ﰡ
يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يؤول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرنا أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن. يبيّن أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد ؛ لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله :﴿ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ ﴾، وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾، وقوله :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾، وقوله :﴿ ذلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. قال ابن جرير الطبري : وأصل التأويل من آل الشيء إلى كذا إذا صار إليه، ورجع يؤول أو لا، وأولته أنا صيرته إليه، وقال : وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى :
على أنها كانت تأول حبها *** تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال : ويعني بقوله : تأول حبها مصير حبها، ومرجعه وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرًا في قلبه فآل من الصغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديمًا كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب، فصار كبيرًا مثل أمه. قال وقد ينشد هذا البيت :
على أنها كانت توابع حبها *** توالي ربعي السقاب فأصحبا
اه.
وعليه فلا شاهد فيه، والربعي السقب الذي ولد في أول النتاج، ومعنى أصحب انقاد لكل من يقوده، ومنه قول امرئ القيس :
ولست بذي رثية إمر *** إذا قيد مستكرهًا أصحبا
والرثية : وجع المفاصل، والإمرَّ : بكسر الهمزة وتشديد الميم مفتوحة بعدها راء، هو الذي يأتمر لكل لكل أحد ؛ لضعفه. وأنشد بيت الأعشى المذكور الأزهري وصاحب اللسان :
ولكنها كانت نوى أجنبيه *** توالي ربعي السقاب فأصحبا
وأطالا في شرحه وعليه فلا شاهد فيه أيضًا.
تنبيه : اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات :
الأول : هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، وهذا هو معناه في القرآن.
الثاني : يراد به التفسير والبيان، ومنه بهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس :« اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ». وقول ابن جرير وغيره من العلماء، القول في تأويل قوله تعالى : كذا وكذا أي : تفسيره وبيانه. وقول عائشة الثابت في الصحيح : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي » يتأول القرآن تعني يمتثله ويعمل به، واللَّه تعالى أعلم.
الثالث : هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك، وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح :
الأولى : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح، والتأويل القريب كقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح :« الجار أحق بصقبه »، فإن ظاهره المتبادر منه ثبوت الشفعة للجار، وحمل الجار في هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حمل له على محتمل مرجوح، إلا أنه دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأنه إذا صرفت الطرق وضربت الحدود، فلا شفعة.
الحالة الثانية : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلاً وليس بدليل في نفس الأمر، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد، والتأويل البعيد، ومثل له الشافعية، والمالكية، والحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة رحمه اللَّه المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم :« أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل » على المكاتبة، والصغيرة، وحمله أيضًا رحمه اللَّه المسكين في قوله :﴿ ستين مسكنًا ﴾ على المد، فأجاز إعطاء ستين مدًا لمسكين واحد.
الحالة الثالثة : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبًا، كقول بعض الشيعة :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾، يعني عائشة رضي اللَّه عنها، وأشار في مراقي السعود إلى حد التأويل، وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفًا للتأويل :
حمل لظاهر على المرجوح *** واقسمه للفاسد والصحيح
صحيحه وهو القريب ما حمل *** مع قوة الدليل عند المستدل
وغيره الفاسد والبعيد *** وما خلا فلعبا يفيد
إلى أن قال :
فجعل مسكين بمعنى المد ***عليه لائح سمات البعد
كحمل مرأة على الصغيره *** وما ينافي الحرة الكبيره
وحمل ما ورد في الصيام *** على القضاء مع الالتزام
أما التأويل في اصطلاح خليل بن إسحاق المالكي الخاص به في « مختصره »، فهو عبارة عن اختلاف شروح « المدونة » في المراد عند مالك رحمه اللَّه وأشار له في " المراقي " بقوله :
والخلف في فهم الكتاب صيّر *** إياه تأويلاً لدى المختصر
والكتاب في اصطلاح فقهاء المالكية « المدونة » قوله تعالى :﴿ وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾، لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف، فيكون قوله :﴿ وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾، مبتدأ، وخبره يقولون، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا اللَّه وحده، والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة، فيكون قوله :﴿ وَالراسِخُونَ ﴾، معطوفًا على لفظ الجلالة، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله الراسخون في العلم أيضًا، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة، قال ابن قدامة : في روضة الناظر ما نصّه : ولأن في الآية قرائن تدل على أن اللَّه سبحانه، متفرد بعلم المتشابه، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾، لفظًا ومعنى، أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال : ويقولون آمنا به بالواو، أما المعنى فلأنه ذم مبتغى التأويل، ولو كان ذلك للراسخين معلومًا لكان مبتغيه ممدوحًا لا مذمومًا ؛ ولأن قولهم آمنا بِهِ، يدلّ على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم : كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره، وأنه صدر من عنده، كما جاء من عنده المحكم ؛ ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الَذين في قلوبهم زيغ مع وصفة إياهم باتباع المتشابه وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة، وهم الراسخون. ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرنا. اه من الروضة بلفظه.
ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئًا وأثبته لنفسه، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾، وقوله :﴿ لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ﴾، وقوله :﴿ كُلُّ شَيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾، فالمطابق لذلك أن يكون قوله :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾، معناه : أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال : لو كانت الواو في قوله :﴿ والراسخون ﴾ لِلنسقِ، لم يكن لقوله :﴿ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا ﴾، فائدة والقول بأن الوقف تام على قوله :﴿ إِلاَّ اللَّهُ ﴾، وأن قوله :﴿ والراسخون ﴾، ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا.
وممن قال بذلك عمر، وابن عباس، وعائشة وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وابن مسعود، وأُبي بن كعب، نقله عنهم القرطبي وغيره ونقله ابن جرير، عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد.
وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم : آمنا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا، والقول بأن الواو عاطفة مروي أيضًا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر :
الريح تبكي شجوها *** والبرق يلمع في الغمامة
فيحتمل أن يكون والبرق مبتدأ، والخبر يلمع كالتأويل الأول، فيكون مقطوعًا مما قبله، ويحتمل أن يكون معطوفًا على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعًا.
واحتجّ القائلون بأن الواو عاطفة بأن اللَّه سبحانه وتعالى مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال.
قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو : هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. انتهى منه بلفظه.
قال مقيده عفا اللَّه عنه يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام اللَّه جلّ وعلا :﴿ آمنا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا ﴾، بخلاف غير الراسخين فإنهم يتَّبِعون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وهذا ظاهر.
وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره « الكشاف ». واللَّه تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
وقال بعض العلماء : والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا هي عاطفة، جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :« اللهمّ علمه التأويل »، أي : التفسير وفهم معاني القرآن، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه. والذين قالوا هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يؤول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا اللَّه، وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران : الأول قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما : " التفسير على أربعة أنحاء : تفسير : لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللَّه ". فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا اللَّه بمعنى التفسير لا ما تؤول إليه حقيقة الأمر.
وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور. الثاني : أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا اللَّه إذ لم يقم دليل على شيء معين أنه هو المراد بها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا من لغة العرب. فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل.
تنبيهان
الأول : اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة يقولون مستشكل من ثلاث جهات : الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون، دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة. والمعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معًا كقولك : جاء زيد وعمرو راكبين.
وقوله تعالى :{ وَسَخَّر لَ
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئًا، وذكر أنهم وقود النار أي : حطبها الذي تتقد فيه، ولم يبين هنا هل نفيه لذلك تكذيب لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم، وبيّن في مواضع أُخر أنهم ادعوا ذلك ظنًّا منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضًا فكذبهم في آيات كثيرة، فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وقال لأوتين مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾، يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا. وقوله :﴿ وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى ربّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾، أي : بدليل ما أعطاني في الدنيا، وقوله :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى ربّي لأجدن خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ٣٦ ﴾، قياسًا منه للآخرة على الدنيا ورد اللَّه عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله هنا :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ﴾، وقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ٥٦ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بالتي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ١٧٨ ﴾، وقوله :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ١٨٢ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كيدي مَتِينٌ ١٨٣ ﴾. إلى غير ذلك من الآيات.
وصرح في موضع آخر أن كونهم وقود النار المذكور هنا على سبيل الخلود وهو قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١٦ ﴾.
لم يبيّن هنا من هؤلاء الذين من قبلهم وما ذنوبهم التي أخذهم اللَّه بها.
وبيّن في مواضع أُخر أن منهم قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب ؛ وأن ذنوبهم التي أخذهم بها هي الكفر باللَّه، وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي، كعقر ثمود للناقة وكلواط قوم لوط، وكتطفيف قوم شعيب للمكيال والميزان، وغير ذلك كما جاء مفصلاً في آيات كثيرة كقوله في نوح وقومه :﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ١٤ ﴾، ونحوها من الآيات وكقوله في قوم هود :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ٤١ ﴾ الآية ونحوها من الآيات. وكقوله في قوم صالح :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصيحة ﴾ الآية ونحوها من الآيات. وكقوله في قوم لوط :﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾ الآية ونحوها من الآيات. وكقوله في قوم شعيب :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٨٩ ﴾، ونحوها من الآيات.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي : علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به.
وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بيّنة أي : لا لبس في الحق معها وذلك في قوله :﴿ لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ ﴾.
وصرح أيضًا بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل، وهو قوله :﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف.
ولكنه قد بيّن في مواضع أُخر أنها ثمانية أصناف هي الجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز كقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾، ثم بيّن الأنعام بقوله :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ﴾، يعني الكبش والنعجة :﴿ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾، يعني : التيس والعنز إلى قوله :﴿ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ ﴾ يعني : الجمل والناقة، ﴿ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾، يعني : الثور والبقرة وهذه الثمانية هي المرادة بقوله :﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْواجٍ ﴾، وهي المشار إليها بقوله :﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً ﴾ الآية.
تنبيه : ربما أطلقت العرب لفظ النعم على خصوص الإبل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :« من حمر النعم » يعني : الإبل. وقول حسان رضي اللَّه عنه :
وكانت لا يزال بها أنيس | خلال مروجها نعم وشاء |
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلّ وعلا ذلك المتبع، وذلك يدل على أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾.
تنبيه : يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة للَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر ؛ إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر :
لو كان حبك صادقًا لأطعته | إن المحب لمن يحب مطيع |
ومن لو نهاني من حبه | عن الماء عطشان لم أشرب |
قالت :
وقد سألت عن حال عاشقها | باللَّه صفه ولا تنقص ولا تزد |
لم يبيّن هنا القدر الذي بلغ من الكبر، ولكنه بيّن في سورة مريم أنه بلغ من الكبر عتيًا. وذلك في قوله تعالى عنه :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ٨ ﴾، والعتي : اليبس والقحول في المفاصل والعظام من شدة الكبر.
وقال ابن جرير في تفسيره : وكل متناه إلى غايته في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس قوله تعالى عن زكريا :﴿ امرأتي عَاقِرًا ﴾، لم يبيّن هنا هل كانت كذلك أيام شبابها، ولكنه بيّن في سورة مريم أنها كانت كذلك قبل كبرها بقوله عنه :﴿ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا ﴾ الآية.
لم يبين هل المانع له من كلام الناس بكم طرأ له، أو آفة تمنعه من ذلك. أو لا مانع له إلا اللَّه وهو صحيح لا علة له.
ولكنه بيّن في سورة مريم، أنه لا بأس عليه. وأن انتفاء التكلم عنه لا لبكم، ولا مرض وذلك في قوله تعالى :﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تكلم الناس ثلاثة أيام سويا ١٠ ﴾ ؛ لأن قوله سوياً حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة، لا لاعتقال اللسان بمرض، أي : يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه، في حال كونك سوي الخلق سليم الجوارح، ما بك شائبة بكم ولا خرس، وهذا ما عليه الجمهور، ويشهد له قوله تعالى :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِالْعَشِي وَالإبْكَارِ ٤١ ﴾.
وعن ابن عباس : " أن سويًّا عائد إلى الليالي ". أي : كاملات مستويات، فيكون صفة الثلاث، وعليه فلا بيان بهذه الآية لآية آل عمران.
لم يبيّن هنا هذه الكلمة التي أطلقت على عيسى ؛ لأنها هي السبب في وجوده من إطلاق السبب وإرادة مسببه، ولكنه بيّن في موضع آخر أما أنها لفظة كن، وذلك في قوله :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ﴾، وقيل : الكلمة بشارة الملائكة لها بأنها ستلده واختاره ابن جرير، والأول قول الجمهور.
لم يبيّن هنا ما كلمهم به في المهد. ولكنه بيّنه في سورة مريم بقوله :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً ٢٩ قَالَ إني عَبْدُ اللَّهِ آتاني الْكِتَابَ وجعلني نَبِيّاً ٣٠ وجعلني مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً ٣١ وَبَرّاً بوالدتي وَلَمْ يجعلني جَبَّاراً شَقِيّاً ٣٢ وَالسَّلامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ٣٣ ﴾.
أشار في هذه الآية إلى قصة حملها بعيسى وبسطها مبينة في سورة مريم بقوله :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ١٦ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً ١٧ ﴾. إلى آخر القصة وبين النفخ فيها في سورة التحريم والأنبياء، معبرًا في التحريم بالنفخ في فرجها، وفي الأنبياء بالنفخ فيها.
لم يبيّن هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى، ولكنّه بيّن في سورة الصف، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نصرة اللَّه ودينه، وذلك في قوله تعالى :﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر اللَّه باليهود، ولكنه بيّن في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله، وذلك في قوله :﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾، وبيّن أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام، وذلك في قوله :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبّهَ لَهُمْ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ١٥٧ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ الآية.
قال بعض العلماء : أي منيمك ورافعك إليَّ في تلك النومة ويستأنس لهذا التفسير بالآيات التي جاء فيها إطلاق الوفاة على النوم، كقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل ﴾ الآية. وقوله :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا ﴾.
لم يبيّن هنا ما وجه محاجتهم في إبراهيم.
ولكنه بيّن في موضع آخر أن محاجتهم في إبراهيم هي قول اليهود : إنه يهودي، والنصارى : إنه نصراني، وذلك في قوله :﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أأنتم أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾، وأشار إلى ذلك هنا بقوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٦٦ مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا ﴾ الآية.
قال بعض العلماء : يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، وهذا التفسير يشهد له قوله تعالى :﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إني تُبْتُ الآن وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾. وقد تقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولاسيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا.
وقال بعض العلماء : معنى لن تقبل توبتهم لن يوفقوا للتوبة حتى تقبل منهم ويشهد له قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سبيلا ١٣٧ ﴾، فعدم غفرانه لهم لعدم هدايتهم السبيل الذي يغفر لصاحبه ونظيرها قوله تعالى :﴿ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ١٦٨ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ﴾. قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَبًا ﴾ الآية. صرّح في هذه الآية الكريمة، أن الكفار يوم القيامة لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به.
وصرّح في مواضع أخر أنه لو زيد بمثله لا يقبل منه أيضًا كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تقبل منهم ﴾، وبيّن في مواضع أُخر، أنه لا يقبل فداء في ذلك اليوم منهم بتاتًا كقوله :﴿ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، وقوله :﴿ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾، والعدل : الفداء.
صرّح في هذه الآية، أنه غني عن خلقه، وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئًا، وبيّن هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله عن نبيّه موسى :﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ٨ ﴾، وقوله :﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾، وقوله :﴿ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾، وقوله :﴿ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، .
فاللَّه تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم ؛ لا لأنه تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم، كما قال تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفسكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾، وقال :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾، وقال :﴿ * يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
وثبت في « صحيح مسلم » عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه أنه قال :« يا عبادي، لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا » الحديث.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ٩٧ ﴾، بعد قوله :﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾، يدلّ على أن من لم يحج كافر، واللَّه غني عنه.
وفي المراد بقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾، أوجه للعلماء. الأول : أن المراد بقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ أي : ومن جحد فريضة الحج، فقد كفر واللَّه غني عنه، وبه قال : ابن عباس ومجاهد وغير واحد قاله ابن كثير. ويدل لهذا الوجه ما روي عن عكرمة ومجاهد من أنهما قالا لما نزلت :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾، قالت اليهود : فنحن مسلمون.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :« إن اللَّه فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، فقالوا : لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا ». قال اللَّه تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ٩٧ ﴾.
الوجه الثاني : أن المراد بقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾، أي : ومن لم يحجّ على سبيل التغليظ البالغ في الزجر عن ترك الحج مع الاستطاعة كقوله المقداد الثابت في « الصحيحين » حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب :« لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال ».
الوجه الثالث : حمل الآية على ظاهرها وأن من لم يحج مع الاستطاعة فقد كفر.
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :« من ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت اللَّه فلا يضره، مات يهوديًا، أو نصرانيًا ؛ وذلك بأن اللَّه قال :﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ٩٧ ﴾ ».
روى هذا الحديث الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما نقله عنهم ابن كثير وهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد بأن في إسناده هلال بن عبد اللَّه مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي، وهلال هذا.
قال الترمذي : مجهول، وقال البخاري : منكر الحديث، وفي إسناده أيضًا الحارث الذي رواه عن عليّ رضي اللَّه عنه.
قال الترمذي : إنه يضعف في الحديث.
وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ. انتهى بالمعنى من ابن كثير.
وقال ابن حجر : في « الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف » : في هذا الحديث أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد اللَّه الباهلي، حدّثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي رفعه :« من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا ».
وقال : غريب وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد اللَّه مجهول، والحارث يضعف، وأخرجه البزار من هذا الوجه، وقال : لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه، وأخرجه ابن عدي، والعقيلي في ترجمة هلال، ونقلاً عن البخاري أنه منكر الحديث.
وقال البيهقي في « الشعب » : تفرد به هلال وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه الدارمي بلفظ :« من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس، فمات فليمت إن شاء يهوديًا، أو إن شاء نصرانيًا »، أخرجه من رواية شريك، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمان بن سابط عنه، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في « الشعب »، وأخرجه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن ليث، عن عبد الرحمان مرسلاً لم يذكر أبا أمامة وأورده ابن الجوزي في « الموضوعات » من طريق ابن عدي، وابن عدي وأورده في « الكامل » في ترجمة أبي المهزوم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، ونقل عن القلاس أنه كذب أبا المهزوم، وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه ؛ لأن الطريق إلى أبي أمامة ليس فيها من اتهم بالكذب.
وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه قال : " من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهوديًا أو نصرانيًا "، والعلم عند اللَّه تعالى.
أكثر العلماء على أنها منسوخة بقوله :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾. وقال بعضهم : هي مبينة للمراد منها فقوله حق تقاته، أي : بقدر الطاقة، واللَّه تعالى أعلم.
لم يبيّن هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرًا عظيمًا حتى لو أنفق ما في الأرض كله ؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئًا وذلك في قوله :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ٦٢ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حكيم ٦٣ ﴾.
بيّن في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان، وذلك في قوله :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ الآية.
وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على اللَّه تعالى وهو قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾. وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الليل مظلما ﴾، وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو قوله تعالى :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ٤٠ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ٤١ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ٤٢ ﴾.
وهذه الأسباب في الحقيقة شيء واحد عبّر عنه بعبارات مختلفة، وهو الكفر باللَّه تعالى، وبيّن في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون، وهو قوله :﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ١٠٢ ﴾، وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودًا والعيون زرقًا، إلا ترى الشاعر لما أراد أن يصور علل البخيل في أقبح صورة وأشوهها اقترح لها زرقة العيون، واسوداد الوجوه في قوله :
وللبخيل على أمواله علل | زرق العيون عليها أوجه سود |
ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة، أي : مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات اللَّه آناء الليل وتصلّي وتؤمن باللَّه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حقّ تلاوته وتؤمن باللَّه، وهو قوله :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾.
وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون باللَّه وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليهم، وأنهم خاشعون للَّه لا يشترون بآياته ثمنًا قليلا، وهو قوله :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثمنا قليلا ﴾. وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرآن، وهو قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾. وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرآن من اللَّه حقّ، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ ﴾ الآية، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرآن خرّوا لأذقانهم سجدًا وسبحوا ربهم وبكوا، وهو قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا ١٠٧ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩ ﴾.
وقال في بكائهم عند سماعه أيضًا :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ﴾، وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب، تؤتى أجرها مرتين، وهو قوله :﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٥١ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ٥٢ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ٥٣ أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ﴾.
يعني : وتؤمنون بالكتب كلها كما يدل له قوله تعالى :﴿ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ﴾، وقوله :﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وجنة عرضها السماوات والأرض ﴾.
يعني : عرضها كعرض السماوات والأرض كما بيّنه قوله تعالى في سورة ﴿ الْحَدِيدَ ﴾ :﴿ سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء والأرض ﴾، وآية آل عمران هذه تبيّن أن المراد بالسماء في آية الحديد جنسها الصادق بجميع السماوات كما هو ظاهر، والعلم عند اللَّه تعالى.
المراد بالقرح الذي مسّ المسلمين هو ما أصابهم يوم أُحد من القتل والجرح، كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله :﴿ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ١٤٣ ﴾، وقوله :﴿ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ﴾ الآية وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾، وقوله :﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ ﴾، ونحو ذلك من الآيات.
وأما المراد بالقرح الذي مسّ القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وعليه فإليه الإشارة بقوله :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعناق وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ١٢ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ١٣ ﴾.
ويحتمل أيضًا أنه هزيمة المشركين أولاً يوم أُحد، كما سيأتي قريبًا إن شاء اللَّه تعالى، وقد أشار إلى القرحين معًا بقوله :﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا ﴾، فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أُحد، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسّهم يوم بدر ؛ لأن المسلمين يوم أُحد قتل منهم سبعون، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون، وأسر سبعون.
وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أُحد من قتل وهزيمة، حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة وبقي لواؤهم ساقطًا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية، وفي ذلك يقول حسان :
فلولا لواء الحارثية أصبحوا | يباعون في الأسواق بيع الجلائب |
تحسهم السيوف كما تسامى | حريق النار في أجم الحصيد |
حسسناهم بالسيف حسًا فأصبحت | بقيتهم قد شردوا وتبددوا |
إذا شكونا سنة حسوسًا | تأكل بعد الأخضر اليبيسا |
قال بعض العلماء : وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أُحد ؛ لأن الكلام في وقعة أُحد ولكن التثنية في قوله مثليها تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر ؛ لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم أُحد أُصيبوا بمثلي ما أُصيب به المسلمون، ولا حجّة في قوله :﴿ تَحُسُّونَهُمْ ﴾ ؛ لأن ذلك الحسّ والاستئصال في خصوص الذي قتلوا من المشركين، وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أُحد، كما هو معلوم.
فإن قيل : ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله :﴿ قَرْحٌ مّثْلُهُ ﴾، وبين التثنية في قوله :﴿ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا ﴾، فالجواب واللَّه تعالى أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين وأسر سبعين يوم بدر ؛ في مقابلة سبعين يوم أُحد، كما عليه جمهور العلماء.
والمراد بإفراد المثل : تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم، والقراءتان السبعيتان في قوله :﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ ﴾، بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضُعف والضَعف.
وقال الفراء : القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اه. ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي :
قعيدك ألا تسمعيني ملامة | ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا |
أنكر اللَّه في هذه الآية، على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ٢١٤ ﴾، وقوله :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وليجة والله خبير بما تعملون ١٦ ﴾، وقوله :﴿ الم ١ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ٢ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ٣ ﴾.
وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة، وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغدًا حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور، وأرغد عيش. كما قال له ربه :﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى ١١٨ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ١١٩ ﴾، ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة، ولكن إبليس عليه لعائن اللَّه احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة، إلى دار الشقاء والتعب.
وحينئذ حكم اللَّه تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف. فعلى العاقل منا معاشر بني آدم أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمّارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم، كما قال ابن القيم :
ولكننا سبي العدو فهل ترى | نرد إلى أوطاننا ونسلم |
هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ ﴿ قاتل ﴾ بالبناء للمفعول يحتمل نائب الفاعل فيها أن يكون لفظة ربيون وعليه فليس في قتل ضمير أصلاً، ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميرًا عائدًا إلى النبيّ، وعليه فمعه خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصفه بما بعده والجملة حالية والرابط الضمير، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلمًا، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول، وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً. والآيات القرآنية مبينة أن النبيّ المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرّح تعالى بذلك في قوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ﴾، وقال قبل هذا :﴿ أُوْلَئِكَ في الأذَلّينَ ٢٠ ﴾، وقال بعده :﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ٢١ ﴾.
وأغلب معاني الغلبة في القرآن الغلبة بالسيف والسنان كقوله :﴿ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ ﴾، وقوله :﴿ الم ١ غُلِبَتِ الرُّومُ ٢ في أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ في بِضْعِ سِنِينَ ﴾، وقوله :﴿ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً ﴾، وقوله :﴿ قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وبيّن تعالى أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله :﴿ وَمَن يُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ ﴾، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعًا على النبيّ المقاتل ؛ لأن اللَّه كتب وقضى له في أزله أنه غالب، وصرّح بأن المقتول غير غالب.
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين، غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل اللَّه ؛ لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب ؛ لأنه لم يغالب في شيء وتصريحه تعالى، بأنه كتب إن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف، كما بيّنا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرآن، وشامل أيضًا لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾، وفي قوله :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ١١٧ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ٧٢ ﴾، أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد ؛ لأن الغلبة التي بيّن أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر ؛ لأنها نصر خاص، والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص.
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير رحمه اللَّه ومن تبعه في تفسير قوله :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ ﴾، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصره المنصوص في الآية، حينئذ يحمل على أحد أمرين :
أحدهما : أن اللَّه ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكرياء وشعيا من تسليط بختنصر عليهم، ونحو ذلك.
الثاني : حمل الرسل في قوله :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾، على خصوص نبيّنا صلى الله عليه وسلم وحده، أنه لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين :
أحدهما : أنه خروج بكتاب اللَّه عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب، ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جدًا، غير معروف في لسان العرب، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبيّنا وحده صلى الله عليه وسلم فهو بعيد جدًا أيضًا، والآيات الدالّة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة، لا نزاع فيها.
الثاني : أن اللَّه لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم، بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي ﴾ الآية، وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن ومر عليك أن اللَّه جعل المقتول قسمًا مقابلاً للغالب في قوله :﴿ وَمَن يُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ ﴾، وصرح تعالى بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جلّ وعلا :﴿ وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أتاهمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ٣٤ ﴾، ولا شكّ أن قوله تعالى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي ﴾، من كلماته التي صرّح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جلّ وعلا عن المنصور أن يكون مغلوبًا نفيًا باتًّا بقوله :﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾، وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ ﴾ الآية أن بعض الناس قال : أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم، وفارس، كما غلبوا العرب زاعمًا أن الروم وفارس لا يغلبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوّتهم فأنزل اللَّه الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان ؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها، ويدل له قوله قبله :﴿ أُوْلَئِكَ في الأذَلّينَ ٢٠ ﴾، وقوله بعده :﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ عَزِيزٌ ٢١ ﴾.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب، أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذّة، فيشهد للبيان الذي بيّنا به، أن نائب الفاعل ﴿ ربيون ﴾، وأن بعض القراء غير السبعة قرأ ﴿ قاتل معه ربيون ﴾ بالتشديد ؛ لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين.
ولهذه القراءة رجح الزمخشري، والبيضاوي، وابن جني ؛ أن نائب الفاعل ﴿ ربيون ﴾، ومال إلى ذلك الألوسي في « تفسيره » مبيّنًا أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النبيّ ؛ لأن :﴿ وكَأَيِّن ﴾ إخبار بعدد كثير أي : كثير من أفراد النبيّ قتل خلاف الظاهر، وهو كما قال، فإن قيل : قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين، وقد ادعيتم أن القرآن دل على أنه ﴿ ربيون ﴾ لا ضمير النبي لتصريحه بأن الرسل غالبون، والمقتول غير غالب، ونحن نقول دل القرآن في آيات أُخر، على أن نائب الفاعل ضمير النبيّ، لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله :﴿ فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ٨٧ ﴾، وقوله :﴿ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ﴾ الآية، فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب ربيون، على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النبيّ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به، والأخص مقدم على الأعم، ولا يتعارض عام وخاص، كما تقرر في الأصول، وإيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شيء، فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقًا لربنا في قوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي ﴾، سواء أكانت تلك المغالبة في الحجّة والبيان، أم بالسيف والسنان، ودليلكم فيما هو أعم من هذا ؛ لأن الآيات التي دلّت على قتل بعض الرسل، لم تدلّ على أنه في خصوص جهاد، بل ظاهرها أنه في غير جهاد، كما يوضحه.
الوجه الثاني : وهو أن جميع الآيات الدالّة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء اللَّه كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم، في غير جهاد، ومقاتله إلا موضع النزاع وحده.
الوجه الثالث : أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل ﴿ ربيون ﴾ تتفق عليه آيات القرآن اتفاقًا واضحًا، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته، ولم تتصادم منه آيتان، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد، فقتله إذن لا إشكال فيه، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب اللَّه ؛ لأن اللَّه حكم للرسل بالغلبة، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شيء، ولو أمر بها في شيء لغلب فيه، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النبي لصار المعنى أن كثيرًا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب، كما تدل عليه صيغة ﴿ وَكَأَيّن ﴾ المميزة بقوله :﴿ مّن نَّبِيٍّ ﴾، وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي ﴾، وقد عرفت معنى الغلبة في القرآن، وعرفت أنه تعالى، بين أن المقتول غير الغالب، كما تقدم، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضًا، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضًا، فاتضح أن القرآن دلّ دلالة واضحة على أن نائب الفاعل ﴿ ربيون ﴾، وأنه لم يقتل رسول في جهاد، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير، والزجاج، والفراء، وغير واحد، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرآن، لا بأقوال العلماء، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا.
وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النبي من أن سبب النزول يدل على ذلك ؛ لأن سبب نزولها " أن الصائح صاح قتل محمّد صلى الله عليه وسلم " وأن قوله :﴿ أفاين مات أو قتل ﴾ يدلّ على ذلك وأن قوله :﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، يدلّ على أن الربيين لم يقتلوا ؛ لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم :﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ ﴾ الآية. فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النبيّ لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله :﴿ أفاين مات أو قتل ﴾، ظاهر السقوط ؛ لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا بدل على وقوع نسبة أصلاً لا إيجابًا، لا سلبًا حتى يرجح بها غيرها.
وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله :﴿ فَمَا وَهَنُواْ ﴾، سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾، كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها. ﴿ فإن قاتلوكم ﴾ بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل ﴿ فاقتلوهم ﴾ أفتقولون هذا لا يصح ؛ لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله. بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون : قتلونا وقتلناهم، يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى. وقد أشرنا إلى هذا البيان في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب والعلم عند اللَّه تعالى.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا، ولم يبيّن هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا ؟ ونظير هذه الآية : قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾.
ولكنه بيّن في آيات أُخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله :﴿ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ في الْحَرّ ﴾، وقوله :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾، وقوله :﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من اللَّه ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بيّن فيها أن اللَّه اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالاً قليلاً فانيًا بملك لا ينفذ ولا ينقضي أبدًا، وهي قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ١١١ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ٢٠ ﴾، وبيّن في آية أخرى أن فضل اللَّه ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل اللَّه ورحمته دون حطام الدنيا، وهي قوله تعالى :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨ ﴾، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله :﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾، أي : دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه.
وقال تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مما يجمعون ٣٢ ﴾.
قد قدمنا في سورة الفاتحة في الكلام على قوله تعالى :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾، أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب اللَّه تعالى أو سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، اختلف العلماء فيها هل يدخل النساء أو لا يدخلن ؟ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور، ولكنّه تعالى بيّن في موضع آخر أنهنّ داخلات في جملة من أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهم، وهو قوله تعالى :﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾.
ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان اللَّه ليس كمن باء بسخط منه ؛ لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان اللَّه، ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ١٧٣ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ١٧٤ ﴾.
وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من اللَّه بقوله :﴿ تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ٨٠ ﴾، وبقوله هنا :﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ ﴾ الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أُحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم، ولم يبيّن تفصيل ذلك هنا ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾، وهذا هو الظاهر في معنى الآية ؛ لأن خير ما يبين به القرآن القرآن.
وأما على القول الآخر فلا بيان بالآية، وهو أن معنى :﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾، أنهم خيروا يوم بدر بين قتل أسارى بدر، وبين أسرهم وأخذ الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل قدر الأسارى فاختاروا الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل سبعون قدر أسارى بدر، كما رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله :
والمسلمون خيروا بين الفدا *** وقدرهم في قابل يستشهدا
وبين قتلهم فمالوا للفدا *** لأنه على القتال عضدا
وأنه أدى إلى الشهاده *** وهي قصارى الفوز والسعاده
ونظمه هذا للمغازي جلّ اعتماده فيه على « عيون الأثر » لابن سيد الناس اليعمري، قال في مقدمته :
أرجوزة على عيون الأثر *** جلّ اعتماد نظمها في السير
وذكر شارحة أن الألف في قوله يستشهدًا مبدلة من نون التوكيد الخفيفة وأنها في البيت كقوله :
ربما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبي شمالات
وعلى هذا القول : فالمعنى قل هو من عند أنفسكم حيث اخترتم الفداء واستشهاد قدر الأسارى منكم.
نهى اللَّه تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء، وصرح بأنهم ﴿ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولم يبيّن هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا ؟ ولكنه بيّن في سورة البقرة أنهم لا يدركونها بقوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ١٥٤ ﴾ ؛ لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر.
قال جماعة من العلماء : المراد بالناس القائلين : إن الناس قد جمعوا لكم، نعيم بن مسعود الأشجعي، أو أعرابي من خزاعة. كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع ويدلّ لهذا توحيد المشار إليه في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾ الآية.
قال صاحب « الإتقان »، قال الفارسي : ومما يقوي أن المراد به واحد قوله :﴿ إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ ﴾، فوقعت الإشارة بقوله : ذَلِكُم إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعًا لقال : إنما أُولئكم الشيطان. فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. اه منه بلفظه.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب. وبيّن في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩٥ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ٤٢ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ٤٤ ﴾.
وبيّن في موضع آخر : أن ذلك الاستدراج من كيده المتين، وهو قوله :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٤ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ٤٥ ﴾.
وبيْن في موضع آخر : أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيرًا من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ٥٦ ﴾، وقوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ٧٧ ﴾، وقوله :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى ربّي لأجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ٣٦ ﴾، وقوله :﴿ وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى ربّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾، وقوله :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلَاداً ﴾ الآية. كما تقدم، والبأساء : الفقر والفاقة، والضراء : المرض على قول الجمهور، وهما مصدران مؤنثان لفظًا بألف التأنيث الممدودة.
وقد بيّن في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء : الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله :﴿ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ١٨٦ ﴾، وذلك الموضع هو قوله تعالى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ١٥٦ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ١٥٧ ﴾، وبقوله :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾، ويدخل في قوله :﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ﴾، الصبر عند الصدمة الأولى، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء، ويدل على دخوله فيه قوله قبله :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾.
وبيّن في موضع آخر أن خصلة الصبر لا يُعطاها إلا صاحب حظٍ عظيم وبخت كبير، وهو قوله :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ ٣٥ ﴾، وبيّن في موضع آخر أن جزاء الصبر لا حساب له، وهو قوله :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ١٠ ﴾.
ذكر في هذه الآية أن من جملة ما يقوله أُولوا الألباب تنزيه ربهم عن كونه خلق السماوات والأرض باطلاً، لا لحكمة سبحانه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وصرح في موضع آخر بأن الذين يظنون ذلك هم الكفار، وهددهم على ذلك الظن السَّيِّئ بالويل من النار، وهو قوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ٢٧ ﴾.
لم يبيّن هنا ما عنده للأبرار، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه النعيم، وهو قوله :﴿ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ٢٢ ﴾، وبيّن في موضع آخر أن من جملة ذلك النعيم الشرب من كأس ممزوجة بالكافور، وهو قوله :﴿ إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ٥ ﴾.