهُ لِيُشَكِّكَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ " ٧٢ " مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أَظْهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ إِلَى التَّشَفِّي سَبِيلًا، وَعَضُّ الْأَنَامِلِ: كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَيُكَنَّى بِهِ أَيْضًا عَنِ النَّدَمِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ غَيْظِكُمْ لَا يَزْدَادُ بِاعْتِصَامِ أَهْلِهِ بِهِ إِلَّا عِزَّةً وَقُوَّةً وَانْتِشَارًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " مُوتُوا بِغَيْظِكُمُ الَّذِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَائْتِلَافِ جَمَاعَتِهِمْ " فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بِهَذَا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّهُ مَا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْأَرْزَاءِ إِلَّا بِزَوَالِ هَذَا الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ وَبِالتَّفَرُّقِ بَعْدَ الِاعْتِصَامِ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَضُمُّ صُدُورُكُمْ مِنْ شُعُورِ الْغَيْظِ وَالْبَغْضَاءِ وَمَوْجِدَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَقُولُونَ فِي خَلَوَاتِكُمْ وَمَا يُبْدِيهِ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَعْلَمُ كَذَلِكَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُنَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا حَسَدَهُمْ وَسُوءَ طَوِيَّتِهِمْ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا الْمَسُّ فِي الْأَصْلِ: كَاللَّمْسِ، وَالْمُرَادُ بِـ تَمْسَسْكُمْ هُنَا تُصِبْكُمْ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ لَفْظِ الْمَسِّ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ وَالْإِصَابَةِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَسُوءُهُمْ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْرٍ وَإِنْ قَلَّ، بِأَنْ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُمَسُّ بِالْيَدِ وَإِنَّمَا يَفْرَحُونَ بِالسَّيِّئَةِ إِذَا أَصَابَتِ الْمُسْلِمِينَ إِصَابَةً يَشُقُّ احْتِمَالُهَا. هَذَا مَا كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي وَلَكِنْ رَأَيْتُ صَاحِبَ الْكَشَّافِ يَجْعَلُهُمَا هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيَسْتَدِلُّ بِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِكُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ، ثُمَّ خَطَرَ لِي أَنْ أُرَاجِعَ تَفْسِيرَ (أَبِي السُّعُودِ) فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: " وَذِكْرُ الْمَسِّ مَعَ الْحَسَنَةِ وَالْإِصَابَةِ مَعَ السَّيِّئَةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ مَدَارَ مَسَاءَتِهِمْ أَدْنَى مَرَاتِبِ إِصَابَةِ الْحَسَنَةِ وَمَنَاطَ فَرَحِهِمْ تَمَامُ إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَأْسَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ " وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ
الْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا، وَالْحَسَنَةُ: الْمَنْفَعَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً
ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا إِنْ تَمَسَّكُوا بِهِ سَلِمُوا مِنْ كَيْدِهِمُ الَّذِي يَدْفَعُهُمْ إِلَيْهِ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ فَقَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَتَتَّقُوا اتِّخَاذَهُمْ بِطَانَةً وَمُوَالَاتَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ لَكُمْ هُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْكُمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ عَامَّةً وَتَتَّقُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ وَخَطَرٌ عَلَيْكُمْ - وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ - لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. وَيَضُرُّكُمْ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الضَّرَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " يَضِرْكُمْ " بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ، وَالضَّيْرُ بِمَعْنَى الْمَضَرَّةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الصَّبْرَ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَقَامِ مَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَحَبْسُ الْإِنْسَانِ سِرَّهُ عَنْ وَدِيدِهِ وَعَشِيرِهِ وَمُعَامِلِهِ وَقَرِيبِهِ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ لَذَّاتِ النُّفُوسِ أَنْ تُفْضِيَ بِمَا فِي الضَّمِيرِ إِلَى مَنْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَتَأْنَسُ بِهِ، فَلَمَّا نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنْ خُلَطَائِهِمْ وَعُشَرَائِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَلَّلَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ بَغْضَائِهِمْ وَكَيْدِهِمْ حَسُنَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِالصَّبْرِ عَلَى هَذَا لِتَكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِمْ، وَبِاتِّقَاءِ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ عَاقِبَةِ كَيْدِهِمْ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالتَّقْوَى: الْأَخْذُ بِوَصَايَاهُ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ - تَعَالَى - فِي الْبِطَانَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى عَدَاوَةِ أُولَئِكَ الْمُبْغِضِينَ الْكَائِدِينَ وَبِاتِّقَاءِ شَرِّهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمُقَابَلَةِ كَيْدِهِمْ وَشَرِّهِمْ بِمِثْلِهِ، وَهَكَذَا
شَأْنُ الْقُرْآنِ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَحَبَّةِ وَالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَدَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِنْ أَمْكَنَ كَمَا قَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [٤١: ٣٤] فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْوِيلُ الْعَدُوِّ إِلَى مُحِبٍّ بِدَفْعِ سَيِّئَاتِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا فَإِنَّهُ يُجِيزُ دَفْعَ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعَامَلَةِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; فَإِنَّهُ حَالَفَهُمْ وَوَادَّهُمْ فَنَكَثُوهُمْ وَخَانُوا غَيْرَ مَرَّةٍ: أَعَانُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ نَسُوا الْعَهْدَ، ثُمَّ أَعَانُوا الْأَحْزَابَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا لِإِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: الْمُحِيطُ بِالْعَمَلِ هُوَ الْوَاقِفُ عَلَى دَقَائِقِهِ، فَهُوَ إِذَا دَلَّ عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ لِعَامِلٍ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ وَالْوَسِيلَةِ لِلْخَلَاصِ مِنْ ضَرَرِهِمْ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ لِلنَّجَاةِ حَتْمًا، وَالْوَسِيلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النَّجَاحِ قَطْعًا، فَالْكَلَامُ كَالتَّعْلِيلِ لِكَوْنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالتَّمَسُّكِ بِالتَّقْوَى شَرْطَيْنِ لِلنَّجَاحِ. وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِـ " تَعْمَلُونَ " عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ جَمِيعًا - يَعْنِي عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَأَبِي حَاتِمٍ " تَعْمَلُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ أَوْ عَلَى الِالْتِفَاتِ - وَمَنْ كَانَ عَالِمًا بِعَمَلِ فَرِيقَيْنِ مُتَحَادَّيْنِ مُحِيطًا بِأَسْبَابِ مَا يَصْدُرُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَنَتَائِجِهِ وَغَايَاتِهِ، فَهُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَى إِرْشَادِهِ فِي مُعَامَلَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَفْسِهِ فِي حَاضِرِهَا وَآتِيهَا مَا يَعْرِفُهُ ذَلِكَ الْمُحِيطُ بِعَمَلِهِ وَعَمَلِ مَنْ يُنَاهِضُهُ وَيُنَاصِبُهُ، فَهِدَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرُ مَا يَبْلُغُونَ بِهِ الْمَآرِبَ وَيَنْتَهُونَ بِهِ إِلَى أَحْسَنِ الْعَوَاقِبِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِحَاطَةَ إِحَاطَتَانِ إِحَاطَةُ عِلْمٍ وَإِحَاطَةُ قُدْرَةٍ وَمَنْعٍ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِحَاطَةَ عِلْمٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَمَلِ ; وَذَلِكَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [٦٥: ١٢] وَقَوْلِهِ: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [١٠: ٣٩] وَأَمَّا الْإِحَاطَةُ بِالشَّخْصِ أَوْ بِالشَّيْءِ قُدْرَةً فَهِيَ تَأْتِي بِمَعْنَى مَنْعِهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا، وَبِمَعْنَى مَنْعِهِ مَا يُرِيدُهُ، وَبِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَمِنْهُ الْإِحَاطَةُ بِالْعَدُوِّ، أَيْ أَخْذُهُ مِنْ
جَمِيعِ جَوَانِبِهِ بِالْفِعْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [٢: ٨١] وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [١١: ٩٢] وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [١٠: ٢٢] كُلُّ هَذَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَإِنْ فُسِّرَ كُلُّ قَوْلٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ. فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: أَنَّ اللهَ قَدْ دَلَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُنْجِيكُمْ مِنْ كَيْدِ عَدُوِّكُمْ فَعَلَيْكُمْ بَعْدَ الِامْتِثَالِ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ إِحَاطَةَ قُدْرَةٍ تَمْنَعُهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ مِنْكُمْ مَعُونَةً مِنْهُ لَكُمْ كَقَوْلِهِ: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا [٤٨: ٢١] فَعَلَيْكُمْ بَعْدَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَثِقُوا بِهِ وَتَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ: قَوْلُهُ: هَا أَنتُمْ أُولَاءِ أَصْلُهُ " أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ " فَقُدِّمَتْ أَدَاةُ التَّنْبِيهِ الَّتِي تَلْحَقُ اسْمَ الْإِشَارَةِ أُولَاءِ عَلَى الضَّمِيرِ وَيُقَالُ فِي الْمُفْرَدِ: " هَا أَنَا ذَا " وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. وَإِعْرَابُهُ: هَا لِلتَّنْبِيهِ وَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَأُولَاءِ خَبَرُهُ وَتُحِبُّونَهُمْ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ (أُولَاءِ) اسْمًا مَوْصُولًا وَتُحِبُّونَهُمْ صِلَتُهُ.
طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَعَشَرَاتٍ بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَيَتَوَقَّفُ فَهْمُهَا عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّةِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَوْ إِجْمَالًا. فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ نَأْتِيَ قَبْلَ تَفْسِيرِهَا مَا يُعِينُ الْقَارِئَ عَلَى فَهْمِهَا وَيُبَيِّنُ لَهُ مَوَاقِعَ تِلْكَ الْأَخْبَارِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ:
غَزْوَةُ أُحُدٍ لَمَّا خَذَلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرَجَعَ فُلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ مَقْهُورِينَ مَوْتُورِينَ نَذَرَ
وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ أَخَذَ يُؤَلِّبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ
بَعْدَ قَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ هُوَ السَّيِّدَ الرَّئِيسَ فِيهِمْ، لِذَلِكَ كَلَّمَهُ - فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ - الْمَوْتُورُونَ مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لِيَبْذُلَ مَالَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَ جَاءَ بِهَا مِنَ الشَّامِ فِي أَخْذِ الثَّأْرِ، فَرَضِيَ هُوَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَالُ الْعِيرِ - كَمَا فِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ - خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ رَبِحَتْ مِثْلَهَا، فَبَذَلُوا الرِّبْحَ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِلْحَرْبِ حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَخَرَجَتْ بِحَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، فَكَانُوا نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَأَخَذُوا مَعَهُمْ نِسَاءَهُمُ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ وَأَلَّا يَفِرُّوا ; فَإِنَّ الْفِرَارَ بِالنِّسَاءِ عَسِرٌ وَالْفِرَارَ دُونَهُنَّ عَارٌ، وَكَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ - وَهُوَ الْقَائِدُ - زَوْجُهُ هِنْدُ ابْنَةُ عُتْبَةَ، فَكَانَتْ تُحَرِّضُ الْغُلَامَ وَحْشِيًّا الْحَبَشِيَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَوْلَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لِيَقْتُلَ حَمْزَةَ عَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَمِّهِ طُعْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي قُتِلَ بِبَدْرٍ، وَقَدْ عَلَّقَ عِتْقَهُ عَلَى قَتْلِهِ. وَكَانَ هَذَا الْحَبَشِيُّ مَاهِرًا فِي الرَّمْيِ بِالْحَرْبَةِ عَلَى بُعْدٍ قَلَّمَا يُخْطِئُ، فَكَانَتْ هِنْدٌ كُلَّمَا رَأَتْهُ فِي الْجَيْشِ تَقُولُ لَهُ: " وَيْهًا أَبَا دَسَمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ " تُخَاطِبُهُ بِالْكُنْيَةِ تَكْرِيمًا لَهُ. وَذَكَرَ الْحَلَبِيُّ أَنَّهُمْ سَارُوا أَيْضًا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ وَالْمَعَازِفِ وَالْخُمُورِ.
نَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ أُحُدٍ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ " عِينِينَ " عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي
يُلِحُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَاهُمْ فِي خُطْبَتِهَا وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ مَا صَبَرُوا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُ: اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ فَقَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ أَيْ لِمَا فِي فَسْخِ الْعَزِيمَةِ بَعْدَ إِحْكَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَمَبَادِئِ الْفَشَلِ وَسُوءِ الْأُسْوَةِ. وَفِي سَحَرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَرَجَ بِأَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاسْتَعْمَلَ بِالْمَدِينَةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى عَلَى الصَّلَاةِ بِمَنْ بَقِيَ فِيهَا.
فَلَمَّا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ انْعَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ بِنَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ (وَهُمْ ٣٠٠) وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي - وَفِي رِوَايَةٍ أَطَاعَ الْوِلْدَانَ وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ - فَمَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، فَتَبِعَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ اللهَ أَلَّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ، تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا. قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمْ نَرْجِعْ وَلَكِنْ نَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قِتَالٌ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ ثُلُثِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فَأَمْسَوْا وَقَدْ ذَهَبَ مِنَ الثُّلُثِ نَحْوُ ثُلُثِهِ، وَهَمَّتْ بَنُو سَلِمَةَ مِنَ الْأَوْسِ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ أَنْ تَفْشَلَا فَعَصَمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -.
وَقَدْ كَانَ خُرُوجُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ خَيْرًا لَهُمْ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَوْمَ تَبُوكَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [٩: ٤٧] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا ارْتَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ عَدَمَ الْخُرُوجِ لِيَكْتَفِيَ أَمْرَ الْقِتَالِ أَوْ خَطَرَهُ حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ. فَكَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لِلرَّسُولِ فِي الرَّأْيِ مُخَالِفًا لَهُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَّتِهِ، فَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَاعِي فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ وَأَبْعَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْعُدْوَانِ رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَإِيثَارًا لِلسَّلَامِ، وَتَعَزَّزَ رَأْيُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ بِرُؤْيَا رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ - وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ - رَأَى أَنَّ فِي سَيْفِهِ ثُلْمَةً وَرَأَى أَنَّ بَقَرًا تُذْبَحُ وَأَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَتَأَوَّلَ الثُّلْمَةَ فِي
سَيْفِهِ بِرَجُلٍ يُصَابُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ
وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ عَمِلَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِقَامَةً لِقَاعِدَةِ الشُّورَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ بِهَا وَهُوَ لَمْ يُخَالِفْ بِذَلِكَ قَاعِدَةَ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بَلْ جَرَى عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مُخَالَفَةَ رَأْيِ الْجُمْهُورِ وَلَوْ إِلَى خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ هَضْمٌ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ وَإِخْلَالٌ بِأَمْرِ الشُّورَى الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْمُكْثُ فِي الْمَدِينَةِ خَيْرًا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ فِي أُحُدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِقَاعِدَةِ الشُّورَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ - فَكَيْفَ تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ الْأَعْلَى وَرَضُوا بِأَنْ يَكُونَ مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ يُدِيرُونَ دُوَلًا بِهَا بِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَا تَتَّفِقُ مَعَ الدِّينِ وَلَا مَعَ الْعَقْلِ؟
وَسَأَلَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ فَأَبَى، وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِلْعُ الْيَهُودِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي عُهُودِهِمْ بِمُوفِينَ.
وَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمْ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَقَالَ لَهُمْ: " مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ - قُرْبٍ - لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ "؟ فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ قَوْمِهِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى سَلَكَ فِي مَالٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ - وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ - فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ قَامَ يَحْثُو فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللهِ فَلَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقْتُلُوهُ فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ بِفَنِّ الْحَرْبِ: الْإِرْشَادُ إِلَى اخْتِيَارِ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَى الْعَدُوِّ وَأَخْفَاهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِخُرْتِ الْأَرْضِ الَّذِي يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِعِلْمِ الْجُغْرَافِيَةِ. وَإِبَاحَةُ الْمُرُورِ فِي مِلْكِ النَّاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ. وَفِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمُنَافِقِ الْمُجَاهِرِ بِعَدَائِهِ بَلْ رَحِمَهُ وَعَذَرَهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَتْلِهِ.
وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُرَاعِي هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي حِفْظِ الدِّمَاءِ بَلْ قَلَّمَا تُرَاعِيهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ.
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ وَقَالَ: " لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَ بِالْقِتَالِ " وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ أَنَّ الرَّئِيسَ هُوَ الَّذِي يَفْتَحُهَا، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُرَاعِي ذَلِكَ دَائِمًا لَا سِيَّمَا إِذَا حَدَثَ مَا يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمْ، وَقَدِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ عَلَى اسْتِشْرَافٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ
فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ تَعَبَّى لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ فِيهِمْ خَمْسُونَ فَارِسًا، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ; أَيْ لَبِسَ دِرْعًا فَوْقَ دِرْعٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الرُّمَاةِ - وَكَانُوا خَمْسِينَ - عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ مُعَلَّمٌ يَوْمَئِذَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَقَالَ: " انْضَحِ الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ " وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَعَلَى الْأُخْرَى الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو.
ثُمَّ اسْتَعْرَضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشُّبَّانَ يَوْمَئِذٍ، فَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَهُ عَنِ الْقِتَالِ وَهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَأَجَازَ أَفْرَادًا مِنْ أَبْنَاءِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ، قِيلَ: لِسِنِّهِمْ، وَقِيلَ: لَبِنْيَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ ; فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ رَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَلَهُمَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ رَافِعًا رَامٍ فَأَجَازَهُ، فَقِيلَ لَهُ فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُمَا تَصَارَعَا أَمَامَهُ. وَرَدَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَأُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ ثُمَّ أَجَازَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُمْ أَبْنَاءُ خَمْسَ عَشْرَةَ، إِذْ كَانُوا يُطِيقُونَ الْقِتَالَ فِي هَذِهِ السِّنِّ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ.
وَتَعَبَّتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَابْتَدَأَتِ الْحَرْبُ بِالْمُبَارَزَةِ.
وَلَمَّا اشْتَبَكَ الْقِتَالُ وَالْتَقَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ
اللَّاتِي مَعَهَا وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ وَيُحَرِّضْنَهُمْ فَقَالَتْ هِنْدٌ فِيمَا تَقُولُ:
وَيْهًا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ... وَيْهًا حُمَاةَ الْأَدْبَارِ... ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارِ
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ | وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ |
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ | فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ |
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَدَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ صَيْفِيٍّ وَكَانَ رَأْسَ الْأَوْسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ شَرِقَ بِهِ وَجَاهَرَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَدَاوَةِ وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ يُؤَلِّبُ قُرَيْشًا عَلَى قِتَالِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ قَوْمَهُ إِذَا رَأَوْهُ أَطَاعُوهُ وَمَالُوا مَعَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الرَّاهِبَ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَاسِقِ. وَلَمَّا بَرَزَ نَادَى قَوْمَهُ وَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، قَالُوا لَهُ: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ. فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُبَارَزَةِ ثُمَّ فِي الْمُلَاحَمَةِ، وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: وَجَدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ فَمَنَعَنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَهُ وَأَعْطَاهُ وَتَرَكَنِي، وَاللهِ لَأَنْظُرَنَّ مَاذَا يَصْنَعُ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ لَهُ إِذَا تَعَصَّبَ بِهَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي | وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ |
أَلَّا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ | أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللهِ وَالرَّسُولِ |
عَلَيْهِ وَلْوَلَ فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً. وَمِنْ فَوَائِدِ مَسْأَلَةِ إِعْطَاءِ السَّيْفِ أَبَا دُجَانَةَ: أَنَّ مِنْ سِيَاسَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحَابِي قَوْمَهُ وَلَا ذِي الْقُرْبَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْتُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ.
لَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَوَلَّوْا إِلَى نِسَائِهِمْ مُدْبِرِينَ وَرَأَى الرُّمَاةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَزِيمَتَهُمْ تَرَكَ الرُّمَاةُ مَرْكَزَهُمُ الَّذِي أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِهِ وَأَلَّا يَدَعُوهُ سَوَاءٌ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَيْهِمْ " وَإِنْ رَأَوُا الطَّيْرَ تَتَخَطَّفُ الْعَسْكَرَ " لِئَلَّا يَكُرَّ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ الْعَسْكَرِيِّ بِخَطِّ الرَّجْعَةِ. وَقَالُوا: يَا قَوْمِ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، فَذَكَّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرْجِعُوا وَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ وَأَخْلَوُا الثَّغْرَ، فَلَمَّا رَأَى فُرْسَانُ الْمُشْرِكِينَ الثَّغْرَ قَدْ خَلَا مِنَ الرُّمَاةِ كَرُّوا حَتَّى أَقْبَلَ آخِرُهُمْ فَأَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَأَبْلَوْا فِيهِمْ، حَتَّى خَلَصُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَرَحُوا وَجْهَهُ الشَّرِيفَ وَكَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ الْيُمْنَى مِنْ ثَنَايَاهُ السُّفْلَى وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ الَّتِي عَلَى رَأْسِهِ وَدَثُّوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى سَقَطَ لِشِقِّهِ وَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ يَكِيدُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِهِ وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَاتَلَتْ أُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ الْمَازِنِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ فَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ عُمَارَةَ فَقُلْتُ لَهَا: يَا خَالَهْ أَخْبِرِينِي خَبَرَكِ، فَقَالَتْ: خَرَجْتُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدَّوْلَةُ وَالرِّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْتُ أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَأَرْمِي عَنِ الْقَوْسِ حَتَّى خَلَصَتِ الْجِرَاحُ إِلَيَّ - فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ فَقُلْتُ: مَنْ أَصَابَكِ بِهَذَا؟ فَقَالَتْ: ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللهُ، لَمَّا وَلَّى النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ يَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأُنَاسٌ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضَّرْبَةَ وَلَكِنْ ضَرَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ ضَرَبَاتٍ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللهِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعَانِ، وَأَعْطَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا السَّيْفَ فَلَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ فَشَدَّتْهُ عَلَى سَاعِدِهِ بِنِسْعَةٍ وَأَتَتْ بِهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا ابْنِي يُقَاتِلُ عَنْكَ. فَقَالَ " أَيْ بُنَيَّ! ! احْمِلْ هَاهُنَا " فَجُرِحَ: فَأَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ لَهُ: " لَعَلَّكَ جَزِعْتَ؟ " قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالُوا: وَصَرَخَ صَارِخٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. قَالَ الزُّبَيْرُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ وَصْفِهِ لِهَزِيمَةِ الْمُشْرِكِينَ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ خَدَمَ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبَهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ مَا دُونُ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفَنَا الْقَوْمُ عَنْهُ وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: " أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ " فَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَانْهَزَمُوا وَكُسِرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَمَرَّ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ عُمَرُ وَطَلْحَةُ قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا تَنْظُرُونَ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا
وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَهُ تَحْتَ الْمِغْفَرِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنِ اسْكُتْ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَهَضُوا مَعَهُ إِلَى الشِّعْبِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ النُّعَاسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمَنَةً وَرَحْمَةً فَكَانُوا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَشْعُرُونَ بِأَلَمٍ وَلَا خَوْفٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ السَّبْعَةَ قُتِلُوا دُونَهُ إِذْ كَانَ يَنْبَرِي لِلدِّفَاعِ عَنْهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْقُرَشِيَّانِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْصَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا يُقَاتِلُ فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " مَرَّتَيْنِ " فَلَمْ أَنْشَبَ أَنْ أَدْرَكَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَهُوَ يَشْتَدُّ كَأَنَّهُ طَيْرٌ فَدَفَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا طَلْحَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ أَيْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَقَدْ زُلْزِلَ كُلُّ أُحُدٍ سَاعَتَئِذٍ إِلَّا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ مَكَانِهِ.
وَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ عَلَى جَوَادٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْعُودُ، كَانَ يَعْلِفُهُ فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَقْتُلُ عَلَيْهِ مُحَمَّدًا. وَكَانَ قَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُهُ فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ اسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقَتَلَ مُصْعَبًا، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَلْيَبْرُزْ لِي فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا قَتَلَنِي، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ فَطَعَنَهُ بِهَا فَجَاءَتْ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ فَكَرَّ الْخَبِيثُ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: وَاللهِ مَا بِكَ مِنْ بَأْسٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ بِـ " سَرِفَ " مَرْجِعَهُ إِلَى مَكَّةَ - كَذَا فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ وَالسِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ - وَذَكَرَ الْأَوَّلَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْهُ انْتَفَضَ انْتِفَاضَةً تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشُّعَرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ ثُمَّ طَعَنَهُ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا. وَفِي زَادِ الْمَعَادِ
رَأَى مَنْدُوحَةً عَنْ قَتْلِ أُبَيٍّ لَمَا قَتَلَهُ.
وَقَدْ كَانَ بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ أَنْ عَجَزَ عَنِ الصُّعُودِ إِلَى صَخْرَةٍ أَرَادَ أَنْ يَعْلُوَهَا فَوَضَعَ لَهُ طَلْحَةُ ظَهْرَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى صَعَدَهَا، وَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ جَالِسًا تَحْتَ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ.
وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ الْحَبَشِيُّ الرَّاصِدُ لَهُ، وَقَدْ عَرَفَهُ وَهُوَ خَائِضٌ الْمَعْمَعَةَ كَالْجَمَلِ الْأَوْرَقِ يَقُطُّ الرِّقَابَ وَيُجَنْدِلُ الْأَبْطَالَ لَا يَقِفُ فِي وَجْهِهِ أَحَدٌ، فَرَمَاهُ بِحَرْبَتِهِ عَنْ بُعْدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ قَدْ أَتْقَنَهَا وَلَوْ قَرُبَ مِنْهُ لَمَا نَالَ إِلَّا حَتْفَهُ، وَقَدْ شَقَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلُ عَمِّهِ ; إِذْ كَانَ - عَلَى قُرْبِهِ - مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْمَانِعِينَ لَهُ، وَكَانَ أَشَدَّ أَهْلِهِ بَأْسًا وَأَعْظَمَهُمْ شَجَاعَةً، بَلْ لَوْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ لَمْ نَكُنْ مُبَالِغِينَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ إِسْلَامِهِ خَافَهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا حَمْزَةَ فَإِنَّهُ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ بِلَا مُبَالَاةٍ، وَخَلَفَ حَمْزَةَ فِي بَأْسِهِ وَشَجَاعَتِهِ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -.
وَقَدِ انْتَهَتِ الْحَرْبُ بِصَرْفِ اللهِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا كَانُوا يُرِيدُونَ مِنِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُولَاهُمُ الْغَالِبِينَ بِحُسْنِ تَدْبِيرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَتَمَحُّضِ الْقَصْدِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنْ دِينِ اللهِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُمُ الظَّفَرُ عَنِ الْتِزَامِ طَاعَةِ رَسُولِهِمْ وَقَائِدِهِمْ، وَدَبَّ إِلَى قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الطَّمَعُ فِي الْغَنِيمَةِ فَشِلُوا وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ وَزَادَهُمْ فَشَلًا إِشَاعَةُ قَتْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فَرَّ كَثِيرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَحْيَوْا مِنْ دُخُولِهَا فَرَجَعُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ ثَبَتَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ خَالِدٌ بِالْفُرْسَانِ مِنْ وَرَائِهِمْ صَارَ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى غَيْرِ هُدًى، فَمِنْهُمُ الَّذِينَ اسْتَبْسَلُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْدُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَيَتَلَقَّوْنَ السِّهَامَ وَالسُّيُوفَ دُونَهُ حَتَّى كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرَوْهُ نَاظِرًا إِلَى جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يُصِيبَهُ سَهْمٌ، فَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ نِضَالِهِ عَنْهُ يَقُولُ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تَنْظُرْ يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ. وَلَمَّا عَلِمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بِبَقَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُفِخَتْ فِيهِمْ رُوحٌ جَدِيدَةٌ مِنَ الْقُوَّةِ فَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ حَتَّى يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ وَصَرَفَهُمُ
اللهُ عَنْهُمْ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ فِيمَا يَأْتِي - فَهَذَا مَا كَانَ مِنْ حَرْبِ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِلسَّبْعِمِائَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَنْكَسِرُوا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَنْتَصِرُوا بَلْ نَالَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ وَنَالُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حُرِمُوا النَّصْرَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَهْزِمُوا الْمُشْرِكِينَ وَيَرُدُّوهُمْ مَدْحُورِينَ - وَسَيَأْتِي فِي الْآيَاتِ بَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحَكَمُ فِيمَا كَانَ - وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مَا نُصِرَ رَسُولُ اللهِ فِي مَوْطِنٍ نَصْرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ " فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ كِتَابُ اللهِ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [٣: ١٥٢] وَسَيَأْتِي.
وَالْتَمَسُوا الْقَتْلَى فَرَأَوْا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ مَثَّلُوا بِهِمْ، وَكَانَ التَّمْثِيلُ بِحَمْزَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - شَرَّ تَمْثِيلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ لِيُمَثِّلَنَّ بِهِمْ عِنْدَمَا يُظْفِرُهُ اللهُ بِهِمْ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى فَلَمْ يَفْعَلْهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَخَرَجَ نِسَاءٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمُسَاعَدَةِ الْجَرْحَى، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - هِيَ الَّتِي دَاوَتْ جُرْحَ وَالِدِهَا - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَصَّ الدَّمَ مِنْهُ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَتَّى أَنْقَاهُ تَوَلَّتْهُ هِيَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ
رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَ دُووِيَ، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَغْسِلُهُ وَعَلِيٌّ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ (التُّرْسِ) فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.
وَلَمَّا انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ رَاجِعِينَ ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ ; فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِيٍّ: اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ؟ فَإِنْ هُمْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانُوا رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ فِيهَا
وَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي الطَّرِيقِ تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحَدَّهُمْ وَتَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ فَارْجِعُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَى النَّاسَ وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَقَالَ: لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجُرْحِ الشَّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا: " سَمْعًا وَطَاعَةً " وَذَلِكَ مِنْ خَوَارِقِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَآيَاتِهِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَجِيبِينَ كَانَ قَدْ بَرَّحَ بِهِمُ التَّعَبُ وَالْجِرَاحُ تَبْرِيحًا. فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَأَقْبَلَ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فَيُخَذِّلُهُ، فَلَحِقَهُ بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ وَخَرَجُوا فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى يَطْلُعَ أَوَّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
لِنَسْتَأْصِلَهُمْ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَكَ نَاصِحٌ.
فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِلَى مَكَّةَ. وَلَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تُبَلِّغَ مُحَمَّدًا رِسَالَةً وَأُوَقِّرُ لَكَ رَاحِلَتَكَ زَبِيبًا إِذَا أَتَيْتَ إِلَى مَكَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَبْلِغْ مُحَمَّدًا أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ لِنَسْتَأْصِلَهُ وَنَسْتَأْصِلَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ قَالُوا: " حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ".
وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْفِنُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَرُبَّمَا كَانَ يُلَفُّونَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لِقِلَّةِ الثِّيَابِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ - كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّجُوعَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْطَفُّوا خَلْفَهُ وَعَامَّتُهُمْ جَرْحَى، وَاصْطَفَّ خَلْفَهُمُ النِّسَاءُ وَهُنَّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً كُنَّ بِأَصْلِ أُحُدٍ، فَقَالَ: اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَاسْتَوَوْا فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَلْنَشْرَعْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، وَنَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّ وَجْهَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - نَهَاهُمْ فِي تِلْكَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَدَاوَةِ لَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ
بِبَعْضِهِمْ إِيَّاهُمْ وَإِنْ خَادَعَهُمْ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ بِدَعْوَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لَا يَضُرُّهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ ذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ إِذْ قَالُوا مَا قَالُوا أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِذْ خَرَجُوا ثُمَّ انْشَقُّوا وَرَجَعُوا لِيَخْذُلُوا الْمُؤْمِنِينَ وَيُوقِعُوا الْفَشَلَ فِيهِمْ، وَمِنْ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ وَتَأَلُبِّهِمُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ دَافِعٍ إِلَّا الصَّبْرُ حَتَّى عَنِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي طَمِعَ فِيهَا الرُّمَاةُ فَتَرَكُوا مَوْقِعَهُمْ وَإِلَّا التَّقْوَى، وَمِنْهَا - بَلْ أَهَمُّهَا - طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّمَاةَ، وَذَكَّرَهُمْ أَيْضًا بِوَقْعَةِ بَدْرٍ إِذْ نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ بِصَبْرِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ أَيْ وَاذْكُرْ بَعْدَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ إِذْ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ غَدْوَةً، وَذَلِكَ سَحَرَ يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ لِلْهِجْرَةِ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أَيْ تُوَطِّنُهُمْ وَتُنْزِلُهُمْ أَمَاكِنَ وَمَوَاضِعَ فِي الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ فِيهَا، فَمِنْهَا مَوْضِعٌ لِلرُّمَاةِ وَمَوْضِعٌ لِلْفُرْسَانِ وَمَوْضِعٌ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَكَانُ الْقُعُودِ كَالْمَجْلِسِ لِمَكَانِ الْجُلُوسِ وَالْمَقَامِ لِمَكَانِ الْقِيَامِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الْمَكَانِ تَوَسُّعًا. وَقِيلَ: تَبْوِئَةُ الْمَقَاعِدِ تَسْوِيَتُهَا وَتَهْيِئَتُهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمْ يَخْفَ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا قِيلَ فِي مُشَاوَرَتِكَ لِمَنْ مَعَكَ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ أَوِ انْتِظَارِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَهُوَ قَدْ سَمِعَ أَقْوَالَ الْمُشِيرِينَ وَعَلِمَ نِيَّةَ كُلِّ قَائِلٍ، وَأَنَّ مِنْهُمُ الْمُخْلِصَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي رَأْيِهِ كَالْقَائِلِينَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ الْمُخْلِصِ فِي قَوْلِهِ - وَإِنْ كَانَ صَوَابًا - كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْكَرِيمَانِ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ - كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ، وَالْمُرَادَ بِهِ أَصْحَابُهُ، يَضْرِبُ لَهُمْ مَثَلًا أَوْ مَثَلَيْنِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا بِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ عِنْدَ تَرْكِ الرُّمَاةِ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى، وَذَنْبُ
وَهَذَا الرَّأْيُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ حِينَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا. وَالْهَمُّ: حَدِيثُ النَّفْسِ وَتَوَجُّهُهَا إِلَى الشَّيْءِ، وَالْفَشَلُ ضَعْفٌ مَعَ جُبْنٍ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِـ تُبَوِّئُ أَيْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّخِذُ الْمُعَسْكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْزِلُ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَنْزِلًا فِي وَقْتٍ هَمَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ بِالْفَشَلِ افْتِتَانًا بِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنَ الْعَسْكَرِ. وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِصَّةِ - وَاللهُ وَلِيُهُمَّا أَيْ مُتَوَلِّي أُمُورِهِمَا لِصِدْقِ إِيمَانِهِمَا، لِذَلِكَ صَرَفَ الْفَشَلَ عَنْهُمَا وَثَبَّتَهُمَا فَلَمْ يُجِيبَا دَاعِيَ الضَّعْفِ الَّذِي أَلَمَّ بِهِمَا عِنْدَ رُجُوعِ نَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ بَلْ تَذَكَّرُوا وِلَايَةَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَثِقَا بِهِ وَتَوَكَّلَا عَلَيْهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْثَالُهُمْ، لَا عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَلَا عَلَى أَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْذُلُونَ حَوْلَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أُهْبَتَهُمْ وَعُدَّتَهُمْ إِقَامَةً لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ إِذْ جَعَلَ الْأَسْبَابَ مُفْضِيَةً إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُسَخِّرُ لِلسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَالْمُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْكَثِيرَةِ إِنْ شَاءَ كَمَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَهُوَ مَاءٌ أَوْ بِئْرٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَانَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ بَدْرٌ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَدْ كَانَتْ فِيهِ أَوَّلُ غَزْوَةٍ قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ الْمُشْرِكِينَ فِي ١٧ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ نَصَرَكُمْ فِي حَالَةِ ذِلَّةٍ كُنْتُمْ فِيهَا عَلَى قِلَّتِكُمْ - كَمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ أَذِلَّةٍ، إِذْ هُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ - وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَذِلَّةً أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ إِذْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُدَّةِ مِنَ السِّلَاحِ وَالظَّهْرِ (أي مَا يُرْكَبُ) وَالزَّادِ. وَلَا غَضَاضَةَ فِي الذُّلِّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَنْ قَهْرٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَالظَّالِمِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ بِمَقْهُورِينَ وَلَا مُسْتَذَلِّينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَإِنَّمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ فِي أَوَائِلِ تَكَوُّنِهَا فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَإِنَّ التَّقْوَى هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ
الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي يُسْدِيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بِالتَّقْوَى غَلَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فَلَا يُرْجَى لَهُ أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا يَصْرِفُ النِّعْمَةَ إِلَى مَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَقِيلَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا مُتَعَلِّقٌ بِـ (تُبَوِّئُ) أَوْ بِـ (سَمِيعٌ) أَوْ بَدَلٌ مِنْ (إِذْ) الْأُولَى وَالتَّقْدِيرُ: تُبَوِّئُهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هَمَّ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِالْفَشَلِ مَعَ أَنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ - عَلَى قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ تَقُولُ فِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ
بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ وَرَدَ سَوَّمَهُ الْأَمْرَ بِمَعْنَى كَلَّفَهُ إِيَّاهُ، وَسَوَّمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَسَوَّمَهُ فِي مَالِهِ: حَكَّمَهُ وَصَرَّفَهُ، وَسَوَّمَ الْخَيْلَ: أَرْسَلَهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْوَاوِ مِنْ (مُسَوَّمِينَ) فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ مِنَ اللهِ تَثْبِيتَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُحَكَّمِينَ وَمُصَرَّفِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ إِلْهَامِ النَّصْرِ بِتَثْبِيتِ الْقُلُوبِ وَالرَّبْطِ عَلَيْهَا. أَوْ مُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِهِ - تَعَالَى -. وَأَمَّا قِرَاءَةُ كَسْرِ الْوَاوِ (مُسَوِّمِينَ) فَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَوَّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا أَغَارَ فَفَتَكَ بِهِمْ وَلَوْ بِالْإِعَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ مِنَ التَّسْوِيمِ بِمَعْنَى إِظْهَارِ سِيمَا الشَّيْءِ أَيْ عَلَامَتِهِ، أَيْ مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَيْلَهُمْ وَهُوَ كَمَا تَرَى - لَوْلَا الرِّوَايَةُ - لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُسَوِّمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ سِيمَا تَثْبِيتِهِمْ إِيَّاهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْإِمْدَادِ مَا نَصَّهُ: " وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ خَمْسَةَ آلَافٍ إِنْ صَبَرُوا لِأَعْدَائِهِمْ وَاتَّقَوْا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَلَا بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ
أَقُولُ: مَا مَعْنَى هَذَا الْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إِمْدَادِ الْعَسْكَرِ بِمَا يَزِيدُ عَدَدَهُمْ أَوْ عُدَّتَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَلَوِ النَّفْسِيَّةَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهَاكَ بَيَانُهُ.
إِمْدَادٌ: مِنَ الْمَدِّ. وَالْمَدُّ فِي الْأَصْلِ: عِبَارَةٌ عَنْ بَسْطِ الشَّيْءِ كَمَدِّ الْيَدِ وَالْحَبْلِ، أَوْ عَنِ
الزِّيَادَةِ فِي مَادَّتِهِ كَمَدِّ النَّهْرِ بِنَهْرٍ أَوْ سَيْلٍ آخَرَ. قَالَ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ [٢٣: ٥٥، ٥٦] فَالْإِمْدَادُ يَكُونُ بِالْمَالِ وَهُوَ مَا يُتَمَوَّلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَيَكُونُ بِالْأَشْخَاصِ. وَالْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْإِمْدَادِ بِالْمَالِ الَّذِي يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْقَوْمِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِمْدَادِ بِالْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يُنْتَفَعُ بِهِمْ وَلَوْ نَفْعًا مَعْنَوِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ تُلَابِسُ النُّفُوسَ فَتُمِدُّهَا بِالْإِلْهَامَاتِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُثَبِّتُهَا وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي - تَعَالَى ذِكْرُهُ - وَمَا جَعَلَ اللهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ إِمْدَادِهِ إِيَّاكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَدَدَهُمْ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ يُبَشِّرُكُمْ بِهَا وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ يَقُولُ: وَكَيْ تَطْمَئِنَّ بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قُلُوبُكُمْ فَتَسْكُنَ إِلَيْهِ وَلَا تَجْزَعَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ يَعْنِي وَمَا ظَفَرُكُمْ إِنْ ظَفَّرْتُكُمْ بِعَدُوِّكَمْ إِلَّا بِعَوْنِ اللهِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمَدَدِ الَّذِي يَأْتِيكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اهـ.
وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَمَا جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَكُمُ الرَّسُولُ وَهُوَ (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إِلَخْ إِلَّا بُشْرَى يَفْرَحُ بِهَا رَوْعُكُمْ وَتَنْبَسِطُ بِهَا أَسَارِيرُ وُجُوهِكُمْ وَطُمَأْنِينَةً لِقُلُوبِكُمُ الَّتِي طَرَقَهَا الْخَوْفَ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّكُمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ. أَيْ إِنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَهُ هَذَا التَّأْثِيرُ فِي تَقْوِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَثْبِيتِ النُّفُوسِ. وَإِنَّمَا أَرْجَعْنَا ضَمِيرَ (جَعَلَهُ) إِلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا إِلَى وَعْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لَيْسَتَا وَعْدًا مِنَ اللهِ بِالْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا إِخْبَارٌ عَمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَدْ أَخْبَرَ - تَعَالَى - فِي تَيْنَكِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ رَسُولَهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْقَوْلِ
سَلَكَ إِلَى أُحُدٍ أَقْرَبَ الطُّرُقِ وَأَخْفَاهَا عَنِ الْعَدُوِّ، وَعَسْكَرَ فِي أَحْسَنِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الشِّعْبُ (الْوَادِي)، وَجَعَلَ ظَهْرَ عَسْكَرِهِ إِلَى الْجَبَلِ، وَجَعَلَ الرُّمَاةَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَمَّا اخْتَلَّ بَعْضُ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ لَمْ يَنْتَصِرُوا.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السَّيْرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ، بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا عَدَاهُ كَانُوا عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يُقَاتِلُونَ. وَأَنْكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ قِتَالَ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي إِهْلَاكِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا فَعَلَ جِبْرِيلُ بِمَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ ; فَإِذَا حَضَرَ هُوَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مُقَاتَلَةِ النَّاسِ مَعَ الْكُفَّارِ؟ وَبِتَقْدِيرِ حُضُورِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِرْسَالِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَكَابِرَ الْكُفَّارِ كَانُوا مَشْهُورِينَ، وَقَاتَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنِ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ، وَأَيْضًا لَوْ قَاتَلُوا فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَرَاهُمُ النَّاسُ أَوَّلًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُشَاهَدُ مِنْ عَسْكَرِ الرَّسُولِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَأَكْثَرَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِهِ: وَيُقْلِلْكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [٨: ٤٤] وَلَوْ كَانُوا فِي غَيْرِ صُورَةِ النَّاسِ لَزِمَ وُقُوعُ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَى الثَّانِي كَانَ يَلْزَمُ جَزُّ الرُّءُوسِ وَتَمَزُّقُ الْبُطُونِ وَإِسْقَاطُ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةِ فَاعِلٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَاتَرَ وَيَشْتَهِرَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ.
وَأَيْضًا إِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمُ الْكُلُّ، وَإِنْ كَانُوا أَجْسَامًا لَطِيفَةً هَوَائِيَّةً فَكَيْفَ ثَبَتُوا عَلَى الْخُيُولِ؟ اهـ. ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَالنَّيْسَابُورِيُّ، فَالرَّازِيُّ أَوْرَدَ هَذَا عَنِ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ حُجَجَهُ مُفَصَّلَةً كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى - الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ إِلَخْ، وَلَخَّصَهُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاعْتَرَضَ الرَّازِيُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِمَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحُجَجَ أَوْ يُبَيِّنُ لَهَا مَخْرَجًا.
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَصٌّ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ بِالْفِعْلِ فَيَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِيُّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى أَنَّهَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - بِإِمْدَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
وَفَسَّرَ هَذَا الْإِمْدَادَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [٨: ١٢] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ (ج ٩ ص ١٩٧)
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الْأَصَمُّ وَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِحُجَجِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْكَرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا اتِّصَالٌ مَا بِأَرْوَاحِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرٌ فِيهَا بِالْإِلْهَامِ أَوْ تَقْوِيَةِ الْعَزَائِمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
هَذَا مَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ - إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى - وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إِمْدَادٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَلَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ وَجَعَلَ الْوَعْدَ بِهِ مُعَلَّقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَإِتْيَانِ الْأَعْدَاءِ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَلَمْ يَحْصُلِ الْإِمْدَادُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَكِنَّ الْقَوْلَ أَفَادَ الْبِشَارَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ.
وَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ وَمَا السَّبَبُ فِي إِمْدَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَلَائِكَةٍ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أَصَابَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ مَا أَصَابَ؟.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَيْنَكِ الْيَوْمَيْنِ فَنَذْكُرُهُ هُنَا مُجْمَلًا مَعَ بَيَانِ فَلْسَفَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَنَدَعُ التَّفْصِيلَ فِيهِ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَإِنَّ مَا هُنَا تَفْصِيلٌ لِمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنَ الْحِكَمِ، وَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ تَفْصِيلٌ لِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ ذَلِكَ.
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اعْتِمَادٌ إِلَّا عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَمَا وَهَبَهُمْ مِنْ قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّبَاتِ وَالذِّكْرِ إِذْ قَالَ: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٨: ٤٥] فَبَذَلُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَامْتَثَلُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِشْرَافٌ إِلَى شَيْءٍ مَا غَيْرَ نَصْرِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَالذَّوْدِ عَنْ نَبِيِّهِ لَا فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ، فَكَانَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَهَذَا الصَّفَاءِ قَدْ عَلَتْ وَارْتَقَتْ حَتَّى اسْتَعَدَّتْ لِقَبُولِ الْإِلْهَامِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ وَالتَّقْوَى بِنَوْعٍ مَا مِنَ الِاتِّصَالِ بِهَا.
وَأَمَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الِافْتِتَانِ بِمَا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلِذَلِكَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ أَنْ تَفْشَلَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا تَثَبَّتُوا وَبَاشَرُوا الْقِتَالَ انْتَصَرُوا وَهَزَمُوا
هَذَا هُوَ السَّبَبُ لِمَا حَصَلَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا، وَأَمَّا حِكْمَتُهُ فَهِيَ تَمْحِيصُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ [٣: ١٤١] إِلَخْ. وَتَرْبِيَتُهُمْ بِالْفِعْلِ عَلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ السُّنَنَ حَاكِمَةٌ حَتَّى عَلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ قَتْلَ الرَّسُولِ أَوْ مَوْتَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُثَبِّطًا لِلْهِمَمِ وَلَا دَاعِيَةً إِلَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ شَيْءٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ نَتِيجَةُ عَمَلِهِمْ إِذْ هُوَ عُقُوبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [٣: ١٦٥] إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [٣: ١٤٤] إِلَخْ وَغَيْرِهِمَا فَلَا نَتَعَجَّلُهُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِهِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ.
وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي الْوَقْعَتَيْنِ: أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ هُنَا: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [٨: ١٠] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ غَيْرُ وَعْدِ اللهِ وَبِشَارَتِهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ
أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا قَالَ عُمَرُ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ لِرَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَأَنْزَلَ اللهُ يَوْمَئِذٍ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [٨: ٩] الْآيَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. فَكَانَ بِهَذَا الْوَعْدِ اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ لَا بِسِوَاهُ ; فَلِذَلِكَ قَدَّمَ (بِهِ) عَلَى (قُلُوبُكُمْ) وَأَمَّا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَلَمْ تَكُنِ الْحَالُ كَذَلِكَ - كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَلَمْ تَعُدِ الْبِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ فَقَالَ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَبَعْضٌ آخَرُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ ذِكْرَ النَّصْرِ بِبَدْرٍ إِنَّمَا جَاءَ اسْتِطْرَادًا ; وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَالْخَمْسَةِ الْآلَافِ مُتَعَلِّقًا بِهِ - وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; أَيْ إِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا، أَوْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا. وَمَعْنَى قَطْعِ الطَّرَفِ مِنْهُمْ إِهْلَاكُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ: " قُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ " إِذَا هَلَكُوا، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَعَبَّرَ عَنْ
الْمَعْقُولُ. وَانْتَظِرْ أَيُّهَا الْقَارِئُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [٩: ١٦٥] الْآيَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِأَقْوَالٍ: مِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ يُخْزِيهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ مَعْنَاهُ يَصْرَعُهُمْ لِوُجُوهِهِمْ وَفِي الْأَسَاسِ: كَبَتَ اللهُ عَدُوَّهُ: أَكَبَّهُ وَأَهْلَكَهُ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْأَسَاسِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ فِي الْكَشَّافِ بِقَوْلِهِ: " لِيُخْزِيَهُمْ، وَيَغِيظَهُمْ بِالْهَزِيمَةِ ". وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَبْتُ: الرَّدُّ بِعُنْفٍ وَتَذْلِيلٍ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " أَوْ يُخْزِيهِمْ. وَالْكَبْتُ شِدَّةُ الْغَيْظِ أَوْ وَهَنٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ " وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي وَرَدَتْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَصَرَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ (أَوْ) هُنَا لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّرْدِيدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْطَعُ طَرَفًا وَطَائِفَةً وَيَكْبِتُ طَائِفَةً أُخْرَى، أَيْ وَيَتُوبُ عَلَى طَائِفَةٍ وَيُعَذِّبُ طَائِفَةً كَمَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ.
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ جُمْلَةُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ هَذَا التَّقْسِيمِ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي قَبْلَهَا كَذَلِكَ وَإِلَّا كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
أَمَّا كَوْنُهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ وَقْعَةِ أُحُدٍ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ: اللهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامً، اللهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ - تَعَالَى - ذِكْرُهُ: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. فَقَوْلُهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ نَصْبُ يَتُوبَ بِمَعْنَى " أَوْ " الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى " حَتَّى " وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ ; لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ إِلَى أَحَدٍ سِوَى خَالِقِهِمْ قَبْلَ تَوْبَةِ الْكُفَّارِ، وَعِقَابُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَيْسَ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَمْرِ خَلْقِي إِلَّا أَنْ تُنَفِّذَ فِيهِمْ أَمْرِي وَتَنْتَهِيَ فِيهِمْ إِلَى طَاعَتِي، وَإِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَيَّ وَالْقَضَاءُ فِيهِمْ بِيَدِي دُونَ غَيْرِي. أَقْضِي فِيهِمْ وَأَحْكُمُ بِالَّذِي أَشَاءُ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِي وَعَصَانِي وَخَالَفَ أَمْرِي، أَوِ الْعَذَابِ إِمَّا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالنِّقَمِ الْمُبِيرَةِ، وَإِمَّا فِي آجِلِ الْآخِرَةِ بِمَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِي، انْتَهَى قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْدَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ.
وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَا جَرَى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حِكْمَةٌ إِلَّا نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ لَكَفَى، فَكَيْفَ وَقَدْ جُمِعَ إِلَيْهَا مَا سَيَأْتِي مِنَ الْحِكَمِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ؟ !
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَصْرِ نَبِيِّهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ لَمْ يُزَلْزِلْ إِيمَانَهُمْ بِذَلِكَ ضَعْفُهُمْ وَقِلَّتُهُمْ، وَلَا إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ أَوَّلَ تَبَاشِيرِ هَذَا النَّصْرِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ وَتَضَرُّعِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ زَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا
كَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ قَصَّرُوا فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ وَجُرِحَ الرَّسُولُ نَفْسُهُ - وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ هُوَ - وَلَمْ يَنْهَزِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي
بَيَّنَهَا - تَعَالَى - قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [٨: ٢٥]- وَإِنْ تَبَرَّمَ الرَّسُولُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَدَعَا عَلَى رُؤَسَائِهِمْ - فَكَانَ ذَلِكَ فُرْصَةً لِإِعْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَمْرِ الْكَوْنِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلِّمٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ (١٥٤) يُدَبِّرُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ (١٣٧) وَكِلَا الْآيَتَيْنِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
هَذَا الْبَيَانُ الْإِلَهِيُّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يَتَمَكَّنُ فِي النُّفُوسِ مَا لَا يَتَمَكَّنُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِوَاقِعَةٍ مَشْهُورَةٍ لَا مَجَالَ مَعَهَا لِتَأْوِيلِهِ وَلَا لِتَخْصِيصِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى دَعَائِمِ التَّوْحِيدِ فِي الْقُرْآنِ، وَدَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَسِّسَ مُلْكٍ، وَزَعِيمَ سِيَاسَةٍ يُدِيرُهَا بِالرَّأْيِ لَمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، فَأَيُّ نَصِيبٍ مِنْ هَذَا الدِّينِ لِلَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَمْرَ الْعِبَادِ وَتَدْبِيرَ شُئُونِ الْكَوْنِ لِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ بِالْمَشَايِخِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ وَيَخْذُلُونَ، وَيُسْعِدُونَ وَيُشْقُونَ، وَيُمِيتُونَ وَيُحْيُونَ، وَيُغْنُونَ وَيُفْقِرُونَ، وَيُمْرِضُونَ وَيَشْفُونَ، وَيَفْعَلُونَ كُلَّ مَا يَشَاءُونَ؟ هَلْ يُعَدُّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُخَاطِبُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ - حِينَ لَعَنَ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَارَبُوهُ حَتَّى خَضَّبُوا بِالدَّمِ مُحَيَّاهُ وَكَسَرُوا إِحْدَى ثَنَايَاهُ - بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ؟ هَذَا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَهَذَا هَدْيُهُ الْقَوِيمُ، فَهَلْ كَانَ أَهْلُ بُخَارَى مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا كَانُوا يَقُولُونَ وَقَدْ عَلِمُوا بِعَزْمِ رُوسْيَا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى بِلَادِهِمْ: إِنَّ " شَاهْ نَقْشَبَنْدَ " هُوَ حَامِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَلَنْ يَسْتَطِيعَهَا أَحَدٌ؟ هَلْ كَانَ أَهْلُ فَاسَ مُهْتَدِينَ بِهِ عِنْدَمَا لَجَئُوا إِلَى قَبْرِ وَلِيِّهِمْ " إِدْرِيسَ "
عَلَى الدُّعَاءِ بِالْقَوْلِ؟ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ سَلَفَهُمْ كَانُوا يُنْصَرُونَ أَيَّامَ لَمْ يَكُونُوا دَائِمًا يَقُولُونَ: " اللهُمَّ نَكِّسْ أَعْلَامَهُمْ، اللهُمَّ زَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، اللهُمَّ يَتِّمْ أَطْفَالَهُمْ، اللهُمَّ اجْعَلْهُمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ " وَأَنَّهُمْ بَعْدَ اللهَجِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مَنْصُورِينَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ؟ فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ، الِاسْتِعْدَادَ الِاسْتِعْدَادَ، الْأُهْبَةَ الْأُهْبَةَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [٨: ٦٠] وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ، وَلَا مَالَ إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَلَا عَدْلَ مَعَ حُكْمِ الِاسْتِبْدَادِ، ثُمَّ بَعْدَ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ يَكُونُ الذِّكْرُ وَالِاسْتِمْدَادُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [٨: ٤٥، ٤٦] هَذَا هُدَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ تَمَثَّلَ لَهُمْ صِدْقُهُ فِي النَّبِيِّ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [٢٣: ٦٨] ؟
ثُمَّ أَكَّدَ - تَعَالَى - هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَأَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَمَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِمَا شَرِكَةٌ مَعَهُ وَلَا رَأْيٌ وَلَا وَسَاطَةُ تَأْثِيرٍ فِي تَدْبِيرِهِمَا وَإِنْ كَانَ مَلَكًا مُقَرَّبًا أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَّا مَنْ سَخَّرَهُ - تَعَالَى - لِلْقِيَامِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَاضِعًا لِذَلِكَ التَّسْخِيرِ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ فِيهِ عَنِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِرَسُولِهِ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ وَالدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: " يَعْنِي بِذَلِكَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - لَيْسَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَلِلَّهِ جَمِيعُ مَا بَيْنَ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا، دُونَكَ وَدُونَهُمْ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا شَاءَ، وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا أَحَبَّ، فَيَتُوبُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ الْعَاصِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُ، وَيُعَاقِبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى جُرْمِهِ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُ غَفُورٌ الْغَفُورُ: الَّذِي يَسْتُرُ ذُنُوبَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ مِنْ خَلْقِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَرَحِيمٌ بِهَمْ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ - عَاجِلًا - عَلَى عَظِيمِ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْمَآثِمِ اهـ. وَلَا تَنْسَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ الْمَغْفِرَةَ أَوِ التَّعْذِيبَ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ مُطَّرِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ - رَاجِعْ ص ٢٢٣ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ [طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
قَالَ الرَّازِيُّ هُنَا: " اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا شَرَحَ عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِي الْجِهَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا
قَبْلَهَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ - رَحِمَهُ اللهُ -: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْفَقُوا عَلَى تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي بَيَانِ أَنَّ اللهَ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَذِلَّةٌ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نُصِرُوا بِتَقْوَى اللهِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; وَلِذَلِكَ خُذِلُوا فِي أُحُدٍ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ وَالطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْدُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مَا اعْتَصَمُوا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُوَادَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ وَاتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَابَى كَمَا كَانُوا يُرَابُونَ، وَكَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مَظِنَّةَ أَنْ يُرَابِيَ تَوَسُّلًا لِجَلْبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ بِسُهُولَةٍ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ هَكَذَا: نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِشُرُوطِهَا الَّتِي هِيَ مَثَارُ الضَّرَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ بِهِ ضَرَرَهُمْ وَشَرَّ كَيْدِهِمْ وَهُوَ تَقْوَى اللهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ طَرْدًا وَعَكْسًا بِذِكْرِ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ مِنْ شَرِّ أَعْمَالِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ وَمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَشَدِّهَا ضَرَرًا وَهُوَ أَكْلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً (قَالَ) : وَقَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ تَمْهِيدًا لِهَذَا النَّهْيِ وَحُجَّةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ الْمُتَوَقَّعَ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ سَبَبَ السَّعَادَةِ وَإِنَّمَا سَبَبُهَا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْوَى وَالِامْتِثَالِ.
أَقُولُ: وَيُقَوِّي رَأْيَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ آيَةً فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْيَهُودِ، وَوَرَدَتْ قِصَّةُ أُحُدٍ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَائِهَا يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى الْيَهُودِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْمَالِ وَالنَّفَقَاتِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَإِنْفَاقِهِ وَفِي آخِرِهَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُنَاسَبَةٌ وَاشْتِبَاكٌ بِصِلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْيَهُودِ، وَالْحَرْبُ مِمَّا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَحَالُ الْيَهُودِ فِيهِ مَعْلُومَةٌ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَالدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الطَّمَعِ فِيهِ، وَشَرُّهُ أَكْلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ النَّهْيَ عَنْ هَذَا الشَّرِّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ الْخَيْرِ تَقْدِيمًا لِلتَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً هَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَآيَاتُ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ، بَلْ هِيَ آخِرُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ نُزُولًا، وَالْمُرَادُ بِالرِّبَا فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ عِنْدَ نُزُولِهَا لَا مُطْلَقُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ، فَمَا كُلُّ مَا يُسَمَّى زِيَادَةً مُحَرَّمٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فِي إِسْلَامِكُمْ، بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَهُ
لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَضْعَفَهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَضْعَفَهُ أَيْضًا فَتَكُونُ مِائَةً فَيَجْعَلُهَا إِلَى قَابِلٍ مِائَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَعَلَهَا أَرْبَعَمِائَةٍ يُضَعِّفُهَا لَهُ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ يَقْضِيهِ قَالَ: فَهَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ زَيْدٌ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) الْآيَةَ هُوَ مِنَ الرِّبَا الْفَاحِشِ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْمُرَكَّبِ، وَتَرَى أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ السَّلَفِ فِي تَصْوِيرِ الرِّبَا كُلِّهِ فِي اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ كَأَنْ يُعْطِيهِ الْمِائَةَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتَفُونَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالْقَلِيلِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَقْضِ الْمَدِينُ - وَهُوَ فِي قَبْضَتِهِمْ - اضْطَرُّوهُ إِلَى قَبُولِ التَّضْعِيفِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْسَاءِ وَمَا قَالُوهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَمِنْهُ عِبَارَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الشَّهِيرَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ ص٩٥ ج ٣ [طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ قَالَ: " هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِ زَادَهُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ " وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّرْعِ بِرِبَا النَّسِيئَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي الزَّوَاجِرِ: أَنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الْإِنْسَاءُ فِيهِ بِالشُّهُورِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الرِّبَا: " وَرِبَا النَّسِيئَةِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ لِغَيْرِهِ إِلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقٍ بِحَالِهِ
وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ.
وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الرِّبَا قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَالْآخَرُ تَعَبُّدِيٌّ، أَيْ إِنَّ الْأَوَّلَ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَهُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ - وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ضَرَرِ الرِّبَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالتَّفْصِيلِ - وَالثَّانِي لَا يُعْرَفُ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالتَّعَبُّدِيِّ، أَيْ أَنَّهُ حَرُمَ عَلَيْنَا لِنَتْرُكَهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فَقَطْ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَهُوَ:
الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ. فَالْجَلِيُّ حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حَرُمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدٌ وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى
مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ ; تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لِأَخِيهِ فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَآذَنَ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي كَبِيرَةٍ غَيْرَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَ هَذَا كَلِمَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرِّبَا الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا آنِفًا - وَيَعْنِي بِذِكْرِهَا هُنَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الرِّبَا الَّذِي يُعَدُّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ لَا الرِّبَا الَّذِي حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَرِبَا الْفَضْلِ ; فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الزِّنَا وَالنَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمْسِ يَدِهَا كَذَلِكَ أَوِ الْخَلْوَةِ بِهَا وَلَوْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لِذَاتِهَا بَلْ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ، أَيْ لِئَلَّا تَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى الزِّنَا الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمُحَرَّمِ الشَّدِيدِ ضَرَرُهُ كَالزِّنَا وَأَكْلِ الرِّبَا الْمُضَاعَفِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسِفًا تَائِبًا مِنْ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ - وَهُوَ تَقْبِيلُ امْرَأَةٍ فِي الطَّرِيقِ - وَسَأَلَهُ عَنْ كَفَّارَةِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ كَفَّارَةٌ لَهُ أَيْ مَعَ التَّوْبَةِ، قَالُوا وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [١١: ١٤٤] وَلَوْ كَانَ زَنَا بِهَا لَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَمْ يَرْحَمْهُ. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الرِّبَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ خَطَأٌ ; فَإِنَّ مِنْهَا عِنْدَهُ بَيْعَ قِطْعَةٍ مِنَ الْحُلِيِّ كَسِوَارٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا دَنَانِيرَ، أَوْ بَيْعِ كَيْلٍ مِنَ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِكَيْلٍ وَحَفْنَةٍ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَبَايِعَيْنِ وَحَاجَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا أَخَذَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي نَهْيِ الْقُرْآنِ وَلَا فِي وَعِيدِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ خَلْوَةَ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ لَا يَشْتَهِيهَا وَلَا تَشْتَهِيهِ كَالزِّنَا فِي حُرْمَتِهِ وَوَعِيدِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ رِبَا الْفَضْلِ ; لِأَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَرِيعَةً لِلرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى رِبًا، فَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الرِّبَا عَلَى الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ الَّتِي لَا دَخْلَ لِلْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا كَالْغَيْبَةِ، فَفِي حَدِيثِ الْبَزَّارِ.
بِسَنَدٍ قَوِيٍّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الزَّوَاجِرِ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ أَيْ غِيبَتُهُ. وَحَدِيثُ أَبِي يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا أَتَدْرُونَ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللهِ؟ قَالُوا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [٣٣: ٥٨] وَفِي مَعْنَاهُمَا أَحَادِيثُ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيِّ
الْمُحَرَّمُ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمَا كُلُّ مُحَرَّمٍ تُلْجِئُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَالْمُحَرَّمُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ قَدْ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: " وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْعَرَايَا فَإِنَّهُ مَا حُرِّمَ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ " ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْلَ فِي حِلِّ بَيْعِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَحَقَّقَ أَنَّ لِلصَّنْعَةِ قِيمَةً فِي نَفْسِهَا ثُمَّ قَالَ: " يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا أُبِيحَتِ الْعَرَايَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ وَكَمَا أُبِيحَتْ ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ - أَيْ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ - لِلْخَاطِبِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ وَالْعَامِلِ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حُرِّمَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ الْمَلْعُونِ فَاعِلُهُ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ الْمَصُوغَةِ صِيَاغَةً مُبَاحَةً بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ إِنَّمَا كَانَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ ; فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إِلَّا بِهِ أَوْ بِالْحِيَلِ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ " إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ بِرُمَّتِهِ فِي الْمَنَارِ (ص ٥٤٠ م ٩)
إِنَّمَا تَعَرَّضْتُ هُنَا لِرِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ لَيْسَ مِمَّا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِلتَّفْرِقَةِ، وَلِأَنَّ مَسْأَلَةَ الرِّبَا قَدْ قَامَتْ لَهَا الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ وَقَعَدَتْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَاقْتَرَحَ كَثِيرُونَ إِنْشَاءَ بَنْكٍ إِسْلَامِيٍّ وَأُلْقِيَتْ فِيهَا خُطَبٌ كَثِيرَةٌ فِي نَادِي دَارِ الْعُلُومِ بِالْقَاهِرَةِ خَالَفَ فِيهَا بَعْضُ الْخُطَبَاءِ بَعْضًا فَمَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَنْعِ كُلِّ مَا عَدَّهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّبَا، وَأَنْحَى بَعْضُهُمْ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِقَوْلِهِمْ، وَمَالَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ مَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ أَوِ الْمُضَاعَفِ، فَغَلَا بَعْضُهُمْ وَتَوَسَّطَ بَعْضٌ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِتَحْرِيرِ الْبَحْثِ وَإِقْنَاعِ النَّاسِ بِشَيْءٍ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الرَّأْيُ، وَفِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خُتِمَ فِيهَا هَذَا الْبَحْثُ أَلْقَى كَاتِبُ هَذَا خِطَابًا وَجِيزًا فِي الْمَسْأَلَةِ قَالَ رَئِيسُ النَّادِي حِفْنِي بِكْ نَاصِفْ فِي خُطْبَتِهِ الْخِتَامِيَّةِ: إِنَّهُ فَصْلُ الْخِطَابِ وَرَغَّبَ إِلَيْنَا هُوَ (رَئِيسُ النَّادِي) وَغَيْرُهُ أَنْ نُدَوِّنَهُ، وَهَذَا هُوَ بِالْمَعْنَى:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) النَّظَرُ فِيهَا مِنَ الْجِهَةِ النَّظَرِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فَتَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّانِيَةِ! الْمُحْكَمَةِ فَهُوَ خَيْرٌ وَإِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ وَمُوَافِقٌ لِمَصَالِحِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ الْيَوْمَ أَنَّ إِبَاحَةَ الرِّبَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْمَدَنِيَّةِ لَا تَقُومُ بِدُونِهِ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَامَلُ بِالرِّبَا لَا تَرْتَقِي مَدَنِيَّتُهَا وَلَا يُحْفَظُ كِيَانُهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنْ تَرَكَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ أَكْلَ الرِّبَا فَصَارَ الْوَاجِدُونَ فِيهَا يُقْرِضُونَ الْعَادِمِينَ قَرْضًا حَسَنًا، وَيَتَصَدَّقُونَ عَلَى الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ، وَيَكْتَفُونَ بِالْكَسْبِ مِنْ مَوَارِدِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ وَمِنْهَا الْمُضَارَبَةُ لَمَا زَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ إِلَّا ارْتِقَاءً بِبِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْفَضِيلَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّعَاوُنِ الَّذِي يُحَبِّبُ الْغَنِيَّ إِلَى الْفَقِيرِ وَلَمَا وُجِدَ فِيهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ الْغَالُونَ، وَالْفَوْضَوِيُّونَ الْمُتَغَالُونَ، وَقَدْ قَامَتْ لِلْعَرَبِ مَدَنِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا مِنْ أَرْكَانِهَا فَكَانَتْ خَيْرَ مَدَنِيَّةٍ فِي زَمَنِهِمْ، فَمَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مَنْعِ الرِّبَا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَدَنِيَّةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ هِدَايَةٍ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) النَّظَرُ فِيهَا مِنَ الْجِهَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ الْآنَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرِينَ يُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لِلْإِسْلَامِ دُوَلٌ قَوِيَّةٌ وَأُمَمٌ عَزِيزَةٌ تُقِيمُ الشَّرْعَ وَتَهْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لَأَمْكَنَهَا الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الرِّبَا، وَلَكَانَتْ مَدَنِيَّتُهَا بِذَلِكَ أَفْضَلَ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، لِأَنَّ شَرْعَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبِيحَ الرِّبَا، وَهُوَ دِينٌ غَرَضُهُ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ وَإِصْلَاحُ حَالِ الْمُجْتَمَعِ لَا تَوْفِيرُ ثَرْوَةِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ فِيهِ أُمَمٌ إِسْلَامِيَّةٌ ذَاتُ دُوَلٍ قَوِيَّةٍ تُقِيمُ الْإِسْلَامَ وَتَسْتَغْنِي عَمَّنْ يُخَالِفُهَا فِي أَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا زِمَامُ الْعَالَمِ فِي أَيْدِي أُمَمٍ مَادِّيَّةٍ قَدْ قَبَضَتْ عَلَى أَزِمَّةِ الثَّرْوَةِ فِي الْعَالَمِ حَتَّى صَارَ سَائِرُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ عِيَالًا عَلَيْهَا. فَمَنْ جَارَاهَا مِنْهُمْ فِي طُرُقِ كَسْبِهَا - وَالرِّبَا مِنْ أَرْكَانِهِ - فَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَحْفَظَ وُجُودَهُ مَعَهَا. وَمَنْ لَمْ يُجَارِهَا فِي ذَلِكَ انْتَهَى أَمْرُهُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا، فَهَلْ يُبِيحُ الْإِسْلَامُ لِشَعْبٍ مُسْلِمٍ - هَذِهِ حَالُهُ مَعَ الْأُورُوبِّيِّينَ كَالشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ - أَنْ يَتَعَامَلَ بِالرِّبَا لِيَحْفَظَ ثَرْوَتَهُ وَيُنَمِّيَهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِلِاسْتِقْلَالِ أَمْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ حَالَةُ ضَرُورَةٍ - وَيُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِاسْتِنْزَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِثَرْوَتِهِ وَهِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ؟
هَذَا مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُسْلِمِي مِصْرَ الْآنَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ - بَعْدَ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوَافِقُ مَصَالِحَ الْآخِذِينَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ - مِنْ وَجْهَيْنِ يُوَجَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَيُوَجَّهُ إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّلِيلَ وَيَتَحَرَّوْنَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ فَلَا يُبِيحُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْخُرُوجَ عَنْهَا بِحِيلَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ
الْإِسْلَامَ كُلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ الْيُسْرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الثَّابِتَةِ بِنَصِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢: ١٨٥] وَقَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] وَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْإِسْلَامِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَهُوَ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَمِنْهُ رِبَا النَّسِيئَةِ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا تَظْهَرُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِهِ، أَيْ إِلَى أَنْ يُقْرِضَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَيَأْكُلَ مَالَهُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، كَمَا تَظْهَرُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ أَحْيَانًا. وَالثَّانِي مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِغَيْرِهِ كَرِبَا الْفَضْلِ الْمُحَرَّمِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً وَسَبَبًا لِرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ وَلِلْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَأَوْرَدَ لَهُ الْأَمْثِلَةَ مِنَ الشَّرْعِ فَقَسَّمَ الرِّبَا إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَعَدَّهُ مِنَ الْخَفِيِّ (وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ آنِفًا).
فَأَمَّا الْأَفْرَادُ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فَيَعْرِفُ كُلٌّ مِنْ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ أَوْ مُحْتَاجٌ إِلَى أَكْلِ هَذَا الرِّبَا وَإِيكَالِهِ غَيْرَهُ فَلَا كَلَامَ لَنَا فِي الْأَفْرَادِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ تَحْدِيدُ ضَرُورَةِ الْأُمَّةِ أَوْ حَاجَتِهَا فَهُوَ الَّذِي فِيهِ التَّنَازُعُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ لِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ، أَيْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالشَّأْنِ فِيهَا وَالْعِلْمِ بِمَصَالِحِهَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [٤: ٨٣] فَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَجْتَمِعَ أُولُو الْأَمْرِ مِنْ مُسْلِمِي هَذِهِ الْبِلَادِ - وَهُمْ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَرِّسِينَ وَالْقُضَاةُ وَرِجَالُ الشُّورَى وَالْمُهَنْدِسُونَ وَالْأَطِبَّاءُ وَكِبَارُ الْمُزَارِعِينَ وَالتُّجَّارُ - وَيَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ يَكُونُ الْعَمَلُ بِمَا يُقَرِّرُونَ أَنَّهُ قَدْ مَسَّتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوْ أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ حَاجَةُ الْأُمَّةِ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا قُلْتُهُ فِي نَادِي دَارِ الْعُلُومِ.
هَذَا وَإِنَّ مُسْلِمِي الْهِنْدِ قَدْ سَبَقُوا مُسْلِمِي مِصْرَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُوا الْكِتَابَةَ فِيهَا فِي الْجَرَائِدِ وَلَكِنَّهُمْ طَرَقُوا بَابًا لَمْ يَطْرُقْهُ الْمِصْرِيُّونَ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ مِنْ إِبَاحَةِ
قَوَانِينِ الدُّوَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ السُّلْطَانِ صَاحِبِ السِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي النَّائِبِينَ عَنْهُ فِيهَا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَنْعَ الرِّبَا مِنْهَا وَلَا غَيْرَ الرِّبَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا الْقَانُونُ الْمِصْرِيُّ.
وَالْأَضْعَافُ جَمْعُ قِلَّةٍ لِضِعْفٍ (بِكَسْرِ الضَّادِ) وَضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ الَّذِي يَثْنِيهِ فَضِعْفُ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَهُوَ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ثَنَّاهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ، أَيِ الَّتِي يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودَ آخَرَ مِنْ جِنْسِهَا كَالنِّصْفِ وَالزَّوْجِ وَيَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ، فَإِذَا ضَاعَفْتَ الشَّيْءَ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ مِثْلَهُ مَرَّةً فَأَكْثَرَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَقَطْ (الَّتِي هِيَ الرِّبَا) يَصِحُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِتَأْخِيرِ أَجَلِ الدَّيْنِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَضْعَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا وَاقِعٌ الْآنَ، فَإِنَّنِي رَأَيْتُ فِي مِصْرَ مَنِ اسْتَدَانَ بِرِبَا ثَلَاثَةٍ فِي الْمِائَةِ كُلَّ يَوْمٍ، فَانْظُرْ كَمْ ضِعْفًا يَكُونُ فِي السَّنَةِ! وَقَدْ قَالَ: (مُضَاعَفَةً) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَضْعَافِ كَأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءً عَلَى الْأَضْعَافِ ثُمَّ تَأْتِي الْمُضَاعَفَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ وَزِيَادَةِ الْمَالِ.
وَأَقُولُ: حَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا حَالَ كَوْنِهِ أَضْعَافًا تُضَاعَفُ بِتَأْخِيرِ أَجَلِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، وَزِيَادَةُ الْمَالِ ضِعْفُ مَا كَانَ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْبُخْلِ وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَةِ الْمُعْوِزِ أَوْ حَاجَتَهُ وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْبُؤْسِ فَلَا تُحَمِّلُوهُمْ مِنَ الدَّيْنِ هَذِهِ الْأَثْقَالَ الَّتِي تَرْزَحُهُمْ وَرُبَّمَا تُخْرِبُ بُيُوتَهُمْ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ فِي دُنْيَاكُمْ بِالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ فَتَتَحَابُّونَ، وَالْمَحَبَّةُ أُسُّ السَّعَادَةِ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الطَّمَعُ وَالْبُخْلُ فَكَانُوا فِتْنَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَعْدَاءِ الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فِيمَا نَهَيا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَمَا أَمَرَا بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فِي الدُّنْيَا بِمَا تُفِيدُكُمُ الطَّاعَةُ مِنْ صَلَاحِ حَالِ مُجْتَمَعِكُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ; فَإِنَّ الرَّاحِمِينَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا النَّارَ إِلَخْ وَعِيدٌ لِلْمُرَابِينَ بِجَعْلِهِمْ مَعَ الْكَافِرِينَ إِذَا عَمِلُوا فِيهِ عَمَلَهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ الرِّبَا قَرِيبٌ مِنَ الْكُفْرِ. وَهَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، ثُمَّ أَكَّدَهُ أَيْضًا بِالْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، فَمُؤَكِّدَاتُ التَّنْفِيرِ مِنَ الرِّبَا أَرْبَعَةٌ. وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ الرِّبَا لَيْسَتْ مَدَنِيَّةً مَحْضَةً بَلْ هِيَ
ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ بِاتِّقَاءِ النَّارِ اتِّبَاعًا لِلْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَقَرْنًا لِلتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فَقَالَ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ هِيَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى أَسْبَابِهَا وَمَا يُعِدُّ الْإِنْسَانُ لِنَيْلِهِمَا مِنَ التَّوْبَةِ عَنِ الْإِثْمِ كَالرِّبَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبِرِّ كَالصَّدَقَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ " سَارِعُوا " بِغَيْرِ وَاوٍ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ عَرْضِ الْجَنَّةِ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهَا بِالسَّعَةِ وَالْبَسْطَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِأَوْسَعِ مَا عَلِمَهُ النَّاسُ، وَخَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً أَقَلَّ مِنَ الطُّولِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: هُيِّئَتْ لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ اهـ.
وَهُوَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ الْآنَ كَمَا فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَنَّةِ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ بِالْفِعْلِ أَمْ تُوجَدُ بَعْدُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْخِلَافِ وَلَا هُوَ مِمَّا يَصِحُّ التَّفَرُّقُ وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالصِّفَاتِ الْخَمْسِ الْآتِيَةِ فَقَالَ:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أَيْ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ وَحَالَةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرَةِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [٦٥: ٧] وَالسَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي تَسُرُّ، وَالضَّرَّاءُ مِنَ الضَّرَرِ أَيِ الْحَالَةُ الضَّارَّةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَهُمَا بِالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ.
وَقَدْ بَدَأَ وَصْفُ الْمُتَّقِينَ بِالْإِنْفَاقِ لِوَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) مُقَابَلَتُهُ بِالرِّبَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ; فَإِنَّ الرِّبَا هُوَ اسْتِغْلَالُ الْغَنِيِّ حَاجَةَ الْمُعْوِزِ وَأَكْلُ مَالِهِ
بِلَا مُقَابِلٍ، وَالصَّدَقَةُ إِعَانَةٌ لَهُ وَإِطْعَامُهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهِيَ ضِدُّ الرِّبَا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الرِّبَا إِلَّا وَقُبِّحَ وَمُدِحَتْ مَعَهُ الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ:
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [٣٠: ٣٩] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [٢: ٢٧٦].
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَأَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَأَنْفَعُ لِلْبَشَرِ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الْمَالَ عَزِيزٌ عَلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمُؤْلِمَاتِ، وَبَذْلُهُ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ
يَقُولُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ: إِنَّ تَكْلِيفَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ الْبَذْلَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا غِنَاءَ فِيهِ وَرُبَّمَا يَقُولُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا - يَعْنِي أَنَّهُ يَنْتَقِدُ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ، وَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ يُفِيدُنَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْفَقِيرِ كَرِيمَةً فِي ذَاتِهَا وَأَنْ يَتَعَوَّدَ صَاحِبُهَا الْإِحْسَانَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَبِذَلِكَ تَرْتَفِعُ نَفْسُهُ وَتَطْهُرُ مِنَ الْخِسَّةِ وَهِيَ الرَّذِيلَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْفُقَرَاءِ فَتَجُرُّهُمْ إِلَى رَذَائِلَ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِنَّ النَّظَرَ يَهْدِينَا إِلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْكَثِيرِ كَثِيرٌ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ فَقِيرٍ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ مَثَلًا يَبْذُلُ فِي السَّنَةِ قِرْشًا وَاحِدًا لِأَجْلِ التَّعْلِيمِ لَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ أُلُوفُ الْأُلُوفِ وَتَيَسَّرَ بِهِ عَمَلٌ فِي الْبِلَادِ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَنْفَقَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ إِلَخْ.
إِذَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - قَدْ جَعَلَ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِهِ عَلَامَةً عَلَى التَّقْوَى أَوْ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا حَتَّى فِي حَالِ الضَّرَّاءِ، وَكَانَ انْتِفَاؤُهُ عَلَامَةً عَلَى عَدَمِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ أَهْلِ السَّرَّاءِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ؟ وَهَلْ يُغْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ شَيْءٍ أَدَاءُ الرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَمَرَّنُونَ عَلَيْهَا عَادَةً مَعَ النَّاسِ؟
٢ - وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْغَيْظُ أَشَدُّ الْغَضَبِ وَهُوَ الْحَرَارَةُ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ فَوَرَانِ دَمِ قَلْبِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْظُ أَلَمٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ إِذَا هُضِمَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا الْمَادِّيَّةِ كَالْمَالِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالشَّرَفِ، فَيُزْعِجُهَا إِلَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَمَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الْغَيْظِ إِلَى الِانْتِقَامِ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْحَقِّ بَلْ يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْبَغْيِ ; فَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ التَّقْوَى كَظْمُهُ، وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: إِنَّ الْغَيْظَ هَيَجَانُ الطَّبْعِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُنْكَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَضَبِ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ الْغَضَبَ يَتْبَعُهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ أَلْبَتَّةَ وَلَا كَذَلِكَ الْغَيْظُ، وَقِيلَ: الْغَضَبُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ وَالْغَيْظُ لَيْسَ كَذَلِكَ اهـ.
وَالِاقْتِصَارُ فِي سَبَبِ الْغَيْظِ عَلَى رُؤْيَةِ مَا يُنْكَرُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَمَّا الْكَظْمُ فَقَدْ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: كَظَمَ الْبَعِيرُ جِرَّتَهُ ازْدَرَدَهَا وَكَفَّ عَنِ الِاجْتِرَارِ.. وَكَظَمَ الْقِرْبَةَ مَلَأَهَا وَسَدَّ رَأْسَهَا، وَكَظَمَ
وَكَظَمَهُ الْغَيْظُ وَالْغَمُّ: أَخَذَ بِنَفَسِهِ فَهُوَ مَكْظُومٌ وَكَظِيمٌ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [٦٨: ٤٨] ظِلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [١٦: ٥٨] وَ: مَا كَظَمَ فُلَانٌ عَلَى جِرَّتِهِ: إِذَا لَمْ يَسْكُتْ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى تَكَلَّمَ بِهِ. وَ: غَمَّنِي وَأَخَذَ بِكَظَمِي، وَهُوَ مَخْرَجُ النَّفَسِ وَبِأَكْظَامِي اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَصْلُ الْكَظْمِ مَخْرَجُ النَّفَسِ، وَالْغَيْظُ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْجِسْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَثُورُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْمِلَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
فَلِذَلِكَ سَمَّى حَبْسَهُ وَإِخْفَاءَ أَثَرِهِ كَظْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَصْلِ مَعْنَى الْكَظْمِ: وَمِنْهُ كَظْمُ الْغَيْظِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يُظْهِرُ لَهُ أَثَرًا.
وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ خَادِمًا لَهَا غَاظَهَا فَقَالَتْ: " لِلَّهِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لَذِي غَيْظٍ شِفَاءً ".
٣ - وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ: هُوَ التَّجَافِي عَنْ ذَنْبِ الْمُذْنِبِ مِنْهُمْ وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَتِلْكَ مَرْتَبَةٌ فِي ضَبْطِ النَّفْسِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهَا وَكَرَمِ الْمُعَامَلَةِ قَلَّ مَنْ يَتَبَوَّأُهَا، فَالْعَفْوُ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ، إِذْ رُبَّمَا يَكْظِمُ الْمَرْءُ غَيْظَهُ عَلَى حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ.
٤ - وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ أَعْلَى مِنْهُمَا وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَالْإِحْسَانُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى مَا سَبَقَهُ مِنَ الصِّفَاتِ بَلْ صَاغَهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَمْيِيزًا لَهُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - لَا لِمَزِيدِ مَدْحِ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، وَلَا مُجَرَّدَ مَدْحِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ أُولَئِكَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قِيلَ - فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ وَصْفٌ رَابِعٌ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا يَتَّضِحُ مِنَ الْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ: يُرْوَى أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ غَاظَهُ غُلَامٌ لَهُ فَجْأَةً غَيْظًا شَدِيدًا فَهَمَّ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ فَقَالَ الْغُلَامُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فَقَالَ: كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَ الْغُلَامُ: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْكَ، قَالَ: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تُبَيِّنُ لَكَ تَرَتُّبَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ.
٥ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ؟ الْفَاحِشَةُ: الْفَعْلَةُ الشَّدِيدَةُ الْقُبْحِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ، وَلَعَلَّ الْفَاحِشَةَ مَا تَتَعَدَّى، وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ " وَذِكْرُ اللهِ عِنْدَ الذَّنْبِ يَكُونُ بِتَذَكُّرِ نَهْيِهِ وَوَعِيدِهِ أَوْ عِقَابِهِ أَوْ تَذَكُّرِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُمَا مَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ دُنْيَا لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا عِنْدَ الذَّنْبِ النَّهْيَ وَالْعُقُوبَةَ فَيُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَمَرْتَبَةٌ عُلْيَا لِخَوَاصِّ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ أَنْ يَذْكُرُوا - إِذَا فَرَطَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ - ذَلِكَ الْمَقَامَ الْإِلَهِيَّ الْأَعْلَى الْمُنَزَّهَ عَنِ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ كَمَالٍ، وَمَا يَجِبُ مِنْ طَلَبِ قُرْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّخَلُّقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْآمَالِ، فَإِذَا هُمْ تَذَكَّرُوا انْصَرَفَ عَنْهُمْ طَائِفُ الشَّيْطَانِ، وَوَجَدُوا نَفْسَ الرَّحْمَنِ،
وَالْحَاكِمُ بِسُلْطَانِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيعِ، فَهَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ غَيْرُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ إِلَخْ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا عَلَى ذَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى عَنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِرُّ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى صَاحِبُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الذُّنُوبَ فُسُوقٌ عَنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى قَانُونِ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيمَةِ وَبُعْدٌ عَنْ مَقَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ إِلَى قُرْبِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ يَخْضَعُ لِقَوَانِينِ الْحُكَّامِ الْوَضْعِيَّةِ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمَنْ يَخْضَعُ لَهَا احْتِرَامًا لِلنِّظَامِ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ - تَعَالَى -:
كُلُّهُمْ يَعْبُدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ | وَيَرَوْنَ النَّجَاةَ حَظًّا جَزِيلَا |
أَوْ لِأَنْ يَسْكُنُوا الْجِنَانَ فَيَحْظَوْا | بِقُصُورٍ وَيَشْرَبُوا سَلْسَبِيلَا |
لَيْسَ لِي فِي الْجَنَانِ وَالنَّارِ حَظٌّ | أَنَا لَا أَبْتَغِي سِوَاكَ بَدِيلَا |
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [٣: ١٧] وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ فَهِمْتَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهَا جَعَلَتْ كُلًّا مِنْ
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا يَعْنِيُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْوَعْدِ وَتَفْصِيلُ مَا لِلْمَوْعُودِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً إِلَخْ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ قِسْمٌ مُسْتَقِلٌّ وَأَنَّ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، لَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [٢: ٢٥] فَلَا نُعِيدُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ فَهُوَ نَصٌّ فِي أَجْزَاءٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ إِصْلَاحٌ لِحَالِ الْأُمَّةِ كَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إِصْلَاحٌ لِنَفْسِ الْعَامِلِ، وَكُلُّهَا مِمَّا يُرَقِّي النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ، حَتَّى تَكُونَ أَهْلًا لِتِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، أَيْ وَنِعْمَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّاتِ أَجْرًا لِلْعَامِلِينَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ كَالْإِنْفَاقِ، وَالنَّفْسِيَّةَ كَعَدَمِ الْإِصْرَارِ، وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي التَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا فِي قِصَّةِ أُحُدٍ وَمَا فِيهَا مِنَ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ إِلَخْ. الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرْنَا حِكْمَةَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَالْأَمْرِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَوَصْفِ الْمُتَّقِينَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْغُفْرَانَ وَالْجَنَّاتِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَعَلَى التَّوْبَةِ
ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ خَبَرَ وَقْعَةِ " أُحُدٍ " وَأَهَمَّ مَا وَقَعَ فِيهَا مَعَ التَّذْكِيرِ بِوَقْعَةِ " بَدْرٍ " وَمَا بَشَّرُوا بِهِ فِي ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا يَذْكُرُ السُّنَنَ وَالْحِكَمَ فِي ذَلِكَ. وَيُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ; وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ الْحَكِيمِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْوَهَنِ وَالْحَزَنِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا جَرَى (الْجَلَالُ) كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْعِفَ عَزَائِمَكُمْ فَإِنَّ السُّنَنَ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ تُبَيِّنُ لَكُمْ كَيْفَ كَانَتْ مُصَارَعَةُ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ، وَكَيْفَ ابْتُلِيَ أَهْلُ الْحَقِّ أَحْيَانًا بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالِانْكِسَارِ فِي الْحَرْبِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الْمُقَاوِمِينَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمَخْذُولِينَ الْمَغْلُوبِينَ، وَكَانَ جُنْدُ اللهِ هُمُ الْمَنْصُورِينَ الْغَالِبِينَ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا لِمَا أَصَابَكُمْ فِي أُحُدٍ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ إِيضَاحٍ وَزِيَادَةٍ: هَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ ذِكْرَ السُّنَنِ بَعْدَ آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي مَوْضُوعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ بَدَتْ لَهُمْ بُغَضَاؤُهُمْ، وَبَيَّنَ هُوَ لَهُمْ مَجَامِعَ خُبْثِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِوَقْعَةِ " أُحُدٍ " وَمَا كَانَ فِيهَا بِالْإِجْمَالِ، وَذَكَّرَهُمْ
بِنَصْرِهِ لَهُمْ بِبَدْرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ وَأَوْصَافَهُمْ وَمَا وُعِدُوا بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضِيَّ السُّنَنِ فِي الْأُمَمِ وَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، فَذِكْرُ السُّنَنِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ طَوِيلٍ جِدًّا لَا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا قِيلَ. وَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِفَادَةِ الْمَبَانِي الْقَلِيلَةِ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْأُسْلُوبِ مَا لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْ كُتَّابِ الْبَشَرِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِهِ، يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ: إِنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِبَلَاغَتِهِ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ أُسْلُوبَهُ الَّذِي كَانَ مُعْجِزًا بِهِ فَنًّا لِيَبْقَى دَالًّا عَلَى وَجْهِ إِعْجَازِهِ. وَكَذَلِكَ أَقُولُ: إِنَّ إِرْشَادَ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ سُنَنًا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذِهِ السُّنَنَ عِلْمًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ لِنَسْتَدِيمَ مَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَوْمٌ يُبَيِّنُونَ لَهَا سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا فَعَلُوا فِي غَيْرِ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ بِالْإِجْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّفْصِيلِ عَمَلًا بِإِرْشَادِهِ، كَالتَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ وَالْفِقْهِ. وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا، وَالْقُرْآنُ سَجَّلَ
سَمِّ بِمَا شِئْتَ فَلَا حَرَجَ فِي التَّسْمِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ ; فَإِذَا
أَنْتُمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ، وَإِنْ سَلَكْتُمْ سُبُلَ الْمُكَذِّبِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُحُدٍ، فَفِي الْآيَةِ مَجَارِي أَمْنٍ وَمَجَارِي خَوْفٍ، فَهُوَ عَلَى بِشَارَتِهِ لَهُمْ فِيهَا بِالنَّصْرِ وَهَلَاكِ عَدُوِّهِمْ يُنْذِرُهُمْ عَاقِبَةَ الْمَيْلِ عَنْ سُنَنِهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَارُوا فِي طَرِيقِ الضَّالِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مِثْلِ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَالْآيَةُ خَبَرٌ وَتَشْرِيعٌ، وَفِي طَيِّهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.
وَأَقُولُ: السُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعَبَّدَةُ وَالسِّيرَةُ الْمُتَّبَعَةُ أَوِ الْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ، قِيلَ إِنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَالَى صَبَّهُ، فَشَبَّهَتِ الْعَرَبُ الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ بِالْمَاءِ الْمَصْبُوبِ، فَإِنَّهُ لِتَوَالِي أَجْزَائِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ يَكُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَمَعْنَى (خَلَتْ) : مَضَتْ وَسَلَفَتْ.
أَيْ إِنَّ أَمْرَ الْبَشَرِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ مُصَارَعَةِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ وَالْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ جَرَى عَلَى طُرُقٍ قَوِيمَةٍ وَقَوَاعِدَ ثَابِتَةٍ اقْتَضَاهَا النِّظَامُ الْعَامُّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ أُنُفًا كَمَا يَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا تَحَكُّمًا وَاسْتِبْدَادًا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْحَشْوِيَّةُ.
جَاءَ ذِكْرُ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، كَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [٨: ٣٨] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [١٥: ١٣] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [١٨: ٥٥] وَقَوْلِهِ
هَذَا إِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ، لَمْ يُعْهَدْ فِي كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَعَلَّهُ أُرْجِئَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ كَمَالَ اسْتِعْدَادِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي خَتَمَ اللهُ بِهِ الْأَدْيَانَ.
كَانَ الْمِلِّيُّونَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْيَالِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْحَاكِمِ الْمُسْتَبِدِّ فِي حُكُومَتِهِ، الْمُطْلَقِ فِي سُلْطَتِهِ، فَهُوَ يُحَابِي بَعْضَ النَّاسِ فَيَتَجَاوَزُ لَهُمْ عَمَّا يُعَاقِبُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُمْ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ مِنْ سِوَاهُمْ، لِمُجَرَّدِ
دُخُولِهِمْ فِي عُنْوَانٍ مُعَيَّنٍ، وَانْتِمَائِهِمْ إِلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَيَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْعُنْوَانُ، أَوْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ.
هَذَا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ فِي دِينِهِمْ وَيُسْنِدُونَهُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ الْمُطْلَقَةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ فِي حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَتَطْبِيقِهَا عَلَى سُنَنِهِ الْعَادِلَةِ، فَإِنْ نَبَّهَهُمْ مُنَبِّهٌ إِلَى مَا يُصِيبُهُمْ بَلْ مَا أَصَابَ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالُوا إِنَّهُ - تَعَالَى - يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَذَلِكَ رَفْعُ دَرَجَاتٍ أَوْ تَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَأَشْبَاهُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ، وَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالِيهِ بِعَاطِلِهِ، وَقَدْ كَانَ وَمَا زَالَ عِلَّةَ غُرُورِ أَصْحَابِهِ بِدِينِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ إِنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ وَطَرَائِقَ قَوِيمَةٍ، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْحَرْبِ - مَثَلًا - ظَفِرَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِنْ كَانَ مُلْحِدًا أَوْ وَثَنِيًّا، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَإِنْ كَانَ صِدِّيقًا أَوْ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَجُّوا رَأْسَهُ، وَكَسَرُوا سِنَّهُ، وَأَرْدَوْهُ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ ; كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالسَّيْرِ عَلَى طَرِيقِهَا بَيْنَ الْأُمَمِ ; لِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ ثَابُوا يَوْمَئِذٍ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَتَرَاجَعُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ نَبِيِّهِمْ، وَثَبَتُوا حَتَّى انْجَلَى عَنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ.
وَكَأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ حَفِظُوا مَا وَرَدَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَكَوْنِهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ الْحِجْرِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَالْمَلَائِكَةِ أَوْ فَاطِرٍ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ - أَوْ حَفِظُوا وَلَمْ يَفْقَهُوهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ انْطِبَاقُهُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [٣: ١٦٥] لِذَلِكَ صَرَّحَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْآيَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَنَهُ أَنَّ لَهُ
وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيمُ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْبِيقٍ عَلَى الْوَاقِعِ مِمَّا يُنْسَى أَوْ يَقِلُّ الِاعْتِبَارُ
بِهِ نَبَّهَهُمْ عَلَى هَذَا التَّطْبِيقِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى تَطْبِيقِهِ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَقَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْمُصَارَعَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْحَقِّ يَغْلِبُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَيُنْصَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى (أَيِ اتِّقَاءَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَدَرَجَةِ اسْتِعْدَادِ الْأَعْدَاءِ) وَكَانَ ذَلِكَ يَجْرِي بِأَسْبَابٍ مُطَّرِدَةٍ وَعَلَى طَرَائِقَ مُسْتَقِيمَةٍ، يُعْلَمُ مِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِذَا حَافَظَ عَلَيْهِ يُنْصَرُ وَيَرِثُ الْأَرْضَ، وَإِنَّ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهُ وَيَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُخْذَلُ وَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ الدَّمَارَ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَاسْتَقْرُوا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ لِيَحْصُلَ لَكُمُ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلِيُّ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُوا فَسِيرُوا. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ.
قَالَ: وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْمَاضِينَ وَتَعَرُّفُ مَا حَلَّ بِهِمْ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ السُّنَنِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا كَمَا يَنْبَغِي. نَعَمْ: إِنَّ النَّظَرَ فِي التَّارِيخِ الَّذِي يَشْرَحُ مَا عَرَفَهُ الَّذِينَ سَارُوا فِي الْأَرْضِ وَرَأَوْا آثَارَ الَّذِينَ خَلَوْا يُعْطِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ وَيُفِيدُهُ عِظَةً وَاعْتِبَارًا وَلَكِنْ دُونَ اعْتِبَارِ الَّذِي يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ وَيَرَى الْآثَارَ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالسَّيْرِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ تَتَخَلَّلُهُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ عَقْلٌ يَعْتَبِرُ بِهِ، فَهُوَ يَفْهَمُ أَنَّ السَّيْرَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّهُ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ أَجْدَرُ بِفَهْمِهَا لِأَنَّ كِتَابَهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهَا وَأَجْدَرُ كَذَلِكَ بِالِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ لِسَيْرِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ سُنَنًا يُؤَدِّي بَعْضُهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَبَعْضُهَا إِلَى الْهَلَاكِ وَالشَّقَاءِ وَأَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ تِلْكَ السُّنَنَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ انْتَصَرُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَخُذِلْتُمْ بِتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ. وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَوَاصُلَهُمْ وَتَعَاوُنَهُمْ عَلَى طَلَبِ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ يَكُونُ - مَعَ الثَّبَاتِ - مِنْ أَسْبَابِ نَجَاحِهِمْ وَوُصُولِهِمْ إِلَى مَقْصِدِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يَصِلُونَ إِلَى مَقْصِدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَيَكُونُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْبَاطِلِ قَدْ ثَبَتَ بِاسْتِنَادِهِ إِلَى مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ فَضِيلَةُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالثَّبَاتِ، فَالْفَضَائِلُ لَهَا عِمَادٌ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا قَامَ رَجُلٌ بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ وَلَكِنْ رَأَى جُمْهُورٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُحِقٌّ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ نَافِعٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ نَصْرُهُ فَاجْتَمَعُوا
وَأَقُولُ: إِيضَاحُ النُّكْتَةِ فِي جَعْلِ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِرْشَادَ عَامٌّ، وَأَنَّ جَرَيَانَ الْأُمُورِ عَلَى السُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، تَقِيِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَهِيَ تَدْحَضُ مَا وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا نِيلَ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ سُنَنَ اللهِ حَاكِمَةٌ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ كَمَا هِيَ حَاكِمَةٌ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ. فَمَا مِنْ قَائِدِ عَسْكَرٍ يَكُونُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أُحُدٍ، وَيُعْمَلُ مَعَهُ مَا عَمِلُوا إِلَّا وَيُنَالُ مِنْهُ ; أَيْ يُخَالِفُهُ جُنْدُهُ، وَيَتْرُكُونَ حِمَايَةَ الثَّغْرِ الَّذِي يُؤْتَوْنَ مِنْ قِبَلِهِ، وَيُخَلُّونَ بَيْنَ عَدُوِّهِمْ وَبَيْنَ ظُهُورِهِمْ وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخَطِّ الرَّجْعَةِ مِنْ مَوَاقِعِهِمْ وَالْعَدُوُّ مُشْرِفٌ عَلَيْهِمْ إِلَّا وَيَكُونُونَ عُرْضَةً لِلِانْكِسَارِ إِذَا هُوَ كَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَشَلٍ وَتَنَازُعٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، فَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - سُنَنًا فِي الْأُمَمِ هُوَ بَيَانٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِاسْتِعْدَادِ كُلِّ عَاقِلٍ لِفَهْمِهِ، وَاضْطِرَارِهِ إِلَى قَبُولِ الْحُجَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَتْرُكَ النَّظَرَ أَوْ يُكَابِرَ وَيُعَانِدَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً فَهُوَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَيَتَّعِظُونَ بِمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَقَائِعِ فَيَسْتَقِيمُونَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، هُمُ الَّذِينَ
تَكْمُلُ لَهُمُ الْفَائِدَةُ وَالْمَوْعِظَةُ لِأَنَّهُمْ يَتَجَنَّبُونَ وَيَتَّقُونَ نَتَائِجَ الْإِهْمَالِ الَّتِي يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عَاقِبَتَهَا ضَارَّةٌ، فَلْيَزِنْ مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ إِيمَانَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَيَنْظُرُوا أَيْنَ مَكَانُهُمْ مِنْ هِدَايَتِهَا، وَمَا هُوَ حَظُّهُمْ مِنْ مَوْعِظَتِهَا؟
أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا فَبَدَءُوا بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، ثُمَّ اعْتَبَرُوا بِحَالِ الْأُمَمِ الْقَائِمَةِ وَبَحَثُوا عَنْ أَسْبَابِ عِزِّهَا وَثَبَاتِهَا، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَمْسَوْا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِسُنَنِ اللهِ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ خَلْقِ اللهِ، وَلَرَأَوْا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ سَيْرًا فِي الْأَرْضِ، وَأَشَدُّ مِنْهُمُ اسْتِنْبَاطًا لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَعْرَقُ مِنْهُمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِمَا أَصَابَ
كَلَّا إِنَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ مَنْ يَهْتَدِي بِهِ وَيَتَّعِظُ بِمَوَاعِظِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْهِدَايَةَ وَالْمَوْعِظَةَ مِنْ شُئُونِ الْمُتَّقِينَ الثَّابِتَةِ لَهُمْ، وَالْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إِلَخْ. وَقَدْ مَرَّ وَصْفُ الْمُتَّقِينَ وَذِكْرُ جَزَائِهِمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ فِيهِ وَالْحَثِّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قِوَامُ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْإِيمَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ:
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الْوَهَنُ: الضَّعْفُ فِي الْعَمَلِ وَفِي الْأَمْرِ، وَكَذَا فِي الرَّأْيِ، وَالْحُزْنُ: أَلَمٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ إِذَا فَقَدَتْ مَا تُحِبُّ، أَيْ تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ التَّدْبِيرِ بِمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْجُرْحِ وَالْفَشَلِ فِي أُحُدٍ وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّهْيُ إِنْشَاءً بِمَعْنَى الْخَبَرِ، أَيْ إِنَّ مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَرْحِ فِي أُحُدٍ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوهِنًا لِأَمْرِكُمْ وَمُضْعِفًا لَكُمْ فِي عَمَلِكُمْ وَلَا مُوجِبًا لِحُزْنِكُمْ وَانْكِسَارِ قُلُوبِكُمْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَصْرًا تَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ تَرْبِيَةٌ لَكُمْ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ قَائِدِكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَدْبِيرِهِ الْحَرْبِيِّ الْمُحْكَمِ، وَفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ فِي الْأَمْرِ، وَذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي أَسْبَابِ الظَّفَرِ، وَبِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ تَكُونُونَ أَحِقَّاءَ بِأَلَّا تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ
تِلْكَ الذُّنُوبِ، فَتَكُونُ التَّرْبِيَةُ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ عَدَمِهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ تَزِيدَكُمُ الْمَصَائِبُ قُوَّةً وَثَبَاتًا بِمَا تُرَبِّيكُمْ عَلَى اتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي الْحَزْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَإِحْكَامِ الْعَزِيمَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ فِي الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْكُمْ شُهَدَاءُ وَذَلِكَ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ كَمَا سَيَأْتِي، فَتُذَكِّرُهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْحُزْنِ مِنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ (وَهَاتَانِ الْعِلَّتَانِ قَدْ ذُكِرَتَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ) وَكَيْفَ تَهِنُونَ وَتَحْزَنُونَ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْحَيَدَانَ عَنْ سُنَنِهِ، وَفِي نَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَتَّبِعُ سُنَنَهُ بِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَجْدَرُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ لِمَحْضِ الْبَغْيِ وَالِانْتِقَامِ، أَوِ الطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهِمَّةُ الْكَافِرِينَ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرْمُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَرَضِ الْخَسِيسِ، وَمَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ الْغَرَضِ الْقَرِيبِ، فَهِيَ لَا تَكُونُ كَهِمَّةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي غَرَضُهُ إِقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الدُّنْيَا، وَالسَّعَادَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِصِدْقِ وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ بِحَيْثُ صَارَ هَذَا الْإِيمَانُ وَصْفًا ثَابِتًا لَكُمْ حَاكِمًا فِي ضَمَائِرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ فَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَإِنْ أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَكُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَإِنَّ مَا أَصَابَكُمْ يُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، فَتَسْتَحِقُّونَ تِلْكَ الْعَاقِبَةَ وَهِيَ عُلُوُّ
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْحُزْنَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَا فَاتَ الْإِنْسَانَ وَخَسِرَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ يَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ بِفَوْتِهِ شَيْءٌ مِنْ قُوَّتِهِ وَفَقَدَ بِفَقْدِهِ شَيْئًا مِنْ عَزِيمَتِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ صِلَةَ الْإِنْسَانِ بِمَحْبُوبَاتِهِ مِنَ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ وَالنَّاسِ كَالْأَصْدِقَاءِ وَذِي الْقُرْبَى تُكْسِبُهُ قُوَّةً وَتُعْطِيهِ غِبْطَةً وَسُرُورًا، فَإِذَا هُوَ فَقَدَ شَيْئًا مِنْهَا بِلَا عِوَضٍ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِنَفْسِهِ أَلَمُ الْحُزْنِ الَّذِي يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ وَيُسَمُّونَهُ كَدَرًا كَأَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ صَافِيَةً رَائِقَةً فَجَاءَ ذَلِكَ الِانْفِعَالُ فَكَدَّرَهَا بِمَا أَزَالَ مِنْ صَفْوِهَا. وَقَدْ يُقَالُ هُنَا: لِمَاذَا نَهَاهُمْ عَنِ الْوَهَنِ
بِمَا عَرَضَ لَهُمْ وَالْحُزْنِ عَلَى مَا فَقَدُوا فِي " أُحُدٍ "، وَكُلٌّ مِنَ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ كَانَ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ فِي مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَسْبُ مِنْ مُعَالَجَةِ وِجْدَانِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ وَلَوْ تَكَلُّفًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا فِي سُنَنِ مَنْ قَبْلَكُمْ تَجِدُوا أَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ عَلَى حَقٍّ وَأَحْكَمُوا أَمْرَهُمْ وَأَخَذُوا أُهْبَتَهُمْ وَأَعَدُّوا لِكُلِّ أَمْرٍ عُدَّتَهُ وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَمَلِ لِنُصْرَتِهِ إِلَّا وَظَفِرُوا بِمَا طَلَبُوا، وَعُوِّضُوا مِمَّا خَسِرُوا، فَحَوِّلُوا وُجُوهَكُمْ عَنْ جِهَةِ مَا خَسِرْتُمْ، وَوَلُّوهَا جِهَةَ مَا يَسْتَقْبِلُكُمْ، وَانْهَضُوا بِهِ بِالْعَزِيمَةِ وَالْحَزْمِ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالْحُزْنُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فَقْدِ مَا لَا عِوَضَ مِنْهُ وَأَنَّ لَكُمْ خَيْرَ عِوَضٍ مِمَّا فَقَدْتُمْ، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِرُجْحَانِكُمْ عَلَيْهِمْ فِي مَجْمُوعِ الْوَقْعَتَيْنِ - بَدْرٍ وَأُحُدٍ - إِذِ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْكُمْ، عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِكُمْ، أَوْ جُمْلَةُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ مُعْتَرِضَةٌ يُرَادُ بِهَا التَّبْشِيرُ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ النَّصْرِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِلتَّسْلِيَةِ أَوْ لِلْبِشَارَةِ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ فَإِنَّ مَنِ اخْتَرَقَ هَذَا الْإِيمَانُ فُؤَادَهُ وَتَمَكَّنَ مِنْ سُوَيْدَائِهِ، يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْعَاقِبَةِ، بَعْدَ الثِّقَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ وَالْأَسْبَابِ الْمُطَّرِدَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ لَيْسَ لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِ إِلَى حَالِهِ وَمُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ عَلَى أَعْمَالِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الْمَاضِيَةَ (غُرَّةَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ١٣٢٠) فِي الرُّؤْيَا مُنْصَرِفًا مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ أُحُدٍ وَهُوَ يَقُولُ: " لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ النَّصْرِ وَالْهَزِيمَةِ لَاخْتَرْتُ الْهَزِيمَةَ " أَيْ لِمَا فِي الْهَزِيمَةِ مِنَ التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَعْلِيمِهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالِاحْتِيَاطِ وَلَا يَغْتَرُّوا بِشَيْءٍ بِشَغْلِهِمْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ وَتَسْدِيدِ النَّظَرِ، وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ.
وَالْجِرَاحُ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ هِيَ بِالْفَتْحِ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَرْحَ وَالْقُرْحَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مَا قُلْنَاهُ " أَيْ مِنْ أَنَّ الْقَرْحَ بِالْفَتْحِ يَشْمَلُ الْجَرْحَ وَالْقَتْلَ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَصَلَ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ " الْقَرْحُ وَالْقُرْحُ لُغَتَانِ: عَضُّ السِّلَاحِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَجْرَحُ الْجَسَدَ.. وَقِيلَ: الْقَرْحُ الْآثَارُ وَالْقُرْحُ الْأَلَمُ " أَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ عَضَّ السِّلَاحِ وَتَأْثِيرَهُ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَشْمَلَ الْقَتْلَ وَالْجَرْحَ وَابْنُ جَرِيرٍ ثِقَةٌ فِي نَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَنَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ. وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لُغَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْفَتْحَ لُغَةُ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَالضَّمَّ لُغَةُ نَجْدٍ. وَيَمْسَسْكُمْ مِنَ الْمَسِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يُصِبْكُمْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ بَدَلَ الْمَاضِي فَلَمْ يَقُلْ " إِنْ مَسَّكُمْ قَرْحٌ " لِيُحْضِرَ صُورَةَ الْمَسِّ فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ.
أَقُولُ: وَالْمَعْنَى إِنْ يَكُنِ السِّلَاحُ قَدْ عَضَّكُمْ وَعَمِلَ فِيكُمْ عَمَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا مِثْلُ مَا أَصَابَكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَرْحَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ قَرْحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَجَابَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: بَلَى كَانَ مِثْلَهُ وَلَقَدْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [٣: ١٥٢] الْآيَةَ - وَسَتَأْتِي، أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ، أَيْ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أُصِيبُوا بِمِثْلِ مَا أُصِيبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَثَلِ مِنَ التَّدْقِيقِ الْفَلْسَفِيِّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَقْصِدُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ الْأَيَّامُ: جَمْعُ يَوْمٍ وَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الزَّمَنِ وَالْوَقْتِ، فَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ هُنَا أَزْمِنَةُ الظَّفَرِ وَالْفَوْزِ. وَنُدَاوِلُهَا بَيْنَهُمْ: نُصَرِّفُهَا فَنُدِيلُ تَارَةً لِهَؤُلَاءِ وَتَارَةً لِهَؤُلَاءِ فَالْمُدَاوَلَةُ بِمَعْنَى الْمُعَاوَرَةِ، يُقَالُ: دَاوَلْتُ الشَّيْءَ بَيْنَهُمْ فَتَدَاوَلُوا، تَكُونُ الدَّوْلَةُ فِيهِ لِهَؤُلَاءِ مَرَّةً وَهَؤُلَاءِ مَرَّةً، وَدَالَتِ الْأَيَّامُ دَارَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُدَاوَلَةَ الْأَيَّامِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ تَكُونَ الدَّوْلَةُ مَرَّةً لِلْمُبْطِلِ وَمَرَّةً لِلْمُحِقِّ. وَإِنَّمَا الْمَضْمُونُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ كَقَاعِدَةِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أَيْ
هَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بَيْنَ النَّاسِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَالْمُدَاوَلَةُ فِي
ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُقِيمَ سُنَّتَهُ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ [٣: ١٦٧] أَيْ يُمَيِّزُهُمْ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي إِجْمَالِ الْقِصَّةِ وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَذْهَبُ الْعُقُولُ فِي تَعْيِينِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَتَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي كُلِّ فَجٍّ، أَوْ تَلْتَمِسُهُ فِي فَوَائِدِ قَاعِدَةِ جَعْلِ الْأَيَّامِ دُوَلًا بَيْنَ النَّاسِ، وَعَدَمِ حَصْرِ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ فِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَكُلَّ مَا وَجَدْتَهُ يَصْلُحُ حِكْمَةً وَعِلَّةً لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَدَدْتَهُ مِنَ الْمَطْوِيِّ الْمَحْذُوفِ، وَأَعَمُّهُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَقُومَ بِذَلِكَ الْعَدْلُ وَيَسْتَقِرَّ النِّظَامُ، وَيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ، وَالْبَاحِثُ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْبَالِغَةِ، أَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي يُدَالُ بِهِ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ مِمَّا يَظْهَرُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: " فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّلُ مَحْذُوفًا مَعْنَاهُ: وَلِيَتَمَيَّزَ الثَّابِتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الَّذِينَ عَلَى حَرْفٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، بِمَعْنَى فَعَلْنَا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنَ الثَّابِتُ مِنْكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ الثَّابِتِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لِيُعَلِّمَهُمْ عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَوْجُودًا مِنْهُمُ الثَّبَاتُ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَحْذُوفَةً وَهَذَا عَطْفٌ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ (أَيْ مُدَاوَلَةَ الْأَيَّامِ) لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ (أَيْ
مِنَ الْمَصَالِحِ) وَلِيَعْلَمَ اللهُ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا فَعَلَ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى عَلَيْهِمْ وَلِيُبَصِّرَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَسُوؤُهُ مَا يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَلَا يَشْعُرُ أَنَّ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ غَافِلٌ عَنْهُ " اهـ. وَجَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ التَّقْدِيرَ هَكَذَا: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ يُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ، وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِلْمِ اللهِ فِيهِ عِلْمُ عِبَادِهِ وَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِعِلْمِ الظُّهُورِ أَيْ لِيُظْهِرَ عِلْمَهُ بِذَلِكَ،
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا سَتَقَعُ غَيْرُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِهَا وَهِيَ وَاقِعَةٌ، فَذَلِكَ عِلْمٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهِ الْمَعْلُومُ فِي الْوُجُودِ، وَهَذَا عِلْمٌ ظَهَرَ مُتَعَلِّقُهُ وَوُجِدَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " وَلِيَعْلَمَ " الثَّانِي.
أَقُولُ: وَكُنْتُ أُقَرِّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأُعَبِّرُ تَارَةً بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَعِلْمِ الشَّهَادَةِ مُفَسِّرًا عِلْمَ الْغَيْبِ بِمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمَعْلُومُ وَعِلْمَ الشَّهَادَةِ بِمَا ظَهَرَ فِيهِ الْمَعْلُومُ وَوُجِدَ. وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْأُسْتَاذِ فِي الدَّرْسِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مَعْنًى آخَرَ وَكُنْتُ عَازِمًا عَلَى مُرَاجَعَتِهِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الدَّرْسِ فَنَسِيتُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ وَإِيهَامُ تَجَدُّدِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مَدْفُوعٌ، وَلَكِنْ مَا النُّكْتَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَلِمَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِعِبَارَةٍ لَا إِبْهَامَ فِيهَا؟ قَالَ مَا نَصُّهُ: " النُّكْتَةُ بَيَانُ أَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ " وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُ الشَّيْءَ وَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنْ إِذَا عَرَضَ الْعَمَلُ كَذَّبَهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
مُتَحَقِّقًا بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ صُورَةً انْطَبَعَتْ فِي مُخِّهِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَمَّا يُعَارِضُهَا مِنْ سَائِرِ عَقَائِدِهِ الْمُتَمَكِّنَةِ الَّتِي لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى وِجْدَانِهِ وَأَثَرٌ فِي عَمَلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَعَادَاتِهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَعْمَالُهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ شُجَاعٌ، وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى إِذَا مَا عَرَضَ لَهُ مَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ بِالْفِعْلِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى رُكُوبِ الْخَطَرِ وَخَوْضِ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ جَبُنَ وَجَزِعَ وَظَهَرَ غُرُورُهُ بِنَفْسِهِ وَانْخِدَاعُهُ لِوَهْمِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ عَظِيمُ الثِّقَةِ بِاللهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، حَتَّى تُظْهِرَ الْحَوَادِثُ وَالْوَقَائِعُ أَنَّهُ هَلُوعٌ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ كَانَ مَنُوًا، لَا يَثِقُ بِرَبِّهِ وَلَا بِنَفْسِهِ. فَأَرَادَ - تَعَالَى - أَنْ يُرْشِدَنَا بِقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ عِلْمًا وَالْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِيمَانًا إِلَّا إِذَا صَدَّقَهُمَا الْعَمَلُ وَظَهَرَ أَثَرُهُمَا بِالْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِيَتَبَيَّنَ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. أَقُولُ: وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عِلْمَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْقِتَالِ وَهِيَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ مُدَافِعًا عَنِ الْحَقِّ قَاصِدًا إِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [٢: ١٤٣] وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ الْمَقْتُولُونَ شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْمَلَكُوتِ وَنَعِيمِهِ مَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ أَوْ لِأَنَّهُمْ بِبَذْلِ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَكُونُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُ مَوْتَهُمْ. أَقُولُ:
وَقَوْلُهُ: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَكُونُونَ
مِمَّنْ خَلَصُوا لِلَّهِ وَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، وَلَا بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَصْطَفِي لِلشَّهَادَةِ الظَّالِمِينَ مَا دَامُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ بِشَارَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْذَارٌ لِلْمُقَصِّرِينَ، فَالنَّاسُ قَبْلَ الِابْتِلَاءِ بِالْمِحَنِ وَالْفِتَنِ يَكُونُونَ سَوَاءً، فَإِذَا ابْتُلُوا تَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ وَالصَّادِقُ وَالظَّالِمُ وَالْمُنَافِقُ وَمَا أَسْهَلَ ادِّعَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ إِذَا كَانَتْ آيَاتُهُمَا مَجْهُولَةً، فَبَيَانُ السَّبَبِ مُؤَدِّبٌ لِلْمُقَصِّرِينَ وَقَاطِعٌ لِأَلْسِنَةِ الْمُدَّعِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْأَغْنِيَاءِ الْجَاهِلِينَ.
أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ، أَيْ لَا يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ، لِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُسَفِّهُونَهَا بِعِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ وَيَظْلِمُونَ غَيْرَهُمْ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ وَهَضْمِ حُقُوقِهِمْ، وَالظَّالِمُ لَا تَدُومُ لَهُ سُلْطَةٌ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ دَوْلَةٌ، فَإِذَا أَصَابَ غِرَّةً مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَكَانَتْ لَهُ دَوْلَةٌ فِي حَرْبٍ أَوْ حُكْمٍ، فَإِنَّمَا تَكُونُ دَوْلَتُهُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ، قَرِيبَةَ الِانْحِلَالِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَيْضًا بِالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: مَحَّصَ الشَّيْءَ مَحْصًا وَمَحَّصَهُ تَمْحِيصًا خَلَّصَهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَمَحَّصَ الذَّهَبَ بِالنَّارِ خَلَّصَهُ مِمَّا يَشُوبُهُ،
حَتَّى بَدَتْ قَمْرَاؤُهُ وَتَمَحَّصَتْ | ظَلْمَاؤُهُ وَرَأَى الطَّرِيقَ الْمُبْصَرِ |
مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِ لَا فِي تَصْوِيرِهِ. وَصَوَّرَهُ هُوَ بِنَحْوِ مَا يَأْتِي:
كُلُّ إِنْسَانٍ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُصَدِّقُهُ فِيهَا الْحَقُّ الْوَاقِعُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَالْمُعْتَقِدُ حَقِّيَّةَ الدِّينِ قَدْ يَتَصَوَّرُ وَقْتَ الرَّخَاءِ أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِيَحْفَظَ شَرَفَ دِينِهِ وَيَدْفَعَ عَنْهُ كَيْدَ الْمُعْتَدِينَ، فَإِذَا جَاءَ الْبَأْسُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خِلَافُ مَا كَانَ يَتَصَوَّرُ (وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آنِفًا). فَالْإِنْسَانُ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَتَجَلَّى كَمَالَ التَّجَلِّي إِلَّا بِالتَّجَارِبِ الْكَثِيرَةِ وَالِامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ الْعَظِيمَةِ، فَالتَّجَارِبُ وَالشَّدَائِدُ كَتَمْحِيصِ الذَّهَبِ يَظْهَرُ بِهِ زَيْفُهُ وَنُضَارُهُ. ثُمَّ إِنَّهَا أَيْضًا تَنْفِي خَبَثَهُ وَزَغَلَهُ. كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي أُحُدٍ: تَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَطَهَّرَتْ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُدُورَتِهَا فَصَارَتْ تِبْرًا خَالِصًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِينَ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا وَهُمْ مُدْبِرُونَ، مَحَّصَ الْجَمِيعَ بِتِلْكَ الشِّدَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا خُلِقَ لِيَلْهُوَ وَيَلْعَبَ، وَلَا لِيَكْسَلَ وَيَتَوَاكَلَ، وَلَا لِيَنَالَ الظَّفَرَ وَالسِّيَادَةَ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَتَبْدِيلِ سُنَنِ اللهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ خُلِقَ لِيَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ جِدًّا فِي الْعَمَلِ، وَأَشَدَّهُمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ.
أَقُولُ: وَقَدْ تَجَلَّى أَثَرُ هَذَا التَّمْحِيصِ أَكْمَلَ التَّجَلِّي فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا يَتْبَعَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ بِأُحُدٍ، فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِقُلُوبٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَعَزَائِمَ شَدِيدَةٍ وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَبْرِيحِ الْجِرَاحِ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ وَلْيَعْلَمُوا مَا هُوَ مِقْدَارُ حَظِّهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِالشَّدَائِدِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَنَاؤُهُمْ وَهَلَاكُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَأْسُ يَسْطُو عَلَيْهِمْ
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (٢١٤) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَعْنَى عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ (أَمْ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ أَوْ لِلْمُعَادَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ لِسُنَّتِهِ وَحُكْمِهِ فِيمَا حَصَلَ الْمُتَضَمِّنِ للِلَّوْمِ وَالْعِتَابِ فِي مِثْلِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ إِلَخْ. هَلْ جَرَيْتُمْ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ؟ هَلْ تَدَبَّرْتُمْ تِلْكَ الْحِكَمَ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ كَمَا يَحْسَبُ أَهْلُ الْغُرُورِ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَأَنْتُمْ إِلَى الْآنِ لَمْ تَقُومُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حَقَّ الْقِيَامِ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ صِفَةُ الصَّبْرِ مِنْ نُفُوسِكُمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ! وَالْجَنَّةُ إِنَّمَا تُنَالُ بِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دُخُولِهَا بِدُونِهِمَا. لَوْ قُمْتُمْ بِذَلِكَ لَعَلِمَهُ - تَعَالَى - مِنْكُمْ وَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي غَزْوَتِكُمْ هَذِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى أَنَّهُ سَيُجَازِيكُمْ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْمُخْتَارُ فِي مَعْنَى (أَمْ) هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: " قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي (أَمْ حَسِبْتُمْ) إِنَّهُ نَهْيٌ وَقَعَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ، وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [٢٩: ١، ٢] وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ (أَمْ) الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مَا تَأْتِي فِي كَلَامِهِمْ وَاقِعَةٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ يُشَكُّ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، يَقُولُونَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا؟ مَعَ تَيَقُّنِ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِأَحَدِهِمَا. قَالَ: وَعَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا، فَلَمَّا قَالَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَدَةٍ وَصَبْرٍ؟ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ ".
وَقَدْ جَرَيْنَا فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَنَفْيِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا مِنْ قُرْبٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَشَّافُ هُنَا وَقَالَ: " هُوَ بِمَعْنَى لَمَّا تُجَاهِدُوا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومِ فَنَزَلَ نَفْيُ الْعِلْمِ مَنْزِلَةَ نَفْيِ مُتَعَلِّقِهِ ; لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِ. يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا عَلِمَ
اللهُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا، يُرِيدُ مَا فِيهِ خَيْرٌ حَتَّى يَعْلَمَهُ. وَلَمَّا بِمَعْنَى " لَمْ " إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَادِ فِيمَا
أَيْ وَإِلَى الْآنِ لَمْ تَصِلُوا إِلَى حَالِهِمْ وَلَمْ يُصِبْكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ حَالُهُمْ تِلْكَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ، وَوَجْهُ التَّأْيِيدِ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُنَاكَ هُوَ الْعَمَلُ وَالْحَالُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْجَنَّةَ.
ثُمَّ إِنْ يُوَافِقْ أَحَدَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّوَاتِ وَصْفُهَا، فَالْمَعْنَى هُنَاكَ وَلِيَعْلَمَ اللهُ إِيمَانَ الَّذِينَ آمَنُوا - وَهُنَا - وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ جِهَادَ الَّذِينَ جَاهَدُوا وَصَبْرَ الصَّابِرِينَ، أَيْ وَاقِعَيْنِ ثَابِتَيْنِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ - كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي وَجْهٍ آخَرَ - وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ جَمِيعًا وَلَمَّا يُمَيِّزِ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَالْجِهَادُ هُنَا أَعَمُّ مِنَ الْحَرْبِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْآيَةَ تُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ وَيَصْبِرْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَعَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَنَقُولُ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ الْجِهَادَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ - وَهُوَ احْتِمَالُ الْمَشَقَّةِ فِي مُكَافَحَةِ الشَّدَائِدِ - وَمِنْهُ جِهَادُ النَّفْسِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مُجَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِشَهَوَاتِهِ لَا سِيَّمَا فِي سِنِّ الشَّبَابِ، وَجِهَادَهُ بِمَالِهِ، وَمَا
يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ مُدَافَعَةِ الْبَاطِلِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَيْكَ وَلِلنَّاسِ عَلَيْكَ حَقًّا، وَأَدَاءُ هَذِهِ الْحُقُوقِ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ جِهَادِهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا، وَرُبَّمَا يَفْضُلُ بَعْضُ جِهَادِ النَّفْسِ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُثَبِّتَ فَكُرَةً صَالِحَةً فِي النَّاسِ أَوْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى خَيْرِهِمْ مِنْ إِقَامَةِ سُنَّةٍ أَوْ مُقَاوَمَةِ بِدْعَةٍ أَوِ النُّهُوضِ بِمَصْلَحَةٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَيُؤْذِيهِ إِيذَاءً قَلَّمَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَنَاهِيكَ بِالتَّصَدِّي لِإِصْلَاحِ عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَعَادَاتِهِمْ، وَمَا الْخَاصَّةُ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَّا أَصْعَبُ مِرَاسًا مِنَ الْعَامَّةِ.
بَعْدَ مَا بَيَّنَ - تَعَالَى - لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْفَوْزَ وَالظَّفَرَ فِي الدُّنْيَا وَدُخُولَ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونَانِ بِالْأَمَانِي وَالْغُرُورِ، وَلَا يُنَالَانِ بِالْمُحَابَاةِ وَالْكَيْلِ الْجُزَافِ، بَلْ بِالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَيَّامِ وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ، وَاتِّبَاعِ سُنَنِ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ - وَبَعْدَ مَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَدَعْوَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الْجَزَاءُ بِالنَّصْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِهِمَا بِحَسَبِ عِلْمِ اللهِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ لَا بِحَسَبِ ظَنِّ النَّاسِ وَشُعُورِهِمْ - بَعْدَ هَذَا وَذَاكَ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَمْرٍ وَاقِعٍ يَظْهَرُ لَهُمْ بِهِ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ إِلَخْ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَيَتَعَلَّمُونَ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَغْتَرُّونَ بِشُعُورِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَقَالَ:
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا وَقْعَةَ أُحُدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى أَلَا يَخْرُجَ لِلْمُشْرِكِينَ بَلْ يَسْتَعِدُّ لِمُدَافَعَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَشَارُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ حَيْثُ عَسْكَرَ الْمُشْرِكُونَ
وَمُنَاجَزَتَهُمْ هُنَاكَ، وَأَنَّ الشُّبَّانَ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ ; لِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِتَابٌ لِرِجَالٍ غَابُوا عَنْ بَدْرٍ فَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ أَنْ يَلْقَوْهُ فَيُصِيبُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى فَعَاتَبَهُمُ اللهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَقُولُونَ: لَئِنْ لَقِينَا الْعَدُوَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ، فَابْتُلُوا بِذَلِكَ فَلَا وَاللهِ مَا كُلُّهُمْ صَدَقَ، فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ الْقِتَالَ كَثِيرُونَ.
قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَظْهَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَعَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَمْتَحِنُونَ قُلُوبَهُمْ ; وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الْقِتَالَ أَوِ الْمَوْتَ فِي الْقِتَالِ لِيَنَالُوا مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ لَهُمْ هَذَا التَّمَنِّيَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَلَمْ
الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ وَتَفْسِيرِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَمْثِلَةٌ تَزِيدُ الْمَبْحَثَ وُضُوحًا.
وَقَدْ كَانَ فِي مَجْمُوعِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ عِنْدَ نُزُولِهَا مَنْ هُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُجَاهِدُونَ الصَّابِرُونَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَاتَ الْجِبَالِ لَا ثَبَاتَ الْأَبْطَالِ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِطَابُ عَامًّا لِيَكُونَ تَرْبِيَةً عَامَّةً ; فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ يَتَّهِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ فَيَزْدَادُونَ كَمَالًا.
فَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ إِلَى الْغُرُورِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي، وَتَهْدِيهِ إِلَى امْتِحَانِ نَفْسِهِ بِالْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا دُونَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، حَتَّى يَأْمَنَ الدَّعْوَى الْخَادِعَةَ، بَلْهَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ، وَإِنَّمَا الْخَادِعَةُ أَنْ تَدَّعِيَ مَا تَتَوَهَّمُ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيهِ مَعَ الْغَفْلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِعَجْزِكَ عَنْهُ، وَالْبَاطِلَةُ لَا تَخْفَى عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَخْفَى عَلَى سِوَاكَ.
قَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُوَ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ الْحَرْبُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ الْمَأْثُورِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُشْكِلًا ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا إِشْكَالَ إِلَّا فِي مُخِّ مَنِ اخْتَرَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُلْقِي بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي الدِّفَاعِ وَالصِّدَامِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ مَكَّنَ الْأَعْدَاءَ مِنْهُ وَمَهَّدَ لَهُمْ سَبِيلَ الظَّفَرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْوَى جِهَادًا وَأَشَدَّ جِلَادًا وَأَجْدَرَ بِأَنْ يَنْصُرَ قَوْمَهُ وَيَخْذُلَ مَنْ يُحَارِبُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ تَمَنِّيًا مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَمَنِّي مَنْ يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ دُونَهُ، فَإِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى مَا يَبْغِي مِنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ بِانْهِزَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَخِذْلَانِهِمْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا فَضَّلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ إِعْزَازِ الْحَقِّ وَرَآهُ خَيْرًا مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ إِذْلَالِهِ وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ يَسْبِقُ لَهُمْ تَمَنِّي الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُمْ حُضُورُ وَقْعَةِ بَدْرٍ أَوِ الشَّهَادَةُ فِيهَا لِبَعْضِ مَنْ
حَضَرَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ انْكَسَرَتْ نَفْسُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَوَهَنَ عَزْمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَهَنَ وَضَعُفَ بَعْدَهَا عِنْدَمَا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تُلَاقُوا الْقَوْمَ فِي الْحَرْبِ، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا تَغْفُلُونَ عَنْهُ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ الْمَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟ وَمَنْ تَمَنَّى الشَّيْءَ وَسَعَى إِلَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْزِنَهُ لِقَاؤُهُ وَيَسُوءَهُ فَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى الشَّيْءَ أَحْيَانًا وَلَكِنَّهُ لِانْشِغَالِهِ عَنْهُ رُبَّمَا لَا يَتَبَيَّنُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُوهُ رُؤْيَةً كَانَ لَهَا الْأَثَرُ الثَّابِتُ فِي نُفُوسِكُمْ لَا رُؤْيَةً مِنْ قَبِيلِ لَمْحِ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ أَبْصَرْتُمُوهُ وَأَنْتُمُ الْآنُ تَنْظُرُونَ وَتَتَأَمَّلُونَ فِيمَا رَأَيْتُمُوهُ وَتُفَكِّرُونَ فِي عَلَاقَتِهِ بِشُئُونِكُمْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ.
أَقُولُ: وَقَدْ جَرَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ عَلَى أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ نَاظِرِينَ إِلَى وُقُوعِهِ بِكُمْ، وَاغْتِيَالِهِ لِإِخْوَانِكُمْ مُتَوَقِّعِينَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ تَذْكِيرٌ لِمَنِ انْهَزَمَ وَعَصَى مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رُسُوخٍ وَيَقِينٍ وَتَفْضِيلٍ لِلشَّهَادَةِ وَلِقَاءِ اللهِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالزَّهْوِ، وَإِرْشَادٌ تَوْبِيخِيٌّ لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ إِلَى أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُطَالِبُوهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ الْأَعْمَالُ مُصَدِّقَةً لِخَوَاطِرِ النَّفْسِ وَتَمَنِّيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - حِكْمَةً أُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ إِشَاعَةُ قَتْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا فَقَالَ:
تَقَدَّمَ أَنَّهُ أُشِيعَ عِنْدَمَا فَرَّقَ خَالِدٌ جَمْعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ
قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ قَمِيئَةَ الْحَارِثِيَّ لَمَّا رُمِيَ الرَّسُولُ بِالْحَجَرِ فَشَجَّ رَأْسَهُ وَكَسَرَ سِنَّهُ أَقْبَلَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَذَبَّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ صَاحِبُ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى قُتِلَ فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. فَصَرَخَ بِهَا الصَّارِخُ حَتَّى سَمِعَهَا الْكَثِيرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَشَتْ فِي النَّاسِ، فَوَهَنَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَضَعُفُوا وَاسْتَكَانُوا مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، وَقَالَ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ: لَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ أَمَانًا، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ، ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَإِلَى دِينِكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: " وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ - أَيِ الَّذِينَ فَرُّوا إِلَى الْجَبَلِ فَقَامُوا عَلَى صَخْرَةٍ مِنْهُ - لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، يَا قَوْمِ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ " وَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ مَا يَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْمُوقِنُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَأَبُو دُجَانَةَ الَّذِي جَعَلَ نَفْسَهُ تُرْسًا دُونَهُ فَكَانَ يَقَعُ عَلَيْهِ النَّبْلُ وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّ تَوْبِيخَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِ ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَثَبَتَ الصَّادِقُونَ عَلَى دِينِهِ حَتَّى كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ، أَقُولُ: وَلَا يُنَافِي هَذِهِ الْحِكْمَةَ كَوْنُ الْوَقْعَةِ كَانَتْ قَبْلَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبِضْعِ سِنِينَ - لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ - فَإِنَّ تَوْطِينَ نَفْسِ الْأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَإِعْدَادِهَا لَهُ
لَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ أَوْ شُهُورٍ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ زَمَنٍ يَكْفِي لِتَعْمِيمِهِ فِيهَا وَصَيْرُورَتِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسَلَّمَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهَا حَتَّى لَا يَغِيبَ عَنِ الْأَذْهَانِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا قَدْ خَلَتْ وَمَضَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ فَمَاتُوا وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ النَّبِيِّينَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْخُلْدُ وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ سُنَّةُ
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: " وَالِانْقِلَابُ عَلَى الْأَعْقَابِ: الْإِدْبَارُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الِارْتِدَادُ، وَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ وَالِانْكِشَافِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِسْلَامِهِ " وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَلِمَةَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمَثَلِ تُضْرَبُ لِمَنْ رَجَعَ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً تَشْمَلُ الِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ، وَالِارْتِدَادُ عَنِ الْعَمَلِ كَالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِأَنْ يَنْصُرَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُعِزُّ دِينَهُ وَيَجْعَلُ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا وَهُوَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَا يَحُولُ دُونَ إِنْجَازِهِ ارْتِدَادُ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَإِنَّهُ يُثَبِّتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُمَحِّصُهُمْ
حَتَّى يَكُونُوا كَالتِّبْرِ الْخَالِصِ وَبِهِمْ يُقِيمُ دِينَهُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ لَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَبِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِهَا فِي حَيَاةِ رَسُولِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَوَاءٍ، يَأْتُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهِ، لَا يَأْلُونَ جُهْدًا، وَلَا يُقَصِّرُونَ فِي شَيْءٍ عَمْدًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُمْ لِوَجْهِ الرَّسُولِ فَيَبْطُلُ إِذَا غَيَّبَهُ الْمَوْتُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِوَجْهِ اللهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَهُوَ لَا يَمُوتُ وَلَا يَزُولُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِرْشَادٌ لَنَا إِلَى أَلَّا نَجْعَلَ الْمَصَائِبَ الشَّخْصِيَّةَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ مَنْ تُصِيبُهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ عَلَى حَقٍّ، فَإِنَّ مِنَ الْجَائِزِ عَقْلًا وَالْوَاقِعِ فِعْلًا أَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْمَصَائِبِ وَالرَّزَايَا، وَأَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُ الْبَاطِلِ بِالنِّعَمِ وَالْعَطَايَا، كَمَا أَنَّ عَكْسَ ذَلِكَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، وَتُعَلِّمُنَا أَيْضًا أَلَّا نَعْتَمِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى وُجُودِ الْمُعَلِّمِ بِحَيْثُ نَتْرُكُهُمَا بَعْدَ ذَهَابِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْتَمِدُ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا وَالتَّحَقُّقِ بِهِمَا وَالسَّيْرِ عَلَى مِنْهَاجِهِمَا فِي حَالِ
أَقُولُ: قَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (جِنْسِيَّةً لَا إِذْعَانًا وَمَعْرِفَةً) فَتَرَاهُمْ إِذَا سَاءَ اعْتِقَادُهُمْ فِي رَجُلٍ - كَأَنْ خَالَفَ تَقَالِيدَهُمْ أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَهْوَاءَهُمْ - يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ فَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ زَعَمُوا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُ حُبًّا لَهُمْ وَبُغْضًا فِيهِ! فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَّهَمًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ صَلَاحَهُمْ وَوِلَايَتَهُمْ، قَالُوا إِنَّهُمْ قَدْ تَصَرَّفُوا فِيهِ! ! وَيَغْفُلُونَ عَمَّا أَصَابَ النَّبِيَّ فِي أُحُدٍ وَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، بَلْ يَعْمُونَ عَمَّا يُصِيبُ مُعْتَقَدِيهِمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فِي عَهْدِهِمْ. لَمَّا حُبِسَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي عَاقِبَةِ الثَّوْرَةِ الْعُرَابِيَّةِ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ: إِنَّهُ حُبِسَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عِلِيشٍ لِأَنَّهُ - أَيِ الشَّيْخِ عِلِيشٍ - كَانَ يَكْرَهُهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّيْخُ عِلِيشٍ مَحْبُوسًا أَيْضًا فَقَالَ: لِمَاذَا أَكُونُ حُبِسْتُ كَرَامَةً لَهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي حُبِسَ كَرَامَةً لِي ; لِأَنَّهُ أَسَاءَ بِي الظَّنَّ وَقَالَ السُّوءَ لِتَصْدِيقِهِ فِيَّ الْوُشَاةَ النَّمَّامِينَ وَأَنَا لَمْ أَقُلْ فِيهِ شَيْئًا؟ السَّبَبُ فِي
حَبْسِ كُلٍّ مِنَّا وَاحِدٌ، فَلِمَاذَا كَانَ كَرَامَةً لِوَاحِدٍ وَانْتِقَامًا مِنَ الْآخَرِ؟
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يُعَارِضُ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الْآيَةِ وَالْحُكْمِ فِي سَبَبِهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ بِبَيَانِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي الْخُضُوعِ لِسُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ خَلْقِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ مَا نَصُّهُ:
" ثُمَّ أَمَاطَ (أَيِ الْإِسْلَامُ) اللِّثَامَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي النِّعَمِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الْأَشْخَاصُ أَوِ الْأُمَّةُ، وَالْمَصَائِبُ الَّتِي يُرْزَءُونَ بِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَصْلًا لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلْخَلْطِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي يُمَتِّعُ اللهُ بِهَا بَعْضَ الْأَشْخَاصِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالرَّزَايَا الَّتِي يُرْزَأُ بِهَا فِي نَفْسِهِ فَكَثِيرٌ مِنْهَا كَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَنِينَ أَوِ الْفَقْرِ وَالضَّعَةِ وَالضَّعْفِ وَالْفَقْدِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ كَاسِبُهَا أَوْ جَالِبُهَا مَا عَلَيْهِ الشَّخْصُ فِي سِيرَتِهِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ وَعِوَجٍ أَوْ طَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، كَثِيرًا مَا أَمْهَلَ اللهُ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْبُغَاةِ أَوِ الْفَجَرَةِ الْفَسَقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنْظَارًا لَهُمْ حَتَّى يَتَلَقَّاهُمْ مَا أَعَدَّ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى وَكَثِيرًا مَا امْتَحَنَ اللهُ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِحُكْمِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ عَبَّرُوا عَنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [٢: ١٥٦] فَلَا غَضَبُ زَيْدٍ وَلَا رِضَا عَمْرٍو وَلَا إِخْلَاصُ سَرِيرَةٍ وَلَا فَسَادُ عَمَلٍ مِمَّا يَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الرَّزَايَا، وَلَا فِي تِلْكَ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ، اللهُمَّ
" أَمَّا شَأْنُ الْأُمَمِ فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرُّوحَ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللهُ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ تَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَتَسْدِيدِ النَّظْرَةِ وَتَأْدِيبِ الْأَهْوَاءِ وَتَحْدِيدِ مَطَامِحِ الشَّهَوَاتِ، وَالدُّخُولِ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنْ بَابِهِ، وَطَلَبِ كُلِّ رَغِيبَةٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَاسْتِشْعَارِ الْأُخُوَّةِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّنَاصُحِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ - ذَلِكَ الرُّوحُ هُوَ مَصْدَرُ حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَشْرِقِ سَعَادَتِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَلَنْ يَسْلُبَ اللهُ عَنْهَا نِعْمَتَهُ مَا دَامَ هَذَا الرُّوحُ
فِيهَا، يَزِيدُ اللهُ النِّعَمَ بِقُوَّتِهِ، وَيُنْقِصُهَا بِضَعْفِهِ حَتَّى إِذَا فَارَقَهَا ذَهَبَتِ السَّعَادَةُ عَلَى أَثَرِهِ وَتَبِعَتْهُ الرَّاحَةُ إِلَى مَقَرِّهِ، وَغَيَّرَ اللهُ عِزَّةَ الْقَوْمِ بِالذِّلَّةِ، وَكُثْرَهُمْ بِالْقِلِّ، وَنَعِيمَهُمْ بِالشَّقَاءِ، وَرَاحَتَهُمْ بِالْعَنَاءِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمِينَ أَوِ الْعَادِلِينَ فَأَخَذَهُمْ بِهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [١٧: ١٦]، أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ فَفَسَقُوا عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُمُ الْأَنِينُ وَلَا يُجْدِيهِمُ الْبُكَاءُ، وَلَا يُفِيدُهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ صُوَرِ الْأَعْمَالِ وَلَا يُسْتَجَابُ مِنْهُمُ الدُّعَاءُ، وَلَا كَاشِفَ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَلْجَئُوا إِلَى ذَلِكَ الرُّوحِ الْأَكْرَمِ فَيَسْتَنْزِلُوهُ مِنْ سَمَاءِ الرَّحْمَةِ بِرُسُلِ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [١٣: ١١] سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [٣٣: ٦٢] وَمَا أَجَلَّ مَا قَالَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي اسْتِسْقَائِهِ: " اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ " عَلَى هَذِهِ السُّنَنِ جَرَى سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسْلِمُ يَرْفَعُ رُوحَهُ بِهَذِهِ الْعَقَائِدِ السَّامِيَةِ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِمَا يُتْبِعُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْجَلِيَّةِ كَانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُزَلْزِلُ الْأَرْضَ بِدُعَائِهِ وَيَشُقُّ الْفُلْكَ بِبُكَائِهِ، وَهُوَ وَلِعٌ بِأَهْوَائِهِ مَاضٍ فِي غُلَوَائِهِ، وَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُ ظَنُّهُ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا اهـ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِمْرَارُ الْحَرْبِ وَعَدَمَهُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقَائِدِ بِحَيْثُ إِذَا قُتِلَ يَنْهَزِمُ الْجَيْشُ أَوْ يَسْتَسْلِمُ لِلْأَعْدَاءِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ جَارِيَةً عَلَى نِظَامٍ ثَابِتٍ لَا يُزَلْزِلُهُ فَقْدُ الرُّؤَسَاءِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ نِظَامُ الْحُرُوبِ وَالْحُكُومَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ تَبَعًا لِرُؤَسَائِهِمْ يَحْيَوْنَ لِحَيَاتِهِمْ وَيُخْذَلُونَ بِمَوْتِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ وُجُودَ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ بَعْدَ فَقْدِ الْقَائِدِ كَالْعَدَمِ.
إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تُقَدِّرُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ قَدْرِهَا تُعِدُّ لِكُلِّ عِلْمٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ تَقُومُ
وَلَا زَعِيمٌ عَلَى احْتِكَارِ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَوْ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ تَتَسَابَقُ فِيهَا الْهِمَمُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِكُلِّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ، وَيَنَالَ مِنْهُ الْعَامِلُ بِقَدْرِ هِمَّتِهِ وَسَعْيِهِ وَتَأْيِيدِ التَّوْفِيقِ لَهُ، فَأَيْنَ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْيَوْمَ؟.
بَعْدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - قَاعِدَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى التَّحَقُّقِ بِالْعُلُومِ وَالنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ دُونَ الِاتِّكَالِ عَلَى أَفْرَادِ الرِّجَالِ - هَدَانَا اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ إِلَى قَاعِدَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ لَوْمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِذْ بَلَغَهُمْ قَتْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ لَمَا كَانَ قَتْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْدَهَشَ مِنْ خَبَرِ مَوْتِهِ كَأَنَّهُمْ بِسَبَبِ زِلْزَالِهِمْ وَزَعْزَعَةِ عَقَائِدِهِمْ قَدْ جَعَلُوا مَوْتَهُ جِنَايَةً مِنْهُ، فَأَذَاقَهُمْ - تَعَالَى - بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ مَرَارَةَ خَطَئِهِمْ وَأَرَاهُمْ بِهَا قُبْحَ جَهْلِهِمْ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُوكُمْ إِلَى اللهِ - أَيْ لَا إِلَى نَفْسِهِ - فَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَوْتُ يَقَعُ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ لَكَانَ الِانْقِلَابُ صَوَابًا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْمَوْتُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَمِ سُلْطَانٌ يَقْهَرُهُ وَيُوقِعُ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا بِالْكُرْهِ مِنْهُ، فَلَا مَعْنَى لِزَلْزَلَةِ ثِقَتِكُمْ عَنِ الْمُضِيِّ فِيمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ ; لِأَنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ حَيًّا بَاقِيًا عَلِيمًا حَكِيمًا.
قَالَ: وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَادَامَ مَحْيَانَا وَمَمَاتُنَا بِيَدِ اللهِ فَلَا مَحَلَّ لِلْجُبْنِ وَالْخَوْفِ، وَلَا عُذْرَ فِي الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ، وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ يَمُوتُ وَلَا عَلَى حَقِّيَّتِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ تَمْثِيلًا، فَنَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي حَلِّهَا قَالَ:
" الْمَعْنَى أَنَّ مَوْتَ الْأَنْفُسِ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ فِعْلٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لَهُ فِيهِ تَمْثِيلًا، وَلِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ نَفْسًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ. وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَتَشْجِيعُهُمْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ، وَإِنْ خَاضَ الْمَهَالِكَ، وَاقْتَحَمَ الْمَعَارِكَ. (الثَّانِي) ذِكْرُ مَا صَنَعَ اللهُ بِرَسُولِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ وَالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ لَهُ نُهْزَةً
لِلْمُخْتَلِسِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ وَتَأْخِيرِ الْأَجَلِ " انْتَهَى قَوْلُ الْكَشَّافِ.
وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: " فِي الْجُمْلَةِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَئِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا حَذَرًا
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ النَّفْيَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ لِلشَّأْنِ لَا لِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَهُوَ يُفَسِّرُ مِثْلَ " مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ كَذَا " بِنَحْوِ قَوْلِهِ: مَا صَحَّ مِنْهُ وَمَا اسْتَقَامَ لَهُ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ الصَّحِيحِ الْمَعْهُودِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُطَّرِدَةِ، وَلَكِنَّهُ (أَيْ صَاحِبَ الْكَشَّافِ) لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ وَاضِحَةٍ يَجْرِي عَلَيْهَا بِتَعْبِيرٍ يُؤَدِّي الْمَعْنَى بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَأَوْضَحُ مَا يُقَالُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ وَأَصَحُّهُ: أَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِ هَذَا الْمَنْفِيِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَمَعْنَى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِيهَا أَنْ تَمُوتَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ الَّتِي يُجْرِي بِهَا نِظَامَ الْحَيَاةِ وَارْتِبَاطَ الْأَسْبَابِ فِيهَا بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَتُؤَكِّدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ فِي مِثْلِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: كِتَابًا مُؤَجَّلًا فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ كَتَبَهُ اللهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا، أَيْ أَثْبَتَهُ مَقْرُونًا بِأَجَلٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَغَيَّرُ: وَمُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، فَالْمُؤَجَّلُ ذُو الْأَجَلِ، وَالْأَجَلُ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ قَالَ - تَعَالَى -: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا
الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [٦: ١٢٨] وَمِنْهُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ، أَيْ مُدَّةٌ يُؤَدَّى فِي نِهَايَتِهَا، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْمُقَيَّدَةِ، وَالْأَفْهَامِ الضَّيِّقَةِ، أَنَّ كَوْنَ الْمَوْتِ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَحْدُودٍ فِي عِلْمِ اللهِ يُنَافِي كَوْنَهُ بِأَسْبَابٍ تَجْرِي عَلَى سُنَنِ اللهِ ; وَلَيْسَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ أَدْنَى شُبْهَةٍ مِنَ الْعَقْلِ فَيُرَدُّ بِالدَّلَائِلِ النَّظَرِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْوُجُودِ فَيُفَسَّرُ بِالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْأَجَلِ أَظْهَرَ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَقْرُونًا بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَعَرَّضُونَ لِأَسْبَابِ الْمَنَايَا بِخَوْضِ غَمَرَاتِ الْحُرُوبِ وَالتَّعَرُّضِ لِعَدْوَى الْأَمْرَاضِ، وَالتَّصَدِّي لِأَفَاعِيلِ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ قَدْ يَسْلَمُ فِي الْحَرْبِ الشُّجَاعُ الْمُقَدَّمُ، وَيُقْتَلُ الْجَبَانُ الْمُخَلَّفُ. وَيَفْتِكُ الْمَرَضُ بِالشَّابِّ الْقَوِيِّ، مِنْ حَيْثُ تَعْدُو عَدْوَاهُ الْغُلَامُ الْقَمِيءُ، وَتَغْتَالُ فَوَاعِلُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْكَهْلَ الْمُسْتَوِي، وَتَتَجَاوَزُ
هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَإِنَّنَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ صَفْوَةَ مَا قَالُوهُ ثُمَّ نُبَيِّنُ الْقَاعِدَةَ. قَالُوا: إِنَّهَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ شَغَلَتْهُمُ الْغَنَائِمُ يَوْمَ أُحُدٍ فَتَرَكُوا مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلُزُومِهِ. وَإِنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ حَظَّ الدُّنْيَا أَعْطَاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِهَا، وَمَنْ قَصَدَ الْآخِرَةَ أَعْطَاهُ اللهُ حَظًّا مِنْ ثَوَابِهَا. وَصَرَّحَ الرَّازِيُّ بِأَنَّهَا فِي مَعْنَى حَدِيثٍ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى وَفِيهَا وَجْهَانِ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّهَا رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِمَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ، فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ لِنَيْلِ ثَوَابِ الدُّنْيَا سُنَنًا وَلِنَيْلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ سُنَنًا، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَنٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَصَلَ إِلَيْهَا ; فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدِ اسْتَظْهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فَلِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بِعَمَلِهِمُ الدُّنْيَا وَأَخَذُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنْ حَيْثُ قَدْ قَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَنِ فِي ذَلِكَ بِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ. (والْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ يَقُولُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ ضَعُفُوا وَفَشِلُوا
وَانْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ: مَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ بِعَمَلِكُمْ هَذَا؟ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَاللهُ لَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ، وَمَا عَلَيْكُمْ إِلَّا أَنْ تَسْلُكُوا طَرِيقَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى خَيْرٍ تَرَوْنَ حَظًّا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الْآخِرَةِ. فَالْمَسْأَلَةُ مَعَكُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِرَادَةِ الدُّنْيَا وَإِرَادَةِ الْآخِرَةِ، كُلٌّ يُرِيدُ أَمْرًا وَلِكُلِّ أَمْرٍ سُنَنٌ تُتَّبَعُ، وَلِكُلِّ دَارٍ طَرِيقٌ تُسْلَكُ.
أَقُولُ: وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِي مِمَّا أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ [٤٢: ٢٠]. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْبَحْثِ نَظِيرٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [٢: ٢٠٠] إِلَخْ. وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ عَمَلَهَا فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَأَنَّ مِنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْمَرْءُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ وَيَقُولُ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ وَيُرِيدُ بِحَسَبِ سَعَةِ مَعْرِفَتِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِهِ، وَلَهُ مَا يُرِيدُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ لِنِظَامِ هَذِهِ الْحَيَاةِ. وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ تَفْصِيلٌ وَتَقْيِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
زَمَنًا مَحْدُودًا، ثُمَّ تَفْنَى كَأَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.
إِنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ لِلْبَقَاءِ وَلَكَ فِي الْوُجُودِ طَوْرَانِ: طَوْرٌ عَاجِلٌ قَصِيرٌ وَهُوَ طَوْرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَطَوْرٌ آجِلٌ أَبَدِيٌّ وَهُوَ طَوْرُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَسَعَادَتُكَ فِي كُلٍّ مِنَ الطَّوْرَيْنِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِكَ وَمَا تَوَجُّهُكَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَيَاتِكَ، فَأَعْمَالُ النَّاسِ مُتَشَابِهَةٌ، وَمَشَقَّتُهُمْ فِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً عِلَّةً وَتَارَةً مَعْلُولًا لِطَهَارَةِ الرُّوحِ وَعُلُوِّ النَّفْسِ وَسُمُوِّ الْعَقْلِ وَرِقَّةِ الْوِجْدَانِ، وَهِيَ هِيَ الْمَزَايَا الَّتِي يُفَضَّلُ بِهَا إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ.
يُحَارِبُ قَوْمٌ حُبًّا فِي الرِّبْحِ وَالْكَسْبَ، أَوْ ضَرَاوَةً بِالْقَتْلِ وَالْفَتْكِ ; فَإِذَا غَلَبُوا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَأَهْلَكُوا الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيُحَارِبُ آخَرُونَ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةً لِقَوَانِينِ الْعَدْلِ، فَإِذَا غَلَبُوا عَمَّرُوا الْأَرْضَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فَهَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ، إِذَا اسْتَوَى فِي الْبِدَايَةِ الْعَمَلَانِ! وَهُمَا فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ مُتَبَايِنَانِ؟
يَكْسِبُ الرَّجُلُ طَلَبًا لِللَّذَّاتِ، وَحُبًّا فِي الشَّهَوَاتِ، فَيَغْلُو فِي الطَّمَعِ، وَيُوغِلُ فِي الْحِيَلِ، وَيَأْكُلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، حَتَّى يَجْمَعَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ، فَإِذَا هُوَ يَمْنَعُ الْمَاعُونَ، وَيَدَعُ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَلَهُوَ إِذَا سُئِلَ الْبَذْلَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَشَدُّ بُخْلًا، وَأَكَزُّ يَدًا وَأَقْبَضُ كَفًّا، وَيَكْسِبُ الرَّجُلُ طَلَبًا لِلتَّجَمُّلِ فِي مَعِيشَتِهِ وَحُبًّا لِلْكَرَامَةِ فِي قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَيُجْمِلُ فِي الطَّلَبِ، وَيَتَحَرَّى الْحَلَالَ مِنَ الرِّبْحِ، وَيَلْتَزِمُ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، وَيَتَوَقَّى الْغِشَّ وَالْخِيَانَةَ، ثُمَّ هُوَ يُنْفِقُ مِنْ سَعَتِهِ فَيُوَاسِي الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. وَيُعِينُ الْعَاجِزَ وَالضَّعِيفَ، وَتَكُونُ لَهُ الْيَدُ فِي بِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْمَعَابِدِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَلَاجِئِ، فَهَلْ يَسْتَوِي الرَّجُلَانِ وَهُمَا فِي الثَّرْوَةِ سِيَّانَ؟ وَفِي ظَاهِرَةِ الْعَمَلِ مُتَشَابِهَانِ أَنْ يَفْضُلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِحُسْنِ الْإِرَادَةِ؟
تَعْلُو نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ مَنْ أَخْلَدُوا إِلَى الشَّهَوَاتِ وَكَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ عِلْمِهِمْ كَحَظِّ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ: أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَسِفَادٌ وَبَغْيٌ مِنَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
قِسْ عَلَى هَذَا وُجُودُ مَنْ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْقُرْبَ مِنَ اللهِ وَالتَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِ وَالتَّحَقُّقَ بِتَجَلِّيَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، الْقُرْبَ مِنَ الْوَاسِعِ الْعَلِيمِ، الْخَلَّاقَ الْحَكِيمِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسَعَةِ الْقَلْبِ، وَبَسْطَةِ الْعِلْمِ، وَإِقَامَةِ النِّظَامِ وَالْحِكْمَةِ، وَنَصْبِ مِيزَانِ الْعَدْلِ وَبَسْطِ بِسَاطِ الرَّحْمَةِ، أَلَّا تَرَاهُ يَكُونُ أَشْرَفَ وُجُودٍ بَشَرِيٍّ وَأَعْلَاهُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ وَسُنَنِ اللهِ؟
لَسْتُ بِهَذَا الرَّمْزِ إِلَى مَكَانَةِ إِرَادَةِ الْبِرِّ مِنْ تَصْرِيفِ أَعْمَالِهِمْ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى سَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَائِهِمْ بِخَارِجٍ عَنْ مَوْضُوعِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَإِنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ قَدْ جَعَلَ عَطَاءَهُ لِلنَّاسِ مُعَلَّقًا عَلَى إِرَادَتِهِمْ وَلَا يُقَدِّرُ هَذَا حَقَّ قَدْرِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّذْكِيرِ بَلْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ.
إِذَا فَقِهْتَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أَيِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يُعَرِّجُ بِهِمْ إِلَى مُسْتَوَى الْكَمَالِ، فَتَكُونُ أَعْمَالُهُمْ صَالِحَةً رَافِعَةً لِنُفُوسِهِمْ وَنَافِعَةً لِغَيْرِهِمْ. وَأَبْهَمَ هَذَا الْجَزَاءَ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِي جَاهَدُوا وَصَبَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِهِمْ قُوَّةَ إِرَادَاتِهِمْ، فَكَانُوا السَّبَبَ فِي انْجِلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ الْوَصْفُ تَنْوِيهًا بِهِمْ وَوَعْدًا لَهُمْ بِالْجَزَاءِ، وَهُوَ مِنَ التَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُنَبِّهِ لَهُمْ إِلَى اسْتِعْدَادِهِمْ ضَرَبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي غَيْرِهِمْ كَمَا ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِتَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (كَأَيِّنْ) بِمَعْنَى " كَمْ " الْخَبَرِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَثِيرٌ، وَفِيهَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَشْهُورَتَانِ " كَائِنٌ " بِوَزْنِ فَاعِلٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَ " كَأَيِّنْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَسُكُونِ النُّونِ - الَّتِي قَالُوا: إِنَّ أَصْلَهَا التَّنْوِينُ أُثْبِتَ لَهُ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ كَمَا يُنْطَقُ بِهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْخَاصَّةِ - وَبِهَا قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقَالُوا: إِنَّ
أَصْلَهَا " أَيِّ " الِاسْتِفْهَامِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَصَارَتْ كَلِمَةً مُسْتَقِلَّةً لَا مَعْنَى فِيهَا لِلتَّشْبِيهِ وَلَا لِلِاسْتِفْهَامِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ خَلَوْا قَدْ قَاتَلَ مَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى فِي وِجْهَةِ قُلُوبِهِمْ وَفِي أَعْمَالِهِمْ، الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ هُدَاةٌ وَمُعَلِّمُونَ لَا أَرْبَابٌ مَعْبُودُونَ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيْ مَا ضَعُفَ مَجْمُوعُهُمْ بِمَا أَصَابَ بَعْضَهُمْ مِنَ الْجُرْحِ وَبَعْضَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ هُوَ النَّبِيَّ نَفْسَهُ ; لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا فِي سَبِيلِ شَخْصِ نَبِيِّهِمْ، وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنْ نَبِيِّهِمْ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَبِّهِمْ وَبَيَانُهُ لِهِدَايَتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [١٨: ٥٦] وَمَا ضَعُفُوا عَنْ جِهَادِهِمْ وَلَا اسْتَكَانُوا وَلَا وَلَّوْا بِالِانْقِلَابِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، بَلْ ثَبَتُوا بَعْدَ قَتْلِ نَبِيِّهِمْ كَمَا ثَبَتُوا مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الثَّبَاتِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْضَاهَا اللهُ كَحِفْظِ الْحَقِّ وَحِمَايَتِهِ وَتَقْرِيرِ الْعَدْلِ وَإِقَامَتِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ " قُتِلَ مَعَهُ " ; وَلِذَلِكَ رُسِمَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلْفٍ لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيِ اسْتُشْهِدُوا فِي الْقِتَالِ مَعَهُ أَوْ قُتِلُوا كَمَا قُتِلَ هُوَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ فِي الْحَرْبِ، وَهُوَ نَفْيٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَا سِيَّمَا فِي النَّبِيِّينَ غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ
ذَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالرُّسُلِ عِلْمًا وَاللهُ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [٤: ١٦٤] وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلُ قَتَادَةَ: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا عَجَزُوا وَمَا تَضَعْضَعُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا أَيْ مَا ارْتَدُّوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ وَلَا عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَمَا وَهَنُوا لِقَتْلِ النَّبِيِّ وَمَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنِ اللهِ لِلنَّاسِ وَعَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حُبِّ اللهِ لِلنَّاسِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ أَمْثَالَهُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَعْتَبِرُوا بِحَالِهِمْ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ، وَسُنَّتَهُ
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي اعْتَصَمُوا فِيهَا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ إِلَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُنْبِئُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَصِدْقِ إِرَادَتِهِمْ، وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا أَلَمُّوا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ السُّنَنِ، أَوِ الْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّدَتْهُ الشَّرَائِعُ، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا بِالْغُلُوِّ فِيهِ، وَتَجَاوُزِ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَنُ لَهُ وَثِبِّتْ أَقْدَامَنَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَيْتَنَا إِلَيْهِ حَتَّى لَا تُزَحْزِحَنَا عَنْهُ الْفِتَنُ، وَفِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ، حَتَّى لَا يَعْرُونَا الْفَشَلُ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بِكَ، الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، الْمُعْتَدِينَ عَلَى أَهْلِ دِينِكَ، فَلَا يَشْكُرُونَ لَكَ نِعَمَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَلَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ، فَإِنَّ النَّصْرَ بِيَدِكَ، تُؤْتِيهِ مَنْ تَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْإِسْرَافَ فِي الْأُمُورِ مِنْ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ وَالْخِذْلَانِ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالثَّبَاتَ وَالِاسْتِقَامَةَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ ; وَلِذَلِكَ سَأَلُوا اللهَ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِهِمْ أَثَرَ كُلِّ ذَنْبٍ وَإِسْرَافٍ، وَأَنْ يُوَفِّقَهُمْ إِلَى دَوَامِ الثَّبَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَجُّهَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مِمَّا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ الْمُجَاهِدَ قُوَّةً وَعَزِيمَةً وَمُصَابَرَةً لِلشَّدَائِدِ ; وَلِذَلِكَ يَعْتَرِفُ عُلَمَاءُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ
بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ صَبْرًا وَثَبَاتًا فِي الْقِتَالِ مِنَ الْجَاحِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ [٢: ٢٥٠] الْآيَةَ.
فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ، وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِزَّةِ، وَحُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ وَشَرَفِ الذِّكْرِ وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِنَيْلِ رِضْوَانِ اللهِ وَقُرْبِهِ، وَالنَّعِيمِ بِدَارِ كَرَامَتِهِ، وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ - أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [٣٢: ١٧] وَمَا آتَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِحُسْنِ إِرَادَتِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ حُسْنِ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، إِذَا أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَبَّوُا الْمَقَاصِدَ بِأَسْبَابِهَا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ حِكْمَتَهُ، فَيَكُونُ عَمَلُهُمْ لِلَّهِ بِاللهِ كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا " أَيْ إِنَّ مَشَاعِرَهُ وَأَعْمَالَهُ لَا تَكُونُ مَشْغُولَةً إِلَّا بِمَا يُرْضِي اللهَ وَيُقِيمُ سُنَنَهُ وَيُظْهِرُ حِكَمَهُ فِي خَلْقِهِ.
وَإِنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَحُسْنِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِعَمَلِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا
مَشْرُوطٌ بِاتِّبَاعِ السُّنَنِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِي وَقْعَةِ الرَّجِيعِ
وَقَدْ صُرِّحَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كَوْنِ الْآيَاتِ تَأْدِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَوْبِيخًا لِمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ مَا فَرَّطَ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ فِي الضُّحَى أَوْ أَشَدُّ ظُهُورًا.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُنَافِقِينَ - الَّذِينَ وَبَّخَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنِ انْهَزَمُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا - إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ أُولَئِكَ الْقَائِلِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَدِينِكُمْ وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي جَرَيْنَا عَلَيْهَا فِي
تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا عَامٌّ وُجِّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا لِتَكَافُلِهِمْ، وَكُلٌّ يَعْتَبِرُ بِهَا بِحَسَبِ حَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْآتِيَةُ بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ الْخِطَابِ وَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ، مَعَ تَقْسِيمِهِمْ إِلَى مُرِيدٍ لِلدُّنْيَا وَمُرِيدٍ لِلْآخِرَةِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا مَعْنَاهُ إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْبَلُوا دَعْوَتَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْخَيْرِ كَأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ دَعَاكُمْ مَرْضَى الْقُلُوبِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَتَوْسِيطِ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَئِيسِهِمْ (أَبِي سُفْيَانَ) لِيَطْلُبَ لَكُمْ مِنْهُ الْأَمَانَ، أَوِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَآمَنُوا بِأَفْوَاهِهِمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَذَلُوكُمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَرْبِ، ثُمَّ دَعَوْكُمْ بَعْدَهَا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى دِينِكُمْ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ ابْتِدَاءً أَوِ اسْتِدْرَاجًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ
وَذِكْرُ بَعْضِهِمْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، وَقَدْ تَبِعُوا فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ وَحِزْبُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى الِارْتِدَادِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا.
بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَكِّرُوا فِي وِلَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَحِزْبِهِ، وَلَا عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَشِيعَتِهِ، وَلَا أَنْ تُصْغُوا لِإِغْوَاءِ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الْمَوْلَى الْقَادِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ إِذَا هُوَ
تَوَلَّى شُئُونَكُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي وَعَدَكُمْ بِهَا فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [٨: ٤٠] وَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَيَخْذُلُ مَنْ يُنَاوِئُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [٤٧: ١٠، ١١] وَمِنْ هُنَا أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَابَهُ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا: " لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ " إِذْ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُجَابَ اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ هَذَا الْمُنْبِئِ عَنْ سُنَّتِهِ، وَبِتَذْكِيرِ الرَّسُولِ لَهُمْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ مَوْلَاكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ وَنَصْرِ الْحَقِّ فَهَلْ تَحْتَاجُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ؟ فَإِنَّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ النَّاصِرِ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُوَى وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ.
وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الَّذِي آتَاهُمُ الْقُوَى وَسَخَّرَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَهُوَ الْقَادِرُ بِذَاتِهِ عَلَى نَصْرِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِإِيتَائِهِمْ أَفْضَلَ مَا يُؤْتِي غَيْرَهُمْ مِنَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالْعَزِيمَةِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَإِقَامَةِ السُّنَنِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْأَسْبَابِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا. وَيَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ: فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ اسْمُ التَّفْضِيلِ (خَيْرُ) فِيهَا عَلَى غَيْرِ بَابِهِ ; لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي أُولَئِكَ النَّاصِرِينَ الَّذِينَ يُعَرِّضُ بِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، فَإِنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الْمُتَبَادِرُ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ تَعْلِيلٌ أَوْ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِهِ - تَعَالَى - خَيْرُ النَّاصِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، مُبَيِّنَةٌ لِبَعْضِ وُجُوهِهِ تَبْيِينًا يُقَبِّحُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَيَزِيدُهُمْ حُبًّا فِي الْإِيمَانِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ سَيُحَكِّمُ فِي أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ سُنَّتَهُ الْعَادِلَةَ، وَهِيَ أَنَّهُ يُلْقِي فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَبِسُكُونِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ شِدَّةُ الْخَوْفِ الَّتِي تَمْلَأُ الْقَلْبَ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِاللهِ أَصْنَامًا وَمَعْبُودَاتٍ لَمْ يُنَزِّلْ بِهَا سُلْطَانًا،
أَيْ لَمْ يُقِمْ بُرْهَانًا مِنَ الْعَقْلِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا زَعَمُوا مِنْ أُلُوهِيَّتِهَا وَكَوْنِهَا وَاسِطَةً بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا فِي اتِّخَاذِهَا وَاعْتِقَادِهَا آبَاءَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ فِي دِينِهِ، وَلَا مُتَّبِعٍ لِلدَّلِيلِ فِي اعْتِقَادِهِ فَهُوَ دَائِمًا عُرْضَةٌ لِاضْطِرَابِ الْقَلْبِ وَاتِّبَاعٍ خَطَرَاتِ الْوَهْمِ، يَعُدُّ الْوَسْوَاسَ أَسْبَابًا وَيَرَى الْهَوَاجِسَ مُؤَثِّرَاتٍ وَعِلَلًا قِيَاسًا عَلَى اتِّخَاذِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْلِيَاءَ وَجَعْلِهِمْ وَسَائِطَ عِنْدَ اللهِ وَشُفَعَاءَ، وَاعْتِيَادِهِ بِذَلِكَ أَنْ يَرْجُوَ مَا لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ، وَيَخَافُ مَا لَا يُخَافُ مِنْهُ ضَيْرٌ، فَالْإِشْرَاكُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِوُقُوعِ الرُّعْبِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُسْنِدُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ ; لِأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا لِيَكُونَ بُرْهَانًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَسُوءِ أَثَرِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَعِيدَ فِيهَا عَامًّا وَلَيْسَ كُلُّ الْكُفْرِ يُثِيرُ الرُّعْبَ بِطَبِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ طَبِيعَةُ الشِّرْكِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ تَأْثِيرًا غَيْبِيًّا وَرَاءَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ.
وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: سَنُلْقِي وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْجَزَهُ اللهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي أَوَّلِ الْحَرْبِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَقْدِيرٍ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا عَقِبَ الْقِتَالِ وَانْصِرَافِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْوَعْدَ أُنْجِزَ فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، إِذْ أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ أَنْ يَرْجِعُوا لِاسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَوْقَعَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ مَعْبَدٌ مَا قَالَ (رَاجِعْ ص٨٨ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ).
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ خَاصٌّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَلَوْ كَانَ عَامًّا لَشَمَلَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ - وَلَمْ يَكُنِ الْكُفَّارُ فِيهَا مَرْعُوبِينَ، بَلْ كَانُوا مُسْتَمِيتِينَ وَكَذَلِكَ نَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَافِرِينَ قَدْ حَارَبُوا وَلَمْ يُصِبْهُمُ الرُّعْبُ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
الَّذِينَ كَانُوا فِي مَرْتَبَةٍ مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ قَدْ صَدَّقَهَا الْعَمَلُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بَذْلُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ، الَّذِينَ عَاتَبَهُمُ اللهُ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْهَفْوَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَافِرُونَ فَهُمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ، وَأُقِيمَ لَهُمْ عَلَى الدَّعْوَةِ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، فَجَحَدُوا وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا الْحَقَّ، وَآثَرُوا مُقَارَعَةَ الدَّاعِي وَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ بِالسَّيْفِ، وَقَعَدُوا لَهُ وَلَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِذَا نَظَرْنَا فِي شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، وَفِي حَالِهِمْ مَعَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ نَجِدُ أَنَّ شَأْنَهُمْ مَعَهُمْ كَشَأْنِ مَنْ يَرَى نُورَ الْحَقِّ مَعَ خَصْمِهِ فَيَحْمِلُهُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ عَلَى مُجَاحَدَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ، يَرْتَابُ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَيَتَزَلْزَلُ، فَإِذَا شَاهَدَ الَّذِينَ دَعَوْهُ ثَابِتِينَ مُطْمَئِنِّينَ يَعْظُمُ ارْتِيَابُهُ وَيَهَابُ خَصْمَهُ حَتَّى يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْهُمْ. هَذَا هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ الطَّبِيعَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، إِذَا قَاوَمُوا الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَلَا تُبَالُوا بِقَوْلِ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ: بِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا بَالُنَا نَجِدُ الرُّعْبَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ؟ فَإِنَّ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ قَدْ يَكُونُونَ عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا الْوَعْدِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ وَالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا رُعْبُ الْمُشْرِكِينَ مُرْتَبِطٌ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الْآثَارِ، فَحَالُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدِ انْصَرَفُوا عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْحَقِّ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ، فَالْقُرْآنُ بَاقٍ عَلَى وَعْدِهِ؟، وَلَكِنْ هَاتِ لَنَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَنْطِقُ إِيمَانُهُمْ عَلَى آيَاتِهِ وَلَكَ مِنْ إِنْجَازِ وَعْدِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَشَاءُ. وَتَلَا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [٢٤: ٥٥] الْآيَةَ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِشْرَاكُ سَبَبًا لِلرُّعْبِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي رَبَطَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ كَالشُّرْبِ لِلرِّيِّ وَالْأَكْلِ لِلشِّبَعِ، فَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْحَقُّ تَزَلْزَلَّ الْبَاطِلُ فِي
نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ.
أَقُولُ: وَمِنْ تَمَامِ التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا يَقَعُ فِيهَا الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، كَالْوَقَائِعِ الَّتِي يُشْرَبُ فِيهَا الْمَرْءُ وَلَا يَرْوَى لِعَارِضٍ مَرَضِيٍّ، فَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ كَسُنَنِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهَا عَوَارِضُ وَشُرُوطٌ وَمَوَانِعُ.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
الْوَعْدُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَعْدُ النَّبِيِّ لَهُمْ عِنْدَ تَعْبِئَتِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرُوِيَ فِيهِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا بَرَزَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ فَإِنَّا لَنْ نَزَالَ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا خُوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَامَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ يُعَجِّلُنَا بِسُيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ وَيُعَجِّلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُعَجِّلُهُ اللهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُعَجِّلَكَ اللهُ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ وَالرَّحِمَ يَا ابْنَ عَمٍّ. فَتَرَكَهُ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَعَلِيٍّ أَصْحَابُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ
عَوْرَتُهُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وَحَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ - حَمَلَ فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ فَانْقَمَعَ، فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ تَنَادَوْا فَشَدُّوا
فَمُلَخَّصُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ هَكَذَا وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ بِالنَّصْرِ حَتَّى فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أَيِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ تَقْتُلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا بِإِذْنِهِ - تَعَالَى - أَيْ بِعِنَايَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ضَعُفْتُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، فَلَمْ تَقْوَوْا عَلَى حَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ فَقَالَ بَعْضُكُمْ مَا بَقَاؤُنَا هُنَا وَقَدِ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ؟، وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَا نُخَالِفُ أَمْرَ الرَّسُولِ وَعَصَيْتُمْ رَسُولَكُمْ وَقَائِدَكُمْ بِتَرْكِ أَكْثَرِ الرُّمَاةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ يَحْمُونَ ظُهُورَكُمْ بِنَضْحِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبْلِ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَصَبَرْتُمْ عَلَى الضَّرَّاءِ وَلَمْ تَصْبِرُوا فِي السَّرَّاءِ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا كَالَّذِينَ تَرَكُوا مَكَانَهُمْ وَذَهَبُوا وَرَاءَ الْغَنِيمَةِ لِيُصِيبُوا مِنْهَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ كَالَّذِينَ ثَبَتُوا مِنَ الرُّمَاةِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُمْ نَحْوُ عَشَرَةٍ وَكَانَ الرُّمَاةُ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ
ثَلَاثُونَ رَجُلًا، أَيْ صَدَقَكُمْ وَعْدَهُ وَنَصَرَكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَكَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا النَّصْرُ إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ، فَعِنْدَمَا وَصَلْتُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ تَعُودُوا مُسْتَحِقِّينَ لِهَذِهِ الْعِنَايَةِ لِمُخَالَفَتِكُمْ لِسُنَّتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ أَهْلَ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ ; فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حَتَّى لِلْغَايَةِ وَإِذَا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْحِينِ وَالْوَقْتِ. هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِلشَّرْطِ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ " مَنَعَكُمْ نَصْرَهُ " أَوْ نَحْوَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي حَذْفِ الْجَوَابِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هِيَ أَنْ تَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا حَيْثُ يُنْتَظَرُ الْجَوَابُ بِكُلِّ شَغَفٍ وَلَهَفٍ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَقْدِيرَهُ: امْتَحَنَكُمْ بِالْإِدَالَةِ مِنْكُمْ لِيُمَحِّصَكُمْ وَيُمَيِّزُ الْمُخْلِصِينَ وَالصَّادِقِينَ مِنْكُمْ. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَأَبُو مُسْلِمٍ قَدْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ " إِذَا " وَلَكِنَّ اقْتِرَانَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِثُمَّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَنَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ صَدَقَكُمْ وَعْدَهُ فَكُنْتُمْ تَقْتُلُونَهُمْ بِإِذْنِهِ وَمَعُونَتِهِ قَتْلَ حَسٍّ وَاسْتِئْصَالٍ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بِفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَعِصْيَانِكُمْ، وَحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمَامِ النَّصْرِ
قَالَ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ بِذَلِكَ التَّمْحِيصِ الَّذِي مَحَا أَثَرَ الذَّنْبِ مِنْ نُفُوسِكُمْ
فَصِرْتُمْ كَأَنَّكُمْ لَمْ تَفْشَلُوا وَلَمْ تَتَنَازَعُوا وَلَمْ تَعْصُوا وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعَفْوِ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَمَا يَأْتِي وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَذَرُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ يُلِمُّ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ تَقْصِيرٍ يَهْبِطُ بِنُفُوسِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَبْتَلِيَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُمَحِّصَ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَيَكُونُوا مِنَ الْمُخْلِصِينَ.
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ أَيْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَصْعَدْتُمْ فِيهِ، أَيْ ذَهَبْتُمْ وَأَبْعَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُنْهَزِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ الصُّعُودِ الَّذِي هُوَ الذَّهَابُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ كَالْجِبَالِ وَلَا تَلْوُونَ أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ بِنَجْدَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ، وَلَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى مَنْ وَرَاءَكُمْ لِشِدَّةِ الدَّهْشَةِ الَّتِي عَرَتْكُمْ وَالذُّعْرِ الَّذِي فَاجَأَكُمْ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَالرَّسُولُ مِنْ وَرَائِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ فِيمَنْ تَأَخَّرَ مَعَهُ مِنْكُمْ فَكَانُوا سَاقَةَ الْجَيْشِ - رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دَعْوَتِهِ: إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رَسُولُ اللهِ مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأَنْتُمْ لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تَنْظُرُونَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي الرَّسُولِ فَتَقْتَدُوا بِهِ فِي صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لَمْ يَفْعَلْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أَيْ فَجَازَاكُمُ اللهُ غَمًّا بِسَبَبِ الْغَمِّ الَّذِي أَصَابَ الرَّسُولَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَهَزِيمَتِكُمْ أَوْ غَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ، فَنَالَ الْعَدُوُّ مِنْكُمْ وَنِلْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِذْ صِرْتُمْ مِنَ الدَّهْشَةِ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَفَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ الَّتِي طَمِعْتُمْ فِيهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَمُّ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي يُفَاجِئُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الْحُزْنُ فَهُوَ الْأَلَمُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرُّ زَمَنًا، أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْغَمَّ أَلَمٌ أَوْ ضِيقٌ فِي الصَّدْرِ يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَسُوؤُكَ وَإِنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ حَقِيقَتَهُ أَوْ سَبَبَهُ، أَوْ لَا تَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ الْمَخْرَجُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ، يَقُولُونَ: غَمَّ الشَّيْءَ إِذَا أَخْفَاهُ، وَغُمَّ عَلَيْهِمُ الْهِلَالُ لَمْ يَظْهَرْ وَلَمْ يُرَ، وَرَجُلٌ أَغَمُّ الْوَجْهِ: كَثِيرُ شِعْرِهِ.. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [١٠: ٧١]
بِالْعَمَلِ وَالتَّمَرُّنِ الَّذِي بِهِ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ وَتَرْسَخُ الْأَخْلَاقُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي فَأَثَابَكُمْ لِلرَّسُولِ أَيْ فَآسَاكُمْ فِي الِاغْتِمَامِ وَكَمَا غَمَّكُمْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ كَسْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالشَّجَّةِ وَغَيْرِهِمَا غَمَّهُ مَا نَزَلَ بِكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا اغْتَمَّهُ لِأَجْلِكُمْ بِسَبَبِ غَمٍّ اغْتَمَمْتُمُوهُ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يُثَرِّبْكُمْ عَلَى عِصْيَانِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُسَلِّيَكُمْ وَيُنَفِّسَ عَنْكُمْ لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَصْرِ اللهِ وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ. اهـ.
وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَأَسْبَابِهِ وَلَا مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ وَعَاقِبَتِهِ فِيكُمْ، وَمِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ سَمَاعِهَا أَوْ تِلَاوَتِهَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِهِ، عَالِمٌ بِنَبِيِّهِ وَخَوَاطِرِهِ فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا ازْدَادَ نَشَاطًا خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي التَّقْصِيرِ وَأَنْ يَرَاهُ اللهُ حَيْثُ لَا يَرْضَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ فَلَا تَعْتَذِرُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَلَا تُخَادِعُوهَا، فَإِنَّ الْخَبِيرَ بِأَعْمَالِكُمُ الْمُحِيطَ بِنُفُوسِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ خَافِيَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ لَا عَلَى أَعْذَارِكُمْ وَتَأْوِيلِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ الْأَمَنَةُ: الْأَمْنُ وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَالنُّعَاسُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَيْنَيْنِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " تَغْشَى " بِالْفَوْقِيَّةِ أَيِ الْأَمَنَةُ وَالْبَاقُونَ " يَغْشَى " بِالتَّحْتِيَّةِ أَيِ النُّعَاسُ. يُقَالُ غَشِيَهُ النُّعَاسُ أَوِ النَّوْمُ كَمَا يُقَالُ رَانَ عَلَيْهِ أَيْ عَرَضَ لَهُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَغَطَّاهُ، كَمَا يُلْقَى السِّتْرُ عَلَى الشَّيْءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ هَذَا النُّعَاسِ، وَأَنَّهُ كَانَ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْخَوْفِ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْخَطَرِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ السُّيُوفَ كَانَتْ تَسْقُطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ. قَالَ مَا مِثَالُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَقْتِ هَذَا النُّعَاسِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَنَامُ تَحْتَ تُرْسِهِ كَأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَفَزَعٍ إِلَّا الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ فَاشْتَدَّ جَزَعُهُمْ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [٨: ١١] وَإِنَّمَا هَذِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ
فِي الْخَلْقِ بِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّعُ فِي صَبِيحَةِ لَيْلَتِهِ هَوْلًا كَبِيرًا وَمُصَابًا عَظِيمًا فَإِنَّهُ يَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، وَيَبِيتُ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ فَيُصْبِحُ خَامِلًا ضَعِيفًا، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ يَتَوَقَّعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِذْ بَلَغَهُمْ أَنَّ جَيْشًا يَزِيدُ عَلَى عَدَدِهِمْ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ سَيُحَارِبُهُمْ غَدًا وَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَعْظَمُ عُدَّةً فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنْ يَنَامُوا عَلَى بِسَاطِ الْأَرَقِ وَالسُّهَادِ يَضْرِبُونَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ، وَيُفَكِّرُونَ بِمَا سَيُلَاقُونَ فِي غَدِهِمْ
وَأَمَّا النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ وَقَتْلِ طَائِفَةٍ مِنْ كِبَارِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَكَانُوا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْعَةِ قِسْمَيْنِ: فَقِسْمٌ مِنْهُمْ ذَكَرُوا مَا أَصَابَهُمْ فَعَرَفُوا أَنَّهُ كَانَ بِتَقْصِيرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا اللهَ وَوَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَوَثِقُوا بِوَعْدِ رَبِّهِمْ - رَاجِعْ آيَةَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ [٣: ١٣٥] وَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنْ كَانُوا قَدْ غُلِبُوا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ فِي غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِيهَا مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَعِصْيَانِ قَائِدِهِمْ وَرَسُولِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً أَوِ الْأَمَنَةَ نُعَاسًا، حَتَّى يَسْتَرِدُّوا مَا فَقَدُوا مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَرْحِ وَمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الضَّعْفِ، وَالنَّوْمُ لِلْمُصَابِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ وَعِنَايَةٌ مِنَ اللهِ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاطْمِئْنَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّاحَةِ لِلْأَجْسَامِ وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ، أَنْ سَهَّلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِهِمْ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ عِنْدَمَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ مُذْعِنِينَ.
قَالَ: وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اقْتِفَاءِ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى
جَعْلِهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قِيلَ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمْ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَفِيهَا الضُّعَفَاءُ وَالْأَقْوِيَاءُ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ ظَنَّهُمْ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فَنُلَامُ أَنْ وَلَّيْنَا وَغُلِبْنَا؟ يَعْنُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ النَّصْرِ وَعَدَمِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِمَّا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ النَّصْرَ وَحَقِّيَّةَ الدِّينِ مُتَلَازِمَانِ وَعَجِبُوا مِمَّا وَقَعَ فِي أُحُدٍ كَأَنَّهُ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، أَيْ فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لِرُسُلِهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. أَقُولُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مُخَالِفًا لِهَذَا.
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ لَا أَمْرَ النَّصْرِ وَحْدَهُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَجْرِي بِحَسَبِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ وَنِظَامِهِ الَّذِي رَبَطَ فِيهِ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ وَمِنْهُ نَصْرُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا أَيْ لَوْ كَانَ أَمْرُ
وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ يَقَعُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَاقِبَةَ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُمْ مِنْكُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَمْتَحِنَ اللهُ نُفُوسَكُمْ فَيُظْهِرَ لَكُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَيُطَهِّرَهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ بِالسَّرَائِرِ وَالْوِجْدَانَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلصُّدُورِ حَيْثُ الْقُلُوبُ الْمُنْفَعِلَةُ بِهَا، وَالْمُنْبَسِطَةُ أَوِ الْمُنْقَبِضَةُ بِتَأْثِيرِهَا، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهَا فَيَنْخَدِعُونَ لِلشُّعُورِ الْعَارِضِ لَهَا الَّذِي
يَرْسَخُ بِالتَّجَارِبِ وَالِابْتِلَاءِ كَمَا انْخَدَعَ الَّذِينَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلْقَوْهُ.
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ جَرَوْا عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ تُهِمُّهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذْ كَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَحْصُورًا فِيمَا أَصَابَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَكَانَ فِي غَشَيَانِ النُّعَاسِ وَنُزُولِ الْأَمَنَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُونِهِمْ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً ; لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ فِي اللهِ ظَنَّ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ كَظَنِّهِمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَهُمُ الَّذِينَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ يُعَارِضُ فَهْمَهُمْ هَذَا كَوْنُ الْخِطَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَلَامُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ سَيَأْتِي بَعْدَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ تَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَأْسًا وَضَعْفًا لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ وَلِيَبْتَلِيَ لِمَنْ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ دُونَ مَنْ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَلَكِنْ هَذَا تَفْكِيكٌ وَتَشْوِيشٌ لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ فِيمَا تَحْكِيهِ عَنِ الَّذِينَ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يُوهِمُ الْمُحَالَ
إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦: ١٤٨] وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا [٦: ١٠٧] وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي ظَنَّتْ مِثْلَ ظَنِّهِمْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مِثْلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُ ظَنًّا لَا يُوثَقُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْعِلْمُ الْيَقِينُ. وَقَالَ فِي سُورَةِ يس: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٣٦: ٤٧] فَقَدْ جَعَلَ تَبَرُّؤَ النَّاسِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ وَاعْتِذَارَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَخَبَّطُونَ فِي دَيَاجِي الظَّنِّ، وَيَهِيمُونَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ مَعَ إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَحُصُولِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ. وَقَدْ نَظَرَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَنْ رَآهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ حَتَّى جَعَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هِيَ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَجَعَلَ الْحُجَّةَ فِيهَا لِلْأَشَاعِرَةِ.
وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ، وَبَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا فِيهَا وَاحْتَجُّوا بِوَاحِدَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الْأُخْرَى:
(الْحَقِيقَةُ الْأُولَى) أَنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِمَشِيئَتِهِ يَجْرِي كُلُّ شَيْءٍ، فَلَا قَاهِرَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
(الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ إِنَّمَا يَجْرِي بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ وَمَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] وَفِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْمَشِيئَةُ أَوِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ.
(الْحَقِيقَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَقَدَرِهِ فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ذَا عِلْمٍ وَمَشِيئَةٍ وَإِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ، فَيَعْمَلُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مَا يَرَى بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ وَشُعُورُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. وَالْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ وَبِعَمَلِهِ تُنَاطُ سَعَادَتُهُ وَشَقَاوَتُهُ
عِلْمِنَا أَنَّ الْعَمَلَ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، وَأَنْ نَتْرُكَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ.
وَإِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ يَذْكُرُ بَعْضَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَيَسْكُتُ عَنِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي ذَلِكَ - وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ - وَلَكِنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَجْحَدُ شَيْئًا مِنْهَا جُحُودَهُ وَيُبَيِّنُ لَنَا خَطَأَهُ وَضَلَالَهُ كَمَا بَيَّنَ خَطَأَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا فِي مَوْضِعٍ وَبَيَّنَ خَطَأَ مَنْ يُنْكِرُ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْقُوَى، وَيَكْفُرُ لَهُ نِعْمَةَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي شُكْرِ هَذِهِ الْقُوَى بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ، كَمَا يُنْكِرُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْعِمَ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي يُجْلَبُ بِهَا الْخَيْرُ عِنْدَمَا تُبْطِرُهُ النِّعْمَةُ فَيَنْسُبُهَا لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ وَيَنْسَى ذِكْرَ رَبِّهِ وَشُكْرَهُ. وَقَدْ جَمَعَ - تَعَالَى - بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [٤: ٧٨، ٧٩] وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا، ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا بِأَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ضَعُفُوا وَأَنْكَرُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا احْتِجَاجًا لِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِذَارًا عَنْهَا، فَأَجَابَهُمْ - تَعَالَى - مُبَيِّنًا لَهُمُ الْحَقِيقَةَ الْأُولَى، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ اللهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْخَالِقُ لِلْقُوَى وَالْوَاضِعُ لِلسُّنَنِ وَالْمَقَادِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ الْفَرْعَ الَّذِي اقْتَضَى الْمَقَامُ بَيَانَهُ مِنْ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهَا وَوَاضِعُ السُّنَنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يُوَصِّلُ بِهَا إِلَيْهَا وَالْخَالِقُ لِلْقُوَى الْكَاسِبَةِ لِأَسْبَابِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهَا لِيُشْكَرَ عَلَيْهَا وَأَنَّ السَّيِّئَةَ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ الْكَاسِبُ لَهَا وَالْمُنْحَرِفُ عَنْ سُنَنِ اللهِ وَشَرِيعَتِهِ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ وَيَرُدَّهَا إِلَى التَّوْبَةِ، كَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ. الْأُولَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَالثَّانِيةُ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أَيْ لَمَا حَصَلَ الْقَتْلُ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِبُرُوزِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ الْقِتَالِ الَّتِي يُصْرَعُونَ فِيهَا. وَبُرُوزُهُمْ هَذَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ: فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مُحَالٌ وَلَا نَصْرٌ لِمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جَامِعَةٌ لِلْحَقَائِقِ
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا أَيْ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَفَرُّوا مِنْ أَمَاكِنِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّوَلِّي مِنْهُمْ إِلَّا بِإِيقَاعِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فِي الزَّلَلِ، أَيْ زَلُّوا وَانْحَرَفُوا عَمَّا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا ثَابِتِينَ عَلَيْهِ بِاسْتِجْرَارِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتَجَرَّهُمْ حَتَّى زَلُّوا فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ الصَّغِيرَةَ إِذَا تَرَخَّصَ الْإِنْسَانُ فِيهَا تَصِيرُ مُسَهِّلَةً لِسَبِيلِ الشَّيْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ اهـ. وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ تَوَلَّوُا الرُّمَاةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَثْبُتُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ لِيَدْفَعُوا الْمُشْرِكِينَ عَنْ ظُهُورِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا زَلُّوا وَانْحَرَفُوا عَنْ مَكَانِهِمْ إِلَّا مُتَرَخِّصِينَ فِي ذَلِكَ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَهَابِهِمْ وَرَاءَ الْغَنِيمَةِ ضَرَرٌ، فَكَانَ هَذَا التَّرَخُّصُ وَالتَّأْوِيلُ لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ عَنِ التَّحَوُّلِ وَتَرْكِ الْمَكَانِ سَبَبًا لِكُلِّ مَا جَرَى مِنَ الْمَصَائِبِ، وَأَعْظَمُهَا مَا أَصَابَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ تَخَلَّوْا عَنِ الْقِتَالِ مِنَ الرُّمَاةِ وَغَيْرِهِمْ، كَالَّذِينَ انْهَزَمُوا عِنْدَمَا جَاءَهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ خَلْفِهِمْ وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عُوتِبَ فِي هَزِيمَتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ عَفَا اللهُ عَنْهُ.
أَمَّا كَوْنُ الِاسْتِزْلَالِ قَدْ كَانَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: (بِبَعْضِ) عَلَى أَصْلِهَا وَأَنَّ الزَّلَلَ الَّذِي وَقَعَ هُوَ عَيْنُ مَا كَسَبُوا مِنَ التَّوَلِّي عَنِ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ إِنَّ بَعْضَ مَا كَسَبُوا قَدْ كَانَ سَبَبًا لِزَلَّتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ مُتَقَدِّمًا دَائِمًا عَلَى الْمُسَبِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ كَسْبِهِمْ مُتَقَدِّمًا عَلَى زَلَلِهِمْ هَذَا وَمُفْضِيًا إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ تَوَلَّوُا الرُّمَاةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِالزَّلَلِ الَّذِي أَوْقَعَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهِ مَا كَانَ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْفَشَلِ بَعْدَ تَوَلِّيهِمْ عَنْ مَكَانِهِمْ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّوَلِّي هُوَ الْمُرَادَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ أَدْبَرُوا عَنِ الْقِتَالِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا: مَا كَسَبَ الرُّمَاةُ مِنْهُمْ وَهُمْ بَعْضُهُمْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ مُدْبِرِينَ عَنِ الْقِتَالِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ بَعْضِ مَا كَسَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بَعْضُ الرُّمَاةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَرَّ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ وَجَاءُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ حَتَّى أَدْهَشُوهُمْ وَهَزَمُوهُمْ.
وَلِلسَّبَبِيَّةِ وَجْهٌ آخَرُ يَنْطَبِقُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الَّذِينَ تَوَلَّوْا، وَهُوَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا نَاشِئًا عَنْ بَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَحْدَثَتِ الضَّعْفَ فِي نُفُوسِهِمْ حَتَّى أَعْدَتْهَا إِلَى مَا وَقَعَ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [٤٢: ٣٠] فَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا إِلَّا أَنَّهُ هُنَالِكَ عَامٌّ وَهُنَا خَاصٌّ
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ فَالْعَفْوُ فِيهِ غَيْرُ الْعَفْوِ فِي آيَةِ الشُّورَى، ذَلِكَ عَفْوٌ عَامٌّ وَهَذَا عَفْوٌ خَاصٌّ، ذَلِكَ عَفْوٌ يُرَادُ بِهِ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ هَفَوَاتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إِلَى الْعُقُوبَةِ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي
الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْعَفْوُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ يُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَنْبَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ الَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَدْ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَرْبِيَةً وَتَمْحِيصًا وَعَفَا اللهُ عَنِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِتَحْتِيمِ الْعِقَابِ. وَمِنْ آيَاتِ مَغْفِرَتِهِ لَهُمْ وَحِلْمِهِ بِهِمْ تَوْفِيقُهُمْ لِلِاسْتِفَادَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ وَإِثَابَتُهُمُ الْغَمَّ الَّذِي دَفَعَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ حَتَّى تُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتَحَقُّوا الْعَفْوَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ
أَيْ غُزَاةً - وَهُوَ جَمْعٌ لِغَازٍ مِنَ الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ وَمِثْلُهُ عُفًّى جَمْعُ عَافٍ - سَوَاءٌ كَانَ غَزْوُهُمْ فِي وَطَنِهِمْ أَوْ فِي بِلَادٍ أُخْرَى فَقُتِلُوا: لَوْ كَانُوا مُقِيمِينَ عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، أَيْ مَا مَاتَ أُولَئِكَ الْمُسَافِرُونَ، وَمَا قُتِلَ أُولَئِكَ الْغَازُونَ، وَقَرْنُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْكُفْرِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْ مُؤْمِنٍ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ.
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ مُصَادِمٌ لِلْوُجُودِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَقَدِ انْتَهَى أَمْرُهُ وَصَارَ قَوْلُ (لَوْ كَانَ كَذَا) عَبَثًا لِأَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَرْتَفِعُ، وَالْحَسْرَةَ عَلَى الْفَائِتِ لَا تُفِيدُ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ ; وَلِذَلِكَ جَعَلَ - سُبْحَانَهُ - الْخِطَابَ فِي كِتَابِهِ مُوَجَّهًا إِلَى الْعُقَلَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولِي الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهُ وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَقْبَلُونَ هِدَايَتَهُ، وَقَالَ فِيمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [٧: ١٧٩].
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ قَائِلِهِ بِالدِّينِ أَوْ جُحُودِهِ، فَإِنَّ الدِّينَ يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْآجَالِ وَكَوْنِهَا بِإِذْنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [٣: ١٤٥] فَارْجِعْ إِلَيْهِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِعْلًا، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ فَلَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ سُئِلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَقَالَ: إِنَّنِي أُجِيبُ السَّائِلَ بِمِثْلِ مَا أَجَبْتُ بِهِ مَنْ سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ هِيَ السَّبَبُ فِي تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَلَا يَحْفِلُونَ بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ مَا يُنْتَقَدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ، فَمَا قَرَّرَهُ فَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ
فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُلْحِدٍ إِنْكَارُهُ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ
لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ لَا تَكُونُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَلَا تَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمُ النَّاشِئِ عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْكُمْ سَبَبًا لِتَحَسُّرِهِمْ وَغَمِّهِمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - ; فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكُمْ أَشِدَّاءَ أَقْوِيَاءَ لَا يُضْعِفُكُمْ فَقْدُ مَنْ فُقِدَ مِنْكُمْ، وَلَا يَقْعُدُ بِكُمْ عَنِ الْقِتَالِ خَوْفٌ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فَإِنَّهُمْ يَحْزَنُونَ وَيَتَحَسَّرُونَ، هَذَا وَجْهٌ فِي التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ نَفْسِهِ، وَمُلَخَّصُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ ; لِأَجْلِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا بِامْتِيَازِكُمْ عَلَيْهِمْ إِذْ يَضْعُفُونَ بِفَقْدِ مَنْ يُفْقَدُ مِنْهُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَضْعُفُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاعْتِبَارِ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا فِيمَنْ مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا مَا قَالُوا ; لِيَكُونَ أَثَرُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ وَعَاقِبَتُهُ
وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي بَقَاءِ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَإِنْ طَوَى بِالْأَسْفَارِ بِسَاطَ كُلِّ بَرٍّ، وَنَشَرَ شِرَاعَ كُلِّ بَحْرٍ، وَخَاضَ مَعَامِعَ الْحُرُوبِ، وَصَارَعَ الْأَهْوَالَ وَالْخُطُوبَ. وَيُمِيتُ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَإِنِ اعْتَصَمَ فِي الْحُصُونِ الْمُشَيَّدَةِ، وَحُرِسَ بِالْجُنُودِ الْمُجَنَّدَةِ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُكِنُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَاحْرِصُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُكُمْ لِأَقْوَالِ الْكُفَّارِ نَاشِئًا عَنْ طَهَارَةِ نُفُوسِكُمْ مِنْ وَسَاوِسِهِمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَمَاتَ بِيَدِ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مُمِدُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا بِمَا يَحْفَظُ وُجُودَهَا وَالْعَالَمِينَ بِحَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَمَاتَهُ: لَوْ
كَانَ فِي مَكَانِ كَذَا لَمَا مَاتَ بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَطُولَ (قَالَ) : وَهُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلَلِ النَّهْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حَظَّ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ هُوَ مَا يَجْمَعُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ شَهَوَاتُهُ وَحُظُوظُهُ، وَمَا يُلَاقِيهِ مَنْ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ مَغْفِرَتِهِ - تَعَالَى - وَرَحْمَتِهِ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ الْمَوْتُ فِي أَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْإِنْسَانُ لِلَّهِ، أَيْ سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ الَّتِي هَدَى اللهُ الْإِنْسَانَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا مِنْهُ. وَقَدْ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مِنَ التَّعَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَأْتِيهَا الْمُحَارِبُ فِي أَثْنَائِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْحَرْبِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْقَتْلِ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ كَثِيرًا فِي الْحَرْبِ وَالْمَوْتُ يَكُونُ فِيهَا أَقَلَّ، فَذَكَرَهُ تَبَعًا بِخِلَافِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ يُخْبِرُنَا مُؤَكِّدًا خَبَرَهُ بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْ يَمُوتُ فَإِنَّ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ مَغْفِرَةٍ تَمْحُو مَا كَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَرَحْمَةٍ تَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا يَجْمَعُ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى الْحَيَاةِ لِيَتَمَتَّعُوا بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ مَغْفِرَةَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ الدَّائِمَةَ عَلَى الْحُظُوظِ الْفَانِيَةِ أَنْ يَتَحَسَّرُوا عَلَى مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ قَالُوا: إِنَّ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ هُنَا أَعَمُّ مِمَّا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمُوتُ وَمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، أَوْ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْشَرَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الَّذِي يَحْشُرُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ، وَهَاهُنَا قَدْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ وَأَكْثَرُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. فِي مَعْنَى الْحَشْرِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَكَانٌ يَحْصُرُهُ فَيَحْشُرُ النَّاسَ وَيُسَاقُونَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْفُلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَنِ اللهِ فَيَنْسَى هَيْبَتَهُ وَجَلَالَهُ، وَيَنْصَرِفُ عَنِ اسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَجَلْبِ اللَّذَّاتِ وَالرَّغَائِبِ لَهَا. وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يُحْشَرُ لَهُ النَّاسُ فَلَا اشْتِغَالَ فِيهِ بِتَقْوِيمِ بِنْيَةٍ، وَلَا التَّمَتُّعِ بِلَذَّةٍ، وَلَا مُدَافَعَةِ عَدُوٍّ، وَلَا مُقَاوَمَةِ مَكْرُوهٍ، وَلَا بِتَرْبِيَةِ نَفْسٍ، وَلَا تَنْزِيهِ حِسٍّ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ رَاجِعًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَحْشُورًا مَعَ سَائِرِ النَّاسِ إِلَيْهِ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ (قَالَ) وَإِذَا كَانَ مَصِيرُ كُلِّ مَنْ يَمُوتُ أَوْ يُقْتَلُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - مَهْمَا كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَوْ قَتْلِهِ وَمَهْمَا طَالَتْ حَيَاتُهُ فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ سَبَبِ هَذَا الْمَصِيرِ وَمَبْدَئِهِ لَا يُفِيدُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفِيدُ هُوَ الِاهْتِمَامُ بِذَلِكَ الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاشْتِغَالُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَذَلِكَ دَأْبُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
فِي عَتْبٍ وَلَا تَوْبِيخٍ اهْتِدَاءً بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً فِي الْوَقْعَةِ بَيَّنَ فِيهَا مَا كَانَ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ وَعِصْيَانٍ وَتَقْصِيرٍ حَتَّى مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالظُّنُونِ الْفِكْرِيَّةِ وَالْهُمُومِ النَّفْسِيَّةِ، وَلَكِنْ مَعَ الْعَتْبِ اللَّطِيفِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ الْعَفْوِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَإِعْلَاءِ الْكَلِمَةِ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ، وَقَدْ كَانَ خُلُقُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -.
أَقُولُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِكَ يَا مُحَمَّدُ مَا كَانَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَهُوَ مِمَّا يُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ فَلِنْتَ لَهُمْ وَعَامَلْتَهُمْ بِالْحُسْنَى، وَإِنَّمَا لِنْتَ لَهُمْ بِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى قَلْبِكَ وَخَصَّكَ بِهَا فَعَمَّتِ النَّاسَ فَوَائِدُهَا، وَجَعَلَ الْقُرْآنَ مُمِدًّا لَهَا بِمَا هَدَاكَ إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكَمِ السَّامِيَةِ الَّتِي هَوَّنَتْ عَلَيْكَ الْمَصَائِبَ وَعَلَّمَتْكَ مَنَافِعَهَا وَحِكَمَهَا وَحُسْنَ عَوَاقِبِهَا لِلْمُعْتَبِرِ بِهَا وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لِأَنَّ الْفَظَاظَةَ هِيَ الشَّرَاسَةُ وَالْخُشُونَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَهِيَ الْقَسْوَةُ وَالْغِلْظَةُ، وَهُمَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُنَفِّرَةِ لِلنَّاسِ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى مُعَاشَرَةِ صَاحِبِهِمَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَضَائِلُهُ، وَرُجِيَتْ فَوَاضِلُهُ، بَلْ يَتَفَرَّقُونَ وَيَذْهَبُونَ مِنْ حَوْلِهِ وَيَتْرُكُونَهُ وَشَأْنَهُ لَا يُبَالُونَ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّحَلُّقِ حَوَالَيْهِ، وَإِذًا لَفَاتَهُمْ هِدَايَتُكَ، وَلَمْ يَبْلُغْ قُلُوبَهُمْ دَعْوَتُكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَلَا تُؤَاخِذْهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا وَاسْأَلِ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ أَيْضًا، فَبِذَلِكَ تَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى تِلْكَ الرَّحْمَةِ الَّتِي خَصَّكَ اللهُ بِهَا، وَمُدَاوِمًا لِتِلْكَ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، الَّتِي هَدَاكَ اللهُ إِلَيْهَا وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَيْ دُمْ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ وَوَاظِبْ عَلَيْهَا، كَمَا فَعَلْتَ قَبْلَ الْحَرْبِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ (غَزْوَةِ أُحُدٍ) وَإِنْ أَخْطَئُوا الرَّأْيَ فِيهَا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُشَاوَرَةِ دُونَ الْعَمَلِ بِرَأْيِ الرَّئِيسِ وَإِنْ كَانَ صَوَابًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ لَهُمْ فِي مُسْتَقْبَلِ حُكُومَتِهِمْ إِنْ أَقَامُوا هَذَا الرُّكْنَ الْعَظِيمَ (الْمُشَاوَرَةَ) فَإِنَّ الْجُمْهُورَ أَبْعَدُ عَنِ الْخَطَأِ مِنَ الْفَرْدِ فِي الْأَكْثَرِ، وَالْخَطَرُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي تَفْوِيضِ أَمْرِهَا إِلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ أَشَدُّ وَأَكْبَرُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ أَنْ يُشَاوِرَ الْإِنْسَانُ وَلَا أَنْ يُشِيرَ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَشَارُونَ كِثَارًا كَثُرَ النِّزَاعُ
وَتَشَعَّبَ الرَّأْيُ، وَلِهَذِهِ الصُّعُوبَةِ وَالْوُعُورَةِ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَنْ يُقَرِّرَ
وَأَقُولُ: الْأَمْرُ الْمُعَرَّفُ هُنَا هُوَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُضَافُ إِلَيْهِمْ فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى الَّتِي وُضِعَتْ لِلْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّورَى الْمَكِّيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَهْلُ هَذَا الدِّينِ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [٤٢: ٣٨] فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرُ الْأُمَّةِ الدُّنْيَوِيُّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْحُكَّامُ عَادَةً ; لَا أَمْرُ الدِّينِ الْمَحْضِ الَّذِي مَدَارُهُ عَلَى الْوَحْيِ دُونَ الرَّأْيِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ كَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُقَرَّرُ بِالْمُشَاوَرَةِ لَكَانَ الدِّينُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ رَأْيٌ لَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ - كَانُوا لَا يَعْرِضُونَ رَأْيَهُمْ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسَائِلِ الدُّنْيَا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ لَا عَنْ وَحْيٍ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ فَنَزَلَ عِنْدَهُ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ: " يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ " إِلَخْ. مَا قَالَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ وَعَمِلَ بِرَأْيِهِ.
أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الرُّكْنَ (الشُّورَى) فِي زَمَنِهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ مِنْ حَيْثُ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي زَمَنِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ الَّتِي انْتَهَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَكَانَ يَسْتَشِيرُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ، وَيَخُصُّ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَضُرُّ إِفْشَاؤُهَا، فَاسْتَشَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا عَلِمَ بِخُرُوجِ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ لِلْحَرْبِ، فَلَمْ يُبْرِمِ الْأَمْرَ حَتَّى صَرَّحَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الْأَنْصَارُ بِالْمُوَافَقَةِ.
وَاسْتَشَارَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِبَيَانِهِ فَيُنَفِّذُهُ حَتْمًا، وَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ
وَامْتَدَّ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالرَّأْيِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدِ احْتِيجَ إِلَى وَضْعِ قَاعِدَةٍ أَوْ نِظَامٍ لِلشُّورَى يُبَيَّنُ فِيهِ طُرُقَ اشْتِرَاكِ أُولَئِكَ الْبُعَدَاءِ عَنْ مَكَانِ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِيهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَضَعْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَوِ النِّظَامَ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ:
مِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ،
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ وَضَعَ قَوَاعِدَ مُؤَقَّتَةً لِلشُّورَى بِحَسَبِ حَاجَةِ ذَلِكَ الزَّمَنِ لَاتَّخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ دِينًا وَحَاوَلُوا الْعَمَلَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا هِيَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الصَّحَابَةُ فِي اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ حَاكِمًا: رَضِيَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالنَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ نَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اتَّخَذُوا كَلَامَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا دِينًا مَعَ قَوْلِهِ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلِهِ: " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ الْمَسْأَلَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ شُعُورِ طَبَقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّهُ يَصْعُبُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَنْ يَرْضَوْا بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ وَضَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأُمَّةِ وَإِنْ أَجَازَ لَهَا تَغْيِيرَهُ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ
أَجَازَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَهْذِيبًا لَنَا حَتَّى لَا يَصْعُبَ عَلَيْنَا الرُّجُوعُ عَنْ آرَائِنَا، وَرَأْيُهُ هُوَ الرَّأْيُ الْأَعْلَى فِي كُلِّ حَالٍ.
وَقَرِيبٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَالْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ وَتَعْلِيلُهُ بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ، وَلَوْ وَضَعَهَا بِمُشَاوَرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَرَّرَ فِيهَا رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ كَانَ خَطَأً وَمُخَالِفًا لِرَأْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يَرْضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْكُمَ أَمْثَالُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَمَنْ دُونَهُمْ - كَأَكْثَرِ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ - فِي أُصُولِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقَوَاعِدِهَا؟ أَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْأُمَّةِ تُقَرِّرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا يُؤَهِّلُهَا لَهُ اسْتِعْدَادُهَا هُوَ الْأَحْكَمَ؟
يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالْعَهْدِ لَا بِالشُّورَى الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ لِلْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَذَا الْعَهْدُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ وَلَا مُخَصِّصًا وَلَا مُقَيِّدًا لَهُ، فَكَيْفَ عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّخَذَهُ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً؟ إِذَا أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ شِيعِيٌّ أَوْ غَيْرُ شِيعِيٍّ مِنَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ يُجِيبُهُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِهِ: إِنَّهُ رَأْيٌ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الشِّيعَةَ وَالْمُسْتَقِلِّينَ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُقْنِعُهُمْ هَذَا الْجَوَابُ، فَهُمْ يُنَازِعُونَ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ
مَعَ النَّصِّ وَكَوْنِهِ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقُومُ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهَا، وَيَقُولُونَ عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ: كَيْفَ أَقْدَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ وَلَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أَنَّهُ إِنَّمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؟
وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالشُّورَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشُّورَى حَصَلَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَإِنَّمَا تَعَجَّلَ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى الْأُمَّةِ فِتْنَةَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَاوَرَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ; فَرَأَى الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى أَنَّ أَمْثَلَهُمْ عُمَرُ، وَرَأَى بَعْضَهُمْ يَخَافُ مِنْ شِدَّتِهِ، فَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: " إِنَّهُ يَرَانِي كَثِيرَ اللِّينِ فَيَشْتَدُّ " أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَجْمُوعِ سِيرَتِهِمَا الِاعْتِدَالُ أَوْ مَا هَذَا مَغْزَاهُ، حَتَّى إِنَّهُ تَكَلَّفَ صُعُودَ الْمِنْبَرِ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَتَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَقْنَعَ الْقَوْمَ، فَعَهِدَ إِلَيْهِ فِي الْأَمْرِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَتَوْكِيلٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَتَرْشِيحٍ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي جَعْلِهِ أَمِيرًا عَلَى مُبَايَعَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمُبَايَعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى الشُّورَى، وَلَكِنْ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الشُّورَى لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَاحِدٍ تَرْضَاهُ الْأُمَّةُ، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَشَاوُرٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَأَنْ جَعَلُوا ذَلِكَ بِالِانْتِخَابِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ فِي الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَمَا سَبَقَ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْإِقْنَاعِ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ أَغْنَى عَنِ الْمُشَاوَرَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى مُبَايَعَتِهِ وَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ بَعْدَ شُورَى أَوْ بِسَبَبِ الشُّورَى.
أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَبِّرُ بِكَلِمَةِ " الْفُقَهَاءِ " وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءُ حَاكِمُونَ وَلَا صِنْفٌ يُسَمَّى الْفُقَهَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِـ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تُرَدُّ إِلَيْهِمْ مَسَائِلُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِمَصَالِحِهَا وَطُرُقِ حِفْظِهَا وَالْمَقْبُولَةُ آرَاؤُهُمْ عِنْدَ عَامَّتِهَا، فَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - هُوَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِي إِقَامَةِ الشُّورَى بِحَسَبِ حَالِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعْدَادِهَا فِي زَمَنِهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَادَرُوا بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ إِلَى مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ اهْتِمَامٍ بِالتَّشَاوُرِ ; لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِيهَا لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ شَرِكَةً تَدْعُو إِلَى إِجَالَةِ الرَّأْيِ، فَمُبَايَعَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَانَتْ مِنَ الْأُمَّةِ بِرِضَاهَا، وَكَانُوا يَسْتَشِيرُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ أَحَاطُوا بِعُثْمَانَ وَغَلَبُوا الْأُمَّةَ عَلَى رَأْيِهَا عِنْدَهُ، فَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْفِتَنِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِيهِمْ بِقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّهَاءِ، لَا بِاسْتِشَارَةِ الدَّهْمَاءِ ; فَهُمُ الَّذِينَ هَدَمُوا قَاعِدَةَ الْحُكْمِ بِالشُّورَى فِي الْإِسْلَامِ بَدَلًا مِنْ إِقَامَتِهِ وَوَضْعِ الْقَوَانِينِ الَّتِي تَحْفَظُهَا، وَتَجْعَلُ اسْتِفَادَةَ الْأُمَّةَ مِنْهَا تَابِعَةً لِتَقَدُّمِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَأَعْمَالِ الْعُمْرَانِ فِيهَا، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ الْمُلْكُ الَّذِي وَسَّعُوا دَائِرَتَهُ بِالْفُتُوحَاتِ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ وَلَهُمْ، وَلَكَانَ شَأْنُ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ، وَانْتِشَارُهُ أَكْثَرَ وَأَعَمَّ، عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِبْدَادَ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ مُعْظَمُهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى سُلْطَتِهِمْ وَبَقَاءِ الْمُلْكِ فِي أُسْرَتِهِمْ، قَلَّمَا يَتَسَرَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْإِدَارَةِ وَالْقَضَاءِ. وَكَانَتْ حُرِّيَّةُ انْتِقَادِ الْحُكَّامِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَلَى كَمَالِهَا حَتَّى تَبَرَّمَ مِنْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللهَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ - كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ - وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِأَهْوَائِهِمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى وَارِثِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَسَخَتِ السُّلْطَةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي زَمَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ لِمَا كَانَ لِلْأَعَاجِمِ مِنَ السُّلْطَانِ فِي
بِأَنَّ الْأَمْرَ شُورَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ أَمْرًا ثَابِتًا مُقَرَّرًا، وَيَأْمُرُ نَبِيَّهُ - الْمَعْصُومَ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي سِيَاسَتِهِ وَحُكْمِهِ - بِأَنْ يَسْتَشِيرَ حَتَّى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مَنْ خَطَأِ مَنْ غَلَبَ رَأْيُهُمْ فِي الشُّورَى يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ يَتْرُكُ الْمُسْلِمُونَ الشُّورَى لَا يُطَالِبُونَ بِهَا وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا كَثِيرَةً؟ هَذَا، وَقَدْ بَلَغَ مُلُكُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ مَبْلَغًا صَارُوا فِيهِ عَارًا عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِ، إِلَّا مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي رَاحَةِ الْعَالِمِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَسَنَعُودُ إِلَى مَوْضُوعِ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
قَالَ - تَعَالَى - بَعْدَ أَمْرِ نَبِيِّهِ بِالْمُشَاوَرَةِ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ فَإِذَا عَزَمْتَ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الْأَمْرِ عَلَى إِمْضَاءِ مَا تُرَجِّحُهُ الشُّورَى وَأَعْدَدْتَ لَهُ عُدَّتَهُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي إِمْضَائِهِ، وَكُنْ وَاثِقًا بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، بَلِ اعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ مَا أَتَيْتَهُ وَمَا أُوتِيتَهُ قُوَّةً أَعْلَى وَأَكْمَلَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِهَا الثِّقَةُ وَعَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَإِلَيْهَا اللُّجْأُ إِذَا تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ يَكُونُ بَعْدَ الْفِكْرِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاحِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ ; لِأَنَّ الْمَوَانِعَ الْخَارِجِيَّةَ لَهُ وَالْعَوَائِقَ دُونَهُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللهُ - تَعَالَى -، فَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مَعَ الْعَمَلِ فِي الْأَسْبَابِ بِسُنَّتِهِ، أَقُولُ: وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ عَصَمَهُ مِنَ الْغُرُورِ بِاسْتِعْدَادِهِ، وَالرُّكُونِ إِلَى عُدَّتِهِ وَعَتَادِهِ، وَالْبَطَرِ الَّذِي يَصْرِفُهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُقَدِّرَهُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْكِمَ فِيهِ أَمْرَهُ، فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي الْأُمُورِ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَاسْتِمَاعُهُ لِأَنْبَائِهَا بِأُذُنِ الْغَفْلَةِ وَالِازْدِرَاءِ وَمُبَاشَرَتُهُ لَهَا بَيَدِ التَّهَاوُنِ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَيَنْظُرُ بِعَيْنِ الْعِبْرَةِ فَبَصَرُهُ حِينَئِذٍ حَدِيدٌ، وَيَبْطِشُ بِيَدِ الْحَزْمِ فَبَطْشُهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْمَلُ لِلْحَقِّ لَا لِلْبَاطِلِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ الْهَوَى وَيُدْلِي بِهِ الْغُرُورُ، فَيَكُونُ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ".
الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ إِمْضَاءِ الْعَزِيمَةِ الْمُسْتَكْمِلَةِ لِشُرُوطِهَا - وَأَهَمُّهَا فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ حَرْبِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِيَاسِيَّةً أَوْ إِدَارِيَّةً الْمُشَاوَرَةُ - وَذَلِكَ أَنَّ نَقْضَ الْعَزِيمَةِ ضَعْفٌ فِي النَّفْسِ
وَإِنَّنَا نَرَى أَهْلَ السِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ يَجْرُونَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ فِي لُنْدُرَةَ عَاصِمَةِ انْكِلْتِرَا سَنَةَ ١٣٠١هـ.
ذَاكَرَهُ وُزَرَاءُ الْإِنْكِلِيزِ فِي أُمُورِ مِصْرَ وَالسُّودَانِ الْتِمَاسَ خِدْمَتِهِ لِبِلَادِهِ وَقَدْ سَأَلَهُ يَوْمَئِذٍ رَئِيسُ الْوُزَرَاءِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْهُمْ (الشَّكُ مِنِّي) عَنْ رَأْيِهِ فِي حَمْلَةِ هكس بَاشَا الَّتِي أَرْسَلُوهَا لِمُحَارَبَةِ مَهْدِيِّ السُّودَانِ الَّذِي ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ طَوِيلَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْحَمْلَةَ لَا تَنْجَحُ بَلْ يَقْضِي عَلَيْهَا السُّودَانِيُّونَ. ثُمَّ عَادَ الْأُسْتَاذُ مِنْ أُورُبَّا إِلَى بَيْرُوتَ، وَبَعْدَ عَوْدَتِهِ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِقَتْلِ هكس بَاشَا وَتَنْكِيلِ السُّودَانِيِّينَ بِحَمْلَتِهِ، فَبَعَثَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِرِسَالَةٍ " بَرْقِيَّةٍ " إِلَى الْوَزِيرِ الْإِنْكِلِيزِيِّ يُذَكِّرُهُ فِيهَا بِرَأْيِهِ وَكَيْفَ صَدَقَ. فَجَاءَهُ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَزِيرِ وَمَعْنَاهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا قُلْتَهُ لَنَا مَعْقُولٌ وَجِيهٌ وَلَكِنَّ السِّيَاسَةَ مَتَى قَرَّرَتْ شَيْئًا وَشَرَعَتْ فِيهِ وَجَبَ إِمْضَاؤُهُ وَامْتَنَعَ نَقْضُهُ وَالرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً.
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ وَجْهِ وُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْعَزِيمَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الْأُهْبَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا يُسْتَطَاعُ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَيْ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ بِالْعَمَلِ بِسُنَنِهِ وَمَا يَكُونُ لَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَلَا غَالِبَ لَكُمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نَصَبَهُمْ حِرْمَانُهُمْ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ - تَعَالَى - غَرَضًا لِلْقُنُوطِ وَالْيَأْسِ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَعِصْيَانِ الْقَائِدِ فِيمَا حَتَّمَهُ مِنْ عَمَلٍ - كَمَا جَرَى لَكُمْ فِي أُحُدٍ - أَوْ بِالْإِعْجَابِ بِالْكَثْرَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُوَّةِ، وَهُوَ مُخِلٌّ بِالتَّوَكُّلِ - كَمَا جَرَى يَوْمَ حُنَيْنٍ - فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ ; أَيْ لَا أَحَدَ يَمْلِكُ لَكُمْ حِينَئِذٍ نَصْرًا، وَلَا أَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ ضُرًّا
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْأَسْبَابِ بِدَعْوَى التَّوَكُّلِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ بِالشَّرْعِ أَوْ فَسَادٍ فِي الْعَقْلِ، فَالتَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ مَحَلُّهُ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، وَالْإِنْسَانُ مَسُوقٌ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى فِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ [٣٠: ٣٠] وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ. قَالَ - تَعَالَى -: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [٦٧: ١٥] وَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [٤: ٧١] وَقَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [٨: ٦٠] وَقَالَ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [٢: ١٩٧]- رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا - وَقَالَ لِنَبِيِّهِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [١١: ٨١] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [٤: ٢٣] وَقَالَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [١٢: ٥] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ أَيْضًا: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [١٢: ٦٧] فَأَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ وَالتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَلَا غَنَاءَ لِلْمُؤْمِنِ عَنْهُمَا.
ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَكَّلَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْأَمْرِ وَيَأْخُذْ لَهُ أُهْبَتَهُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ يَقَعُ فِي الْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ عِنْدَمَا يَخِيبُ وَيَفُوتُهُ غَرَضُهُ فَيَكُونُ مَلُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَالِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [١٧: ٢٩] وَإِذَا هُوَ اسْتَعَدَّ وَأَخَذَ بِالْأَسْبَابِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَافِلًا قَلْبُهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْجَزَعِ وَالْهَلَعِ إِذَا خَابَ سَعْيُهُ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ فَيَفُوتُهُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ اللَّذَانِ يُهَوِّنَانِ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَيَتَدَارَكُ أَمْرَهُ فِيهَا، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي الْيَأْسِ الَّذِي لَا مَطْمَعَ مَعَهُ فِي فَلَاحٍ وَلَا نَجَاحٍ ; وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللهُ الصَّبْرَ بِالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي مُحَاجَّةِ أَقْوَامِهِمْ: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [١٤: ١٢] وَذَكَرُوا أَنَّ اللهَ هَدَاهُمْ سُبُلَهُ وَهِيَ سُنَنُهُ فِي الْأَسْبَابِ وَأَنَّهُمْ مُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ لِأَنَّهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَوَصَفَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [١٦: ٤٢] وَقَالَ: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [٢٩: ٥٨، ٥٩] فَوَصَفَهُمْ بِالْعَمَلِ
وَجَاءَ ذِكْرُ التَّوَكُّلِ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْحِرْمَانِ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ مِنْ سَعَتِهِ، كَمَا جَاءَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ عَلَى إِيذَاءِ الْمُعْتَدِينَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [٦٥: ٢، ٣] وَقَوْلِهِ فِي مَقَامِ وُجُوبِ نَبْذِ الِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ خَشْيَةَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [٤٢: ٦٣] وَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَتَحْقِيقِهِ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي التَّوَكُّلِ مِنْهَا حَدِيثُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِيَ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ خَبَّابٍ، وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) :(وَلَا يَعْتَافُونَ) ذَكَرَهُ فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ قَرَنَ التَّوَكُّلَ بِتَرْكِ الْأَعْمَالِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَهُوَ لَمْ يَنْفِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا الِاسْتِشْفَاءَ بِالرُّقْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا طُلَّابُهَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَالْعَجْزِ عَنْهَا عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ شَرْعًا وَطَبْعًا وَنَقْلًا وَعَقْلًا أَنْ يُطْلَبَ الشَّيْءُ مِنْ سَبَبِهِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَاهُ، وَإِلَّا التَّطَيُّرُ وَهُوَ التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِحَرَكَاتِ الطَّيْرِ وَنَحْوِهِ، الِاعْتِيَافُ وَهُوَ: التَّفَاؤُلُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالْأَلْفَاظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلَا قَدْ هَاجَنِي فَازْدَدْتُ وِجْدَا | بُكَاءُ حَمَامَتَيْنِ تَجَاوَبَانِ |
تَجَاوَبَتَا بِلَحْنٍ أَعْجَمِيٍّ | عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ غَرَبٍ وَبَانِ |
فَكَانَ الْبَانُ أَنْ بَانَتْ سُلَيْمَى | وَفِي الْغَرَبِ اغْتِرَابٌ غَيْرُ دَانِ |
يَكْرَهُهُ لِأُمَّتِهِ وَيَعُدُّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الضَّعِيفَةِ الْمُؤْلِمَةِ الْمُسْتَبْشَعَةِ الَّتِي تُنَافِي التَّوَكُّلَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنِ اسْتَرْقَى أَوِ اكْتَوَى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
وَيْلِي هَذَا الْحَدِيثَ: لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ يَكُونُ مَعَ السَّعْيِ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الطَّيْرَ تَذْهَبُ صَبَاحًا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَهِيَ خِمَاصٌ لِفَرَاغِهَا وَتَرْجِعُ مُمْتَلِئَةَ الْبُطُونِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّمَا تَمْكُثُ فِي أَعْشَاشِهَا وَأَوْكَارِهَا فَيَهْبِطُ عَلَيْهَا الرِّزْقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْعَى إِلَيْهِ.
وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ الرَّجُلِ جَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ نَاقَتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: أَأَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَمْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَجَعَلَا الْقَائِلَ عُمْرًا نَفْسَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ.
وَكَلَامُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مُسْتَفِيضٌ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) أُرِيدُ الْحَجَّ عَلَى التَّوَكُّلِ، فَقَالَ لَهُ: فَاخْرُجْ فِي غَيْرِ الْقَافِلَةِ، قَالَ: لَا، قَالَ: عَلَى جُرُبِ النَّاسِ تَوَكَّلْتَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [٢: ١٩٨] نَزَلَ فِي تَخْطِئَةِ مَنْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قُلْتُ لِأَبِي: هَؤُلَاءِ الْمُتَوَكِّلُونَ يَقُولُونَ: نَقْعُدُ وَأَرْزَاقُنَا عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. فَقَالَ: ذَا قَوْلٌ رَدِيءٌ خَبِيثٌ، يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [٦٢: ٩] وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: نَتَّكِلُ عَلَى اللهِ وَلَا نَكْتَسِبُ، فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَلَكِنْ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكَسْبِ، هَذَا قَوْلُ إِنْسَانٍ أَحْمَقَ. وَرُوِيَ عَنْ
وَلَدِهِ صَالِحٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: التَّوَكُّلُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَلَّا يَكُونَ عِيَالًا عَلَى النَّاسِ، يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ حَتَّى يُغْنِيَ
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَدَّادُ شَيْخُ الْجُنَيْدِ فِي التَّصَوُّفِ: أَخْفَيْتُ التَّوَكُّلَ عِشْرِينَ سَنَةً وَمَا فَارَقْتُ السُّوقَ، كُنْتُ أَكْتَسِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِينَارًا وَلَا أُبَيِّتُ مِنْهُ دَانِقًا، وَلَا أَسْتَرِيحُ مِنْهُ إِلَى قِيرَاطٍ أَدْخُلُ بِهِ الْحَمَّامَ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْخُرُوجُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّوَكُّلِ، وَأَحْفَظُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَنْهُ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ بِلَفْظِ: " لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ الْخُرُوجُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - أَصْلًا " وَهَذِهِ أَحْسَنُ وَأَصَحُّ. وَقَالَ فِي بَيَانِ أَعْمَالِ الْمُتَوَكِّلِينَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَقْطُوعِ بِهَا: " وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَسْبَابِ الَّتِي ارْتَبَطَتِ الْمُسَبِّبَاتُ بِهَا بِتَقْدِيرِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ ارْتِبَاطًا مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلِفُ، كَمَا أَنَّ الطَّعَامَ إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْكَ وَأَنْتَ جَائِعٌ مُحْتَاجٌ وَلَكِنَّكَ لَسْتَ تَمُدُّ الْيَدَ إِلَيْهِ وَتَقُولُ: أَنَا مُتَوَكِّلٌ، وَشَرْطُ التَّوَكُّلِ تَرْكُ السَّعْيِ، وَمَدُّ الْيَدِ إِلَيْهِ سَعْيٌ وَحَرَكَةٌ، وَكَذَلِكَ مَضْغُهُ بِالْأَسْنَانِ وَابْتِلَاعُهُ بِإِطْبَاقِ أَعَالِي الْحَنَكِ عَلَى أَسَافِلِهِ فَهَذَا جُنُونٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَزْرَعِ الْأَرْضَ وَطَمِعْتَ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللهُ - تَعَالَى - نَبَاتًا مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ أَوْ تَلِدَ زَوْجَتُكَ مِنْ غَيْرِ وِقَاعٍ كَمَا وُلِدَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَكُلُّ ذَلِكَ جُنُونٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ وَلَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ " ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي لَا تُعَدُّ قَطْعِيَّةٌ مُطَّرِدَةٌ كَالتَّزَوُّدِ لِلسَّفَرِ لَا يُشْتَرَطُ تَرْكُهَا فِي التَّوَكُّلِ، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ وَيُعَدُّ مِنْ أَعْلَى التَّوَكُّلِ، وَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمْثَالُهُ كَالزُّهْدِ وَالْفَقْرِ لَا يَسْلَمُ مِنْ نَقْدٍ وَخَطَأٍ ; لِمُبَالَغَتِهِ فِي الْمَيْلِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ: وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إِنْكَارِ الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَحُجُّوا مِنْ غَيْرِ زَادٍ. وَسَنُوَفِّي هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [٥: ٧٧] وَلِغَلَبَةِ هَذَا الْمَيْلِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ (رَحِمَهُ اللهُ) رَاجَ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ
الْوَاهِيَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ، بَلْ رَاجَ عِنْدَهُ مَا دُونَهَا مِنْ كَلَامِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَتَخَيُّلَاتِ الشُّعَرَاءِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ | فَسِيَّانَ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ |
جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ | وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ |
هَذَا وَإِنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي الْكَسْبِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ التَّوَكُّلِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ وَالسَّعْيَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [١١: ٦١] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ [١٥: ٢٠] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [٧٨: ١١] وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، والْبَيْهَقِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ
يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحَسَّنَهُ. وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْعُدْ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُولُ: اللهُمَّ ارْزُقْنِي فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً " وَقَالَ أَيْضًا: " مَا مِنْ مَوْضِعٍ يَأْتِينِي الْمَوْتُ فِيهِ أَحَبُّ عَلَيَّ مِنْ مَوْطِنٍ أَتَسَوَّقُ فِيهِ لِأَهْلِي أَبِيعُ وَأَشْتَرِي " ذَكَرَهُمَا فِي الْقُوتِ وَالْأَحْيَاءِ. كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - تُجَّارًا حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا فَلَقِيَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فَقَالَا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ السُّوقَ. قَالَا: تَصْنَعُ مَاذَا وَقَدْ وُلِّيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ فَهَلْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَكِّلٍ؟ ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ فَرَضُوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْكَسْبِ وَلَمْ يَقُولُوا لَهُ: تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَهُوَ يَرْزُقُكَ بِغَيْرِ عَمَلٍ.
وَهَذَا أَثَرُهُ، وَمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ إِلَّا أَعْلَى إِيمَانًا وَتَوَكُّلًا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ إِيمَانًا وَعِلْمًا بِرَبِّهِ وَبِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا كَانَ يَدْعُوهُ بِأَمْرِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [٢٠: ١١٤] وَإِنَّمَا ظَهَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا ; فَفِي يَوْمِ الْهِجْرَةِ كَانَ خَارِجًا مِنْ قَوْمٍ بَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَكْفِي لِمُقَاوَمَتِهِمْ وَمُدَافَعَتِهِمْ، وَالْعَرَبُ كُلُّهَا إِلْبٌ وَاحِدٌ مَعَ قَوْمِهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْكَامِلِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُ الْعَجْزِ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْمَرَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادِعًا سَاكِنًا، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - عَلَى رَجَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ - مُضْطَرِبًا، وَفِي يَوْمِ بَدْرٍ كَانَ قَادِرًا عَلَى اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ لِمُقَاوَمَةِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ زَحَفُوا عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ، فَكَانَ التَّوَكُّلُ فِيهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ اتِّخَاذِ كُلِّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْأَسْبَابِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْجَأِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الدُّعَاءِ وَمُنَاشَدَةِ رَبِّهِ الْمَعُونَةَ وَالنَّصْرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ فَعَلَ كُلَّ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْبَابِ مَعَ الْمُشَاوَرَةِ وَاتِّبَاعِ رَأْيِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مُقَصِّرًا فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْأَسْبَابِ فَيَفُوتُ النَّصْرُ لِذَلِكَ فَلَجَأَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي الْأَسْبَابِ يَوْمَ أُحُدٍ حَلَّ بِهِمْ وَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَقَدْ ذُكِرَ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ هَذَا السِّيَاقِ - وَالصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمْ يَصِلْ عِلْمُهُ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِيَاقِ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قَدْ نَزَلَ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ - وَإِنْ حَسَّنَهَا التِّرْمِذِيُّ - لِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَرَجَّحُوا عَلَيْهَا مَا رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ مِنْ أَنَّ الرُّمَاةَ قَالُوا حِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ الَّذِي وَضَعَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ: نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ " وَأَلَّا يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ كَمَا لَمْ يُقَسِّمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَظَنَنْتُمْ أَنَّنَا نَغُلُّ وَلَا نَقْسِمُ لَكُمْ؟ وَلِهَذَا نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ جَرِيرٍ مُرْسَلًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَائِعَ فَغَنِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنِيمَةً، فَقَسَمَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يَقْسِمْ لِلطَّلَائِعِ، فَلَمَّا قَدِمَتِ الطَّلَائِعُ قَالُوا: قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْسِمْ لَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - الْآيَةَ ".
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتٍ هَذِهِ الْوَقْعَةِ كَالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَكَثِيرٍ مِمَّا يَأْتِي بَعْدَهَا.
وَأَصْلُ الْغُلِّ: الْأَخْذُ بِخُفْيَةٍ كَالسَّرِقَةِ، وَغَلَبَ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَتُسَمَّى غُلُولًا. قَالَ الرُّمَّانِيُّ وَغَيْرُهُ: أَصْلُ الْغُلُولِ مِنَ الْغَلَلِ وَهُوَ دُخُولُ الْمَاءِ فِي خَلَلِ الشَّجَرِ، وَسُمِّيَتِ الْخِيَانَةُ غُلُولًا لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْمُلْكِ عَلَى خَفَاءٍ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَحِلُّ، وَمِنْ ذَلِكَ
غَالًّا ; أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ أَنْ يُوجَدَ غَالًّا، أَوْ بِمَعْنَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْغُلُولِ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا بِالْغُلُولِ، أَوْ مِنْ غَلَّ ; أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَسْرِقُ مِنْ غَنِيمَتِهِ السَّارِقُونَ وَيَخُونُهُ الْعَامِلُونَ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْغُلَّ أَوِ الْغُلُولَ الْمَنْفِيَّ هُنَا هُوَ إِخْفَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ وَكِتْمَانُهُ عَنِ النَّاسِ لَا الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعُدُّهُ عَامًّا فِي كُلِّ غُلُولٍ أَوْ خَاصًّا بِالْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ جِيءَ بِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ كَمَا عُهِدَ فِي مُنَاسَبَاتِ الْقُرْآنِ، وَانْتِقَالُهُ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ لَهُ حِكْمَةٌ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا عَلَى مَنْ رَغِبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتْرُكَ النَّعْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ مُنَاسَبَةِ كَوْنِ الْغُلِّ بِمَعْنَى الْكِتْمَانِ وَإِخْفَاءِ بَعْضِ التَّنْزِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِمُعَاتَبَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي أُحُدٍ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى مَا قَصَّرُوا، وَذَلِكَ مِمَّا يَصْعُبُ تَبْلِيغُهُ عَادَةً ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَالْمُبَلَّغِ، وَمِنْ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَفِي هَذَا إِعْلَاءٌ لِشَأْنِهِمْ وَمُعَامَلَةٌ لَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّئُونِ، وَذَلِكَ مِمَّا عَهِدَ الْبَشَرُ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الرَّئِيسِ مِنْهُمْ إِبْلَاغُهُ لِلْمَرْءُوسِينَ وَيُزَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - لَهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [٣: ١٢٨] عِنْدَمَا لَعَنَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ. كَأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ إِعْلَامًا لِلنَّاسِ بِمَا يَجِبُ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي أَمْرِ التَّبْلِيغِ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ ذِكْرُهُ وَتَبْلِيغُهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ غُلٌّ أَوْ غُلُولٌ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا غَلَّ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يَغُلُّ بِهِ الْغَالُّ أَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا لَهُ لِيُفْتَضَحَ بِهِ، وَيَكُونُ مَزِيدًا فِي عَذَابِهِ هُنَالِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ
أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَهُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا مَانِعَ مِنْ إِمْضَاءِ هَذَا الْإِتْيَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّ غَلَّ الْإِنْسَانُ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْأَشْيَاءِ الصَّامِتَةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ مَهْمَا كَثُرَتْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ رَجُلًا اسْتَشْكَلَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَهُ ذَاكَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ مَنْ يَغُلُّ مِائَةَ بَعِيرٍ أَوْ مِائَتَيْ بَعِيرٍ كَيْفَ يَصْنَعُ بِهَا؟ فَأَجَابَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ كَانَ ضِرْسُهُ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ، وَجَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ حَمْلِ مَا يَغُلُّ بِهِ الْغَالُّ عَلَى رَقَبَتِهِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، شُبِّهَتْ حَالُ الْغَالِّ بِمَا يُرْهِقُهُ مِنْ أَثْقَالِ ذَنْبِهِ وَفَضِيحَتِهِ بِهِ مَعَ فَقْدِ الْمُعِينِ وَالْمُغِيثِ بِمَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَيْنَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَقْصِدُ أَرْجَى النَّاسِ لِإِغَاثَتِهِ فَيَخْذُلُهُ وَيَتَنَصَّلُ مِنْ إِغَاثَتِهِ، وَمَازَالَ النَّاسُ يُشَبِّهُونَ الْأَثْقَالَ الْمَعْنَوِيَّةَ بِالْأَثْقَالِ الْحِسِّيَّةِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْحِمْلِ، يَقُولُونَ فُلَانٌ حَامِلُ أَثْقَالِ أَهْلِهِ أَوْ أَثْقَالِ الْبَلَدِ، وَفِي التَّنْزِيلِ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٢٩: ١٢، ١٣] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [٣٥: ١٨] عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِتْيَانَ بِمَا غَلَّ بِهِ الْغَالُّ بِأَنَّهُ يَحْمِلُهُ، وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَاءَ لِلْمُصَاحَبَةِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ. وَقَدْ عَدَلَ عَنْهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ
اللهَ لَطَيْفٌ خَبِيرٌ [٣١: ١٦] فَلَيْسَ مَعْنَى يَأْتِ بِهَا اللهُ أَنَّهُ يَحْمِلُهَا، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهَا أَتَمَّ الْعِلْمَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مَهْمَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً ; لِأَنَّ مَنْ يَأْتِي بِالشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَغُلُّهُ الْغَالُّ هُوَ عِبَارَةٌ - أَوْ قَالَ كِنَايَةٌ - عَنِ انْكِشَافِهِ وَظُهُورِهِ ; أَيْ إِنَّ كُلَّ غُلُولٍ
أَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِ اللهِ بِالْأَعْمَالِ وَإِعْلَامِهِ الْعَامِلِينَ بِهَا يَوْمَ الْحِسَابِ.
قَالَ بَعْدَمَا مَرَّ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ الْغَالُّ بِمَا غَلَّ، كَمَا يَأْتِي كُلُّ عَامِلٍ بِمَا يَعْمَلُ، فَيَتَمَثَّلُ لَدَيْهِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْهِ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [٣: ٣٠] وَمِثْقَالُ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَرْئِيًّا مُبْصِرًا، بَعْدَ هَذَا تَنَالُ جَزَاءَ مَا كَسَبْتَ مُسْتَوْفًى تَامًّا لَا تُنْقَصُ مِنْهُ شَيْئًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨: ٤٩].
ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذِكْرِ الْجَزَاءِ الْعَامِّ فِي آخِرِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ أَيْ جَعَلَ مَا يُرْضِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِمَامًا لَهُ فَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاتَّقَى الْغُلُولَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، حَتَّى زَكَتْ نَفْسُهُ وَارْتَقَتْ رُوحُهُ، فَوُفِّيَ جَزَاءَ الْحَسَنِ، وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ أَيِ انْتَهَى إِلَى مَبَاءَتِهِ فِي الْآخِرَةِ مُصَاحِبًا وَمُقْتَرِنًا بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِتَدْسِيَةِ نَفْسِهِ بِمَا خَفِيَ مِنَ الْخَطَايَا كَالسَّرِقَةِ وَالْغُلُولِ، وَتَدْنِيسِهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَإِهْمَالِ تَطْهِيرِهَا بِالْعِبَادَاتِ وَعَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ذَلِكَ الْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، وَسَاءَ ذَلِكَ الْمُنْتَهَى الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَلَّا إِنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ كَمَا لَا تَسْتَوِي الظُّلْمَةُ وَالنُّورُ وَلَا الظِّلُّ
وَلَا الْحَرُورُ، وَقَدْ جَعَلَ الْخَيْرَ مُتْبَعًا لِلرِّضْوَانِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الرِّضْوَانِ أَعْلَامُ هِدَايَةٍ تُتَّبَعُ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الشِّرِّيرِ ; لِأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ يَبْتَدِعُ وَلَا يَتَّبِعُ.
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضْوَانَ اللهِ وَالَّذِينَ يَبُوءُونَ بِسَخَطِهِ دَرَجَاتٌ أَوْ ذَوُو دَرَجَاتٍ وَمَنَازِلَ عِنْدَ اللهِ، أَيْ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ فِيهِ شَيْءٌ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَمَا قَالَ: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [٤٠: ١٥، ١٦].
وَالَّذِي فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَحُكْمٍ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ دَرَجَاتٍ فِي حُكْمِ اللهِ وَبِحَسَبِ عِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الدَّرَجَاتِ مِنْ بَابِ التَّغَلُّبِ فَتَشْمَلُ الدَّرَكَاتِ، فَالدَّرَجَاتُ
الدَّرَكَاتِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [٩١: ٩، ١٠] فَتَحْصِيلُ الدَّرَجَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالتَّمَتُّعُ بِهَا يَكُونُ فِي دَارِ الْقَرَارِ، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [٤٣: ٣٢] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا [٦: ١٦٥] وَلَيْسَتْ هَذِهِ الدَّرَجَاتُ بِوَسِيلَةٍ وَلَا مَقْصِدٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ دَرَجَاتُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ يَظْهَرُ بِهَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ.
وَأَمَّا دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ فَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ تَوْسِيعِ الرِّزْقِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى بَعْضٍ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [١٧: ٢١] وَأَمَّا رَسَائِلُهَا الَّتِي قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ آثَارُهَا وَهِيَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [٥٨: ١١] وَقَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [١٢: ٧٦] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [٦: ٨٣] فَهَذِهِ كُلُّهَا دَرَجَاتُ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي رَبْطِ دَرَجَاتِ الْعَمَلِ بِدَرَجَاتِ الْجَزَاءِ: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً [٤: ٩٥، ٩٦] وَمِنْهَا بَعْدَ ذِكْرِ
فَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتُ مُبَيِّنَةً لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهَا إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا مِنْ آثَارِ الْأَعْمَالِ فِي النَّفْسِ، وَلَا عَاطِفَةٌ مِنْ عَوَاطِفِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَلَا حَقِيقَةٌ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ فِي الْعَقْلِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَدَرَجَاتُ ارْتِقَاءِ الْأَرْوَاحِ لَهَا فِي عِلْمِهِ - تَعَالَى - نِظَامٌ دَقِيقٌ أَدَقُّ مِنْ نِظَامِ مِيزَانِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْ مِيزَانِ الرُّطُوبَةِ، وَمِنْ مِيزَانِ ثِقَلِ السَّائِلَاتِ فِي دَرَجَاتِهَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَوَازِينَ بِالْمَوَازِينِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا سُنَنُ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْكَوْنِ، وَإِنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي نُفُوسِ النَّاسِ لَا تَقِلُّ عَنْ سُنَنِهِ فِي غَيْرِهَا نِظَامًا
وَاطِّرَادًا، وَأَنَّ بَيْنَ عُلْيَا الدَّرَجَاتِ وَسُفْلَاهَا دَرَجَةَ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عُقُوبَةً، وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَثُوبَةً ; وَلِهَذَا كُلِّهِ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّرَجَاتِ: إِنَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَلَيْسَ عِنْدِي فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إِلَّا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ وَهِيَ:
لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ: غَمَرَهُمْ بِالْمِنَّةِ وَأَثْقَلَهُمْ بِالنِّعْمَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْتَقَلَ مِنْ نَفْيِ الْغُلُولِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ وَصْفِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَأَمْرِهِ بِالْمُشَاوَرَةِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَامَلَهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ - الَّذِينَ اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ - وَبَيْنَ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا مَا قَالُوا مِمَّا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ هِدَايَتِهِ - وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فِي أُحُدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ عَادَ إِلَى ذِكْرِ مِنَّتِهِ - تَعَالَى - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِبَعْثِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. وَقَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَأَمْرِهِ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْحُسْنَى وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْغُلُولِ تَمْهِيدًا لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ أُخْرَى أَكَّدَ بِهَا الْمِنَّةَ:
الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَيِ الْعَرَبِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْمِنَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تُنَافِي كَوْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً عَامَّةً: هُوَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ يَزِيدُ فِي شَرَفِهِمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَوَّلَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ النَّاسِ فَهْمًا لِدَعْوَتِهِ، وَالنِّعْمَةُ الْعَامَّةُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [٢١: ١٠٧] وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ بِالْعَرَبِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
الْآيَةِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٦٢: ٢] وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ. (رَابِعُهَا وَخَامِسُهَا) مَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَمَا يَأْتِي فِي تَفْسِيرِ وَصْفِهِمْ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ. (سَادِسُهَا) أَنَّ الْعَرَبَ هُمُ الَّذِينَ تَلَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِسَانِهِ آيَاتِ اللهِ، وَبَاشَرَ بِنَفْسِهِ تَزْكِيَتَهُمْ وَتَعْلِيمَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا دَعْوَتَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَرَبِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ مِنْ تَلْقِينِهِ لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الدِّينِ. وَمَنْ جَحَدَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَكُونُ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ يَنْشُرُ الدَّعْوَةَ كُلُّ قَوْمٍ قَبِلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، فَصَحَّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [٣٤: ٢٨] وَقَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [٢١: ١٠٧].
الْوَصْفُ الثَّانِي قَوْلُهُ: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَاتُ هِيَ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكَمْتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَتِلَاوَتُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تِلَاوَةِ مَا فِيهِ بَيَانُهَا وَتَوْجِيهِ النُّفُوسِ إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣: ١٩٠] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢: ١٦٤] وَمِنْهَا مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ كَلِمَةُ " الْآيَاتِ " كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا [٩١: ١، ٢] إِلَخْ.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
الْبَقَرَةِ (٢: ١٢٩) أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّزْكِيَةِ تَرْبِيَةُ النُّفُوسِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُرَبِّيًا وَمُعَلِّمًا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعَقَائِدَ أَسَاسُ الْمَلَكَاتِ، أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَزَكَّ عَقْلُهُ وَيَتَطَهَّرْ مِنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَجَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ لَا تَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِالتَّخَلِّي عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالتَّحَلِّي بِالْمَلَكَاتِ الْفَاضِلَةِ ; فَإِنَّ الْوَثَنِيَّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِهَا الْمُسَبِّبَاتُ مَنَافِعَ تُرْجَى وَمَضَارَّ تُخْشَى مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهَا لِيُؤْمَنَ ضُرُّهَا، وَيُنَالَ خَيْرُهَا، وَيُتَقَرَّبَ بِهَا إِلَى خَالِقِهَا وَأَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا يَكُونُ دَائِمًا أَسِيرَ الْأَوْهَامِ، وَأَخِيذَ الْخُرَافَاتِ، يَخَافُ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ وَيَرْجُو حَيْثُ يَجِبُ الْحَذَرُ وَالْخَوْفُ، وَتَتَعَدَّى قَذَارَةُ عَقْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ فَتَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا وَتُدَنَّسُ آدَابُهَا، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ لَا تَتِمُّ بِتَزْكِيَةِ الْعَقْلِ، وَلَا تَتِمُّ تَزْكِيَةُ الْعَقْلِ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَّا تَعْلِيمُهُمُ الْكِتَابَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ قَدِ اضْطَرَّهُمْ إِلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْأُمِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ دِينٌ حَثَّ عَلَى الْمَدَنِيَّةِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ.
أَقُولُ: كَانَ أَوَّلَ حَاجَتِهِمْ إِلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ وُجُوبُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اتَّخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَةً لِلْوَحْيِ وَكَتَبُوا لَهُ كُتُبًا دَعَا بِهَا الْمُلُوكَ وَالرُّؤَسَاءَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِتَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ يَكْثُرُ فِيهِمْ عَلَى قَدْرِ نَمَاءِ مَدَنِيَّتِهِمْ وَامْتِدَادِ سُلْطَتِهِمْ، قَالَ: وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ أَسْرَارُ الْأُمُورِ وَفِقْهُ الْأَحْكَامِ وَبَيَانُ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا وَالطَّرِيقِ إِلَى الْعَمَلِ بِهَا، ذَلِكَ الْفِقْهُ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، أَوْ هِيَ الْعَمَلُ الَّذِي يُوَصِّلُ إِلَى هَذَا الْفِقْهِ فِي الْأَحْكَامِ أَوْ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ بِبَرَاهِينِهَا ; لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ وَسُنَّتُهُ فِي الْعَقَائِدِ وَكَذَا فِي الْآدَابِ وَالْعِبَادَاتِ ; وَقَدْ مَرَّتِ الشَّوَاهِدُ الْكَثِيرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَسَيَأْتِي مَا هُوَ أَكْثَرُ وَأَغْزَرُ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضَلَالٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ. وَأَيُّ ضَلَالٍ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَتَّبِعُونَ الْأَوْهَامَ أُمِّيِّينَ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ، فَيَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَلَالَتِهِمْ وَحَقِيقَةَ جَهَالَتِهِمْ، فَضَلَالُهُمْ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا نَالُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ هُوَ مِثْلَيْ مَا نَالَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ تَرْكِ الرُّمَاةِ مَرْكَزَهُمْ وَإِخْلَائِهِمْ ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ لِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ - رَاجِعْ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [٣: ١٥٢] وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّى هَذَا! ! فَهُوَ تَعَجُّبٌ
مِنْهُمْ ; أَيْ مِنْ أَيْنَ جَاءَنَا هَذَا الْمُصَابُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهِمْ وَبَيَانٌ لِمِنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ حَتَّى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّ خِذْلَانَهُمْ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ ظَفَرَهُمْ فِي بَدْرٍ، بَلْ كَانَ نَصْرُهُمْ ضِعْفَيِ انْتِصَارِ الْمُشْرِكِينَ هُنَا كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَاذَا نَسِيتُمْ فَضْلَ اللهِ عَلَيْكُمْ فِي بَدْرٍ فَلَمْ تَذْكُرُوهُ؟ وَأَخَذْتُمْ تَعْجَبُونَ مِمَّا أَصَابَكُمْ فِي أُحُدٍ وَتَسْأَلُونَ عَنْ سَبَبِهِ وَمَصْدَرِهِ!
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ أَخْطَأْتُمُ الرَّأْيَ بِخُرُوجِكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أُحُدٍ، وَكَانَ الرَّأْيَ مَا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَقَاءِ فِيهَا حَتَّى إِذَا مَا دَخَلَهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَزِقَّةِ وَالشَّوَارِعِ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ سُطُوحِ الْمَنَازِلِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الرَّبِيعِ، ثُمَّ إِنَّكُمْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمُ الرَّسُولَ طَمَعًا فِي الْغَنِيمَةِ، فَفَارَقَ الرُّمَاةُ مِنْكُمْ مَوْقِعَهُمُ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ لِحِمَايَةِ ظُهُورِكُمْ بِنَضْحِ عَدُوِّكُمْ بِالنَّبْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُرَّ عَلَيْكُمْ مِنْ وَرَائِكُمْ، هَذَا الْمُتَبَادِرُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ الْمَعْنَى الْمُوَافِقُ لِقَاعِدَةِ كَوْنِ الْعُقُوبَاتِ آثَارًا لَازِمَةً لِلْأَعْمَالِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ مَا حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُصِيبَةِ كَانَ عِقَابًا عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْ أَسْرَى بَدْرٍ الَّذِي عَاتَبَ اللهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [٨: ٦٧] إِلَخْ. وَقَوَّوْهُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْأُسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ عِدَّتُهُمْ قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ فِدَاءَهُمْ، فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى
قِتَالِ عَدُوِّنَا وَيَسْتَشْهِدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا نَكْرَهُ قَالَ: فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا عِدَّةُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَقُولُ مَا أَرَى أَنَّ هَذَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْمَعْقُولِ وَكَيْفَ يَصِحُّ وَالْمَأْثُورُ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ مِنْ رَأْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَحَاشَا لَهُمْ أَنْ يَرْضَيَا بِأَخْذِ مَالٍ يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مُؤْمِنًا! ! وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا بَحْثُ كَوْنِ الْعُقُوبَاتِ آثَارًا طَبِيعِيَّةً لِلْأَعْمَالِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ.
إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ تَنْفِيذُ سُنَنِهِ بِعِقَابِ الْمُسِيءِ وَإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ وَإِقَامَةِ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي الْكَائِنَاتِ، بِرَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بِنَاءً عَلَى كَوْنِ وَجْهِ تَعَجُّبِهِمْ هُوَ وُجُودُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ. أَيْ إِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْفَعُ أُمَّةً قَدْ خَالَفَتِ السُّنَنَ وَالطَّبَائِعَ فَلَا تَغْتَرُّوا بِوُجُودِكُمْ مَعَهُ، مَعَ الْمُخَالَفَةِ لِلَّهِ وَلَهُ، فَهُوَ لَا يَحْمِيكُمْ مِمَّا تَقْتَضِيهِ سُنَنُ اللهِ فِيكُمْ وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: أَوَلَمَّا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ قُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَنَّ لَهَا الصَّدَارَةَ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ لَا عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ وَلَا قَهْرًا لِلْإِرَادَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يَمْنَعُهَا وُجُودُ الرَّسُولِ فِيهِمْ. أَقُولُ أَيْ وَكُلُّ مَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَهُوَ بِإِذْنِ اللهِ: أَيْ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ بِأَنْ تَكُونَ السُّنَنُ الْعَامَّةُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ مُطَّرِدَةً، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يُخْطِئُ الرَّأْيَ وَيَعْصِي الْقَائِدَ وَيَخَلِّي بَيْنَ ظَهْرِهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مِنْ تَفْسِيرِ الْإِذْنِ هُنَا بِقَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ وَعِبْرَةٌ، وَعِلْمٌ عَالٍ يُجَلِّي لَهُمْ قَوْلَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمَنْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيقَاعِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا تِلْكَ الْعِنَايَةَ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ -، وَقَدْ فَشِلُوا فِي الْأَمْرِ وَعَصَوُا الرَّسُولَ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَذِنَ بِهِ وَأَرَادَهُ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَالَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى أَسْبَابِهَا، وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ فِيهِمْ حُكْمُهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلْمِ فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، فَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ، وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا لِيُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ حَالَ الْكَافِرِينَ مَعَهُمْ، وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَتَبَطَّنُوا الْكُفْرَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّفَقِ، وَهُوَ السِّرْبُ فَهُمْ يَتَسَتَّرُونَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ مُشْتَقٌ مِنَ النَّافِقَاءِ وَهُوَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ أَوْ أَحَدُ بَابَيْهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ يَجْعَلُ لِجُحْرِهِ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقَاصِعَاءُ وَالْآخُرُ النَّافِقَاءُ فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ يَظْهَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ بَابِ الْكُفْرِ، فَإِذَا أَصَابَتْهُ مَشَقَّةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَجَأَ إِلَى الْآخَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنِ النَّافِقَاءَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ يَحْفِرُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُرَقِّقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا رَابَهُ شَيْءٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ، فَإِذَا فُتِّشَهُ
وَسَيَأْتِي مِنْ أَوْصَافِهِمْ مَا يَظْهَرُ بِهِ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٤: ١٤١].
وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ حَالَ الَّذِينَ نَافَقُوا، أَيْ وَقَعَ مِنْهُمُ النِّفَاقُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ النِّفَاقَ لَمْ يَكُنْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ كَثُبُوتِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي إِيمَانِهِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْعِبْرَةِ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْأَمْرِ، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْأَمْرِ، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ شَرًّا وَسُوءًا وَكَرِهُوا حُصُولَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ دُعُوا إِلَى الْقِتَالِ عَلَى أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَيْ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ وَأَهْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ لَا لِلْحَمِيَّةِ وَالْهَوَى، وَلَا ابْتِغَاءَ الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ دِفَاعٌ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَوَطَنِهِمْ فَرَاوَغُوا وَحَاوَلُوا، وَقَعَدُوا وَتَكَاسَلُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ أَيْ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَ قِتَالًا فِي خُرُوجِكُمْ لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَلَكِنَّنَا نَرَى أَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَهِي بِغَيْرِ قِتَالٍ، نَزَلَ ذَلِكَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَجَعُوا مِنَ الطَّرِيقِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ لِيُخَذِّلُوا الْمُسْلِمِينَ وَيُوقِعُوا فِيهِمُ الْفَشَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مُجْمَلِ الْقِصَّةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا (رَاجِعْ ص٨٠ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ) قَالَ - تَعَالَى -: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ يَوْمَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ لِظُهُورِ صِفَتِهِ فِيهِمْ وَانْطِبَاقِ آيَتِهِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأُمَّةِ عِنْدَ هُجُومِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا يَتَعَمَّدُ الْمُؤْمِنُ تَرْكَهَا، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي جَعْلِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي حُصِرَ الْإِيمَانُ فِي الْمُتَّصِفِينَ بِهَا كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [٤٩: ١٥] قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ لِلِاحْتِرَاسِ بَلْ لِرَفْعِ شَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالَ إِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كُفَّارٌ مِنْ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمَنْعًا لِلتَّهَجُّمِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعَلَامَاتِ وَالْقَرَائِنِ. أَقُولُ: يَعْنِي
إِنَّ هَذَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَصْدُرَ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ لَا يُعَدُّ - بِحَدِّ ذَاتِهِ - كُفْرًا صَرِيحًا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، لِاحْتِمَالِ الْعُذْرِ وَالتَّأْوِيلِ،
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِيَسْتُرُوا بِذَلِكَ مَا يُضْمِرُونَ، وَيُؤَيِّدُوا بِهِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهَلْ يَكُونُ نِفَاقٌ بِغَيْرِ كَذِبٍ؟ وَفِي تَقَيُّدِ الْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ تَوْضِيحٌ لِنِفَاقِهِمْ بِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ وَفِي التَّنْزِيلِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ هَذِهِ قَالَ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ، فَهُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ حِينِ مِنْ مُخَبَّآتِ سَرَائِرِهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَتَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى نَافَقُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْوَاوِ مَا حَاصِلُهُ: وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْوَاوِ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ
الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا تَأْتِي لِوَصْلِ كَلَامٍ بِكَلَامٍ آخَرَ مُبَايِنٍ لِلْأَوَّلِ تَمَامَ الْمُبَايَنَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَمُرْتَبِطٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا فُصِلَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْبَحْتِ وَحْشَةٌ عَلَى السَّمْعِ وَإِيهَامٌ لِلذِّهْنِ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى، فَيَجِيءُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَاوِ لِيَسْتَمِرَّ الْأُنْسُ بِالْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ وَيَظَلَّ الذِّهْنُ مُنْتَظِرًا لِغَايَةِ الْفَائِدَةِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِالْوَاوِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِ قَدْ تَمَّ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ مِثْلُ مَا يُرَادُ مِمَّا قَبْلَهُ يَقُولُ: هَذَا جُزْءٌ مِنَ الْكَلَامِ يُثْبِتُ غَرَضِي وَيُبَيِّنُ مُرَادِي وَثَمَّ جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ وَهُوَ كَذَا. وَهَذَا الشَّرْحُ
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِلْكُفْرِ وَلِلْإِيمَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى " إِلَى " فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي صِلَةِ الْقُرْبِ حَرْفَا " إِلَى " وَ " مِنْ " يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ وَقَرُبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَيْضًا.
ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلًا آخَرَ قَالُوهُ بَعْدَ الْقِتَالِ - وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ السَّابِقُ قَبْلَ الْقِتَالِ اعْتِذَارًا عَنِ الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ - فَقَالَ: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَيْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا أَوْ نَعْتٌ لَهُ. أَيْ قَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي أُحُدٍ وَفِي شَأْنِهِمْ. وَالْحَالُ أَنَّهُمْ هُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ: لَوْ أَطَاعُونَا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ فَلَمْ يَخْرُجُوا كَمَا أَنَّنَا لَمْ نَخْرُجْ لَمَا قُتِلُوا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ لَمْ نُقْتَلْ إِذْ لَمْ نَخْرُجْ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ جَاءَ فِي سِيَاقِ التَّقْرِيعِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدَّمَ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ ; فَإِنَّ الْقُعُودَ رُبَّمَا كَانَ لِعُذْرٍ أَوِ الْتَمَسَ النَّاسُ لَهُ عُذْرًا، وَاللَّوْمُ فِيهِ عَلَى فَاعِلِهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ إِثْمَهُ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الْخَبِيثُ فَإِنَّهُ
أَدَلُّ عَلَى فَسَادِ السَّرِيرَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَضَرَرُهُ يَتَعَدَّى لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْبِيطِ هِمَمِ الْمُجَاهِدِينَ، أَقُولُ: وَيَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِهِمْ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ التَّثْبِيطِ وَالنَّهْيِ حِينَ انْفَصَلَ ابْنُ أُبَيٍّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْعَسْكَرِ مُؤَيِّدِينَ ذَلِكَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا الصَّوَابَ وَقَدْ دَحَضَ اللهُ - تَعَالَى - حُجَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي حُكْمِهِ الْجَازِمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِلْمَهُمْ قَدْ أَحَاطَ بِأَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فِيهَا جَازَ فِي غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُهُمْ دَرْءُ الْمَوْتِ أَيْ دَفْعُهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ طَالَبَهُمْ بِهِ وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فَرْقًا بَيْنَ التَّوَقِّي مِنَ الْقَتْلِ بِالْبُعْدِ عَنْ أَسْبَابِهِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْمَوْتِ بِالْمَرَّةِ. فَالْمَوْتُ حَتْمٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ وَإِنْ طَالَ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ دَرْءِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالَ: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ يَجِيءُ مِنْ وُقُوفِ النَّظَرِ، فَكُلٌّ يَعْلَمُ - وَلَا سِيَّمَا مَنْ حَارَبَ - أَنَّهُ مَا كُلُّ مَنْ حَارَبَ يُقْتَلُ، فَقَدْ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ كَثِيرِينَ يُصَابُونَ بِالرَّصَاصِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَلَا يَمُوتُونَ، وَأَنَّ كَثِيرِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَعْمَعَةِ سَالِمِينَ وَلَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهَا أَنْ يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ كَمَا يَمُوتُ كَثِيرٌ مِنَ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْقِتَالِ. فَمَا كُلُّ مُقَاتِلٍ يَمُوتُ، وَلَا كُلُّ قَاعِدٍ يَسْلَمُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ حَتْمًا سَقَطَ قَوْلُهُمْ وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ ذَكَرَ
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي قُعُودِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَتَثْبِيطِهِمْ إِخْوَانَهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ وَبَعْدَهُ، وَقَوْلِهِمْ فِيمَنْ قُتِلُوا إِنَّهُمْ لَوْ أَطَاعُوهُمْ مَا قُتِلُوا وَبَيَّنَ أَفْنَهُمْ وَفَسَادَ رَأْيِهِمْ فِي التَّوَقِّي مِنَ الْمَوْتِ بِعَدَمِ الْقِتَالِ وَالدِّفَاعِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَا مِنْ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَظُنُّ أُولَئِكَ السُّفَهَاءُ فِي مَوْتِهِمْ فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -:
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا جَابِرُ! مَالِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا وَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَى أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ - تَعَالَى -: قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أَيْ رَبِّي فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالُوا: وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِجَوَازِ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَنُزُولِ الْآيَةِ فِيهِمَا مَعًا. وَأَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، فَإِذَا صَحَّ الْخَبَرَانِ فَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ وَقَائِعِ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ أَوْ يَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُؤْثِرُونَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَنَّ مَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ قَدْ فَقَدُوا الْحَيَاةَ وَصَارُوا عَدَمًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قُتِّلُوا بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فِي عَالَمٍ غَيْرِ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لِلشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلِكَرَامَتِهِ وَشَرَفِهِ أَضَافَهُ الرَّبُّ - تَعَالَى - إِلَيْهِ فَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ شَرَفٍ وَكَرَامَةٍ لَا مَكَانٍ وَمَسَافَةٍ. وَقِيلَ عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَحُكْمٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَضِيرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ قَتْلُهُمْ، وَلَيْسَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ دُونَ مَا كَانُوا فِيهِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْقِتَالِ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلْقَتْلِ لَا يَتَخَلَّفُ كَمَا يُوهِمُ كَلَامُ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُثَبِّطًا لِلْمُؤْمِنِ عَنِ الْجِهَادِ عِنْدَ وُجُوبِهِ بِمِثْلِ مُهَاجَمَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ، أَوْ بِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ، فَكَيْفَ وَالْخُرُوجُ إِلَى الْقِتَالِ هُوَ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ فِي الْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي لَا تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهَا يَطْمَعُ غَيْرُهَا فِيهَا، فَإِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ ظَفِرُوا بِهَا وَنَالُوا مَا يُرِيدُونَ مِنْهَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [٢: ١٥٤] وَأَنَّ الْمُخْتَارَ فِيهَا أَنَّهَا حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ لَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَلَا نَزِيدُ فِيهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ خَبَرُ الْوَحْيِ شَيْئًا فَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَلْ أَحْيَاءٌ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ فِي أَحْيَاءِ
الْآخِرَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ
يَقُولُونَ:
إِنَّ الْمَرْءَ يَحْيَا بِنَسْلِهِ | وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ |
نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي | فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسْلٌ فَإِنَّا بِهَا نَسْلُو |
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مَجَازِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا حَقِيقِيَّةٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا دُنْيَوِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا أُخْرَوِيَّةٌ وَلَكِنْ لَهَا مَيْزَةٌ خَاصَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا هُوَ عَدَمُ الْبَحْثِ فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَذَكَرْنَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بَحْثَ مَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِ أَرْوَاحِهِمْ تَكُونُ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ فَرَاجِعْهُ (ج٢ص ٣٢ط. الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مَسْرُورِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِعَمَلِهِمْ، فَالْفَضْلُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، كَمَا قَالَ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [٣٥: ٣٠]. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ الِاسْتِبْشَارُ: السُّرُورُ الْحَاصِلُ بِالْبِشَارَةِ، وَأَصْلُ الِاسْتِفْعَالِ طَلَبُ الْفِعْلِ، فَالْمُسْتَبْشِرُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ السُّرُورَ فَوَجَدَهُ بِالْبِشَارَةِ كَذَا قَالُوا، وَالْعِبَارَةُ لِلرَّازِيِّ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّلَبِ فِيهِ عَلَى حَالِهِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ هُمُ الَّذِينَ بَقُوا فِي الدُّنْيَا
هَذَا مَا رُوِيَ فِي وَجْهِ الِاسْتِبْشَارِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةَ وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الشَّهِيدَ يُؤْتَى بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ مَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِهِ يُبَشَّرُ بِذَلِكَ فَيُسَرُّ وَيَسْتَبْشِرُ كَمَا يَسْتَبْشِرُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَاخْتَارَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالزَّجَّاجُ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: هُمْ إِخْوَانُهُمُ الَّذِينَ لَا يُحَصِّلُونَ فَضِيلَةَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَنَالُونَ مِثْلَ دَرَجَتِهِمْ، وَأَنَّ اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِمْ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ قَبْلَهُمْ فَيَرَوْنَ مَنَازِلَهُمْ فِيهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ فَاتَتْهُمْ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ مِنْ خَلْفِهِمْ مَنْ جَاهَدَ مِثْلَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [٤: ٩٥، ٩٦] وَالْآيَةُ الْآتِيَةُ تُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَنْ خَلْفَهُمْ بَقِيَّةَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا.
وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ يَسْتَبْشِرُونَ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، فَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ عَلَى هَذَا مَنْفِيَّانِ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَعْنَى بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إِلَخْ. وَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا مَنْفِيَّيْنِ عَنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ إِنَّ الْفَرَحَ وَالِاسْتِبْشَارَ يَكُونَانِ شَامِلَيْنِ لَهُمْ بِحَالِهِمْ وَبِحَالِ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ وَهُمْ حَيْثُ هُمْ. كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَهُمَا عَنِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحِقُوا بِهِمْ أَيْضًا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ نَفْيُهُمَا عَنِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ، وَأَنَّ الْآيَةَ الْآتِيَةَ مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ. وَالْخَوْفُ: تَأَلُّمٌ مِنْ مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ، وَالْحُزْنُ: تَأَلُّمٌ مِنْ مَكْرُوهٍ وَقَعَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ رَاجِعْ تَفْسِيرَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [٢: ٦٢] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ: مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنِ اسْتِئْصَالِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ أَوْ ظَفَرِهِمْ بِهِمْ ثَانِيَةً وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْبَعِيدِ عِنْدَمَا يَقْدُمُونَ عَلَى رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَاعْرِضْ هَذَا عَلَى الْآيَاتِ الْآتِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ ضَمِيرُ يَسْتَبْشِرُونَ إِمَّا لِلشُّهَدَاءِ وَإِمَّا لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ،
الْأَسَدِ ص ٨٨ ج ٤ ط. الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَقِيلَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشُّهَدَاءُ وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَدْحِيَّةٌ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ اسْتِبْشَارَهُمْ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وَأَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ. فَالَّذِي آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مُجْمَلٌ تَفْصِيلُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قِسْمَانِ: فَضْلٌ عَلَيْهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ وَرَاءَهُمْ، وَفَضْلٌ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَفَضْلُهُ الْخَاصُّ بِهِمْ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَقَدْ أَبْهَمَهُ فَلَمْ يُعَيِّنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِهِ وَعَلَى كَوْنِهِ غَيْبًا لَا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، ثُمَّ اخْتَتَمَ الْكَلَامَ بِفَضْلِهِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ كَمَا افْتَتَحَهُ بِهِ، وَتَرَكَ الْعَطْفَ لِتَنْزِيلِ الِاسْتِبْشَارِ الثَّانِي مَنْزِلَةَ الِاسْتِبْشَارِ الْأَوَّلِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ اهـ. لَيْسَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَخَبَرِيَّةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ هُمْ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ " مِنْهُمْ "؟ وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ " مِنْ " هُنَا لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ الْوَصْفَ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى لِلْمَدْحِ وَالتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَقَالَ هِيَ فِي مَحَلِّهَا ; لِأَنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى " حَمْرَاءِ الْأَسَدِ " أَيْ وَهُمْ مِنَ الَّذِينَ لَا يُضَيِّعُ اللهُ أَجْرَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ وَهُمْ مُثْقَلُونَ بِالْجِرَاحِ وَمُرْهَقُونَ مِنَ الْإِعْيَاءِ إِلَى اسْتِئْنَافِ قِتَالِ أَضْعَافِهِمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ.
أَقُولُ: فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " مِنْهُمْ " رَاجِعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا،
خَرَجُوا بِالْفِعْلِ وَهُمْ بَعْضُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا. وَالْإِحْسَانُ: أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهِ الْمُمْكِنَةِ. وَالتَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ الْإِسَاءَةَ وَالتَّقْصِيرَ فِيهِ.
أَقُولُ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنُهَا.
وَمِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَلَبِ الْعَدُوِّ " وَأَلَّا يَخْرُجَ مَعَنَا إِلَّا مِنْ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ " كَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرَامٍ فَقَالَ " يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَى كَانَ خَلَّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، وَلَسْتُ بِالَّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفْسِي فَتَخَلَّفْ عَلَى أَخَوَاتِكَ. فَتَخَلَّفَ عَلَيْهِنَّ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي أُولَئِكَ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَيْفَ جَاءَ وَعْدُهُمْ بِالْأَجْرِ مَقْرُونًا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَنَّى يَعْتَبِرُ الْمَغْرُورُونَ الْمُسِيئُونَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ مَانِعُونَ، وَالَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَبْذُلُونَهَا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَلَا يَتْعَبُونَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ، وَالَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْمُبْطِلِينَ وَيَنْصُرُونَ، وَيُشَاقُّونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَيَخْذُلُونَ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ! أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ: هُمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَخَرَجُوا إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ عَادَ بِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ لِاسْتِئْصَالِهِمْ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ أُحُدٍ: يَا مُحَمَّدُ مَوْعِدُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْسِمُ بَدْرٍ الْقَابِلُ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ (كَمَا تَقَدَّمَ) فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ " مَجَنَّةً " مِنْ نَاحِيَةِ " مَرِّ الظَّهْرَانِ " وَقِيلَ بَلَغَ " عُسْفَانَ " فَأَلْقَى اللهُ - تَعَالَى - الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ فَبَدَا لَهُ الْجُوعُ، فَلَقِيَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ وَقَدْ قَدِمَ
مُعْتَمِرًا فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي وَاعَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَنْ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ وَإِنَّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ وَعْدًا فَلَمْ نَجِدْ | لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا |
فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتَنَا فَلَقِيتَنَا | لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ الْمَوَالِيَا |
تَرَكْنَا بِهِ أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنَهُ | وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا |
عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ أُفٍّ لِدِينِكُمْ | وَأَمْرِكُمُ الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ غَاوِيَا |
وَإِنِّي وَإِنْ عَنَّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ | فِدًى لِرَسُولِ اللهِ أَهْلِي وَمَالِيَا |
أَطَعْنَاهُ لَمْ نَعْدِلْهُ فِينَا بِغَيْرِهِ | شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ هَادِيَا |
الْمُنَافِقُونَ، وَأَمَّا النَّاسُ الَّذِينَ جَمَعُوا الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَأَعْوَانُهُ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ قَالَهُ رَكْبُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَتَحَدَّثَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ وَيَذْهَبُونَ فِيهِ مَعَ أَهْوَائِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ (بَدْرٍ الْمَوْعِدِ) هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَتَصْدُقُ الْآيَةُ عَلَى الْقِصَّتَيْنِ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا أَيْ فَزَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ لَهُمْ إِيمَانًا بِاللهِ وَثِقَةً بِهِ مِنْ حَيْثُ خَشُوهُ وَلَمْ يَخْشَوُا النَّاسَ الَّذِينَ خُوِّفُوا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جَمَعُوا لَهُمُ الْجُمُوعَ وَاعْتَمَدُوا عَلَى نَصْرِهِ وَمَعُونَتِهِ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَضَعُفَ جَلَدُهُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَزِيَادَتِهِ أَنْ أَقْدَمُوا - وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ قَدْ أُثْخِنُوا بِالْجِرَاحِ - عَلَى مُحَارَبَةِ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، فَالزِّيَادَةُ كَانَتْ فِي الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ، وَالشُّعُورِ الْقَلْبِيِّ، وَتَبِعَهَا الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ، بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَالشُّعُورِ بِعِزَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ عَلَى تِلْكَ الِاسْتِجَابَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مَا كَادَ يَكُونُ وَرَاءَ حُدُودِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ الْإِيمَانَ النَّفْسِيَّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَدْ نَظَرَ إِلَى الِاصْطِلَاحَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا إِلَى نَفْسِهِ فِي إِدْرَاكِهَا وَشُعُورِهَا وَقُوَّتِهَا فِي الْإِذْعَانِ وَضَعْفِهَا.
قَالُوا: إِنَّ التَّصْدِيقَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَكُونُ إِيمَانًا صَحِيحًا إِلَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، فَإِذَا نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ كَانَ ظَنًّا أَوْ شَكًّا. وَلَيْسَ الظَّنُّ إِيمَانًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَالشَّكُّ كُفْرٌ صَرِيحٌ وَنَقُولُ: إِنَّ الظَّنَّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يُعَدُّ إِيمَانًا صَحِيحًا هُوَ مَا لُوحِظَ فِيهِ جَوَازُ وُقُوعِ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ، أَيْ مَا لُوحِظَ فِيهِ طَرَفَانِ مُتَقَابِلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لِأَمْرٍ ثَابِتٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا أَلَّا يَكُونَ ثَابِتًا، فَإِنْ جَزَمَ
الذِّهْنُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ فَلَمْ يُتَصَوَّرِ الطَّرَفُ الْمُخَالِفُ - وَهُوَ عَدَمُ الثُّبُوتِ - كَانَ جَزْمُهُ هَذَا إِيمَانًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ بُرْهَانٍ مُؤَلَّفٍ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ أَوْ غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَلَا مُلَاحَظًا فِيهِ اسْتِحَالَةُ الطَّرَفِ الْمُخَالِفِ. وَأَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَهْلِهَا لَفْظُ " الْمُوقِنِينَ ".
وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِبُرْهَانٍ مَنْطِقِيٍّ عَلَى إِثْبَاتِ قَضَايَاهُ وَاسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا لَمَا تُصُوِّرَ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَ مُكَابَرَتُهُ وَمُجَاحَدَتُهُ بِاللِّسَانِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: " الرُّجُوعُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْيَقِينِ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْعِلْمِ كِلَاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ " يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَقِينَ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي تَنْتَهِي مُقَدِّمَاتُهُ إِلَى الْبَدِيهِيَّاتِ. وَلَكِنَّ الرِّدَّةَ ثَابِتَةٌ نَقْلًا وَوُقُوعًا. قَالَ - تَعَالَى -: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ [١٦: ١٠٦] وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [٤: ١٣٧]
ثُمَّ إِنَّ فَائِدَةَ الْإِيمَانِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ الَّذِي يُحَرِّكُ فِيهَا الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ وِجْدَانَاتِ الدِّينِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَرْكُ الْمُنْكَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ حَالِ الْبَشَرِ. وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الْإِذْعَانَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ؟ أَمَا إِنَّهُ لَوْ
كَانَ إِذْعَانُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَتَسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا تَفَاوُتًا عَظِيمًا كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنْشَئِهَا مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ الْإِذْعَانُ الَّذِي يَقْوَى وَيَضْعُفُ بِالتَّبَعِ لِلْإِيمَانِ، وَهَذَا عَيْنُ قَبُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.
وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَعْنَى إِدْخَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْأَعْمَالَ فِي مَفْهُومِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ اعْتِقَادٍ لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ يَتْبَعُهُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَهِيَ سِلْسِلَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ ثَلَاثِ حَلَقَاتٍ يُحَرِّكُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالْعِلْمِ وَالْحَالِ وَالْعَمَلِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ كَذَا يُرْضِي اللهَ - تَعَالَى - أَوْ كَذَا يُسْخِطُهُ مَثَلًا يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِعْلُ مَا يُرْضِيهِ وَيَقْتَضِي مَثُوبَتَهُ، وَتَرْكُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَقْتَضِي عُقُوبَتَهُ. وَيَقُولُ: إِنَّ تَرَتُّبَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاجِبٌ. وَعِبَارَتُهُ: إِنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ الْحَالَ وَالْحَالُ يُوجِبُ الْعَمَلَ. فَارْجِعْ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِزِيَادَةِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِشُعَبِ الْإِيمَانِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي بَيَانِهَا إِلَى شَرْحٍ طَوِيلٍ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُتَلَقَّى إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ فَكُلَّمَا تَلَقَّى الْمُؤْمِنُ مَسْأَلَةً مِنْهَا ازْدَادَ إِيمَانًا. وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْكَافِرِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ النَّاشِئَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَتِ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَزِيدُ الْإِنْسَانَ مَعْرِفَتُهَا إِيمَانًا مَحْصُورَةً فِي النُّصُوصِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ هَدَانَا إِلَى التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِنَزْدَادَ إِيمَانًا وَنَعْتَبِرَ وَنَسْتَفِيدَ، وَذَلِكَ يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابًا مِنَ الْعِلْمِ بِاللهِ وَسُنَنِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا. فَكُلُّ مَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ فِي بَحْثِنَا وَنَظَرِنَا مِنْ أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ وَسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّا نَزْدَادُ بِهِ عِلْمًا بِاللهِ وَإِيمَانًا
هَلْ خَصَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ؟ : لَا إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ.
وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدْرِ تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي أَصْلِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْوِجْدَانِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [٣٣: ٢٢] وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَيْ وَقَالُوا مُعَبِّرِينَ عَنْ إِيمَانِهِمْ حَسْبُنَا اللهُ أَيْ هُوَ كَافِينَا مَا يُهِمُّنَا مَنْ أَمْرِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَنَا، وَحَسْبُنَا بِمَعْنَى مُحْسِبُنَا، فَهُوَ مِنْ أَحْسَبَهُ إِذَا كَفَاهُ كَمَا قَالُوا: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي تُوكَلُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَنْصُرَنَا عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّتِنَا وَكَثْرَتِهِمْ، أَوْ يُلْقِيَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَكْفِيَنَا شَرَّ بَغْيِهِمْ وَكَيْدِهِمْ - وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَلْقَى الرُّعْبَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ وَجَيْشِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَعَزَّ اللهُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ.
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أَيْ فَعَادُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَى لِقَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا لَهُمْ وَمُنَاجَزَتِهِمُ الْقِتَالَ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مَصْحُوبِينَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَهِيَ السَّلَامَةُ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَافِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْفَضْلُ فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ عِيرًا مَرَّتْ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ مَالًا فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ " وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَوْسِمَ هُوَ مَوْسِمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا خَبَرُ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا وَأَنَّهُمُ اتَّجَرُوا فِيهَا وَرَبِحُوا، وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى أَوْ بَدْرٍ الْمَوْعِدِ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لِأَنَّ غَزْوَةَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ الْمُتَّصِلَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ قَدْ قِيلَ لَهُمْ فِيهَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا فَخَرَجُوا إِلَى لِقَائِهِمْ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ مَعْنَوِيٍّ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَلَا أَذًى، وَفَسَّرَ السُّوءَ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ أَيْ أَعْظَمَ مَا يُرْضِيهِ وَتُسْتَحَقُّ بِهِ كَرَامَتُهُ - وَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَفَمِنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ [٣: ١٦٢]
مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ فِي الْعُقْبَى.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ " فَانْقَلَبُوا " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَرَجُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [٢٦: ٦٣] أَيْ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاجَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ فِي أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِرْسَالِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَجَعْلِ أَخِيهِ وَزِيرًا لَهُ وَأَمْرِهِمَا بِأَنْ يُبَلِّغَا فِرْعَوْنَ رِسَالَتَهُ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [٢٠: ٤٩] أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا بَلَّغَاهُ الرِّسَالَةَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولَانِ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟ فَقَدَ فُهِمَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - صَدَعَا بِأَمْرِ رَبِّهِمَا وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَبَلَّغَاهُ مَا أَمَرَهُمَا اللهُ - تَعَالَى - بِتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ.
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ هُنَا شَيْطَانُ الْإِنْسِ الَّذِي غَشَّ الْمُسْلِمِينَ وَخَوَّفَهُمْ لِيُخَذِّلَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ فَقِيلَ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ أَرَادَ بَعْدَ أُحُدٍ أَنْ يَكُرَّ لِيَسْتَأْصِلَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُخَوِّفُهُمْ فِي بَدْرٍ الثَّانِيَةِ أَوِ الصُّغْرَى. وَقِيلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ لِيُثَبِّطَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ الْمَوْعِدِ (وَقَدْ أَسْلَمَ نُعَيْمٌ يَوْمَ الْأَحْزَابِ) وَقِيلَ هُوَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَيْطَانُ الْجِنِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ عَلَى حَدِّ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [٢: ٢٦٨] وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: لَيْسَ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَكُمْ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ أَوْ مَنْ أَوْعَزَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ مَنْ وَسْوَسَ بِهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ يُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَأَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِكُمْ أَنْ تَقْعُدُوا عَنْ لِقَائِهِمْ وَتَجْبُنُوا عَنْ مُدَافَعَتِهِمْ. وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَخْوِيفِهِمْ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ أَنَّهُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ فَيُسَوِّلُ لَهُمُ الْقُعُودَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُزَيِّنُ لَهُمْ خِذْلَانَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ لَيْسَتْ جَلِيَّةً كَجَلَائِهَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي أَيْضًا، وَلَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فَيُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ.
أَيْ لَا تَحْفُلُوا بِقَوْلِهِمْ: فَاخْشَوْهُمْ فَتَخَافُوهُمْ بَلْ خَافُونِي أَنَا لِأَنَّكُمْ أَوْلِيَائِي وَأَنَا وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ قَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ التَّنْبِيهُ إِلَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ. وَبَيْنَ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُوَازِنُوا بَيْنَ قُوَّتِي
مَكَانًا فِي قُلُوبِكُمْ اهـ. بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ، إِنَّ مَقُولَةَ: " كَأَنَّهُ يَقُولُ " مِنْ عِنْدِي لِأَنَّنِي لَمْ أَكْتُبْ مَا قَالَهُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِيهِ، وَإِنَّمَا تَرَكْتُ لَهُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَهُ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ، ثُمَّ نَسِيتُهُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فِي التَّرْبِيَةِ التَّدْرِيجِيَّةِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فَوْرًا فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَقَدْ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى شِعْرًا فِي الْحُزْنِ مِنْ مَرْثِيَّةٍ نَظَمْتُهَا فِي أَيَّامِ التَّحْصِيلِ وَهُوَ:
أَطَبِيعَةُ، ذَا الْحُزْنُ لَيْسَ يَشِذُّ عَنْ نَامُوسِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ أَمْ ذَاكَ مِمَّا أَوْجَبَتْهُ شَرَائِعُ الْأَ (م) دْيَانِ مِنْ هُدًى لَنَا وَرَشَادِ أَمْ ذَلِكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ قَضَى عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ بِهَذِهِ الْأَصْفَادِ كَلَّا، فَلَيْسَ لِأَمْرٍ ضَرْبَةُ لَازِبٍ لَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُعْتَادِ فَاخْلَعْ سَرَابِيلَ الْعَوَائِدِ إِنْ تَكُنْ لَيْسَتْ بِنَهْجِ الْعَقْلِ ذَاتَ سَدَادِ وَتَقَلَّدِ الْحَزْمَ الشَّرِيفَ كَصَارِمٍ كَيْمَا تُنَافِحُ جَيْشَهَا بِجِهَادِ
أَقُولُ: فَلْيَزِنْ كُلُّ مُؤْمِنٍ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَارِنْ بَيْنَ عَمَلِهِ، وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَبَيْنَ إِيمَانِهِ، وَإِيمَانِهِمْ، لِكَيْلَا يَكُونَ مِنَ الْمَغْرُورِينَ.
مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّدَبُّرِ عَلِمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ لَا يَكُونُ جَبَانًا، فَالشَّجَاعَةُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذَا شَارَكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ فِيهِ مَدَاهُمْ، وَلَا يَبْلُغُ شَأْوَهُمْ. وَمَنْ بَحَثَ عَنْ عِلَلِ الْأَشْيَاءِ يَرَى أَنَّ عِلَّةَ الْجُبْنِ هِيَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِرْصِ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَقَلْبِ غَيْرِهِ. قَالَ - تَعَالَى - فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [٢: ٩٦] وَلَا يَزَالُ الْعَالَمُ كُلُّهُ يَشْهَدُ أَنَّ الْجَيْشَ الْإِسْلَامِيَّ أَشْجَعُ جُيُوشِ الْمِلَلِ كُلِّهَا، هَذَا مَعَ مَا مُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَالْجَهْلِ بِالْإِسْلَامِ " هَذَا وَمَا، فَكَيْفَ لَوْ ".
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هُمُ الْكُفَّارُ، قَالُوا: الْمُسَارَعَةُ فِيهِ هِيَ الْوُقُوعُ فِيهِ سَرِيعًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْكُفْرِ هِيَ الْمُسَارَعَةُ فِي نُصْرَتِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشُئُونِهِ، وَالْإِيجَافِ فِي مُقَاوَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كُلُّ كَافِرٍ يُسَارِعُ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ الْقَاعِدَ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ لِنُصْرَةِ كُفْرِهِ، وَلَا لِمُقَاوَمَةِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِيهِ. وَالْمُسَارِعُونَ الْمَعْنِيُّونَ هُنَا: هُمْ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. كَأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَإِنَّمَا يَأْتِي هَذَا لَوْ قَالَ: " يُسَارِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ " إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا أَيْ إِنَّهُمْ لَا يُحَارِبُونَكَ، فَيَضُرُّوكَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ - تَعَالَى -، وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ قُوَّتِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنْ مُنَاوَأَةِ قُوَّتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أَيْ إِنَّهُمْ عَلَى حَالَةٍ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ تَقْتَضِي حِرْمَانَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، سُنَّةَ اللهِ، وَإِرَادَتَهُ، فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَوْقَ عَذَابِ الْحِرْمَانِ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْ هَذَا الْعَذَابَ بِكَوْنِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ أَعَمُّ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ وُقُوعًا وَنَقْلًا بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْمُنَافِقِينَ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [٩: ١٠١] فَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ، وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللهُ إلخ. بَيَانٌ لِكَوْنِهِمْ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَضُرُّونَهُ - تَعَالَى -، وَجَعَلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَعْلِيلًا آخَرَ، إِذَا قَالَ مَا مِثَالُهُ: فَإِنْ كُنْتَ تَحْزَنُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً
وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي مَرَدَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي مَجْمُوعِ مَنْ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ لَا جَمِيعِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشَدُّ اتِّفَاقًا مَعَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَعْمِيمٌ لِلْكَفَرَةِ بَعْدَ تَخْصِيصِ مَنْ نَافَقَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ الْمَعْنَى، وَعَمَّمَهُ، وَأَكَّدَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي بَادِي الرَّأْيِ تَكْرَارٌ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَمَنْ فَقِهَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ فِي الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، وَهَذِهِ فِي الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، أَيِ اخْتَارُوهُ، وَرَضُوا بِهِ كَمَا يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ بَدَلًا مِنَ الثَّمَنِ، وَيَرَاهَا بَعْدَ بَذْلِهِ فِيهَا مَتَاعًا يَنْتَفِعُ بِهِ، بَلِ الشَّأْنُ فِي الْمُشْتَرِي أَنْ يَرَى مَا أَخَذَهُ أَنْفَعَ لَهُ مِمَّا بَذَلَهُ، فَهَذَا الْوَصْفُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ تَرَاهُمْ يُسَارِعُونَ فِي نُصْرَةِ الْكُفْرِ، وَتَعْزِيزِهِ، وَالدِّفَاعِ دُونَهُ، وَمُقَاوَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِهِ، لَا شَأْنَ لَهُمْ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ، وَيُغَالِبُونَهُ، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ضَرِّهِ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْزَنَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ مَحْرُمُونَ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، فَلَمَّا بَيَّنَ هَذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَخْطُرَ فِي الْبَالِ أَنَّهُ حُكْمٌ خَاصٌّ بِالَّذِينِ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ، فَفِي إِعَادَةِ الْعِبَارَةِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ فِيهَا قِسْمًا مِنَ الْكَافِرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِيهَا مَعَ تَأْكِيدِ عَدَمِ إِضْرَارِهِمْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا لِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَدُلُّ عَلَى سَخَافَتِهِمْ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ ; إِذْ رَضُوا بِالْكُفْرِ، وَاخْتَارُوهُ، وَحَسِبُوهُ مَنْفَعَةً، وَفَائِدَةً، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا قِيمَةَ لَهُمْ، فَيُخَافُ مِنْهُمْ، أَوْ يُحْزَنُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَقَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْكَارِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَيَجُولُ فِيهَا صُورَةُ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَالْقُوَّةِ، وَإِمْكَانِ نَيْلِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَذْنَبُوا كَمَا نَالُوا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ بِذَنْبِهِمْ، وَتَقْصِيرِهِمْ، فَيَقُولُ الْوَاهِمُ: آمَنَّا، وَصَدَّقْنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ سَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلَكِنْ أَلَيْسُوا الْآنَ مُتَمَتِّعِينَ بِالدُّنْيَا؟ ! أَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْنَا؟ وَقَدْ كَشَفَ هَذَا الْوَهْمَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
هَذَا مَا عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ " تَحْسَبَنَّ " بِالتَّاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَحْسَبُ، وَفَتْحَ سِينَ " يَحْسَبُ " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَكَسَرَهَا الْبَاقُونَ. وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَعَمَلِهِ لِيَبْلُغَ مَدَاهُ فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ. إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْخَيْرَ لَيْسَ فِي الْإِمْهَالِ، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانَ لِلْإِنْسَانِ لِيَعْمَلَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ مَا يَشَاءُ ; فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْبَشَرِ بِاخْتِيَارِهِمْ مَا يَشَاءُونَ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَيْرُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِمْلَاءِ وَطُولِ الْأَجَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ، إِذَا كَانَ يَزْدَادُ فِيهِ عَمَلًا صَالِحًا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَفْسِهِ بِارْتِقَائِهَا فِي الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَيَنْفَعُ بِهِ النَّاسَ فِي تَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْسِينِ مَعِيشَتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَمْثَالِهِمْ لَا يَزْدَادُونَ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا إِثْمًا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالتَّمَادِي فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْفِسْقِ، وَتَأْيِيدِ سُلْطَانِ الشَّرِّ فِي الْخَلْقِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ بِحَسَبِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ يُقَاوِمُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قَوِيَتْ بِالْعَمَلِ وَالْإِثْمِ دَاعِيَةُ الْإِثْمِ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ يَمُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا مِنْ خَلِيقَةٍ، وَلَا
شَاكِلَةٍ فِي الْإِنْسَانِ إِلَّا وَيَزِيدُهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا قُوَّةً، وَرُسُوخًا فِي نَفْسِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ - تَعَالَى - فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ.
وَقَدْ يَرِدُ هُنَا إِشْكَالَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ، فَإِذَا طَالَ عُمُرُهُ ازْدَادَ مِنْهُ، وَهَذَا شَيْءٌ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْكُمُ بِالضَّلَالِ عَلَى الْكَثِيرِ
إِلَيْكَ [٣: ٧٥] وَقَالَ: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [٥: ٦٦]- قَالَ فِيهِمْ أَيْضًا: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [٤: ١٥٥] (الْخَامِسَةُ) قَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ مُؤْمِنِينَ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَكَانَ إِيمَانُهُمْ يَظْهَرُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ عِنْدَمَا تَتِمُّ أَسْبَابُهُ، كَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ كَافِرِينَ فِي الْبَاطِنِ، وَكَانَتْ نَوَاجِمُ الْكُفْرِ تَبْدُو مِنْهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ - كَمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ - وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بِبَعِيدٍ، وَكَمَا ظَهَرَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي فَضَحَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي
ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ أَنْ يَزْدَادَ كُفْرًا بِطُولِ الْعُمُرِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَيُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا طَالَ عُمُرُهُ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ، وَازْدَادَتْ خَيْرَاتُهُ، فَعَسَى أَنْ يَتَّخِذَ هَذَا مِيزَانًا مِنْ مَوَازِينِ الْإِيمَانِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْغُرُورِ، وَيُخْرِجُ الَّذِي فَقِهَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّمَا الْأُولَى الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً " أَنَّ " فِيهَا " مَا " اتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَيَجِبُ بِحَسَبِ فَنِّ الرَّسْمِ فَصْلُهَا، وَ " مَا " هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى " الَّذِينَ " إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ حَالٍ، وَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى تَرْجِيحِ الْبَدَلِيَّةِ، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْبَدَلَ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُنَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِغْنَاءُ. وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ عَدَمَ الِاسْتِغْنَاءِ مُتَعَيِّنٌ فِي الْمَعْنَى لَا فِي اللَّفْظِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقَالَ: الْحَقُّ أَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِي أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْمَصْدَرِ نَفْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي الْآيَةِ إِلَى تَقْدِيرٍ.
أَقُولُ: وَفِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ التَّفَنُّنُ فِي وَصْفِ الْعَذَابِ بَيْنَ عَظِيمٍ، وَأَلِيمٍ، وَمُهِينٍ، وَالْأَلِيمُ: ذُو الْأَلَمِ، وَالْمُهِينُ: ذُو الْإِهَانَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَتَوَارَدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مُنَاسَبَةَ كُلِّ وَصْفٍ لِآيَتِهِ، كَكَوْنِ الْجَزَاءِ بِالْعَظِيمِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي
الْكُفْرِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَظَائِمِ، وَبِالْأَلِيمِ عَلَى شِرَاءِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْبُونَ يَتَأَلَّمُ، وَبِالْمُهِينِ عَلَى ازْدِيَادِ الْإِثْمِ بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ مَنِ ازْدَادُوا إِثْمًا مَا كَانُوا يَطْلُبُونَ إِلَّا الْعِزَّ وَالْكَرَامَةَ.
مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَرَأَ حَمْزَةُ: " يُمَيِّزَ " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنْ مَازَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَرْسِلًا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَمَا بَعْدَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ بَيَانُ حَالِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، وَضَعْفُهُمْ، وَبَيَانُ حَالِ الْمُجَاهِدِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَمَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ، وَحَالِ الْكُفَّارِ الْمُهَدِّدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَوْنُ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ أَشَدَّ وَقْعَةٍ أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ عَقِبَهَا بِأَلَمِ الْغَلَبِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَادِرِ النَّصْرِ فِي " بَدْرٍ "، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَيَّنَ ضَعْفُ نُفُوسِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللهِ - تَعَالَى - بِبَيَانِ فَوَائِدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَظِيمَةً. وَمِنْهَا خَتْمُهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ
كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَمْتَثِلُونَ كُلَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُ إِرْسَالُ السَّرَايَا الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِيهَا مَخَاوِفُ كَبِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ; وَلِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ فِيهَا الصَّادِقُ بِالْمُنَافِقِ بِلَا تَمْيِيزٍ ; إِذِ التَّمَايُزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشَّدَائِدِ، أَمَّا الرَّخَاءُ، وَالْيُسْرُ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ - كَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ الْقَلِيلَةِ - فَكَانَ يَقْبَلُهُ الْمُنَافِقُونَ كَالصَّادِقِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ مَعَ التَّمَتُّعِ بِمَزَايَا الْإِسْلَامِ، وَفَوَائِدِهِ، وَرُبَّمَا خَدَعَ الشَّيْطَانُ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِتَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ السَّهْلَةِ - وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي دِينٍ جَدِيدٍ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الظَّاهِرِ مَدْعَاةُ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ.
الشَّدَائِدُ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَوِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَالضَّعِيفِ فِيهِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ ضَعِيفَ الْعَزِيمَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ قَوِيِّهَا، وَتُزِيلُ الِالْتِبَاسَ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ كَبِيرَةٌ:
مِنْهَا أَنَّ الصَّادِقَ قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ إِلَى الْمُنَافِقِ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَالِانْخِدَاعِ بِأَدَاءِ الْمُنَافِقِ لِلْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلصَّادِقِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا عَرَفَهُ اتَّقَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنْ تَعْرِفَ الْجَمَاعَةُ وَزْنَ قُوَّتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ ; لِأَنَّهَا بِانْكِشَافِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَهَا تَعْرِفُ أَنَّهُمْ عَلَيْهَا لَا لَهَا، وَبِانْكِشَافِ حَالِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُرَبِّهِمُ الشِّدَّةُ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا. هَذَا بَعْضُ مَا تَكْشِفُهُ الشِّدَّةُ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ ضَرَرِ الِالْتِبَاسِ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ لَهُمْ حُجُبَ الْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ قَدْ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنَ الضَّعْفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى مَكَانُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى تُظْهِرَهُ الشَّدَائِدُ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّبْسُ ضَارًّا بِالْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ وَلَا مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ فِي عِبَادِهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَتَظْهَرَ الْخَفَايَا، وَتُبْلَى السَّرَائِرُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ، وَيَتَّضِحَ الْمَنْهَجُ السَّوِيُّ لِلنَّاسِ.
قَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ أَقْرَبَ وَسِيلَةٍ لِرَفْعِ اللَّبْسِ هِيَ أَنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْغَيْبِ فَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَحَقَائِقَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مَنْ سُنَنِهِ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ، فَقَالَ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ إِطْلَاعُ النَّاسِ عَلَى الْغَيْبِ ; لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَخْرَجَ بِهِ الْإِنْسَانَ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْإِنْسَانَ نَوْعًا عَامِلًا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَغَائِبِهِ، وَيَدْفَعُ جَمِيعَ مَكَارِهِهِ بِالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَهَدْيُ النُّبُوَّةِ ; وَلِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يُزِيلَ هَذَا اللَّبْسَ وَيَمِيزَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ بِالشَّدَائِدِ، وَمَا تَتَقَاضَاهُ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَرْوَاحِ فِي سَبِيلِهِ الَّتِي هِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ لَا سَبِيلَ الْهَوَى، كَمَا ابْتَلَى
وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ أَيْ يَصْطَفِيهِمْ فَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ
الْغَيْبِ، وَهُوَ مَا فِي تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَصْلَحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَصِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبَعْضِ شُئُونِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَيْبُ الَّذِي أُمِرَ الْمُكَلَّفُونَ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمُدِحُوا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [٢: ١ - ٣] أَقُولُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّ مَنْ يَجْتَبِيهِمْ مِنْ رُسُلِهِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِعِبَادِهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ [٧٢: ٢٦ - ٢٨] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ، وَقَرَنْتُمْ بِالْإِيمَانِ تَقْوَى اللهِ - تَعَالَى - بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ.
لَزُّ التَّقْوَى هَاهُنَا مَعَ الْإِيمَانِ فِي قَرَنٍ، وَتَرْتِيبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا مَعًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيِ الْكَثِيرَةِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهِيَ أَظْهَرُ، وَأَشْهَرُ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا بِالشَّوَاهِدِ كُلَّمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ وَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اجْتَبَاهُمُ اللهُ مِنْ رُسُلِهِ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كُلَّهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ عِلْمَ السَّاعَةِ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي عِلْمَهَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [٦: ٥٠] هَذَا مَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ خَلْقَهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [١١: ٣١] فَهُمْ كَانُوا يَنْفُونَ أَنْ يَكُونُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ اللهِ بِالْإِعْطَاءِ، وَالْمَنْعِ، وَأَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَلَائِكَةً، أَيْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ
الْبَشَرِ. وَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ الْغَيْبَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٧: ١٨٨]، وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [٦: ٥٩]
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا كَلَامٌ جَدِيدٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ آيَاتٌ فِي شُئُونِ
الْكَافِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعُقُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تُذْكَرُ لِلْمُنَاسَبَةِ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَقْعَةِ وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهِيَ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْإِرْشَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا تَنَاسُبٌ، بَلِ التَّنَاسُبُ
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرَعَ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ. اهـ.
وَحَسْبُكَ مَا عَلِمْتَ مِنْ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَا قَبْلَهَا.
قَرَأَ حَمْزَةُ: " تَحْسَبَنَّ " بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِكُلِّ حَاسِبٍ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " يَحْسَبَنَّ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا بُخْلَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ، أَوْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا خَيْرًا لَهُمْ. وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَى مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ فِعْلِهِ، أَوْ وَصَفٍ مِنْهُ، عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [٥: ٨] أَيِ الْعَدْلُ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ | وَخَالَفَ، وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ |
هُمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ | هُمُ وَالْآخِذُونَ بِهِ وَالسَّادَةُ الْأُوَلُ |
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُبُوَّتَهُ، فَالْبُخْلُ عَلَى هَذَا هُوَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ، وَبَيَانِ الْحَقِّ. وَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ: الْمَالُ، وَأَنَّ الْبُخْلَ بِهِ هُوَ الْبُخْلُ بِالصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، فَكَثِيرًا مَا يُتْرَكُ التَّصْرِيحُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْقَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ الْوَعِيدَ هُوَ عَلَى الْبُخْلِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَالزِّينَةَ فِي نَصِّ كِتَابِهِ، وَالْعَقْلُ يَجْزِمُ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ النَّاسَ
قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْبُخْلَ الْمَذْمُومَ هُنَا هُوَ الْبُخْلُ بِمَا يَجِبُ بَذْلُهُ مِمَّا يَتَفَضَّلُ اللهُ بِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، هِيَ أَنَّ فِي الْعُمُومِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ مَا لَيْسَ لِلتَّخْصِيصِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، وَكَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ إِذَا أُنْزِلَتْ مُقَرِّرَةً، فَإِذَا طَرَقَ سَمْعَ الْمُؤْمِنِ هَذَا الْقَوْلُ تَذَكَّرَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ حَقًّا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ يُذَكَّرُ بِهِ، سَوَاءٌ مِنْهُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ، وَمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَا مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي يَتْبَعُ عَاطِفَةَ الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا نَفَى أَوَّلًا كَوْنَهُ خَيْرًا، ثُمَّ أَثْبَتَ كَوْنَهُ شَرًّا مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يُمَارَى فِيهِ ; لِأَنَّ الْمَانِعَ لِلْحَقِّ إِنَّمَا يَمْنَعُهُ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّ فِي مَنْعِهِ خَيْرًا لَهُ لِمَا فِي بَقَاءِ الْمَالِ فِي الْيَدِ مَثَلًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ، وَدَفْعِ الْغَوَائِلِ، وَالْآفَاتِ، وَتَوَهُّمِ التَّمَكُّنِ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْدِيدَ كَانَ أَوْضَحَ، وَأَنْفَى لِلْإِيهَامِ. قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ هِدَايَةٍ، وَوَعْظٍ يُخَاطِبُ الْأَرْوَاحَ لِيَجْذِبَهَا إِلَى
الْخَيْرِ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ تَأْثِيرًا لَا كَكُتُبِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُنُونِ الَّتِي تُتَحَرَّى فِيهَا التَّعْرِيفَاتُ الْجَامِعَةُ الْمَانِعَةُ، وَكِتَابٌ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَجْرِي عَلَى السَّنَنِ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِضُعَفَاءِ الْعُقُولِ الَّذِينَ فَسَدَتْ فِطَرُهُمْ بِالتَّعَالِيمِ الْفَاسِدَةِ، يَعْنِي تِلْكَ التَّعَالِيمَ الَّتِي تَشْغَلُ الْأَذْهَانَ بِعِبَارَتِهَا الضَّيِّقَةِ، وَأَسَالِيبِهَا الْمُعَقَّدَةِ، فَلَا يَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ مِمَّا يَعْتَصِرُ مِنْهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُخْطِرُ فِي الْبَالِ بَذْلَ كُلِّ مَا فِي الْيَدِ، وَتَكَادُ تُوجِبُهُ - لَوْلَا الدَّلَائِلُ الْأُخْرَى - تُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَرِيحِيَّةً لِلْبَذْلِ تَدْفَعُهَا إِلَى بَذْلِ الْوَاجِبِ، وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا يُبْخَلُ بِهِ هُوَ الْمَالُ، فَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعُمُّ الْمَالَ، وَالْعِلْمَ، وَالْجَاهَ، وَكُلَّ فَضْلٍ مِنَ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ النَّاسَ، يُمْكِنُنَا أَنْ نَجْعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمِثَالِ، وَنَقُولَ: إِنَّ التَّحْدِيدَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْجَاهِ، وَالْعِلْمِ مُتَعَذَّرٌ، إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ فِي الْمَالِ مُتَيَسِّرٌ، وَبِهَذَا كَانَتِ الْآيَةُ شَامِلَةً لِمَا لَا يَتَأَتَّى تَفْصِيلُهُ، إِلَّا بِصُحُفٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْجَوَابُ أَظْهَرَ، وَالْإِيجَازُ أَبْلَغَ فِي الْإِعْجَازِ وَأَكْبَرَ.
أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ: بِمَا آتَاهُمُ اللهُ الْعُمُومُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْبُخْلِ فِي قَوْلِهِ: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَقُلْ: سَيُطَوَّقُونَ زَكَاتَهُمْ، أَوِ الْمَالَ الَّذِي مَنَعُوهُ، أَمَّا مَعْنَى التَّطْوِيقِ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّاقَةِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ ; أَيْ سَيُكَلَّفُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَجِدُونَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كَقَوْلِهِ: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [٦٨: ٤٢]
أَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّطْوِيقَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ: مَنْ
آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعٌ (ثُعْبَانٌ مَعْرُوفٌ) أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِلِهْزَمَتَيْهِ (أْي شِدْقَيْهِ) يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ فَيَلْزَمُهُ، أَوْ يُطَوِّقُهُ يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ. هُنَاكَ رِوَايَاتٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَوْقًا مِنَ النَّارِ فِي عُنُقِ مَنْ يَبْخَلُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالتَّخْيِيلُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ نَحْوُ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ رِوَايَاتٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ التَّمْثِيلِ، وَلَا التَّخْيِيلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) لَا يَقُولُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ فِي الْبُخْلِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قَوْلُهُ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكِتْمَانِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: " سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَلِقَوْلِ مُجَاهِدٍ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ ظُهُورًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ ; أَيْ يُكَلَّفُونَ بَيَانَ مَا كَتَمُوا، فَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: " وَطَوَّقْتُكَ الشَّيْءَ كَلَّفْتُكَهُ، وَطَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ قَوَّانِي، " وَذَكَرَ ذَلِكَ وَجْهًا فِي الْآيَةِ، وَفِي حَدِيثٍ بِمَعْنَاهَا قَبْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَهُمْ: تَطْوِيقُهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَعْلِهِ طَوْقًا لَهُ: " وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مِنْ طَوْقِ التَّكْلِيفِ لَا مِنْ طَوْقِ التَّقْلِيدِ " أَقُولُ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ طَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ بِ " قَوَّانِي "، فَهُوَ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ، وَهِيَ إِحْدَى قُوَاهُ لَا مِنَ الطَّوْقِ، وَالْمُخْتَارُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا.
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنَّ لَهُ وَحْدَهُ - سُبْحَانَهُ - جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا يَتَوَارَثُهُ النَّاسُ، فَيُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي يَدٍ، وَلَا يُسَلَّمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى جَمِيعُ الْوَارِثِينَ وَالْمُوَرِّثِينَ، وَيَبْقَى الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ كُلَّ مَا يُورَثُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَدْ يَدَّخِرُ الْمَرْءُ مَالًا لِوَلَدِهِ
مَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْبَاخِلِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا يُفِيضُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ مُغْتَرِّينَ بِتَصَرُّفِهِمُ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَمِلْكِهِمْ الِانْتِفَاعَ بِهِ، ذَاهِلِينَ عَنْ مَصْدَرِهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَعَنْ مَرْجِعِهِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَاحَ فِي خَاطِرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ، وَيَفْنَى لَمْ يَخْطُرْ لَهُ إِلَّا أَنَّ لَهُ وَارِثًا يَرِثُ مَا يَتَمَتَّعُ هُوَ بِهِ كَأَوْلَادِهِ وَذِي الْقُرْبَى ; فَكَأَنَّهُ يَبْقَى فِي يَدِهِ، فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيمَا يَتْرُكُهُ الْهَالِكُونَ، هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي أَعْطَى أُولَئِكَ الْهَالِكِينَ مَا كَانُوا بِهِ يَتَمَتَّعُونَ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْعِبَارَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْطَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ، وَجَاهٍ، وَقُوَّةٍ، وَعِلْمٍ فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَصَاحِبُهُ يَفْنَى وَيَزُولُ، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْقَاءِ الْفَانِي مَا هُوَ فَانٍ مِثْلُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ، وَيَبْذُلَهُ فِي وُجُوهِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ ; أَيْ فَهُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ خَلِيفَةً لِلَّهِ فِي إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَمُحْسِنًا لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا اسْتَخْلَفَهُ فِيهِ.
وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: " يَعْلَمُونَ " بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ ; أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِ عَمَلِكُمْ، وَلَا مِمَّا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الصُّدُورُ مِنَ الْهَوَى فِيهِ وَالنِّيَّةِ فِي إِتْيَانِهِ، فَيُجْزَى كُلُّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ.
لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ الْمَدَارِسِ، فَوَجَدَ مِنْ يَهُودَ نَاسًا كَثِيرًا قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَحْبَارِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيْحُكَ يَا فِنْحَاصُ، اتَّقِ اللهَ، وَأَسْلِمْ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ فِنْحَاصُ: وَاللهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إِلَى اللهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا، وَيُعْطِينَاهُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا. فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللهِ، فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَدُوَّ اللهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، زَعَمَ أَنَّ اللهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدًّا عَلَيْهِ، وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُجَازَفَةَ فِي الْقَوْلِ قَدْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ يَهُودَ، وَمَا يَقُولُهُ الْبَعْضُ، وَيُجِيزُهُ الْجَمْعُ يُسْنَدُ إِلَى الْقَائِلِينَ، وَالْمُجِيزِينَ جَمِيعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ تَهَكُّمًا بِالْقُرْآنِ، وَرِوَايَةُ فِنْحَاصَ لَيْسَ لَهَا مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ.
سَمِعَ اللهُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُجَازِفِينَ لَمْ يَفُتْهُ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ، فَهُوَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ، وَالْوَعِيدَ كَمَا يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " الْبِشَارَةَ، وَالْوَعْدَ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ، وَكَمَا يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [٥٨: ١] مَزِيدَ الْعِنَايَةِ، وَإِرَادَةَ الْإِشْكَاءِ، وَالْإِغَاثَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَكَ: سَمِعْتُ مَا قَالَ فُلَانٌ يُشْعِرُ بِمَا لَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُكَ: عَلِمْتُ بِمَا قَالَ، وَالسَّمْعُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ خَاصَّةً بِوَجْهٍ خَاصٍّ، وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ سَمْعَ الْبَارِي - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، لَا يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ، أَوْ بِالْأَصْوَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ تُنْكِرُهُ اللُّغَةُ، وَلَا يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ. وَلَيْسَ لِلرَّأْيِ، أَوِ الْعَقْلِ أَنْ يَتَحَكَّمَ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِنَظَرِيَّاتِهِ، وَأَقْيِسَتِهِ، وَمِنْ فَائِدَةِ التَّعْبِيرِ بِسَمْعِ اللهِ لِكَلَامِ عِبَادِهِ مُرَاقَبَتُهُمْ لَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ بِخُصُوصِهَا عَلَى رَأْيِ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ.
سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ. قَرَأَ حَمْزَةُ: " سَيُكْتَبُ " بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ، أَيْ سَيُكْتَبُ قَوْلُهُمْ هَذَا، وَيُثْبَتُ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالَ مُفَسِّرُنَا كَغَيْرِهِ، أَيْ نَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ، فَمَا مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ كِتَابَةٍ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ؟ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِوَجْهٍ يَصِحُّ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلَكِنَّ ضَعْفَ الْمُسْلِمِينَ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا الضَّعْفِ فِي الْفَهْمِ وَالضَّعْفِ فِي الدِّينِ، وَتَبِعَ ذَلِكَ الضَّعْفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا يُقَالُ - كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ - إِنَّ الْفِعْلَ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - يَتَجَرَّدُ مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ. وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: " سَنُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتْمًا "، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ حِفْظِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّوَعُّدُ بِحِفْظِ الذَّنْبِ، وَكِتَابَتِهِ، وَإِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ شَائِعٌ مُسْتَعْمَلٌ حَتَّى
وَأَمَّا إِضَافَةُ الْقَتْلِ إِلَى الْحَاضِرِينَ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكْمَتُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُمْ يُعَدُّونَ قَتَلَةً لِرِضَاهُمْ بِمَا فَعَلَهُ سَلَفُهُمْ، وَهَذَا تَحْوِيمٌ حَوْلَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْضَحْنَاهُ هُنَاكَ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَمَ مُتَكَافِلَةٌ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِذْ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِنْكَارُ عَلَى فَاعِلِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَفْرَادِهَا، وَتَغْيِيرُهُ، أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِئَلَّا يَفْشُوَ فِيهَا، فَيَصِيرَ خُلُقًا مِنْ أَخْلَاقِهَا، أَوْ عَادَةً مِنْ عَادَاتِهَا، فَتَسْتَحِقَّ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا كَالضَّعْفِ، وَالْفَقْرِ، وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَسْتَحِقُّ عُقُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ بِمَا دَنَّسَ نُفُوسَهَا ; وَلِذَلِكَ لَعَنَ اللهُ - تَعَالَى - الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وَبَيَّنَ سَبَبَ
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [٥: ٧٩].
ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ فَاعِلَ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَنْهَهُ وَلَمْ يَسْخَطْ عَلَيْهِ تَكُونُ نَفْسُهُ مُشَاكِلَةً لِنَفْسِهِ، تَأْنَسُ بِمَا تَأْنَسُ بِهِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَفْعَلَ الْمُنْكَرَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ مَا لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ، كَضَعْفِ الْجِسْمِ، أَوْ قِلَّةِ الْمَالِ، أَيْ إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَتْرُكُ الْمُنْكَرَ لِأَنَّهُ رَذِيلَةٌ تُدَنِّسُ نَفْسَ فَاعِلِهَا، فَيَكُونُ بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِرِضْوَانِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ يَجْعَلُ إِسْنَادَ الْمُنْكَرِ إِلَى مُقِرِّهِ، وَالرَّاضِي بِهِ إِسْنَادًا قَرِيبًا مِنَ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ السَّبَبُ فِي انْتِشَارِهِ وَشُيُوعِهِ ; لِأَنَّ الْمَيَّالِينَ إِلَى الْمُنْكَرِ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ يَمْقُتُونَهُمْ، وَيُؤَاخِذُونَهُمْ عَلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنَ الْخِلَسِ الْخَفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّاكِتُ عَلَى الْمُنْكَرِ شَرِيكَ الْفَاعِلِ فِي الْإِثْمِ، قَالَ: كُلُّ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَنْ يُفْعَلُ الْمُنْكَرُ فِي زَمَنِهِ، وَلَا يُنْكِرُهُ، وَأَمَّا مَنْ يَقَعُ الْمُنْكَرُ مِنْ قَوْمِهِمْ قَبْلَ زَمَنِهِمْ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ؟ فَهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي عِلَّةِ الْجَرِيمَةِ، وَمَبْعَثِهَا مِنَ النَّفْسِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْخَلَفُ مُتَّفِقِينَ مَعَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالسَّجَايَا، وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمُ انْتِسَابَ حَسَبٍ وَتَشَرُّفٍ، أَيْ فَهُمْ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى شَاكِلَتِهِمْ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُتَأَخِّرَ رُبَّمَا كَانَ أَضْرَى بِالشَّرِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ لِتَمَكُّنِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْوِرَاثَةِ وَالْقُدْوَةِ جَمِيعًا. وَقَدْ حَاوَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْيَهُودِ قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَبَّهَنَا بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْبِيرِ إِلَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِذَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَيُطَبِّقُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَيَسْتَحْسِنُ مِنْهُ مَا اسْتَحْسَنَتْ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا اسْتَهْجَنَتْ، وَيُسَجِّلُ عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ سَلَفِهِ إِسَاءَتَهُ، وَيَنْفِرُ
مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِثْلَهُ، وَشَرِيكًا لَهُ فِي إِثْمِهِ وَمُسْتَحِقًّا لِمِثْلِ عُقُوبَتِهِ، فَعَلَيْكُمْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِإِزَالَةِ الْمُنْكَرَاتِ الْفَاشِيَةِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ بَذْلِ الْجُهْدِ، وَإِعْمَالِ الرَّوِيَّةِ وَالْفِكْرِ، وَمَا عَلَيْنَا الْآنَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَّا الْحِيلَةُ فِي بَذْلِ النُّصْحِ، وَالْإِرْشَادِ، بِأَيِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِهِ، وَكُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهِ.
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ: " وَيَقُولُ ". قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الذَّوْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ، أَوْ ضِدِّهِ، فَمَعْنَى ذُوقُوا: تَأَلَّمُوا. أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقَوْلِ فَلَا نَبْحَثُ فِيهَا، أَوْ إِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُوصِلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَيْهِمْ.
أَقُولُ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَبِمِثْلِهِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى اقْتِبَاسِ النَّبِيِّ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ - عَلَيْهِ رِضْوَانُ اللهِ - مَقْتُولًا: " ذُقْ عُقُقُ " أَيْ ذُقْ عَاقِبَةَ إِسْلَامِكَ أَيُّهَا الْعَاقُّ لِدِينِ آبَائِكَ، وَلِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِكَ فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. نَعَمْ: إِنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ لِمَعْرِفَةِ طَعْمِ الطَّعَامِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ كَقَوْلِهِمْ: " ذُقْتَ الْقَوْسَ " إِذَا جَذَبْتَ وَتَرَهَا لِتَنْظُرَ مَا شِدَّتُهَا. وَقَوْلُهُمْ: ذُقْتَ الرُّمْحَ إِذَا غَمَزْتَهَا قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
يَهْزُزْنَ لِلْمَشْيِ أَوْصَالًا مُنَعَّمَةً | هَزَّ الشَّمَالِ ضُحًى عِيدَانَ يَبْرِينَا |
أَوْ كَاهْتِزَازِ رُدَيْنِيٍّ تَذَاوَقُهُ | أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لَيِنَا |
فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنَا غَدَاةَ مُحَجَّرٍ | مِنَ الْغَيْظِ فِي أَكْبَادِنَا وَالتَّحَوُّبِ |
الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا، وَلِيُفِيدَ أَنَّ مَا عُذِّبُوا عَلَيْهِ هُوَ مِنْ عَمَلِهِمْ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى يَدِ الْفَاعِلِ تُفِيدُ مِنْ إِلْصَاقِهِ بِهِ مَا لَا تُفِيدُهُ نِسْبَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ ; لِأَنَّ الْإِسْنَادَ إِلَى الْيَدِ يَمْنَعُ التَّجَوُّزَ، فَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ فَعَلَ كَذَا إِذَا أَمَرَ بِهِ، أَوْ مَكَّنَ الْعَامِلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ بِنَفْسِهِ، وَمَتَى أُسْنِدَ إِلَى يَدِهِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بَاشَرَ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الْأَيْدِي، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ جَمِيعُ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْعِصْيَانِ.
وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِنَّمَا يُصِيبُكُمْ بِعَمَلِكُمْ وَبِكَوْنِهِ - تَعَالَى - عَادِلًا فِي حُكْمِهِ، وَفِعْلِهِ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، فَيُعَاقِبُ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِقَابِ وَلَا يَجْعَلُ الْمُجْرِمِينَ كَالْمُتَّقِينَ، وَالْكَافِرِينَ كَالْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ كَانَ - سُبْحَانَهُ - ظَلَّامًا لَجَازَ أَلَّا يَذُوقُوا ذَلِكَ الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِهِ، وَقَتْلِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِ بِأَنْ يُجْعَلُوا مَعَ الْمُقَرَّبِينَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وإذًا لَكَانَ الدِّينُ عَبَثًا أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [٣٨: ٢٨]، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [٤٥: ٢١]، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [٦٨: ٣٥، ٣٦] فَالِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ تَعْذِيبِ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ هُوَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ، وَالْمُسِيءِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ ظُلْمًا كَبِيرًا، فَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ اسْتِشْكَالَ عَطْفِ نَفْيِ الظُّلْمِ عَلَى جَرَائِمِهِمْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالْمُبَالَغَةَ بِصِيغَةِ " ظَلَّامٍ " أَفَادَتْ أَنَّ تَرْكَ مِثْلِهِمْ يُعَدُّ ظُلْمًا كَبِيرًا، أَوْ كَثِيرًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ عَدْلٌ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ - وَأَشَارَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ (ظَلَّامٍ) إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ كَثِيرَ الظُّلْمِ مُبَالِغًا فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَلِيلُ مِنَ الظُّلْمُ يُعَدُّ كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ عَبَّرَ فِي نَفْيِهِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ.
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ أَيْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِي كِتَابِهِ التَّوْرَاةِ أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَدَّعِي أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا شَيْئًا كَانَ شَائِعًا عِنْدَهُمْ، وَهُمْ أَنْ يُذْبَحَ الْقُرْبَانُ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَيُوضَعَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَتَأْتِيَ نَارٌ بَيْضَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَهَا دَوِيٌّ فَتَأْخُذَهُ، أَوْ تَحْرِقَهُ
أَقُولُ: إِنَّ الْقُرْبَانَ فِي عِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: دَمَوِيٌّ، وَغَيْرُ دَمَوِيٍّ. فَالْقَرَابِينُ الدَّمَوِيَّةُ كَانَتْ تَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ كَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحَمَامِ، وَغَيْرُ الدَّمَوِيَّةِ هِيَ بَاكُورَاتُ الْمَوَاسِمِ، وَالْخَمْرُ، وَالزَّيْتُ، وَالدَّقِيقُ. وَالْقَرَابِينُ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنْهَا: الْمُحَرَّقَاتُ، وَالتَّقَدُّمَاتُ، وَذَبَائِحُ السَّلَامَةِ، وَذَبَائِحُ الْخَطِيئَةِ، وَذَبَائِحُ الْإِثْمِ. وَكَانُوا يَحْرِقُونَ الْمُحَرَّقَاتِ بِأَيْدِيهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ:
" [١] وَدَعَا الرَّبُّ مُوسَى. وَكَلَّمَهُ مِنْ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ قَائِلًا [٢] كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ. إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَمِنَ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ تُقَرِّبُونَ قَرَابِينَكُمْ [٣] إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَكَرًا صَحِيحًا يُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ [٤] وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الْمُحْرَقَةِ فَيَرْضَى عَلَيْهِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْهُ [٥] وَيَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَيُقَرِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الدَّمَ، وَيَرُشُّونَ الدَّمَ مُسْتَدِيرًا عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ [٦] وَيَسْلُخُ الْمُحْرَقَةَ، وَيُقَطِّعُهَا إِلَى قِطَعِهَا [٧] وَيَجْعَلُ بَنُو هَارُونَ الْكَاهِنِ نَارًا عَلَى الْمَذْبَحِ، وَيُرَتِّبُونَ حَطَبًا عَلَى النَّارِ [٨] وَيُرَتِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الْقِطَعَ مَعَ الرَّأْسِ، وَالشَّحْمَ فَوْقَ الْحَطَبِ الَّذِي عَلَى النَّارِ الَّتِي عَلَى الْمَذْبَحِ [٩] وَأَمَّا أَحْشَاؤُهُ وَأَكَارِعُهُ فَيَغْسِلُهَا بِمَاءٍ وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ مَحْرَقَةَ وَقُودٍ رَائِحَةَ سُرُورٍ لِلرَّبِّ "
ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَ قُرْبَانِ الْغَنَمِ بِصِنْفَيْهِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَالطَّيْرِ وَهُوَ صِنْفَانِ أَيْضًا الْحَمَامُ وَالْيَمَامُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا بَيَّنَ بَقِيَّةَ أَنْوَاعِ الْقَرَابِينِ. فَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوقِدُونَ النَّارَ بِأَيْدِيهِمْ وَيَحْرِقُونَ بِهَا الْقَرَابِينَ الْمُحَرَّقَاتِ، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُلْقُونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ
أَخْبَارًا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، أَوْ مُخْتَرَعَاتِهِمْ لِيُودِعُوهَا كُتُبَهُمْ، وَيَمْزُجُوهَا بِدِينِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ فِي كُتُبِ قَوْمِنَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْخُرَافِيَّةِ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَلَا يَزَالُ يُوجَدُ فِينَا مَنْ يُقَدِّسُ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَوَائِلِنَا فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ، وَيَرْفَعُهُ عَنِ النَّقْدِ وَالتَّمْحِيصِ، وَلَا يَتِمُّ تَمْحِيصُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أَمَّا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَدْ ذَكَرَ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقُرْبَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْكُمْ إِلَّا لِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ (بِذَا وُصِفُوا فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ) وَأَنَّكُمْ قُسَاةٌ غُلْفُ الْقُلُوبِ لَا تَفْقَهُونَ الْحَقَّ، وَلَا تُذْعِنُونَ لَهُ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ أَخْلَاقِهَا، وَصِفَاتِهَا، وَعَادَاتِهَا الْعَامَّةِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ يُلْصِقُونَ جَرِيمَةَ الشَّخْصِ بِقَبِيلَتِهِ وَيُؤَاخِذُونَهَا بِهِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَدُلُّنَا هَذَا عَلَى أَنَّ الْجِنَايَاتِ، وَالْجَرَائِمَ مُرْتَبِطَةٌ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَنَاشِئِهَا، وَمَنَابِعِهَا فَمَنْ لَمْ يَرْتَكِبِ الْجَرِيمَةَ؛ لِأَنَّ آلَاتِهَا، وَأَسْبَابَهَا غَيْرُ حَاضِرَةٍ لَدَيْهِ لَا يَكُونُ بَرِيئًا مِنَ الْجَرِيمَةِ إِذَا كَانَ مَنْشَؤُهَا وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا مُسْتَقِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَنْشَأُ هُوَ التَّهَاوُنُ بِأَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِأَمْرِ الْحَقِّ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ بَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ النَّاصِعَةِ، وَالزُّبُرِ الصَّادِعَةِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي يُنِيرُ السَّبِيلَ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ. فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَحْزَنْ لِكُفْرِهِمْ، وَلَا تَعْجَبْ مِنْ فَسَادِ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي الْعِبَادِ، وَشَنْشَنَةُ مَنْ سَبَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ آبَاءٍ وَأَجْدَادٍ فَقَدْ كَذَّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ فَأَقَامُوا عَلَى أَقْوَامِهِمُ الْحُجَّةَ بِبَيِّنَاتِهِمْ، وَهَزَمُوا قُلُوبَهُمْ بِزُبُرِ عِظَاتِهِمْ، وَأَنَارُوا بِالْكِتَابِ سَبِيلَ نَجَاتِهِمْ فَمَا أَغْنَى ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا انْصَرَفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ،
وَتَحَرِّي سَبِيلِ الْخَيْرِ. فَالْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانٌ لِطِبَاعِ النَّاسِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ.
وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ بِمَعْنَى مَزْبُورٍ، مِنْ زَبَرْتُ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ مُطْلَقًا، أَوْ كِتَابَةً عَظِيمَةً غَلِيظَةً. قَالَهُ الرَّاغِبُ، أَوْ مُتْقَنَةً كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْكُتُبِ وَالصُّحُفِ، يُقَالُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ بِمَعْنَى كَتَبْتُهُ. وَبِمَعْنَى قَرَأْتُهُ، أَوْ بِمَعْنَى الزَّاجِرَةِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَزَبَرَهُ يَزْبُرُهُ بِالضَّمِّ نَهَاهُ وَنَهَرَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " إِذَا رَدَدْتَ عَلَى السَّائِلِ ثَلَاثًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَزْبُرَهُ " أَيْ تَنْهَرَهُ، وَتُغْلِظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَالرَّدِّ. وَالزَّبْرُ بِالْفَتْحِ: الزَّجْرُ، وَالْمَنْعُ اهـ. وَأَصْلُ مَعْنَى الزَّبْرِ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ زُبَرُ الْحَدِيدِ قِطَعُهُ، وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونَ الزُّبَرُ هُنَا الْمَوَاعِظُ، وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ جِنْسُهُ أَيِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ، أَوِ الزُّبُرُ صُحُفُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ الْإِنْجِيلُ.
الْكَلَامُ فِي الْآيَتَيْنِ مُسْتَقِلٌّ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ لَهُ، بِبَيَانِ طَبِيعَةِ النَّاسِ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَصَبْرِ أُولَئِكَ عَلَى الْمُجَاحَدَةِ، وَالْمُعَانَدَةِ، وَالْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ تَأْكِيدٌ لِلتَّسْلِيَةِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَوْتَ هُوَ الْغَايَةُ، وَبِهِ تَذْهَبُ الْأَحْزَانُ وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْدَهُ دَارًا يُجَازَى فِيهَا كُلٌّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهَا تَسْلِيَةٌ أُخْرَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَضْجَرْ، وَلَا تَسْأَمْ لِمَا تَرَى مِنْ مُعَانَدَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّ هَذَا مُنْتَهٍ، وَكُلُّ مَا لَهُ نِهَايَةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَالَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدُونَ قَرِيبٌ، فَيُجَازَوْنَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَا تَنْتَظِرْ أَنْ يُوَفَّوْا جَزَاءَ عَمَلِهِمُ السَّيِّئِ كُلِّهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا أَنَّ أَجْرَكَ عَلَى عَمَلِكَ لَا تُوَفَّاهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَحَسْبُكَ مَا أَصَبْتَ مِنَ الْجَزَاءِ
الْحَسَنِ، وَحَسْبُهُمْ مَا أُصِيبُوا، وَمَا يُصَابُونَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ السَّيِّئِ فِي الدُّنْيَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُوَفَّى أَحَدٌ جَزَاءَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِأَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ: وَيَصِحُّ وَصْلُهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلخ. أَيْ إِنَّ أُولَئِكَ الْبُخَلَاءَ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْحُقُوقَ، وَأُولَئِكَ الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى اللهِ وَالظَّالِمِينَ لِرُسُلِهِ وَالَّذِينَ عَانَدُوا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - كُلُّ أُولَئِكَ سَيَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ غَيْرُهُمْ، وَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَكَذَلِكَ لَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ هَؤُلَاءِ، وَيَلْقَوْنَ مِنْهُمْ فِي سَبِيلِ الْإِيمَانِ مَا يَلْقَوْنَ أَنَّهُمْ يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَلَّا، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا فِي ضِمْنِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَالْتِفَاتٌ إِلَى خِطَابِهِمْ، فَإِنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ مُتَبَادِرَةٌ فِي الْخَيْرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا لِيَسْهُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقْعُ إِنْبَائِهِمْ بِمَا يُبْتَلَوْنَ بِهِ.
وَأَجَابُوا عَنْهُ: كَوْنُهَا بَاقِيَةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا تَذُوقُ الْمَوْتَ، فَإِنَّ الَّذِي يَذُوقُ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَالْمَيِّتُ لَا يَذُوقُ لِأَنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ، فَالْحَالَةُ الْمَخْصُوصَةُ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ إِنَّمَا تَشْعُرُ بِهَا النَّفْسُ، وَأَمَّا الْبَدَنُ فَلَا شُعُورَ لَهُ لِأَنَّهُ يَمُوتُ، وَمِنَ الْعَبَثِ، وَالْجَهْلِ الْبَحْثُ فِي تَعْرِيفِ الْمَوْتِ، فَالْمَوْتُ هُوَ الْمَوْتُ
الْمَعْرُوفُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُنَاكَ جَوَابٌ آخَرُ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي التَّخَاطُبِ الْمُتَبَادِرِ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يَمُوتُ.
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَّاهُ أَجْرَهُ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَافِيًا بِالْعَمَلِ لَمْ يَنْقُصْهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَمَهْمَا نَالَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يُوَفَّاهُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِيَامَةِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ الَّتِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ، أَيْ مَا تَذُوقُهُ هَذِهِ النُّفُوسُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي بَيْنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ، وَتِلْكَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ، وَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ - وَهُوَ مِنْ أَسَاطِينِهِمْ - يَرُدُّ اسْتِدْلَالَهُمْ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا يُوهِمُ نَفْيَ مَا يُرْوَى مِنْ أَنَّ الْقَبْرَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، قُلْتُ: كَلِمَةُ التَّوْفِيَةِ تُزِيلُ هَذَا الْوَهْمَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ وَتَكْمِيلَهَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَمَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْضُ الْأُجُورِ اهـ.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ: نُحِّيَ وَأُبْعِدَ عَنْهَا، وَاخْتُطِفَ دُونَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَهِمَهُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الزَّحْزَحَةُ تَكْرِيرُ الزَّحِّ، وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، وَالَّذِي يَهُمُّ بِمَوَاقِعِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ (لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَجْذِبُ إِلَيْهَا) فَيُنَحَّى عَنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ (بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ حَسَنَاتِهِ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ) إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَائِزًا فَوْزًا عَظِيمًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ مُوجَزَةٍ إِيجَازًا مُعْجِزًا فَأَعْلَمَ أَنَّ هُنَالِكَ جَنَّةً وَنَارًا، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُلْقَى فِي تِلْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ، وَأَبَانَ عَظِيمَ هَوْلِ النَّارِ، وَشِدَّتِهَا بِالتَّعْبِيرِ عَنِ النَّجَاةِ عَنْهَا بِالزَّحْزَحَةِ كَأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ فِيهَا، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الزَّحْزَحَةِ عَنْهَا فَوْزٌ كَبِيرٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ
إِلَى أَنَّ أَعْمَالَ النَّاسِ سَائِقَةٌ لَهُمْ إِلَى النَّارِ ; لِأَنَّهَا حَيَوَانِيَّةٌ فِي الْغَالِبِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زُحْزِحَ عَمَّا كَانَ صَائِرًا إِلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ فِي النَّارِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُزَحْزَحُونَ فَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَتْ فِي نُفُوسِهِمُ الصِّفَاتُ الرُّوحِيَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي أَعْمَالِهِمْ، وَجَاهَدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي نُفُوسِهِمْ شَائِبَةٌ مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِ اللهِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. أَفَادَ هَذَا الْإِيجَازُ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَمْ يَحْتَجْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ هُنَالِكَ مِنَ الْإِطْنَابِ، وَالتَّعْرِيفِ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَعَبَّرَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ زُحْزِحَ لِلتَّرْتِيبِ، وَبَيَانِ السَّبَبِ. كَذَا كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَتَبْتُ بِجَانِبِهِ " وَفِيهِ نَظَرٌ " وَلَعَلِّي كَنْتُ أُرِيدُ مُرَاجَعَتَهُ فِيهِ فَنَسِيتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّرْتِيبِ دُونَ السَّبَبِ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِتَوْفِيَةِ الْأُجُورِ.
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ الدُّنْيَا صِفَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، وَالْمَتَاعُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ أَيْ يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا مُمْتَدًّا امْتِدَادًا طَوِيلًا، أَوْ قَصِيرًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتُوعِ، وَهُوَ الِامْتِدَادُ، يُقَالُ مَتَعَ النَّهَارُ وَمَتَعَ النَّبَاتُ: إِذَا ارْتَفَعَ وَامْتَدَّ، وَيُقَالُ لِلْآنِيَةِ: مَتَاعٌ، قَالَ - تَعَالَى -: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ [١٣: ١٧] وَقَالَ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ [١٢: ٦٥] وَهُوَ الْأَوْعِيَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ، وَالطَّعَامِ، وَالْغُرُورُ: الْخِدَاعُ، وَأَصْلُهُ إِصَابَةُ الْغِرَّةِ أَيِ الْغَفْلَةِ مِمَّنْ تَخْدَعُهُ وَتَغُشُّهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ، وَيُغَرُّ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا هِيَ السُّفْلَى، أَوِ الْقُرْبَى، وَالْمُرَادُ مِنْهَا حَيَاتُنَا هَذِهِ، أَيْ مَعِيشَتُنَا الْحَاضِرَةُ الَّتِي نَتَمَتَّعُ فِيهَا بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْجَاهِ، وَالْمَنْصِبِ، وَالسِّيَادَةِ، هَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ أَقْرَبُ الْحَيَاتَيْنِ، وَأَدْنَاهُمَا، وَأَحَطُّهُمَا، وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَتَاعُ الْغُرُورِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا دَائِمًا مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ لَهَا تَشْغَلُهُ كُلَّ حِينٍ بِجَلْبِ لَذَّاتِهَا وَدَفْعِ آلَامِهَا، فَهُوَ يَتْعَبُ لِمَا لَا يَسْتَحِقُّ التَّعَبَ، وَيَشْقَى لِتَوَهُّمِ السَّعَادَةِ، وَيَتْعَبُ نَقْدًا لِيَسْتَرِيحَ نَسِيئَةً، وَالْعِبَارَةُ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَهِيَ تَشْمَلُ حَيَاةَ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ يَصْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ فِي نَفْعِ النَّاسِ حُبًّا بِالْخَيْرِ، وَتَقَرُّبًا إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ لَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْحَصْرُ بِحَسَبِ مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ.
وَأَقُولُ: حَاصِلُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا مَتَاعًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغُرَّ الْإِنْسَانَ وَيَشْغَلَهُ عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ بِالْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي تَرْقَى بِرُوحِهِ فَتَعُدُّهَا لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَتَاعِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنْهُ قَدْ يَشْغَلُهُ وَيُنْسِيهِ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِاشْتِغَالُ بِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا مِنْ حَاجَاتِ الْمَعِيشَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، أَمَا تَرَى الْمُغْرَمِينَ فِيهَا بِاللَّعِبِ وَاللهْوِ كَالشِّطْرَنْجِ، وَالنَّرْدِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا - وَهُوَ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ - كَيْفَ يُسْرِفُونَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُفْنُونَ أَعْمَارَهُمْ بَيْنَ جُدْرَانِ بُيُوتِ اللهْوِ كَالْقَهَاوِي وَالْحَانَاتِ. كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ; لِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مَخْدُوعُونَ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِصَرْفِ مُعْظَمِ زَمَنِهِ فِي عِلْمٍ يَرْقَى بِهِ عَقْلُهُ، وَعِبْرَةٍ تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَنْفَعُ بِهِ عِبَادَ اللهِ - تَعَالَى - مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَمَا أَحْسَنَ وَصِيَّةَ الْحَلَّاجِ الْأَخِيرَةَ لِمُرِيدِهِ قُبَيْلَ قَتْلِهِ: " عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْكَ ".
وَلَيْسَ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا غَايَةٌ يَنْتَهِي الْعَامِلُ إِلَيْهَا فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بَلِ الْمَزِيدُ مِنْهُ يُغْرِي بِزِيَادَةِ الْإِسْرَافِ فِي الطَّلَبِ، فَلَا يَنْتَهِي أَرَبٌ مِنْهُ إِلَّا إِلَى أَرَبٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنَّا لُبَانَتَهُ | وَلَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ |
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا سَلَّى الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْدَ أَنْ آذَوُا الرَّسُولَ، وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَيُؤْذُونَهُمْ أَيْضًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ بِالنَّفْسِ، وَالْإِيذَاءِ بِالْمَالِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَرْكِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ، فَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَعْظُمْ وَقْعُهُ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَعِبَارَةُ الْكَشَّافِ خُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا سَيَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى، وَالشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا لَقُوهَا وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَا يُرْهِقُهُمْ مَا يُرْهِقُ مَنْ تُصِيبُهُ الشِّدَّةُ بَغْتَةً فَيُنْكِرُهَا وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا نَفْسُهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الْآيَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَذِكْرَ حَالِ الْيَهُودِ، وَهَذِهِ تُذَكِّرُ الْبَلَاءَ بِالْمَالِ، وَمَا سَيُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا
قَالَ: وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ يُفَسَّرُ بِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ، وَبِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهُوَ كُلُّ مَا يُوصِلُ إِلَى الْخَيْرِ - وَبِالْجَوَائِحِ وَالْآفَاتِ وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالْأَوَّلِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ يَكُونُ بِتَكْلِيفِ بَذْلِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبِمَوْتِ مَنْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَصْدِقَاءِ (أَقُولُ: وَكَذَا الِابْتِلَاءُ بِالْمَصَائِبِ الْبَدَنِيَّةِ كَالْأَمْرَاضِ وَالْجُرُوحِ)، وَالِابْتِلَاءُ بِالتَّكْلِيفِ هُوَ أَهَمُّ الِابْتِلَاءَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَكْفُلْ لِلْمُسْلِمِينَ الْحِفْظَ، وَالنَّصْرَ، وَالسِّيَادَةَ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا يُكَلِّفُهُمُ الْجَرْيَ عَلَى سُنَّتِهِ - تَعَالَى - كَغَيْرِهِمْ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ دَائِمًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَذْلَ الْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ غَلَطَ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الِابْتِلَاءَ بِالْمَالِ، وَالْأَمْرَ بِبَذْلِهِ، وَالْجِهَادَ بِهِ كُلَّ ذَلِكَ بِالزَّكَاةِ، وَمَا الزَّكَاةُ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْمَالِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَرَفْعُ شَأْنِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَكُلَّ مَا يَدْفَعُ عَنْهَا الْأَعْدَاءَ، وَيَرُدُّ عَنْهَا الْمَكَارِهَ وَالْأَسْوَاءَ، (يَعْنِي كَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ)، وَمِنْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ فِي الْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَالِ، أَوْ بِالنَّفْسِ، فَهُوَ يُوَطِّنُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهَا بِالْمَالِ، وَتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرَهِ، وَالطَّمَعِ فِي الْمَالِ حَتَّى إِذَا طَمِعُوا، أَوْ قَصَّرُوا فِي الِاحْتِيَاطِ - كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ - عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا أُصِيبُوا إِلَّا
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَوْ قَصَّرَتْ فِيهِ هِمَمُهُمْ فَلَا يَتَعَلَّلُونَ، وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ أُصِبْنَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ؟ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الِاسْتِعْدَادُ لِبَذْلِ النَّفْسِ، فَبَذْلُ الْمَالِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ بَذْلِ النَّفْسِ، أَوْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَبْذُلُ نَفْسَهُ دِفَاعًا عَنْ مَالِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ لَاحَظُوا الْغَالِبَ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ. عَلِمْنَا أَنَّ فَائِدَةَ الِابْتِلَاءِ هِيَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِهِ فَفَائِدَتُهُ التَّعْرِيفُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَهْيِئَةُ الْمُؤْمِنِ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمُقَاوَمَتِهَا، فَإِنَّ مَنْ تَحْدُثُ لَهُ النِّعْمَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ وَلَا سَعْيٍ تُرْجَى هِيَ مِنْ وَرَائِهِ تُدْهِشُهُ وَتُبْطِرُهُ، وَرُبَّمَا تُهَيِّجُ عَصَبَهُ فَيَقَعُ فِي دَاءٍ أَوْ يَمُوتُ فَجْأَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْمُصِيبَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَيُحِيطُ بِهِ الْغَمُّ حَتَّى يَقْتُلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَمَّا الْمُسْتَعِدُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَلِيعًا قَوِيًّا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا فَهُوَ ابْتِلَاءٌ آخَرُ، وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مَلَئُوا الْفَضَاءَ بِكَلَامِهِمُ الْمُؤْذِي لِلرَّسُولِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَاذَا صَرَّحَ الْكِتَابُ بِهَذَا، وَهُوَ مَا أَلِفَهُ الْمُسْلِمُونَ وَاعْتَادُوا؟ بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ فِي الِابْتِلَاءِ فِي الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ.
أَقُولُ: نَبَّهَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذَا النَّبَإِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي
سَبَبِهِ، وَالْمُرَادِ مِنْهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي اطَّلَعْتُ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّارِيخِ ; أَيْ سِيرَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا تَذَكَّرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْآخِرَةِ الَّتِي سَبَقَ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ بَعْدَ الْكَلَامِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَغَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ - وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، وَتَذَكَّرْنَا مَا كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَقَذْفِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ - بَرَّأَهَا اللهُ تَعَالَى - وَمِنْ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِمْ، وَمُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَجْلَاهُمْ، وَأَمِنَ شَرَّ مُجَاوَرَتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْمَدِينَةِ، وَمِنْ تَأَلُّبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَمْعِ الْأَحْزَابِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَزَحْفِهِمْ عَلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاءِ الشَّدِيدِ، وَالْجُوعِ الدَّيْقُوعِ، وَالْحِصَارِ الضَّيِّقِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ كُلِّهِ: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظَّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [٣٣: ١٠، ١١]- إِذَا تَذَكَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ تَمْهِيدٌ لَهُ، وَإِعْدَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّيهِ لَعَلَّ وَقْعَهُ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يَعْنِي إِنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَيَحِلُّ بِكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَعَلَى مَا تَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَذَى، وَتَتَّقُوا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَمُكَافَحَتِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنْ مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ
وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ ضَعْفَ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَفِنْحَاصَ، وَقَدْ سَرَدْنَا الرِّوَايَةَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَمَا سَبَقَهَا مِنَ التَّمْهِيدِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنْ حَسَّنَهَا مَنْ رَوَاهَا - وَيُرَجِّحُ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي الْكَافِرِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فِيمَا كَانَ يَهْجُو بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، وَهَذِهِ أَضْعَفُ مِنَ
الْأُولَى، فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ قُتِلَ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَكَفَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ كَيْدَهُ وَقَوْلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّبْرُ هُوَ تَلَقِّي الْمَكْرُوهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَكَظْمُ النَّفْسِ عَلَيْهِ مَعَ الرَّوِيَّةِ فِي دَفْعِهِ، وَمُقَاوَمَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنَ الْجَزَعِ، فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: دَفْعُ الْجَزَعِ، وَمُحَاوَلَةُ طَرْدِهِ، ثُمَّ مُقَاوَمَةُ أَثَرِهِ حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْمَكْرُوهِ، فَمَنْ لَا يُحِسُّ بِهِ لَا يُسَمَّى صَابِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ فَاقِدٌ لِلْإِحْسَاسِ يُسَمَّى بَلِيدًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالْبَلَادَةِ، فَالصَّبْرُ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَزَعِ وَالْبَلَادَةِ، وَمَا أَحْسَنَ قَرْنَ التَّقْوَى بِالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا هَدَى اللهُ إِلَيْهِ فِعْلًا، وَتَرْكًا عَنْ بَاعِثِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ; أَيِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُعْقَدَ عَلَيْهَا الْعَزِيمَةُ، وَتَصِحَّ فِيهَا النِّيَّةُ وُجُوبًا مُحَتَّمًا لَا ضَعْفَ فِيهِ.
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ أَحْوَالَ النَّصَارَى مِنْهُمْ وَحَاجَّهُمْ فِي
مَوْضِعِهِمَا. وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ شُبُهًا طَاعِنَةً فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَابَ عَنْهَا أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - عَلَى أُمَّةِ مُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنْ يَشْرَحُوا مَا فِي هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ، وَصِدْقِ نَبُوَّتِهِ، وَرِسَالَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ إِيرَادُ الطَّعْنِ فِي نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ مَعَ أَنَّ كُتُبَكُمْ نَاطِقَةٌ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَبُوَّتِهِ، وَدِينِهِ، (الثَّانِي) أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتِمَالَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ إِيذَائِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانُوا يُحَرِّفُونَهَا، وَيَذْكُرُونَ لَهَا تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الصَّبْرُ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا يُصَابُونَ بِهِ لِأَخْذِهِمْ بِالْحَقِّ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَمُحَافَظَتِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَطَّنَ عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ - لِيَثْبُتُوا وَيَصْبِرُوا - أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، إِذْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِبَيَانِ الْحَقِّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِذَا كَتَمْتُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ يَكُونُ وَعِيدُكُمْ كَوَعِيدِهِمْ قَالَ - تَعَالَى -:
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيِ اذْكُرُوا إِذْ أَخَذَ اللهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَقُولُ فِي التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَلَا بِعَدَمِهِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقَيِّدَ بِرَأْيِنَا مَا أَطْلَقَهُ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ أَيْ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ إِيجَابَ الْبَيَانِ أَوِ التَّبْيِينِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَالتَّدْرِيجِ، كَمَا يُؤَكِّدُ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَهَمَّ الْأُمُورِ بِالْعَهْدِ وَالْيَمِينِ، فَيُقَالُ لَهُ: اللهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَقَرَءُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ حِكَايَةً لِلْمُخَاطَبَةِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْمِيثَاقَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ
بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ (لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ) لِأَنَّهُمْ غَائِبُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي الْآيَةِ ٨١ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ((رَاجِعْ ص٢٨٧ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ).
رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمَوْثِقَ بِبَيَانِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَنْفُسِنَا، فَإِنَّ كِتَابَنَا - وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ - لَمْ يُوجَدْ كِتَابٌ فِي الدُّنْيَا حُفِظَ كَمَا حُفِظَ، وَنُقِلَ، وَنُشِرَ كَمَا نُشِرَ، فَإِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَفِظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَهُمْ يَتْلُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ; حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُهُ فِي الشَّارِعِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَمُجْتَمَعَاتِ الْأَفْرَاحِ، وَالْأَحْزَانِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا تَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ عَدَمُ الْكِتْمَانِ شَيْئًا ; فَإِنَّهُمْ فَقَدُوا هِدَايَتَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ مُنْحَرِفُونَ عَنْهُ، وَأَنَّ الْقَابِضَ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْغِشَّ قَدْ عَمَّ وَطَمَّ، وَيَعْتَرِفُونَ بِارْتِفَاعِ الْأَمَانَةِ، وَشُيُوعِ الْخِيَانَةِ إلخ.. إلخ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ التَّبْيِينِ.
قَالَ: وَلِهَذِهِ التَّعْمِيَةِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ أَسْبَابٌ أَهَمُّهَا مَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبْلُ - لَاسِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ - فَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأُمَّةُ إِلَى
شِيَعٍ وَذَهَبَتْ فِي الْخِلَافِ مَذَاهِبَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَصَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَحْتَجُّ لَهُ بِالْكِتَابِ يَأْخُذُ مَا وَافَقَهُ مِنْهُ وَيُئَوِّلُ مَا خَالَفَهُ، وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَضِيَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ حَتَّى جَاءَتْ أَزْمِنَةٌ تَرَكَ فِيهَا الْجَمِيعُ التَّحَاكُمَ إِلَى الْقُرْآنِ، وَتَأْيِيدَ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ بِهِ، وَتَأْوِيلَ مَا عَدَاهُ (أَقُولُ: بَلْ وَصَلْنَا إِلَى زَمَنٍ يُحَرِّمُونَ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا يَرَوْنَ فِيهِ لِلْقُرْآنِ فَائِدَةً تَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهُ، بَلْ كُلُّ فَائِدَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَيُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْجَسَدِ دُونَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ)، حَتَّى صِرْنَا نَتَمَنَّى لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْخِلَافَاتُ، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ مِنْ هَجْرِ الْقُرْآنَ بَتَاتًا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي اضْطِرَابٍ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى صَارُوا يَحْسَبُونَ مَا لَيْسَ بِدِينٍ دِينًا، وَحَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرَوْنَ
وَأَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَبْيِينِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ - وَهُمُ الْمُفَسِّرُونَ - لَمْ يَكُنْ تَبْيِينُهُمْ كَامِلًا كَمَا يَنْبَغِي، وَكَانَ جَمَالُ الدِّينِ يَقُولُ: " إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَزَالُ بِكْرًا "، وَإِنَّ لِي كَلِمَةً مَا زِلْتُ أَقُولُهَا، وَهِيَ أَنَّ سَبَبَ تَقْصِيرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا كُتُبُهُمْ هُوَ عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ التَّامِّ فِي الْفَهْمِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ لِبَلَادَةٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ أُمُورٍ أَهَمُّهَا: الِافْتِتَانُ بِالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَتَغَلُّبُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ فِي الْكَلَامِ، وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمُحَاوَلَةُ نَصْرِ الْمَذَاهِبِ، وَتَأْيِيدِهَا.
ثُمَّ أَقُولُ: إِنَّ الْبَيَانَ، أَوِ التَّبْيِينَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَبْيِينُهُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا تَبْيِينُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ لِأَجْلِ إِرْشَادِهِمْ، وَهِدَايَتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ وَاجِبٌ حَتْمٌ لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اشْتَرَطَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الِاسْتِفْتَاءِ، وَالسُّؤَالِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ الْعَالِمَ لَا يِجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِدَعْوَةِ النَّاسِ، وَتَعْلِيمِهِمْ إِلَّا إِذَا سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ آكَدُ فِي الْإِيجَابِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [٣: ١٠٤] الَّذِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْجُزْءِ
; فَإِنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِلَّا أَنَّ التَّأْكِيدَ فِيهِ دُونَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هُنَا، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ تَرْكِ الِامْتِثَالِ بِنَبْذِ الْكِتَابِ، وَبَيْعِهِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَمِنَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَالَ:
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ النَّبْذُ: الطَّرْحُ، وَقَدْ جَرَتْ كَلِمَةُ نَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي تَرْكِ الشَّيْءِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: " جَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، أَوْ أَلْقَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ " أَيِ اهْتَمَّ بِهِ أَشَدَّ الِاهْتِمَامِ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَنْسَاهُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى كَوْنِ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِهِ فَيَجْعَلُوا الْكِتَابَ إِمَامًا لَهُمْ وَنُصْبَ أَعْيُنِهِمْ لَا شَيْئًا مُهْمَلًا مُلْقًى وَرَاءَ الظَّهْرِ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، وَلَا يُفَكَّرُ فِي شَأْنِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ (مِنْهُمُ) الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُ كَمَا يَحْمِلُ الْحِمَارُ الْأَسْفَارَ فَلَا يَسْتَفِيدُ مِمَّا فِيهَا شَيْئًا، (وَمِنْهُمُ) الَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، (وَمِنْهُمُ) الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، أَيْ قِرَاءَاتٍ يَقْرَءُونَهَا، أَوْ تَشْهِيَاتٍ يَتَشَهُّونَهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَقَدْ أَرْجَعَ بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَنَبَذُوهُ وَقَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ إِلَى الْمِيثَاقِ. وَجَرَى مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الدَّرْسِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ بَعْضُ الطُّلَّابِ، وَلَعَلَّهُ سَهْوٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْنَى آيَةِ الْبَقَرَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [٢: ١٧٤] الْآيَةَ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْكِتَابِ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي، وَفِي مَعْنَاهَا
آيَاتٌ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [٢: ٧٩] وَمِنْهَا فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [٢: ٤١] فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَوَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) بَيْعُ الْعَهْدِ وَالْأَيْمَانِ، وَاشْتِرَاءُ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ بِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ، قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [٣: ٧٧] الْآيَةَ. وَتُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَالْعَهْدُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمِيثَاقِ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى مَا عَهِدَ اللهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ فِي وَحْيِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [٣٦: ٦٠] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [٢: ١٢٥] الْآيَةَ، فَالْعَهْدُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ الْمَعْهُودُ بِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا (٣: ٧٧)، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الْعَهْدَ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ ; لِأَنَّ الْعَهْدَ وَاحِدٌ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْأَيْمَانُ تُعْتَبَرُ كَثِيرَةً بِكَثْرَةِ مَنْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَنَبَذُوهُ وَقَوْلِهِ: وَاشْتَرَوْا بِهِ هُوَ ضَمِيرُ الْكِتَابِ لَا الْمِيثَاقِ كَمَا قِيلَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَبَذُوا الْمِيثَاقَ: لَمْ يَفُوا بِهِ إِذْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ الَّذِي اشْتَرَوْهُ بِهِ لَمْ يُبَيِّنْهُ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَعْرُوفٌ مِنْ سِيرَتِهِمْ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الدَّنِيَّةِ وَاللَّذَائِذِ الْفَانِيَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجِدُ فِي الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ، وَالْتِزَامِ الشَّرِيعَةِ مَشَقَّةً فَيَتْرُكُهُ حُبًّا فِي الرَّاحَةِ، وَإِيثَارًا لِلَذَّةٍ، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ: (مِنْهَا) الْخَوْفُ مِنَ الْحُكَّامِ، وَالرَّجَاءُ فِيهِمْ، فَيُحَرِّفُ رِجَالُ الدِّينِ
الْعِلْمِ وَالدِّينِ. (وَمِنْهَا) الْجَهْلُ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلتَّعْلِيمِ، أَوِ الْفُتْيَا قَدْ يَجْهَلُ مَسَائِلَ فَيَتَعَرَّضُ لِبَيَانِهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا أُبِيحَ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَلِّمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي نَعْهَدُهَا مِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ جَهَلَةَ الطُّلَّابِ بِالتَّدْرِيسِ، وَيُعْطُونَهُمُ الشَّهَادَةَ بِالْعِلْمِ مُحَابَاةً لَهُمْ، فَإِنَّهُ يُرَبِّي تَلَامِيذَ أَجْهَلَ مِنْهُ فَيَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُحَرِّفِينَ مُخَرِّفِينَ، وَيَفْسُدُ بِهِمُ الدِّينُ لَاسِيَّمَا إِذَا صَارُوا مُقَرَّبِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. (وَمِنْهَا) انْقِطَاعُ سِلْسِلَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ، وَالتَّبْيِينِ، وَخَبْطُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنْ بَيَانٍ، وَتَأْوِيلٍ، وَحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ حَتَّى بَعُدُوا عَنِ الْأَصْلِ بُعْدًا شَاسِعًا قَالَ: وَانْظُرْ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ - وَاعْتَبِرْ بِحَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْأَزْهَرِ تَرَى بِعَيْنَيْكَ كَمَا رَأَيْنَا، وَتَسْمَعُ بِأُذُنَيْكَ كَمَا سَمِعْنَا، وَتَفْهَمُ سِرَّ مَا قَصَّهُ اللهُ مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا.
أَقُولُ: وَمِمَّا سَمِعَهُ هُوَ - وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ - قَوْلُ شَيْخٍ مِنْ أَكْبَرِ الشُّيُوخِ سِنًّا وَشُهْرَةً فِي الْعِلْمِ فِي مَجْلِسِ إِدَارَةِ الْأَزْهَرِ عَلَى مَسْمَعِ الْمَلَإِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: " مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ " يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ إِلَّا بِكُتُبِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ فِي دِينِي بِغَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ الزِّنْدِيقُ " وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَنَارِ فِي زَمَنِهِمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ أَضَرُّ عَلَى الدِّينِ وَأَبْعَثُ عَلَى إِضَاعَةِ الْكِتَابِ، وَنَبْذِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ بِهِ مِنْ جَعْلِ أَرْزَاقِ الْعُلَمَاءِ وَرُتَبِهِمْ فِي أَيْدِي الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الدِّينِ مُسْتَقِلِّينَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْحُكَّامِ - لَاسِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمْ - وَإِنَّنِي لَا أَعْقِلُ مَعْنًى لِجَعْلِ الرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعَايِشِ الْعُلَمَاءِ فِي أَيْدِي السَّلَاطِينِ، وَالْأُمَرَاءِ إِلَّا جَعْلَ هَذِهِ السَّلَاسِلَ الذَّهَبِيَّةَ أَغْلَالًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يَقُودُونَهُمْ بِهَا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا مِنْ غِشِّ الْعَامَّةِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَجَعْلِهَا مُسْتَعْبَدَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَوْ عَقَلَتِ الْعَامَّةُ لَمَا وَثَقَتْ بِقَوْلٍ، وَلَا فَتْوًى مِنْ عَالِمٍ رَسْمِيٍّ مُطَوَّقٍ بِتِلْكَ السَّلَاسِلِ، وَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ بِالرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنْ صَارَتْ تُوَجَّهُ عَلَى الْأَطْفَالِ بَلِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الرِّجَالِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَحَدُ عُلَمَاءِ طَرَابُلْسِ الشَّامِ مِنْ قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ فِي سُوءِ حَالِ الدَّوْلَةِ:
زَمَنٌ رَأَيْتُ بِهِ الْعَجَائِبْ | وَذُهِلْتُ فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبْ |
زَمَنٌ بِهِ الْوَهْمُ السَّخِي | فُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ غَالِبْ |
أَفَلَا تَرَاهُمْ جَانَبُوا | كَسْبَ الْمَعَارِفِ وَالْمَآدِبْ |
وَرَضُوا بِأَوْرَاقٍ تُخَطُّ | خُطُوطُهَا مِثْلُ الْعَقَارِبْ |
يَشْهَدْنَ زُورًا أَنَّ مَنْ | هِيَ بِاسْمِهِ نُورُ الْغَيَاهِبْ |
عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ أَوْ | بَلَّاغُ دَوْلَتِهِ الْمَآرِب |
وَيَكُونُ أَجْهَلَ جَاهِلٍ | ولِمَا لَهَا بالْغِشِّ نَاهِبْ |
أَوْ أَنَّهُ حَدَثٌ عَلَى | فَخِذَيْهِ خَرْءُ اللَّيْلِ لَازِبْ |
ضَحِكَتْ عَلَيْهِمْ دَوْلَةٌ | هَرِمَتْ وَقَارَبَتِ الْمَعَاطِبْ |
إِنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ كَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ قُرْبِ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ أَشَدَّ مِمَّا يَهْرُبُونَ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا، وَآثَارًا كَثِيرَةً: مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ - زَادَ فِي رِوَايَةٍ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ - فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْحَوْضِ الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ يُحَدِّثُونَكُمْ فَيَكْذِبُونَكُمْ، وَيَعْمَلُونَ فَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ حَتَّى تَحَسِّنُوا قَبِيحَهُمْ وَتُصَدِّقُوا كَذِبَهُمْ، فَأَعْطُوهُمُ الْحَقَّ مَا رَضُوا بِهِ، فَإِذَا تَجَاوَزُوا فَمَنْ قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُلَالَةٍ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: يَمْلِكُونَ أَرْزَاقَكُمْ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَشْهُورُ: " الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللهِ مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاحْذَرُوهُمْ وَاعْتَزِلُوهُمْ " رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَأَبُو نَعِيمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَقُولُونَ نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَّا الشَّوْكُ، كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مَنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الْخَطَايَا قَالَ السُّيُوطِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَكَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ. وَمِنْ حَدِيثِهِ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ: " سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عُلَمَاءُ يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَرْغَبُونَ، وَيُزَهِّدُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَزْهَدُونَ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ غِشْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَلَا يَنْتَهُونَ ".
وَمِنْهُ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ: " مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنَ ".
وَمِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: " مَا مِنْ عَالَمٍ أَتَى صَاحِبَ سُلْطَانٍ طَوْعًا إِلَّا كَانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ لَوْنٍ يُعَذَّبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ " أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا: " إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ وَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَتَى بَابَ السُّلْطَانِ تَمَلُّقًا إِلَيْهِ، وَطَمَعًا لِمَا فِي يَدِهِ خَاضَ بِقَدْرِ خُطَاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ " وَأَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظٍ آخَرَ.
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابٍ خَاصٍّ سَمَّاهُ (الْأَسَاطِينُ فِي عَدَمِ الْمَجِيءِ إِلَى السَّلَاطِينِ) وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ لِظُهُورِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي زَمَنِهِمْ، وَتَهَافُتِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْهَا قَوْلُ حُذَيْفَةَ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ: " إِيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ. قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ، وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فِيهِ: " وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ لِسَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: " لَا تَغْشَ أَبْوَابَ السَّلَاطِينِ فَإِنَّكَ لَا تُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ "، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ: " مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ مِنْ عَالَمٍ يَزُورُ
عَامِلًا، أَيْ مِنْ عُمَّالِ الْحُكُومَةِ " وَقَالَ سَمْنُونُ الْعَابِدُ الشَّهِيرُ: " مَا أَسْمَجَ بِالْعَالَمِ أَنْ يُؤْتَى إِلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يُوجَدُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَيُقَالُ عِنْدَ الْأَمِيرِ، وَكُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ يُقَالُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ يُحِبُّ الدُّنْيَا فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ حَتَّى جَرَّبْتُ ذَلِكَ، مَا دَخَلْتُ قَطُّ عَلَى هَذَا السُّلْطَانِ إِلَّا وَحَاسَبْتُ نَفْسِي بَعْدَ الْخُرُوجِ، فَأَرَى عَلَيْهَا الدَّرْكَ مَعَ مَا أُوَاجِهُهُمْ بِهِ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِهَوَاهُمْ " اهـ، وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُ أَسْمَعُ إلخ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الْعَالِمَ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ مُخَالَطَةً كَثِيرَةً فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ. أَوْ إِلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ: إِذَا رَأَيْتَ الْقَارِئَ يَلُوذُ بِالسُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ. وَإِذَا رَأَيْتَهُ
أَقُولُ: يَعْنُونَ بِالْقُرَّاءِ عُلَمَاءَ الدِّينِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلَبِّسُ عَلَى رِجَالِ الدِّينِ مَا يَلْبِسُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نُرِيدُ بِغِشْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَالتَّرَدُّدِ عَلَيْهِمْ إِلَّا نَفْعَ النَّاسِ، وَدَفْعَ الْمَظَالِمِ عَنْهُمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمَالَ وَالْجَاهَ بِدِينِهِمْ، وَيَقِلُّ الصَّادِقُ فِيهِمْ. وَهَكَذَا أَضَاعُوا دِينَهُمْ فَنَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
وَقَدْ نَظَمَ كَثِيرُونَ مِنْ نَاظِمِي الْحِكَمِ بَعْضَ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا نُظِمَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
قُلْ لِلْأَمِيرِ مَقَالَةً | لَا تَرْكَنَنَّ إِلَى فَقِيهِ |
إِنَّ الْفَقِيهَ إِذَا أَتَى | أَبْوَابَكُمْ لَا خَيْرَ فِيهِ |
ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لِنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَهَذِهِ! إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا قَدِمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، " وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا عِنْدَ مَرْوَانَ فَقَالَ مَرْوَانُ: يَا رَافِعُ، فِي أَيِّ شَيْءٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا؟ قَالَ رَافِعٌ: " أُنْزِلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَذَرُوا، وَقَالُوا: مَا حَبَسَنَا عَنْكُمْ إِلَّا شُغْلٌ، فَلَوَدِدْنَا لَوْ كُنَّا مَعَكُمْ
وَقَدْ وَجَّهَهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ، فَحَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَرِحُوا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَيُصَلُّونَ، وَيُطِيعُونَ اللهَ، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ
، وَالْكُفْرِ بِهِ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَنَحْنُ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ يُوَجَّهُ نُزُولُهَا فِي الْمُنَافِقِينَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ، وَحِفْظِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، إِذْ أُخِذَ عَلَى أُولَئِكَ الْمِيثَاقُ، فَقَصَّرُوا فِيهِ، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَتَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْغَابِرِينَ لِيُحَذِّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ لِلْكِتَابِ، وَيَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ شَرَفًا فِيهِ، وَفَضْلًا بِأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهَذَا فَرَحٌ بِالْبَاطِلِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ حُفَّاظُ الْكِتَابِ، وَمُفَسِّرُوهُ، وَعُلَمَاؤُهُ، وَمُبَيِّنُوهُ، وَالْمُقِيمُونَ لَهُ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا نَقِيضَهُ إِذْ حَوَّلُوهُ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَأَهْوَاءَ سَائِرِ النَّاسِ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ حَمْدَهُمْ، بَيَّنَ اللهُ هَذِهِ الْحَالَ فِي أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ، بَيَّنَ فِيهِ حُكْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَرِحِينَ الْمُحِبِّينَ لِلْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهُمْ عَلَى النَّاسِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَأَنْصَارُ دِينِهِ، وَعُلَمَاءُ كِتَابِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ عَذَابِهِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْ رِضْوَانِهِ، فَبَيَّنَ اللهُ كَذِبَ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا مُبَيِّنَةٌ لِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَبْدَلُوهُ بِكِتَابِ اللهِ، وَكَوْنِهِ بِئْسَ الثَّمَنُ، وَهُوَ أَمْرَانِ: " أَحَدُهُمَا " فَرَحُهُمْ بِمَا أَتَوْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَرَحَ غُرُورٍ، وَخُيَلَاءَ، وَفَخْرٍ
شَرْعِيَّةً يَسْلَمُ بِهَا مِنْ نَقْدِ النَّاقِدِينَ، وَذَمِّ الْمُتَدَيِّنِينَ، فَشُكَّ أَنَّهُ يَحْمَدُ ذَلِكَ الْعَالِمَ وَيُطْرِيهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ التَّقِيُّ الْمُحَقِّقُ، لَا مُكَافَأَةً لَهُ فَقَطْ بَلْ يَرَى مِنْ مَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَالصَّلَاحَ فِي مُفْتِيهِ لِيَأْخُذُوا كَلَامَهُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّ الْحُكَّامَ مُنْذُ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ مَعَ كِبَارِ شُيُوخِ الْعِلْمِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَرَمِينَ - عِنْدَ الْعَامَّةِ - عَلَى تَعْظِيمِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ، فَرُؤَسَاءُ الْحُكَّامِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ الْعُلَمَاءِ، وَالِاعْتِقَادَ بِوِلَايَةِ كِبَارِ شُيُوخِ أَهْلِ الطَّرِيقِ، فَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرُبَّمَا أَهْدَوْا إِلَيْهِمْ بَعْضَ الْهَدَايَا، وَالْمَشَايِخُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلِ الطَّرِيقِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ أُولَئِكَ الْحُكَّامِ، وَيَشْهَدُونَ بِقُوَّةِ دِينِهِمْ، وَشِدَّةِ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ - يَقُولُونَ: وَإِنْ ظَلَمُوا وَجَارُوا ; لِأَنَّهُمْ مُسَلَّطُونَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ! ! ! فَهَكَذَا كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُسْتَبِدُّونَ، وَمَا زَالُوا يَسْتَفِيدُونَ مِنَ الدِّينَ بِمُسَاعَدَةِ رِجَالِهِ، وَيَتَّفِقُ الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالِهَا لَهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا بِلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَنَعِمِيهَا فَيَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنْ ضُرُوبِ الْمَكَايِدِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَهُمْ، وَتُخْضِعُ الْعَامَّةَ لَهُمْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا دَائِمًا بِأَنَّهُمْ أَنْصَارُ الدِّينِ، وَحُمَاتُهُ، وَمُبَيِّنُو الشَّرْعِ وَدُعَاتُهُ، وَإِنْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى كُتُبِ أَمْثَالِهِمْ، وَأَشْبَاهِمْ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ لَا تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَّا شَقَاءً بِهِمْ، حَتَّى سَبَقَتْهَا الْأُمَمُ كُلُّهَا بِسُوءِ سِيَاسَتِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْكِتَابَ كَمَا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلْزَامِ الْحُكَّامِ بِهَدْيِهِ لَمَا عَمَّ الْفِسْقُ، وَالْفُجُورُ، وَصَارَتِ الشُّعُوبُ الْإِسْلَامِيَّةُ دُونَ سَائِرِ الشُّعُوبِ حَتَّى ذَهَبَتْ سُلْطَتُهَا، وَتَقَلَّصَ ظِلُّهَا عَنْ أَكْثَرِ الْمَمَالِكِ الَّتِي كَانَتْ خَاضِعَةً لَهَا، وَهِيَ تَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْخَطَرِ بِالْبَاقِي وَهُوَ أَقَلُّهَا.
وَقَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ الْحُكَّامِ هُمُ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ وُدَّ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَيَسْتَمِيلُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَزَّزُونَ، فَيَسْتَجِيبُ لِلرُّقْيَةِ بَعْضُهُمْ، وَيَعْتَصِمُ بِالْإِبَاءِ، وَالتَّقْوَى آخَرُونَ ; ثُمَّ انْعَكَسَتِ الْحَالُ، وَضَعُفَ سُلْطَانُ التَّقْوَى أَمَامَ سُلْطَانِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ، فَصَارَ رِجَالُ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَتَهَافَتُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، فَيُقَرَّبُ الْمُنَافِقُونَ، وَيُؤْذَى الْمُحِقُّونَ الْمُتَّقُونَ، وَتَكُونُ مَرَاتِبُ الْآخَرِينَ عَلَى نِسْبَةِ قُرْبِهِمْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَيَنَالُ الْحُظْوَةَ عِنْدَهُمْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ، وَلَا بِدِينِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ - فَأَصْحَابُ الْجَرَائِدِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثِّقَةِ بِأَخْبَارِهِمْ، وَآرَائِهِمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ. وَأَنَّى لِلْعَوَامِّ الْمَسَاكِينِ فَهْمُ هَذَا وَإِدْرَاكُ سِرِّهِ وَالْجَهْلُ غَالِبٌ، وَالْغِشُّ رَائِجٌ، وَالنَّاصِحُ الْمُخْلِصُ نَادِرٌ؟ وَقَدْ صَارَتْ حَاجَةُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَى حَمْدِ الْجَرَائِدِ تُوَازِي حَاجَتَهُمْ إِلَى حَمْدِ رِجَالِ الدِّينِ فِي غِشِّ الْأُمَّةِ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ يُغْدِقُونَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، وَيُقَرِّبُونَهُمْ، وَيُحَلُّونَهُمْ بِالرُّتَبِ، وَشَارَاتِ الشَّرَفِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَوْسِمَةِ، أَوِ النَّيَاشِينِ، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى إِرْضَائِهِمْ كُلُّ مُحِبِّي الشُّهْرَةِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَالْوُجَهَاءِ.
لَوْلَا أَنَّ حُبَّ الْمَحْمَدَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ مِنْ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الْعَالِيَةِ لَمَا قَيَّدَ اللهُ الْوَعِيدَ عَلَى حُبِّ الْحَمْدِ بِقَوْلِهِ: بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بَلْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [٩٤: ٤] وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ [٤٣: ٤٤] نَعَمْ، إِنَّ هُنَاكَ مَرْتَبَةً أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ مَنْ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ لِيُحْمَدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَرْتَبَةُ مَنْ يَعْمَلُهَا حَبًّا بِالْخَيْرِ لِذَاتِهِ، وَتَقْرُّبًا بِهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -.
عَلَى أَنَّ الْمَدْحَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ ضَرَرٍ فِي الْمَمْدُوحِ كَالْغُرُورِ وَالْعُجْبِ، وَفُتُورِ الْهِمَّةِ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي حُمِدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثُمَّ أَعُودُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرَحَ بِالْعَمَلِ مِنْ شَأْنِ الْمَغْرُورِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا ارْتِيَاحَ نَفْسِ الْعَامِلِ، وَانْبِسَاطَهَا لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ مَحْمُودٌ - كَمَا فَهِمَ مَرْوَانُ - وَإِنَّمَا هُوَ فَرَحُ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورُ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ - كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ - وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي فَائِدَةِ الْمَصَائِبِ تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [٥٧: ٢٣] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [٢٨: ٧٦] وَهَذَا الْإِفْرَاطُ فِي الْفَرَحِ بِالنِّعْمَةِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الضُّعَفَاءِ
يُقَابِلُهُ عِنْدَهُمُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ فِي الْمُصِيبَةِ إِلَى أَنْ يَقَعَ الْمُصَابُ فِي الْيَأْسِ وَالْكُفْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - حَالَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لِيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لِيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [١١: ٩ - ١١] أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَبَّاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِحَوَادِثِ الزَّمَانِ وَغِيَرِهِ مَعَ إِرْشَادِهِمْ إِلَى وَجْهِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ ذَلِكَ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ - وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَصَائِبِ: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَفِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْفَائِدَةِ آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [٣٠: ٣٦].
وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ شَأْنَ أَصْحَابِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَرَحِ - فَرَحِ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ - كَانَ مِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ تَبَعَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ، وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ تَرْكَ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَنْفَعُ النَّاسَ
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي صِفَاتِ الْأَخْيَارِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [٢٣: ٦٠] وَمَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ - وَصَحَّحَهُ - وَغَيْرِهِمْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَوْلُ اللهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ،
وَيَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ أَلَّا يَقْبَلَ مِنْهُ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [٢٣: ٦١] بِخِلَافِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ - بِمَا أَتَوْا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا آتَوْا مِنْ صَدَقَةٍ - فَرَحَ عُجْبٍ وَخُيَلَاءَ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الرِّيَاءُ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، فَيَكْسَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِ.
هَذَا شَأْنُ الْعَمَلِ فِي الدِّينِ، وَمِثْلُهُ الْعَمَلُ فِي الدُّنْيَا، وَلِلدُّنْيَا كَمَا يُفِيدُنَا الْبَحْثُ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْغُرُورُ يَفْرَحُونَ، وَيَبْطَرُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ، فَلَا تَنْشَطُ هِمَمُهُمْ إِلَى طَلَبِ الْمَزِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَلَا يَقْبَلُونَ الِانْتِقَادَ عَلَى التَّقْصِيرِ. حَدَّثَنِي الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَالِمٌ أَلْمَانِيٌّ لَقِيتُهُ فِي السَّفِينَةِ فِي إِحْدَى سِيَاحَاتِي قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَنَا عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ نَحْنُ رَاضُونَ بِهِ، وَمُعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّرَقِّيَ وَالْإِتْقَانَ، بَلْ عِنْدَنَا جَمْعِيَّاتٌ تَبْحَثُ فِي تَرْقِيَةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْسِينِهِ مِنَ الْإِبْرَةِ إِلَى أَعْظَمِ الْآلَاتِ، وَأَبْدَعِ الْمُخْتَرَعَاتِ، مِثَالُ ذَلِكَ الْبُنْدُقِيَّةُ يَبْحَثُونَ فِيهَا: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَخَفَّ وَزْنًا، أَوْ أَبْعَدَ رَمْيًا، أَوْ أَقَلَّ نَفَقَةً؟ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
فَإِذَا تَدَبَّرْتَ مَا قُلْنَاهُ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ: فَرَحِ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورِ، وَالْفَخْرِ بِالْأَعْمَالِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْكَسَلِ، وَالْإِهْمَالِ، وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ، إِذَا تَدَبَّرْتَ
أَيْ لَا تَظُنَّ يَا مُحَمَّدُ أَوْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّهُمْ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ، أَيْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ مِنْهُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يُصِيبُ الْأُمَمَ الَّتِي فَسَدَتْ أَخْلَاقُهَا، وَسَاءَتْ أَعْمَالُهَا، وَكَابَرَتِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَأَلِفَتِ الْفَسَادَ وَالظُّلْمَ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَذَابٌ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِلْحَالِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْمُبْطِلُونَ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهُوَ خُذْلَانُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِفْسَادِ، وَانْكِسَارُهُمْ، وَذَهَابُ اسْتِقْلَالِهِمْ بِنَصْرِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ رِقَابِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، لِيَحُلَّ الْإِصْلَاحُ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ، وَالْعَدْلُ مَكَانَ الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [١١: ١٠٢] وَعَذَابٌ لَا يَكُونُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا، بَلْ يُسَمَّى سُخْطًا سَمَاوِيًّا كَالزِّلْزَالِ، وَالْخَسْفِ، وَالطُّوفَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجَوَائِحِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِبَعْضِ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِمْ، وَكَذَّبُوهُمْ، وَآذَوْهُمْ، فَكَانَ اللهُ يُوَفِّقُ بَيْنَ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَأَقْدَارِهَا فَيُنْزِلُهَا بِالْقَوْمِ عِنْدَ اشْتِدَادِ عُتُوِّهِمْ، وَإِيذَائِهِمْ لِرَسُولِهِ فَيَكُونُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَنَحْوِهَا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ - تَعَالَى - وَأَمَدَّنَا بِتَوْفِيقِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ مَا قَرَّرْتَهُ يَشْمَلُ اسْتِعْلَاءَ بَعْضِ الْأُمَمِ الشَّمَالِيَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَمَالِكِ الْمُسْلِمِينَ الْجَنُوبِيَّةِ فَهَلْ كَانَ أُولَئِكَ الشَّمَالِيُّونَ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، وَهَؤُلَاءِ الْجَنُوبِيُّونَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ؟ أَقُلْ: نَعَمْ، الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَفْضُلُونَهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَعْمَالًا، وَعَدْلًا، وَإِصْلَاحًا، وَاتِّبَاعًا لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ لَمَا سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [١١: ١١٧] وَلَكِنَّهُ يُهْلِكُهَا وَأَهْلُهَا مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ - كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ - وَالْإِيمَانُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ النَّصْرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنَ التَّفْسِيرِ - وَلَكِنَّ لِذَلِكَ شُرُوطًا وَسُنَنًا بَيَّنَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ الْآيَاتِ فِيهَا، فَتُطْلَبُ مِنْ مَوَاضِعِهَا وَمِنْهَا تَتَذَكَّرُ، وَتَعْلَمُ أَسْبَابَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، فَإِنَّ اللهَ مَا فَرَّطَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ فَسَادَ أَخْلَاقِهِمْ، وَفَرَحَهُمْ، وَبَطَرَهُمْ، وَصَغَارَهُمُ الَّذِي زَيَّنَ لَهُمْ حُبَّ الْحَمْدِ الْكَاذِبِ بِالْبَاطِلِ جَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مُظْلِمَةً دَنِسَةً، فَهِيَ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِمْ إِلَى الْهَاوِيَةِ حَيْثُ يُلَاقُونَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْمُؤْلِمَ.
فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي
وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ
الْإِمَامُ هَذَا التَّوْجِيهَ فِي الدَّرْسِ عَنِ الْكَشَّافِ وَرَدَّهُ، فَقَالَ: لَوْلَا الْفَاءُ لَصَحَّ، وَلَكِنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ حَرْفٍ مَا فِي الْقُرْآنِ بِلَا فَائِدَةٍ، عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِزِيَادَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، وَبَعْضِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا يَعْنُونَ زِيَادَتَهَا غَالِبًا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ لَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِثْبَاتَهَا وَتَرْكَهَا سَوَاءٌ، وَوَجْهُ الْعِبَارَةِ هُنَا بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مَحْذُوفٌ حَذْفَ إِيجَازٍ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، قَالَ: وَالْقُرْآنُ مَا أُنْزِلَ لِتَحْدِيدِ الْمَسَائِلِ، وَالْأَخْبَارِ، وَالْقِصَصِ تَحْدِيدًا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ كُلُّ قَارِئٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهُ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ، وَالتَّأْثِيرُ الصَّالِحُ فِيهَا بِتَرْغِيبِهَا فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَنْفِيرِهَا مِنْ ضِدِّهِمَا. فَإِذَا قَالَ هَاهُنَا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِكَذَا وَيُحِبُّونَ كَذَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُ الْقَارِئِ، أَوِ السَّامِعِ إِلَى طَلَبِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَتَذْهَبُ فِيهِ مَذَاهِبَ شَتَّى كُلُّهَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُمْ، كَأَنْ تُقَدِّرَ: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ مُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، أَوْ عَامِلِينَ بِهِدَايَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَهُ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ يَتَعَيَّنُ عِنْدَهَا بِهَذَا التَّفْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَا بِشَخْصِهِ وَعَيْنِهِ بَلْ بِنَوْعِهِ ; لِأَنَّنَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ هُوَ عَيْنُ مَا أُثْبِتَ فِي الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِيعِ فَائِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَطَفَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مِثْلِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَا تَضْعُفُوا وَاصْبِرُوا وَاتَّقُوا وَلَا تُخَوِّرُونَ عَزَائِمَكُمْ، بَيِّنُوا الْحَقَّ، وَلَا تَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا عَمِلْتُمْ، وَلَا تُحِبُّوا أَنْ تُحْمَدُوا بِمَا لَمْ تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَكْفِيكُمْ مَا أَهَمَّكُمْ، وَيُغْنِيكُمْ عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، فَإِنَّ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّهُ لَهُ، يُعْطِي مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا يَعِزُّ عَلَيْهِ نَصْرُكُمْ عَلَى الَّذِينَ يُؤْذُونَكُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُهَا بِحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ - تَعَالَى -، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَعْدٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِذَمِّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ سَبَقَ
وَصْفُهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ - تَعَالَى - إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا: إِنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ أَفَاعِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُجَاهِدِينَ لَوْ كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَفُّوا مِنْ غُرُورِهِمْ، وَلَعَلِمُوا أَنَّهُ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ - تَعَالَى -
أَنْ يُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً مُوَجَّهَةً إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ لِيُطْلِقَ النَّظَرَ
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِتَفْسِيرِهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَشُئُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَمُخْتَتَمَةٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَدُعَائِهِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالْحَوَادِثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: بِمَ جَاءَكُمْ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ فَقَالُوا: عَصَاهُ، وَيَدُهُ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى، فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَلْيَتَفَكَّرُوا فِيهَا. انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَنْتَ لَا تَرَى الْمُنَاسَبَةَ قَوِيَّةً بَيْنَ الِاقْتِرَاحِ وَبَيْنَ الْآيَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُرَادَ الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْكَائِنَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ الْخَوَارِقِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِوَحْدَةِ النِّظَامِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ لِلْعِبَادِ، فَلْيُرَاجَعْ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ [٢: ١٦٤] إلخ [ص٤ ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: السَّمَاوَاتُ: مَاعَلَاكَ مِمَّا تَرَاهُ فَوْقَكَ، وَالْأَرْضُ: مَا تَعِيشُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ، كَمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّظَامِ وَالْإِتْقَانِ وَهُوَ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَبَعْدَ مَا ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَفَتَ الْعُقُولَ إِلَى أَمْرٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ; فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَصَرِهِمَا، وَتَعَاقُبِهِمَا، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ، أَوْ مَا يَعْتَقِدُونَ الْآنَ مِنْ أَنَّ سَبَبَهُ حَرَكَةُ الْأَرْضِ تَحْتَ الشَّمْسِ، وَمِنَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ مَا نَرَاهُ فِي أَجْسَامِنَا وَعُقُولِنَا مِنْ تَأْثِيرِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَرُطُوبَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَا فِي تَرْبِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ اللَّيْلُ سَرْمَدًا وَالنَّهَارُ سَرْمَدًا لَفَاتَتْ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ، فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ لُبًّا ; لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ مَحَلُّ الْحَيَاةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَخَاصَّتُهُ وَفَائِدَتُهُ، وَإِنَّمَا حَيَاةُ الْإِنْسَانِ الْخَاصَّةُ بِهِ هِيَ حَيَاتُهُ الْعَقْلِيَّةُ، وَكُلُّ عَقْلٍ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِاسْتِفَادَةِ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَنْظُرُ، وَلَا يَتَفَكَّرُ، وَإِنَّمَا الْعَقْلُ الَّذِي يَنْظُرُ، وَيَسْتَفِيدُ، وَيَهْتَدِي هُوَ الَّذِي وَصَفَ أَصْحَابَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَالذِّكْرُ فِي الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهِ لَا يُخَصُّ بِالصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُ الْقُلُوبِ، وَهُوَ إِحْضَارُ اللهِ - تَعَالَى - فِي النَّفْسِ وَتَذَكُّرُ حُكْمِهِ، وَفَضْلِهِ، وَنِعَمِهِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالِاضْطِجَاعِ، وَهَذِهِ الْحَالَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي لَا يَخْلُو الْعَبْدُ عَنْهَا تَكُونُ فِيهَا السَّمَاوَاتُ، وَالْأَرْضُ مَعَهُ لَا يَتَفَارَقَانِ، وَالْآيَاتُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَظْهَرُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا لِأَهْلِ الذِّكْرِ، فَكَأَيِّنْ مِنْ عَالَمٍ يَقْضِي لَيْلَهُ فِي رَصْدِ الْكَوَاكِبِ فَيَعْرِفُ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَيَعْرِفُ مِنْ نِظَامِهَا، وَسُنَنِهَا،
وَشَرَائِعِهَا مَا لَا يَعْرِفُ النَّاسُ، وَهُوَ يَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَا تَظْهَرُ لَهُ هَذِهِ الْآيَاتُ ; لِأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكْفِي فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْآيَاتِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعَ الذِّكْرِ التَّفَكُّرُ فِيهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الذِّكْرِ، وَالْفِكْرِ، فَقَدْ يُذَكَّرُ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ رَبَّهُ، وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي بَدِيعِ صُنْعِهِ، وَأَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أَقُولُ: قَدْ يَتَفَكَّرُ الْمَرْءُ فِي عَجَائِبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَسْرَارِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِتْقَانِ، وَالْإِبْدَاعِ، وَالْمَنَافِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالنِّعَمِ السَّابِغَةِ، وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْقَادِرِ الرَّحِيمِ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ فِي أَبْدَعِ نِظَامٍ، وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ إِلَى صَنْعَةٍ بَدِيعَةٍ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِ صَانِعُهَا اشْتِغَالًا بِهَا عَنْهُ، فَالَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِعِلْمِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُمْ غَافِلُونَ عَنْ خَالِقِهِمَا، ذَاهِلُونَ عَنْ ذِكْرِهِ، يُمَتِّعُونَ عُقُولَهُمْ بِلَذَّةِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَبْقَى مَحْرُومَةً مِنْ لَذَّةِ الذِّكْرِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَمَثَلِ مَنْ يَطْبُخُ طَعَامًا شَهِيًّا يُغَذِّي بِهِ جَسَدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَرْقَى بِهِ عَقْلُهُ، يَعْنِي أَنَّ الْفِكْرَ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لَا تَكُونُ فَائِدَتُهُ نَافِعَةً فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تَكْمُلُ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْفِكْرِ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتَمْتَعَ بِهَاتَيْنِ اللَّذَّتَيْنِ، فَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَتِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي لَا تَفْضُلُهَا نِعْمَةٌ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي لَا تَعْلُوهَا لَذَّةٌ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَهُونُ مَعَهَا كُلُّ كَرْبٍ، وَيَسْلُسُ كُلُّ صَعْبٍ، وَتَعْظُمُ كُلُّ نِعْمَةٍ، وَتَتَضَاءَلُ كُلُّ نِقْمَةٍ، تِلْكَ اللَّذَّةُ الَّتِي تَتَجَلَّى مَعَ الذِّكْرِ
مِنْ كُلِّ مَعْنًى لَطِيفٍ أَجْتَلِي قَدَحًا | وَكُلُّ حَادِثَةٍ فِي الْكَوْنِ تُطْرِبُنِي |
لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ، وَالثَّنَاءِ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، مُعَبِّرِينَ عَنْ نَتِيجَةِ جَمْعِ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ مِنَ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالْأَرْضِيَّةِ بَاطِلًا، وَلَا أَبْدَعْتَهُ، وَأَتْقَنْتَهُ عَبَثًا، سُبْحَانَكَ وَتَنْزِيهًا لَكَ عَنَ الْبَاطِلِ، وَالْعَبَثِ بَلْ كُلُّ خَلْقِكَ حَقٌّ مُؤَيَّدٌ بِالْحُكْمِ، فَهُوَ لَا يَبْطُلُ وَلَا يَزُولُ، وَإِنْ عَرَضَ لَهُ التَّحَوُّلُ وَالتَّحْلِيلُ وَالْأُفُولُ، وَنَحْنُ بَعْضُ خَلْقِكَ لَمْ نُخْلَقْ عَبَثًا، وَلَا يَكُونُ وُجُودُنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَاطِلًا، فَإِنْ فَنِيَتْ أَجْسَادُنَا، وَتَفَرَّقَتْ أَجَزَاؤُنَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَرْوَاحِنَا لِأَبْدَانِنَا، فَإِنَّمَا يَهْلَكُ مِنَّا كَوْنُنَا الْفَاسِدُ، وَوَجْهُنَا الْمُمْكِنُ الْحَادِثُ، وَيَبْقَى وَجْهُكَ الْكَرِيمُ، وَمُتَعَلِّقُ عِلْمِكَ الْقَدِيمِ.
يَعُودُ بِقُدْرَتِكَ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى، كَمَا بَدَأْتَهُ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى، فَرِيقٌ ثَبَتَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ، وَفَرِيقٌ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الضَّلَالَةِ، فَأُولَئِكَ فِي الْجَنَّةِ بِعِلْمِهِمْ، وَفَضْلِكَ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ بِعِلْمِهِمْ وَعَدْلِكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ بِعِنَايَتِكَ وَتَوْفِيقِكَ لَنَا وَاجْعَلْنَا مَعَ الْأَبْرَارِ بِهِدَايَتِكَ إِيَّانَا وَرَحْمَتِكَ بِنَا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا إلخ: هَذَهِ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ تَفَكُّرِهِمْ وَذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَسْتَنْبِطُونَ مِنَ اقْتِرَانِهِمَا الدَّلَائِلَ عَلَى حِكْمَةِ اللهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ - سُبْحَانَهُ - بِدَقَائِقِ الْأَكْوَانِ الَّتِي تَرْبُطُ الْإِنْسَانَ بِرَبِّهِ حَقَّ الرَّبْطِ. وَقَدِ اكْتَفَى بِحِكَايَةِ مُنَاجَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ عَنْ بَيَانِ نَتَائِجِ ذِكْرِهِمْ، وَفِكْرِهِمْ، فَطَيُّ هَذِهِ، وَذِكْرُ تِلْكَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يُخَاطِبُونَ اللهَ - تَعَالَى - عِنْدَمَا يَهْتَدُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ، وَبَدَائِعِ خَلْقِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ الذَّاكِرِ الْمُتَفَكِّرِ، يَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِمِثْلِ هَذَا الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ، وَكَوْنُ هَذَا ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ التَّعْلِيمِ، وَالْإِرْشَادِ لَا يَمْنَعُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَظَرُوا، وَذَكَرُوا، وَفَكَّرُوا، ثُمَّ قَالُوا هَذَا أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَذَكَرَ اللهُ حَالَهُمْ، وَابْتِهَالَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّتَهُمْ، وَأَسْمَاءَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لَنَا فِي عِلْمِهِمْ، وَأُسْوَةً فِي سِيرَتِهِمْ، أَيْ لَا فِي ذَوَاتِهِمْ، وَأَشْخَاصِهِمْ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.
قَالَ: أَمَّا مَعْنَى كَوْنِ هَذَا الْخَلْقِ لَا يَكُونُ بَاطِلًا، فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْإِبْدَاعَ فِي
الْخَلْقِ، وَالْإِتْقَانَ لِلصُّنْعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي أُوتِيَ الْعَقْلَ الَّذِي يَفْهَمُ هَذِهِ الْحِكَمَ، وَدَقَائِقَ
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ يَصِلُوا بِالْفِكْرِ مَعَ الذِّكْرِ إِلَى بَقَاءِ الْعَالَمِ، وَاسْتِمْرَارِهِ ; لِأَنَّ نِظَامَهُ الْبَدِيعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْحَكِيمُ بَاطِلًا (أَيْ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ) وَبَعْدَ أَنْ يَدْعُوا رَبَّهُمْ أَنْ يَقِيَهُمْ دُخُولَ النَّارِ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ قَائِلِينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أَيْ إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى هَيْبَةِ ذَلِكَ الرَّبِّ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الْأَكْوَانَ الْمَمْلُوءَةَ بِالْأَسْرَارِ، وَالْحِكَمِ، وَالدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ عَادَاهُ فَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ نَارَهُ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وَصَفَ مَنْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالظَّالِمِينَ تَشْنِيعًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَبَيَانًا لِعِلَّةِ دُخُولِهِمْ فِيهَا، وَهُوَ جَوْرُهُمْ، وَمَيْلُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ. فَالظَّالِمُ هُنَا هُوَ الَّذِي يَتَنَكَّبُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا الْكَافِرُ خَاصَّةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ وُلُوعُ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ كُلِّ وَعِيدٍ يُذْكَرُ فِي كِتَابِهِمْ، وَحَمْلُهُ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ فَعَلَ السَّابِقُونَ، وَاتَّبَعَ سَنَنَهُمُ اللَّاحِقُونَ، فَكُلُّ ظَالِمٍ يُؤْخَذُ بِظُلْمِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِهِ، وَلَا يَجِدُ لَهُ نَصِيرًا يَحْمِيهِ مِنْ أَثَرِ ذَنْبِهِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ التَّعْبِيرِ عَمَّا أَثْمَرَهُ الْفِكْرُ وَالذِّكْرُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَخَشْيَتِهِ وَدُعَائِهِ عَبَّرُوا عَمَّا أَفَادَهُمُ السَّمْعُ مِنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، وَمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا الْمُنَادِي لِلْإِيمَانِ هُوَ الرَّسُولُ، وَذَكَرَهُ بِوَصْفِ الْمُنَادِي تَفْخِيمًا لِشَأْنِ هَذَا النِّدَاءِ، وَذَكَرَ اسْتِجَابَتَهُمْ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْوُصُولِ مِنْهُمَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ الْحَمِيدَةِ لَمْ يَتَلَبَّثُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، كَمَا تَلَبَّثَ قَوْمٌ، وَاسْتَكْبَرَ آخَرُونَ بَلْ بَادَرُوا، وَسَارَعُوا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ مَعَ زِيَادَةٍ صَالِحَةٍ تَزِيدُهُمْ مَعْرِفَةً بِاللهِ - تَعَالَى - وَبَصِيرَةً فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ اللَّتَيْنِ دَلَّهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِمَا دَلَالَةً مُجْمَلَةً مُبْهَمَةً، وَالْأَنْبِيَاءُ يَزِيدُونَهَا بِمَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ بَيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أُولُو أَلْبَابٍ هَذَا شَأْنُهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُنَادَى نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً.
أَقُولُ: وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا هُمُ السَّابِقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ لِحُكْمِهِمْ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْهِجْرَةِ مَا يُرَجِّحُ هَذَا.
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا تُفِيدُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ اتِّصَالَ هَذَا الدُّعَاءِ بِمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ: الْإِذْعَانُ لِلرُّسُلِ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، لَا دَعْوَى الْإِيمَانِ بِاللِّسَانِ مَعَ خُلُوِّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِذْعَانِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ ; وَلِأَجْلِ هَذَا اسْتَشْعَرُوا الْخَوْفَ مِنَ الْهَفَوَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ فَطَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ، وَالتَّكْفِيرَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ هُنَا الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَعِنْدِي أَنَّ الذُّنُوبَ هِيَ: التَّقْصِيرُ فِي عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَكُلِّ مُعَامَلَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَالسَّيِّئَاتُ: هِيَ التَّقْصِيرُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا.
فَالذَّنْبُ مَعْنَاهُ الْخَطِيئَةُ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ مَا يَسُوءُ، فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْإِسَاءَةِ يُشْعِرُ بِمَا قُلْنَاهُ، وَغَفْرُ الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ سَتْرِهَا، وَعَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ ; وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ عِبَارَةٌ عَنْ حَطِّهَا، وَإِسْقَاطِهَا، فَكُلٌّ مِنَ الطَّلَبَيْنِ مُنَاسِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ أَيْ أَمِتْنَا عَلَى حَالَتِهِمْ، وَطَرِيقَتِهِمْ، يُقَالُ أَنَا مَعَ فُلَانٍ أَيْ عَلَى رَأْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَمَذْهَبِهِ فِي عَمَلِهِ. وَالْأَبْرَارُ: هُمُ الْمُحْسِنُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ.
أَقُولُ: رَاجِعْ فِي الْأَبْرَارِ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ [٢: ١٧٧] فِي ص٨٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [٢: ١٨٩] وَتَفْسِيرَ الْغُفْرَانِ وَالْمَغْفِرَةِ (في ١١٥، ١٧٠، ١٨٨، ٢٥٥ ج ٢، ١٥٨، ٩٩ ج ٤).
أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ الْأَخْذُ بِذَنَبِ الشَّيْءِ (بِالتَّحْرِيكِ)، يُقَالُ ذَنَبْتُهُ أَيْ أَصَبْتُ ذَنَبَهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ فِعْلٍ يُسْتَوْخَمُ عُقْبَاهُ اعْتِبَارًا بِذَنَبِ الشَّيْءِ ; وَلِهَذَا يُسَمَّى الذَّنْبُ تَبِعَةً اعْتِبَارًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَجَمْعُ الذَّنْبِ ذُنُوبٌ اهـ.
أَقُولُ: وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا سَوَاءٌ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمِنْهُ تَرْكُ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَاجِلًا، أَوْ آجِلًا، فَهِيَ عَامَّةٌ أَيْضًا، وَضِدُّهَا الْحَسَنَةُ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ، وَالشَّرْعِ نَحْوُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [٦: ١٦٠] وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ
ادِّعَاءُ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ فِي الدَّارَيْنِ، وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا. وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ مِنَ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ أَيْ أَعْطِنَا مَا وَعَدْتَنَا مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ كَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالدُّنْيَا، وَبَعْضُهُمْ بِالْآخِرَةِ - جَزَاءً عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ، إِذِ اسْتَجَبْنَا لَهُمْ وَآمَنَّا بِمَا جَاءُوا بِهِ، أَوْ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ مُنْزَلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَعْطِنَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا نَسْتَحِقُّهُ بِهِ إِلَى أَنْ تَتَوَفَّانَا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ هَضْمٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَاسْتِشْعَارُ تَقْصِيرِهَا، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِثَبَاتِهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وَعِنَايَتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقِيلَ إِنَّ الدُّعَاءَ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ فَقَطْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَلَىْ رُسُلِكَ مَعْنَاهُ لِأَجْلِ رُسُلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ رُسُلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهِمْ، وَالْإِيمَانِ بِهِمْ. فَجَعَلَ " عَلَى " لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا أَذْكُرُ هَذَا لِغَيْرِهِ هُنَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قِيلَ مِنَ اسْتِشْكَالِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَاخْتَارَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ هَدَاهُمُ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَى ضَعْفِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، فَطَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ، وَالتَّكْفِيرَ، وَالْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُبَلِّغُهُمْ مَا وَعَدَ اللهُ مَنِ اسْتَجَابُوا لِلرُّسُلِ، وَنَصَرُوهُمْ، وَأَحْسَنُوا اتِّبَاعَهُمْ ; وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا تَفْضَحْنَا وَتَهْتِكْ سِتْرَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِدْخَالِنَا النَّارَ الَّتِي يَخْزَى مَنْ دَخَلَهَا - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ - وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ ; لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْوِقَايَةَ مِنَ النَّارِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ، وَاسْتَنْبَطَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِطَلَبِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَجَعَلَ طَلَبَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ آخِرًا، وَخِتَامًا، إِذِ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ أَشَدُّ، وَيَعْنُونَ بِالْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ الْحِرْمَانَ مِنَ الرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ بِكَمَالِ الْعِرْفَانِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٩: ٧٢] وَلَكِنَّ طَلَبَ النَّجَاةِ مِنَ
الْخِزْيِ
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَطَفَ اسْتِجَابَتَهُ لَهُمْ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ هُوَ الَّذِي أَهَّلَهُمْ لِقَبُولِ دُعَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ: اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَالذِّكْرِ، وَالْفِكْرِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّنْزِيهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَصِدْقِ الرُّسُلِ، وَإِيمَانِهِمْ بِهِمْ، وَشُعُورِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ مُقَصِّرُونَ فِي الشُّكْرِ لِلَّهِ، مُحْتَاجُونَ مَغْفِرَتَهُ لَهُمْ، وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ بِهِمْ بِإِيتَائِهِمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِجَابَةَ لَمْ تَكُنْ بِعَيْنِ مَا طَلَبُوا كَمَا طَلَبُوا ; وَلِذَلِكَ صَوَّرَهَا وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا، وَهَذَا التَّصْوِيرُ لِحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لَيْسَتْ إِلَّا تَوْفِيَةَ كُلِّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ لِيُنَبِّهَهُمْ بِذِكْرِ الْعَمَلِ، وَالْعَامِلِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَوْزِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ إِنَّمَا هِيَ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ تَغُشُّهُ نَفْسُهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُحْسِنٍ، وَأَنَّهُ مُخْلِصٌ، وَمَا هُوَ بِمُخْلِصٍ، وَأَنَّ حَوْلَهُ وَقُوَّتَهُ قَدْ فَنِيَا فِي حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا وَجْهَهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَيَكُونُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ مَغْرُورًا مُرَائِيًا. وَذَكَرَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مُتَسَاوِيَانِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْجَزَاءِ مَتَى تَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ حَتَّى لَا يَغْتَرَّ الرَّجُلُ بِقُوَّتِهِ، وَرِيَاسَتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ مِنْهَا، وَلَا تُسِيءَ
الْمَرْأَةُ الظَّنَّ بِنَفْسِهَا فَتَتَوَهَّمَ أَنَّ جَعْلَ الرَّجُلِ رَئِيسًا عَلَيْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَرْفَعَ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - عِلَّةَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالرَّجُلُ مَوْلُودٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ مَوْلُودَةٌ مِنَ الرَّجُلِ، فَلَا فَرْقَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْأَعْمَالِ، أَيْ وَمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَيَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ.
أَقُولُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِنْوٌ وَزَوْجٌ وَشَقِيقٌ لِلْآخَرِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ حَدِيثُ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ قَالُوا: أَيْ مِثْلُهُمْ فِي الطِّبَاعِ، وَالْأَخْلَاقِ كَأَنَّهُنَّ مُشْتَقَّاتٌ مِنْهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مَعَهُمْ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ سَلْمَانُ مِنَّا وَحَدِيثِ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَمْ يَكْتَفِ بِرَبْطِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ حَتَّى بَيَّنَ أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَا طَلَبُوا مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ذَكَرَ الْإِخْرَاجَ مِنَ الدِّيَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ بَابِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، فَالْهِجْرَةُ إِنَّمَا كَانَتْ وَتَكُونُ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ، وَتَسْتَتْبِعُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا مِنَ الْإِيذَاءِ وَالْقِتَالِ، وَقُرِئَ (وَقُتِّلُوا) بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الْقَتْلَ بَلْ وَالتَّقْتِيلَ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَبْذُلْ مُهْجَتَهُ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَطْمَعَنَّ بِهَذِهِ الْمَثُوبَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي قَوْلِهِ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَبِيرَةِ الْوَادِرَةِ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [٤٩: ١٥] إلخ. وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [٨: ٢] إلخ، وَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [٢٣: ١، ٢] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [٢٥: ٦٣] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [٧٠: ١٩] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: وَالْعَصْرِ [١٠٣: ١] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ: هَكَذَا يَذْكُرُ اللهُ - تَعَالَى - صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُنَبِّهَنَا إِلَى أَنْ نَرْجِعَ إِلَى أَنْفُسِنَا وَنَمْتَحِنَهَا
بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفٍ مِمَّا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ وَعْدَهُ بِمَثُوبَتِهِمْ، بَلْ وَإِنِ اتَّصَفُوا بِضِدِّهِ وَهُوَ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْغُرُورِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَجْتَمِعُ وَتَفْتَرِقُ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ تَرَكَ وَطَنَهُ مُخْتَارًا، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنْهُ إِخْرَاجًا، بَلْ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ هَاجَرَ مُسْتَخْفِيًا لِئَلَّا يَمْنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَمَرُوهُمْ بِالْهِجْرَةِ أَمْرًا، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ قَسْرًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ ضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أُوذِيَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا مَكَّنُوهُ مِنَ الْخُرُوجِ. وَرَاجِعْ بَعْضَ الْكَلَامِ فِي إِيذَاءِ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ص٢٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ح٢ [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْهِجْرَةَ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تُمْنَعَ التَّوْبَةُ أَيْ إِلَى قُبَيْلِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا فَقَدْ قَرَأَهُ حَمْزَةُ بِعَكْسِ التَّرْتِيبِ فِي اللَّفْظِ " وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا "، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا هُمُ الْبَادِئِينَ، فَلَمَّا قُتِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُنَاسٌ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ. وَشَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ تَاءَ " قُتِّلُوا " لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا جَاءَ فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قَرِيبٍ وَوَلِيٍّ. وَقَدْ رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا الَّذِينَ اخْتَارُوا الْمُهَاجَرَةَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمُ الَّذِينَ أَلْجَأَهُمُ الْكُفَّارُ إِلَى الْخُرُوجِ. وَلَا شَكَّ أَنْ رُتْبَةَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا خِدْمَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُلَازَمَتَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، فَكَانُوا أَفْضَلَ. وَقَوْلُهُ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ تَكُونُ قَبْلَ الْقِتَالِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ (وَقَاتَلُوا) أَوَّلًا (وَقُتِّلُوا) مُشَدَّدَةً، قِيلَ: التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَتَكَرُّرِ الْقَتْلِ فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ [٣٨: ٥٠] وَقِيلَ: قُطِّعُوا، عَنِ الْحَسَنِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، والْكِسَائِيُّ (وَقُتِلُوا) بِغَيْرِ أَلِفٍ أَوَّلًا، (وَقَاتَلُوا) بِالْأَلِفِ بَعْدَهُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي
[٣: ٤٣] وَالثَّانِي عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْقَتْلِ أَوْ إِذَا قَتَلَ قَوْمَهُ وَعَشَائِرَهُ، وَالثَّالِثُ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ وَقَاتَلُوا رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ كَكَلِمَةِ وَقُتِلُوا وَالرَّازِيُّ لَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ قَرَأَ نَافِعٌ... " قَاتَلُوا " بِالْأَلِفِ: إِنَّ الْكَلِمَةَ رُسِمَتْ أَوْ تُرْسَمُ بِالْأَلِفِ فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلتَّوْضِيحِ، يَعْنِي قَرَءُوا بِالْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ ; وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ هُنَا إِفَادَةُ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِهَا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَعْنَاهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأُدْخِلَنَّهُمُ الْجَنَّاتِ، أُثِيبُهُمْ بِذَلِكَ ثَوَابًا مِنَ النَّوْعِ الْعَالِي الْكَرِيمِ الَّذِي عِنْدَ اللهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّوَابُ: اسْمٌ مِنْ مَادَّةِ ثَابَ يَثُوبُ ثَوْبًا أَيْ رَجَعَ، يُقَالُ: تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ ثَابُوا إِلَيْهِ، وَفِي الْمَجَازِ ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَحِلْمُهُ إِذَا كَانَ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَالْحِلْمِ بِنَحْوِ غَضَبٍ شَدِيدٍ ثُمَّ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ، وَمِنْهُ جَعْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الثَّوَابُ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِ، فَيُسَمَّى الْجَزَاءُ ثَوَابًا تَصَوُّرًا أَنَّهُ هُوَ هُوَ، أَلَا تَرَى كَيْفَ جَعَلَ اللهُ - تَعَالَى - الْجَزَاءَ نَفْسَ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [٩٩: ٧] وَلَمْ يَقُلْ جَزَاءَهُ. وَالثَّوَابُ يُقَالُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ الْمُتَعَارَفَ فِي الْخَيْرِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ انْتَهَى الْمُرَادُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ لَفْظَ الثَّوَابِ وَالْمَثُوبَةِ حَيْثُ وَقَعَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ بِالْعِبَارَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيَّنَ الْعَمَلَ، كُلُّ ذَلِكَ يُؤَيِّدُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي أَخَذْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا إِيضَاحَهَا، وَإِثْبَاتَهَا، وَكَرَّرْنَا الْقَوْلَ فِيهَا بِعِبَارَاتٍ، وَأَسَالِيبَ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ، أَيْ إِنَّ لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِ الْعَامِلِ تُزَكِّيهَا فَتَكُونُ بِهَا مُنَعَّمَةً فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تُدَسِّيهَا فَتَكُونُ مُعَذَّبَةً فِيهَا بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَكَأَنَّ الْأَعْمَالَ نَفْسَهَا تَثُوبُ وَتَعُودُ، وَلَيْسَ - أَيِ الْجَزَاءُ - أَمْرًا وَضِيعًا كَجَزَاءِ الْحُكَّامِ بِحَسَبِ قَوَانِينِهِمْ، وَشَرَائِعِهِمْ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ - لَاسِيَّمَا الصُّوفِيَّةُ - كَالْغَزَالِيِّ وَمُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ، وَإِذَا فَقِهَ النَّاسُ هَذَا الْمَعْنَى زَالَ غُرُورُهُمْ، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا فِي أَمْرِ مَا يَرْجُونَ مِنْ نَعِيمِ
الْآخِرَةِ وَيَخْشَوْنَ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا عَلَى
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ: " فِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ (أَيِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْمُهَاجَرَةِ، وَاحْتِمَالِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، وَالْإِيذَاءِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ، وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فِيهِ) فَلَمَّا كَانَ حُصُولُ هَذَا الشَّرْطِ عَزِيزًا كَانَ الشَّخْصُ الْمُجَابُ الدُّعَاءِ عَزِيزًا ".
وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَضِيعُ نَفْسُ الْعَمَلِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ كُلَّمَا وُجِدَ تَلَاشَى وَفَنِيَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَضِيعُ ثَوَابُ الْعَمَلِ، وَالْإِضَاعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْإِثَابَةِ، فَقَوْلُهُ: لَا أُضِيعُ نَفْيٌ لِلنَّفْيِ فَيَكُونُ إِثْبَاتًا، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنِّي أُوصِلُ ثَوَابَ جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ إِلَيْكُمْ، إِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَا فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مُخَلَّدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِإِيمَانِهِ اسْتَحَقَّ ثَوَابًا، وَبِمَعْصِيَتِهِ اسْتَحَقَّ عِقَابًا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِمَا إِلَيْهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّمَ الثَّوَابَ ثُمَّ يَنْقُلَهُ إِلَى الْعِقَابِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَدِّمَ الْعِقَابَ، ثُمَّ يَنْقُلَهُ إِلَى الثَّوَابِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ اهـ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَمَلَ تَلَاشَى وَفَنِيَ مَا عَلِمْتُ مِنْ قَاعِدَتِنَا الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا آنِفًا، فَنَقُولُ: إِنَّ حَرَكَةَ الْأَعْضَاءِ بِهِ فَنِيَتْ، وَلَكِنَّ صُورَتَهُ فِي النَّفْسِ بَقِيَتْ، فَكَانَتْ مَنْشَأَ الْجَزَاءِ، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَفْسُهُ وَجْهًا آخَرَ فِي عَدَمِ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ عَدَمُ إِضَاعَةِ الدُّعَاءِ، وَقَالَ بَعْدَ مَبَاحِثَ: ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَعَدَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
أَوَّلُهَا: مَحْوُ السَّيِّئَاتِ، وَغُفْرَانُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي طَلَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا.
وَثَانِيهِمَا: إِعْطَاءُ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَهُوَ الَّذِي طَلَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ: وَآتِنًا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الثَّوَابُ ثَوَابًا عَظِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ عِنْدِ اللهِ وَهُوَ الَّذِي قَالُوهُ: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذَا قَالَ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ لِعَبْدِهِ: إِنِّي أَخْلَعُ عَلَيْكَ خِلْعَةً مِنْ عِنْدِي دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْخِلْعَةِ فِي نِهَايَةِ الشَّرَفِ اهـ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَدَمَ الْخِزْيِ لَا يَدُلُّ
عَلَى مَا قَالَهُ فِي النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ، وَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ هُنَا، وَمَا قَرَّرَهُ فِي الِاسْتِجَابَةِ مِنْ أَنَّهَا بِعَيْنِ مَا طَلَبُوا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَدْ رَأَيْتَهُ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ كَوْنَ الْجَزَاءِ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُ الْعِبَادَ مِنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ - تَعَالَى - وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لَهُ أَسْبَابًا هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا كَالْمَطَرِ، وَالنَّبَاتِ، وَالصِّحَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللهُ أَكْرَمُ، وَأَرْحَمُ، وَأَعْلَمُ، وَأَحْكَمُ.
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
أَقُولُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَالظَّفَرِ، وَأَنَّنَا اخْتَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ، وَمَا وَعَدَ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، رُبَّمَا يَسْتَبْطِئُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ إِيتَاءَهُمُ الْوَعْدَ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّصْرِ، وَالتَّغَلُّبَ عَلَى الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ [٢: ٢١٤] فَجَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ الْآيَةَ، تَسْلِيَةً لَهُمْ، وَبَيَانًا لِكَوْنِ الْإِمْلَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي نِهَايَةِ الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا فِي النِّعَمِ، ذَكَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُسَلِّيهِمْ، وَيُصَبِّرُهُمْ عَلَى تِلْكَ الشِّدَّةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَسْتَجِيبُ لَهُمْ بِالْأَعْمَالِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَمِنْهُ الْمُهَاجَرَةُ، وَتَحَمُّلُ الْإِيذَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى يُقْتَلُوا ; وَبِذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ ثَوَابَ اللهِ - تَعَالَى -، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ لِلْمُقَابَلَةِ، وَرَبَطَ الْكَلَامَ بِمَا قَبْلَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ، وَتَمَتُّعٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ مَرْمَى طَرَفِهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ الَّذِي وَعَدْتُهُ، فَهُوَ النَّعِيمُ الْحَقِيقِيُّ الْبَاقِي، وَهَذَا الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، فَلَا تَطْلُبُوهُ، وَلَا تَحْفُلُوا بِهِ. يَسْهُلُ بِهَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا كُلِّفُوهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْإِيذَاءِ وَالْعَنَاءِ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ.
أَقُولُ: أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ: فَهُوَ لَا يَغُرَّنَّكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الْمُؤْمِنُ، أَوْ لَا يَغُرَّنَّكَ يَا مُحَمَّدُ (قَوْلَانِ) تَقَلُّبُهُمْ، قَالُوا: وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِثْلِ هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، فَرُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: وَاللهِ مَا غَرُّوا نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. وَمَعْنَى غَرَّهُ: أَصَابَ غُرَّتَهُ، فَنَالَ مِنْهُ بِالْقَوْلِ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَفْطَنْ لِمَا فِي بَاطِنِ الشَّيْءِ مِمَّا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْغِرَّةُ (بِالْكَسْرِ) غَفْلَةٌ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْغِرَارُ: غَفْلَةٌ مَعَ غَفْوَةٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنَ الْغَرِّ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ الْأَثَرُ الظَّاهِرُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ غُرَّةُ الْفَرَسِ، وَغِرَارُ السَّيْفِ أَيْ حَدُّهُ. وَغَرُّ الثَّوْبِ: أَثَرُ كَسْرِهِ، وَقِيلَ: اطْوِهِ عَلَى غَرِّهِ، وَغَرَّهُ كَذَا غُرُورًا كَأَنَّمَا طَوَاهُ عَلَى غَرِّهِ اهـ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْغُرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) أَيِ الْغَفْلَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ، أَوْ يَتَّصِلُ بِهِ أَخْذُهُ مِنْ غَرِّ الثَّوْبِ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ أَثَرُ طَيِّهِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالثَّنْيِ وَالْكَسْرِ، وَجُمِعَ الْغَرُّ عَلَى غُرُورٍ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: " وَاطْوِهِ عَلَى غُرُورِهِ أَيْ مَكَاسِرِهِ "، وَالْمُرَادُ: اطْوِهِ عَلَى طَيَّاتِهِ الْأُولَى لِيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ غَرَارَةُ الصِّغَارِ (بِالْفَتْحِ) أَيْ سَذَاجَتُهُمْ، وَقِلَّةُ تَجَارِبِهِمْ يُقَالُ: فَتًى غِرٌّ، وَفَتَاةٌ غِرٌّ (بِالْكَسْرِ) وَقِيلَ: إِنَّ الْغُرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَارِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مِنَ السَّيْفِ، وَالسَّهْمِ، وَالرُّمْحِ حَدُّهَا، قَالُوا: غِرَّةٌ أَيْ خُدْعَةٌ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِلِ كَأَنَّهُ ذَبَحَهُ بِالْغِرَارِ. وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ وَبُعْدٌ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْغُرُورِ: أَنَّ تَقَلُّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ آمِنِينَ مُعْتَزِّينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِغُرُورِ الْمُؤْمِنِ بِحَالِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَدُومُ لَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ إِبْقَاءِ
قَلِيلٌ عَاقِبَتُهُ هَذَا الْمَأْوَى الَّذِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ مُتَمَتِّعًا بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أُنْسِئَ لَهُ فِي عُمُرِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْخِذْلَانُ بِنَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلَبَ مِنْهُ مَتَاعَهُ، أَوْ نَغَّصَهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَسَيَأْتِي مَا لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَجَهَنَّمُ: اسْمٌ لِلدَّارِ الَّتِي يُجَازَى فِيهَا الْكَافِرُونَ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: إِنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَرَبِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ (بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ وَالتَّشْدِيدِ) أَيْ بِئْرٌ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، فَجَهَنَّمُ إِذًا بِمَعْنَى الْهَاوِيَةِ. وَالْمِهَادُ: الْمَكَانُ الْمَهْدُ الْمُوَطَّأُ كَالْفِرَاشِ، قِيلَ: سُمِّيَتِ النَّارُ مِهَادًا تَهَكُّمًا بِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْبَقَرَةِ [٢: ٢٠٦ - فَرَاجِعْ ص٢٠١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَتَّجِرُونَ وَيَكْسِبُونَ، عَلَى حِينِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ لِوُقُوفِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَإِيقَاعِهِمْ بِهِمْ أَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ، وَعَجْزِ هَؤُلَاءِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ دَارِهِمْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ، وَالْجُهْدِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَتُصِيبُ الْأَمْوَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ فِي الْقِسْمَةِ غَيْرُ مَغْبُونِينَ، فَقَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ قَالُوا: إِنَّ النُّزُلَ مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ النَّازِلِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا يُهَيَّأُ بِهِ، وَخَصَّهُ الرَّاغِبُ بِالزَّادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ نُزُلًا عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَبَيْعًا وَصَدَقَةً. وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّاتُ نُزُلًا - وَهِيَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ - فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ أَعْظَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَنَعِيمًا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَقَدْ وَعَدَهُمْ هَذَا الْجَزَاءَ عَلَى التَّقْوَى الَّتِي يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهَا تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ يَكُونُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالْإِحْسَانِ لِلْأَبْرَارِ، فَقَالَ: وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَرَامَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذَا النُّزُلِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ مَا عِنْدَهُ
الْجِنَانِ. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لِلْأَبْرَارِ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ النُّزُلِ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ ; لِأَنَّ نُكْتَةَ وَضْعِ الْمُظْهَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا عِنْدَ اللهِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ - لَوْ كَانَ هَذَا عَيْنَ ذَاكَ - تَظْهَرُ عَلَى هَذَا ظُهُورًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، وَبِهِ يَنْجَلِي الْفَرْقُ بَيْنَ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَبَيْنَ الْأَبْرَارِ، فَإِنَّ الْأَبْرَارَ جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْبِرِّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مِنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [٢: ١٧٧] إلخ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي آيَاتِ الدُّعَاءِ الْقَرِيبَةِ [رَاجِعْهُ ثَانِيَةً فِي ص٨٩ ج ٢ تَفْسِيرِ - ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] فَشَرَحَ الْبِرَّ بِمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ يُؤَيِّدُهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ مِنْ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرِّ - بِالْفَتْحِ - الْمُقَابِلِ لِلْبَحْرِ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ التَّوَسُّعَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، فَهُوَ إذًا أَدَلُّ عَلَى الْكَمَالِ مِنَ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ أَسْبَابِ السُّخْطِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَتَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِعْلِ الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّعٍ فِي نَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ، وَذَكَرَ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِسْمَيْهِمُ - الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَالْأَبْرَارِ - بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاكِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا قُلْنَا.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّ مَنْ يُفَسِّرُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْرَاكًا، أَوِ اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِهَا، أَيْ ذَلِكَ جَزَاءُ مَنِ اسْتَكْبَرْتُمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِمَّنْ أَصَرَّ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ إلخ. وَيَصِحُّ هَذَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ، وَهُوَ عُمُومُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةُ آيَاتٍ: وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " لَمَّا جَاءَ نَعْيُ النَّجَاشِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلُّوا عَلَيْهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، نُصَلِّي عَلَى عَبْدٍ حَبَشِيٍّ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَنَقُولُ: إِنَّهَا تَشْمَلُ النَّجَاشِيَّ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَكَذَا الْمَجُوسُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ إِلَّا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -
عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. ثُمَّ رَاجَعْتُ الرَّازِيَّ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ حِينَ مَاتَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهْتَدُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَكَانُوا مُهْتَدِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ لِلَّهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ خَاشِعٌ لِلَّهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ هُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَهُوَ السَّائِقُ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْجَدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهَذَا الثَّمَنُ يَعُمُّ الْمَالَ وَالْجَاهَ، فَإِنَّ مِنْهُ التَّمَتُّعَ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ صَعْبًا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَلِفَهُ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُعِدُوا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْكَافِرِينَ لِأَجَلِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى الْحَقِّ فِي الدِّينِ السَّابِقِ، وَالدِّينِ اللَّاحِقِ، وَذَكَرَ إِيمَانَهُمْ بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ - بِغُرُورِهِمْ بِكِتَابِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِمَا عِنْدَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ - كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَكَانَ مِنَ الْغَرَابَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعِنَادِ وَمُكَابَرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّشَدُّدِ فِي إِيذَائِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بَعْضُهُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا ; وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ قَلِيلِينَ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِهِمْ عِلْمًا، وَفَضْلًا، وَبَصِيرَةً، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَنَا الْأَذْكِيَاءَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَلَّمَا يَرْجِعُونَ عَنْ عَقِيدَةٍ، أَوْ رَأْيٍ فِي الدِّينِ جَرَوْا عَلَيْهِ، وَتَلَقَّوْهُ عَنْ مَشَايِخِهِمْ، وَقَرَءُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، وَخَطَأً ظَاهِرًا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْيِيدٌ لِكَوْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضِيقٍ خَيْرًا مِنْ حَالِ الْكَافِرِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى حَالِ الْأَخْيَارِ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَيْفَ لَا يَحْفُلُونَ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ. بَلْ يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَثَلِ وَالْأُسْوَة لِلْمُسْلِمِينَ.
أَقُولُ: وَصَفَهُمْ بِخَمْسِ صِفَاتٍ - إِحْدَاهَا: الْإِيمَانُ بِاللهِ، يَعْنِي الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ نَزَغَاتُ الشِّرْكِ، وَلَا يُفَارِقُهُ الْإِذْعَانُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [٢: ٨] وَلَا مَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [١٢: ١٠٦] ثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَهُ الْهَيْمَنَةُ، وَالْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي الْخِلَافِ لِثُبُوتِهِ بِالْيَقِينِ، وَعَدَمِ طُرُوءِ الضَّيَاعِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ.
رَابِعُهَا: الْخُشُوعُ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعِينُ عَلَى اتِّبَاعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْعَمَلِ، فَالْخُشُوعُ أَثَرُ خَشْيَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْقَلْبِ تَفِيضُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالْمَشَاعِرِ، فَيَخْشَعُ الْبَصَرُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِسَارِ، وَيَخْشَعُ الصَّوْتُ بِالْمُخَافَتَةِ وَالتَّهَدُّجِ، كَمَا يَخْشَعُ غَيْرُهَا.
خَامِسُهَا: وَهِيَ أَثَرٌ لِمَا قَبْلَهُ عَدَمُ اشْتِرَاءِ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِآيَاتِ اللهِ كَمَا هُوَ فَاشٍ فِي أَصْحَابِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ الْجِنْسِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ مِلَّتْهِمْ، وَيَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا.
قَالَ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ لَهُمْ أَجْرُهُمُ اللَّائِقُ بِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمُ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِنِعَمِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ ;
أَيْ فِي دَارِ الرِّضْوَانِ الَّتِي نَسَبَهَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَلِأَهْلِهَا، بِخِلَافِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَفِهِمْ عِنَادًا حَمَلَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظَهَرَتْ لَهُ حَقِيقَتُهَا كَمَا ظَهَرَتْ لَهُمْ، وَحَجَدَ وَعَانَدَ كَمَا جَحَدُوا وَعَانَدُوا فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَكُتُبِهِمْ، وَلَا يَكُونُ إِيمَانُهُ بِاللهِ - تَعَالَى - إِيمَانًا صَحِيحًا مَقْرُونًا بِالْخَشْيَةِ، وَالْخُشُوعِ ; وَلِذَلِكَ لَا يَخْشَاهُ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي آيَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [٢: ٦٢] مِنَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا كَالَّذِينِ كَانُوا قَبْلَهُ.
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ بِمَا يَكْشِفُ لَهُمْ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَتَمَثَّلُ لَهُمْ فِيهَا كُلُّ عَمَلٍ سَبَقَ مِنْهُمْ كَالصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ الَّتِي تُمَثِّلُ الْوَقَائِعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ.
ثُمَّ خَتَمَ - سُبْحَانَهُ - السُّورَةَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِجَابَةُ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، وَإِيفَاءُ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيِ اصْبِرُوا
أَقُولُ: فَالْمُصَابَرَةُ، وَالْمُرَابَطَةُ، وَهِيَ الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُبَارَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُغَالَبَتِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَفِي رَبْطِ الْخَيْلِ كَمَا قَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [٨: ٦٠] عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَنَا بِهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعَمَلِ الْبَنَادِقِ، وَالْمَدَافِعِ، وَالسُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَالْعُدَدِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَرَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ الْعَسْكَرِيِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْمُرَابَطَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي ثُغُورِ
الْبِلَادِ، وَهِيَ مَدَاخِلُهَا عَلَى حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِرَبْطِ خُيُولِهِمْ، وَخِدْمَتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى: يُكْثِرُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهَا بَتَّةً، صَارَ التَّقِيُّ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الْأَهْبَلُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَصْلَحَتَهُ، وَلَا مَصْلَحَةَ النَّاسِ. وَلَا شَيْءَ أَشْأَمَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ فَهْمِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى.
التَّقْوَى: أَنْ تَقِيَ نَفْسَكَ مِنَ اللهِ، أَيْ مِنْ غَضَبِهِ، وَسُخْطِهِ، وَعُقُوبَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إِلَّا مَنْ فَهِمَ كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى - وَعَرَفَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ مُطَالِبًا نَفْسَهُ بِالِاهْتِدَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَنْ صَبَرَ، وَصَابَرَ، وَرَابَطَ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَاتَّقَى رَبَّهُ فِي سَائِرِ شُئُونِهِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ الْفَوْزُ، وَالظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالدُّنْيَا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [٢٠: ٦٤] وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا [١٨: ٢٠] وَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ أَكْثَرَ وَعْدِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَإِرَادَةُ الْفَلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الصَّبْرَ، وَمُصَابَرَةَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَابَطَةَ، وَالتَّقْوَى كُلُّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّهَا مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَقَصْدِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ - الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ - مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِهَا، فَعِلْمُهُ إذًا هُوَ سَبَبُ فَلَاحِهِ.
فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُنِيلَنَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَنَا عَلَى أَسْبَابِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
أَقُولُ: وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، قِيلَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " أَعْرَسَ بِي عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ " أَيْ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [٤: ٥٨]، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَزَعَمَ النَّحَّاسُ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ لِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِصَّةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ بَعِيدٌ، وَاسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ نُزُولَ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ السُّورَةِ كُلِّهَا مَكِّيَّةً، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي وَاقِعَةِ الْمِفْتَاحِ تُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ الْآيَةَ مُحْتَجًّا، وَمُبَيِّنًا لِلْحُكْمِ فِيهَا. فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، وَأَزَالَ مِنْهَا تِمْثَالَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقِدَاحَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، عَادَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَرَأَ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ يُنْظَرُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْوَاقِعِ، وَتَحْدِيدُ التَّارِيخِ بِالتَّفْصِيلِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا.
ثَانِيهِمَا: بَيَانُ شَأْنِ الدِّينِ، وَسُنَّةِ التَّشْرِيعِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ رَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَلَا يَعْنُونَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَ
فِي نَفْسِ الْمَدِينَةِ بِالتَّفْصِيلِ كُلُّ آيَةٍ آيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَتِ الْمَدِينَةُ فِيهِ هِيَ عَاصِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُهُمْ وَنِظَامٌ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، أَوْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَحُكْمِ مَا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
يَغْلِبُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الْإِيجَازُ فِي الْعِبَارَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا لِمَا فِي التَّكْرَارِ مِنَ الْفَوَائِدِ ; لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا هُمْ أَبْلَغُ الْعَرَبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَتَبَارَى الْبُلَغَاءُ بِالْإِيجَازِ، وَيَغْلِبُ فِي مَعَانِيهَا تَقْرِيرُ كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، وَالِاحْتِجَاجُ لَهَا، وَالنِّضَالُ عَنْهَا، وَهِيَ التَّوْحِيدُ، وَالْبَعْثُ، وَعَمَلُ الْخَيْرِ، وَتَرْكُ الشَّرِّ، وَمُعْظَمُ الْحِجَاجِ فِيهَا مُوَجَّهٌ إِلَى دَحْضِ الشِّرْكِ، وَإِقْنَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَحِجَاجُهَا فِي الْغَالِبِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِيهَا تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا. فَإِذَا فَطِنْتَ لِهَذَا تَجَلَّى لَكَ أَفَنُ رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَنْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَوَائِلَهَا نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ، فَلَا شَيْءَ مِنْ أَحْكَامِهَا كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
افْتُتِحَتْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِأَحْكَامِ الْيَتَامَى وَالْبُيُوتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ، وَمُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ، وَحُقُوقُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ، ثُمَّ ذُكِرَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ فِيهَا بَيْنَ أَحْكَامِ الْبُيُوتِ، وَأَحْكَامِ الْقِتَالِ حِجَاجٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي أَثْنَاءِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَآدَابِهِ شَيْءٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ كَانَتْ أَوَاخِرُهَا فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ هُنَّ خَاتِمَتُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَمِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا: أَنَّ هَذِهِ قَدِ افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ مَا اخْتُتِمَتْ بِهِ تِلْكَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ تَشَابُهَ الْأَطْرَافِ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَنَّ هَذَا آكَدُ وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ. (وَمِنْهَا) مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمِنْهَا) ذِكْرُ شَيْءٍ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِتَالِ. (وَمِنْهَا) ذِكْرُ أَحْكَامِ الْقِتَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمِنْهَا) أَنَّ فِي هَذِهِ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي فُصِّلَتْ وَقَائِعُهَا وَحُكْمُهَا فِي
آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [٤: ٨٨] إلخ. كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِغَزْوَةِ (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ (أُحُدٍ) وَسَبَقَ ذِكْرُهَا فِي آلِ عِمْرَانَ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [٤: ١٠٤] وَسَيَأْتِي. وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا الْوَجْهُ، وَمَا قَبْلَهُ فِي رُوحِ الْمَعَانِي، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَا تَتَعَلَّقُ الْمُنَاسَبَةُ فِيهَا بِمُعْظَمِ الْآيَاتِ فَلَمْ أَرَهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ.