تفسير سورة آل عمران

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا. وفي كتب التفسير «١» روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران. وفي هذا الفصل خطاب موجّه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك. ولقد ذكرت روايات المفسرين «٢» اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل. وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد. وفي هذا تأييد آخر. وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين. ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة. والله أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
. بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوّه بكتبه: فهو الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه. وهو الذي نزّل الكتاب على النبي- والخطاب موجّه إليه- صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس. وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس. وهو الذي لا يخفى عليه شيء
(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وانظر في صدد وقعة أحد ابن سعد ج ٣ ص ٧٨- ٩١ وابن هشام ج ٣ ص ٣- ١٥٩.
(٢) انظر المصدر نفسه.
107
في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصوّر الناس- والخطاب موجه إلى السامعين- في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته. وهو العزيز القويّ الذي لا تطاوله قوّة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب. ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلّا هو. والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد. وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود.
والآيات صريحة بأن الله أنزل التوراة والإنجيل. ولقد شرحنا في سياق تفسير الآيات [١٥٧- ١٥٨] من سورة الأعراف معنى الكلمتين ومدى ما تدلّ عليهما وما هو المتداول في أيدي الكتابيين مما يطلق عليه الكلمتان، وما يعرف بالعهد القديم والعهد الجديد فلا نرى حاجة إلى الإعادة والزيادة. إلّا أن نقول إن في العبارة القرآنية هنا توكيدا لما قررناه من أن القرآن عنى بالتوراة والإنجيل كتابين أوحى الله بهما وأنزلهما وإنهما غير ما في أيدي اليهود والنصارى من أسفار كتبت بأقلام بشرية. وفي ظروف مختلفة وبعد موسى وعيسى وفيهما من التناقض والشوائب ما تتنزّه عنه كتب الله التي أنزلها على أنبيائه.
وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف. وهو وجيه لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية.
تعليق على الآيات الستّ الأولى من السورة وخلاصة عن وفد نصارى نجران
لقد روى الطبري وتابعه آخرون أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية بعدها نزلت في مناسبة قدوم وفد من نصارى نجران ومناظرتهم مع النبي ﷺ في صفات
108
الله والمسيح. وقد روى هذا ابن هشام عن ابن إسحق وهما أقدم بمائة سنة من الطبري. غير أن المستفاد من سياق ابن هشام أن الذي نزل في هذه المناسبة هو [٦٤] آية فقط. وروح الآيات قد تدعم صحة رواية نزولها في مناظرة بين النبي وفريق من النصارى سواء أكان عدد آياتها ما ذكره الطبري أو ما ذكره ابن هشام لأنها تنطوي على تقريرات حقائق عن الله تعالى وعيسى عليه السلام ينكر بعضها طرف آخر أو يأخذها على غير وجهها الحق وعلى التنديد بهذا الطرف بسبب ذلك.
وليس في الآيات ما يساعد على القول ما إذا كانت هذه السلسلة نزلت دفعة واحدة كما يستفاد من الطبري وابن هشام، أم متفرقة غير أن ما فيها من مواضيع ومشاهد متنوعة واستطرادا يجعلنا نرجّح أنها لم تنزل دفعة واحدة. والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها. وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته «١».
وخلاصة ما رواه المفسرون وكتّاب السيرة وبخاصة ابن هشام عن وفد نصارى نجران أنه قدم المدينة في ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم. وفيهم ثلاثة هم الرؤساء فيهم وهم عبد المسيح أمير القوم وعاقبهم وصاحب مشورتهم والأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم وأبو حارثة أسقفهم وحبرهم
(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي ثم ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤- ٢١٦ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٥٥ و ١١٩ وكتاب الأموال للإمام أبي عبيد بن القاسم ص ٢٧ وكتاب الخراج للإمام أبي يوسف ص ٤٠. [.....]
109
وإمامهم. وقد أنزلهم النبي ﷺ في مسجدهم وسمح لهم بالصلاة فيه نحو المشرق. وقد ناظروه وجادلوه في أمر عيسى وألوهيته وبنوّته وتلا عليهم ما ورد في القرآن عنه ودعاهم إلى الرجوع عما في عقيدتهم فيه من انحراف، فماروا وكابروا فعرض عليهم المباهلة والملاعنة حيث يدعو كل فريق من الفريقين أن يلعن الله الكاذب فيهم. فاستمهلوه إلى الغد وتشاوروا فيما بينهم فقال لهم عبد المسيح لقد عرفتم والله أن محمدا لنبي مرسل. ولقد علمتم أنه لم يلاعن قوم نبيا قط إلّا استأصلهم الله فإن كنتم أبيتم إلّا إلف دينكم فوادعوا الرجل ولا تلاعنوه.
فغدوا على رسول الله وقالوا له قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا. وسألوه ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى.
قالوا حسبنا هذا منك. وطلبوا منه حسب رواية ابن هشام أن يرسل معهم شخصا من أصحابه يقضي في خلاف ناشب بين بعضهم على حقوق وأرضين فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وطلبوا منه حسب رواية ابن سعد وأبي يوسف أن يكتب لهم كتاب أمان وعهد فكتب لهم كتابا أعطاهم فيه عهده وذمته وأمنهم على أنفسهم وحالتهم وعباداتهم ما لم يظلموا ويتعاملوا بالربا وفرض عليهم جزية سنوية. ومما رواه ابن هشام أن أبا حارثة اعترف لأخ له اسمه كرز بصدق نبوة محمد فقال له وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال: ما صنع قومنا لنا شرفونا وأكرمونا ومولونا وأبوا إلّا مخالفته. وهناك رواية طويلة جدا أوردها ابن كثير عن البيهقي تفيد أن قدوم وفد نجران على النبي كان قبل نزول سورة النمل. وبناء على رسالة أرسلها النبي إلى نصارى نجران. وأن الوفد كان مؤلفا من ثلاثة فناظروه ثم أبوا التلاعن معه وطلبوا موادعته وأخذوا منه عهدا وفرض عليهم جزية إلخ مما ذكرته الروايات الأخرى.
وليس شيء من أخبار وفد نجران واردا في كتب الصحاح. غير أن هذا لا يمنع أن فيما جاء في الروايات حقائق صحيحة. وقد اتفق على روايتها كتّاب السيرة والمفسرون القدماء ولا سيما الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد باستثناء رواية البيهقي التي تبدو شاذة عن الروايات الأخرى ومتناقضة وغير متسقة مع الوقائع والحقائق
110
من حيث إن سورة النمل مكية ونزلت في عهد مبكر من العهد المكي وأن ما ورد فيها لا يمكن أن يكون إلّا في المدينة وفي حالة كان النبي ﷺ في قوة وسلطان.
وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة ومما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها. وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صدّ كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدرّه عليهم من منافع وهي الآية [٣٤].
وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية. والله تعالى أعلم.
وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي ﷺ للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم. على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلّة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك. ولا تحبس رسلي فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى
111
يؤدوه لهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملّتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية. ولا يخسرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة.
وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر».
وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب. ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
. (١) المحكمات: من الإحكام. وسيرد شرح لمداها أكثر بعد.
(٢) أمّ الكتاب: هذه الكلمة وردت في سورتي الزخرف والرعد أيضا، غير أن المتبادر أنها هنا عنت غير ما عنته في السورتين. وقد قال بعض المؤولين إنها هنا تعني المعاد والأساس في القرآن. وقال بعضهم إنها عنت الأصل الذي يرجع
112
إليه في القرآن. وكلا التأويلين وجيه. ونحن نرجح الثاني والله أعلم.
(٣) المتشابهات: من التشابه الذي بمعنى المقاربة والمماثلة أو من معنى الاشتباه في حقيقة المعنى، وسيرد شرح لمداها أكثر بعد.
(٤) زيغ: انحراف عن الحق.
(٥) تأويله: شرحنا معاني هذه الكلمة واشتقاقاتها في سياق تفسير سورة الأعراف. وجاءت هنا مرتين. والمتبادر من روح الآية أنها في المرة الأولى عنت صرف المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والشبهات والفتنة. وعنت في المرة الثانية المراد من الآيات المتشابهات ومداها وحكمتها وماهيتها. والله تعالى أعلم.
المتبادر في شرح وتأويل هذه الآيات والله أعلم هو ما يلي:
في الآيات إشارة إلى ما احتواه القرآن من أنواع الآيات ومواقف كل من المنحرفين عن الحق الذين في قلوبهم زيغ والراسخين في العلم منها. فقد أنزل الله تعالى على نبيه الكتاب- والخطاب في الآيات موجّه إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- وفيه آيات محكمات وآيات متشابهات. والمحكمات هن أمّ الكتاب التي فيها الأسس والأهداف المحكمة التي يجب أن تكون المرجع والتي لا تتحمل تأويلات عديدة. والمتشابهات هي التي جاءت للتشبيه والتمثيل والتي تتحمل وجوها عديدة للتأويل. فالذين في قلوبهم زيغ ويريدون المماراة والتمحّل يصرفون الآيات المتشابهات إلى ما يؤدي إلى الشك والفتنة ويتمحلون في تأويلها تبريرا لأهوائهم وتمشيا مع انحرافهم وزيغهم وبقصد صرف الناس عن الأهداف والأسس والمبادئ المحكمة في حين أن الله هو الذي يعلم التأويل الصحيح القطعي للمتشابهات. والراسخون في العلم يعرفون ذلك ولا يتمحّلون في ما لا يدركون مما هو مغيب عنهم من تأويل المتشابهات القطعي ويقولون آمنّا به كل من عند ربنا. ويدعون الله عز وجل أن يثبت قلوبهم على الحق بعد أن هداهم إليه وأن لا يزيغ قلوبهم عنه وأن يهبهم رحمة منه. ويقررون أن الله تعالى جامع الناس إلى يوم معين يدانون فيه غير مرتابين في ذلك لأن الله قد وعد به وهو لا يخلف الميعاد.
113
وهذا الموقف من الآيات المحكمات والمتشابهات هو الجدير بذوي العقول الراجحة الذين يتعظون بالموعظة والتذكير ويقفون عند الحق الموقف الواجب.
تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ... إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني
لقد روى المفسرون روايتين في نزول الآيات جاء في واحدة منها أن جماعة من اليهود سألوا النبي ﷺ عن الحروف المتقطعة في أوائل السور ومدة نبوته ومدة الحياة الدنيا بقصد تعجيزه وإفحامه، فنزلت الآيات لتدمغهم بالزيغ والمماحكة وقصد صرف الناس عن آيات القرآن المحكمة وإثارة شكوكهم وشبهاتهم. وجاء في واحدة أن وفد نصارى نجران بعد أن تناظروا مع النبي في أمر عيسى ودعاهم النبي إلى المباهلة امتنعوا وقالوا له ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته قال بلى. فقالوا هذا حسبنا فنزلت الآيات لتندد بهم وتذكر أنهم احتجوا بالآيات المتشابهة وتركوا الآيات المحكمة التي تنزّه الله عن الولد وتقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه دعا إلى عبادة الله وحده وأن ولادته كانت بمعجزة ربانية وحسب.
والروايتان لم تردا في الصحاح. غير أن اتفاق الرواة على أن صدر سورة آل عمران نزل في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران ومناظرته مع النبي تجعل الرجحان للرواية الثانية.
والروايات تدور حول نزول الآية الأولى أي السابعة مع أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها جملة واحدة نزلت معا في ما يتبادر لنا. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تنزيل الآيات الثلاث معا لإتمام التقرير للموقف الذي يجب أن يقفه الراسخون في العلم وذوو العقول الراجحة من الآيات المحكمة والمتشابهة.
114
ودوران الرواية حول الأولى لا يمنع أن تكون الآيات الثلاث نزلت معا كما هو المتبادر.
والآيات وإن كانت نزلت في مناسبة حادث وقع في زمن النبي ﷺ فإن أسلوبها المطلق يجعلها عامة المدى والتطبيق كشأن أمثالها.
ومدى الآيات خطير جدا لاتصاله بالقرآن وفهمه وهذا مما يسوغ التوسع في شرحها.
وفيما يلي شرح لمداها وما روي وقيل في سياقها وتعليق عليه:
١- في صدد معنى مُحْكَماتٌ تعددت التأويلات المروية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم «١» منها أنها كل ما يعول عليه في القرآن من أحكام ويعمل به من حلال وحرام. أو كل ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. أو الآيات الواضحة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. أو الأوامر والنواهي القرآنية. أو الآيات الناسخة المثبتة للأحكام. أو الأحكام التي لم يطرأ عليها نسخ. أو أركان الإسلام وعماد الدين والفرائض والحدود وسائر ما بالخلق حاجة إليه وما كلفوا به بعاجلهم وآجلهم. ولم نطلع على حديث نبوي أو صحابي وثيق السند. والكلمة تتحمل كل هذه المعاني أو جلّها. ويمكن مع ذلك أن يقال استلهاما من روح الآية من جملة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أنها تعني الآيات التي لا تتحمل تأويلات عديدة ولا اشتباها والتي فيها إلى ذلك مبادئ وأحكام ووصايا واضحة غير منسوخة في الشؤون الدينية والدنيوية. وفي سورة محمد آية قد تساعد على فهم مدى الكلمة أو صورة من صورها وهي: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) والصورة في الآية هي أمر رباني قطعي وصريح بالقتال والله أعلم.
(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.
115
٢- في صدد مدى مُتَشابِهاتٌ قيل «١» إنها ما سوى الأحكام والحلال والحرام. أو ما استأثر الله تعالى بعلمه الحقيقي أو أشراط الساعة. أو القصص والأمثال. أو المجازات والتشبيهات. أو ما يحتمل وجوها عديدة للتأويل. أو المتشابهة في الصفة المختلفة في النوع. ولم نطلع كذلك على أثر نبوي أو صحابي وثيق السند في ذلك. والذي نستلهمه من روح الآية أنها الآيات التي تتحمل وجوها عديدة للتأويل أو التي يتشابه فهمها وتأويلها على الأذهان بسبب تنوعها وتنوع سبكها ومقامها وألفاظها والله تعالى أعلم.
وننبّه بهذه المناسبة إلى أنه ورد في الآية [٢٣] من سورة (الزمر) تعبير (المتشابه) في هذه الصيغة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) غير أن التعبير في هذه الآية ليس هو في مقام ومدلول تعبير المتشابهات في آية آل عمران التي نحن في صددها كما هو ظاهر. وهذه ميزة من ميزات البلاغة القرآنية واللغة الفصحى التي نزل بها القرآن حيث يتغير مدلول الكلمة أحيانا بتغير الصيغة التي وردت فيها. ولقد شرحنا مدى الكلمة في تفسير سورة الزمر فنكتفي بهذا التنبيه.
٣- والآية الأولى على كل حال تقرر بصراحة أن القرآن يحتوي نوعين من الآيات واحدا محكما وآخر متشابها. والأول هو أمّ الكتاب وعماده. وأهل التأويل متفقون إجمالا على أن المحكمات هي ما فيها أحكام ومبادئ دينية ودنيوية محكمة. فيكون ما عدا ذلك هو من النوع الثاني الذي يتبادر لنا والله أعلم أن الآيات التي فيها تشبيه وتمثيل وترغيب وترهيب ووعظ وتذكير وتنبيه وتنويه وتأنيب وحجاج ثم الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وروحه وأعضاؤه وحركاته وكلامه والملائكة والجن وإبليس والشياطين والمعجزات وخلق الأكوان ومشاهدها ونواميسها ومشاهد الحياة الأخروية. فالآيات التي فيها ذلك مختلفة في أساليبها
(١) انظر كتب التفسير السابقة.
116
وألفاظها وصورها ويمكن أن تتحمل وجوها عديدة أو أن يتشابه فهمها على الأذهان. أو يعجز العقل البشري بعامة أو عقول بعض الناس عن إدراك مداها وماهيتها. أو يبدو للمشرّع غير المتمعن وغير الراسخ في العلم أن فيها تغايرا أو تباينا أو تناقضا.
والمتمعن في هذا النوع من الآيات يجد أنها تهدف إلى تدعيم ما احتواه القرآن من المبادئ والتلقينات والعقائد والأحكام والتشريعات والتعاليم والوصايا أو بكلمة أخرى إلى تدعيم المحكمات القرآنية. وبذلك يظهر له حكمة التنزيل في جعل آيات القرآن نوعين نوعا محكما وآخر داعما. أو نوعا أسسا ونوعا وسائل كما ذكرنا ذلك في كتابنا (القرآن المجيد).
ويبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تأتي آيات النوع الثاني بالأساليب المتنوعة التي وصفت بالمتشابهات التي ذكرنا ما قيل في مدى مفهومها لتحقيق ما أرادته هذه الحكمة من تدعيم للمحكمات. ولقد لحظنا ذلك ونبهنا على ما استشففناه من حكمته ومقاصده في المناسبات الكثيرة التي وردت فيها فصول وآيات النوع الثاني وأساليبها المتنوعة في اختلاف مقاماتها في السورة التي سبق تفسيرها. وإنه ليصح أن يقال على ضوء ما تقدم أن الآية (الأولى) أي السابعة هي مفتاح القرآن الذي يجب على الناظرين فيه مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يتقيدوا به والذي لا يجوز ولا يصح الخروج عنه. لأنه المفتاح الذي جعله الله فاتحا لفهم آيات القرآن.
٤- والرواية التي رويت في سبب نزول الآية والتي تذكر أنها نزلت في مناسبة قول وفد نجران للنبي «ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه. قال بلى، قالوا هذا حسبنا». تساعد على القول بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرة السابقة إن على الناظرين في القرآن أن يرجعوا إلى المحكمات لفهم ما يتشابه عليهم من المحكمات ألفاظا أو حكمة. فوفد نجران أخذ بآيات متشابهة أريد بها التمثيل والتقريب لتقرير كون ولادة عيسى تمّت بمعجزة ربانية وحسب وتركوا المحكمات
117
في صدد عيسى، في حين أن في هذه المحكمات القول الفصل في ذلك من حيث أنها تقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر ولد كبشر وعاش ومات كبشر وإن مثله كمثل آدم قال الله كن فكان وإن الله جلّ وتنزّه أن يتجزأ وأن يسري منه روح إلى بشر بالمعنى التام للكلمة لأن روحه هي ذاته أبدية سرمدية فنزلت الآية تندد بهم وتدمغهم بالزيغ لأنهم تمسكوا بالمتشابهات وتركوا المحكمات التي هي أمّ الكتاب. وهناك حديث رواه الشيخان عن عائشة فيه تدعيم آخر. فقد سئلت عما إذا كان النبي رأى ربّه اشتباها ببعض آيات القرآن التي توهم ذلك فقالت «من زعم أنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية والله يقول لا تدركه الأبصار» «١». حيث جعلت في هذه الجملة القرآنية التي وردت في الآية [١٠٣] من سورة الأنعام القول الفصل في موضوع رؤية النبي لله تعالى.
وهناك آيات كثيرة جدا من نوع المتشابهات تثير بعض الإشكال ولكن ذلك يزول إذا ما جعلت المحكمات مرجعا فاعلا لها. وقد نبهنا على كثير من ذلك في ما سبق تفسيره من السور. فنكتفي بهذا التنبيه ونقول إن الغفلة عن هذا من أسباب كثير من الخلافيات الكلامية في الإسلام ومن أسباب كثير من التوهمات غير الإسلامية في صدد محتويات القرآن ومبادئ الإسلام وتلقيناته وأهدافه.
٥- والآية الأولى تقرر أن المحكمات هنّ أمّ الكتاب كما تقرر أن الله وحده يعلم التأويل الصحيح للمتشابهات. وإن الذين يتبعون المتشابهات هم الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة بتأويلها تأويلا تعسفيا. وهذا يوجب على من لا يريد أن يدمغ بذلك من الناظرين في القرآن أن يصرفوا اهتمامهم الأعظم للمحكمات وتدبّرها وفهمها والالتزام بها لأنها هي القرآن التي فيها تقرير الرسالة المحمدية ومبادئها وعقائدها وأحكامها وأسسها ووصاياها وتلقيناتها. وأن يقف من المتشابهات عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأساليب التي أوحيت بها لتحقيق المقاصد التدعيمية للمحكمات دون مماراة ولا تيهان في التأويل التعسفي
(١) انظر التاج، ج ٤ ص ١٠٠.
118
ولا توسع وتزيد مع استشفاف الحكمة والمقاصد الربانية فيها حسب مقاماتها. وما استطاع أن يفهمه بعقله لفظا ودلالة وحكمة ومقصدا وموعظة وتدعيما فهمه. وعليه أن يسأل من هو أعلم منه عما لا يستطيع أن يفهمه بعقله. وما عجز عنه هو ومن هو أعلم منه عن فهمه فيجب أن يقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ويكلون تأويله إلى الله تعالى.
٦- ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب المعتبرة فيها تدعيم لما جاء في الفقرة السابقة. فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «تلا رسول الله ﷺ الآية ثم قال فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عناهم الله فاحذروهم» «١». وروى مسلم حديثا جاء فيه: «سمع النبي ﷺ رجلين اختلفا في آية وفرق في وجهه الغضب وقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» «٢». وقد أورد ابن كثير في سياق تفسير الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن العاص عن رسول الله ﷺ قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به».
وهناك أحاديث عديدة أخرى من باب هذه الأحاديث فيها بعض زيادات لا تخرج في جوهرها عما في هذه الأحاديث أخرجها أئمة حديث آخرون وأوردها المفسرون في سياق الآية ومن ذلك أحاديث تذكر أن رسول الله ﷺ كان يدعو الله بما علمته الآيتان [٨ و ٩] «٣».
ولقد روى الطبري عن قتادة وغيره أن المقصود بجملة الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هم الحرورية والخوارج والسبئية والقدرية. والمتبادر أن هذا القول هو من قبيل التطبيق الاجتهادي ومن وحي الأحداث والفتن الإسلامية التي حدثت في صدر الإسلام. ولقد قال الطبري بعد أن أورد هذا القول إن المعني بها كل مبتدع بدعة
(١) التاج، ج ٤ ص ٦٤.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر ابن كثير والطبري.
119
في دين الله فمال قلبه إليها تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن ثم حاجّ به وجادل أهل الحق. وعدل عن الواضح من أدلة الآيات المحكمة إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان وأي أصناف البدعة كان، من أهل النصرانية واليهودية والمجوسية أو كان سبئيا أو حروريا أو قدريا أو جهميا. وفي هذا السداد والصواب المتساوقان مع إطلاق العبارة القرآنية «١».
٧- ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين لم يتقيدوا بالتلقين الجليل الذي احتوته الآية والأحاديث وانصرف همهم الأكبر إلى الانشغال والجدل فيما يدخل في نطاق المتشابهات أكثر بكثير مما انصرف إلى المحكمات. والناظر في كتب التفسير المطولة يجد الشيء الكثير الذي يعكس ذلك الاهتمام ويجد الأقوال والروايات المعزوة إلى مسلمة اليهود وعلماء الأخبار والتي فيها كثير من الخيال والمبالغة والتناقض والكذب حول المتشابهات المذكورة هي التي تشغل الجزء الأوسع من هذه الكتب برغم ما فيها وما تؤدي إليه من تشويش وتغطية على المحكمات ورغم ما فيها من إشغال ذهن واستنفاد جهد على غير طائل ورغم تحذير كتاب الله ورسوله، وأدى ذلك إلى استمرار ذلك الانصراف والانشغال إلى اليوم حتى لا يكاد المتسائلون يتساءلون عن غيرها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ. فهناك من حاول أن يستخرج من القرآن نظريات فنية ورياضية ووقائع تاريخية، مع أن كل ما جاء في القرآن من ذلك جاء بقصد التدعيم للمحكمات وبالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لذلك بدون قصد لتلك النظريات والوقائع. حتى لكأن القرآن أصبح كتاب تاريخ وفن وهندسة
(١) السبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ينسب إليه بدعة القول بوصاية علي بعد النبي ثم برجعته ثم بألوهيته. والحرورية هي تسمية أخرى للخوارج لأن الخوارج خرجوا أول خروجهم في مكان اسمه حروراء والقدري هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان خالق أفعال نفسه. والجهمي هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان مجبور على عمله.
120
وفلك. وهناك من حاول استخراج الغيب والأسرار من بعض الآيات والحروف وهناك من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وجرى في متاهات وتخيلات عجيبة من المعاني والاستنباطات واللعب بالألفاظ والشطح إلى ما يكاد يكون هذيانا بسبيل إظهار هذا الباطن. ومنهم من فعل هذا بتأثير من النزعة الصوفية المغالية. ومنهم من فعله لتأييد الأهواء المتنوعة وبخاصة الشيعية. وهناك من كذب على الله ورسوله وأصحابه بسبيل ذلك كله مما أوردنا بعض أمثله منه في ما سبق تفسيره من السور.
٨- هناك اختلاف في مدى (الواو) التي سبقت كلمة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ حيث قال بعضهم إنها عطفت وإن التعبير يفيد أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله أيضا وقدروا العبارة هكذا (والراسخون في العلم الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا يعلمون تأويله). وحيث قال بعضهم إنها إنشائية وإن الجملة مستقلة عن سابقتها وتفيد أن الراسخين لا يتمحلون في التأويل ويكتفون بإيكال ما اشتبه عليهم فهم كنهه وتأويله إلى الله ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ويدعون ربهم بأن لا يزيغ قلوبهم بعد أن هداهم. ومما دلّل عليه الذين يقولون القول الأول إنه لا يصح أن يكون في كتاب الله ما لا يعرف تأويله وما لا يفهمه أحد. والله طلب من الناس أن يتدبروا آيات القرآن وأنزلها وهو يعلم أنهم يفهمون ويعقلون ويعلمون كما جاء ذلك في آيات عديدة وهذا الكلام وجيه بدون ريب. وقد يزيد في وجاهة ذلك أن القول الثاني يؤدي إلى القول إن النبي ﷺ أيضا لا يعلم تأويله مما قد يكون غير مستساغ.
ومع ذلك فنحن نرجح كون الواو إنشائية وليست عطفية. وأن كلمة تَأْوِيلِهِ في الآية أريد بها والله أعلم ما في المتشابهات من ماهيات وأسرار استأثر الله تعالى بعلمه وأن في القرآن حقا ما لا يفهمه أحد غير الله سرّه وماهيته وكنهه مثل سرّ الله وسرّ الوجود وسرّ الخلق وسرّ النبوة وسرّ الوحي وسرّ الملائكة والجن وإبليس والشياطين إلخ... وماهيات ذلك. وحينئذ تكون وجاهة قول
121
القائلين إنه لا يصح أن يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد هي في صدد ما في ذلك من حكم وحقائق إيمانية وهذا حق. ولا نرى هذا التقرير متناقضا مع قولنا الآنف لأن ذلك مقرر في آيات قرآنية عديدة. ولسنا نرى من الضروري لأجله أن تكون (الواو) عطفية.
ومعلوم أن الصدر الإسلامي الأول درج على عدم الخوض في كيفيات وماهيات ما ورد في القرآن من صفات الله وأعضائه وحركاته ومشاهد كونه وسائر ما في المتشابهات من أمور لا تعرف حقائقها والاكتفاء بالقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا والمتبادر أن هذا الذي يراه كثير من الأئمة في مختلف الحقب الإسلامية هو الأولى والأسلم هو نتيجة لما في الآية ثم في الأحاديث من تلقين.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس قوله: «أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله». ونحن نشكّ في صدور هذا القول عن ابن عباس إذا كان أريد به علم تأويل كل ما في القرآن من أسرار ومتشابهات علما لا يقتصر على الحكمة ويشمل السرّ والكنه والماهية. ولقد روى عن ابن كثير الذي روى عنه القول الأول قولا آخر جاء فيه «التفسير على أربعة أنحاء تفسير لا يعذر أحد على فهمه. وتفسير تعرفه العرب من لغاتها. وتفسير يعلمه الراسخون في العلم. وتفسير لا يعلمه إلّا الله». وعقب ابن كثير على هذا بقوله: إن هذا القول يروى عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. ولا يخلو هذا القول من سداد فيه توفيق بين القولين. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي جعفر أحد الأئمة قوله: «إن الأئمة والأوصياء من آل رسول الله يعلمون تأويله». وروى المفسر الشيعي العلوي عن الصادق من الأئمة قوله: «نحن الراسخون في العلم نحن نعلم تأويله». ونحن نقف من هذا موقف التحفظ كما فعلنا في قول ابن عباس. ونرجح أن هذا من نوع الأقوال التي يسوقها مفسرو الشيعة في كل مناسبة. والله تعالى أعلم.
122

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
. (١) كدأب: كعادة، أو كشأن، أو كمثل، أو كعمل. والدأب في اللغة بمعنى الإدمان على العمل والتعب فيه والاعتياد عليه.
عبارة الآيات واضحة. وفي الأوليين منها توكيد إنذاري للكافرين بأسلوب مطلق. وتذكير بما كان من أمر فرعون ومن قبله حيث أخذهم الله لأنهم كذبوا بآياته. وفي الثانيتين أمر للنبي ﷺ بإنذار الكفار بأنهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنّم في الآخرة وبتذكيرهم بما كان من نصر الله للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة حينما التقتا وتقاتلتا. وقد انتهت الآيات بلفت النظر إلى ما في ذلك من عبرة لأولي العقول والبصائر.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) والآيات الثلاث التالية لها
وقد روى المفسرون «١» روايات عديدة في مناسبة هذه الآيات. منها أنها نزلت في اليهود الذين جادلوا النبي في بعض الآيات المتشابهات ابتغاء الدس
(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن إلخ.
123
والفتنة ومنها أنها نزلت في اليهود الذين ذهلوا لانتصار النبي على قريش في بدر وأخذوا يحسبون حساب العواقب. ومنها أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. ومنها أنها نزلت في حق مشركي قريش حيث علم أنهم يحشدون قواهم بقيادة أبي سفيان لأخذ ثأر بدر. ومنها أنها نزلت خصيصا في يهود بني قينقاع وأن النبي ﷺ جمعهم بعدها وأنذرهم بتقوى الله والإيمان برسالته وحذرهم من الكفر ولفت نظرهم إلى ما كان من نصر الله للمؤمنين على كفار قريش وهم مثلاهم فأجابوه قائلين: إنكم إنما قاتلتم أناسا لا بصيرة لهم في الحرب وإنكم إذا قاتلتمونا علمتم أننا نحن الناس.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وروح الآيات وفحواها تلهم أنها ليست موجهة إلى كفار قريش وإنما هي موجهة إلى فئة أخرى مفروض أنها شهدت أو علمت بما وقع في حرب نشبت بين مؤمنين وكفار. وقد يكون هذا ملهما لصحة رواية نزولها في حق اليهود. وقد تكون الآيتان الأوليان منها بمثابة تمهيد تقريري عام بين الآيتين الثانيتين اللتين تأمران النبي بمخاطبة الكفار. وليس في إطلاق كلمة الكفار على اليهود ما يبعد الرواية. فقد نعتت سلسلة آيات البقرة اليهود بهذا النعت في أكثر من حلقة. غير أننا نلاحظ أن الروايات ذكرت في سياق الآيات [٥٥- ٥٩] من سورة الأنفال على ما أوردناه في تفسيرها أن هذه الآيات نزلت في يهود بني قينقاع وأن النبي حاصرهم وأجلاهم بناء عليها. فإما أن تكون آيات آل عمران التي نحن في صددها نزلت قبل آيات الأنفال كإنذار أولي لبني قينقاع، وإما أن تكون نزلت في حق يهود آخرين اقتضت الحكمة إنذارهم وتذكيرهم بعد ما حلّ في كفار قريش ويهود بني قينقاع من بعدهم ما حلّ. ولا سيما أن التسليم بصحة رواية نزولها لإنذار بني قينقاع يقتضي فرض أن تكون نزلت قبل آيات الأنفال في حين أن الظاهر يسوغ القول إنها نزلت بعدها إلّا إذا صحت رواية ترتيب آل عمران كثاني سورة نزولا وهذا ليس وثيقا. وفي الروايات أن الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة. وفي آيات الأنفال أمر للنبي بالبطش باليهود إذا ثقفهم وتمكّن منهم في الحرب لتخويف وتشريد وتذكير من خلفهم.
124
وهذا يتسق مع احتمال رواية كون الآيات نزلت في حق بني النضير وبني قريظة أكثر.
والآيات الأربع حسب ما تقدم من شرح نزولها وتفسيرها تبدو فصلا مستقلا لا صلة له بالآيات السابقة سياقا وموضوعا. إلّا إذا صحّ ما روي من أن الآيات السابقة نزلت في مناسبة مجادلة اليهود في بعض الآيات المتشابهة. ولقد استبعدنا هذا ورجحنا كون الآيات نزلت في صدد وفد نجران. وكما أنه لا يبدو صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة كما رجحنا فإنه لا يبدو لها صلة بالآيات اللاحقة لها أيضا كما يتبادر لنا. وسورة آل عمران كسورة البقرة احتوت فصولا عديدة بعضها مستقل عن بعض ثم رتبت على وضعها الحاضر بعد تمامها. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد الآيات السابقة لحدوث مناسبتها في ظرف نزول الشطر الأول من السورة فوضعت في مكانها والله تعالى أعلم.
وجمهور المؤولين والمفسرين على أن جملة يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ عنت ما كان من تفوق مشركي قريش يوم بدر عددا على المؤمنين. وهذا ما ذكرته الروايات التي أوردناها في سياق تفسير سورة الأنفال.
وأسلوب الآيات قوي ينطوي فيه إيذان رباني حاسم بقهر الذين كفروا برسالة رسول الله وكذبوا بآيات الله المنزلة عليه كما جرت سنّة الله في الذين قبلهم. وفيه تبشير رباني بنصر المؤمنين عليهم. وهذا الإنذار والتبشير مما تكرر في سور مكية ومدنية. وتحقق مصداقهما في العهد المدني فكان فيه مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤ الى ١٧]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
125
(١) الشهوات: هنا بمعنى ما تشتهيه النفس على ما تلهمه بقية الآية الأولى.
(٢) القناطير المقنطرة: هنا كناية عن الكمية العظيمة. والقنطار كلمة أعجمية معربة قبل الإسلام. وهناك أقوال عديدة في وزنه منها أن (١٢٠٠) أوقية أو (١٠٠) رطل أو (١٠٠٠) دينار ذهبا أو (٨٠٠٠) درهم فضة أو (١٢٠٠) درهم فضة.
(٣) الخيل المسوّمة: قيل إنها بمعنى المضمرة الحسان وقيل إنها التي تجد من الرعي ما يساعدها على زيادة قوتها وحسنها لأن معنى السوم الرعي. وقيل إنها المعلمة بالتحجيل الأبيض في رجليها ويديها وبالغرة البيضاء في جبهتها حيث تكون كلمة (المسوّمة) من الوسم وعلى كل حال فالمقصد هو صفة من صفات الخيل المحببة.
(٤) الحرث: الزرع.
في الآيات:
١- إشارة إلى ما انطبع عليه الناس من اشتهاء ما تشتهى حيازته من نساء وبنين وكميات كبيرة من الذهب والفضة والخيول المحببة الصفات والأنعام والزروع.
٢- واستدراك بأن ذلك كلّه إنما هو متعة في الحياة الدنيا القصيرة الأمد وأن عند الله ما هو أحسن، عاقبة ومآبا.
٣- وأمر للنبي بسؤال الناس عما إذا كانوا يريدون أن يخبرهم بما هو خير من ذلك كلّه عند الله للذين اتقوا ربهم وبيان لذلك بأن لهم عنده الخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار متمتعين فيها بزوجات مطهرة ولهم فوق ذلك رضوان الله السامي الكريم.
126
٤- ووصف بياني للمتقين المستحقين لهذه المنزلة العظمى: فهم الذين يعلنون إيمانهم التام بكل ما جاءهم من عند الله ويطلبون منه المغفرة والوقاية من النار. وهم الصابرون الصادقون الخاضعون المطيعون المنفقون لأموالهم في سبل الله والبر والمتعبدون لله والمستغفرون له بخاصة في الأسحار.
تعليق على الآية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية بمناسبة نزول هذه الآيات. وقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية الأولى منها: يا ربّ الآن وقد زينتها لنا فنزلت الآيات التالية لها. والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن الآية الثانية وما بعدها غير منفصلة في النظم والسياق عن الآية الأولى. وقد روى الطبري أن في الآية الأولى توبيخا لليهود الذين آثروا الدنيا وزينتها على الإيمان بالرسالة الإسلامية. ولم ترد هذه الرواية أيضا في الصحاح وإن كان لها صلة برواية كون الآيات السابقة في صدد اليهود. غير أن تعبير الناس والإطلاق في الخطاب في الآية الأولى وانسجامها مع الآيات التي بعدها يسوغان القول إن هذه الآيات فصل مستقل لا علاقة له مباشرة باليهود وبالآيات السابقة. ولقد أورد المفسرون وكتّاب السيرة في مناسبة ذكرهم خبر وفد نجران أن هذا الوفد أقبلوا على مسجد النبي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الديباج فأثار مشهدهم المسلمين حتى قالوا ما رأينا وفدا مثلهم «١». فلا يبعد أن تكون هذه الآيات وقد جاء بعدها بقليل سلسلة طويلة يحتمل أن تكون في صدد مجالس المناظرة بين النبي وهذا الوفد قد نزلت بين يدي هذه السلسلة ليكون فيها للمسلمين الذين دهشوا بزينة الوفد موعظة وتنبيه.
(١) انظر ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٦ وتفسير الطبري.
127
هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [٣٢] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [٨٦ و ٨٧] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّه الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول.
وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبها حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما «أنّ النبي ﷺ قال حبّب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وجاء في ثانيهما: «أنّ عائشة قالت لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلّا الخيل وفي رواية من الخيل إلّا النساء». ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنّة يمنع الإنسان من أن يحبّ النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوّهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحسن صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحثّ عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [١- ٨ و ٢٠] والإسراء [٧٨] والذاريات [١٦- ١٨] فنكتفي بهذا التنبيه.
128

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ٢٠]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
. (١) قائما بالقسط: حال لحقيقة من الحقائق الربانية أي أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط متحقق بالعدل.
(٢) بغيا بينهم: أي بقصد بغي بعضهم على بعض أو نتيجة لما قام بينهم من بغي بعضهم على بعض.
(٣) الأميين: شرحنا معاني الكلمة في سورة البقرة والكلمة هنا وفي مقامها قد يكون القصد منها الأمم غير اليهودية. وقد تكون الكلمة هنا كناية عن الأمم غير الكتابية إطلاقا. وقد تكون في مقامها كناية عن الأمم غير اليهودية أيضا.
عبارة الآيات واضحة. وقد روى الخازن روايتين في سبب نزولها. الأولى أنها في صدد مناظرة وفد نجران. والثانية تذكر أن حبرين من أحبار الشام قدما إلى المدينة وقالا للنبي نريد أن نسألك عن شيء إن أخبرتنا به آمنّا بك فقال اسألا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله الآيات. والروايات لم ترد في الصحاح. والآيات كما يتبادر لنا استمرار للسياق السابق الذي رجحنا أنه في صدد وفد نجران وهذا ما يجعلنا نرجح أن هذه الآيات أيضا في صدده. ومن المحتمل أن تكون في صدد المشهد الأول من مشاهد المناظرة بين النبي ﷺ وهذا الوفد أو في صدد تلقينه الموقف الذي ينبغي أن يقفه في هذا المشهد. وقد استهدفت انتزاع التسليم المبدئي بوحدة الله المطلقة المنزّهة ووجوب الخضوع له وحده وتنزيهه عن الجزء السابع من التفسير الحديث ٩
129
كل نقص من الوفد على اعتبار أن التسليم بذلك مبدئيا يمهد لحل كل خلاف ثانوي ولتحقيق التطابق في المسائل المتفرعة عنها. وفي هذا الأسلوب ما هو ظاهر من القوة والرصانة.
والأسلوب الذي بدأت به الآيات من تقرير شهادة الله والملائكة وأولي العلم بوحدة الله هو أسلوب تعبيري لتقوية المعنى المقرر وإعلان كونه حقا وصدقا لا يمكن أن يكون فيه خلاف. وهو كما يظهر أسلوب قوي وملزم يعرض النبي بلسان القرآن به جوهر الدعوة الإسلامية ومبدأها الأساسي وهما وحدة الله المطلقة ووجوب الإسلام له وحده. فهذا هو الدين الحق وهو ما لا ينبغي أن يكون محل خلاف ونزاع. وما كان من ذلك بين أهل الكتاب إنما هو ناشىء عن الأهواء والبغي لا عن كتب الله وأنبيائه. وقد أمر النبي في آخر الآيات إذا كابر الفريق الذي يتناظر معه وجادل في هذا الذي لا يتحمل نزاعا ولا جدالا بأن يحسم الموقف بإعلانه أنه قد أسلم نفسه هو ومن اتبعه لله وأن يسأل سامعيه من كتابيين وأميين عما إذا كانوا يسلمون لله مثله. فإن أسلموا فيكون هدى الله قد جمعهم، وإن تولوا فعليه أن يعلن أنما عليه البلاغ والله هو البصير بالناس المراقب لأعمالهم.
ويلحظ أن الآية الأخيرة قد احتوت أمرا للنبي بتوجيه الخطاب لأهل الكتاب وغيرهم. فمن المحتمل أن يكون ذلك من قبيل التعميم والاستطراد لأن الكلام بسبيل الدعوة والتقرير العام. ومن المحتمل أيضا أن يكون بعض مشركي العرب المحايدين أو المسالمين شهدوا المناظرة.
ومع ترجيحنا أن تعبير أُولُوا الْعِلْمِ في الآية [١٨] قد قصد به (أولي الكتاب) بقرينة ذكرهم في الآيات التالية فإن لورود التعبير مطلقا مغزى مهما من حيث احتمال انطوائه على تقرير أن كل من أوتي علما من أي نحلة كان لا بد من أن يشهد هذه الشهادة. وهذا المغزى منطو في آية سورة فاطر إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ على ما شرحنا ذلك في سياق الآية. ولقد رأينا القاسمي والطبرسي يقفان عند الكلمة فيقول الأول إن ذكر أولي العلم في هذا المقام مرتبة جليلة
130
لهم. ويقول الثاني إن في ذلك تنويها بفضل أهل العلم. وأورد الثاني بعض الأحاديث النبوية فيها هذا التنويه مما أوردناه في مناسبات سابقة.
ولقد قال الخازن عزوا إلى بعض أهل التأويل إن جملة وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ منسوخة بآية السيف أو القتال. وهذا مما تكرر قوله من بعض المفسرين والمؤولين في العبارات المماثلة التي مرّت أمثلة منها وبخاصة في السور المكية. وقد نبهنا على الوجه الحق في ذلك في المناسبات السابقة وفي تعليقنا المسهب في سورة (الكافرون) فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
. عبارة الآيتين واضحة. وفيها نعي على الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه ومن يأمر بالقسط من الناس. وتقرير حبوط أعمالهم واستحقاقهم عذاب الله. دون أن يكون لهم أي نصير منه.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ... إلخ والآية التالية لها
لم يذكر المفسرون رواية ما في مناسبة الآيتين. وإنما ساقوا ما يفيد أن المقصود فيها هم اليهود. وهذا صحيح حيث وصف اليهود في بعض حلقات سلسلة سورة البقرة بمثل هذه الأوصاف. ولقد أورد الطبري حديثا عن أبي عبيدة جاء فيه: «قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ
131
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(٢١) إلى أن انتهى إلى جملة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) ثم قال رسول الله يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبادهم وأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار فذلك تأويل الآية».
والرواية لم ترد في الصحاح. وقد أوردها ابن كثير أيضا كحديث من تخريجات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث. وصحتها محتملة لأنها متسقة مع ما روي عن اليهود على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات البقرة [٨٧ و ٩١] التي ذكرت ذلك عنهم. وقد أوردنا في سياق ذلك نصوصا من بعض أسفار اليهود القديمة مؤيدة لذلك. ونذكر هنا شيئا فاتنا ذكره وهو أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس من رجال القرن الميلادي الأول ذكر في كتابه أن هيرودوس ملك اليهود قتل كثيرا من علماء اليهود وقتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم «١».
وهكذا تتحدى الآيات القرآنية اليهود في تنديدها وإنذارها المتكررين وتدمغهم بما ورد في أسفارهم وكتبهم بما اقترفوه من جرائم كبرى بقتل الأنبياء والآمرين بالقسط من علمائهم حينما لا يسيرون على هواهم.
ومن المحتمل أن اليهود كانوا طرفا في المناظرة وفي المشهد الذي مرّ بيانه.
أو أنهم قالوا بمناسبة العقيدة التي أعلنها النبي ﷺ إنهم يقرون بوحدانية الله ثم أخذوا يعاندون ويحاجّون في صحة رسالة النبي في حين أنه يترتب عليهم التصديق بها لأنها تدعو إلى الله وحده ودينه الحق الإسلام. ولعلهم حاججوا في أمور أخرى يترتب عليهم التسليم بها تبعا للتسليم بالمبدأ في مقتضى الموقف وحكمة التنزيل تذكيرهم بما كان من آبائهم من مواقف مماثلة حيث كانوا يكفرون بآيات الله
(١) انظر الترجمة العربية ص ١٤٩ وما بعدها. وخبر قتل يوحنا بن زكريا الحبر الأعظم الذي هو يحيى في النصوص الإسلامية مذكور في الإصحاح (١٤) من إنجيل متى.
132
ويجادلون فيها ويقتلون الأنبياء ودعاة الحق ومؤيديه بقصد ربط موقف الحاضرين بموقف الغابرين. وهذا أسلوب جرى عليه القرآن مما مرت أمثلة منه في سلسلة سورة البقرة. وفي الآيات التالية قرائن قد تدل على هذه الأمور المفروضة من موقفهم.
والآيات وإن كانت عنت اليهود على ضوء الشرح المتقدم فإن الإطلاق في أسلوبها ينطوي على تلقين مستمر المدى في صدد كل من يكفر بآيات الله ويناوىء دعاة الحق والخير والصلاح ويعتدي عليهم في كل ظرف ومكان.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بفريق من أهل الكتاب يدعون إلى تحكيم كتاب الله فيأبونه ويتبجحون بما لهم من الحظوة عند الله في الآخرة ويزهون بدينهم ويفترون على الله فيه، وإنذارا لهم. وإعلانا تقريريا بقدرة الله على منح الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء وتغيير الليل بالنهار والنهار بالليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي وإغداقه الرزق على من يشاء بغير حساب.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [٢٧]
روى المفسرون روايات عديدة في سبب نزول الآيات. فرووا في سبب نزول
133
الآيات الثلاث الأولى أن اليهود رفعوا قضية زنا للنبي ليحكم فيها فحكم بالرجم حسب شريعتهم فأنكروا فطلب منهم إحضار التوراة والاحتكام إليها فأبوا. كما رووا في صددها أن اليهود ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا وأن ملّته هي اليهودية فكذبهم النبي وطلب منهم الاحتكام للتوراة فأبوا. ورواية ثالثة تذكر أن النبي دعاهم إلى الإيمان به لأنه مكتوب عندهم في التوراة فأنكروا فطلب الاحتكام للتوراة فأبوا. وفي سبب نزول الآيتين الرابعة والخامسة رووا أن النبي ﷺ لما فتح مكة وعد المؤمنين بأن يجعل الله لهم ملك الروم وفارس فقال اليهود والمنافقون هيهات أين لمحمد ذلك فنزلت الآيات للردّ عليهم. ومما روي أن هذا الوعد كان يوم حفر الخندق حينما غزت أحزاب قريش والكفار المدينة. فقد استعصت صخرة عظيمة على المؤمنين حين الحفر فأخبروا النبي ﷺ فجاء فضربها ثلاث ضربات حتى كسرها وكان يتطاير البرق في كل ضربة حتى كأنه مصباح في جوف مظلم فسأل سلمان الفارسي عن ذلك فقال له أضاءت لي من الضربة الأولى قصور الحيرة ومن الثانية قصور الروم ومن الثالثة قصور كسرى فأبشروا واستبشروا بنصر الله ووعده، فقال المنافقون ألا تعجبون يميتكم ويعدكم بالباطل ويعدكم بقصور كسرى والروم والحيرة وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ولا تستطيعون أن تبرزوا لعدوكم فأنزل الله الآيتين لتكذيب المنافقين وتأييد وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية ثالثة أن اليهود قالوا حينما دعاهم النبي إلى الإيمان به «لا نتبع رجلا جاء لينقل النبوّة من بني إسرائيل».
وعدا رواية تحكيم اليهود للنبي في قضية زنا لم ترد أي من الروايات في الصحاح. ورواية هذا التحكيم رواها البخاري في صدد الآية [٩٣] من هذه السورة «١». ورواية ما كان أثناء حفر الخندق تبدو مقحمة لأن الآيات في صدد موقف فريد من أهل الكتاب وغزوة الخندق وقعت بعد مدة ما من غزوة أحد التي ذكرت في فصل آخر من هذه السورة. والمتبادر أن الآيات نزلت قبل ذلك بمدة
(١) انظر التاج، ج ٤ ص ٧٢.
134
ما. وحجاج اليهود في ملّة إبراهيم ويهوديته قد حكمته آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. مما يجعلنا نستبعد رواية ذلك في صدد الآيات.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآيات الأولى الثلاث نزلت في موقف دعا النبي ﷺ فيه فريقا من أهل الكتاب إلى الاحتكام للتوراة فأبوا وأن الآيتين الرابعة والخامسة نزلتا معقبتين على هذا الموقف. وجملة قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ حكيت عن اليهود في آية سورة البقرة [٨٠] حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن هذا الفريق من اليهود. والسياق قد يتسق مع رواية كون الآيات الثلاث الأولى في صدد آباء اليهود الاستجابة إلى دعوة النبي للإيمان به.
فهم قد أقروا بوحدانية الله ثم راوغوا وأنكروا صحة رسالة النبي بزعم أن النبوة محصورة ببني إسرائيل أو غيظا من أن تظهر في غيرهم. وقد حكت ذلك عنهم آيات سورة البقرة [٨٩- ٩٠] فذكرتهم الآيتان [٢١- ٢٢] بمواقف آبائهم من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ومن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم وقتل بعضهم وهو ما ذكرته عنهم الآيات [٨٥- ٨٨] من سورة البقرة كذلك فدعاهم النبي إلى الاحتكام إلى التوراة لإفحامهم بما فيها من الدلائل على صحة نبوته التي أشارت إليها آية سورة الأعراف [١٥٧] وهي: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ... [١٥٧] إلخ فأبوا وعاندوا فنددت بهم الآيات الثلاث لاغترارهم وتبجحهم وافترائهم على الله ثم قررت الآيتان الأخيرتان ما قررته من مطلق تصرف الله وقدرته في كونه وخلقه ومشاهد ذلك لتقرر ضمنا أنه لا حرج عليه أن ينزع النبوة ممن يشاء ويمنحها من يشاء وأن يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
وهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب جعلنا نلحق الآيتين [٢٦- ٢٧] بالآيات الثلاث كما أنه يسوغ القول أن الآيات الخمس متصلة بالآيات السابقة واللاحقة وأن السياق متسق ومتصل بمشهد الحجاج والمناظرة القائم بين النبي
135
وأهل الكتاب والذي كان يحتمل أن اليهود كانوا طرفا فيه.
على أن كل هذا لا ينبغي فيما يتبادر لنا أيضا أن تكون الآيات في صدد وفد نصارى نجران وأن يكون النبي ﷺ قد دعا هذا الوفد إلى الاحتكام إلى التوراة والإنجيل لإثبات نبوته بما فيهما من دلائل فأبوا وراوغوا. والنصارى يعتبرون التوراة كتاب شريعتهم. وفي آية الأعراف [١٥٧] تقرير بأن النبي مكتوب في التوراة والإنجيل معا.
ولقد ذكرنا أن قول اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قد حكي عنهم في الآية [٨٠] من سورة البقرة فمن المحتمل أن يكون تكرر منهم فاقتضت حكمة التنزيل تكرار حكايته على سبيل التنديد. ولقد أعددنا ما روي في صدد هذا القول في سياق آية سورة البقرة المذكورة فنكتفي بهذا التنبيه.
ولا نرى هذا ينفي احتمال أن تكون الآيات في صدد وفد نجران. فقد حكى القرآن عن النصارى أيضا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه والله تعالى أعلم.
والآيات قوية في أسلوبها نافذة في مداها. وتنطوي على تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي التنديد بمن يدعى إلى الاحتكام لكتاب الله فيأتي ويراوغ ويظل سادرا في غيّه متمسكا بهواه. أم بمن يتبجح في تزكية نفسه ويغترّ بما يكون له من سلطان أو علوّ مرتبة وسعة رزق وعزة ولا يتذكر أن الله الذي رفعه وأعزّه وآتاه الملك ووسّع له الرزق قادر على خفضه وإذلاله ونزع الملك منه وتضييق الرزق عليه وكأنما تهيب به أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه وذهنه ليتقي سخط الله وغضبه وتغييره نعمه التي أنعمها عليه إلى السوء بصالح العمل وأداء الواجب نحو الله والناس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
136
(١) من دون المؤمنين: بمعنى بدلا من المؤمنين. أو مكان المؤمنين أو متجاوزين المؤمنين.
(٢) تقاة: قرئت (تقية) والمعنى واحد وهو الاتقاء.
عبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تحذيرا مكررا للمؤمنين من تولّي الكافرين دون المؤمنين إلّا إذا كان بقصد التقية حين الاضطرار. وتنبيها إلى أن الله تعالى يعلم كل ما يبدونه ويسرّونه، وأن كل نفس سوف تجد أمامها يوم القيامة ما عملته من خير وشرّ. فيتمنّون حينئذ أن لو كان ما عملوه من سوء وشرّ بعيدا عنهم، وتوكيدا على المسلمين بوجوب طاعة الله والرسول وبيانا بكون طاعة الله ومحبته منوطتان بطاعة الرسول.
تعليق على الآية لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ... إلخ والآيات التالية لها إلى الآية [٣٢]
ولقد روى المفسرون «١» في صدد هذه الآيات روايات عديدة. حيث روى بعضهم أن الآيات الثلاث الأولى نزلت في بعض المؤمنين أو المنافقين المتظاهرين بالإسلام الذين كانوا يوالون اليهود أو المشركين وأن الآيتين الأخيرتين نزلتا في
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير.
137
النصارى الذين كانوا يقولون إننا نعظم عيسى حبا لله، أو نزلتا في حق وفد نجران لقولهم نحن نحب الله، أو في حق المشركين الذين كانوا يقولون إننا نعظم الملائكة حبا لله، أو في حق اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. وقد حكت هذا عنهم آية سورة المائدة هذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) ومما رواه بعضهم «١» أنها نزلت في حادث حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين بسبب كتابته لأبي سفيان بخبر عزيمة النبي ﷺ على الزحف على مكة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والرواية الأخيرة بعيدة في ظرفها. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزأة وفي ظروف مختلفة مع أن المستلهم من روحها أنها سياق واحد وأنها متصلة بمشهد المناظرة والحجاج وقد جاءت استطرادية بعد ما حملت الآيات السابقة على أهل الكتاب ومنهم اليهود ونددت بكفرهم ومراوغتهم وتبجحهم بالحظوة لدى الله وافترائهم عليه وربطت بين موقفهم الحاضر وموقف آبائهم الغابر لتحذر المؤمنين من موالاتهم حيث كان بين قبائل اليهود وقبيلتي الأوس والخزرج حلف وولاء قديمان على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [٨٤- ٨٥] وأنها تضمنت دعوة لأهل الكتاب إلى اتباع النبي إذا كانوا حقا يحبون الله لأنه هو الهادي إلى طريق الله القويم الذي ليس فيه عوج ولا تعقيد ولا انحراف. ولما كانت الآيات التالية لهذه الآيات تلهم أنها في صدد مشهد ثان من مشاهد المناظرة حول العقيدة النصرانية فإنه يصحّ أن يقال إن الآيات الخمس جاءت كذلك ختاما لما اقتضت حكمة التنزيل وحيه في صدد المشهد الأول.
وبقطع النظر عن صلة الآيات بمشهد المناظرة ففي الآية الأولى منها تشريع
(١) انظر تفسير الخازن.
138
إسلامي محكم في ذاته. وفي الآيتين التاليتين تدعيم لهذا التشريع.
ولقد انطوى في الآية الأولى مبدآن في صدد تنظيم مناسبات المؤمنين مع غيرهم:
الأول: عدم جواز اتخاذ المؤمنين من غيرهم نصراء وأولياء بدلا من المؤمنين في أي حال.
الثاني: تسويغ مداراة المؤمنين لغيرهم في الظروف التي توجب هذه المداراة لدفع الأذى والشرّ والضرر.
وفيما يلي شرح لمدى الآية وما يروى في صددها من أقوال وأحكام وتعليق عليه:
١- لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل أو يوردونها لأنفسهم في صدد الفقرة الأولى. من ذلك أن النهي يشمل التناصر والتحالف مع الكفار. ويشمل كذلك اتخاذهم بطانة أو اطلاعهم على أسرار المسلمين ولو كان بينهم قربى رحم أو جنس. ومما قالوه في تأويل فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إنها بمعنى براءة الله منه والإيذان بأن فاعل ذلك مرتدّ عن الإسلام. وبعضهم أدار الكلام على اعتبار أن النهي هو عن موالاة الكفار الأعداء من حيث إن هناك كفارا غير أعداء مسالمين أو موادين أو حياديين ومعاهدين. وفي كل هذه الأقوال صواب وسداد.
٢- وتنبيه يهدد المئات ولو كان الأمر بديهيا على أن كلمة الْكافِرِينَ في الآية هي نعت لكل جاحد لرسالة محمد ﷺ سواء أكان كتابيا أم مشركا أم وثنيا أو ملحدا. وفي آيات في سورة المائدة نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى وأهل الكتاب [٥٢- ٥٨] حيث يكون في ذلك تدعيم قرآني.
٣- والآية هي أولى آيات ورد فيها النهي عن تولي الكافرين. وقد تكرر ذلك مرارا في سور أخرى حيث يبدو أن من المسلمين سواء منهم المخلصون أو المنافقون المتظاهرون بالإسلام لم يمتنعوا عن تولي الكفار فاقتضت حكمة التنزيل
139
موالاة النهي وبتشديد أقوى مما جاء في الآية.
٤- والنهي في الآية مطلق أي بدون تعليل حيث توجب عدم تولي الكافرين مطلقا. والآيات التي نزلت بعد ذلك مختلفة الصيغ. منها ما جاء مطلقا ومماثلا لهذه الآية مثل آيات سورة النساء [١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٤] والمائدة [٥١ و ٥٢] والتوبة [٢٣ و ٢٤] ومنها ما جاء معللا بكون النهي هو للأعداء والمعتدين على المسلمين والإسلام مثل آية المائدة [٥٨] والممتحنة [١- ٢].
٥- وفي سورة الممتحنة هذه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) حيث يمكن أن يكون انطوى فيها استدراك تدعيمي لتعليل النهي المذكور آنفا. وفي الآية التي تلي هذه الآية تدعيم حاسم حيث جاء فيها إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) والمتبادر أنه يصحّ أن تعتبر الآيتان ضابطين محكمين لموقف المسلمين من غيرهم مع القول إن جملة أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تنسحب على مختلف أنواع التعامل والتعايش والتعاون. والله تعالى أعلم.
٦- وللسيد رشيد رضا كلام سديد وجيه قاله في سياق تفسير آية آل عمران التي نحن في صددها حيث يقول إنه ليس ما يمنع المسلمين من أن يتحالفوا ويتفقوا مع غيرهم من غير أعدائهم إذا كان لهم مصلحة فضلا عن التعامل الذي ينطوي في آية الممتحنة [٨] ويسوق كدليل على ذلك حلف خزاعة مع النبي ﷺ على شركهم نتيجة لصلح الحديبية حيث اتفق النبي وقريش على أن يخيروا القبيلتين النازلتين في منطقة مكة وهما بكر وخزاعة بين الدخول في صلح النبي أو صلح قريش فاختارت خزاعة النبي واختارت بكر قريشا لأنه كان بين القبيلتين عداء وحروب. وصار الصلح شاملا لكلتا القبيلتين مع الحليف الذي اختارته، وهناك دليل آخر وهو كتاب الموادعة الذي كتبه النبي ﷺ حينما حلّ في المدينة وجعله شاملا لليهود فيها.
فأقرهم على دينهم وعلى ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج من محالفات وأوجب
140
عليهم النصرة للمؤمنين مع حلفائهم وأوجب لهم النصرة من المؤمنين وحلفائهم وأوجب لهم وعليهم تبادل المساعدات «١». وواضح من الأمثلة أنها شاملة للكتابيين والمشركين. وكل من هو غير مؤمن برسالة النبي ﷺ فهو كافر. سواء أكان كتابيا أم غير كتابي.
وعلى هذا يصحّ أن يقال إن لأولي الأمر من المسلمين أن يلحظوا ما فيه مصلحة المسلمين في صلاتهم مع غيرهم وأن الضابط الذي يجب أن يضبط عملهم هو أولا ما يعرف في الكفار من نوايا المسالمة والموادة أو العداء والغدر والخيانة.
فمن كانت نواياه سلمية ودّية جاءت محالفته والاستعانة به في شتى المجالات إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. وثانيا الحذر الدائم وعدم الاندفاع مع حسن الظن والظواهر. ويمكن أن يقال إجمالا إن آيتي سورة الممتحنة تصحان أن تكونا ضابطا في هذه الحالات والله أعلم.
٧- ولقد جاء في سورة المجادلة التي نزلت بعد هذه السورة حسب روايات ترتيب النزول هذه الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ والمتبادر أن الموادة هي دون التولّي والتناصر والتحالف الذي نهت عنه الآيات الأخرى. ويمكن أن تكون تبادل محبة وحسن معاشرة ومشايعة وما في نطاق ذلك وأسلوب الآية قوي نافذ. وقد انطوت على تعديل لمدى الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء بحيث صار النهي القرآني شاملا للموالاة والموادة في مداهما المشروع مع التنبيه على مدى جملة مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ التي هي صريحة بأنها في صدد الكفار الأعداء المحاربين لله ورسوله.
(١) انظر ابن هشام ج ٣ ص ١١٩- ١٢٣. [.....]
141
٨- وقد يلحظ أن النهي والتحذير متصلان اتصالا شديدا بظروف السيرة النبوية التي كان المؤمنون والمشركون وبخاصة القرشيين من هؤلاء فيها في حالة عداء وحرب. وكان موقف اليهود الكافرين بالرسالة المحمدية فيها موقف تعطيل ومناوأة ودسّ وعداء أيضا. وكان موقف نصارى الشام بخاصة موقف ترقب وتربص وعداء. وكان بين المؤمنين المكيين ومشركي قريش أوشاج رحم وقربى وكان بين مؤمني المدينة ومشركيها ومنافقيها أوشاج قربى ورحم. وكان بين مؤمني المدينة واليهود فيها محالفات قديمة. وكل هذا ملموح في الآيات التي أوردنا أرقامها آنفا وفي سياق بعضها. وهذا يفسّر الشدة التي انطوت في الآيات من جهة ويسوغ القول إن الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى جاءت لمعالجة الموقف الراهن من جهة أخرى. غير أن المبدأ الذي احتوته الآية التي نحن في صددها والآيات الأخرى يظل محكما واجب الرعاية في كل ظرف مماثل وفي نطاق ما نوهنا بسداده وصوابه من الأقوال والتأويلات والضابطين المحكمين في آيتي الممتحنة.
وجملة إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ظاهرة المعنى بأن القصد من هذا الاستثناء هو مداراة الكفار وليس توليهم على كل حال. ومما قاله الطبري وآخرون إن ذلك سائغ إذا كان هناك خطر أو ضرر يخافهما المسلمون من الكفار وفي حدود ما لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وما ليس فيه غضّ عن إهراق دم مسلم أو استحلال ماله أو فيه فساد في الدين أو مشايعة ومناصرة على مسلم بفعل ما.
ويدخل في ذلك اتخاذهم بطانة واطلاعهم على أسرار المسلمين ومواضع ضعفهم.
وننبه على أن من العلماء من أجاز التقية من الكفار إجازة رخصة وهناك من أوجبها إيجابا.
ويتبادر لنا على ضوء العبارة القرآنية أنها تضمنت تسويغا عاما يحدد المسلمون الانتفاع به وفق ظروفهم وفي نطاق الضرورة وفي حدود الأقوال السابقة الوجيهة.
ولقد قال بعضهم إن الاستثناء كان بالنسبة لأول الإسلام ثم نسخ بعد أن أعزّ
142
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﰿ
الله دينه. ولما كانت ظروف الإسلام والمسلمين لم تبق على وتيرة واحدة حيث كانوا ضعفاء ثم قووا ثم ضعفوا وأن هذا قد يتكرر فالقول بنسخ الاستثناء غير متسق مع طبيعة الأشياء. والراجح أنه مما أملته عزة المسلمين الأولى في صدر الإسلام.
ولا يورد القائلون أثرا عن النبي ﷺ أو كبار صحابته يدعم قولهم. وهذا ما يسوغ القول إنه مستمر الحكم في الحدود التي ذكرناها.
١٠- وننبه على أن الشيعة يتوسعون في رخصة التقية فيجيزونها في كل الحالات والمواقف. وسواء أكانت تجاه الكفار أم المسلمين. بل ويوجبونها على ما هو مثبوت في كتبهم حتى تبدو أنها من أهم المبادئ التي يدينون بها ويطبقون عليها مختلف الحالات في مختلف المواقف والظروف التاريخية. وقد قال الطبرسي وهو مفسر شيعي معتدل في سياق الآية إن أصحابنا أجازوها في الأحوال كلها عند الضرورة. ولقد ألممنا بهذه المسألة في سياق تفسير الآية [٢٨] من سورة غافر وأوردنا أقوالا وروايات أخرى يرويها الشيعة وأبدينا رأينا في المسألة فلا نرى ضرورة للإعادة إلّا التنبيه على أن آية آل عمران التي نحن في صددها هي في صدد الرخصة في مداراة الكفار فقط وأن المداراة والتقية إزاء غير الكفار حين الضرورة والخطر قد تصحان استئناسا بآية سورة النحل [١٠٦] وما ورد من أحاديث أخرى مع ما شرحناه في سياق تفسير آية غافر ومع التنبيه على ذلك على أن المداراة والتقية هما غير الاضطرار إلى تناول ما هو محرم من الأطعمة الذي ورد في آيات الأنعام [١٤٥] والنحل [١١٥] والبقرة [١٧٣] وما يمكن أن يقاس عليه. وغير إكراه المسلم على عمل أو قول محظور بالقوة. وقد شرحنا هذا في سياق تفسير آية الأنعام [١٤٥] وآية النحل [١٠٦] فنكتفي بهذا التنبيه والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٦٤]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
143
(١) محرّرا: متحررا أو منقطعا عن أي علاقة بالناس والمقصود أن يكون متفرغا لخدمة الله وبيته.
(٢) بكلمة منه: الجمهور على أن ذلك يعني عيسى عليه السلام.
(٣) حصورا: قيل إنها بمعنى عاجزا عن الفساد. وروى الطبري حديثا عن ابن العاص عن النبي ﷺ أنه أخذ من الأرض عودا صغيرا ثم قال لم يكن له ما للرجال إلّا مثل هذا العود. والحديث ليس من الصحاح. وقال القاضي عياض إن العجز عن النساء عيب لا يليق بالأنبياء. وقيل في معنى الكلمة إن الله سمّاه حصورا لأنه كان متعففا عن النساء ترهّبا وتزهّدا. وقيل إن معناها معصوما عن الفواحش.
وليس في كتب النصارى التي اطلعنا عليها ذكر لمعنى الحصر بمعنى العجز عن النساء وإن كان المستفاد منه أن يحيى عليه السلام لم يتزوج.
الجزء السابع التفسير الحديث ١٠
145
(٤) رمزا: بمعنى بالإشارة.
(٥) إذ يلقون أقلامهم: أقلامهم بمعنى سهامهم والجملة بمعنى إذ يقترعون بالسهام على من الذي هو أحقّ بكفالة مريم.
(٦) بكلمة منه: الجمهور على أن هذا التعبير كناية عن معجزة الله وإرادته بولادة مريم لعيسى بدون مسّ رجل. وفي الآية [٤٧] تفسير بأسلوب آخر حينما استغربت مريم البشارة فقيل لها كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧).
(٧) المسيح: هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة ثم تكررت وقد أوّلها بعضهم بمعنى البركة. وبعضهم بمعنى المطهر من الذنوب. وربط بعضهم بين الكلمة وكلمة (المسح) العربية فقال سمي لذلك لأنه كان يشفي المرضى بالمسح على رؤوسهم أو لأنه كان ممسوح أخمص القدمين. وظنها بعضهم أنها من السياحة فقال إنها أطلقت عليه لكثرة سياحاته. وكل هذه الأقوال تخمينية وفي بعضها إغراب ظاهر والكلمة عبرانية معرّبة. وقد شرحنا مداها في سياق تعليقنا على المسيح والمسيح الدجال في سورة غافر استئناسا مما جاء في بعض الأسفار فليرجع إليه.
(٨) عيسى: الكلمة تعريب لاسم يسوع أو يوشع العبراني الأصل.
(٩) الأكمه: الذي يولد أعمى أو ممسوح العينين.
(١٠) الحواريون: هذه الكلمة تأتي هنا لأول مرة. وقد تكررت في سورتي الصف والمائدة والكلمة على رأي جمهور المفسرين «١» عربية الأصل والمعنى مع اختلاف في التخريج حيث قيل إنها من الحور وهو البياض لأن الحواريين كانوا يلبسون الثياب البيضاء. أو من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه. وأطلقت هذه الكلمة عربيا ومجازا على صفوة أخصاء الشخص وخالصتهم. وقد يعني (الحواري) النظيف النقي. ومن ذلك إطلاق الحوارية والحواريات على النساء الحضريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن. واستنتج بعضهم أنها بمعنى النصير
(١) انظر تفسير المنار والطبري والبغوي وابن كثير والنسفي والخازن والطبرسي لهذه الآيات وآيات المائدة [١١٥ و ١١٦] والصف [١٤].
146
لحديث صحيح رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «إنّ النبي ﷺ لما ندب الناس يوم الأحزاب كان الزبير بن العوام رضي الله عنه أول الملبين مرة بعد مرة فقال النبي ﷺ لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّ من أمتي الزبير» «١».
ولقد أرجع بعض الباحثين الكلمة إلى (حوارا) الآرامية بمعنى الأبيض.
وقالوا إنها دخيلة على اللغة العربية. واللغة الآرامية واللغة العربية من أصل واحد فلا يمنع أن تكون الكلمة مشتركة في اللغتين ولا يكون محل للقول إنها دخيلة.
والحور في اللغة شدّة بياض العين ومنه الحور العين. وقال رشيد رضا إن بعض كتّاب النصارى زعموا أن الكلمة محرّفة عن كلمة (الحواري) اليونانية. وقد فنّد هذا الزعم لغويا وصرفا واستعمالا تفنيدا قويا.
(١١) نبتهل: من الابتهال وهو دعاء الله والالتماس منه.
(١٢) من دون الله: بدلا من الله أو غير الله.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) وما بعدها إلى آخر الآية [٦٤] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عبارتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته:
١- تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به
(١) التاج، ج ٣ ص ٣٠٠.
147
وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفّيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
٢- وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
٣- وأمرا للنبي ﷺ فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عزّ وجلّ بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [٦٠] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصحّ أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبيت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
٤- وأمرا آخر للنبي ﷺ بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقرّ بها هو وإياهم على السواء: بأن لا يعبد كل منهم إلّا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربّا له.
فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو ومن معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين «١» على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي ﷺ وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام «٢» عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير إلخ.
(٢) ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٤- ٢١٥.
148
عمران من أولها إلى آخر الآية [٦٤] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي ﷺ وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفّيه. وفي دعوة المحاجّين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد فلا نرى ضرورة إلى التكرار لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [٥٨- ٦٤] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق
149
وحده ولا سيما إن ما فيها متسقا مع ما يسلّم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله أي تأويل.
ومضمون الآيات المذكورة وروحها وبخاصة دعوة النبي ﷺ المحاجّين إلى المباهلة، والابتهال إلى الله بلعنة الكاذبين ثم أمر الله له بدعوتهم إلى كلمة سواء بينهم وبينه وإشهادهم إذا تولوا على أنه هو وأتباعه مسلمون لله تعالى فكل ذلك قوي رائع. ويلهم أن النبي ﷺ كان في المناظرة في موقف القوي الدافع المفحم الشاعر بقوة موقفه وصحة دعواه وصدق ما يقرره. وهذا المعنى القوي الرائع يظل واردا إزاء كل موقف مكابر في هذا الأمر في كل ظرف ومكان.
هذا، وكثير مما جاء في الآيات من المتشابهات التي يمكن أن يرجع في حسمها إلى المحكمات أو الآيات التي فيها صراحة أكثر والتي يجب أن يوكل ما يعجز العقل الإنساني عن فهمه وتأويله إلى الله تعالى ويوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه مع استشفاف الحكمة منه.
وهذه بعض إيضاحات وتنبيهات في صدد ما احتوته الآيات على ضوء ذلك:
فأولا: إن في الآيات زيادات لم ترد في آيات سورة مريم وهو ما احتوته الآيات [٣٣- ٣٨ و ٤٢- ٤٤ و ٤٧- ٥٧] وبعض ما جاء من هذه الزيادات مثل المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إحياء للموتى وإبراء للأكمه والأبرص. ومثل قول عيسى إنه مصدّق للتوراة وإنه سوف يحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم. ومثل هتافه بمن يكون أنصاره حينما أحسّ من بني إسرائيل بالكفر واستجابة الحواريين لهتافه وإعلانهم إيمانهم. ومثل ما كان من مكرهم به.
وخطاب الله لعيسى إنه متوفّيه ورافعه إليه وجاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا قد ورد في الأناجيل المتداولة المعترف بها صراحة وضمنا «١». ولقد أوّل المؤولون جملة وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ بما كان من مكر يهوذا الأسخريوطي به وتسليمه
(١) انظر مثلا الإصحاحات (٤ و ٥ و ٦ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١ و ١٢) من إنجيل متى.
150
إياه للسلطات وهذا مذكور في الأناجيل «١». وأوّلها بعضهم بما كان من مكر اليهود به وهذا منثور في جميع الأناجيل. وننبه بهذه المناسبة إلى أن كلمة الحواريين لم ترد في الأناجيل الأربعة المتعرف بها وقد سمّوا فيها (تلامذة المسيح) و (رسله) «٢».
وبعض ما جاء من الزيادات لم يرد في الأناجيل المتداولة المتعرف بها مثل إعلان اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ونذر امرأة عمران ما في بطنها واعتذارها ودعائها وتعويذها لمريم وذريتها بالله من الشيطان واستجابة الله لها وعنايته بمريم وتكفيله إياها لزكريا ومثل قول الملائكة إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ومثل خلق عيسى من الطين كهيئة الطير ونفخه فيها لتكون طيرا بإذن الله. ونعتقد أن هذا مما كان متداولا بين النصارى في عصر النبي وبيئته وواردا في قراطيس كانت في أيديهم لم تصل إلينا.
والروايات تذكر أنه كان أناجيل عديدة غير المتداول اليوم وغير المعترف بها فضاعت أو أبيدت على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول ما جاء في هذه الآيات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي. ومنها ما لم يعز إلى راو. وفيها أشياء كثيرة مما ورد في الأناجيل المتداولة مع زيادات وحواش. وفيها أشياء كثيرة أخرى لم ترد في الأناجيل المتداولة ووردت الإشارة إليه في الآيات مع زيادات وحواش. ومن ذلك على سبيل المثال أن أم مريم كانت عاقرا فنذرت إن رزقها الله ولدا أن تجعله سادنا لبيت الربّ وأن مريم كانت بنت رئيس الكهان فخلفه على مهمته زكريا عديله فلما
(١) انظر الإصحاح ٢٦ من هذا الإنجيل أيضا. ومعظم ما ذكر وارد في الأناجيل الأخرى كذلك.
(٢) هذه هي أسماء التلامذة الاثني عشر المذكورة في الأناجيل: سمعان المدعو بطرس- اندراوس أخوه- يعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا- فيلبس- برتلماوس- توما- متى القسار- يعقوب بن حلفي- تدارس- سمعان القانوني- يهوذا الأسخريوطي. انظر الإصحاح ١٠ من إنجيل متى و ٣ من إنجيل مرقس و ٦ من إنجيل لوقا.
151
وضعت أم مريم ابنتها جاءت بها إلى بيت الربّ فقال زكريا أنا أحقّ بكفالتها فأبى سائر الكهنة ذلك ثم اتفقوا على الاقتراع فألقوا سهامهم في نهر الأردن فذهب النهر بجميعها عدا سهم زكريا فثبتت بذلك كفالته لها. وأن زكريا كان يجد فواكه الشتاء في الصيف وفواكه الصيف في الشتاء عند مريم. وأن أم يحيى كانت تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك وإن هذا مصداق الآية مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ في وصف يحيى. وأن المسيح سأل أيّ الطير أشدّ خلقا قالوا الخفاش فأخذ طينا وجعله على صورة الخفاش ثم نفخ فيه وقال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين يديه. وأن المسيح كان يخبر الغلمان بما صنعه أهلهم وخبأوه من طعام، فيجد الغلمان حينما يعودون إلى بيوتهم الأمر كما أخبرهم. وأن عيسى أحلّ لبني إسرائيل الشحوم ولحوم الإبل وكان هذا مما حرمته التوراة إلخ..
إلخ... حيث تدل الروايات التي اكتفينا بما أوردنا منها على أن ما جاء في الآيات كان متداولا في بيئة النبي ﷺ مع زيادات وحواش.
ونقول هنا ما قلناه في أعقاب آيات سورة مريم إن من واجب المسلم أن يؤمن بكل ما جاء في الآيات من أخبار ومحاورات وخوارق. وسواء منها المتطابق مع الأناجيل المتداولة وغير المتطابق وكون ذلك في نطاق قدرة الله مع الإيمان بأنه لا بد لما ورد في الآيات من حكمة. والملموح من هذه الحكمة في الآيات أنها وقد نزلت في صدد المناظرة التي انعقدت بين النبي ﷺ ووفد نجران حول شخصية عيسى عليه السلام قد هدفت إلى تسفيه عقيدة بنوّة المسيح من الله وألوهيته بشكل ما. وتقرير الحق من أمره. وهو أنه رسول أرسله الله ليدعو الناس إلى عبادته وحده وليقرر لهم أنه ربّه وربّهم وتصحيح ما ارتكسوا فيه من انحرافات. وأن كل ما هنالك أنه ولد بمعجزة وكان هو وأمه مظهر عناية الله وتكريمه وأن ذكر كون عيسى كلمة من الله هو على سبيل التعبير بالمعجزة الربانية من خلقه بدون مسّ رجل وأن التحجج بما في القرآن من عبارات في صدد ذلك هو من قبيل التحجج بالآيات المتشابهة دون المحكم الذي لا يفعله إلّا من في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة. في حين أن المحكم صريح بتنزيه الله عن الولد والشريك والقسيم والتعدد والروح المادية التي
152
تسري منه إلى غيره بأي شكل. ويكون مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان. وقد يكون من تلك الحكمة ما بين التقريرات القرآنية والأناجيل من تطابق حيث ينطوي في ذلك قصد الإفحام والإلزام. أما ما ليس متطابقا فهو من وجهة النظر الإسلامية محرّف والله تعالى أعلم. ولقد كان جمهور النصارى في بلاد الشام ومصر والعراق يدينون بمذهب لا يقول بالألوهية التامة لعيسى وبأنه بين بين من الناسوتية واللاهوتية وذو طبيعة واحدة مزيجة خلافا للسلطات الرومانية الحاكمة. وكان هذا الجمهور يتعرض لذلك لاضطهاد هذه السلطات. فلما جاءت جيوش الفتح الإسلامي إلى هذه البلاد أقبلت جماهير هذا المذهب على الصلح مع العرب. ولما عرفت ما في القرآن عن عيسى من كونه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وأن الله نفخ في فرجها وجعلها وابنها آية للعالمين، وأن الله أرسل إليها روحه الذي تمثل لها بشرا ليهب لها غلاما زكيا وليكون آية للناس ورحمة منه. ومما جاء في بعض الآيات التي نحن في صددها وفي بعض آيات سورة مريم وسورة الأنبياء التي مرّ تفسيرها وفي الآية [١٧٠] من سورة النساء لمحت شيئا من التطابق بين ذلك وبين مذهبها فأقبلت على اعتناق الإسلام. وقد يكون ذلك من مظاهر أو نتائج تلك الحكمة والله تعالى أعلم.
وثانيا: قد تبدو الآية [٤٤] مشكلة لأنها تنبه النبي ﷺ إلى أن ما يوحى إليه وخاصة في صدد ظروف ولادة مريم وكفالتها هو من أنباء الغيب. وإشكالها آت من ناحية ترجيحنا أن ما احتوته الآيات مما كان متداولا عند النصارى وغير مجهول عند العرب أو بعضهم. ولقد أشرنا إلى مثل هذا الإشكال في سياق تأويل الآية [٤٩] من سورة هود والآية [١٠٢] من سورة يوسف اللتين تذكران أن ما أوحاه الله إلى النبي من قصص هود ويوسف هو من أنباء الغيب وعلقنا على ذلك بما نرجو أن يكون فيه الصواب. وينسحب ما قلناه على هذه الآية ولا نرى أن نزيد عليه إلّا التنبيه على أن الروايات التي يرويها المفسرون عن ذلك تفيد أن ظروف ولادة مريم وكفالتها وما كان يجده زكريا عندها من رزق مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم
153
ومما يحتمل أن لا يكون مجهولا من بعض العرب.
وثالثا: وقد يبدو ما ذكر في الآية [٥٥] من أن الله تعالى جاعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة ثم يكون مصير المؤمنين به النعيم والكافرين به العذاب. والمتبادر أن ذلك إنما هو في صدد الذين اتبعوا رسالة المسيح بجميع محتوياتها ولم ينحرفوا عنها. ومن جملة ذلك وحدة الله عز وجل وتنزيهه عن كل نقص وشائبة وتجزّؤ وتعدّد بأي شكل. واعتراف المسيح بأنه عبد الله ورسوله. ودعوته إلى الله وحده وهو ما حكاه القرآن وما في الأناجيل من نصوص متطابقة مع ذلك صراحة وضمنا مما أوردنا نماذج منه في تفسير سورة مريم.
ومن جملة ذلك أيضا بشارة عيسى بالنبي محمد التي ذكرها القرآن في الآية [٦].
ومن جملة ذلك كذلك ما في الإنجيل من صفاته مما أشير إليه في آية سورة الأعراف [١٥٧] التي تدعو أهل الإنجيل إلى اتباعه. ومقتضى كل ذلك أن يكون الذين يستحقون ذلك النعيم والتفضيل من أتباع عيسى هم الذين لم ينحرفوا عن رسالته إلى زمن النبي محمد ﷺ ثم آمنوا بهذا النبي واتبعوه. أما المنحرفون عنها قبل بعثة محمد والكافرون برسالة محمد فهم من وجهة نظر العقيدة الإسلامية كفار كما قررت ذلك آيات عديدة منها آيات النساء [١٥٠ و ١٥١] والمائدة [٧٢ و ٧٣]. ولقد قررت آية الأعراف [١٥٧] أن فريقا منهم اتبع النبي محمدا ﷺ بعد أن ثبتت لهم صحة الدلائل المكتوبة عندهم على نبوّته كما قررت ذلك آيات عديدة وردت في سور سبق تفسيرها وسور يأتي تفسيرها بعد مثل آيات القصص [٥٢- ٥٥] والإسراء [١٠٧- ١٠٨] والرعد [٣٦] والمائدة [٨٢- ٨٥] وبهذا الشرح يزول كل إشكال.
وكلام المفسرين في هذه المسألة متطابق بالنتيجة مع هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» «١». حيث ينطوي في الحديث تأييد نبوي لما قررناه.
(١) التاج، ج ١ ص ٣٥.
154
ورابعا: وقد يبدو ما جاء في الآية [٣٣] مشكلة أيضا بما احتوتاه من تقرير رباني مباشر باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. وآل عمران هم أسرة مريم. وكذلك في الآية [٤٢] التي قررت أن الله اصطفى مريم على نساء العالمين. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد هدفت إلى التنويه بفضل المذكورين ومنزلتهم أو أفضليتهم على غيرهم في عصرهم بما امتازوا به من خصائص وفضائل صاروا بسببها من أصفياء الله. وقد يكون اصطفاء آل عمران ومريم متصلا بخاصة بمعجزة ولادة المسيح التي لم يكن لها مثيل وبما كان من تكريمه ورفعه.
وخامسا: وقد يثير ذكر آدم إشكالا من ناحية كون القرآن يقرر أنه أول إنسان خلقه الله في حين أن مفهوم الاصطفاء يفرض وجود آخرين معه يصطفي الله منهم من يصطفيه مما قد ينطبق على نوح وإبراهيم وآل عمران ومريم دون آدم. والمتبادر أن العبارة بالنسبة لآدم هي أيضا أسلوبية لا إشكال حقيقيا فيها من حيث إنه أبو جميع الذين اصطفاهم الله. ويمكن أن يقال مع ذلك إن ذكر اصطفائه متصل بما كان من اختصاصه بالذكر في خلق الله له ونفخه فيه من روحه والإيذان بأنه جاعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وأمر الله الملائكة بالسجود له مما ذكرته آيات القرآن أو بما كان من اختصاصه بالمميزات التي اختص بها جنسه الإنساني دون غيره من مخلوقات الله الأخرى وبخاصة الحيوانات التي بينها وبين هذا الجنس تشارك في كثير من الصفات حتى صار خلقا آخر كما جاء في الآية [١٤] من سورة المؤمنون. وكلام المفسرين في هذه الأمور متطابق كذلك بالنتيجة مع هذه التقريرات. ولقد قال بعضهم إن الاصطفاء لآل إبراهيم وآل عمران هو بالنسبة للمؤمنين منهم. وهذا وجيه. وقال بعضهم إن النبي والعرب يدخلون في ذكر آل إبراهيم تكذيبا لليهود الذين كانوا يقولون إنهم شعب الله المختار من حيث إن إبراهيم ليس فقط جد بني إسرائيل الذين ينتسبون إلى يعقوب وإسحق أبي يعقوب الذي هو ابن إبراهيم بل هو أيضا أبا لإسماعيل الذي ينتسب إليه العرب وأبا لأولاد آخرين ولدوا له من زوجته قطوره على ما جاء في الإصحاح (٢٥) من سفر التكوين.
155
وسادسا: لقد كانت الآية [٥٥] التي ذكر فيها رفع عيسى عليه السلام بعد توفّيه موضوع بحوث وتأويلات وروايات «١» معزوّة إلى ابن عباس وغيره بالنسبة لمفهوم التوفي والرفع وما إذا كان عيسى عليه السلام مات ثم رفع، أو رفع دون موت، وما إذا كان رفع بروحه أو بروحه وجسده. وما قد يترتب على ذلك من تصادم مع آيات قرآنية أخرى وأحاديث نبوية إذا قيل إنه مات ثم رفع حيث جاء في سورة النساء هذه الآيات: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) وحيث روى الشيخان والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» «٢». ثم قال أبو هريرة واقرأوا إذا شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) وهناك حديث نبوي آخر طويل في الدجال رواه مسلم والترمذي وأبو داود ذكر فيه أن الله يبعث المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق «٣».
ومما رواه المفسرون وقالوه: إن التوفّي هنا هو توفية أيام عيسى في الأرض كما قالوا إن جملة مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ بمعنى قابضك من الأرض بدون موت أو إني مميتك ثم رافعك إليّ. واستدلوا بالآية اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
(١) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(٢) انظر التاج ج ٥ ص ٣٢٣- ٣٢٥.
(٣) المصدر نفسه.
156
سورة الزمر [٤٢] على أن التوفي ليس معناه الإماتة حتما ودائما. وقالوا كذلك إنه لا يصح أن يكون لعيسى حياة وموت ثم حياة وموت في الدنيا، لأن الله إنما جعل لكل إنسان حياة مرة وموتا مرة في الدنيا، ثم حياة في الآخرة عدا ما يكون أحياه الله بمعجزة مما ذكر في القرآن ووجب الإيمان به. ومع ذلك فقد رووا عن ابن عباس وغيره أن الله أماته ثم أحياه بضع ساعات أو بضعة أيام ورفعه إليه لتكريمه...
وللسيد رشيد رضا في صدد ذلك كلام طويل يفيد أن التوفي بمعنى الموت والرفع بمعنى التكريم وأن الأحاديث النبوية هي أحاديث آحاد في أمور غيبية لا يؤخذ فيها إلّا بالقطعي المشهور وإن نفي صلبه وقتله وكونه شبه عليهم لا ينفي موته موتة عادية وإن جملة إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ في سورة النساء هي بالنسبة لأهل الكتاب وليست بالنسبة لعيسى عليه السلام. ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة.
ومهما يكن من أمر فإن الذي يتبادر لنا أن الآية إنما استهدفت التنويه بعيسى عليه السلام وفضله وكرامته عند الله ولم تستهدف تقرير واقعة. ولا سيما أن أسلوبها أسلوب خطاب موجّه إلى عيسى قبل توفيه ورفعه. وأن الأولى الوقوف منها عند هذا الحد دون ما تزيد ولا تخمين.
ومعلوم أن المبشرين النصارى يحاجون المسلمين بهذه الآية لأن فيها اعترافا بموت عيسى قبل رفعه. وهذا يوافق عقيدتهم مع فارق واحد هو اعتقادهم أنه مات مصلوبا ويرون في الآية في الوقت نفسه نقضا لآية النساء التي تنفي قتل عيسى وصلبه. وتقرر أن الله رفعه إليه بأسلوب قد يفيد أن ذلك كان وهو حي. ولسنا نرى في الآيتين صراحة قطعية بموته قبل رفعه ولا رفعه وهو حي. والعبارة تتحمل الصورتين. والقرآن نفى موته صلبا أو قتلا فليس للنصارى حجة في النص القرآني والحالة هذه حتى لو أوّل بأنه رفع بعد الموت. وسنستوفي البحث في موضوع آية النساء في مناسبتها إن شاء الله.
وسابعا: لقد روى المفسرون في سياق جملة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ
157
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
(٣٦) حديثا رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «قال النبي ﷺ ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها. واقرأوا إذا شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) » «١». وروى المفسرون كذلك حديثا آخر رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «٢». ويلحظ بالنسبة للحديث الأول أنه يذكر أن الشيطان يمس المولود حين يولد وأنه ربط عدم طعن مريم وابنها بدعاء أم مريم مع أن هذا الدعاء كان بعد ولادة مريم بمدة ما ولقد رأى بعض المفسرين أن ما في الحديثين من قبيل التمثيل والتعبير عن طمع الشيطان في إغواء كل مولود.
ولقد قال رشيد رضا: «إن الأحاديث هي آحادية ولا يؤخذ بها في العقائد ومبادئ الدين وإن صحت فيوكل الأمر فيها إلى الله لأنها متصلة بما أخبر به القرآن ووجب الإيمان به غيبا من وجود الشيطان ووسوسته للناس ومحاولته إغراءهم». وفي هذا القول وجاهة ظاهرة. وقد يمكن أن يضاف إليه أن من الحكمة الملموحة في الأحاديث التساوق النبوي مع القرآن في تكريم مريم وابنها عليهما السلام في الآية التي ربط الحديث الأول بمضمونها والله تعالى أعلم. ولقد قال رشيد رضا إن دعاة النصرانية يشاغبون على عوام المسلمين بالأحاديث مستدلين بها على تفضيل عيسى على محمد عليهما السلام وهذا من عجيب تفاهاتهم. والأحاديث صدرت في مناسبة آية من آيات القرآن متساوقة معها. ومن العجيب أن هؤلاء الدعاة يتمسكون بحديث نبوي ويوردونه لإثبات قولهم ويتركون أحاديث نبوية كثيرة في فضل النبي محمد ﷺ على عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام. نكتفي منها بهذا الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «جلس ناس من أصحاب النبي ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون. فقال بعضهم عجبا: إن الله عزّ وجلّ
(١) التاج ج ٤ ص ٦٥، وفي فصل النبوة من كتاب التاج ج ٣ ص ٢٦٦ تكرار للحديث الأول مع صراحة بأن جملة (اقرأوا إذا شئتم... ) هي لأبي هريرة.
(٢) المصدر نفسه.
158
اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا، وقال آخر وكلّم الله موسى تكليما. وقال آخر وعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر وآدم ونوحا اصطفاهما، فسلّم النبي وقال قد سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجيّ الله وهو كذلك وعيسى كلمة الله وروحه وهو كذلك وآدم ونوح اصطفاهما الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر. وأنا أول شافع وأول مشفّع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» «١».
تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة
روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآية في صيغ مختلفة. معظمها يفيد أنها في صدد مناظرة وفد نجران. وواحدة منها تذكر أنها في صدد موقف حجاجي بين النبي واليهود. وورود الآية في سياق في صدد عيسى عليه السلام يجعل الرجحان للقول الأول. ومما جاء في الروايات التي تذكر أنها في صدد وفد نجران أن النبي ﷺ حينما نزلت الآية غدا محتضنا الحسين وآخذا بيد الحسن وفاطمة أو فاطمة وعلي رضي الله عنهم يمشيان وراءه أو دعا هؤلاء وقال لهم إذا دعوت فأمّنوا ثم جاء إلى وفد نجران فدعاه إلى المباهلة حسب نصّ الآية فاعتذر وقال ما ذكرناه في مناسبة سابقة من أنهم يكتفون منه بقوله إن عيسى كلمة الله وروح منه وطلبوا منه الموادعة. وهناك رواية تذكر أن النبي ﷺ دعا أبا بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده وعليا وولده رضي الله عنهم ليشتركوا معه في المباهلة والملاعنة وليس من شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح إلّا حديث مقتضب لا يذكر المباهلة رواه مسلم والترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه قال: «لمّا
(١) التاج، ج ٣ ص ٢٠٦ وانظر أيضا الصفحات ٢٠٤ و ٢٠٥ ففيها أحاديث عديدة أخرى في فضل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [.....]
159
أنزل الله الآية دعا النبيّ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهمّ هؤلاء أهلي» «١».
ولقد شغل هذا الأمر حيزا كبيرا في احتجاجات الشيعة وتأويلاتهم. وكانت رواية أخذ النبي ﷺ الحسن والحسين وفاطمة وعليا رضي الله عنهم معه إلى المباهلة عمادهم في ذلك. واعتبروها حقيقة يقينية وقالوا إن جملة وَأَنْفُسَنا عنت عليا لأن النبي هو الداعي فلا يكون مدعوّا وإن عليا والحالة هذه أفضل الخلق بعد النبي وأفضل من سائر الأنبياء لأنه في مقام النبي محمد. وإن عدم اصطحاب النبي أحدا من نسائه واصطحابه فاطمة يدل على أن كلمة وَنِساءَنا في الآية لا تعني زوجاته وإنما عنت بنته. وإن الحسن والحسين هما ابنا النبي ولو لم يكونا من صلبه لأنه اصطحبهما على اعتبار أنهما أبناؤه. وإنه لما كانت المباهلة لا تصلح إلّا بين مكلفين فيكون صغر سنهما وعدم بلوغهما الحلم لا ينافيان كمال العقل والتكليف فضلا عن جواز خرق الله العادة للأئمة واختصاصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم.
والتكلّف والتجوّز والتعسّف بل والمفارقة ظاهرة في كل ذلك مما يقع الشيعة في مثله وأكثر منه على ما مرّ منه أمثلة كثيرة. ولقد تغافلوا في تأويلاتهم عن كون النبي لا يمكن أن يناقض القرآن في تسمية بنته الوحيدة بنسائه حيث عنى القرآن بهذه الكلمة زوجات النبي ﷺ في آيات سورة الأحزاب [٢٨- ٣٠] كما تغافلوا عن أن الدعوة كانت مشتركة تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ فلم يسألوا أنفسهم ماذا تكون عنت كلمة وَأَنْفُسَكُمْ بالنسبة للوفد حينما أوّلوها بالنسبة للنبي بعلي أي بغير النبي. ولم يرو أحد أن الوفد كان يصطحب نساء وأولادا.
وأسلوب الآية أسلوب تحدّ وإفحام. وابن هشام الذي يروي خبر ما كان بين النبي ووفد نجران بالتفصيل ويورد آيات سورة آل عمران في سياق ذلك لم يذكر أن النبي ﷺ استعد للمباهلة فعلا كما لم يذكر أنه أخذ فاطمة وعليا والحسن والحسين رضي الله عنهم للمباهلة. وكل ما ذكره أن النبي ﷺ دعاهم إلى المباهلة فاستمهلوه لينظروا في الأمر ثم غدوا فقالوا له رأينا يا أبا القاسم أن لا نلاعنك. وكل هذا يجعلنا نشك
(١) انظر أسد الغابة والمواهب اللدنية للزرقاني ومشارق الأنوار للحمزاوي.
160
في الرواية ونرجح أنها من صنع الشيعة لتأييد أهوائهم كما فعلوا مثل ذلك كثيرا.
ولقد تصدّى الشيخ محمد عبده لهذه المسألة على ما جاء في تفسير رشيد رضا فقال إن مصادر هذه الرواية الشيعة. ومقصدهم معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإن وَنِساءَنا لا يقولها عربي ويريد بها ابنته إذا كانت له زوجة.
ولقد ذكرنا قبل أن ابن هشام أورد خبر قدوم وفد نجران بعد خبر وقعة بدر وقبل خبر وقعة أحد. وأن الفصل الطويل الذي يتفق المفسرون على أنه نزل في مناظرة وفد نجران والذي نحن في صدده قد وضع في السورة قبل فصل وقعة أحد.
وأن ذلك يمكن أن يجعل وقت قدوم هذا الوفد عقب انتصار النبي والمسلمين على قريش في بدر وقبل وقعة أحد قوي الورود. وهذا الوقت يقارب أواخر السنة الهجرية الثانية ولقد أرّخ الرواة زواج فاطمة وعلي رضي الله عنهما بالسنة الهجرية الثانية وولادة الحسن رضي الله عنه بالسنة الثالثة وولادة الحسين رضي الله عنه بالسنة الرابعة أو الخامسة «١». وهذا يعني أن الحسن والحسين رضي الله عنهما اللذين تروي روايات الشيعة أن النبي صحبهما للمباهلة لم يكونا قد ولدا حينما نزلت آية المباهلة...
هذا، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن رواية دعوة النبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأولادهم هي أيضا مصنوعة لمقابلة روايات وتأويلات الشيعة المتعسفة مما له أمثال كثيرة روينا بعضها في مناسبات سابقة «٢».
والعلم يقتضينا أن نذكر أن هناك أحاديث أخرى وردت في الصحاح غير الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وأوردناه قبل قليل في مناسبة آية المباهلة تروى في مناسبة آية سورة الأحزاب إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣). منها حديث رواه عمر بن أبي سلمة قال: «لمّا نزلت هذه
(١) انظر أسد الغابة والمواهب اللدنية للزرقاني ومشارق الأنوار للحمزاوي.
(٢) انظر فصل المناقب في الجزء التاسع من مجمع الزوائد ففيه أمثلة كثيرة من ذلك.
الجزء السابع من التفسير الحديث ١١
161
الآية دعا النبيّ ﷺ فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت أمّ سلمة وأنا معهم يا رسول الله، قال أنت على مكانك وأنت إلى خير» «١». وليس في الحديث ذكر لعلي.
ولكن مؤلف التاج أورد الحديث في فصل الفضائل وفيه ذكر لعلي «٢»، ومنها حديث رواه كذلك مسلم والترمذي عن عائشة قالت: «خرج النبي ﷺ غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثمّ جاء الحسين فأدخله معه ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) » «٣». ونحن نتوقف في هذه الأحاديث وفي الحديث الأول معا التي فيها إخراج لنساء النبي من تعبير وَنِساءَكُمْ في الحديث الأول من تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الأحاديث الأخرى وحصر الأول في فاطمة وحصر الثاني في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم لأن هذا مناقض لصراحة الآيات القرآنية. وسوف نزيد هذا الأمر شرحا في تفسير سورة الأحزاب، والله تعالى أعلم.
استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إلخ من آيات السلسلة ورسالة النبي ﷺ لهرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك
لقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: «حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ قال انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين النبي «٤» فبينا أنا بالشام إذ جيء
(١) التاج، ج ٤ ص ١٨٥.
(٢) التاج، ج ٣ ص ٣٠٨.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٠٨ أيضا.
(٤) يقصد هدنة الحديبية التي انعقدت بين النبي وبين زعماء قريش لمدة عشر سنوات في السنة السادسة للهجرة.
162
بكتاب من النبي إلى هرقل جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فقالوا نعم. فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال:
أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا، فقال للنفر: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. فإن كذبني فكذّبوه. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو حسب. قال: هل كان في آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا، قال: أيتّبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه. قال:
فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال أبو سفيان: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبيّ. وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم. ولو أني أعلم بأني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت قدميه وليبلغنّ ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط فأخرجنا فقلت لأصحابي خرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. إنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا بأمر رسول الله أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام. قال الزهري فدعا هرقل
163
عظماء الروم فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد وأن يثبت لكم ملككم قال فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت فقال عليّ بهم فدعا بهم فقال إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم. فقد رأيت منكم الذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه» «١».
ولقد روى كتّاب السيرة والقدماء «٢» أن النبي ﷺ أرسل في السنة الهجرية السادسة بعد صلح الحديبية كتبا عديدة إلى ملوك الفرس والروم والحبشة ومصر وغسان والبحرين واليمامة وأمراء اليمن وأقيالها يدعوهم فيها إلى الإسلام حيث يتبادر أنه اغتنم فرصة هذا الصلح الذي أوقف حالة الحرب بينه وبين أقوى أعدائه.
وكان قبل ذلك قد فرغ من تطهير المدينة من اليهود وخضد شوكتهم خضدا تاما في القرى التي هم فيها بين المدينة والشام وكانوا أقوى أعدائه بدورهم فرأى أن يبلغ دعوة الإسلام وصوته إلى العالم عن طريق الملوك والأمراء. وكان ذلك على الأرجح بعد نزول الآية بمدة ما. فأدخلها في نصّ كتاب الدعوة الذي أرسله إلى الكتابيين بخاصة.
وصيغة الآية قوية رائعة حيث تدعو أهل الكتاب إلى كلمة فيها كل الحقّ وكل العدل. يدين بها الجميع وهي أن لا يعبد إلا الله وألا يشرك به شيء. وألّا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله وحيث تأمر المسلمين إذا لم يستمع أهل الكتاب لهذه الدعوة. ويستجيبوا لها بأن يقولوا لهم اشهدوا بأنا مسلمون لله مؤمنون بهذه العقيدة الصافية النقية.
وبعض المستشرقين يشككون في رواية كتب النبي لملوك الأرض العظام لأسباب تافهة لا تثبت على نقد. والرواية واردة في أقدم كتب السيرة والحديث.
(١) التاج، ج ٤ ص ٦٥ و ٦٩ والمتبادر أن الحديث شقان رواهما البخاري الأول عن ابن عباس والثاني عن الزهري. وأبو كبشة كنية الحارث بن عبد العزى زوج مرضعة النبي ﷺ ويكون أبوه بالرضاعة. وكان زعماء قريش يكنونه بها انتقاصا واستهتارا والأريسيين هم الأتباع والرعية على الأرجح.
(٢) انظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٢٧٨- ٢٨٠، وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢٣- ٢٧.
164
والحديث الذي أوردناه من الصحاح. وليس هناك أي سبب لاختراعهما وليس فيهما ما يتحمل شكا وقد أمر النبي بإبلاغ رسالته إلى جميع خلق الله دون أن يخشى شيئا في آية سورة المائدة هذه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [٦٧] والشطر الأول من سورة المائدة نزل بعد صلح الحديبية بقليل. حيث يدعم كل هذا بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
. تعليق على الآية يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) وما بعدها الآيات [٦٦- ٦٨]
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
١- تنديد بأهل الكتاب لمحاجتهم في إبراهيم مع أن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعده.
٢- وتنديد آخر لمحاجتهم في شيء ليس عندهم به علم.
٣- ونفي لكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا.
٤- وتقرير بأنه كان مسلما حنيفا غير مشرك وبأن أولى الناس به هم الذين على ملّته ومنهم النبي والذين آمنوا به لأنهم أيضا عليها.
165
وقد روى المفسرون «١» أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي ﷺ ووفد نجران واشترك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود إن ملّة إبراهيم هي اليهودية، وقال النصارى إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه «لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية» «٢».
والمتبادر أن النبي ﷺ قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى، فنزلت الآيات:
١- مسفّهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
٢- مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملّة إبراهيم واتّباع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة «٣» وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود.
وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليه السلام وملّته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى
(١) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير وهم يعزون الرواية إلى ابن عباس.
(٢) التاج، ج ٤ ص ٦٩.
(٣) انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى.
166
التقاء اليهود ومشركي العرب فيهما. أما التقاء النصارى معهم فيهما فهو آت من كون هؤلاء يؤمنون بأسفار العهد القديم والأنبياء الذين ورد ذكرهم فيها ومنهم إبراهيم عليه السلام كما هو المتبادر.
وقد قال المفسرون في صدد مفهوم الآية الثانية إنها احتوت تنديدا باليهود والنصارى لأنهم إذا صحّ أن يحاجّوا فيما احتوته التوراة والإنجيل لأنه مفروض أنهم يعرفونها فما كان لهم أن يحاجّوا فيما ليس فيها مثل كون ملة إبراهيم هي اليهودية أو النصرانية لأنهم بذلك يحاجّون فيما ليس لهم به علم صحيح «١» وهذا متسق مع فحوى الآيات كما هو المتبادر.
وأسلوب هذه الآية بخاصة وأسلوب الآيات بعامة يلهمان على كل حال أن النبي ﷺ كان في موقف المستعلي الملزم المستحكم في الحجة والبيان.
وروح الآية الأخيرة ومضمونها يفيدان أنها تعني فريقين، فريقا قبل النبي لزم ملة إبراهيم الموصوفة، ثم النبي والذين آمنوا معه كفريق ثان. وهذا يعني كما هو المتبادر أن أحدا لا يستطيع أن يدعي أنه على ملّة إبراهيم بعد بعثة النبي ﷺ دون أن يكون مؤمنا به من وجهة النظر الإسلامية.
ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآية حديثا رواه أيضا الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال: «قال رسول الله ﷺ إن لكلّ شيء ولاة من النبيين وإنّ وليي منهم أبي وخليل ربي. ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) ».
والحكمة الملموحة في الحديث توكيد التلازم بين النبي ﷺ وإبراهيم عليه السلام في الملة الواحدة الموصوفة في الآية الثالثة. وتوكيد ما أمر الله نبيه بالهتاف به في آيات سورة الأنعام [١٦٠ و ١٦١] التي سبق تفسيرها والتعليق عليها.
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن وابن كثير.
167
هذا، وإذا صحت الرواية التي تقول إن الآيات نزلت في مشهد جدلي اشترك فيه وفد نجران وأحبار اليهود فتكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة وفصلا من فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران من حيث الأصل والله تعالى أعلم.
نقول هذا لأن الآيات التالية التي ذكر فيها أهل الكتاب تفيد أن المقصود منهم اليهود فقط حيث يرد بالبال أن المقصود في الآيات التي نحن في صددها هم اليهود أيضا ولا سيما أن الجدال على ملّة إبراهيم سابقا كان بين النبي واليهود. وفي هذه الحالة يكون نفي النصرانية عن إبراهيم من قبيل الاستطراد والتعميم مما ورد مثله وفي مقامه في سلسلة آيات سورة البقرة الواردة في حق يهود بني إسرائيل على ما نبهنا عليه سابقا وتكون الآيات السابقة خاتمة فصول المناظرة بين النبي ووفد نجران. وتكون هذه الآيات بداية فصل طويل جديد في حق اليهود. وقد وضعت بعد تلك الفصول للمناسبة الموضوعية أو الزمنية. والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٩ الى ٧٤]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
. في الآيات:
١- إشارة تقريرية إلى ما كان يتمناه طائفة من أهل الكتاب وهو تضليل المؤمنين وتشكيكهم في دينهم وتحويلهم عنه.
168
٢- ونعي عليهم بأنهم لا يضلّون في الحقيقة إلّا أنفسهم دون أن يدروا.
٣- وخطاب موجّه إليهم على سبيل التنديد والتقريع بأسلوب السؤال الاستنكاري عن كفرهم بآيات الله مع أنهم يشهدون في سرائرهم بصحتها ويرون أمارات صدقها وعن إلباسهم الحق بالباطل وكتمهم الحق عن عمد وعلم بما في عملهم من بغي وانحراف.
٤- وحكاية لما كانت تتواصى به هذه الطائفة بسبيل تضليل المؤمنين وتشكيكهم حيث كانت تتواصى بإظهار الإيمان والتصديق بالنبي والقرآن في الصباح ثم إظهار الشك والجحود في السماء لتؤثر بذلك على المسلمين وتجعلهم يرتدّون عن دينهم ويرجعون عنه. وحيث كانت تتواصى بأن لا يؤمن بعضهم إلّا لبعض لئلا يعرف غيرهم ما عندهم فحاجّوهم به عند ربّهم.
٥- وأمر للنبي بأن يعلن- إزاء ما يبيته هؤلاء من المؤامرات والحقد وأساليب الكيد- أن الهدى هو هدى الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل عليم بمستحقيه وأنه ذو فضل عظيم يختص به من يشاء. وذلك ردا على تواصيهم وأمانيهم ودسائسهم وتثبيتا لنفوس المسلمين.
تعليق على الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ... إلخ والآيات التابعة لها إلى [٧٤]
ولقد تعددت روايات المفسرين في مناسبة هذه الآيات: من ذلك أن الآية الأولى بسبب محاولة بعض اليهود إغراء معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بترك الإسلام والتهود «١». وقال بعضهم إن الآيات الثلاث الأولى في حق جماعة من اليهود والنصارى لأنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق مع أنهم
(١) انظر تفسير الخازن. [.....]
169
يعلمون أن النبي على حق وأن دلائل نبوته موجودة في كتبهم وكل هذا بسبيل تضليل المسلمين وتشكيكهم «١». وروى جمهورهم «٢» أن الآية الرابعة نزلت في حق جماعة من أحبار اليهود تآمروا على الكيد للمسلمين وتشكيكهم في دينهم والتواصي بعدم اطلاعهم على ما عندهم من دلائل بالأسلوب الذي حكته الآيات.
ومما رووه أن أحبار اليهود طلبوا من بعض اليهود اعتناق الإسلام والصلاة مع المسلمين في النهار ثم يعودون إليهم ويقولون إننا سألنا أحبارنا فقالوا إن محمدا كاذب وإن المسلمين ليسوا على شيء فيساورهم الشك ويقولون إنهم علماء أهل الكتاب وهم أعلم منا فيرجعون عن الإسلام. وروى بعضهم «٣» أن هذه الآيات أو بعضها نزلت في صدد تحويل القبلة حيث شق ذلك عليهم وأخذوا يتآمرون على المسلمين.
والصفات والأقوال التي وصفت بها الآيات القائلين ونسبتها إليهم قد وصف اليهود بها ونسبت إليهم بصراحة في سلسلة آيات سورة البقرة مثل الآيات [٤١- ٤٢ و ٧٦- ٧٧ و ٨٩- ٩٠] والتنديد الذي ندد بهم قد ندد بهم بنفس الصيغة في آيات البقرة المذكورة حيث يسوغ القول بشيء من الجزم إن جميع الآيات في حق اليهود وإن مناسبة نزولها هي الرواية التي تذكر تآمر بعض أحبارهم على تشكيك المسلمين. وفحوى الآيات وروحها متسقان مع هذه الرواية دون غيرها من الروايات.
ومن شرح الآيات يبدو ما في الأسلوب الذي عمدوا إليه من كيد شديد.
ولهذا استحقوا التقريع اللاذع الذي وجهته إليهم وفضحت به مؤامراتهم الآثمة.
وتلهم الآيات إلى هذا أن اليهود كانوا مغترين بما لهم من مركز وتأثير في العرب وأنهم لم يكونوا في حقيقة أمرهم يجهلون قوة دعوة النبي وصدقها وصحتها. وأن
(١) انظر تفسير الطبري.
(٢) انظر الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.
(٣) انظر تفسير الطبرسي.
170
ما كانوا يحاولونه ويبيتونه كان منهم بغيا وعدوانا وحسدا وغيظا. وهو ما حكته عنهم آيات سلسلة البقرة أيضا وهذا ملموح بنوع خاص في الآية [٧٣].
والفقرة الأخيرة من هذه الآية جديرة بالتنويه بصورة خاصة. فاليهود كانوا يتبجحون بأن فضل الله ونبواته محصورة فيهم. وكانوا يتواصون بعدم الإفضاء بما يعرفون من أسرار دينية حتى لا يحاججهم المسلمون أو يعرفوا ما يعرفونه. فردت عليهم الآية منددة من جهة. وانطوى فيها تثبيت للمسلمين من جهة أخرى. كأنما أريد أن يقال لهم ليس من حرج على فضل الله. فهو يختص به من يشاء. وقد اختصهم بنبوة نبي منهم وبكتاب أنزله بلغتهم.
وهذا الموقف مما كان يتكرر من اليهود على ما يستفاد من آيات سلسلة البقرة التي مرّ تفسيرها ومن الآيات الأولى من سورة الجمعة على ما سوف يمرّ شرحها أيضا.
والسياق يفيد بصراحة تامة أن جملة وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هي حكاية لتواصي اليهود لبعضهم وشعار من شعاراتهم وليست تقريرا ربانيا مباشرا موجها فيه الخطاب إلى المسلمين كما يتوهمه بعضهم فيجعلونه شعارا لهم.
والشعار أو الجملة تمثل شدة تعصب اليهود إزاء غيرهم وعدم تبادلهم الاعتماد والثقة مع الغير وحذرهم الدائم منه. وقد صار هذا شعارا يهوديا عاما وجبلّة من جبلّتهم التي جعلت كل الناس في كل ظرف ومكان يزوروّن منهم ويقفون منهم نفس الموقف.
أما المسلمون فشعارهم تجاه غيرهم يتمثل أولا في الضابطين المنطويين في آيتي سورة الممتحنة [٨ و ٩] اللتين أوردناهما في سياق شرح الآيات [٢٧ و ٢٨] من هذه السورة وهو البرّ والإقساط وحسن التعامل والتعايش مع المسالمين الموادّين لهم وعدم تولّي الظالمين المعتدين عليهم. ثم في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي تقرر وجوب التزام الحقّ والعدل والقسط والتعامل بذلك وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالعدل وعدم الخيانة والغدر مطلقا في كل وقت وظرف
171
وحالة وتجاه كل أحد وبقطع النظر عن أي اعتبار وعدم مبادرة أحد بالعدوان والاكتفاء بمقابلة العدوان بمثله وفي نطاق الضرورة على ما مرّ شرحه في السور التي سبق تفسيرها وعلى ما سوف يأتي شرحه في سور يأتي تفسيرها بعد.
هذا، وأسلوب الآيات ومضمونها يحتملان أن تكون متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع معا كما يحتملان أن يكون اتصالها اتصال موضوع وزمن نزول معا، وليس من سبيل إلى ترجيح أحد الاحتمالين. والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
. (١) الأميين: هنا بمعنى الأمم الأخرى كما تلهمه روح الآيات وهي نسبة إلى الأمة.
وفي هذه الآيات:
١- إشارة إلى أن أهل الكتاب فئتان: واحدة تؤدي الأمانة مهما عظمت ولو كانت قنطارا، وأخرى لا تؤديها مهما قلّت ولو كانت دينارا إلّا إذا ظلّ صاحبها جادا في مطلبه وحقه.
٢- وحكاية لقول الفئة الثانية وهو أن الله لا يؤاخذها في أي شيء تجاه أحد من غيرها من الأمم.
٣- ورد تعنيفي على هذا القول فهو كذب على الله وإن القائلين ليعلمون ذلك أيضا.
172
٤- واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلّا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم.
تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... إلخ والآيتين التاليتين لها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعث بن قيس قال: «إن آية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إلخ... نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي.
فأنكرها عليّ فقال النبي بيّنتك أو يمينه فقلت إذن يحلف يا رسول الله فقال النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية»
«١». ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ...
إلخ»
«٢». ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه.
ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود فلما أسلم العرب أنكر
(١) التاج، ج ٤ ص ٧٠.
(٢) المصدر نفسه.
173
اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حقّ على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي ﷺ على ما عندهم من دلائل نبوّته فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء.
ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم اطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها.
وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوّة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.
174
ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ (قيل) إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك «١» وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد
(١) انظر الإصحاحات (٢٢ و ٢٣) من سفر الخروج و (١٩) من سفر الأحبار و (١٠ و ٢٤) من سفر تثنية الاشتراع. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن ما جاء في بعض أسفارهم من نسبة تحريضهم على سكان أرض كنعان وإبادتهم أو استعبادهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم بدون سابق عداء إلى الله هو تحريف متأخر من اليهود لتبرير ما اقترفوه من جرائم وحشية عظمى تنزه الله عن أن يكون قد أمر بها. اقرأ كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة فصل خروج بني إسرائيل من مصر وحلولهم في شرق الأردن وفلسطين ص ٤١- ٨١.
175
بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا.
ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك: منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث: من هم خسروا وخابوا. قال: المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» «١». ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان» «٢». ومنها حديث جاء فيه: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل» «٣». ومنها حديث جاء فيه: «لمّا قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي إلّا الأمانة فإنّها مؤادة إلى البرّ والفاجر» «٤». حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون.
وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة (المؤمنون).
(١) انظر تفسير ابن كثير والخازن. وقد فسروا كلمة المسبل بالذي يسبل إزاره بإفراط.
والحديث الأول رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة بهذا النص: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنّان الذي لا يفعل شيئا إلّا المنّ والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. والمسبل إزاره). والحديث الثاني رواه الخمسة بنصه. (انظر التاج ج ٣ ص ٦٨ و ٦٩).
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير ابن كثير والخازن.
(٤) انظر تفسير الطبري والحديث من تخريج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
176

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٠]

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
. (١) يلوون ألسنتهم بالكتاب: الجمهور على أن الجملة كناية عن تحريف لكتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا.
(٢) ربانيين: جمع رباني: قيل إنها نسبة إلى الربّ. بمعنى المتفرّغ للربّ وعلوم الربّ وعبادة الربّ. وقيل إنها بمعنى العالم الحكيم. وقيل إنها بمعنى الذي يربي الناس ويقودهم ويصلحهم، وقد يكون المعنى الأخير هو الأكثر ورودا في مقام الآية ومداها.
في هذه الآيات:
١- إشارة تنديدية إلى فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم بأقوال يزعمون أنها من كتاب الله أو يحرفون كتاب الله كتابة أو تلاوة أو تأويلا ليوهموا المسلمين أن ذلك من كتاب الله وليس هو من كتابه ويفترون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون.
٢- وتقرير بأنه لا يمكن أن يقول شخص مخلص أتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة للناس اعبدوني بدلا من الله تعالى أو اتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بدلا من الله لأنه بذلك يكون قد أمرهم بالكفر بعد أن يكون دعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وكل ما يمكن أن يقوله للناس كونوا ربّانيين أي مخلصين لله وعبادته.
هداة إليه بما تقرءون وتعلمون وتتدارسون من كتبه.
الجزء السابع من تفسير الحديث ١٢
177
تعليق على الآية وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ... إلخ والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «١» في مناسبة الآيات روايات عديدة. منها أن بعض وفد نجران سأل النبي عما إذا كان يريد أن يعبدوه. ومنها أن هذا السؤال كان من بعض وفد نجران ومن بعض يهود المدينة. ومنها أن بعض المسلمين سألوا النبي عما إذا كان يحسن أن يسجدوا له زيادة في تكريمه. ومنها أن المقصد من البشر الذي تنفي عنه الآيتان الثانية والثالثة أمر الناس بأن يكونوا عبادا له أو بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا هو عيسى ومنها أنه هو محمد صلوات الله عليهما. ومنها أنها ردّ على تأويل أهل الكتاب بعض عبارات كتبهم تأويلا يخرجها عن مداها ويجعلها تبرر اعتبار المسيح والعزير أبناء الله أو آلهة وتعظيم الملائكة تعظيما يسبغ عليهم ما ليس لهم من النفع والضرّ المباشرين «٢». وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح.
والمفسرون يقولون إن الفريق المذكور في الآية الأولى هم اليهود. وهذا صحيح. وقد حكت الآيات [٧٨- ٧٩] من سلسلة آيات سورة البقرة عن اليهود ما حكته هذه الآية.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها. ولقد نددت هذه السابقات ببعض صفات اليهود فجاءت الآية الأولى تندد بصفات أخرى من صفاتهم وهي تحريف كتب الله ونسبة المحرّف إلى الله كذبا وإلقاؤه بأسلوب من ليّ اللسان ليوهموا المسلمين بأنه من كتاب الله. ويظهر أن من التحريف الذي حرفوه ما فيه تحميل لكلام بعض الأنبياء معنى لا يحتمله وأن في هذا المعنى تبريرا لعقيدة شركية أو لعقيدة تأثير الأنبياء والملائكة تأثيرا يجعلهم بمثابة شركاء لله
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.
178
ويبرر تعظيمهم على هذا الأساس فاحتوت الآيتان الثانية والثالثة ردّا عليهم تبرئة للأنبياء من مثل ذلك، وتقريرا لما يمكن أن يصدر عنهم من قول أو أمر أو دعوة.
وهذا الشرح لا يمنع أن يكون الرد قد احتوى تزييف عقيدة اليهود ببنوة العزير لله وعقيدة النصارى ببنوة المسيح أو ألوهيته وعقيدة تأثير الملائكة واتخاذهم أربابا مع ذلك بسبب ذلك والتماس جلب النفع ودفع الضرر عنهم. ونفي ارتكاز أي شيء من هذا إلى أساس صحيح من الكتب السماوية أو إلى عقل ومنطق، وعدم اتساقه مع إخلاص الأنبياء والملائكة لله تعالى واعتبارهم أنفسهم عبيدا له.
وقد يتوافق هذا مع الرواية الأخيرة وإن كان ذلك يقتضي أن تكون الآيات الثلاث وحدة منفصلة عن سابقاتها. على أن من المحتمل أن تكون الآيتان الثانية والثالثة قد جاءتا بمثابة الاستطراد إلى ذكر بعض آثار التحريف الذي حرّفه أهل الكتاب لكتب الله نصا أو تأويلا.
وأسلوب الآيات قوي ومفحم وحاسم. سواء أفي تقريره تحريف اليهود لكتب الله تلاوة وكتابة وتأويلا أم في نفي ارتكاز أي شيء من أقوالهم ودعاويهم وعقائدهم التي فيها انحراف عن عبادة الله وحده وإشراك أحد ما في ذلك بأي شكل من ملك أو نبي على أي أساس صحيح من كتب الله وتقرير كون ذلك من تحريفهم وسوء تأويلهم. وفيها في الوقت نفسه صورة من صور واقع اليهود من ذلك في بيئة النبي ﷺ وعصره وحياته.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
. (١) إصري: أصل الكلمة العهد الملزم لصاحبه.
179
في الآية الأولى تقرير تذكيري بأن الله قد أخذ ميثاقا من الأنبياء بما آتاهم من كتاب وحكمة على أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء من بعدهم مؤيدا لما معهم من الكتاب وأن ينصروه وأنهم قد أشهدوا على أنفسهم بتنفيذ عهده ووصيته. وفي الآية الثانية إنذار لمن يخالف هذا العهد والوصية وتنديد به. فإنه لا يفعل ذلك إلّا فاسق غادر متمرّد على الله.
والمتبادر أن جملة وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أسلوبية لتوكيد العهد الذي أخذه على النبيين والذي اعترفوا به وأقروه. والله أعلم.
تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ... إلخ والآية التالية لها
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة هاتين الآيتين.
ويتبادر لنا أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالا استطراديا. فقد بينت هذه السابقات ما يمكن أن يصدر من أنبياء الله مما يتسق مع إخلاصهم لله فجاءت الآيتان تستطردان إلى ذكر العهد الذي أخذه الله عليهم بتصديق السابق منهم اللاحق حينما يراه متطابقا مع ما جاءوا به ونصره. والمتبادر أن العهد المأخوذ يتضمن بأن يأمر السابق منهم أمته بتصديق ونصر من يأتي بعده من الأنبياء ما داموا مصدقين لما جاءوا به متطابقين معهم في الأسس والأهداف. وبهذا الشرح المتسق مع روح الآيتين ومضمونهما تكون الآيتان قد انطوتا على معنى تدعيمي لنبوة النبي ﷺ وعلى حجة ملزمة لأهل الكتاب على صدقها ووجوب تصديقها. ولقد قال المفسرون- فيما قالوه عزوا إلى علماء التابعين- إن العهد المأخوذ هو في صدد رسالة النبي محمد خاصة. ومع أن ذلك داخل في عهد تصديق كل نبي وأمته المؤمنة به بتصديق ونصر كل نبي يأتي من بعده فإن لهذا القول وجاهة في مقامه بالنسبة للموقف الجدلي القائم بين النبي ﷺ وأهل الكتاب.
180
وأسلوب الفقرة الأولى من الآية الأولى قد يلهم أن العهد الذي أخذه الله على الأنبياء هو عهد مستمد من طبيعة رسالتهم التي هي مستمرة لجميع الأجيال في كل مكان حيث اقتضت حكمة الله أن يتوالى أنبياؤه برسالاته وتعليماته وتشريعاته للناس إلى أن وصل العهد إلى محمد الذي اصطفاه ليكون خاتم النبيين ورشح رسالته لتكون دين الإنسانية جمعاء في كل زمن ومكان وضمنها من الأسس والمبادئ والتلقينات والمرونة والحلول ما يتسق مع هذا وذاك.
وقد يتمحل اليهود والنصارى فيقولون إن التوراة والإنجيل لا يحتويان إشارة إلى هذا العهد. وردا عليهم نقول إن ما في أيديهم ليس توراة موسى ولا إنجيل عيسى كتابي الله المنزلين عليهما. وإنما هي أسفار وأناجيل كتبوها بعد موسى وعيسى عليهما السلام على ما شرحناه في سياق كلمتي (التوراة والإنجيل) في سورة الأعراف. وفي آية الأعراف [١٥٧] صراحة أنهم يجدون صفة النبي فيهما على ما مرّ شرحه في تفسير هذه الآية. وفي سورة الصف هذه الآية: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [٦] وآيات القرآن كانت تتلى على ملأ من اليهود والنصارى ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. ولقد آمن فريق من النصارى واليهود الذين استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأهوائهم برسالة النبي والقرآن وقرروا أنه متطابق لما عرفوه من الحق ولما وعدهم الله به على ما ذكرته آيات عديدة أوردناها في سياق آية الأعراف. ولا بد من أنهم رأوا التطابق بين ما جاء في القرآن والرسالة المحمدية وبين ما كان في أيديهم من توراة وإنجيل صحيحين لم يصلا إلينا. ويكون كل من لم يؤمن برسالة النبي قد تحققت فيه صفة الفاسقين التي قررتها الآية الثانية. ومن الجدير بالتنبه أن الأحاديث النبوية التي تذكر مجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان والتي أوردناها في تفسير سورة غافر وعلقنا عليها قد ذكرت أن عيسى سيكون آنئذ على دين الإسلام فلم يعد للنصارى ما يحتجون به فيها. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر قال: «قال
181
رسول الله ﷺ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا. وإنكم إمّا أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذّبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلّا أن يتبعني وفي رواية لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلّا اتباعي». والحديث وإن لم يرد في كتب الصحاح فإنه متطابق مع تلقين الآيات مما يجعله محتمل الصحة.
ومع كل ذلك ففي الأسفار والأناجيل المتداولة اليوم دلائل عديدة تشير إلى رسالة النبي محمد ﷺ على ما ألمحنا إليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
ووجهة نظر الإسلام في صدد اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية وعدم نجاة أحد منهم عند الله إذا لم يؤمن برسالة النبي محمد ﷺ مشروحة شرحا وافيا أيضا في سياق تفسيرنا للآية [٦٢] من سورة البقرة والآية [٥٥] من سورة آل عمران فليرجع إليه.
هذا، ويتبادر لنا أن في الآيات تلقينا مستمر المدى بحيث يكون كل من أمر بما يخالف كتاب الله وسنّة رسوله الثابتة من أعمال وعقائد ومواقف داخلا في ما تضمنته من وصف وذمّ وإنذار. ويصدق هذا في الدرجة الأولى على من ينتسب إلى العلم الديني ولقد ذكر ابن كثير شيئا من هذا تعقيبا على الآيات. والله تعالى أعلم.
ولا يترك مفسرو الشيعة هذه الآيات حيث يقولون إن الله يؤذن فيها بأنه أخذ على النبيين العهد بالإيمان بالنبي ﷺ ونصرة علي عليه السلام رغم ما في هذا القول من مفارقة عجيبة «١».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥).
(١) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٧٠.
182
عبارة الآيات واضحة وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره.
تعليق على الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... إلخ والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «١» أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعد ما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملّة إبراهيم.
وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم.
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.
(١) انظر تفسيرها في الخازن والطبرسي. [.....]
183
والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلّا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة.
والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود.
وذلك في الآية [١٣٦] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة قُولُوا خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة قُلْ خطابا للنبي ﷺ كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية «١»، والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٩١]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١).
(١) آيات سورة الرعد [١٥] والإسراء [٤٤] وفصلت [١١].
184
(١) ولو: قيل إن الواو زائدة أو مقحمة ونحن نجلّ كتاب الله عن ذلك.
وقيل إنها واو عطف. وإن المعطوف محذوف وتقديره (ومثله) وهذا هو الأوجه.
وفي الآية [٤٧] من سورة غافر آية مثلها وفيها هذا المقدار بلفظه.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به. وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلّا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح. وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.
تعليق على الآية كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ... إلخ والآيات التالية لها إلى آخر الآية [٩١]
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن
185
الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصّر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [٨٩] من سورة البقرة، ومنها أن جملة ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلّا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.
وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية. لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حقّ اليهود ثانيا حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزاءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [٧٢] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستبعد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامراتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.
186
وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي ﷺ بين ذلك كله.
والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي ﷺ والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [٢١٩] من سورة البقرة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [٩٠] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت «١». وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨).
ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.
والمتبادر أن تعبير فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن
(١) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.
187
استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية «١».
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
. (١) البرّ: هنا بمعنى رضاء الله ورحمته على ما هو المتبادر. وقد جاءت في هذا المعنى في آية سورة البقرة [١٧٧] ولقد أوّلها بعضهم بالجنة ولكن المعنى الأول هو الأوجه.
تعليق على الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ (١) حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ... إلخ
عبارة الآية واضحة، والخطاب فيها موجه على ما يتبادر إلى المسلمين، ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزولها. وتبدو الصلة منقطعة بينها وبين ما سبقها وما لحقها.
ولقد رويت رواية في صدد الآية التالية لها تفيد أن إسرائيل نذر تحريم أحبّ المطعومات إليه تقرّبا إلى الله. وبين مفهوم هذا النذر ومفهوم الآية شيء من الاتصال كما هو المتبادر ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول- إذا صحت الرواية- أن هذه الآية تمهيد للمشهد الذي احتوته الآيات التالية لها وأنها متصلة بها. ومثل هذه التمهيدات من أساليب النظم القرآني مما مرّت منه أمثلة عديدة. بل نحن نرجح ذلك لأن الآية بدون هذا الغرض تبدو كما قلنا منقطعة عن السياق السابق واللاحق الذي هو في حق اليهود بدون حكمة مفهومة. والله تعالى أعلم.
(١) انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧].
188
والآية في حد ذاتها جملة تامة محكمة. ولذلك أفردناها لحدتها. وقد احتوت تعليما في آداب الصدقات موجها إلى السامعين الذين هم المسلمون أو الذين منهم المسلمون. وقد جاء هذا الأدب بأسلوب آخر في آية سورة البقرة [٢٦٧] وهو وجوب التصدق من طيب ما في حيازة المتصدق وطيب كسبه وكراهيته التصدق بالرديء غير المحبب إلى صاحبه. وأسلوب الآية هنا قوي يجعل هذا الشرط واجبا. وهو أقوى من أسلوب آية البقرة وفيه توكيد للتلقين الجليل الذي نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا الشرط يتناول الزكاة ونوافل الصدقات معا. وإطلاق الآية يلهم ذلك. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة التي تأمر بالإحسان في جميع الأعمال أيضا.
وهناك أحاديث تذكر ما كان من تأثر بعض أصحاب رسول الله بهذه الآية.
من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس قال: «كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة نخلا. وكان أحبّ أمواله إليه (بيرحا) وكانت مستقبلة المسجد.
وكان النبي ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. فلما نزلت الآية قال يا رسول الله إنّ الله يقول لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبون. وإنّ أحبّ أموالي إليّ (بيرحا) وإنها لصدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال: بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه وبني عمّه»
«١».
ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال: «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي ﷺ يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبّست أصلها وتصدّقت بها فتصدّق بها على أن لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا تورث ولا توهب. وتصدّق بها عمر في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. وعلى أن لا
(١) التاج، ج ٤ ص ٧١، والمتبادر أن أقاربه كانوا فقراء.
189
جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متموّل» «١».
ومنها حديث رواه ابن كثير في سياق الآية عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحبّ إليّ من جارية لي رومية. فقلت هي حرّة لوجه الله. فلو أنّي أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها».
والفقهاء يعتبرون حديث ابن عمر عن أرض خيبر لعمر مستندا لإجازة الوقف في الإسلام. وظاهر أن ما يعنيه هو الوقف الخيري البحت. والاستناد في محله على هذا الوجه وفي العمل أسوة حسنة للقادرين من المسلمين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
. (١) حلّا: مصدر بمعنى مباح أو حلال.
(٢) إسرائيل: جمهور المفسرين على أنه اسم ثان ليعقوب، وقد ورد في الإصحاح (٣٢) من سفر التكوين أن الله سمّى يعقوب بإسرائيل وقال له لا يكون اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل.
في هذه الآيات:
١- تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرّمه يعقوب على نفسه من نفسه.
٢- وأمر للنبي ﷺ بتحدّي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.
(١) التاج، ج ٢ ص ٢٢٢- ٢٢٣.
190
٣- وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم.
٤- وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا.
تعليق على الآية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ... إلخ والآيتين التاليتين لها
ولقد روى المفسرون روايات عديدة «١» في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي ﷺ أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلّا جوابه على أحبّ الطعام لإسرائيل حيث قال لهم إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به، فشفاه فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق ولم ترد أيّة من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر «٢».
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(٢) هناك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس وأورده مؤلف التاج في فصل التفسير وفي سياق تفسير الآية الأولى جاء فيه: (أقبلت يهود إلى النبي فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها). التاج ج ٤ ص ٧٢. وليس في الحديث ما يؤيد الروايتين. وهو حديث يبدو حدثا مستقلا دون موقف جدلي.
191
والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود.
وقد تحدّتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا، وأن موقف النبي ﷺ في المشهد كان موقف الملزم المستعلي حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ورد في الإصحاح (٣٢) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع (حقّ الورك) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزّه تمثل ليعقوب رجلا فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له أطلقني فقال يعقوب لا أطلقك حتى تباركني فباركه وقال له لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حقّ ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا.
وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال.
هذا، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال: «جاء اليهود إلى النبي ﷺ برجل منهم وامرأة
192
قد زينا فقال لهم كيف تفعلون في من زنى منكم؟ قال: نحممهما ونضربهما فقال لا تجدون في التوراة الرجم فقالوا لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدراسها الذي يقرأ لهم كفّه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال ما هذه قالوا هي آية الرجم فأمر النبيّ بهما فرجما قريبا من المسجد فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة».
وظاهر من النص أن الجملة القرآنية فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
. عبارة الآيتين واضحة. وفيها تنويه بفضل الكعبة وتقرير بأنها أول بيت قام لعبادة الله وهو مبارك وهدى للعالمين وفيه علامات واضحة تدل على مقام إبراهيم. ومن دخله كان آمنا. وقد فرض الله زيارته وحجّه على كل فرد من الناس استطاع إلى ذلك سبيلا تقرّبا لله وعبادة له. ومن يكفر بذلك فليس بضار الله الذي هو غني عن العالمين وعبادتهم.
تعليق على الآية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ... إلخ والآية التالية لها
وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في مناسبة محاجّة قامت بين النبي واليهود أو بين المسلمين واليهود، ادّعى اليهود فيها فضل معبدهم في بيت الجزء السابع من التفسير الحديث ١٣
193
المقدس وفضل استقباله دون الكعبة. وقالوا إن إبراهيم كان يعظم بيت المقدس ويتجه إليه في عبادته فتابعه أبناؤه وذريته وأن النبي لو كان حقا على ملته كما يقول لتابعه ولم يخالفه. ورووا في سبب نزول جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) أن النبي لما نزلت آية الحج جمع أهل الأديان كلّها وقال يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمن بذلك ملّة وهم المسلمون وكفرت الملل الأخرى والروايات لم ترد في الصحاح. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية الثانية نزلت مجزّأة مع أن سبكها لا يفيد ذلك وهي منسجمة كل الانسجام.
وباستثناء ذلك يتبادر لنا أن الرواية الأولى واردة. وقد احتوت الآيتان تكذيبا لليهود وتقريرا بنقل الكعبة وسبق قيامها لعبادة الله وصلتها بإبراهيم عليه السلام بدليل العلامات الظاهرة المعروفة بمقام إبراهيم عندها. وكون الله قد فرض حجها على من استطاع من الناس بناء على ذلك. أما جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضتها كإعلان مسبق لكفر مفروض بذلك من اليهود. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن الآيتين متصلتان بالمشهد الذي تضمنته الآيات السابقة وأن مسألة المفاضلة بين الكعبة وبيت المقدس قد أثيرت فيه. ولقد انتهت الآيات السابقة بإعلان صدق ما حرّره الله والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم فاحتوت الآيتان ما احتوتاه لتوكيد سير النبي ﷺ على ملة إبراهيم دون اليهود. ولعل اليهود قالوا فيما قالوه إن الكعبة لم تذكر في التوراة ولو كان لإبراهيم صلة بها وكانت هي الأفضل لذكرت فأريد أن يقال لهم إن التوراة لا تذكر أشياء كثيرة مما كان قبل نزولها، وضرب لهم مثل بمحرمات الأطعمة التي ذكرتها التوراة مع أن كل طعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزولها. وإن ذلك لم يذكر في التوراة. فراوغوا فتحدتهم الآيات بتلاوة التوراة وإثبات عكس ذلك. والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم إن فرض الحج في الآية الثانية كان في السنة التاسعة «١»
(١) جاء هذا في مقال للشيخ محمد الشرقاوي المدرّس بمعهد الإسكندرية الأزهري في مجلة الوعي الإسلامي عدد ذو القعدة (١٣٨٥) دون أن يذكر سندا.
194
وسياق الآيات وما روي في نزولها يؤيد أن ما ذكرناه في سياق تفسير فصل الحج في سورة البقرة من أن الحج قد فرض على المسلمين في وقت مبكر من العهد المدني. فالسياق يدل بصراحة على أن اليهود كانوا ذا وجود قوي في المدينة حينما نزلت الآيات. في حين أنهم لم يعد لهم وجود في السنة التاسعة. هذا فضلا عن الدليل الآخر المنطوي في جملة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ في الآية [١٩٦] من سورة البقرة على ما شرحنا الأمر في سياقها. والله أعلم.
ولقد ذكر مقام إبراهيم في آية البقرة [١٢٥] والتي احتوت أمرا باتخاذه مصلى والتي ذكر فيها أن الله قد جعل البيت مثابة وأمنا. وبين هذا وما جاء في الآيتين تشابه. ولقد خمّنا أن سلسلة آيات البقرة [١٠٤- ١٥٢] قد تضمنت فيما تضمنته مواقف حجاج وجدل في صدد الكعبة وبيت المقدس حينما تحول النبي في صلاته نحو الكعبة بدلا من سمت بيت المقدس. وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الآيات التي نحن في صددها قد تدل على أن هذا الجدل قد ثار ثانية بين النبي واليهود فاقتضت حكمة التنزيل الوحي بها لوضع الأمر في نصابه الحق للمرة الثانية. ولقد قررت الآية [١٤٤] من سلسلة البقرة المذكورة أن اليهود يعرفون حقيقة أفضلية الكعبة والاتجاه إليها فجاءت الآيات لتؤكد ذلك بأسلوب مفحم وحاسم آخر. والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات والتأويلات التي يرويها المفسرون في صدد أولية البيت المذكور في الآية الأولى. وقد أوردنا هذه الروايات وأوردنا معها حديثا رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذرّ في سياق تفسير سورة قريش التي ورد فيها كلمةْبَيْتِ
لأول مرة، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه فليرجع القارئ إلى ذلك التعليق.
ولقد تعددت تخريجات المفسرين والمؤولين لكلمة (بكة) منها أنها اسم آخر
195
لمكة وأن العرب يعاقبون بين الباء والميم ومن ذلك ضربة لازم وضربة لازب.
ومنها البك يعني الازدحام وأن مكة سميت بكة وصفا لأنها تزدحم بالناس بالطواف والحج. ومنها أن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت ومكة اسم لما عداه. ومنها أنها من التباكي لكثرة ما يكون فيها من ابتهال وبكاء. وليس شيء من ذلك في الصحاح. والمتبادر من روح الجملة أنها اسم آخر لمكة والله أعلم.
ومع ما للآيات من خصوصية جدلية وزمنية فإن جملة وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اتخذت سندا تشريعيا قرآنيا لفريضة الحج في الإسلام لأنها أقوى في هذا المعنى مما جاء في آيات الحج في سورتي البقرة والحج. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات الحج في سورة البقرة ما روي في مدى الاستطاعة الواردة في الجملة من أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في جملة ما أوردناه من ذلك في سائر تقاليد الحج ومناسكه وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي هنا بالتنبيه على ذلك.
ومع أن جملة وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) هي على ما ذكرناه كإعلان مسبق باستغناء الله عن الذين يكفرون أو يمارون بما تقرره الآيات فإن بعض المؤولين قالوا إنها في صدد تقرير كفر المسلم الذي ينكر فرض الحج. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي داود قال: «تلا رسول الله الآية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال: من تركه لا يخاف عقوبة ومن حجّ ولا يرجو ثوابه فهو كذلك». والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. والمتبادر أن من يكون هذا موقفه من الحج فإنه يكون منكرا أو كالمنكر لفرضه. وعلى كل حال فكفر من ينكر فرض الحج ولا يعتقد أن في تركه عقوبة وفي القيام به أجرا بديهي بقطع النظر عن قصور الآية تقرير ذلك أو عدمه والله أعلم.
استطراد إلى شمول أمن البيت
مع أن جملة وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً في الآية الثانية تنطوي على تقرير ما كان
196
يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحدّ الشرعي حيث قال بعضهم إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه: «إن رسول الله ﷺ دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه». وكان من أشدّ أعداء رسول الله ومؤذيه.
ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ جاء فيه: «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحيّة والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور».
وقالوا إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه: «إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة» «١» كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول لأنه لو صحّ لكان فيه القول الفصل.
ومع ذلك، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين.
والله تعالى أعلم.
(١) فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحدّ الشرعي وهو قطع اليد.
197

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ١٠٣]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
. (١) شهداء: قيل إنها بمعنى وأنتم شهداء على أنها حق، وقيل إنها بمعنى وأنتم عقلاء غير غافلين.
(٢) يعتصم: العصم بمعنى المنع لغة. ومنه (لا عاصم من أمر الله) والاعتصام بمعنى الامتناع والكلمة هنا بمعنى الامتناع بالله.
(٣) شفا: بمعنى حافة وطرف.
في الآيات:
١- أمر للنبي ﷺ بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها.
٢- وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته.
٣- وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون.
٤- وخطاب موجّه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان فإذا
198
سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم.
٥- وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم.
٦- وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم.
٧- وخطاب آخر موجّه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشدّ الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكّرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألّف بين قلوبهم فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى.
تعليق على الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) والآيات الأربع التالية لها
جمهور المفسرين «١» على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظلّ الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما وأخذ بعضهم يذكّرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها فلم تلبث نخوة
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير.
199
الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي ﷺ فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكّرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولا حقة فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطّد الأخوة بينهم في ظل الإسلام.
والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطّده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر.
ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين.
والروايات متفقة على أن الآية [١٠٣] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [٨٤ و ٨٥] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنّة نبيهم. أم في وجوب الحرص على
200
الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية. أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل.
هذا، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلّق عليها كما يلي:
١- ففي صدد جملة اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها: «أن يطاع الله فلا يعصى. وأن يشكر فلا يكفر. وأن يذكر فلا ينسى». وعن ابن عباس أن معناها: «جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم». وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي ﷺ رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وكلا التأويلين وجيه.
وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [١٦] التي فيها جملة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ كتيسير وتخفيف من الله. وروى ابن عباس أنها غير منسوخة. ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير فتكون في كل مقام مثله محكمة. أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنّة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها في الآية [٤٢] من سورة الأعراف فليرجع إليه.
٢- وفي مدى معنى بِحَبْلِ اللَّهِ روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد. أو الإخلاص لله أو القرآن. وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض». ولقد أوردنا في سياق الآية [٩] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد. وعلى كل حال فالقرآن حقا هو
201
حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسّك به منهم لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
٣- وفي صدد جملة وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث: لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ». وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحثّ على إحسان الظنّ بالله وكون الله عند ظنّ عبده به»
. وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عزّ وجلّ مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت. والله أعلم.
٤- ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة وَلا تَفَرَّقُوا هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحثّ على الإلفة والجماعة وهو الوجيه السديد. وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه: «إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإنّ أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلّهم في النّار إلّا واحدة فقيل يا رسول الله ما هي؟ فقبض يده وقال الجماعة.
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»
. وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرّقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» «٢». وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة». حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة. وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا
(١) منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «قال الله عزّ وجلّ أنا عند ظنّ عبدي بي»، التاج ج ٥ ص ٦٥.
(٢) التاج، ج ١ ص ٣٩ و ٤٠.
202
السياق منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية» «١».
وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمّيّة يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمّتي. ومن خرج من أمّتي على أمتي يضرب برّها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي» «٢».
والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب. وأن المقصود من جملة (ما يكره) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية. أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر. وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «٣». وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم «٤».
ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [الآيات: ١٥٣ و ١٥٩] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها. وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن التفرق في الدرجة الأولى في أمر الدنيا. ومع ذلك فبينهما لقاء من حيث إن الإسلام يشمل شؤون الدين والدنيا معا. والله تعالى أعلم.
(١) التاج، ج ٣ ص ٤٠.
(٢) المصدر نفسه. [.....]
(٣) المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه، ص ٣٥- ٤٥.
203

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
. الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد أمرتهم الآية الأولى بأن يكون منهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وحيث نهتهم الثانية عن احتذاء سيرة الذين من قبلهم الذين اختلفوا وتفرقوا بعد أن جاءتهم آيات الله وبيناته ووضحت لهم طريق الحق والباطل والهدى والضلال فالذين يفعلون بما أمرت الآية الأولى هم الناجون المفلحون والذين يفعلون ما نهت عنه الثانية لهم عذاب الله العظيم.
تعليق على الآية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... إلخ والآية التالية لها
يروي الطبري أن هاتين الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة لها في المناسبة التي روتها الروايات. ولا مانع من صحة الرواية. وقد جاءتا معقبة على ما قبلها لبيان ما هو الأوجب على المسلمين والأولى بهم والأصلح والأنفع لهم ولبيان الخطر العظيم الذي ينتج عن تفرقهم واختلافهم.
ولقد احتوت الآيتان تلقينات ومبادئ جليلة شاملة لكل ظرف ومكان حيث توجب على المسلمين بأسلوب حاسم وفرضي أن يكون بينهم دائما جماعة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأن يحافظوا على الروابط الأخوية فيما بينهم فلا يتفرقوا كما تفرق من قبلهم وأن يستمسكوا بهدي دينهم الواضح فلا يختلفوا فيه كما اختلف من قبلهم.
والواجبات الثلاث التي احتوتها الآية الأولى مطلقة وعامة المدى لتكون كما
204
هو المتبادر متسقة مع جميع الظروف والأمكنة والأدوار والأطوار. وهي (الدعوة) إلى كل ما فيه برّ وعدل وحقّ وإحسان ونفع وتعاون وهذا ما تشمله كلمة الخير.
(والأمر) بكل ما عرف أن فيه صلاح المجتمع وقوامه وحياته وصلاح الأفراد وقوامهم وحياتهم. (والنهي) عن كل ما عرف أن فيه فساد المجتمع وضرره وفساد الأفراد وضررهم.
وواضح أن هذه الواجبات أو المبادئ من أجلّ المبادئ والواجبات التي من شأنها حفظ كيان المجتمع الذي يسير عليها قويا سعيدا صالحا متعاونا على البرّ والتقوى والفضيلة ومكارم الأخلاق خاليا من الشرّ والبغي والظلم والإثم والفواحش. والمبادئ والواجبات المنطوية فيها واسعة المدى تتناول عشرات المواضيع الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والإصلاحية سلفا وإيجابا. وتكون الآيات بذلك منبع قوة لا ينضب للنشاط في شتّى وجوه الإصلاح والاجتماع والأخلاق والتكافل.
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المبادئ والواجبات لا ترد في القرآن هنا لأول مرة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرا لأول مرة في آية سورة الأعراف [١٥٧] كبيان لمحتوى رسالة النبي محمد ﷺ وصفة من صفاته ثم ذكر كصفات من صفات المؤمنين في آية سورة الحج [٤٠].
والأمر بفعل الخير والتنويه بفاعليه والتنديد بمانعيه ورد في سور عديدة منها سور (القلم) و (ق) و (الحج).
والنهي عن التفرقة جاء في الآيات التي سبقت هذه الآيات وفي آيات سورة الأنعام [١٥٣ و ١٥٩].
ولقد شرحنا مدى الموضوع الأول وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث وأقوال وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق آية سورة الأعراف كما شرحنا مدى الموضوع التالي وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق تفسير سور
205
القلم وق والحج، وشرحنا مدى الموضوع الثالث وأوردنا ما فيه من أحاديث وما عنّ لنا عليه من تعليق في سياق الآيات التي سبقت هذه الآيات وآيات سورة الأنعام فنكتفي بهذا التنبيه ليرجع إلى ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٩]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
. في الآيات:
١- تذكير بيوم القيامة الذي تبيضّ فيه وجوه أناس وتسودّ وجوه آخرين وفقا لأعمال أصحابها.
٢- وتقرير ضمني بأن الذين تسودّ وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم وبأن الذين تبيضّ وجوههم هم المؤمنون الثابتون المخلصون حيث يقرّع الأولون على كفرهم بعد الإيمان ويقال لهم ذوقوا العذاب على كفركم وحيث ينال الآخرون رحمة الله مخلدين فيها.
٣- وتنبيه وجّه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ بأن هذه الآيات التي يوحيها الله إليه قد انطوت على الحق. وبأن الله لا يريد للناس ظلما وبأن له ما في السموات والأرض وإليه ترجع جميع الأمور.
تعليق على الآية يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلخ والآيات الثلاث التالية لها
لا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية في مناسبة نزول هذه الآيات.
والمتبادر أنها استمرار وتعقيب على الآيات السابقة التي انتهت بالإنذار لمن يشذّ
206
عن حبل الله ويضلّ عن هداه بعد ما جاءته البيّنات واضحة.
وواضح أن الآيات احتوت توكيدا لما قرره القرآن في مواضع كثيرة مماثلة من كون ضلال الناس وهداهم وبغيهم واستقامتهم من كسبهم واختيارهم وهم مسؤولون عن أعمالهم ولا يمكن أن يظلمهم الله في ذلك كما لا يمكن أن يريد للناس شرا ولا ضلالا ولا ظلما. ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي انطوى في الآيتين فقد يكون من الحكمة في ذكر ابيضاض الوجوه واسودادها ما اعتاد الناس أن يقولوه في حالة الفوز والفرح والعزّة والنصر والإخفاق والحزن والذلّة والقهر. وقد يكون من مقاصد الآية الترهيب والترغيب والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في من عنتهم جملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ منها أنهم المنافقون والكتابيون. أو الذين ارتدوا بعد النبي ﷺ وحاربهم أبو بكر. أو الخوارج الذين حاربهم علي. أو أهل الفتن والبدع والأهواء. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن الذين تبيضّ وجوههم أهل السنة والجماعة والذين تسودّ وجوههم أهل البدع والفرقة.
والأوامر والنواهي التي تضمنتها الآيات السابقة لهذه الآيات موجهة للمسلمين. وهذا ما يجعلنا نستبعد الكتابيين. ونستبعد أن يكون المقصود في الجملة المنافقين أيضا لأن حالتهم معلومة.
والقرآن قرر أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار إذا لم يتوبوا، كما جاء في آيات النساء [٨٨ و ٨٩ و ١٤٥ و ١٤٦] والتوبة [٥٦ و ٦٨ و ٧٣] وبقية الأقوال تطبيقية من وحي الأحداث بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن في زمن ابن عباس جماعة مميزة باسم أهل السنّة والجماعة مثلا.
ومهما يكن من أمر، فيصح القول إن الآيتين الأوليين في صدد من يلتزم بما أمر الله به وما نهى عنه في الآيات السابقة ومن يشذّ عنها بصورة عامة. ويدخل كل فريق من فرقاء المسلمين ثبت على كتاب الله وسنّة رسوله وكل فريق شذّ عنهما في كل ظرف.
207
ويسوق الخازن في سياق الآيات أحاديث ورد بعضها في الصحاح من ذلك حديث رواه أيضا الشيخان عن سهل بن سعد جاء فيه: «إنّ رسول الله ﷺ قال: أنا فرطكم على الحوض. من مرّ عليّ شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم منّي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» «١».
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر أن رسول الله قال: «إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شرّ الخلق والخليقة» «٢». ولفظ أبي داود لهذا الحديث «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة.
قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه. هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله وما سيماهم؟ قال:
التحليق»
«٣».
وحديث عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا. يبيع دينه بعرض الدنيا» «٤».
ولا تبدو صلة بين هذه الأحاديث والآيات التي تساق في سياقها إلّا ما تفيده من شذوذ فئات من المسلمين بعد النبي ﷺ عن طريق الإسلام الصحيح
(١) التاج، ج ٥ ص ٣٤٤.
(٢) فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج ٥ ص ٣٨٦- ٣٨٧.
(٣) فضلنا نقل الصيغة من التاج على صيغة الخازن لأن فيها فروقا وإن كانت يسيرة. التاج ج ٥ ص ٣٨٦- ٣٨٧.
(٤) شيء من هذا النص وارد في حديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. انظر التاج ج ٥ ص ٣٧٩.
208
وسوء مصيرهم الأخروي مما يمكن أن يتصل بمدى جملة أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ومما يمكن أن تكون الحكمة النبوية فيها إنذارا وتحذيرا. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
. في هذه الآيات:
١- خطاب تبشيري موجّه إلى المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم بالله وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٢- وإشارة تنديدية إلى أهل الكتاب. فلو أنهم آمنوا برسالة النبي لكان خيرا لهم ولتمتعوا بتلك المزية التي جعلها الله للمؤمنين. ولكن لم يؤمن منهم إلّا القليل وأما الأكثر فهم فاسقون.
٣- وخطاب تطميني موجّه إلى المسلمين: فليس أهل الكتاب ممن يخشى لهم بأس أو يخاف من ضرر أكيد منهم فضررهم قاصر على الأذى بالدسّ والكيد واللسان. ولو حدثتهم نفوسهم بقتال المسلمين لما ثبتوا في الميدان ولولوا الأدبار ولما كتب لهم أي نصر. فقد لزمتهم المسكنة في كل ظرف ومكان باستثناء بعض الظروف التي يتمسكون فيها بحبل الله ويتعاملون فيها مع الناس بالحق ويرعون معهم العهود. وقد لزمهم غضب الله وسخطه. لأنهم اتخذوا الكفر بآيات الله وقتل أنبيائه بغير حق وعصيان أوامره والوقوف موقف المعتدي ديدنا.
الجزة السابع التفسير الحديث ١٤
209
تعليق على الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ... إلخ والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون روايتين في سبب نزول الآيات. واحدة تذكر أنها نزلت في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم مثل عبد الله بن سلام وغيره. وثانية تذكر أنها نزلت في مناسبة فخر اليهود بتفضيل الله إياهم على العالمين. ومع ذلك فقد رووا عن أهل التأويل قولين في المقصود من أهل الكتاب. أحدهما أنهم اليهود خاصة وثانيهما أنهم اليهود والنصارى معا.
وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. وروح الآيات ومضمونها وتطابق الصفات الواردة فيها مع الصفات الواردة في اليهود صراحة في آيات أخرى وبخاصة في آية سورة البقرة [٦١] تجعل القول بأن الآيات في اليهود هو الأوجه.
مع التنبيه على أننا لسنا نرى في الآيات ما يمكن أن يؤيد احتمال صحة رواية نزولها في مناسبة تأنيب زعماء اليهود لمن أسلم منهم ونرى الرواية التي تذكر أنها في مناسبة فخر اليهود بأنهم أفضل العالمين محتملة الصحة أكثر بل قوية احتمال الصحة. ومن المحتمل أن يكونوا قد دعموا فخرهم أمام المسلمين بما ورد في القرآن من ذلك في آيات عديدة مثل آيات البقرة [٤٧ و ١٢٢] والدخان [٣٢] والجاثية [١٦ و ١٧] فضلا عما كانوا يستندون إليه في ذلك من نصوص أسفارهم فاقتضت حكمة التنزيل بالإيحاء بالآيات لتقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية التي تقرر وحدانية الله بدون أي شائبة وربوبيته الشاملة صاروا هم الأولى بوصف كونهم خير أمة أخرجت للناس لأنهم صاروا بالهدى الذي اهتدوا به دون غيرهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله إيمانا صادقا وخالصا.
على أن مما تلهمه الآيات أيضا بالإضافة إلى ذلك أن اليهود كانوا يتبجحون بقدرتهم على القتال وإمكانهم أن يعلبوا المسلمين وأن بعض المسلمين كانوا يحسبون لهم حسابا من هذه الناحية. وهذا مما روي عنهم وأوردناه في سياق
210
تفسير آيات الأنفال [٥٥- ٥٨] وآيات آل عمران [١٢- ١٣] ومما تضمنت الإشارة إليه آية سورة الحشر هذه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [٢]. فاحتوت الآيات ما احتوته من تكذيب لليهود في ذلك وتطمين للمسلمين على النحو الذي شرحناه. وقد انطوى فيها إشارة إلى ما كان من واقع أمرهم في معظم أدوارهم التاريخية من ذلّ ومسكنة وشتات مما هو مؤيد بقوة وبمقياس واسع بتاريخهم الذي فصّلته أسفارهم وعزته إلى انحرافاتهم الدينية والأخلاقية وأيّدته الكتب والروايات القديمة «١».
والآيات كما يبدو من هذا البيان متصلة بمشهد حجاجي بين المسلمين واليهود أو بالسياق السابق وحلقة من سلسلته كما يبدو من خلالها وصف ما كان عليه اليهود في مختلف أنحاء الأرض في عصر النبي ﷺ من جبن وذلّة ومسكنة.
لقد قال بعض المفسرين «٢» إن المقصود من تعبير مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ هم الذين آمنوا من النصارى ومنهم النجاشي كما قال بعضهم «٣» إنهم هم الذين آمنوا من اليهود. والذي نرجحه هو القول الثاني لأن الآيات والسلسلة السابقة لها هي في حق اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد جاءت الآيات وبخاصة الفقرة الأولى من الآية الأولى التي تقرر أن المؤمنين بالرسالة المحمدية هم خير أمة أخرجت للناس في مقامها الذي هو في صدد اليهود ناسخة لكل ما ورد في الآيات القرآنية السابقة عن تفضيل بني إسرائيل
(١) انظر أسفار القضاة وصموئيل والملوك وأخبار الأيام ونبوءة أشعيا ونبوءة أرميا ومراثي أرميا وحزقيال وباروك وميخا وصفنيا وعوبيديا وملاخي واستير وعزرا ونحميا والمكابيين وتاريخ يوسيفوس اليهودي من رجال القرن الأول الميلادي وتاريخ العبرانيين للمطران الدبس. وقد استوعبنا ذلك في كتابنا (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم).
(٢) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
(٣) انظر المصدر نفسه.
211
على العالمين أو حاصرة لذلك في زمن مضى حينما كانوا صابرين مستقيمين على وصايا الله وشرائعه.
ومعظم ما جاء في الآية [١١٢] ورد في الآية [٦١] من سورة البقرة، وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
ولقد اختلف المؤولون في مدى الاستثناء في جملة إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فقال بعضهم: إنه متصل وقال بعضهم إنه منفصل. والفرق هو أنه في الحالة الأولى لا يكون عليهم ذلّة بسبب اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وتعاملهم معهم بالحق. أما في الحالة الثانية فتكون الذلّة مضروبة عليهم على كل حال بسبب الجرائم الخطيرة التي اقترفوها. وقد أخذنا في شرحنا للآيات بالرأي الأول حيث يتبادر لنا أنه الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآية ونظمها والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الأقوال المروية في مدى تعبير كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ منها أن كُنْتُمْ زائدة أو تامة ويكون المعنى (أنتم) أو (صرتم) أو (وجدتم) ومنها أن المقصودين هم خاصة أصحاب رسول الله ﷺ أو المهاجرين منهم بنوع خاص. أو هم (ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل) وليس شيء من ذلك في الصحاح. والخطاب عام وموجه من حيث الواقع المباشر إلى السامعين من المؤمنين. وهم مهاجرون وأنصار. وهذا ما جعلنا نشرح العبارة القرآنية بما شرحناه من كونها قصدت تقرير كون المؤمنين بالرسالة المحمدية صاروا دون غيرهم أولى الناس بوصف أنهم خير أمة أخرجت للناس.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآية قد خاطبت ظرفيا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين وصفتهم آيات عديدة «١» بعظيم
(١) انظر آيات سور المعارج [٢٢- ٣٥] والذاريات [١٦- ١٩] والشورى [٣٦- ٤٣] وفاطر [٢٩- ٣٤] والفرقان [٦٣- ٧٦] والمؤمنون [١- ١١ و ٥٧- ٦١] والرعد [٢٠- ٢٤] والحشر [٨- ١٠] والأحزاب [٢٢] وآل عمران [١٦٩- ١٧٤ و ١٩٥] والتوبة [٧١- ٧٢ و ٨٨ و ٨٩ و ١٠٠].
212
صفات الإخلاص والاستغراق في دين الله ونصرته وبذل كل مال ونفس وجهد في سبيله فكانوا فعلا متحققين بالصفة التي وصفتهم بها الآية.
على أن هذا لا يمنع القول إن إطلاق الخطاب للسامعين يمكن أن يكون شاملا لكل مؤمن في كل وقت ومكان، وهو المتفق عليه عند المؤولين والمفسرين في كل خطاب مماثل ليس فيه دليل تخصيصي على ما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة والمماثلة. وهذا ما قاله المفسرون والمؤولون في صدد هذه الآية بالذات، مع التنبيه على أمر مهم وهو أن يكون المسلم الذي يستحق هذا الخطاب مخلصا في إيمانه قائما بواجباته التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبهذا فقط يكون من مشمول فقرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الناس في دعة فقرأ في خطبة له في حجة حجها الآية ثم قال من سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.
وعلى ضوء ما تقدم يصح أن يقال إن الآية قد جعلت الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفات متلازمة وأوجب على المسلمين التحقق بها ورشحهم في حال هذا التحقق بكونهم خير أمة أخرجت للناس يحملون لهم مشاعل الهداية ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ويقيمون المجتمع الإنساني الفاضل الذي يسوده العدل والإحسان والبرّ والتعاون والتضامن والحرية ويتحرر المرء فيه من الظلم والطغيان والإثم والفواحش. وإنه لواجب عظيم مشرّف. وقد كان المسلمون حينما قاموا به في صدد الإسلام خير أمة أخرجت للناس حقا.
والمسلمون مرشحون لأن يكونوا كذلك في كل ظرف تحققت فيه فيهم تلك الصفات وقاموا بما توجبه عليه من واجبات.
وقد يصح أن يقال إن العرب المسلمين كانوا أول المخاطبين بذلك وإن لهم فيه النصيب الأكبر. فقد اختار الله خاتم أنبيائه الذي رشح رسالته لتكون دين العالم
213
أجمع منهم. وأنزل كتابه المجيد الذي صار كتاب جميع المسلمين المقدس في كل أقطار الدنيا بلغتهم. وجعل مهبط وحيه في قلب جزيرتهم ومهدهم قبلة يتجه إليها جميع مسلمي الأرض في صلواتهم اليومية العديدة ومحجّا يحجون إليه سنويا من جميع أقطار الأرض أبد الدهر وجعلهم وسطا ليكونوا شهداء على الناس كما جاء في آيتي سورتي البقرة والحج [١٤٣ و ٧٨] ولا يمكن إلّا أن يكون ذلك لحكمة اختصاصية للعرب والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا رواه بطرقه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله». وروى الحديث الترمذي بسند حسن بفرق يسير في بدئه وهو:
«تتمون سبعين أمة... » «١». والكلام النبوي موجه للعرب لأول مرة فيكون فيه تدعيم لما قلناه مساق في سياق الآية والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
. (١) لن يكفروه: لن يجحد لهم عملهم وسيقابلون عليه بما يستحق.
من المؤولين من اعتبر جملة لَيْسُوا سَواءً مستقلة عن ما بعدها.
واعتبروا الجملة التالية لها كلاما مستأنفا مستقلا عنها. ومنهم من اعتبر هذه الجملة متصلة بالجملة التالية لها. وأصحاب القول الأول أوّلوا الجملة بأنها في صدد تقرير كون المسلمين وأهل الكتاب الموصوفين بالآيات السابقة لا يصح أن يكونوا
(١) انظر التاج، ج ٤ ص ٧٣، والحديث في تفسير الآية ووارد في فصل التفسير في كتاب التاج.
214
سواء. ثم استؤنف الكلام لتقرير كون من أهل الكتاب من هو صالح يتّصف بما جاء في الآيات من صفات. ولو أن ما يفعله هذا الفريق لن يجحد من الله تعالى الذي هو العليم بالمتقين. وأصحاب القول الثاني أوّلوا الآيتين بأنهما في صدد الاستدراك لتقرير كون أهل الكتاب ليسوا سواء. فإذا كان منهم الفاسق المعتدي الذي وصف في الآيات السابقة ضمن الصالح المتقي المؤمن بآيات الله والمتعبّد لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمسارع في الخيرات.
ويتبادر لنا أن القول الثاني هذا هو الأوجه والأكثر اتساقا مع روح الآيات ومقامها ومع السياق السابق واللاحق. والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ... والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون كسبب لنزول الآيات أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة آخرون من يهود قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم ما آمن بمحمد إلّا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله الآيات. كما رووا أنها في وصف حالة أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والروايات لم ترد في الصحاح، ويتبادر لنا أن الآيات استمرار في السياق وتعقيب عليه. فقد جاء في الآيات السابقة أن أهل الكتاب وإن كان أكثرهم فاسقين فإن منهم مؤمنين أيضا ثم أخذت تحمل على الفاسقين وتهوّن من شأنهم فجاءت الآيات تستدرك وتستثني من الحملة الفئة المؤمنة وتذكر مظاهر إيمانهم وإخلاصهم وعملهم الصالح. ونظم الآيات ومضمونها يلهمان هذا بقوة حين الإمعان فيها.
وهذا لا ينفي أن تكون الآيات قد قصدت الذين آمنوا بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب الذين ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية خبر إيمانهم على ما ذكرناه في
215
مناسبات سابقة. مع القول إننا نرجح أن تكون الآيات في صدد وصف مؤمني اليهود بخاصة لأن الآيات للاستثناء والاستدراك. والسياق في صدد اليهود والله تعالى أعلم.
وبعض المبشرين يزعمون أن الآيات في وصف رهبان النصارى في حالة احتفاظهم بنصرانيتهم. وبقطع النظر رجحنا بأنها في صدد اليهود فإن وصف الإيمان بعد البعثة المحمدية لا يكون إلّا لمن آمن بالرسالة المحمدية. وقد وصف القرآن الكافرين بهذه الرسالة من أهل الكتاب بالكفار على ما نبهنا عليه وأوردنا شواهده القرآنية في مناسبات سابقة. ولا يصح أن يعارض القرآن نفسه فيصف بعضهم بالإيمان وهم جاحدون للرسالة المحمدية. وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الآيات في صدد فريق من أهل الكتاب قد آمنوا بهذه الرسالة مع ترجيحنا أنهم من اليهود والله تعالى أعلم.
والوصف الذي احتوته الآيات عظيم الروعة. يدل على أن الذين آمنوا من أهل الكتاب بالرسالة المحمدية قد فعلوا ذلك بإخلاص وتجرّد شديدين نتيجة لاقتناعهم بصدق الرسالة المحمدية وما جاءت به من مبادئ وتعاليم ثم استغرقوا في عبادة الله تعالى والتقرّب إليه بصالح الأعمال والأخلاق في ظلّ الدين الجديد الذي اعتنقوه وتأثروا بمبادئه وتعاليمه. وفي القرآن المكي والمدني صور مقاربة «١» حيث يصح القول إن هذا كان عاما في من استطاع أن يتغلب على عناده ومكابرته وهواه ومآربه من أهل الكتاب. وقد استمر هذا يتكرر وبمقياس واسع في حياة النبي ﷺ وبعده إلى اليوم وإلى الأبد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
(١) اقرأ مثلا آيات القصص [٥١- ٥٣] والإسراء [١٠٧ و ١٠٨] والرعد [٣٦] وآل عمران [١٩٩] والنساء [١٦١] والمائدة [٨٢- ٨٤].
216
(١) ريح فيها صرّ: قيل إنها ريح باردة جدا. وقيل إنها ريح السموم الحارة وقيل إنها الريح المزمجرة. وعلى كل فالقصد هو الريح التي تهبّ على الزرع فتتلفه بشدّة لفحها بردا أو سموما أو عاصفة مزمجرة.
في الآيتين: تقرير ينطوي على التهوين والتقريع والإنذار بأن الكفار لن يجديهم كثرة أموالهم وأولادهم نفعا عند الله. فهم أصحاب النار المقضى عليهم بالخلود فيها، وإن ما ينفقونه في الحياة الدنيا لن يكون عليهم إلّا بلاء وإنه كالريح التي فيها صرّ تتلف الزرع الذي تصيبه. وليس في هذا ظلم من الله سبحانه. وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم فاستحقوه.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في نزول الآيات وإنما قالوا «١» - ومنهم من عزا القول إلى ابن عباس وغيره- إن المقصود من جملة الَّذِينَ كَفَرُوا هم أبو جهل وأبو سفيان اللذان كانا يتفاخران بكثرة أموالهما وقدرتهما على الإنفاق لقهر المسلمين، كما قالوا أيضا إن المقصود هم اليهود الذين كانوا ينفقون الأموال في مناوأة ومعاداة رسول الله ورسالته.
والمتبادر أن الآيتين متصلتان بالسياق السابق أيضا وأنهما تعنيان كفار اليهود بعد استثناء المؤمنين منهم، وتلهمان أنهم كانوا يتفاخرون بكثرة أموالهم كما كانوا يتفاخرون بقدرتهم على القتال. وأن المسلمين كانوا يحسبون لهذه الأموال حسابا لأنها تمكنهم من الإنفاق والاستعداد للحرب والقتال فجاءتا لتهوّنا من شأن هذه الأموال كما هونت الآيات السابقة من شأن قدرتهم على القتال ولتطمئنا المسلمين من هذه الناحية أيضا.
(١) انظر تفسير الخازن.
217
والعبارة في الآيتين مطلقة حيث يكون فيهما بالإضافة إلى خصوصيتهما الزمنية تلقين تبشيري وتطمين للمسلمين في كل ظرف مع واجب التنبيه على أن على المسلمين أن يكونوا مسلمين حقا إيمانا وجهادا وعملا واستقامة واستعدادا حتى يحقق الله وعده وتصدق لهم البشرى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
. (١) بطانة: أخصاء يطلعون على باطن أموركم.
(٢) من دونكم: من غيركم.
(٣) لا يألونكم: لا يقصرون فيكم.
(٤) خبالا: فسادا أو تشويشا.
(٥) ودّوا ما عنتم: تمنوا أن يصيبكم العنت والمشقة.
في هذه الآيات:
١- خطاب موجه للمسلمين ينهون به عن اتخاذ أخصّاء وأولياء لهم من غيرهم يطلعون على أسرارهم وبواطن أمورهم.
٢- وتعليل لهذا النهي: فإنّ هؤلاء لا يقصرون في أي عمل يسبب لهم الفتنة والفساد والتشويش. ويتمنون لهم كل عنت ومشقة. وقد ظهرت علامات البغض والكراهية لهم على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم من ذلك أشد. وفي حين أنّ
218
المسلمين يحبونهم ويودون لهم الخير ويؤمنون بكل ما أنزل الله، ومن ذلك ما أنزله من الكتب السابقة فإنهم لا يقابلون حبهم بحبّ ولا رغبة الخير لهم بمثلها ولا يؤمنون بما أنزل الله جميعه. وإذا لقوهم تظاهروا بالإيمان كذبا ورياء. وإذا خلوا إلى بعضهم عضوا أناملهم من شدّة غيظهم وحقدهم عليهم، وإذا نالهم خير استاءوا وإذا أصابتهم مصيبة فرحوا.
٣- تطمين للمسلمين فإنهم إذا صبروا وثبتوا في مواقفهم وراقبوا الله واتقوه لن يضرهم كيدهم وأذاهم وبأن الله محيط بكل ما يعملون ومحبطه.
وقد تخللت الآيات فقرات تعقيبية جريا على الأسلوب القرآني: فالله يبين للمسلمين الآيات ويوضح لهم الحقائق حتى يعقلوها ويسترشدوا بها. وليميت هؤلاء الأغيار بغيظهم الذي يأكل قلوبهم. والله عليم بخفايا صدورهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ... إلخ والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «١» أن الآيات نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يواصلون اليهود ويصادقونهم ويخالطونهم بحجة الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، كما رووا «٢» أنها نزلت في جماعة من المسلمين كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين بحجة القربى والوشائج الرحمية والقبلية. والروايات لم ترد في الصحاح، ولكن فحوى الآيات يتحمل أيا من الروايتين كما أن الواقع في المدينة في ظرف نزولها يتحمل أيا منهما أيضا. غير أن جملة وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وجملة وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ المماثلة بعض المماثلة للآية [٧٦] من سلسلة آيات البقرة الواردة في حق اليهود قرائن تسوغ
(١) انظر تفسيرها في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن. [.....]
(٢) المصدر نفسه.
219
ترجيح كونها في حق اليهود أكثر. والمتبادر أن جملة مِنْ دُونِكُمْ تنطبق كذلك على اليهود أكثر لأن المنافقين عرب من جنس المخاطبين أولا وكانوا يتظاهرون بالإسلام ويؤدون فرائضه حتى إنهم كانوا يشتركون في الحركات الحربية بقطع النظر عن مواقفهم المربية. وقد رجح الطبري ذلك. وإذا صحّ الترجيح تكون الآيات قد احتوت صورة قوية لشدة ما كان يضمره اليهود من العداء والحقد والغيظ للنبي ﷺ والمسلمين والحركة الإسلامية. ونهيا قويا متناسبا مع ذلك ومستندا إلى الواقع المشاهد الملموس عن الاستمرار في موادتهم وموالاتهم من قبل المسلمين واختلاطهم بهم. وهذه الصورة مؤيدة بآية سورة المائدة هذه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [٨٢].
والآية تدل على أن الآيات الكثيرة الواردة قبلها في سورة آل عمران وسورتي الأنفال والبقرة والتي فيها بيان مواقف اليهود الكيدية والعدائية والتشكيكية نحو المسلمين لم تؤثر في فريق من المسلمين الذين يرجح أنهم المنافقون الظاهرون والمستترون حيث ظلوا يواصلونهم بالمودة ويختلطون بهم.
بل لقد ظلّ هذا مستمرا طيلة وجود اليهود في المدينة أي إلى السنة الهجرية السادسة على ما تدل عليه آيات عديدة وردت في سور أخرى بعد هذه السورة على ما سوف يأتي.
ومع الخصوصية الزمنية للنهي والتحذير اللذين احتوتهما الآيات فإن إطلاق الأمر وإطلاق الخطاب يجعل تلقينها شاملا لكل زمان ومكان. وظاهر من التعليلات والأوصاف الواردة أن النهي والتحذير هما بالنسبة إلى الجماعات غير الإسلامية التي تقف من المسلمين مواقف الكيد والعداء والحقد والكراهية ومظاهرة الأعداء وأنهما لا يشملان من يكون موادّا مسالما كافّا يده ولسانه عن المسلمين من غير المسلمين على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ
220
كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المسلمين». وعقب ابن كثير على هذا بقوله إن الآية مع هذا الأثر دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم. وفي كتاب تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي بعض أخبار مماثلة أو مقاربة لما رواه ابن أبي حاتم.
ونقول تعليقا على ذلك: إن التعليلات التي احتوتها الآيات قوية الدلالة على أن النهي هو عن الذين عرفوا بعدائهم ومكرهم وكيدهم وقصدهم السوء بكل موقف ووسيلة للمسلمين. أو على الأقل الذين يغلب الظن على أنهم كذلك. أما من كانوا أو من غلب الظن على أنهم كانوا غير ذلك فلا نرى في الآية دليلا على عدم جواز انتفاع المسلمين بخبراتهم المتنوعة بالإضافة إلى حسن التعايش معهم.
وإذا صح ما روي عن عمر للظرف الذي كان الذميون فيه مظنة ريب وخيانة وغدر فليس من شأنه أن يكون قاعدة عامة مستمرة إلّا في نطاق ذلك. ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة بكلام طويل انتهى فيه إلى النتيجة التي قررناها آنفا. والله تعالى أعلم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل جديد طويل في صدد وقعة أحد. وبذلك ينتهي الشطر الأول من السورة الذي كان في صدد أهل الكتاب من نصارى ويهود. والذي نستلهمه من فحوى الآيات أن ما يتصل بمناظرة وفد نجران منه ينتهي بالآية [٦٨] وليس فيه عنف وقسوة لأن الوفد قد جاء مستطلعا مناظرا ثم توادع مع النبي ورجع إلى بلاده على ما شرحناه قبل. وأن الآية [٦٩] وما بعدها إلى آخر الآية [١٢٠] هي في صدد اليهود ومواقفهم الكيدية والتشكيكية والعدائية ولذلك تميزت عن الآيات السابقة لها بالعنف في التنديد والاستنكار والتحذير. وهكذا تكون سورة آل عمران كسورة البقرة قد احتوت سلسلة طويلة في حقّ اليهود اقتصرت على ذكر هذه المواقف دون استطراد إلى ربط حاضرهم بغابرهم إلّا لماما. والسلسلتان تدلان على ما كان لليهود من أثر في بيئة النبي ﷺ وعلى ما كان من نشاطهم الشديد في مناوأة النبي والمسلمين والإسلام، فاقتضت حكمة التنزيل أن تأتيا بالأسلوب
221
القوي العنيف الذي جاءتا به ليكون متناسبا مع ذلك من جهة، ولفضحهم وإضعاف أثرهم من جهة أخرى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٩]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
. (١) غدوت: خرجت باكرا في الصباح.
(٢) من أهلك: من بيتك.
(٣) تبوّىء: تعدّ أو تهيىء.
(٤) أن تفشلا: أن تضعفا وتنخذلا.
(٥) مسوّمين: معلّمين أي بعلامة.
(٦) ليقطع طرفا: ليستأصل فريقا.
(٧) يكبتهم: يكبّهم على وجوههم خزيا وخيبة.
في هذه الآيات:
١- تذكير للنبي ﷺ بخروجه صباحا من بيته إلى خارج المدينة ليهيىء للمسلمين الأماكن الملائمة لقتال العدو، وبما كان في أثناء ذلك من أقوال ونوايا
222
سمعها الله وعلم بها وهو السميع العليم، وبما كان من تردد فرقتين من المؤمنين حتى كادتا تنخذلان وترتدان مع أن الله وليهما وناصرهما ومع أن من واجب المؤمنين أن يتوكلوا عليه.
٢- وتذكير للمؤمنين بما كان من نصر الله لهم في وقعة بدر في ظرف كانوا فيه أذلة من القلة والضعف. وحثّ لهم على تقوى الله والإخلاص له حتى ييسر لهم ما يحمدونه ويشكرونه عليه من النتائج والمواقف.
٣- وتذكير آخر للنبي ﷺ بما كان يوجهه إلى المسلمين من سؤال عما إذا كان لا يكفيهم أن يمدهم ربهم بثلاثة آلاف من الملائكة ينزلها لنصرهم.
٤- وتوكيد تأييدي بأن ربهم سوف يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة المتميزين بعلامات خاصة إذا كرّ أعداؤهم عليهم وثبتوا وصبروا واتقوا الله.
٥- واستدراك بأن الله إنما يبين أعداد الملائكة ويخبر أنه ينزلهم لتأييدهم ونصرهم لأجل تطمين قلوب المسلمين وبعث الاستبشار في نفوسهم وبأن النصر في حقيقته هو من عند الله وحده القادر على أن يهب لهم النصر على كل حال.
وهو العزيز الحكيم القادر على كل شيء والغني عن كل شيء والذي يقضي بما فيه الصواب والحكمة.
٦- وبيان لناحية من حكمة الله في ما دار ويدور من حروب بين المسلمين والكفار: فالله يتوخى في ذلك استئصال شأفة الكفار أو قهرهم وارتدادهم خائبين أو بعث الرغبة فيهم في الارعواء والتوبة عما هم فيه أو تعذيبهم لظلمهم وبغيهم. فالأمر في كل ذلك له والحكمة هي في ما ييسره ويسيره وليس للنبي ولا لغيره تأثير فيه. فهو الذي له ما في السموات والأرض وهو مطلق التصرف في كونه وخلقه، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الغفور الرحيم.
223
تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) وما بعدها لغاية الآية [١٢٩] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [١٧٩] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروى في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة «١» أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصّن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها
(١) انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣- ١٥٩، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٨- ٩١. وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.
224
والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلّا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف وأن النبي ﷺ قد جنح إلى الرأي الأول بادىء الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدّة حربه ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم إنه لا يصح لنبي لبس عدّة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا: أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: «فينا نزلت إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما. قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما» «١».
ومما روي أن النبي ﷺ نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال.
وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم
(١) التاج، ج ٤ ص ٧٣.
الجزء السابع من التفسير الحديث ١٥
225
انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي ﷺ للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي ﷺ ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك وأنّ النبيّ كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو قوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال: «إن النبي ﷺ عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه» «١».
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأجبنا إيرادها.
(١) انظر التاج، ج ٤ ص ٣٧٤، روى الحديث الخمسة.
226
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [١٢٤- ١٢٥] أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم «١». منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [١٢٣] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي ﷺ بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شقّ على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. ومن هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيّد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمّت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الواعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا في الآية [١٢٥] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم. لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرّة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي ﷺ فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي ﷺ حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشّرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [١٢٤] ذلك ثم
(١) انظر الطبري وابن كثير والخازن.
227
أعقبتها الآية [١٢٥] بشرى ربانية مباشرة فيها تأييد للبشرى النبوية مع زيادة بالعدد إذا كرّ عليهم العدو أو لقوه. وإذا صحّ هذا كما نرجو تكون الآيتان وما فيهما من بشرى الله ورسوله بالمدد عائد إلى يوم أحد والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون «١» أن الآية [١٢٨] نزلت لتنبيه النبي حينما قال وقد شجّ رأسه: «كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم» أو حينما كان يختص باللعن بعض قوّاد الحملة مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية والحرث بن هشام. أو حينما دعا على مضر بسبب عداء قريش وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين الذين لم يستطيعوا الإفلات والهجرة أو حينما دعا على قبائل لحيان ورعل وذكوان وعصية بسبب عدوانهم على جماعة من المسلمين واغتيالهم إياهم غدرا. وباستثناء الرواية الأولى فإن شيئا من الروايات الأخرى لم يرد في الصحاح. والرواية الأولى جاءت في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس قال: «إنّ رسول الله كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية» «٢».
والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها. والروايات الأخرى تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها وفي غير مناسبة أحد. والذي يتبادر لنا أن فيها وفي الآية التي تلتها تعقيبا على الآية [١٢٧] وأن جملة لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أسلوبية أو استدراكية. وأنها انطوت على تنبيه من الله تعالى موجه إلى النبي بأنه وإن كان يبشّر المؤمنين بالمدد والنصر ليقطع طرفا من الكفار أو يكبتهم ويذلهم ويردهم خائبين فإنه يظل يحتفظ بالأمر لنفسه وأن الأمر أمره وحده فقد يتوب عليهم وقد يعذبهم. وإذا عذّبهم فإنه يعذّبهم لأنهم ظالمون مستحقون للعذاب.
ولا ننفي أن يكون النبي ﷺ قال ما جاء في الحديث. وخبر نزول الآية في هذه
(١) انظر الطبري وغيره، والطبري أكثرهم استيعابا للروايات التي رويت في صيغ مختلفة وعديدة.
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٣٧٤.
228
المناسبة من كلام الراوي لا من كلام النبي. ومن الجائز أن يكون الراوي ظنّ خطأ أنها نزلت في ذلك أو عنته. والله تعالى أعلم.
ولقد روى الطبري أن الآية [١٢٧] في قتلى المشركين يوم بدر. كما روى أنها في قتلاهم يوم أحد. والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أنها من قبيل التخمين والاجتهاد. ونرجو أن يكون في شرحنا المتقدم الصواب والله تعالى أعلم.
وينطوي في الآية [١٢٨] على ضوء شرحنا الذي نرجو أن يكون صوابا تلقين مستمر المدى بعدم قطع الأمل في ارعواء بعض الناس إذا وقفوا أحيانا بعض المواقف المنحرفة أو العدائية وأن باب التوبة الذي تظل الآيات تفتحه لجميع الناس من كفار ومنافقين ومجرمين ومحاربين لله ورسوله إلخ يظل مفتوحا إلى الموت على ما شرحناه في سياق تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج. ولقد آمن غير واحد ممن عاد إلى رسول الله وحاربه وقاد الحملات ضده فتاب عليهم فكان في ذلك مصداق للتنبيه القرآني الرباني.
ويلحظ أن الآية [١٢٦] قد استدركت ما استدركته آية الأنفال [١٠] من كون مدّ الله المسلمين بالملائكة وإخبارهم بذلك إنما هو لتطمين قلوبهم وكون النصر في الحقيقة هو من الله. والمتبادر أن حكمة التنزيل شاءت توكيد ما انطوى في آية الأنفال من تلقين على ما نوّهنا به في سياق تفسيرها.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
229
(١) الكاظمين الغيظ: أصل الكظم ملء الوعاء وسده. والمقصد من الجملة أن يمسك المرء على ما في صدره من غيظ ويصبر عليه ولا يظهر أثره.
(٢) فاحشة: روى الطبري عن السدي أن الكلمة هنا بمعنى الزنا وفي القرآن آيات وردت فيها الكلمة بهذا المعنى حقا. منها آيات النساء [١٥ و ٢٥] غير أن فحوى الآية وخطورة جريمة الزنا التي عليها حدّ شرعي ولا تذهب بالاستغفار يجعل تأويلها هنا بالزنا في غير محله ويجعل تأويلها الأوجه هو الفعل القبيح العادي. وهذا ما رجحه الطبري أيضا.
عبارة الآيات واضحة. وفيها:
١- نهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة.
٢- وتوكيد بوجوب تقوى الله وإطاعته وإطاعة رسوله.
٣- وتنويه بالمتقين الذين ينفقون أموالهم في أيام الشدائد ويكظمون غيظهم ويعفون عن الناس إذا ما بدر منهم إساءة ما ويذكرون الله إذا ألموا بفاحشة وذنب فيه ظلم لأنفسهم واستغفروه ولم يصرّوا على عملهم. فهؤلاء هم المحسنون الذين يحبّ الله أمثالهم ويقابلهم بالمغفرة ويجعل خلود الجنة لهم جزاء.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وما بعدها إلى آخر الآية [١٣٦]
ولم يرو المفسرون رواية في مناسبة نزول هذه الآيات إلّا الآية [١٣٥] حيث
230
رووا روايتين في ذلك «١». ذكر في إحداهما أن واحدا من المسلمين جاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها في البيت ما هو أجود فلما خلا بها في بيته ضمّها وقبّلها فقالت له اتق الله فتركها ثم داخله خوف وفزع فهام على وجهه ثم أتى رسول الله فاعترف له فنزلت. وذكر في ثانيتهما أن بعض المسلمين قالوا يا رسول الله بنو إسرائيل أكرم على الله منّا فإذا ما أذنبوا وجدوا الكفارة التي يجب أن يكفروها عن ذنبهم مكتوبة على عتبات أبوابهم فكفّروا وزال عنهم الذنب، فلم تلبث الآية أن نزلت، فقال ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم. والروايات لم ترد في الصحاح وتبدو الآيات جميعها منسجمة متساوقة كأنما هي وحدة تامة. وإلى هذا فالآيات تبدو لأول وهلة فصلا مستقلا لا صلة له بسياق مشاهد وقعة أحد ويبدو وضعه في محله غير مفهوم الحكمة لأن ما قبله وما بعده متصل بمشاهد هذه الوقعة.
ولقد احتوت آيات آتية في صدد مشاهد يوم أحد أن من المسلمين من استمع إلى وساوس المنافقين وتذمّر من عدم سماع النبي لرأيه. وأن منهم من عصا النبي وترك المكان الذي عيّنه له في الحرب وأن منهم من لم يستطع كظم غيظه. مما قد يجعل احتمال صلة بين هذه الآيات وبين ما كان من بعض المسلمين أثناء وقعة أحد وبعدها. غير أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة في الآيات لا يبدو متصلا بشيء من ذلك.
وعلى كل حال ففي الآيات كما هو المتبادر نهي وموعظة وتنبيه وتنويه في صدد أمور وقعت فعلا قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل الوحي بها ووضعها في موضعها.
ولقد روينا في صدد آيات الربا [٢٧٥- ٢٨١] في سورة البقرة أن هذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن. والمتبادر والحالة هذه أن النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة الوارد في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها قد نزل قبل آيات
(١) انظر تفسير الطبري والطبرسي.
231
البقرة وأنه الخطوة الثانية في صدد تحريم الربا بعد الخطوة الأولى التي تضمنتها آية سورة الروم هذه وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ...
[٣٩] على ما نبهنا عليه في سياق تفسير هذه الآية ثم في سياق تفسير آيات البقرة.
ولقد علقنا بما فيه الكفاية على موضوع الربا ونبهنا على أن مآسيه التي تنطوي في تعبير لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً هي تعليل حكمة تحريم الربا بالمرة في آيات سورة البقرة فلا نرى محلا للإعادة أو الزيادة إلّا رواية أوردها الطبري في سياق الآية الأولى كمثال على مدى جملة أَضْعافاً مُضاعَفَةً جاء فيه: «أنّ الدائن في الجاهلية كان يأتي إلى مدينه فيقول له تقضي أو تزيد فإذا لم يستطع القضاء أجّل الدين سنة وضاعفه. فإذا انقضت السنة ولم يستطع المدين القضاء ضوعف الدين المضاعف لسنة أخرى فيصبح أربعة أضعاف بعد سنتين» مما ينطوي في ذلك صورة مأساوية للربا توضح ذلك التعليل المنطوي في الآية.
ويتبادر لنا أن ما احتوته الآيات [١٣٤ و ١٣٥] من التنويه بالذين ينفقون في أيام الشدائد في سبيل الله ووجوه البرّ ومساعدة المحتاجين ويكظمون غيظهم ويتجملون بالصبر ويعفون عن الناس ويذكرون الله ويستغفرونه حينما يلمون بذنب ولا يصرّون عليه متصل بموضوع الآية الأولى من حيث وجوب معاملة المدينين بالبرّ والتقوى والصبر عليهم والتصدق بما لم يستطيعوا أداءه من دين. وقد احتوت آيات الربا في سورة البقرة وبخاصة الآيتين [٢٨٠ و ٢٨١] شيئا من ذلك.
وبالإضافة إلى هذا فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها ذات تلقين جليل مستمر المدى في صدد الأخلاق الفاضلة والمواقف الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم ويقفها تجاه الله وتجاه الغير في كل ظرف ومكان. وهو ما تكرر بأساليب ومناسبات عديدة في السور المكية والمدنية. ولقد علقنا على هذه الأخلاق والأفعال وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيها والمتساوقة في تلقينها مع تلقين الآيات في السور المفسرة سابقا فنكتفي بهذا التنبيه. مع التنبيه على أمر وهو أن حكمة التنويه في الآيات بالمنفقين في الشدائد ظاهرة. إلا أن ذلك لا يعني بخس أجر وعمل
232
المنفقين في الأوقات الأخرى بطبيعة الحال.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤٢]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
. (١) ولا تهنوا: بمعنى ولا تضعفوا أو لا تروا في أنفسكم ذلة أو مهانة.
(٢) قرح: بمعنى الأذى والسوء. قيل إنها هنا بمعنى ما أصاب المسلمين في أحد من جروح وقتل.
(٣) وليعلم الله، ولما يعلم الله: المتبادر أنهما تعبيران أسلوبيان بمعنى ليظهر الله.
(٤) وليمحص: ولينقي. أو ليختبر.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى المؤمنين وهي:
١- مقررة أنه قد جرت سنة الله قبلهم في خذل الكافرين والمكذبين وأنه لمن الممكن أن يروا مصداق ذلك في الأمم السابقة إذا ساروا في الأرض وزاروا مساكنها وآثارها وأن القرآن قد احتوى من القصص والأمثال ما فيه البيان الكافي والهدى والموعظة لمن يتقي الله ويؤمن به.
٢- وناهية عن أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم. فهم الأعلون على أعدائهم على كل حال. وفي البداية والنهاية على ما جرت سنّة الله وعليهم أن يطمئنوا بذلك
233
كل الطمأنينة إذا كانوا مؤمنين حقا.
٣- ومنبهة إلى أنه إذا كان أصابهم أذى وسوء فقد أصاب أعداءهم مثل ذلك أيضا، وأن الأيام دول وسجال بين الناس وأن ما أصابهم في هذا اليوم مما اقتضته حكمة الله حيث أراد أن يختبر الناس ويظهرهم على حقيقتهم ويميّز المؤمنين الصادقين ويكرم بعضهم بالشهادة وينقي نفوسهم ويطهرها فلا ينبغي أن يخطر ببال أحد منهم أنه تخلّى عنهم. فإن الله لا يحبّ البغاة الظالمين ولا بدّ له من محق الكافرين والكذبين وأنه لا ينبغي لهم أن يحسبوا أن دخول الجنة أمر سهل وإنما هو منوط باختبارات يختبر الله بها عباده ويتميز فيها المجاهدون منهم والصابرون بالفعل والبرهان.
تعليق على الآية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ إلخ وما بعدها لغاية الآية [١٤٢] وعلى ما فيها من مشاهد وقعة أحد وخلاصة أحداث هذه الوقعة
وواضح أن أسلوب الآيات هو أسلوب تطمين وتسكين وتسلية وتعزية وتقوية نفس وتهدئة روع وبعث أمل.
وقد روى المفسرون أن الآيتين [١٣٩- ١٤٠] نزلتا حينما ندب النبي ﷺ المسلمين بعد وقعة أحد إلى الخروج إلى الكفار الذين بلغه أنهم فكروا في الكرّة على المسلمين على ما ذكرناه قبل كما رووا أنهما نزلتا في تسلية المسلمين عن دوران الدائرة عليهم في وقعة أحد.
والرواية الثانية هي الأكثر اتساقا مع فحوى الآيات مع القول إن ما جاء فيها ينسحب على الآيات جميعها لأنها سلسلة منسجمة. ولقد حلّ بالمؤمنين في وقعة أحد آلام وأحزان وضحايا فاقتضت حكمة التنزيل معالجتها بهذه الآيات القوية
234
النافذة حقا التي من شأنها بعث الطمأنينة والعزاء والأمل في المسلمين.
وخلاصة ما روي من وقائع وقعة أحد «١» أن قريشا زحفوا بثلاثة آلاف فيهم ٧٠٠ دارع ومعهم ٢٠٠ فرس و ٣٠٠٠ بعير وخمس عشرة امرأة منهن هند زوجة أبي سفيان ليذكرن الرجال بقتلى بدر ويحمسنهم على القتال والثأر. وكان الذين خرجوا مع رسول الله وشهدوا المعركة ٧٠٠ وقد طمأنهم النبي بتأييد الله ونصره إذا صبروا وثبتوا. وجعل الرماة في مكان عال وشدّد عليهم الوصية بأن لا يغادروا مكانهم مهما جرى، وأن يستمروا على رشق العدو بالنبال من ورائهم وحماية ظهرهم. ثم رتّب الصفوف. ونشب القتال بالمبارزة ثم بالتزاحف فانكشف المشركون وانهزموا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح حتى أجهضوهم- أبعدوهم- عن معسكرهم، ثم أقبلوا ينتهبون هذا المعسكر.
ورأى الرماة ما جرى فظنوا أن المعركة انتهت وتداولوا الأمر في النزول والاشتراك في النهب، فاعترض البعض وقالوا إن هذا مخالف لوصية رسول الله. وتنازعوا ثم ترك أكثرهم مكانه ولم يبق ثابتا إلا ثلاثة عشر بقيادة عبد الله بن جبير ظلوا برمون المشركين بنبالهم. ورأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل- وكانا على خيالة قريش- خلو المرتفع من حماته الرماة فكرّا بالخيل على هذه الناحية وقتلوا من بقي من الرماة فيه ثم أتوا المسلمين من ورائهم فانتقضت صفوف المسلمين وانقلبت المعركة ضدهم وأخذوا ينهزمون صاعدين الجبل، ونادى مناد من ناحية قريش: إن محمدا قد قتل، فازداد الذعر والفوضى وانهزم معظم المسلمين لا يلوون على شيء.
وقد ثبت النبي ﷺ ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من أصحابه في الميدان.
وسقط في حفرة فكسرت رباعيته وشجّ رأسه ولكنه ظلّ ثابت الجنان يهتف بالمسلمين ويدعوهم إلى العودة فلم يلبثوا أن آب إليهم رشدهم وعادوا إلى النبي
(١) انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣- ١٥٩، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٨- ٩١، وانظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن وابن كثير.
235
وكان القتال قد توقف وقد استشهد نحو عشرة من المهاجرين في رواية وأقل من ذلك في رواية، منهم حمزة عمّ النبي ومصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله إلى المدينة بعد اتفاقه مع أهلها قارئا وإماما وداعيا وكان صاحب راية رسول الله يوم أحد، ونحو سبعين من الأنصار رضي الله عنهم جميعا. وكان قاتل حمزة حبشيا مملوكا اسمه وحشي عند جبير بن مطعم فوعده بالعتق إن هو قتل حمزة ثأرا لعمه طعمة الذي قتل في بدر. وكان وحشي ماهرا برمي الحربة ففعل. وروي أن هند زوجة أبي سفيان كانت من المحرّضات له ثأرا لأخيها وأبيها وابن لها قتلوا في بدر أيضا، ومما روي أنها بقرت بطن حمزة وأخذت قطعة من قلبه أو كبده ولاكتها. وكان عدد قتلى قريش ٢٣ فيهم بعض الصناديد. وقد قتل رسول الله ﷺ واحدا منهم هو أبيّ بن خلف الجمحي حيث هاجم النبي وقال له سأقتلك، فقال له: بل أنا الذي أقتلك، ثم رماه بحربة كسرت أضلاعه وما لبث أن هلك.
ومما روي من صور بطولات المخلصين في المعركة أن عمّ أنس بن مالك كان غاب عن بدر فقال: «لئن أشهدني الله مع النبي يوما ليرينّ منّي ما أحبّ، فجاهد يوم أحد فلما انهزم الناس قال اللهمّ إني أعتذر إليك ما صنع المسلمون وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ثم تقدم فما زال يقاتل حتى قتل وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية سهم». وأن رسول الله ﷺ أفرد يوم أحد بسبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فلما رهقه المشركون قال من يردّهم وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم تقدم أخر فقاتل حتى قتل ثم أخذ الآخرون يتقدمون واحد بعد آخر دون رسول الله حتى قتلوا. وأن أبا طلحة وكان رجلا راميا شديد النزع فقام على رأس رسول الله، فيما انهزم الناس وأخذ يرمي بسهامه حتى كسر قوسين أو ثلاثة. والنبي يقول لمن يمرّ عليه بحجفة من النبل انثرها لأبي طلحة. ولقد أشرف النبي على الناس فقال له أبو طلحة بأبي أنت وأمي لا تشرف. يصبك سهم ونحري دون نحرك. وروى الطبرسي عن الإمام أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه أصابه يوم أحد ستون جرحا فعالجته أم عطية بأمر
236
رسول الله وكان رسول الله والمسلمون يعودونه وكان عليّ يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أول الدّبر.
ومما روي أن أبا سفيان هتف: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات فأمر النبي بأن لا يجيبوه. ثم هتف: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثم هتف: أفي القوم ابن الخطاب؟
فلما لم يسمع جوابا قال لقومه أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم. فما ملك عمر نفسه أن قال كذبت يا عدوّ الله إنهم لأحياء كلّهم وقد بقي لك ما يسوءك. كذلك مما روي أن أبا سفيان هتف (يوم بيوم بدر) والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز (اعل هبل. اعل هبل) فردّ عليه المسلمون بأمر النبي (الله أعلى وأجلّ) وهتف (لنا العزّى ولا عزّى لكم) فأجابوه (الله مولانا ولا مولى لكم).
ومما روي أن قريشا ندموا لعدم استئصال المسلمين وفكروا في الكرة عليهم، وعلم النبي بذلك فندب المسلمين إلى الخروج فاستجابوا له وخرجوا رغم ما كان ألمّ به وبهم من جروح وتعب وحزن فوصلوا مكانا اسمه حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا.
وفي الآيات التالية إشارات عديدة تؤيد صحة كثير مما جاء في هذه المرويات التي ورد كثير منها في صحيح البخاري ومسلم أيضا «١».
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها جديرة أن تكون منبع قوة روحية مستمرة ينهل منه المسلمون المخلصون في كل زمن ومكان، يقع عليهم مثل ما وقع على المسلمين في يوم أحد، فيردّ عنهم شعور الفزع واليأس ويمدهم بالتأييد الذي يحفزهم على مقابلة الموقف بما يقتضيه من النشاط والتفاني.
ولقد كان ثبات النبي ﷺ في الميدان وشجاعته ورباطة جأشه وهو ما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل رغم ما أصابه من جروح ورغم انهزام معظم جيشه موقفا لائقا بالعظمة النبوية. وكان فيما هو المتبادر العامل الأقوى في وقوف كفار قريش
(١) انظر التاج، ج ٤ ص ٧٧ و ٣٧٢- ٣٧٤.
237
عند الحد الذي وقفت عنده المعركة على كثرة عددهم وقوة عددهم حيث عاد المنهزمون وانضووا إليه وتجلّدوا وتماسكوا أمام عدوّهم القوي. وقد تجلّت مثل هذه العظمة في خروجه على رأس المسلمين للقاء هذا العدو الذي قيل إنه كان يفكر في الكرة. وفي هذا وذاك أروع الأمثلة وأقوى الأسوة لزعماء المسلمين وقادتهم الذين يجب أن يكون لهم في رسول الله الأسوة الحسنة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٣ الى ١٤٨]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
. (١) ربّيون: قيل إنها من ربا يربو بمعنى كثر وأن الكلمة بمعنى جموع كثيرة وقيل إنها نسبة إلى الربّ ومعناها عباد الله المخلصون أو أتباع رسل الله المخلصون.
(٢) وما استكانوا: وما ذلّوا وتخاذلوا واستسلموا للمسكنة.
(٣) وإسرافنا: ما أوغلنا فيه من الأخطاء.
وفي هذه الآيات وجّه الخطاب أيضا إلى المسلمين:
١- مقررة بأنهم كانوا يتمنون الموت في سبيل الله قبل نشوب القتال. وقد تحققت أمنيتهم ونشب القتال ولا قى بعضهم الموت فليس في هذا أمر مفاجىء لهم.
238
٢- ومنبهة بأن محمدا ليس إلّا رسول من رسل الله جاء قبله رسل كثيرون وهو معرّض كسائر البشر للموت أو القتل، وكان ذلك أمر الرسل السابقين له. فلم يكن يصح أن ينقلبوا على أعقابهم ويتخاذلوا وينهزموا إذا حلّ فيه ما هو طبيعي ومعرض له وبأن الله لن يأبه لمن ينقلب على عقبيه في مثل هذه الحالة ولن يضرّ الله هذا شيئا وبأن الله مجزي الشاكرين الصابرين أحسن الجزاء وبأن لكل نفس أجلا معينا عند الله لا تموت إلّا به وبأن من قصر نيته وهمّه على الدنيا نال نصيبه منها وانتهى أمره عند هذا الحدّ. ومن رغب في الآخرة وسعى لها أناله الله ثوابه وهو مجزي الشاكرين الصابرين.
٣- ومذكرة بما كان من أمر الأنبياء قبله، فكثير منهم قاتلوا وقاتل معهم أتباعهم من عباد الله المخلصين وأصيبوا بالأذى والسوء فصبروا ولم يهتموا ولم يضعفوا لما أصابهم في سبيل الله ولم يتخاذلوا ولم يستكينوا. وكل ما كان منهم أن طلبوا من ربهم غفران ما قد يكون وقع منهم من ذنوب والتجاوز عما قد يكون بدا منهم من تقصير في جانب الله وحقه، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم الكفار، فكان من الله أن استجاب دعاءهم فآتاهم ثواب الدنيا بالنصر والتأييد وثواب الآخرة بالرضا والغفران. وهكذا قابلهم الله على إحسانهم وهو الذي يحبّ المحسنين.
تعليق على الآية وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) والآية:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وما بعدهما إلى الآية [١٤٨]
المتبادر من فحوى الآيات جملة أنها استمرار للسياق السابق لها. ويمكن أن تكون قد نزلت معه أو نزلت بعده تتمة له. وهي موجهة للمسلمين وتضمنت عتابا لهم وتنبيها وتذكيرا وتمثيلا بالمخلصين السابقين من عباد الله وأتباع رسله الذين
239
كانوا يقاتلون معهم دون ضعف ولا استكانة دون أن يتأثروا بما أصابهم في القتال من أذى وشدّة، وأسلوبها قوي نافذ كسابقاتها. واستهدفت ما استهدفته من معالجة الحالة الروحية التي ألمّت بالمسلمين تأثرا من وقعة أحد ونتائجها.
ولقد روى الطبري أن الآية الأولى نزلت في أناس كانوا غائبين عن بدر.
فكانوا يتمنون يوما مثله فكانوا من المنهزمين يوم أحد فعوتبوا بالآية والرواية لم ترد في الصحاح. والمتبادر أن قصارى الذين كانوا غائبين عن بدر وتمنوا لو شهدوها وشهدوا غيرها أن لا يكونوا أكثر من أفراد في حين أن الخطاب عام وأن الذين انهزموا واستحقوا العتاب كانوا أكثر المشتركين في المعركة. ولذلك نتوقف في الرواية ونرى في الآية دليلا مؤيدا لما خمنّاه من أن الذين كانوا إلى جانب الخروج للقاء العدو ومتحمسين كانوا أكثر المسلمين المخلصين من مهاجرين وأنصار.
ولقد روى الطبري أن الآية الثانية هي في صدد ما كان من مواقف المسلمين حينما شاع خبر مقتل النبي ﷺ حيث قال بعضهم لو كان نبيا لما قتل ودعا بعضهم إلى العودة إلى دين الآباء. ودعا بعضهم إلى أخذ الذمة من أبي سفيان قائد المشركين، ثم انهزم هؤلاء فدبّ الذعر في صفوف المسلمين فكانت الهزيمة.
والرواية لم ترد في الصحاح كذلك. وأسلوب الآية عام يتبادر منه أنها تتمة للعتاب الذي احتوته الآية الأولى للذين انهزموا.
ولقد أورد القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى جاء فيه: «إنّ رسول الله ﷺ انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس لا تتمنّوا إلقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنّة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزّل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم».
ولقد أورد الخازن في سياق جملة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) حديثا رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ قال: «إنّما الأعمال بالنّيات وإنما لكلّ امرئ ما
240
نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وفي الحديث تنبيه وتأديب وتحذير. فالله تعالى يعلم نيّة كل امرئ في ما يقدم عليه. ولا يشكر إلّا الذين خلصت نياتهم له وفي سبيله. وإذا ظنّ امرؤ أنه قد يخدع الناس بتظاهره خلافا لما بيّته في نفسه فليس بخادع الله تعالى. والجملة القرآنية مما تكرر مثالها في آيات عديدة منها آية سورة هود [١٥] وآية سورة الإسراء [١٨] وآية سورة الشورى [٢٠].
وقد روى الطبري عن الإمام أبي جعفر أن جملة وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) هي في حق علي رضي الله عنه الذي جرح ستون جرحا في أحد وكان يقول الحمد لله لم أفرّ ولم أولّ الدبر. وجهاد علي رضي الله عنه وثباته معروفان ولا شك في أنه مستحقّ عليهما شكر الله تعالى. ولكن في صرف الجملة له وحده تعسفا لأن فحواها مطلق شامل لجميع من شكر الله وقام بواجبه قياما حسنا.
هذا، والآيات مع خصوصيتها جديرة بأن تكون كسابقاتها منبع قوة لا ينضب ينهل منه المؤمن المخلص في كل ظرف مماثل ويستمد منه القوة والجرأة والإقدام على كل تضحية في سبيل دين الله ومبادئه السامية.
والآية الثانية بخاصة عظيمة التلقين والمدى. فالنبي ﷺ بشر كسائر البشر معرّض للموت والقتل. وعلى المسلمين أن يحملوا الواجب الذي حملهم إيّاه القرآن وهو الاستمساك برسالته ونشرها والدفاع عنها، وبكلمة أخرى القيام بمهمة النبي الدينية والدنيوية إذا ما مات أو قتل ولا يجوز أن يتخاذلوا في ذلك وينقلبوا على أعقابهم. وسواء أكان ذلك في أثناء الحرب أم في الظروف الأخرى.
ولقد ذهل الناس حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حينما توفي النبي ﷺ فأمدت هذه الآية الرائعة أبا بكر رضي الله عنه بالقوة التي ساعدته على الوقوف موقفه الرائع والهتاف بالناس بعد أن تلاها عليهم: من كان يعبد محمدا فإن محمدا الجزء السابع من التفسير الحديث ١٦
241
قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت «١». فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
. (١) إذ تحسّونهم: إذ تمعنون فيهم قتلا.
(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٣٤ و ٣٣٥.
242
(٢) إذ تصعدون: قرئت بفتح التاء وضمها. ومعناها في الجملة الأولى من الصعود إلى الجبل. وفي الثانية من الإصعاد وهو الهبوط أو السير في مستوى الأرض وبطون الأودية. وهناك من قال إنها هنا أيضا بمعنى الصعود إلى الجبل.
والروايات تذكر أن النبي نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. فإذا كان هذا المنزل كان بين المدينة وأحد فتكون الكلمة من الإصعاد وإذا كان من وراء الجبل فتكون من الصعود.
(٣) يدعوكم في أخراكم: يناديكم من ورائكم وأنتم منهزمون.
(٤) أثابكم غمّا بغمّ: قالوا إن فعل (أثاب) في أصله بمعنى جزى وكافأ.
وإنه يستعمل في الجزاء الحسن والسيء على السواء. وإن كان استعماله في الحسن أكثر. وهنا في معناه الأصلي. وقيل في الجملة إنها بمعنى أصابكم بغمّ مقابل الغمّ الذي أصاب عدوّكم يوم بدر فكانت واحدة بواحدة. وقيل إنها بمعنى أصابكم أو جازاكم بغمّ بعد غمّ وهو خبر قتل النبي ﷺ ثم ما كان من قتل في المسلمين وهزيمتهم. وقيل إنها بمعنى جازاكم بغمّ القتل والهزيمة على ما سببتموه للنبي من غمّ بعصيان أمره والمعنى الأول للتهوين. ولعلّه يتسق أكثر مع الجملة التي أتت بعده هذه الجملة لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ والمعنى الثالث قوي الورود أيضا.
(٥) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا: ثم سلّط عليكم بعد الغمّ الذي حلّ فيكم من الهزيمة نعاسا تشعرون معه بالأمن والسكينة.
(٦) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم: لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى المكان الذي قدر عليهم أن يموتوا فيه حينما يكون أجلهم قد أتى ولا يمنع ذلك أن يبقوا في بيوتهم.
(٧) وليبتلي الله ما في صدوركم: ليختبر الله وليظهر ما في قلوبكم.
(٨) وليمحص ما في قلوبكم: ليصفي ويطهّر ما في صدوركم.
243
في الآيات خطاب موجه للمسلمين:
١- حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢- وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان وبأنه أعدّ لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣- ودلّل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها:
فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكّنهم من عدوهم وجعلهم يمعنون فيهم قتلا.
وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم فلم يكن ذلك إلّا بسبب تخاذلهم وقلّة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همّها الدنيا بينما كان همّ الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤- وسكّن به مع ذلك روعهم. فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عزّ وجلّ. ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع. ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلّا الآمن المطمئن. وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥- وندّد بفريق منهم أهمّتهم أنفسهم همّا عظيما ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر
244
والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم ولما كانت الهزيمة التي حلّت بهم.
٦- وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) وما بعدها لغاية الآية [١٥٤] وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روى المفسرون «١» أن الآية [١٤٩] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفّوا عن القتال. وأن الآية [١٥١] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلّا الشريد ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش
(١) انظر تفسير الطبرسي والخازن.
245
أو بعض منافقي المدينة أو عزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألمّ بهم ما ألمّ من هزيمة ومصيبة فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة وأن النبي ﷺ لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا «١». وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرّتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في سياق تفسير الآيات [١٣٧- ١٤٢] وهو ليس بقصد السرد القصصي وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقّق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أوّل المؤولون جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بمعنى أنهم ظنوا كظنّ المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر لأن النبي في قلّة والمشركين في كثرة. وهو في محلّه.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه:
«كنت ممن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا. يسقط وآخذه.
ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلّا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحقّ»
«٢». وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه
(١) انظر تفسير الطبري للآية.
(٢). التاج ج ٤ ص ٧٥ و ٧٦. [.....]
246
الترمذي جاء فيه: «رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلّا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» ».
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك. وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل. وقد أيدت هذا الآيات [١٦٧ و ١٦٨] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لا تبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [١٥٦- ١٥٩] التي تأتي بعد قليل أيضا. ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [١٤٩] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصحّ أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلوّ من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عزّ وجلّ.
ومع خصوصيتها الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف
(١) التاج، ج ٤ ص ٧٥ و ٧٦. والحجفة: محركة آلة من آلات الحرب.
247
حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسمّ في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمدّ المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدر في مناسبة جملة قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر فنكتفي بهذا التنبيه مع القول إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [٢٦] : إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حقّ وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [٣٣] من سورة الأحزاب: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل (جهل) الذي هو في الغالب ضد (علم) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [٨٩] من سورة يوسف: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ وآية الحجرات هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦). ومنها البيت المشهور:
248
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومنها حديث خاطب به النبي ﷺ فيه أبا ذرّ في موقف غضب له: «إنّك امرؤ فيك جاهلية» «١».
والراجح أن التعبير في المقام الذي نحن في صدده من هذا الباب. وأنه كان مستعملا قبل الإسلام في مثل هذه المقامات. وأما ما هو مشهور من إطلاقه على زمن ما قبل البعثة هو إطلاق قرآني بقصد وصف عدم ارتكاز تقاليد أهل ذلك الزمن على شرع وهدى ربانيين. إذ لا يعقل أن يكون أهل ذلك الزمن أطلقوه على أنفسهم. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
. (١) استزلّهم: أوقعهم في الزلّة والخطيئة.
في الآية تقرير بأن الذين انهزموا حينما التقى المسلمون والكفار إنما أوقعهم الشيطان في هذه الزلّة بسبب ما اقترفوه من الخطايا. وبشرى بأن الله قد عفا عنهم مع ذلك فإنه غفور للذنوب حليم متسامح مع عباده.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ (١) الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
يتبادر لنا أن المؤمنين الذين فروا من المعركة قد خافوا مغبة ذلك. ولا سيما
(١) انظر مادة (جهل) في الجزء الأول من «أساس البلاغة» للزمخشري، وانظر الجزء الأول من كتاب «بلوغ الأرب» ص ١٥- ١٧.
أن آيات الأنفال [١٥- ١٦] قد نهتهم عن الفرار. وأنذرتهم إنذارا قاصما على ما شرحناه في سياقها. كما أن آية الأنفال [٤٥] قد أمرتهم بالصبر والثبات. ولقد علم الله إخلاصهم وما أصابهم من خسائر في الأرواح وجروح في الأجساد وحزن وجزع فاقتضت حكمته أن يغفر لهم زلّتهم وأن يبشرهم بهذه البشرى تهدئة لروعهم وتضميدا لجراحهم وأن يكتفي بما وجهه إليهم في الآيات من عتاب وتأنيب وتحذير وتنبيه. وفي ذلك ما فيه من معالجة ربانية جليلة للموقف العصيب وتأميل في عفو الله وحلمه وغفرانه في كل موقف مماثل إذا لم تشبه شائبة من سوء نية وخبث طوية.
ولقد قال المفسرون في صدد جملة بِبَعْضِ ما كَسَبُوا إنها تعني عصيان رسول الله وحبّ الغنيمة وكراهية الموت. ولا يخلو هذا من وجاهة متصلة بظروف ما وقع يوم أحد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
. (١) ضربوا في الأرض: خرجوا للسياحة أو التجارة.
(٢) غزّى: جمع غاز.
وفي هذه الآيات:
١- تحذير للمؤمنين بأن لا يكونوا كالكفار الذين ينسون الله وقضاءه وحكمته ويقولون لمن يخرج غازيا أو سائحا أو تاجرا فيموت أو يقتل: إنه لو لم يخرج لما مات أو قتل.
250
٢- وتقرير بأنه من وراء مثل هذه الأقوال إلّا الحسرة وليست هي من الحق والحقيقة والإيمان في شيء. فالمحيي والمميت هو الله. ولكلّ نفس أجل معين لا تتقدم ولا تتأخر عنه.
٣- وتنبيه للمؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يعلموا بالإضافة إلى ما تقدم أن القتل والموت في سبيل الله ليسا مصيبة تستوجب الحسرة والجزع وأن فيهما من مغفرة الله ورحمته ما يفوق كل ما يجمعه الجامعون من حطام الدنيا وأيامها. وأن مصير الناس إلى الله في كل حال ولا معدى عن ذلك سواء أماتوا موتا طبيعيا أم ماتوا قتلا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى... إلخ والآيتين التاليتين لها
والآيات كذلك استمرار للآيات السابقة سياقا وموضوعا وهدفا، وجمهور المفسرين «١» يقولون ومنهم من يعزو القول إلى تابعين وتابعي تابعين أن المراد من جملة كَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون ومنهم من يخصّ بالذكر كبيرهم عبد الله بن أبي. وفي آية تأتي بعد قليل نسب مثل هذا القول إلى المنافقين صراحة حيث يكون صرف الكلام إلى المنافقين هنا في محلّه. وفحوى الآية الأولى يدلّ على أن هذا القول مما كان يصدر من المنافقين قبل وقعة أحد وكلّما مات أو قتل أحد من أقاربهم ومعارفهم في غزوة أو سفرة في سبيل الله وطاعته، إما على سبيل الشماتة أم على سبيل التعطيل والصدّ. ويدل كذلك على صحة ما قلناه قبل قليل من أن المتذمرين الذين حكت الآية [١٥٤] أقوالهم ومن جملتها لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
(١) انظر الطبري والطبرسي والخازن والبغوي وابن كثير.
251
شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا هم من المؤمنين المخلصين وقد وجّه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمّت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقاتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمدّ المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
. (١) فبما رحمة: الجمهور على أن (ما) هنا زائدة وأن الجملة بمعنى فبرحمة من الله.
تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ إلخ وأمر الشورى في الإسلام
الآية متصلة بالسياق ومعقبة على ما جاء في الآيات السابقة كما هو المتبادر.
وعبارتها واضحة. وفيها وصف لموقف النبي ﷺ مما بدا من بعض المخلصين من أقوال وتذمر ومرارة وحسرة. فقد وسعهم بحلمه الذي جبله الله عليه فكظم غيظه وعاملهم باللين والرقة. وقد احتوت تنويها بهذا الموقف الكريم وإقرارا له وبيانا لما كان يمكن أن ينتج في مثل هذا الظرف الذي ثارت فيه النفوس وغلت الأفكار
252
وهاجت وغلبت عاطفة الحسرة والندم والتذمر لو كان فظا غليظ القلب حيث كان من الممكن أن ينفضوا من حوله. وأمرا بما هو أكثر من ذلك وهو العفو عنهم واستغفار الله لهم ومشاورتهم في الأمر.
وتتجلّى في الفقرة الأولى صورة رائعة للخلق النبوي الكريم من لين وعدم فظاظة وقسوة قلب مما كان متحليا به من قبل وكان من دون ريب من أسباب اصطفاء الله له للرسالة العظمى واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سورة الأنعام [١٢٤] والذي انطوى في التقرير التنويهي في جملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم [٤] مما علّقنا عليه في سياق تفسير السورتين تعليقا يغني عن التكرار.
وينطوي في الآية علاج قوي محبب وشاف لثورة النفوس وهياج الأفكار وغلبة العواطف مما كان من آثار يوم أحد. ومما لا شك فيه أن هذا العلاج قد آتى نفعه فهدّأ النفوس والأفكار وطمأنها بالنسبة للموقف الحاضر والمواقف المستقبلة معا.
والآية كما قلنا قبل تنطوي على دلالة على أن المتذمرين الذين قالوا هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ولَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على ما حكته الآية [١٥٤] كانوا من المخلصين وليسوا من المنافقين كما هو واضح من روحها ومضمونها وتلقينها.
ومع خصوصية الآية الموضوعية والزمنية فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى. فالذي يختار لرئاسة المسلمين وكل زعيم وحاكم فيهم يجب أن يكونوا متصفين باللين والرقة. بعيدين عن الجفاء والغلظة والقسوة. مدركين لمقتضيات المواقف. واسعي الصدر والحلم إزاء استفزاز المستفزين عن جهل أو خبث طوية ولا سيما في الظروف الحرجة والأزمات العصيبة. وعليهم فوق ذلك أن لا يستبدوا بالرأي والعزائم بل يشاوروا أهل العلم والرأي والمكانة والخبرة والعقول الراجحة قبل أن يضطلعوا بمسؤولية السير فيما يعتزمون أن يسيروا فيه. وأن لا يسيروا إلّا بعد نضوج الرأي وتبين أصحّ الوجوه وأصلحها وأكثرها اتساقا مع الظروف القائمة
253
ومصلحة المسلمين العامة. وكل مخالفة أو إهمال لأي من ذلك هو مخالفة وإهمال للتلقين الذي انطوى في الآية.
وروح الآيات ومضمونها يحددان أولا واجب كل من الرئيس أو الزعيم أو الحاكم أو المستشار. فللمستشار أن يبدي رأيه، وللرئيس والزعيم والحاكم أن يضطلعوا بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ.
ويوجبان ثانيا على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة.
ويوجبان ثالثا التوسع في الاستشارة بحيث لا يهمل أي فريق من الجماعات التي يتألف منها المجتمع الإسلامي. ويلهمان رابعا إقرار حقّ الاعتراض لأصحاب الشأن والرأي والعلم إذا ما رأوا ما يوجب ذلك من خطط وعزائم. ويوجبان خامسا على أولياء الأمور توسيع صدورهم لذلك والنظر فيه بتروّ بقصد تبيّن الحق والمصلحة.
وفي كل هذا قواعد صريحة ورائعة للحكم في الإسلام كما هو واضح.
وجملة فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ تفيد أن الحكم في الإسلام يشبه ما يسمى اليوم بالنظام الرأسي الذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة التنفيذية الذي يجب عليه أن يستشير أصحاب الشأن والعلم من مختلف الفئات ثم يضطلع بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ. ولقد تركت الآية أسلوب المشاورة بدون تعيين وتحديد. ويتبادر لنا من حكمة ذلك والله أعلم أن كون هذا الأمر مما لا يمكن تحديده لأن ظروف الاجتماع عرضة للتطور والتبديل فينبغي تركه للظروف والأحوال. وهذا هو أسلوب القرآن الذي جعل للشريعة الإسلامية صلاحية الخلود والإلهام في كل زمن ومكان.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن القرآن المكي قد نوّه بالشورى وجعلها من خصائص المسلمين الصالحين كما جاء في آية سورة الشورى هذه: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) فلما صار للإسلام سلطان نافذ في شخص النبي ﷺ أكّد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب
254
والتنفيذ حين اقتضت حكمة التنزيل والمناسبة.
ولعل من الحق أن يقال إن تشريع إيجاب استشارة أهل الرأي والمكانة والعلم من مختلف الجماعات على الرؤساء والزعماء والحكام بالأسلوب الذي جاء به في القرآن من خصائص ما انفردت به الشريعة الإسلامية ومن جملة مرشحاتها للخلود والعموم.
ولقد قال المفسرون «١» عزوا إلى بعض التابعين وتابعي تابعين أن المشاورة التي أمر النبي ﷺ بها هي فيما ليس فيه نصوص قرآنية ووحي رباني وفيما ليس له علاقة بالمبادىء الدينية والشرعية الأساسية. وهذا قول وجيه واجب التسليم به من دون ريب. وإذا صح هذا في حقّ النبي فإنه يكون من باب أولى بالنسبة لمن يخلفه في رئاسة المسلمين. وهذا متسق مع القاعدة العامة التي تقول (لا اجتهاد مع النصّ). غير أنه يلاحظ أن كثيرا مما ورد في القرآن من تعاليم ومبادئ في شؤون السياسة والحكم والجهاد والمال والقضاء والاجتماع قد ورد على الأكثر كخطوط وأسس عامة. وقلّما جاء محدود الأشكال والجزئيات. وقد ترك أسلوب تنظيمها وتنفيذها على ما هو المتبادر إلى ظروف المسلمين وأحوالهم مما بينّا حكمته أكثر من مرة. فمن المعقول أن تكون هذه محلّا للتشاور والاجتهاد ضمن الخطوط والحدود الأساسية القرآنية. ونضيف إلى هذا أن ما ورد في تحديده وتنظيمه سنّة نبوية ثابتة وصريحة هو واجب الاتباع وليس محلّا للاجتهاد. وقد أمر الله المسلمين بأن يأخذوا ما آتاهم الرسول وينتهوا عمّا نهاهم في آية سورة الحشر [٧]. كما أمرهم بإطاعة الرسول مثل إطاعتهم لله وردّ الأمر إليه وإلى سنّته بعد الله وقرآنه في آيات عديدة مثل: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ النساء [٥٩].
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن المقصود في جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أبو بكر وعمر. وهذا غريب مناقض لروح الآية وفحواها وسياقها وظروف
(١) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن.
255
نزولها على ما شرحناه قبل، بل إن ذلك ينطوي على مشاورة الذين تذمروا وقالوا ما لا ينبغي أن يقال نتيجة لهيجان أفكارهم ومرارتهم وحسرتهم، وهذا يعني أن المشاورة يجب أن تكون مع ذوي الرأي والشأن والعلم والخبرة من مختلف طبقات الناس كما قلنا قبل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردوديه عن علي بن أبي طالب قال: «سئل رسول الله ﷺ عن العزم فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم».
ولم يرد هذا الحديث في الصحاح. فإن صحّ ولا مانع من صحته فيكون الاتّباع لما يكون عليه رأي أكثرهم واختيار الأصلح من الآراء والأخذ به. وجواب رسول الله يفيد أن الأخذ بالرأي الذي يتفق عليه أكثر المستشارين أمر واجب. ويتبادر لنا أن هذا منطو في صيغة الآية والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسر المذكور حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنيم قال: «إنّ رسول الله ﷺ قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما». والحديث لم يرد في الصحاح فإذا صحّ ولا مانع من صحته فيكون فيه تلقين بوجوب الأخذ بآراء المخلصين الموثوقين من ذوي العقل والرأي. وهناك أحاديث وردت في الصحاح يمكن أن تؤيد معنى الحديث. منها حديث رواه الترمذي عن عبد الله بن حنطب قال: «إنّ رسول الله ﷺ رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر» «١». وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض. فأما وزيراي من أهل السماء فهما جبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «٢».
ولقد روى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي هذا الحديث إن صحّ ولا مانع من صحته سير
(١) التاج، ج ٣ ص ٣١٦- ٣١٧.
(٢) المصدر نفسه.
256
رسول الله في الخطة التي أمر الله رسوله بها. ولقد كان رسول الله يستشير أصحابه في كل أمر هام وفي كل موقف عام مما كثرت أمثلته في كتب التفسير في مناسبات عديدة ومما كثرت أمثلته في روايات السيرة وأوردناه في مناسبات سابقة. ومن واجب المسلمين أن يكون لهم في رسول الله ﷺ الأسوة والقدوة.
ولقد قال بعض المفسرين ورووا عن بعض أهل التأويل إن الله أمر رسوله بمشاورة المسلمين لتعليم المسلمين ورؤسائهم ليستنّوا بذلك وحسب لأنه لم يكن في حاجة إلى ذلك وهو يتلقى الوحي من الله أو ليعلم الناصح من الغاشّ منهم أو ليعلم مدى عقولهم وأفهامهم أو لتطييب قلوبهم ورفع شأنهم وجمعهم.
وما دام أن النص القرآني مطلق وصريح بأمر الله لرسوله بمشاورة المسلمين، فالذي يتبادر لنا أن الأولى أخذه على مفهومه دون التزيد بتعليلات لا قرينة عليها من كتاب وحديث. وليس من تعارض بين هذا وبين كون النبي ﷺ يتلقى وحي الله. فكل ما فيه وحي رباني لا يحتاج بطبيعة الحال إلى مشاورة. ولكن هناك كما قلنا آنفا شؤونا كثيرة لا يكون فيها وحي رباني. وهذه هي التي أمر الله رسوله بمشاورة المسلمين فيها. وهناك مأثورات كثيرة تذكر أن النبي ﷺ كان يستشير المسلمين في شؤون متنوعة من شؤون الحرب وغير الحرب ويعمل بما يشيرون. فإذا كان ذلك خلاف الأولى نزل قرآن بالتنبيه أو العتاب. وإذا كان حائزا لرضاء الله وموافقته نزل قرآن بذلك أو بقي الأمر سكوتا عنه وماضيا. وقد أوردنا أمثلة من ذلك في مناسبات سابقة بحيث يكون ذلك القول على إطلاقه في غير محله.
وهناك بعض الأحاديث في أدب الاستشارة والمشيرين يصحّ أن تساق في هذا المساق. منها حديث أورده ابن كثير وهو من مرويات أصحاب السنن أيضا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «المستشار مؤتمن» «١». وحديث أورده ابن
(١) التاج، ج ٥ ص ٦٧.
الجزء السابع من التفسير الحديث ١٧
257
كثير معزوا إلى ابن ماجه عن جابر عن رسول الله ﷺ قال: «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه». وحديث ثالث أورده ابن كثير رواه أيضا أبو داود والحاكم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه. وزاد في رواية: ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره فقد خانه» «١».
حيث ينطوي في الأحاديث تقرير واجب المسلم بإبداء رأيه إذا استشير في أمر وبالتزامه الأمانة والصدق والعلم فيما يشير به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن من الواجب مراعاة ذلك في أي موقف يستشار فيه المسلم سواء أكان في الحالات الخصوصية والفردية والشخصية أم في الحالات العامة والرسمية. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
. الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين منبّه لهم إلى أن الله إذا ما نصرهم فلن يغلبهم أحد وسائلا سؤالا يتضمن النفي عمن يمكن أن ينصرهم إذا هو خذلهم.
وداعيا للمؤمنين المخلصين إلى الاتكال عليه وحده. وليس هناك رواية خاصة فيها. والمتبادر أنها متصلة بالسياق واستمرار في التعقيب على الآيات السابقة.
وفيها تثبيت للمسلمين ودعوة إلى التمسك بالله والإخلاص له والاعتماد عليه وحده. ولعل فيها ردّا على وساوس الكفار والمنافقين التي حاول هؤلاء أن يبثّوها في نفوس المسلمين.
وقد انطوى فيها تلقين مستمر المدى يمدّ المؤمن بالقوة الروحية في كلّ ظرف وبخاصة في الأزمات المحرجة.
(١) التاج، ج ٥ ص ٦٧.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]

وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
. (١) الغلول: أخذ الشيء خفية وبدون حقّ. وقد أريد به خاصة إخفاء غنائم الحرب.
في الآية تنزيه لأي نبيّ أن يغلّ أي أن يخفي شيئا من غنائم الحرب التي توضع بين يديه. وإنذار للغالّين فإنهم يأتون يوم القيامة بما غلّوا مفضوحين مخزيين فيوفيهم الله ما كسبوا دون نقص وظلم.
تعليق على الآية وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآية روايات عديدة، وبعض هذه الروايات مروي بصيغ عديدة ومن طرق مختلفة. ومن هذه الروايات رواية رواها الترمذي وأبو داود أيضا بسند حسن عن ابن عباس جاء فيها: «افتقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس لعلّ رسول الله ﷺ أخذها فأنزل الله الآية لتقرّر أنه لا يمكن لنبيّ أن يغلّ». ورواية مروية عن قتادة قال: «إنّ الآية نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة مركزهم للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم كما قسم في بدر فقال لهم رسول الله ظننتم أننا نغلّ ولا نقسم لكم فنزلت الآية ردّا على ظنهم». ورواية تذكر أن رسول الله بعث طلائع ثم غنم فلم يقسم للطلائع فأنزل الله الآية عتابا على ذلك. ورواية تذكر أن طائفة من الأقوياء ألحّوا على رسول الله أن يختصهم بالغنائم فأنزل الله الآية إيذانا بأن النبي لا يصحّ أن يفعل ذلك. ورواية تذكر أنها بسبيل نفي كتم النبي شيئا مما أنزله الله عليه.
وهناك قراءة لكلمة (يغلّ) بضم الياء وفتح الغين لتكون الجملة بمعنى أن النبي لا يصحّ أن يخون أصحابه أو يخفوا عنه شيئا.
259
وباستثناء الرواية التي يرويها الترمذي وأبو داود ليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. وباستثناء رواية قتادة فليس شيء من الروايات متصلا بوقعة أحد التي يدور السياق عليها. ورواية الترمذي وأبي داود في صدد بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال ولسنا نرى لها محلا أو مناسبة هنا. والآية [١٥٣] تذكر ما كان من تنازع الرماة وعصيانهم لأمر رسول الله رغبة في حطام الدنيا فيكون احتمال صحة رواية قتادة هو الأقوى. وتكون الآية قد نزلت لتنزّه النبي ﷺ عن ما ظنه الرماة، مع الترجيح أن الآية لم تنزل بمفردها وإنما نزلت مع السياق الذي نزل جميعه بعد الواقعة. وقد جاءت مطلقة لتنزيه كل نبيّ عن هذه النقيصة التي يجلّ مقام النبوّة عنها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن جملة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ مطلقة المدى بحيث انطوى فيها إنذار ووعيد لكل من يقترف هذه الجريمة في كل وقت.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها إنذار ووعيد للذين يغلّون. ومما هو متساوق مع الآية. ومن هذه الأحاديث ما يتصل بالغلول من غنائم الحرب ومنها ما يتصل بالغلول من العمل الحكومي بصورة عامة. ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح. ومنها ما ورد في كتب أئمة حديث آخرين. وهذه من باب ما ورد في كتب الصحاح. فمما ورد في غلول الغنائم الحربية حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة قال: «خرجنا مع النبيّ ﷺ عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع. فتوجّه رسول الله نحو وادي القرى وقد أهدي له عبد أسود يسمّى مدعما فبينما هو يحطّ رحل رسول الله أصابه سهم فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة فقال النبي ﷺ كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فلمّا سمعوا ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبيّ فقال شراك أو شراكان من نار» «١». وحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: «كان على ثقل رسول
(١) التاج ج ٤ ص ٣٥٠ و ٣٥١ وهناك أحاديث أخرى من بابها في الكتب الخمسة وغيرها فاكتفينا بما أوردناه.
260
الله رجل يقال له كركرة فمات فقال النبيّ هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها» «١». ومما ورد في غلول العمال حديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي حميد قال: «استعمل النبيّ ﷺ رجلا من الأسد يقال له ابن اللّتبيّة على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمّه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟. والذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهمّ هل بلّغت، مرّتين» «٢».
وحديث رواه أبو داود والحاكم عن بريدة عن النبيّ ﷺ قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول». وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي حميد قال: «إنّ رسول الله ﷺ قال هدايا العمال غلول» «٣».
وواضح أن الأحاديث تنطوي على أن هذه الآية قد احتوت تلقينا مستمر المدى وإن نزلت في تنزيه مقام النبوة عن الغلول. وهو تلقين في وجوب رعاية كلّ إنسان ما يوكل إليه حفظه والتصرّف فيه من الأموال العامة والأمانات بكلّ دقة وعدم إساءة استعماله وفي وجوب التزام كلّ عامل من عمّال الدولة النزاهة والتجرّد وتجنّب التهمة والشبهة واستغلال عمله، وفي التشنيع على من يخالف ذلك بأي شكل من الأشكال. وفي ذلك من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
. في الآيتين تساؤل ينطوي على النفي عما إذا كان يصح التسوية بين الذين
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) التاج ج ٣ ص ٤٩.
(٣) انظر تفسير ابن كثير وهناك في الكتب الخمسة وفي كتب التفسير أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردناه. انظر التاج ج ٣ ص ٤٩ و ٥٠ وج ٤ ص ٣٥٠ و ٣٥١.
يتبعون ما فيه رضوان الله وبين الذين يستحقون غضبه وسخطه بخبثهم وكفرهم فهؤلاء مأواهم جهنّم وبئس هي من مصير. والله بصير بما يعمله الناس جميعا. وإن عنده مقامات ومنازل لكل منهم وفق عمله.
وقد روى الطبرسي والخازن أن الآيتين نزلتا في المقايسة بين الذين استجابوا لدعوة النبي وخرجوا لمقابلة الغزاة وبين المنافقين الذين لم يستجيبوا وقعدوا.
وقال الطبري إن الآيتين متصلتان بآية الغلول وفيها إنذار لمن يغلّ وتنويه بالمستقيم الأمين وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. ونحن نرى توجيه الطبري هو الأوجه لأنه الأقرب إلى ما في الآية السابقة لهما.
وفيهما على كل حال تنويه عام مستمر المدى بالذين يتوخون بأعمالهم رضاء الله ويلتزمون أوامره ونواهيه، وإنذار وتنديد عامّان مستمرا المدى كذلك بالذين يفعلون ما يغضبه ويسخطه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
. في الآية تقرير لنعمة الله وفضله على المؤمنين ببعثه إليهم رسولا منهم يبلغهم آياته ويطهر نفوسهم من الخبائث النفسية والفكرية والجاهلية ويعلمهم كتاب الله ويبصرهم بحكمته بعد أن كانوا قبله في ضلال شديد.
ولم نر المفسرين يذكرون شيئا كمناسبة للآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها كذلك معنى التعقيب والتعليق على حوادث وقعة أحد ولعل فيها تمهيدا للآيات التالية أيضا.
ولقد انطوى في الآية تنويه بالرسالة المحمدية وأهدافها بأسلوب وجيز رائع.
ولقد وجّه الخطاب فيها إلى العرب بصراحة مما انطوى في تعبير رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ
وفي هذا توكيد لشأنية العرب في الرسالة الإسلامية وكونهم حملتها لأنهم أول المخاطبين بها والمتلقين كتاب الله عن رسوله مباشرة والسامعين لتعليمه وحكمته. ولقد انطوت هذه المعاني في آيات سابقة أيضا «١». وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت توكيدها في هذا المقام بسبب ما ألمّ بالمسلمين من وقعة أحد لتهدأ نفوسهم وتسكن قلوبهم.
ولقد قرأ بعضهم أنفسهم هنا وأنفسكم في آية سورة التوبة هذه لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) بفتح الفاء من النفاسة أو النبل بحيث يكون معنى الكلمة أن النبي من أنفس وأنبل أروماتهم. ومع أن هذا مما وردت فيه أحاديث صحيحة أوردناها في سياق تفسير آية النحل [١١٣] فإن الجمهور على قراءة الفاء بالضمّ كجمع للنفس. وقد يدعم صواب هذه القراءة آيات سورة البقرة [١٢٩ و ١٥١] والنحل [١١٣] والجمعة [٢] التي ورد فيها تعبيرات منهم ومنكم من مقام من أنفسكم وأنفسهم. كما يدعمها ما روي عن ابن عباس وأوردناه في سياق آية سورة النحل كتوضيح لذلك. وهذا الاستدراك ليس في مقام نفي ما وردت به الأحاديث من كون النبي خير البشر أسرة وعشيرة وقبيلة وبطنا مما ورد في تلك الأحاديث كما هو واضح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨).
(١) انظر آيات البقرة [١٥٠- ١٥١] والحج [٧٨].
263
(١) أنّى هذا: كيف وقع هذا أو لماذا وقع.
(٢) فادرأوا: فامنعوا.
تضمنت الآيات:
١- حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
٢- وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب- استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير- أن ما كان ليس هو إخلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
٣- وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا إنّا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لا تبعناكم.
٤- وتنفيد لقولهم وأفعالهم: فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان. ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم.
٥- وأمر للنبي ﷺ بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحدّيا منطويا على التهكم والإلزام.
264
تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [١٦٨]
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد نزول الآيات وإنما أعادوا بعض ما قالوه من وقائع وقعة أحد ومواقف المنافقين مما روينا تفصيله وعلقنا عليه قبل.
والمتبادر أنها استمرار للسياق. وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثيرا ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة. ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لا حقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتّاب السيرة ذلك وذكرناه قبل. والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية «١» جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع
(١) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٩٠. [.....]
265
أصحابه في طريقهم إلى سفح أحد إذا هو بكتيبة خشناء فقال من هؤلاء؟ قالوا هذا عبد الله بن أبيّ في ستمائة من مواليه من يهود بني قينقاع. فسأل (أو قد أسلموا؟) قالوا لا يا رسول الله فقال قولوا لهم فليرجعوا فإننا لا نستعين على المشركين بالمشركين. والرواية لم تردد في الصحاح وهي غريبة من نواح عديدة. فإن بني قينقاع قد أجلوا عن المدينة قبل وقعة أحد بخمسة عشر شهرا. والآيات التي نحن في صددها تذكر أن النبي أو المسلمين طلبوا من المنافقين أن يخرجوا معهم فأبوا بحجة أنهم لا يتوقعون قتالا. ولقد روى ابن كثير عن مجاهد وجابر أن جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا هي في عبد الله بن أبيّ كبير المنافقين وأصحابه المنافقين. وهو في محله وتؤيده الآية التي سبقت هذه الجملة التي حكت أقوال المنافقين.
ولقد روى الطبري عن قتادة بسبيل توضيح جملة مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ في الآية [١٦٥] أنها عنت ما كان من عصيان الرماة لأمر النبي وتركهم أماكنهم من حيث إن ذلك أدّى إلى الهزيمة وهو في محلّه. كذلك روي عن قتادة بسبيل توضيح جملة أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها أنها عنت ما كان من خسائر بدر وأحد من المشركين والمؤمنين حيث قتل المؤمنون في بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين وقتل منهم في أحد سبعون ولم يؤسر أحد منهم. ونصّ الآية قد يؤيد هذا التوضيح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧١]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
. (١) يستبشرون: يشعرون بالبشرى والسرور.
266
وفي هاتين الآيتين:
١- نهي فيه معنى التطمين والبشرى عن أن يظنّ السامعون أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
٢- وتوكيد في مقام الجواب بأنهم أحياء لهم عند ربهم التكريم والرزق الحسن. وهم فرحون مغتبطون مستبشرون بما نالوه من نعمة الله وفضله ولما تيقنوه من صدق وعده لهم، وفرحون مستبشرون بالنسبة لإخوانهم الذين خلفوهم من ورائهم أحياء من حيث إنهم لن يلقوا عند الله ما يخيفهم ولا يحزنهم ما داموا تركوهم على المنهج الحقّ والاستشهاد في سبيل الله ومن حيث إن الله لن يضيع أجر المؤمنين المخلصين.
تعليق على الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) والآية التي بعدها
وقد تعددت الروايات التي رواها المفسرون في مناسبة الآيات «١» منها أنها نزلت في حق شهداء بدر ومنها أنها في حق شهداء أحد ومنها أنها في حق شهداء بدر وأحد. ومنها أنها في حق شهداء بئر معونة، الذين كان من قصتهم على ما رواه المفسرون وكتّاب السيرة «٢» أن أحد زعماء بني عامر الموصوف بملاعب الأسنة قدم على النبي فعرض عليه الإسلام فلم يبعد وطلب منه أن يبعث معه نفرا إلى قومه لعلّهم يجيبون فقال له إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أنا جار لهم فبعث معه سبعين رجلا من قرّاء الأنصار الشباب وكان معهم كتاب إلى عامر بن الطفيل زعيم بني عامر فأرسلوه إليه حينما وصلوا إلى بئر معونة فقتل الرسول ثم
(١) انظر الطبرسي والطبري والخازن.
(٢) انظر ابن سعد ج ٣ ص ٩٣- ٩٦ وتفسير الطبري للآية.
267
استصرخ قومه وغيرهم وأحاطوا بالمسلمين فقتلوهم جميعا عدا واحد منهم نجا من القتل لأن زعيما منهم كان نذر أن يعتق رقبة فعتقه بعد أن جزّ ناصيته، وكان وقع الحادث أليما شديدا على النبي والمسلمين.
ويتبادر لنا من نظم الآيتين أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما التي حكت أقوال المنافقين وتحدتهم حيث احتوتا تطمينا للمؤمنين الأحياء وبهتا للمنافقين وإحباطا لدسهم وتحريضهم. وعبارة الآيتين مطلقة شاملة بحيث تشمل البشرى التي انطوت فيهما شهداء أحد وغيرهم وإن كانت صلتها بشهداء أحد أوكد لأن وقعة أحد هي موضوع السياق.
ومثل هذا التنويه والتسكين قد ورد في آيات سورة البقرة [١٥٥- ١٥٧] في سياق الإشارة إلى بعض حوادث الجهاد الأولى وشهدائها على ما شرحناه في مناسبتها. غير أن في التعبير هنا بعض الزيادات التنويهية والتطمينية كما أن فيها تنويها بالمخلصين الأحياء حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل بسبب ما ألمّ بالمسلمين من حزن ومرارة في وقعة أحد.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات كتفسير وتوضيح، منها حديث روي عن ابن عباس «١» :«أنّ رسول الله ﷺ قال لأصحابه إنّ الله لما أصيب إخوانكم بأحد جعل أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنّا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنّة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) » وهناك رواية بهذا الحديث فيها زيادة جاء فيها: «أنّ الله قال لهم هل تشتهون شيئا قالوا يا ربّ نريد أن
(١) انظر تفسير الخازن للآية وانظر أيضا تفسيرها في ابن كثير حيث روي هذا الحديث مع شيء من المغايرة. وانظر التاج ج ٤ ص ٧٦- ٧٧ حيث ورد هذا الحديث من رواية الترمذي في فصل التفسير.
268
تردّ أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى» «١». ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه: «أنّ النبيّ ﷺ قال ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا إلّا الشهيد فإنّه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بما يرى من فضل الشهادة» «٢». ومنها حديث عن جابر جاء فيه: «لمّا قتل أبي يوم أحد جعلت أبكي فقال لي رسول الله لا تبكه، ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفع» «٣». ولقد تطرق بعض المفسرين من هذا إلى التساؤل عما إذا كانت الجنة مخلوقة الآن استنادا إلى الحديث وعمّا إذا كانت حياة الشهداء روحانية أو جسمانية. ومنهم من اتخذ الآية والحديث دليلا ضد المعتزلة الذين لا يسلّمون بأن الجنة مخلوقة الآن «٤».
وعلى كل حال فواجب المؤمن أن يؤمن بما جاء في الآيات والأحاديث النبوية المفسرة أو المتسقة معها مع الملاحظة أن ذلك من الأمور الغيبية التي يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن أو المأثور الثابت من أحاديث النبي مع استشفاف ما لا بدّ أن يكون في عبارتها من حكمة دنيوية أيضا. ويتبادر لنا من ذلك قصد تبشير الأحياء من المسلمين وتطمينهم بالنسبة لشهدائهم الأعزاء وبالنسبة لأنفسهم. وحثّهم على الثبات على دين الله والجهاد في سبيله الذي يضمن لهم التكريم الرباني العظيم.
وإطلاق العبارة في الآيتين يسوغ القول أن فيها علاجا روحيا قويا مستمر المدى في صدد الحثّ على الجهاد مهما كانت النتيجة. يستمد منه المؤمن المخلص في كل وقت إيمانا وثباتا وجرأة وإقداما. فما دام الموت أمرا محتما على كل امرئ وما دام أنه لا يكون إلّا في الأجل المعين عند الله وما دام للشهيد هذه
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) انظر تفسير ابن كثير.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) انظر تفسير الخازن.
269
الحياة الكريمة عند الله فضلا عما له عند الناس من كرامة وحسن ذكر فليس من موجب للخوف من الجهاد ولا للجزع من نتائجه مهما كانت.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
. في هذه الآيات: تنويه بالذين استجابوا إلى الله ورسوله رغم ما نالهم من جراح وتعب ولم يبالوا بما قاله لهم الناس من أن الأعداء قد جمعوا لهم بل زادهم إيمانا بالله وتمسكا به واعتمادا عليه وهتفوا قائلين حسبنا الله ونعم الوكيل. ولقد عادوا دون أن يمسّهم سوء بفضل الله ونعمته وبركة ما كان منهم من صبر وجرأة وإيمان واعتماد على الله. وقد نالوا فوق ذلك رضوان الله ذي الفضل العظيم. وإن للذين أحسنوا من المسلمين واتقوا الأجر العظيم عند الله.
تعليق على الآية الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون روايتين «١» في صدد نزول الآيات: أولاهما ما أوردناه قبل من تفكير قريش في الكرة بقصد استئصال المسلمين، وببلوغ الخبر للنبي ﷺ ومسارعته للخروج على رأس فريق من أصحابه وبلوغهم حمراء الأسد حيث وجدوا قريشا قد انصرفوا «٢». وثانيتهما أن أبا سفيان قائد قريش هتف متواعدا مع
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن.
(٢) هذه الرواية رواها البخاري في هذا النص: (قالت عائشة لعروة بن الزبير يا ابن أختي لما أصاب نبي الله ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعين رجلا كان من بينهم أبو بكر والزبير). التاج، ج ٤ ص ٧٧ وقد يكون في الحديث التباس أو اقتضاب.
270
النبي والمسلمين ليوم آخر يلتقون فيه في بدر في السنة المقبلة، وأجابه المسلمون بأمر النبي بالموافقة وهذا مما اعتاده العرب في حروبهم فلما جاء الموعد خرج النبي على رأس فريق من أصحابه حتى بلغ بدرا فلم يجدوا قريشا وشهدوا سوق بدر وكان لهم فيها ربح تجاري عظيم وعادوا ولم يلقوا كيدا أو سوءا. وابن سعد يذكر وقوع الغزوتين وأسبابهما التي ذكرها المفسرون «١».
وروح الآيات وفحواها يلهمان أنها في صدد مشهد جهادي فور وقعة أحد وما زالت مرارة الوقعة وجراحها شديدة الأثر في المسلمين. وهذا مما يتوافق مع الرواية الأولى ومع الآيات أكثر وإن كان هذا لا يمنع أن تكون قريش قد هتفوا بموعد بدر للسنة القابلة حينما انصرفوا من أحد ثم فكروا في الكرّة.
والمتبادر أن الآيات لم تنزل لحدتها، وليست منفصلة عن سابقاتها. وكلمة الَّذِينَ متصلة نظما بكلمة الْمُؤْمِنِينَ التي كانت خاتمة الآيات السابقة وأن السلسلة كلها نزلت دفعة واحدة عقب أحداث وقعة أحد ومشاهدها. وكل ما هناك أن هذه الآيات احتوت التنويه باستجابة المؤمنين لدعوة النبي وخروجهم معه رغم ما أصابهم من قرح. وهو ما جعل الرواة يروون أنها نزلت في ذلك.
والآيات تحتوي صورة رائعة لاستغراق النبي ﷺ في دعوته والجهاد في سبيلها وعمق إيمان العصبة المخلصة التي كانت حوله في الله وشدة اعتمادها عليه وصبرها وتفانيها وقوة روحها واستغراقها في تأييد النبي وطاعته وعدم مبالاتها بما كان ينالها من بلاء وأذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. وبخاصة في الحالة التي نزلت فيها حيث استجابوا وخرجوا إلى عدو يزيد عدده عليهم أضعافا كثيرة ويفوقهم في الوسائل وقد انتصر عليهم ونالهم منه أذى شديد،
(١) ابن سعد ج ٣ ص ٩٠- ٩١ و ١٠٠- ١٠٢.
271
وكانت جراحهم دامية وأجسادهم متعبة بما فيهم رسول الله الذي كان مجروحا في وجهه مشجوجا في جبهته مكسورة رباعيته مكلومة شفته السفلى متوهنا منكبه الأيمن من ضربة أصابته وركبتاه مشجوجتان «١». ويزيد في روعة الصورة أن النبي ﷺ لم يندب على ما روته الروايات إلّا الذين شهدوا معركة أحد وقاتلوا فيها ولم ينهزموا. وقد روي أن عددهم كانوا سبعين «٢». ومما رواه المفسرون «٣» من روائع هذه الصورة أن رجلين من الأنصار كانا جريحين فلما أذّن مؤذن النبي بالخروج قالا لبعضهما أتفوتنا غزوة مع رسول الله ولم يكن لهما دابة يركبانها فخرجا مع ذلك. وكان أحدهما أشدّ جراحا من الآخر فكان أخوه يحمله من حين إلى آخر حتى بلغا ركب النبي! ومن ذلك أن شابا استشهد أبوه في المعركة ولم يكن شهدها بنفسه لأن أباه آلى عليه أن يتخلف إلى جانب سبع أخوات له فجاء إلى النبي وطلب منه الإذن بالانضمام إليه بعد أن أخبره بعذره الذي منعه من شهود المعركة! وفي كل هذا عظيم الأسوة والتلقين لكل مسلم في كل ظرف ومكان.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. وقالها محمّد حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» «٤». حيث ينطوي في الحديث إيذان بأن هذه الجملة مما كان يرددها أنبياء الله حين يحزبهم أمر من الأمور فيستمدون بذلك من الله قوة وروحا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم
(١) هذه رواية ابن سعد ج ٣ ص ٩٠- ٩١.
(٢) انظر تفسير الطبري والخازن.
(٣) انظر تفسير الطبري.
(٤) التاج ج ٤ ص ٨٨. [.....]
272
الوكيل» وحديثا أخرجه الإمام أحمد عن عوف بن مالك قال: «إنّ النبيّ ﷺ قضى بين رجلين فقال المقضى عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي ردّوا عليّ الرجل فقال له إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل». والحديثان لم يردا في الصحاح. وصحتهما محتملة.
وفي الأول تعليم نبويّ للمسلمين ليستمدوا منه من الله روحا وقوة حينما يحزبهم أمر عظيم. وفي الثاني تعليم بذلك مع تنبيه مهم ورائع وهو أن على المسلم أن يبذل جهده في ما يواجهه من الأمور أيضا ولا يكتفي بالاستسلام وقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٧]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
. في هذه الآيات:
١- تنبيه وتثبيت للمؤمنين. فالشيطان يثير في نفوسهم الخوف من أوليائه ليقعدهم عن القتال فعليهم أن لا يستمعوا لوساوسه ولا يخافوهم بل يخافوا الله وحده إن كانوا مؤمنين حقا.
٢- وتطمين للنبي: فليس من موجب لحزنه واغتمامه بسبب الذين يسارعون في الكفر. فإنهم ليسوا بضارين الله ودينه شيئا. وقصارى أمرهم أن الله لا يوفقهم ولا يجعل لهم حظا في الآخرة ويكون لهم فيها عذاب عظيم.
٣- وتقرير تطميني بأن الذين يفضلون الكفر على الإيمان ويبيعون هذا بذاك لن يضروا الله ودينه شيئا. وإنما هم ضارون أنفسهم بما سوف يصيبهم من عذاب الله الأليم.
الجزء السابع من التفسير الحديث ١٨
تعليق على الآية إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون رواية ما في نزول هذه الآيات. وإنما رووا عن أهل التأويل أن المقصودين في جملة يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وجملة الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ هم المنافقون. وهذا مستلهم من فحوى الآيات وسياقها. وتكون الآيات والحالة هذه استمرارا تعقيبيا للسياق السابق بسبيل تثبيت المؤمنين وتطمينهم. والتنديد بالمنافقين وترهيبهم بالإضافة إلى ما فيها من حقائق يجب الإيمان بها.
وأسلوب الآيات قوي نافذ من شأنه أن يبعث الطمأنينة والروح في قلوب المؤمنين المخلصين وأن يمدّهم بقوة روحانية في كلّ ظرف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
. عبارة الآية واضحة. وفيها تكذيب لما يظنّه الكفار من أن إملاء الله لهم وإمهالهم وتيسيره ما ييسره لهم خبر خير وعلامة على رضاء الله عنهم بل هو إملاء منه ليزدادوا إثما على إثم حيث يكون لهم عنده العذاب المهين.
تعليق على الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
عزا الطبري إلى مقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة وإلى عطاء أنها نزلت في يهود بني قريظة وبني النضير. وليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والسياق
274
في صدد المؤمنين والمنافقين ووقعة أحد التي كان المشركون طرفا فيها. ولهذا فإن رواية كونها في اليهود لا محلّ لها كما هو المتبادر. ومن الجائز أن يكون المنافقون قد تبجحوا بما كان لهم من عاقبة وسلامة أو المشركون بما كان لهم من نصر وتفوق في المعركة فاقتضت حكمة التنزيل تكذيبهم وإنذارهم مع التنبيه على أن المتبادر أن الآية جزء من السياق ولم تنزل لهذه الغاية لحدتها وإنما نزلت مع السياق بعد الوقعة وانطوى فيها ما انطوى من مقصد، والله أعلم.
ومن الجدير بالتنبيه أن في القرآن وبخاصة المكي منه آيات كثيرة تذكر أن الكفار كانوا يحسبون ما ييسره الله لهم من سعة رزق وأسباب قوة هو علامة لرضاء الله وتذكر كذلك أن ذلك في حقيقة الأمر بمثابة استدراج وإملاء واختبار. وفي بعضها تكذيب لظنهم «١» والعبارة هنا من هذا القبيل كما هو المتبادر.
ولقد كانت الآية من الموضوعات الجدلية بين علماء الكلام كما كانت موضوع تمحّل من بعض الأغيار. وليس فيها ما يتحمل ذلك، أو يستدعيه. فقد جاءت تعبيرا أسلوبيا استهدف تسكين المؤمنين وتطمينهم وإنذار الكفار معا على الوجه الذي شرحناه والذي نرجو أن يكون فيها الصواب.
على أن من الممكن أن يقال إن الذين كفروا قد كفروا بسبب خبث نياتهم وفساد أخلاقهم فاستحقوا ما جاء في الآية نتيجة لذلك. وبهذا يزول ما قد يبدو ظاهرا من إشكال من كون الله يملي لهم ليزدادوا إثما والله تعالى أعلم.
ولقد أورد الخازن في سياق الآية حديثا عن النبي جاء فيه: «إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم قرأ الآية». والحديث لم يرد في الصحاح ولكنه متساوق مع مدى الآية وتوضيح لها.
ولقد قال الطبري وغيره إن جملة نُمْلِي لَهُمْ بمعنى (نطيل أعمارهم) ولقد أورد الخازن في صدد ذلك حديثا جاء فيه: «إنّ بعضهم سأل رسول الله ﷺ أيّ
(١) اقرأ آيات سورة القلم [٤٤ و ٤٥] والأعراف [١٨٢ و ١٨٣] والمؤمنون [٥٥ و ٥٦] مثلا.
275
الناس خير فقال من طال عمره وحسن عمله. قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله ثم قرأ الآية» «١». والحديث من مرويات الترمذي عن أبي بكرة بدون جملة ثم قرأ الآية. وما جاء في الحديث حقّ. غير أن المتبادر أن إطالة العمر مع سوء العمل هي إحدى صور الإملاء التي منها أيضا بسط الرزق والقوة والعافية والبنون. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
. شرح الآية ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ... إلخ وتعليق عليها
روى الطبري عن مجاهد أن الآية في صدد وقعة أحد وأنها بسبيل تقرير كون ما وقع فيها حكمة ربانية لتمييز المخلصين من المنافقين. وهم الذين عنى بهم (الطيب والخبيث) وروى الخازن عن الكلبي أن قريشا قالت يا محمد تزعم أن من خالفك في النار ومن آمن بك في الجنة فأخبرنا بمن يؤمن وبمن لا يؤمن فأنزل الله الآية. وروى هذا المفسر عن السدي أن النبي قال: «عرضت عليّ أمتي في صورها وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه ولم يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله فقام على المنبر فقال ما بال أقوام طعنوا في علمي، لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا أنبأتكم به. فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنّا، عفا الله عنك. فقال النبيّ هل
(١) التاج، ج ٥ ص ١٥٤.
276
أنتم منتهون؟. فأنزل الله الآية. وقال الخازن قيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت الآية. وقيل إن قوما من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد ونزلت الآية.
وليس شيء من ذلك في الصحاح والروايات تقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة وبعضها يقتضي أن تكون نزلت في مكة. وفحواها وروحها يلهمان أنها غير منفصلة عن السياق. وقد يكون ما رواه الطبري في الرواية الأولى هو الأكثر احتمالا بحيث يصحّ القول إن الآية تضمنت تعليلا لما أصاب المسلمين بقصد التهدئة والتسكين بما مفاده ومآله:
١- إن الله إذا كان قد ابتلاهم في وقعة أحد فإنما كان ذلك منه لاقتضاء حكمته بعدم ترك أمر الناس الذين يدعون الإسلام ملتبسا وبتمييز خبيثهم من طيبهم ومنافقهم من مؤمنهم وخائنهم من مخلصهم.
٢- وهذا من غيب الله الذي لا يطّلع عليه الناس إلّا بالاختبار العملي.
٣- وكل ما هناك أن الله تعالى يصطفي لرسالته من يشاء ويختصه بعنايته وفضله ودعوة الناس إليه.
٤- وعلى المؤمنين المخلصين أن يؤمنوا بالله وحكمته وقضائه ويقفوا عندهما وأن يؤمنوا برسله ويصدقوهم ويطيعوهم. فإذا فعلوا ذلك واتقوا الله وراقبوه في أعمالهم استحقوا الأجر العظيم عنده.
ولعل بعض المسلمين تساءلوا عما إذا كان النبي ﷺ يعلم نتائج الوقعة وعما إذا لم يكن الأولى أن لا تكون وقعت ما دام أنها كانت نكبة على المؤمنين. فكان هذا وما من بابه مما أريد الردّ عليه في الآية مع التعليل والتثبيت والحكمة والإنذار للكفار والمؤمنين.
والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب قوية نافذة. وفيها تلقين مستمر المدى في كل حالة مماثلة في كل ظرف.
277

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
. عبارة الآية واضحة وفيها تنديد وإنذار للذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله. مع التنبيه على أن ميراث السموات والأرض لله وحده بسبيل التشديد في التنديد والإفحام من حيث إن الذين يبخلون إنما يبخلون بمال الله وهو يأمرهم بعدم البخل به.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآية وإنما أوردوا أقوالا فيما عنته.
منها قول معزوّ إلى ابن عباس أنها في حقّ أهل الكتاب الذين يكتمون ما عندهم من البينات والدلائل على صدق الرسالة المحمدية مؤولا البخل بالكتمان. ومنها قول معزوّ إلى السدي وغيره أنها في مانعي الزكاة «١». وفي فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير آل عمران حديث عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله: من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا الآية» «٢». وجمهور المفسرين على أن القول الثاني هو الأوجه وهو حقّ ومتسق مع فحوى الآية. ولا سيما أن النعي على الذين أوتوا الكتاب لكتمانهم إيّاه هو موضوع آيات أخرى في هذه السورة تأتي بعد قليل. ويبدو من هذا أن الآية ليست من السياق السابق.
ولقد حكت الآيات التالية لهذه الآية قول اليهود بأنهم أغنياء والله فقير وروي أن هذا كان منهم جوابا للنبي ﷺ في وقت طلب منهم مساعدة على ما سوف نذكره بعد حيث يتبادر لنا أن بين هذه الآية والآيات التالية صلة وأنها جاءت بمثابة تمهيد لحكاية ذلك القول وتعنيف اليهود عليه ووصفهم بالبخل بمناسبته. وبكلمة
(١) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.
(٢) انظر التاج، ج ٤ ص ٧٨، والشجاع هو الثعبان واللهزمتان هما الشدقان من تفسير مؤلف التاج.
أخرى جاءت بدء فصل جديد، والله أعلم.
والآية على كل حال احتوت تقرير معنى تام في صدد التنديد بالبخلاء الضانين بأموالهم عن سبيل الخير وبخاصة الممتنعين عن أداء الزكاة الواجبة عليهم وإنذارهم. وعبارتها مطلقة تتضمن الشمول والاستمرار في التلقين كما هو واضح أيضا. وأسلوبها قوي رائع في التنديد الذي ينطوي على الحثّ على الإنفاق من المال الذي في أيديهم والذي هو في حقيقته مال الله وفضله ليسوا أكثر من وكلاء عليه.
ولقد تكرر ما جاء في هذه الآيات كثيرا في القرآن المكي والمدني معا بأساليب متنوعة. لأنه أساس رئيسي من أسس الرسالة المحمدية.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨١ الى ١٨٤]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
. تضمنت الآيات ما يلي:
١- تقريرا بشهادة الله وإنذاره في سياق حكاية قول صدر من اليهود حيث قررت أن الله قد سمع قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وأنه سجّله عليهم كما سجّل ما كان قبل من قتل اليهود للأنبياء. ولسوف يحاسبهم الله ويدخلهم ناره الحارقة ويقول لهم ذوقوا عذابها فهو جزاؤكم الحقّ على ما قدمت أيديكم دون ما ظلم لأن الله ليس ظلّاما لعبيده وإنما هو موفيهم ما يستحقون.
٢- وحكاية لقول آخر صدر منهم جوابا على دعوة النبي إياهم إلى الإيمان به
279
حيث قالوا على سبيل تحدي النبي وتعجيزه إن الله وصّانا بألا نصدق رسولا يدعي أنه مرسل من الله إلّا إذا أكلت القربان الذي يقرّبه نار تنزل من السماء.
٣- وأمرا للنبي بالردّ عليهم ردا ينطوي على التنديد: فلقد جاءهم رسل من قبله بالبينات وبالذي طلبوه فلماذا قتلوهم إن كانوا صادقين في حفظ وصية الله.
٤- وتطمينا وتسلية للنبي، فإذا أصرّ اليهود على تكذيبه فلا موجب لغمّه وحزنه فإن له أسوة بالرسل السابقين الذين جاءوا بالحقّ والصدق والكتب الإلهية المنيرة فكذبوا أيضا.
تعليق على الآية لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ... إلخ والآيات الثلاث التالية لها
واسم اليهود ليس صريحا في الآيات. غير أن جمهور المفسرين قرروا أنها في حق اليهود. ومضمونها قوي الدلالة على ذلك. كما أن آيات عديدة في هذه السورة وفي سورة البقرة نعتت اليهود بالصفات التي جاءت عنهم في هذه الآيات التي جرت على الأسلوب الذي تكرر وخاصة في القرآن المدني بالنسبة لليهود وهو وصل مواقف الحاضرين من النبي ﷺ بمواقف السابقين من أنبيائهم من قبل حتى كأنها صادرة من الحاضرين وذلك على سبيل التشديد في التنديد وبيان عدم غرابة ما يفعله الحاضرون لأنهم سائرون على قدم آبائهم السابقين وجبلّتهم.
وقد روى المفسرون»
في صدد الآية الأولى أن النبي ﷺ أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى جماعة من اليهود يدعوهم إلى الإسلام ويبيّن لهم أركانه ومن جملتها الزكاة وأورد لهم آية فيها حثّ على إقراض الله قرضا حسنا فجادلوه وصدر
(١) هذه الرواية والروايتان الأخريان وردت في سياق تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.
280
من بعضهم القول البذيء في حقّ الله الذي حكته الآية على سبيل الهزؤ والجحود حتى أن أبا بكر لم يملك نفسه من أن يغضب ويلطم القائل. وفي رواية أخرى أن النبي ﷺ أرسل أبا بكر ليطلب منهم مالا يستعين به على بعض حروبه لأنهم حلفاء المسلمين وقد أوجب ذلك عليهم في كتاب الموادعة الذي كتبه حينما حلّ في المدينة على ما ذكرناه في مناسبة سابقة فجرى ما ذكرته الرواية الأولى. وهناك رواية ثالثة أن النبي ﷺ دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام والإيمان برسالته فقالوا له ما حكته الآية [١٨٣].
والروايات لم ترد في الصحاح. وتقتضي أن تكون الآيات نزلت مجزّأة في حين أنها تبدو منسجمة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ويتبادر لنا أن فيها تسجيلا لمشهد جدلي قام بين النبي ﷺ وبعض اليهود أو في البدء بين أبي بكر وبعض اليهود في صدد الرسالة الإسلامية وما تدعو إليه من الإنفاق في سبيل الله ووصفها ذلك بإقراض الله قرضا حسنا فحكت ما كان منهم إزاء ذلك ثم ربطت بينه وبين ما كان من آبائهم من مواقف جريا على الأسلوب القرآني الذي مرّت أمثلة منه في هذه السورة وفي سورة البقرة.
ومن الجدير بالذكر أن في الإصحاحات (١٧ و ١٨ و ١٩) من سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية أخبار مما أشير إليه في الآية [١٨٣] إشارة خاطفة حيث ذكر فيها خبر قتل كثيرين من أنبياء الله وخبر استشراء عبادة البعل بين بني إسرائيل برعاية ملوكهم وبخاصة برعاية آحاب ملك إسرائيل وزوجته إيزابيل وخبر مناظرة بين النبي إيليا وبين أبناء البعل وتحديه إياهم بتقريب كل منهم قربانا. فمن هبطت من السماء نار فأكلت قربانه كان هو الذي على الحق.
وخبر نزول نار من السماء وأكلها قربان النبي إيليا دون قرابين أبناء البعل، وعدم ارعواء آحاب وزوجته وجمهور بني إسرائيل عن انحرافهم الديني رغم ذلك ومطاردتهم للنبي بحيث يستحكم ردّ القرآن في اليهود ويبهتهم بما في أسفارهم من وقائع.
281

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
. في الآية تقرير بحتمية الموت على كل نفس وبأن ما في الحياة الدنيا من المتعة هو إلى زوال وهو باطل خداع. وبأن مصير الناس الخالد إنما يتقرر يوم القيامة حيث يوفون أجورهم حسب ما قدموه من عمل في الدنيا وأن الفوز الحقيقي هو لمن يزحزح بعمله عن النار ويدخل الجنة.
تعليق على الآية كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ... إلخ
ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. ويتبادر لنا أنها غير منقطعة عن السياق السابق. فالآية [١٨٠] نددت بالبخل وأنذرت البخلاء بعذاب الله يوم القيامة، والآية [١٨١] حكت تفاخر اليهود بغناهم فجاءت هذه الآية لتوكيد كون الحياة الدنيا التي يحرص البخلاء عليها فيضنون بما آتاهم الله من فضله ويفاخر اليهود بغناهم فيها إنما هي متعة قصيرة. ولتوكيد كون العمل الصالح فيها من إيمان وبرّ وخير وإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين هو وحده الذي ينجّي الإنسان في الحياة الأخروية التي تتسم بالخلود ويزحزحه عن النار، فيكون لصاحبه بذلك الفوز العظيم.
وواضح أن الآية تظل قوية الهتاف والتذكير على مدى الدهر بما احتوته من حقيقة وبما انطوى فيها من توكيد. على أننا ننبه هنا كما نبهنا في مناسبات سابقة إلى أنه ليس في هذه الآية أيضا ما يدعو إلى نفض اليد من الدنيا ومتعها وطيباتها والنشاط فيها في مختلف المجالات. وإنما هدفها هو التذكير بحتمية الموت وحثّ الناس والمسلمين بخاصة على الاستمساك بحبل الله وتقواه والقيام بواجباتهم نحوه ونحو الناس والاستكثار من العمل الصالح الذي هو وحده النافع المنجي لهم في الحياة الأخروية.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
. الخطاب في الآية موجّه إلى المسلمين يقرر لهم به بأنهم معرضون للابتلاء والاختبار في أموالهم وأنفسهم خسارة وقتلا. كما أنهم سوف يسمعون من أهل الكتاب والمشركين كثيرا من البذاءات المؤذية للنفس، وأن عليهم أن يصبروا ويثبتوا ويتقوا الله. وهذا الموقف الذي لا يقفه إلّا صاحب العزم تجاه تلك الاختبارات هو الموقف الذي يجمل بهم.
تعليق على الآية لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ... إلخ
روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة ما كان بين أبي بكر وفنحاص مما ذكرناه قبل أو في مناسبة هجو كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي للنبي والمسلمين أو في مناسبة موقف مؤذ وقفه عبد الله بن أبي كبير المنافقين من النبي في مجلس حيث أسمع النبي ما يكره وردّ عليه بعض المخلصين وكاد يقع قتال بين المخلصين والمنافقين بسبب ذلك.
والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أن الآية متصلة بالسياق السابق. وهذا لا يمنع أن يكون صدر في ظرف نزولها بعض مواقف مؤذية من اليهود والمنافقين. وقد جاءت مطلقة لتنبه المؤمنين إلى ما يمكن أن يتعرضوا له من خسائر في الأرواح والأموال ومن بذاءات ومكائد بصورة عامة استهدافا لحملهم على توطين أنفسهم على الصبر والتحمل والتضحية في كل موقف مماثل. وقد انطوت على بشرى بالفوز النهائي لهم إذا ما صبروا وثبتوا واتقوا الله.
وفي كل هذا تلقين جليل ومنبع إلهام فياض للمؤمن المجاهد في سبيل الله والحق في كل ظرف ومكان.
وننبّه هنا كما نبّهنا في مناسبات سابقة إلى أنه لا محلّ للظن بأن الآية تدعو إلى الصبر على الإهانات والأذى والعدوان. فهذا مما قررت الآيات العديدة المكية والمدنية «١» حقّ المسلمين على مقابلته بالمثل وبذل الجهد في إرغام البغاة الظالمين وحثّهم عليه مما مرّت منه أمثلة عديدة. وإنما هي في صدد الحثّ على تحمل ما هو طبيعي الوقوع وهم يجاهدون في سبيل الله ودينه الكفار من المشركين وأهل الكتاب من خسارة في الأرواح والأموال وما قد يسمعونه من بذاءات ويلمسونه من مكائد.
ولقد استطرد المفسرون في سياق هذه الآية إلى ذكر قتل الشاعر اليهودي المذكور آنفا حيث رووا أن رسول الله قال: «اللهمّ اكفنيه، ثم قال: من لي به فقد آذاني»، فتقدم أحد أصحاب رسول الله محمد بن سلمة فقال أنا له يا رسول الله ثم أخذ بعض رفاق له وذهبوا إلى حصن اليهود وخادعوه حتى تمكنوا من قتله وحزوا رأسه وجاؤوا به إلى رسول الله. وهذا من صور السيرة النبوية التي يصحّ أن يكون فيها الأسوة. وننبّه على أن هذا الحادث لم يكن الأول فقد كان هناك شاعر يهودي بذيء آخر اسمه أبو عفك فانتدب رسول الله من قتله وكان سالم بن عمير رضي الله عنه «٢».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٩]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩).
(١) انظر آيات الشورى [٣٦- ٤٣] والبقرة [١٩٠- ١٩٤] مثلا.
(٢) انظر تفصيل الحادثين في طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٦٧ و ٧٠ و ٧٣، وانظر ابن هشام ج ٢ ص ٤٣٦ وانظر الطبري في تفسير الآية.
284
(١) بمفازة: بمنجاة.
في هذه الآيات:
١- تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها.
٢- وخطاب موجّه للنبي ﷺ والسامعين بالتبعية بأن لا يظنّ أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم ويحبّون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله.
فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم.
تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) والآيتين التاليتين لها
في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [١٨٧ و ١٨٨] جاء في أولاهما عن أبي سعيد: «أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت». وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه
285
وأخبروه بغيره وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [١٨٧ و ١٨٨] » «١».
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [١٨٧] نزلت في حق اليهود والنصارى أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا.
وفي حديثي البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [١٨٧] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدث حادث أو موقف من نوع ما ذكر في حديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولقد قال الطبري إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخرويا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذلّ وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة.
ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق
(١) انظر التاج ج ٤ ص ٧٨، والحديث الأول ورد في صحيح مسلم والثاني في مسند الترمذي أيضا انظر أيضا تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير حيث رووا الروايتين.
286
العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصحّ أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة.
ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى:
أولا: نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه.
ثانيا: نعي على إساءتهم استعماله في ما يعود عليهم بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة.
وفي الثانية:
أولا: نعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه.
وثانيا: نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه.
والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا من حيث إنه يشنّع على ما تنعى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى.
والمتبادر أن جملة وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا.
ولقد روى الخازن قولا لأبي هريرة جاء فيه: «لولا ما أخذ الله عزّ وجلّ على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية». كما روي عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني فقال أما علمت أني تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال
287
حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا». وفي هذا تساوق مع ما قررناه من المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة أُوتُوا الْكِتابَ بمعنى (أوتوا العلم) أيضا وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول إن الذين أوتوا العلم إطلاقا مخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحاديث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «١».
ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [١٨٧] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورّط في الارتكاس في ما نصّت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور.
وقال رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الحلية وقال السيوطي إن له شواهد فوق الأربعين والراجح أنه عن النبي ﷺ وقد جاء فيه:
(١) التاج ج ١ ص ٥٨، ونورد في هذه المناسبة حديثين في الصحاح روى أحدهما الشيخان عن أبي بكر عن النبي ﷺ قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه». وروى ثانيهما الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود جاء فيه: «قال النبيّ ﷺ نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فربّ مبلغ أوعى من سامع، وفي رواية نضّر الله امرأ سمع منّا حديثا فحفظه حتى يبلغه فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وربّ حامل فقه ليس بفقيه». التاج ج ١ ص ٥٩ و ٦٠.
288
«العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم» «١». وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه: «إنّ أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك. كما لا يجتنى من القتاد إلّا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلّا الخطايا». وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه: «إذا قرأ الرجل القرآن وتفقّه في الدين ثم أتى باب السلطان تملّقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنّم». وحديث رواه الديلمي جاء فيه:
«سيكون في آخر الزمان علماء يرغّبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزّهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون».
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذّ المنحرف.
وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصحّ أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن تسعة فقال إنه ستكون بعدي أمراء من صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض».
(١) من كلام رشيد رضا أن ابن الجوزي قال عن هذا الحديث إنه موضوع منازعا في ذلك السيوطي الذي قال إن له شواهد فوق الأربعين.
الجزة السابع من التفسير الحديث ١٩
289
هذا، ومن الحق أن ننبّه على أن ما ذكره رشيد رضا من تزلّف العلماء ومداهنتهم للسلطان بسبيل المنافع والوجاهات الدنيوية على حساب كلمة الحقّ والموقف الحق ليس إلّا صورة من صور ما يمكن أن يكون منطويا في جملة فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) وإن كانت أشدّها خطورة حيث يمكن أن يكون من صورها استغفال بسطاء المسلمين وتحريف أحكام كتاب الله وسنّة رسوله أو تأويلها أو تطبيقهما تطبيقا غير صحيح بقصد إعطاء الرفض والفتاوى للناس في مختلف شؤون الدنيا والدين وبسبيل نيل المنافع والوجاهات. والله تعالى أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
. (١) المنادي: قيل إن الكلمة تعني القرآن وقيل إنها تعني النبي والقولان سائغان وإن كان الثاني هو الأكثر ورودا.
في الآية الأولى تنبيه تمهيدي على ما في خلق السموات والأرض وتعاقب
290
الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبّر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربّها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئاتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عزّ وجلّ لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متّسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكينة في نفوس أصحابها حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أنثى فهم سواء في ذلك وبعضهم من بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) وما بعدها إلى الآية [١٩٥]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء
291
فيها «١» أن قريشا سألوا اليهود: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى: بم جاءكم عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي فقالوا له: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربّه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة «٢» أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبّه على ذلك بقوله إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقواها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي ﷺ كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار ويبكي خشوعا كلما تلاها «٣». وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه:
(١) انظر تفسير ابن كثير وهو يرويها عن الطبراني بسند متصل إلى ابن عباس.
(٢) انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن والطبرسي وانظر أيضا التاج ج ٤ ص ٧٩ حيث روى ذلك الترمذي في فصل التفسير. وهذا نصّ حديثه عن أم سلمة قالت: «قلت يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة وكانت أم سلمة أولى ظعينة هاجرت إلى المدينة فأنزل الله تعالى فاستجاب لهم أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
(٣) انظر تفسير الخازن وابن كثير.
292
«بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلّى إحدى عشرة ركعة ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح» «١». وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه: «أنّ عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبكت ثم قالت: كلّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي قلت إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صبّ الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) إلى آخر الآيات، ثم قال ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكّر فيها». وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه: «إنّ رسول الله كان يقرأ هذه الآيات كلّ ليلة».
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي ﷺ في عبادة ربّه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزّمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي فإن في أسلوبها معنى التعميم
(١) التاج ج ٤ ص ٧٩ ومعنى استنّ: نظف أسنانه بالسواك. [.....]
293
والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرّض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في التكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدنية التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [١٣] من سورة البقرة وقبلها
294
في سياق آيات مكية أخرى وبخاصة آية سورة الروم [٢٣] فلا نرى محلا للإعادة والزيادة.
ولقد روى ابن كثير عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت إن آخر آية نزلت هي الآية [١٩٥] وليس هذا الحديث من الصحاح. والآية جزء غير منفصل من سلسلة.
فالتوقف فيه أولى.
ولقد وقف بعض المفسرين «١» عند جملة الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ولمحوا فيها تجويزا للصلاة في هذه الحالات وأوردوا حديثا عن عمران بن الحصين رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي أيضا عن النبي ﷺ جاء فيه: «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» «٢».
والحديث يبنى على سؤال من الحصين بسبب بواسير كانت فيه. وظاهر أنه صدر للترخيص لمعذور وليس له صلة بالآية التي نحن في صددها والتي هي في صدد التنويه بالفئة المخلصة التي تذكر الله في كل حالاتها. والصلاة هي صورة من صور ذكر الله وليست كل صوره.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٨]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنبيها للنبي ﷺ والسامعين من المؤمنين بالتبعية بعدم الأبوه والاغترار بما يتمتع به الكفار من أسباب القوة والبروز في الدنيا. فليس هو إلّا متاع قصير الأمد ثم يكون مأواهم جهنم في حين تكون منازل المتقين الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وبذلك يثبت أن ما عند الله للأبرار هو خير وأفضل مما عنده للكفار.
(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير.
(٢) التاج، ج ١ ص ١٧٩.
295
تعليق على الآية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) والآيتين التاليتين لها
وقد روى المفسرون «١» أن الآيات نزلت في مشركي العرب الذين كانوا يتجرون وتكثر في أيديهم الأموال ويتنعمون بها فقال بعض المسلمين: إن أعداء الله في العيش الرخي وقد هلكنا من الجوع. كما رووا أنها نزلت في اليهود للسبب نفسه.
والروايات لم ترد في الصحاح. ومع أنها قد تكون متسقة مع مدى الآيات فالذي يتبادر لنا أنها ليست منقطعة عما قبلها. فالآيات السابقة نوّهت بالمهاجرين والمجاهدين بما نوّهت ووعدتهم بما وعدت فلا يبعد أن يكون بعض المسلمين قالوا ما ذكرته الروايات أو تساءلوا عن سببه بمناسبة تلك الآيات فاقتضت حكمة التنزيل الردّ على ذلك للتطمين والتسكين. بل لعلّ فيها ما يستأنس به على أنها كسابقاتها متصلة بالآيات التي ذكر فيها اليهود والمشركون وما يتمتعون به والتي دعي المسلمون فيها إلى توطين النفس على الصبر والتحمّل.
ولقد تكرر ما جاء في الآيات في مواضع كثيرة من القرآن المكي. وفي بعضها ما يفيد أن الكفار كانوا يحسبون ذلك دليلا على عناية الله بهم ورعايته لهم فكانت الآيات تردّ عليهم مكذبة منددة متوعدة بالعاقبة الوخيمة لهم مقررة أن ذلك فتنة واختبار واستدراج وإملاء وواعدة المؤمنين المتقين بالعاقبة السعيدة.
وينطوي في الآيات صورة واقعية من الحياة كانت تبرز في العهد المكي والعهد المدني من السيرة النبوية. فاقتضت حكمة التنزيل تكرار الإشارة إليها في القرآن المكي والمدني بأسلوب فيه علاج روحي للمؤمنين وإنذار رادع للكفار.
وهذه الصورة تبرز في كل ظرف ومكان لأنها كما قلنا من صور الحياة
(١) انظر تفسير الآيات في الطبرسي والخازن.
296
بحيث يصحّ القول إن في الآيات علاجا روحيا مستمرا يمدّ المسلمين بالقوة والأمل والطمأنينة بحسن العاقبة في عالم الخلود مهما ضاقت عليهم الأحوال في عالم الفناء.
ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس رواه الشيخان أيضا جاء فيه: «إنّ عمر بن الخطاب قال جئت رسول الله فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلّقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». والحديث ورد في فصل التفسير في صحيح البخاري في سياق تفسير سورة التحريم في مناسبة ما كان من غضب رسول الله على زوجاته. وفيه صورة من صور معيشة رسول الله ﷺ وزهده التي روي من بابها صور عديدة «١». وفي جواب النبي لعمر ما احتوته الآية من تلقين ومعالجة. ولا نرى فيه تعارضا مع قول الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
الأعراف [٣٢] وفي سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [٨٧] وإنما الصورة كما قلنا صورة عيش النبي ﷺ وزهده لما هو بسبيله من مهمة عظمى رأى أنها تقتضي منه التفرّغ لها والزهد في ما عداها «٢».
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٩]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩).
(١) التاج، ج ٤ ص ٢٣٩- ٢٤١. والأهب هي أكياس جلد توضع فيها أشياء المعيشة.
(٢) انظر صور معيشة رسول الله وزهده في أحاديث عديدة في التاج ج ٥ ص ١٦٠- ١٦٤.
297
عبارة الآية واضحة. وفيها تقرير تنويهي بوجود فريق من أهل الكتاب يؤمنون بالله وبالقرآن كما يؤمنون بالكتب السابقة التي أنزلت على أنبيائهم إيمانا مخلصا فلا يحرفون ولا يتلاعبون ولا يبيعون آيات الله بالثمن البخس. فلهؤلاء عند الله الأجر الذي يستحقونه وهو سريع الحساب يؤدي إلى صاحب الحق حقه بدون مطل ولا إمهال.
وقد روى المفسرون روايات عديدة في مناسبة نزول هذه الآية وفيمن عنته.
منها أنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة ومن آمن من قومه بالرسالة النبوية. فإن النبي لما بلغه موت النجاشي دعا إلى الصلاة عليه فقال المنافقون إنه يصلي على رجل من غير دينه فنزلت. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وغيره من أفراد اليهود الذين آمنوا بالرسالة المحمدية. ومنها أنها نزلت فيمن آمن بهذه الرسالة من أهل الكتاب عامة «١».
والروايات لم ترد في الصحاح. والآية على كل حال تحتوي تقرير حقيقة واقعية تكررت الإشارة إليها في الآيات المكية والمدنية وهي إيمان وتصديق أشخاص عديدين من أهل الكتاب نصارى ويهود برسالة النبي محمد ﷺ واندماجهم في الإسلام وإخلاصهم كل الإخلاص. وقد أوردنا نصوص الآيات في مناسبات سابقة.
ويتبادر لنا أن الآية استهدفت مع تقرير تلك الحقيقة الاستدراك على ما جاء في الآيتين [١٨٦- ١٨٧] من تنديد بأهل الكتاب الذين يناوئون الدعوة النبوية ويؤذون المسلمين ويكتمون ما عندهم من بينات الله وينبذون بذلك الميثاق الذي أخذه عليهم بيان ما في كتبهم ثم تنبيه المسلمين العرب المتسائلين تساؤل العجب الذي أشرنا إليه في مناسبة الآية السابقة إلى كونهم ليسوا وحدهم الذين آمنوا وصدقوا واستجابوا وإن من أهل الكتاب من فعل مثلهم، وإن من شأن ذلك أن يبعث فيهم السكينة والثبات والصبر في إسلامهم ومواقفهم والأمل في انتشار دين الله وفي تمكّنهم في الأرض ويجعلهم لا ينخدعون بما يرونه من قوة الكفار
(١) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.
298
وثرواتهم إذ أن ذلك إلى انتقاص وزوال. وبهذا التوجيه الذي نرجو أن يكون صوابا تبدو صلة الآية بسابقاتها وبالسياق جميعه واضحة. وفي الآية التالية ما يؤيد هذا التوجيه أيضا على ما يتبادر منها.
ومما يحسن التعقيب به أن تلك الحقيقة التي قررتها الآية قد انطوت على حقيقة أخرى وهي أن الرسالة المحمدية قد استجيب لها من مختلف الملل والنحل في حياة النبي ﷺ ولقد احتوى القرآن آيات عديدة تقرر أن الذين لم يستجيبوا إليها كانوا متأثرين بأهوائهم ومطامعهم الخاصة سواء منهم الكتابيون والعرب المشركون مما شرحناه وأوردنا شواهده في سياق تفسير سور فاطر والفرقان والشورى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
. (١) صابروا: غالبوا أعداءكم بالصبر.
(٢) رابطوا: أصل الرباط هو إعداد الخيل والاستعداد الدائم للحرب.
ومعنى الكلمة هنا هو الأمر بالاستعداد الدائم واليقظة الدائمة والمرابطة للعدو.
وفي هذه الآية أمر للمسلمين بالصبر على دينهم ومغالبة أعدائهم بالصبر والمرابطة مع الاستعداد الدائم له وتقوى الله والتزام حدوده. ففي ذلك ضمان فوزهم وفلاحهم.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
ولم نطلع على رواية خاصة بالآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة ومعقبة عليها فسبيل الانتصار على الأعداء الكفار هو هذا الذي أمرت به الآية.
فإذا فعله المسلمون هان عليهم أعداؤهم وتمّت لهم الغلبة عليهم. فلا محل للاغتمام بما هم عليه من قوة خداعة وإنما الواجب هو التحلّي بالصفات
299
والأفعال الضامنة للتغلّب على هذه القوة.
والآية مع اتصالها بسابقاتها جملة تامة في تنبيه المسلمين بصورة عامة تنبيها مستمر المدى والتلقين إلى ما يضمن لهم الفوز والفلاح والقوة والاستعلاء من الصبر والثبات وتقوى الله والاستعداد الدائم للعدو. وهو تنبيه رائع وشامل.
وقد جاءت خاتمة قوية للسورة. وطابع الختام المألوف في كثير من السور بارز عليها.
هذا، ومع أن شرحنا للآية منطبق على شرح جمهور المفسرين لها «١» فإن منهم من روى بعض الأحاديث التي تفيد أنها في صدد الصلاة أيضا حيث روى ابن كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أقبل عليه يوما فقال له: يا ابن أخي أتدري فيم نزلت هذه الآية؟ قال: لا. قال: أما أنه لم يكن في زمان النبي غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلّون الصلوات في أوقاتها ثم يذكرون الله فعليهم نزلت أن: اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما عليكم لعلكم تفلحون. وأورد ابن كثير عقب هذا حديثا عن أبي أيوب جاء فيه: «وفد علينا رسول الله فقال هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر، قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال:
إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة وهو قول الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠) »
«٢»، وهذان الحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد قال ابن كثير عن الحديث الأخير إنه غريب جدا من الطريق المروي عنه. والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث لو صحّ فإنه يحتمل أن يكون بمثابة التمثيل والتشبيه ولا سيما أن الآية كانت نازلة قبل صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم. ويلمح في الحديث المروي عن أبي
(١) انظر تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي والزمخشري.
(٢) روى ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة بينها بعض الاختلاف في العبارة مع الاتفاق في الجوهر.
300
هريرة أنه يفسر الرباط بما صار يفهم منه في زمن الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين وبعده وقد عاش إلى زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان.
وعلى كل حال فما زلنا نرجح أن معنى الآية هو تأويل جمهور المفسرين الذي تابعناهم فيه. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل المرابطة وأجرها والحثّ عليها. ويستفاد منها أنها متصلة بالجهاد الحربي في سبيل الله وظروفه. وأكثر من استوعبها ابن كثير في سياق تفسير الآية. ومنها ما روي بصيغ متقاربة من طرق مختلفة ومنها ما ورد في الصحاح أيضا. من ذلك حديث رواه البخاري عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله ﷺ رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» «١». وحديث رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال:
«عينان لا تمسّهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» «٢». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد عن النبي ﷺ قال:
«كلّ الميت يختم على عمله إلّا المرابط فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمّن من فتّان القبر» «٣». وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان عن النبي ﷺ قال: «رباط يوم في سبيل الله أفضل أو خير من صيام شهر وقيامه. ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة» «٤» ولفظ النسائي: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه من المنازل» «٥».
وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه وفي الأحاديث صور من السيرة النبوية تفيد أن الرباط الجهادي كان مما يمارس في زمن النبي ﷺ وفيها تلقينات مستمرة المدى في وجوب التيقظ والاستعداد والمرابطة في سبيل الله تجاه أعداء الإسلام والمسلمين وعدوانهم الواقع أو المرتقب.
(١) التاج ج ٤ ص ٢٩٩ و ٣٠٠.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
301
سورة الحشر
جلّ هذه السورة في صدد إجلاء فريق من اليهود عن المدينة. وما كان من مواقف المنافقين فيه وتشريع للفيء ومداه وما كان من تشادّ حوله. وفيها أكبر مجموعة لأسماء الله الحسنى والمرجح أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة حسب ما جاءت في المصحف.
والمفسرون وكتّاب السيرة متفقون «١» على أن الفريق اليهودي هم بنو النضير إحدى قبائل اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يقيمون في المدينة. ومتفقون «٢» كذلك على أن حادثهم وقع بعد نحو خمسة أشهر من وقعة أحد. والمعقول أن يكون ترتيبها بعد سورة آل عمران التي احتوت مشاهد وظروف هذه الواقعة. غير أن الذين يروون ترتيب السور المدينة حسب النزول يجعلونها الخامسة عشرة ويجعلون سورة الممتحنة التي احتوت الإشارة إلى أحداث وقعت بعد صلح الحديبية مكانها بعد سورة آل عمران ثم يجعلون بعد الممتحنة سورة الأحزاب التي احتوت الإشارة إلى وقعتي الأحزاب أو الخندق وبني قريظة اللتين وقعتا بعد مدة ما من وقعة بني النضير وليس في هاتين السورتين ما يبرر تقديمهما على سورة الحشر وليس في سورة الحشر ما يبرر تأخيرها عنهما بل وعن غيرهما حتى تكون الخامسة عشرة في الترتيب. ومن العجيب أن رواة الترتيب لم ينتبهوا إلى ما في ذلك من شذوذ واستحالة. ويبدو لنا أنهم خلطوا بين سورتي الحشر والممتحنة وبدلا من أن
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري وابن كثير وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٩٨- ١٠٠، وابن هشام ج ٣ ص ١٩١- ١٩٨. [.....]
(٢) المصدر نفسه.
302
Icon