تفسير سورة آل عمران

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ نزّل عليك الكتاب بالحق... ﴾ [ آل عمران : ٣ ].
إن قلتَ : كيف قال هنا " نَزَّلَ " ثم قال : " وأَنْزَلَ " مرتين ؟
قلتُ : للاحتراز عن كثرة التكرار.
وخُصّ المشدّد بالأول لمناسبته " مصدّقا ".
وقيل : لأن القرآن نزل منجّما، والتوراة والإنجيل نزلا جملة واحدة، فحيث عُبِّر فيه ب " نَزَّل " أُريد الأول، أو " أنزل " أُريد الثاني.
ورُدّ الأول بقوله :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرءان جملة واحدة ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ].
والثاني بقوله :﴿ وأنزل الفرقان ﴾ [ آل عمران : ٤ ] إن أُريد به القرآن.
وبقوله :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾.
وبقوله :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ [ البقرة : ٤ ].
قوله تعالى :﴿ مصدّقا لما بين يديه... ﴾ [ آل عمران : ٣ ].
سمّى ما مضى بأنه " بين يديه " لغاية ظهور أمره.
قوله تعالى :﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ [ آل عمران : ٥ ].
قدّم الأرض على السماء هنا وفي موضع من " يونس " ( ١ ) و " إبراهيم " و " طه " و " العنكبوت ".. عكْسَ الغالب في سائر الآيات، لأن المخاطبين في الخمس كائنون في الأرض فقط، بخلافهم في غيرها كذا قيّد.
١ - في قوله تعالى: ﴿وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء﴾ يونس: ٦١..
قوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ﴾ [ آل عمران : ٧ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك و " مِنْ " للتبعيض، وقال في هود :﴿ كتاب أُحكمت آياته ﴾ [ هود : ١ ] وهو يقتضي إحكام آياته كلها ؟
قلتُ : المراد ب " المحكمات " هنا النّاسخات، أو العقليّات، أو ما ظهر معناها.
كما أن المراد ب " المتشابهات " المنسوخات، أو الشرعيات، أو ما كان في معناها غموض ودقّة.
والمراد بقوله :﴿ أُحكمت آياته ﴾ أن جميع القرآن صحيح ثابت، مصون عن الخلل والزّلل.
ولا تنافي بين " متشابهات " وقوله :﴿ والرّمان متشابها ﴾( ١ ) إذ المراد ب " متشابهات " ما مرّ.. وب " متشابهاً " أنه يشبه بعضه بعضا في الصِّحة، وعدم التناقض، وتأييد بعضه لبعض.
١ - أشار إلى قوله تعالى في سورة الزمر ﴿الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها﴾ وقد نبّه الشيخ رحمه الله إلى التوفيق بين آية "آل عمران" الدالة على أن القرآن نوعان: متشابه، ومحكم، وبين ما جاء في سورة "هود" أن القرآن كله محكم، وما جاء في سورة "الزمر" أن القرآن كله متشابه"، وخلاصة القول: أنه لا تعارض بين الآيات، إذ كل آية لها معنى خاص غير المعنى السابق، فقوله تعالى: ﴿أحكمت آياته﴾ بمعنى أنه ليس به عيب ولا خلل، وأنه كلام حق لا يتطرأ إليه الباطل، وقوله تعالى: ﴿كتابا متشابها﴾ أي أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن، وجودة النظم، وفصاحة الألفاظ، وعدم التناقض، وأما آية آل عمران ﴿منه آيات محكمات.. وأُخر متشابهات﴾ فيراد بالمحكم ما عُرف تأويله، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه..
قوله تعالى :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ [ آل عمران : ٩ ].
قاله بلفظ الغَيْبة، وقال في آخر السورة ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] بلفظ الخطاب.. لأن ما هنا متّصل بما قبله وهو قوله تعالى :﴿ ربّنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ﴾ [ آل عمران : ٩ ] اتصالا لفظيا فقط.
وما في آخرها متّصل بما قبله وهو قوله :﴿ ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] اتصالا لفظيا ومعنويا، لتقدم لفظ الوعد.
قوله تعالى :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا... ﴾ [ آل عمران : ١١ ].
قال هنا وفي موضع من الأنفال( ١ ) ﴿ كذّبوا ﴾ وفي آخر منها " كفروا " ( ٢ ) تفنّنا، جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام.
١ - في قوله تعالى: ﴿كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قويّ شديد العقاب﴾ الأنفال: ٥٢..
٢ - في قوله تعالى: ﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين﴾ الأنفال: ٥٤..
قوله تعالى :﴿ يرونهم مثليهم رأي العين... ﴾ [ آل عمران : ١٣ ].
أي ترى الفئة الكافرة المسلمة بمثلي عدد نفسها، أو بالعكس( ١ ) على الخلاف.
إن قلتَ : هذا ينافي قوله في الأنفال :﴿ وإذ يريكموهم إذِ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلّلكم في أعينهم ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] إذ قضيّته أن كلا منهما ترى الأخرى قليلة ؟
قلتُ : التقليل والتكثير في حالتين :
قلّل الله المشركين في نظر المؤمنين، وعكسه أولا، حتى اجترأت كلّ منهما على قتال الأخرى.
ثم كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين لما التقيا، حتى جَبُنوا وفشلوا.
وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين، وأراهم إيّاهم على ما هم عليه –وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين- ليعلموا صدق وعد الله في قوله ﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي " غزاة بدر " مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين.
١ - يريد القول الآخر للمفسرين، وهو أن الفئة المسلمة كانت ترى الفئة الكافرة مثليها وهذا هو الأرجح..
قوله تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو ﴾ [ آل عمران : ١٨ ].
كرّر فيها ﴿ لا إله إلا هو ﴾ لأن الأول قول الله، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم.
أو لأن الأول جرى مجرى الشهادة، والثاني مجرى الحكم بصحة ما شهدته الشّهود.
وقال جعفر الصادق : وصف، والثاني : تعليم، أي قولوا واشهدوا كما شهدت.
قوله تعالى :﴿ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ].
إن قلتَ : التولّي والإعراض واحد –كما مرّ في البقرة- فلم جَمَع بينهما ؟
قلتُ : لأن المعنى يتولون عن الدّاعي، ويعرضون عمّا دعاهم إليه وهو كتاب الله، أو يتولون بإيذائهم، ويعرضون عن الحقّ بقلوبهم.
أو كان الذي تولّى علماؤهم، والذي أعرض أتباعهم( ١ ).
١ - أقول: جملة ﴿وهم معرضون﴾ جاءت إسمية بعد الجملة الفعلية ﴿يتولى فريق منهم﴾ تأكيدا للتولي لإفادة الاستمرار، أي وهم قوم طبيعتهم الإعراض عن الحق، والإصرار على الباطل، فهذه فائدة الجملة والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ] خصّ الخير بالذكر –وإن كان بيده الشّر أيضا- لأن الكلام إنما ورد فيه، ردّا على المشركين فيما أنكروه، ووعد الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم، ووعد النبي صلى الله عليه وسلم به الصحابة رضي الله عنهم.
أو أراد الخير والشرّ، واكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر، كما في قوله تعالى :﴿ سرابيل تقيكم الحرّ... ﴾ ( ١ ) [ النحل : ٨١ ] وإنما خصّ الخير بالذكر لأنه هو المرغوب فيه.
١ - سورة النحل آية (٨١) ومعنى الآية أنه تعالى جعل لكم الثياب لتحفظكم من الحرّ والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر..
قوله تعالى :﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل... ﴾ [ آل عمران : ٢٧ ]. أي تدخله فيه بأن يزيد كلّ منهما ما نقص من الآخر.
قوله تعالى :﴿ ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ﴾ [ آل عمران : ٣٠ ]. كرّره توكيدا للوعيد( ١ ).
والأحسن –كمال قال التفتازانيّ- ما قيل : إنه ذكره أولا للمنع من موالاة الكافرين، وثانيا للحثّ على عمل الخير، والمنع من عمل الشرّ.
١ - جاء ذكر التحذير مرتين: في آية النهي عن موالاة الكافرين حيث قال: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير﴾ وفي آية المجازاة والحث على فعل الخير حيث قال ﴿ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد﴾..
قوله تعالى :﴿ وليس الذكر كالأنثى... ﴾ [ آل عمران : ٣٦ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكره مع أنه معلوم.
قلتُ : فائدته اعتذارها عما قالته ظنا، فإنها ظنت ما في بطنها ذكرا، فنذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس، وكان من شريعتهم صحة هذا الندر في الذكور خاصة، فلما خاب ظنها استحيت حيث لم يُقبل نذرها فقال ذلك، معتذرة أنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد( ١ )، فمن الله عليها بتخصيص " مريم " بقبولها في النذر، دون غيرها من الإناث فقال :﴿ فتقبّلها ربّها بقَبول حسن ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ].
١ - هذا على قول بعض المفسرين أن هذه الآية ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾ من قول امرأة عمران، فيكون هذا القول منها على سبيل الاعتذار، وقال آخرون: الجملة معترضة من كلام الله تعالى لها ومعنى الآية: ليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وُهبتها بل هذه أفضل، وهذا القول أظهر والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ].
إن قلتَ : كيف نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي، وأجابها وهو في الصلاة ؟
قلتُ : المراد بالصلاة هنا الدّعاء كقوله تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ].
فإن قلتَ : لم خصّ " يحيى " عليه السلام بقوله :﴿ مصدّقا بكلمة من الله ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] مع أن كل واحد من المؤمنين، مصدّق بجميع كلمات الله تعالى ؟
قلتُ : لأن معناه مصدّقا ب " عيسى " الذي كان وجوده بكلمة من الله تعالى وهو قوله : كن من غير أب في الوجود أو المرتبة، وكان تصديق يحيى لعيسى أصدق من تصديق كل أحد به.
قوله تعالى :﴿ قال ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر... ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ].
قدّم هنا ذكر " الكِبر " على ذكر المرأة، وعكس في " مريم " ( ١ ) لأن الذكر مقدّم على الأنثى، فقدّم كبَره هنا وأخّر ثَمَّ لتتوافق الفواصل في " عتيّا، وسوياّ، وعشيّا، وصبيّا " وغيرها.
فإن قلتَ : كيف استبعد زكريا ذلك، ولم يكن شاكا في قدرة الله تعالى عليه ؟
قلتُ : إنما قال ذلك تعجبا من قدرة الله تعالى، لا استبعاداً.
قوله تعالى :﴿ قال كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ]. قال في حقّ زكريا ﴿ يفعل ﴾ وفي حقّ مريم ﴿ يخلق ﴾( ٢ ) [ آل عمران : ٤٧ ]. مع اشتراكهما في بشارتهما بولد.
لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق، بل نادر بعيد فحسن التعبير ب " يفعل ".
واستبعاد مريم كان لأمر خارق، فكان ذكر " الخلق " أنسب.
١ - في مريم ﴿قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا﴾ مريم: ٨..
٢ - في قوله تعالى: ﴿قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ والسرّ في هذا التفريق هو أن خلق عيسى من غير أب إيجاد واختراع، من غير سبب عادي، فناسبه ذكر الخلق، وهناك الزوج والزوجة موجودان، ولكن وجود الشيخوخة والعقم مانع في العادة من وجود الولد، فناسبه ذكر الفعل والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا... ﴾ [ آل عمران : ٤١ ].
إن قلتَ : ما الجمع بين قوله هنا " ثلاثة أيام " وقوله في مريم " ثلاث ليال " ؟
قلتُ : كل منهما مقيّد بالآخر، فلا بد من الجمع بينهما.
قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾ [ آل عمران : ٤٢ ].
كرّر " اصطفاك " لأن الاصطفاء الأول للعبادة التي هي خدمة " بيت المقدس " وتخصيص مريم بقبولها في النّذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني لولادة عيسى.
قوله تعالى :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم... ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ].
إن قلتَ : كيف نفى وجود النبي صلى الله عليه وسلم في زمن مريم، مع أنه معلوم عندهم، وترك ما كانوا يتوهمونه من استماعه ذلك الخبر من حُفّاظه ؟
قلتُ : لأنهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وإنما كانوا منكرين للوحي، فنفى الله الوجود الذي هو غاية الاستحالة، على وجه التهكّم بالمنكرين للوحي، مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية.
قوله تعالى :﴿ اسمه المسيح عيسى ابن مريم... ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ]. فيه التفات إذ القياس " ابْنُكِ ".
فإن قلت : كيف قال " ابن مريم " والخطاب معها، وهي تعلم أن الولد الذي بُشّرت به يكون ابنها ؟
قلتُ : لأن الناس يُنسبون إلى الآباء، لا إلى الأمهات، فأُعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه.
قوله تعالى :﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴾ [ آل عمران : ٤٦ ].
إن قلت : أي معجزة لعيسى عليه السلام في تكليمه الناس كهلا ؟
قلتُ : معناه تكلّمه في الحالتين بكلام الأنبياء، من غير تفاوت بين الطفولة والكهولة، التي يستحكم فيها العقل وتُنبّأ فيها الأنبياء.
وقال الزّجاج : هذا أُخرج مخرج البشارة لمريم، ببقاء " عيسى " إلى وقت الكهولة( ١ ).
١ - هذا دلالة واضحة على حياة سيدنا عيسى عليه السلام، وأنه سينزل في آخر الزمان يحدّث الناس في زمن كهولته، ففي الآية البشارة ببقاء السيد المسيح حتى يستكمل بقية حياة..
قوله تعالى :﴿ قلت رب أنى يكون لي ولد... ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ].
قال هنا ﴿ ولد ﴾ وفي مريم " غلام ".
لأن ذكر المسيح تقدّم هنا وهو ولدها، وفي مريم تقدّم ذكر الغلام.
قوله تعالى :﴿ إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله... ﴾ ( ١ ) [ آل عمران : ٤٩ ] الآية.
نسبة هذه الأفعال إلى عيسى، لكونه سببا فيها ومعنى " بإذن الله " بإرادته، وقال هنا " فأنفخ فيه " وفي المائدة ﴿ فتنفخ فيها ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] بإعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين، وفي المائدة إلى هيئة الطّير، تفنّنا جريا على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام. وخصّ ما هنا بتوحيد الضمير مذكرا، وما في المائدة بجمعه مؤنثا( ٢ )  ! !
قيل : لأن ما هنا إخبار من عيسى قبل الفعل فوحّده، وما في المائدة خطاب من الله له في القيامة، وقد سبق من عيسى الفعل مرّات فجمعه.
قوله تعالى :﴿ بإذن الله... ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ].
ذُكر هنا مرتين بهذا اللفظ، وفي المائدة أربعا بلفظ " بإذني "   ! ! لأنه هنا من كلام عيسى، وثم من كلام الله.
١ - في قوله تعالى: ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني.. ﴾ المائدة: ١١٠..
٢ - أراد قوله تعالى: ﴿فتنفخ فيها﴾ في المائدة بصيغة الجمع المؤنث، وفي آل عمران ﴿فأنفخ فيه﴾ بتوحيد الضمير مذكرا..
قوله تعالى :﴿ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾ [ آل عمران : ٥١ ]. وهو كقوله في مريم ﴿ وإن الله ربي وربكم ﴾ وقال : في الزخرف ﴿ إن الله هو ربي وربكم ﴾ بضمير الفعل، الدّال على حصر المبتدأ في الخبر، بمعنى إن الله ربي لا أب كما زعمت النصارى، ولم يتقدم ذلك ما يغني عن الحصر، فحسن ذكر " هو " بخلافه في الأخريين، فإنه ذكر في آل عمران عشر آيات من قصة مريم وعيسى، وفي مريم عشرون آية منها، فأغنى ذلك فيهما عن ذكر " هو ".
قوله تعالى :﴿ واشهد بأننا مسلمون ﴾ [ آل عمران : ٥٢ ].
قال هنا ب " أنا " وفي المائدة( ١ ) ب " أننا " لأن ما فيها أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى، فناسب فيه التخفيف، لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى.
١ - في قوله تعالى ﴿قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾ المائدة: ١١١..
قوله تعالى :﴿ إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي.. ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ].
إن قلتَ : كيف قاله والله رفعه ولم يتوفّه ؟
قلتُ : لما هدّده اليهود بالقتل، بشّره بأنه لا يقبض روحه، إلا بالوفاة لا بالقتل، والواو لا تقتضي الترتيب. أو إني متوفّي نفسك بالنوم( ١ ) من قوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها... ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] ورافعك وأنت نائم لئلا تخاف، بل تستيقظ وأنت في السماء آمن مقرّب.
١ - هذا القول ضعيف، والصحيح أن معناه إني رافعك إلى السماء حيا بروحك وجسدك، ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك، فهو من المقدّم والمؤخر – كما قال قتادة- والمقصود بشارته عليه السلام بنجاته من اليهود، ورفعه إلى السماء حيا سالما دون أذى منهم، ثم بعد انتهاء حياته على وجه الأرض سيموت كما يموت سائر البشر، وفي الآية ردّ على النصارى في زعمهم أنه إله، فكيف يموت لو كان ربا وإلها !! أو نقول: إنه وعد لعيسى باستيفاء كامل عمره، أي إني موفيك يا عيسى أجلك كاملا ثم أميتك عند انتهاء الأجل، فيكون من التوفية لا من الوفاة..
قوله تعالى :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم... ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
إن قلتَ : كيف قاله وآدم خلق من التراب، وعيسى من الهواء، وآدم خلق من غير أب وأم، وعيسى خلق من أم.
قلتُ : المراد تشبيه به في الوجود بغير أب، والتشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه.
قوله تعالى :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك... ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ].
إن قلتَ : لم خصّ أهل الكتاب بذلك، مع أن غيرهم منهم الأمين والخائن ؟
قلتُ : إنما خصّهم باعتبار واقعة الحال، إذ سبب نزول الآية أن " عبد الله بن سلام " أُودع ألفا ومائتي أوقية من الذهب، فأدّى الأمانة فيها، و " فنحاص بن عازوراء " أُودع دينارا فخانه. ولأن خيانة أهل الكتاب المسلمين، تكون عن استحلال( ١ ) بدليل آخر الآية، بخلاف خيانة المسلم المسلمَ.
١ - أشار المؤلف رحمه الله إلى قوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل﴾ أي ليس علينا في أكل أموال العرب إثم أو حرج فاستحلّوا أموالهم..
قوله تعالى :﴿ وأخذتم على ذلكم إصري... ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] أي عهدي( ١ ).
١ - نبّه الشيخ إلى أن الإِصر كما يطلق على الثقل والشدة كما في قوله تعالى: ﴿ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا﴾ كذلك يُطلق على العهد ﴿وأخذتم على ذلكم إصري﴾ أي عهدي، سُمّي إصرا لأنه مما يُشدّ ويُعقد..
قوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها... ﴾ [ آل عمران : ٨٣ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن أكثر الإنس والجن كفرة ؟
قلتُ : المراد بهذا الاستسلام والانقياد لما قدّره عليهم، من الحياة والموت، والمرض والصّحة، والشقاء والسعادة( ١ )، ونحوها.
١ - هذا أحد الأقوال في تفسير الآية، وقال بعضهم معنى ﴿طوعا وكرها﴾ المسلم أسلم طوعا فنفعه إسلامه، والكافر أسلم كارها في وقت البأس والشدّة فلم ينفعه ذلك، كقوله ﴿فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده... ﴾ الآية وهذا قول قتادة وهو الأظهر..
قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم... ﴾ [ آل عمران : ٩٠ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن المرتدّ وإن ازداد ارتداده مقبول التوبة ؟
قلتُ : الآية نزلت في قوم ارتدّوا، ثم أظهروا التوبة بالقول، لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم( ١ ).
١ - وقيل: نزلت في اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد والقرآن، فأمثال هؤلاء مطبوع على قلوبهم، وتوبتهم كاذبة فلذلك لن تُقبل منهم التوبة..
قوله تعالى :﴿ قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من ءامن تبغونها عوجا... ﴾ [ آل عمران : ٩٩ ] قال ذلك هنا، وقال في الأعراف( ١ ) :﴿ من آمن به وتبغونها عوجا... ﴾ [ الأعراف : ٨٦ ] بزيادة " به " و " الواو " جريا هناك على الأصل، في ذكر " به " لكونه معمولا، وذكر " واو العطف " إذ مدخولها معطوف على " توعدون " المعطوف عليه " تَصُدّون " وجريا هنا على موافقة " ومن كفر " في عدم ذكر " به ".
وإنما لم يذكر الواو هنا، لأن " تبغونها " وقع حالا، والواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالا، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تمنن تستكثر ﴾ [ المدثر : ٦ ].
١ - في قوله: ﴿ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدّون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا... ﴾ الأعراف:: ٨٦..
قوله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس... ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، ولم يقل : أنتم خير أمة ؟
قلتُ : لأن معناه : كنتم في سابق علم الله، أو في يوم أخذ الميثاق على الذرية.
فأعلم بذلك أن كونهم خير أمة، صفة أصلية فيهم، لا عارضة متجدّدة، أو معنى " كنتم " وُجدتم، بجعل " كان " تامّة.
قوله تعالى :﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم... ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن غير الإيمان لا خير فيه، حتى يُقال إن الإيمان خير منه ؟
قلتُ : ليس " خير " هنا أفعل تفضيل، بل هو خير، أو هو أفعل تفضيل، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم مع إيمانهم بموسى وعيسى، خير من إيمانهم بموسى وعيسى فقط.
قوله تعالى :﴿ كمثل ريح فيها صرّ... ﴾ [ آل عمران : ١١٧ ] الآية. أي حرّ أو برد شديد( ١ ).
١ - نبّه المؤلف إلى أن معنى الصِرّ: الحر الشديد، أو البرد الشديد، وأصل الصرّ من الصرير الذي هو الصوت، ويراد به في الآية الريح الشديدة الباردة التي لها صوت مزعج..
قوله تعالى :﴿ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها... ﴾ [ آل عمران : ١٢٠ ] وصف " الحسنة " بالمسّ، و " السيئة " بالإصابة، توسعة في العبارة، وإلا فهما بمعنى واحد( ١ ) في الأمرين، قال تعالى :﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾ [ التوبة : ٥٠ ].
وقال تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ [ النساء : ٧٩ ].
وقال تعالى :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسّه الشر جزوعا ﴾ [ المعارج : ١٩-٢٠ ]
١ - وذهب بعض المفسرين إلى أن التعبير بالمسّ ﴿إن تمسسكم حسنة﴾. والتعبير بالإصابة ﴿وإن تصبكم سيئة﴾ فيه إشارة لطيفة، إلى أن الحسنة ولو كانت بأيسر الأشياء، تسوء الأعداء، ولو كانت مسّا خفيفا، وأن المصيبة لا تشمتهم إلا إذا كانت عظيمة ومتمكنة إلى الحدّ الذي يشفي غليلهم، وهذا من أسرار بلاغة القرآن والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به... ﴾ [ آل عمران : ١٢٦ ] هذه تخالف آية الأنفال( ١ ) في ثلاثة أمور :
أ- لأنه ذكر في هذه " لكم " لتمام القصة قبلها، وتركها ثَمّ إيجازا أو اكتفاءً بذكره له قبل في قوله «فاستجاب لكم ».
ب- وقدّم " قلوبكم " على " به " هنا، وعكس في الأنفال ليزاوج بين الخطائين هنا في " لكم " و " قلوبكم ".
ج- وذكر هنا وصفي " العزيز " و " الحكيم " تابعين بقوله ﴿ العزيز الحكيم ﴾ [ آل عمران : ٦٢ ] وثَمّ ذكرهما في جملة مستأنفة بقوله ﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] لأنه لمّا خاطبهم هنا، حسُن تعجيل بشارتهم بأنّ ناصرهم عزيز حكيم. ولأن ما هناك قصة " بدر " وهي سابقة على ما هنا، فإنها في قصة " أُحد " فأخبر هناك بأنه " عزيز حكيم " وجعل ذلك هنا صفة لأن الخبر قد سبق.
١ - في قوله تعالى :﴿وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم﴾ الأنفال: ١٠..
قوله تعالى :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم... ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] أي إلى أسبابها كالتوبة( ١ ).
إن قلتَ : كيف قال ذلك وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( العجلة من الشيطان، والتأني من الرحمن ) ؟   !
قلتُ : استُثني منه –بتقدير صحته- التوبة، وقضاء الدّين الحالِّ، وتزويج البكر البالغ، ودفن الميت، وإكرام الضيف.
١ - نبّه المؤلف إلى أن المسارعة في أعمال الخير، لا تدخل في العجلة المنهيّ عنها، فإن الأعمال الصالحة تنبغي المبادرة إليها كما قال تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال.. ) الحديث..
قوله تعالى :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم... ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] صرّح بذكر الفاحشة مع دخولها في ظلم النفس، لأن المراد بها نوع من أنواع ظلم النفس، وهو الزنى، أو كلّ كبيرة، وخُصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه.
قوله تعالى :﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله... ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] أي يسترها.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنه قال :﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ [ الشورى : ٣٧ ] وقال :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله ﴾ ؟ [ الجاثية : ١٤ ].
قلتُ : معناه ومن يغفر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله ؟ وهذا لا يوجد من غيره.
قوله تعالى :﴿ ونعم أجر العاملين ﴾ [ آل عمران : ١٣٦ ]. ذكره بواو العطف هنا، وتركها في العنكبوت( ١ )، لوقوع مدلولها هنا بعد خبرين متعاطفين بالواو، فناسب عطفه بها ربطا، بخلاف ما في العنكبوت إذ لم يقع قبل ذلك إلا خبر واحد. كنظيره في الأنفال في قوله ﴿ نعم المولى ونعم النّصير ﴾( ٢ ) [ الأنفال : ٤٠ ].
ونظير الأول قوله في الحج " فنعم المولى " وإن كان العطف فيه بالفاء.
١ - في قوله تعالى: ﴿غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين﴾ العنكبوت: ٥٨..
٢ - في قوله تعالى: ﴿وإن تولّوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النّصير﴾ الأنفال: ٤٠..
قوله تعالى :﴿ وليعلم الله الذين آمنوا... ﴾ [ آل عمران : ١٤٠ ] الآية. معطوف على مقدَّر، والتقدير، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليتعظوا وليعلم الله الذين آمنوا.
قوله تعالى :﴿ ومن يغلُل يأت بما غلّ يوم القيامة... ﴾ [ آل عمران : ١٦١ ] الآية.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، وقد قال ﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] ؟
قلتُ : معناه يأتي به مكتوبا في ديوانه، أو يأتي به حاملا إثمه( ١ ).
ومعنى " فُرادى " منفردين عن أهل، ومال، وشركاء، ينتصرون بهم.
١ - ورد في الحديث الشريف أنه يأتي حاملا له على عنقه يوم القيامة، فضيحة له على رؤوس الأشهاد، ولا ينافي هذه الآية الكريمة ﴿ولقد جئتمونا فرادى﴾ فإن المراد أنهم يأتون بلا أعوان ولا أنصار، وبدون أهل أو ولد..
قوله تعالى :﴿ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ﴾( ١ ) [ آل عمران : ١٦٣ ] أي ذوو درجات.
فإن قلتَ : الضمير في " هم " يعود على الفريقين، وأهل النار لهم دركات لا درجات ؟
قلتُ : الدّرجات تُستعمل في الفريقين، قال تعالى :﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾( ٢ ) [ الأنعام : ١٣٢ ] وإن افترقتا عند المقابلة في قولهم : المؤمنون في درجات، والكفار في دركات.
قوله تعالى :﴿ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق... ﴾ [ الحج : ١٠ ] قال ذلك مع أنهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما قتلوا أنبياء قط، لكنهم لما رضوا بقتل أسلافهم أنبياءهم، نُسب الفعل إليهم.
١ - قال تعالى: ﴿ولكل درجات مما عملوا وما ربّك بغافل عمّا يعملون﴾ الأنعام: ١٣٢..
٢ - قال تعالى: ﴿ذلك بما قدّمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ الحج: ١٠..
قوله تعالى :﴿ ذلك بما قدّمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ [ آل عمران : ١٨٢ ] قاله هنا.. بجمع اليد، لأنه نزل في قوم تقدّم ذكرهم، وقال في الحج بتثنيتها لأنه نزل في " النظر بن الحارث " أو في " أبي جهل " والواحد ليس له إلا يدان.
قوله تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾.
فإن قلتَ : " ظلام " صيغة مبالغة من الظلم، ولا يلزم من نفيها نفيه، مع أنه منفيّ عنه قال تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ ؟ [ الكهف : ٤٩ ].
قلتُ : صيغة المبالغة هنا لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم، كما في قوله تعالى :﴿ محلّقين رؤوسهم ﴾ [ الفتح : ٢٧ ] إذ التشديد فيه لكثرة الفاعلين، لا لتكرار الفعل.
أو الصيغة هنا للنسبة، أي لا يُنسب إليه ظلم، فالمعنى ليس بذي ظلم.
قوله تعالى :﴿ فإن كذّبوك فقد كُذّب رسل من قبلك... ﴾ [ آل عمران : ١٨٤ ] جواب الشرط محذوف، إذ لا يصلح قوله :﴿ فقد كُذّب رسل من قبلك ﴾ جوابا له، لأنه سابق عليه.
والتقدير : فإن كذّبوك فتأسّ بمن كُذب من الرسل قبلك، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب.
قوله تعالى :﴿ كل نفس ذائقة الموت... ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ] أي أجسادها إذ النفس لا تموت، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها، لأن الحياة شرط في الذوق وسائر الإدراكات، وقوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] معناه حين موت أجسادها.
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّنه للناس ولا تكتمونه... ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ].
إن قلتَ : ما فائذة :﴿ ولا تكتمونه ﴾ بعد ﴿ لتبيّنه للناس ﴾ مع أنه معلوم منه ؟
قلتُ : فائدته التأكيد، أو المعنى لتبيننّه في الحال، ولا تكتمونه في المستقبل.
قوله تعالى :﴿ ربّنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته... ﴾ [ آل عمران : ١٩٢ ].
إن قلتَ : هذا يقتضي خزي كل من يدخلها، وقوله :«يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه » يقتضي انتفاء الخزي عن المؤمنين فلا يدخلون النار ؟
قلتُ : " أخزى " في الأول من " الخِِزْي " وهو الإذلال والإهانة، وفي الثاني من " الخِزاية " وهي النِّكال والفضيحة، وكلّ من يدخل النار يذلّ، وليس كلّ من يدخلها يُنكّل به.
فالمراد بالخزي في الأول الخلود... وفي الثاني تحلّة القسم. أو التطهير بقدر ذنوب الداخل.
قوله تعالى :﴿ ربّنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان... ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ].
إن قلتَ : المسموع النّداء لا المنادي ؟
قلتُ : لما قال ﴿ مناديا ينادي ﴾ صار معناه : نداء مناد، كما يقال : سمعت زيدا يقول كذا، أي سمعت قوله، فمناديا مفعول سمع، و " ينادي " حال دالّة على محذوف مضاف للمفعول.
قوله تعالى :﴿ ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ].
فإن قلتَ : كيف قال الثاني مع أنه معلوم من الأول ؟
قلتُ : المعنى مختلف، لأن الغفران مجرّد فضل، والتكفير محو السيئات بالحسنات.
قوله تعالى :﴿ ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك... ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] أي على ألسنتهم.
فإن قلتَ : ما فائدة الدّعاء، مع علمهم أن الله لا يخلف الميعاد ؟
قلتُ : فائدته العبادة، لأن الدّعاء عبادة، مع أن الوعد من الله للمؤمنين عام، يجوز أن يراد به الخصوص، فسألوا الله أن يجعلهم ممن أرادهم بالوعد.
قوله تعالى :﴿ لا يغرّنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ]. النّهي في اللفظ " للتقّلب " وفي الحقيقة " للنبي " والمراد أمته.
والقصد بذلك النهي عن الاغترار بالتقلّب، ففي ذكر الغرور تنزيل السبب منزلة المسبّب، والمنع عن السبب –وهو غرور تقلّبهم له- منع للمسبّب وهو الاغترار بتقلبهم.
والمراد بتقلبهم : تصرّفهم في التجارات، والأموال، والانتقال بها في البلاد متنعّمين، والفقير إنما يتألم وينكسر قلبُه، إذا رأى الغنيّ يتقلّب ويتمتع بها، فلذلك ذكر التقلب.
Icon