تفسير سورة آل عمران

التقييد الكبير للبسيلي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التقييد الكبير للبسيلي .
لمؤلفه البسيلي . المتوفي سنة 380 هـ

(٣) - الزمخشري: (نزَّل): تقتضي التنجيم، و (وأنزل) تقتضى الجمعية. وقال في أول كتابه: الحمد لله الذي أنزل الفرقان كلامًا مؤلفٌا منظمًا، ونزله بحسب المصالح منجما.
وردّ هذا ابن عطية بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ). وعادتهم يَردون على الزمخشري بما هو أبين من ردّ ابن عطية، وهو قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة).
وأجيب: بأن ذلك حيث يؤتى باللفظ مطلقًا غير مقيد، وهنا قيده بقوله: (جملة واحدة).
وأجاب الزمخشري هتاك: بأن (نزَّل) بمعنى (أنزل) وردوا عليه بأن ذلك إنما هو في الفعل المتعدي لواحد إذا أضعف يُكْسبه التضعيف معنى التفريق مثل (وغلَّقت الأبواب)؛ لأن " غلَّق " - يتعدى غير مضاعف - وأمَّا غير المتعدي فإن التضعيف فيه إنما هو " للتعدية " كالهمزة لا أنه يكسبه معنى آخر.
443
ابن هشام: ممَّا يتعدى به الفعل القاصر همزة " أفعل "، وتضعيف العين، وقد اجتمعا في قوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ).
وزعم الزمخشري: أَن بين التعديتين فرقاً فقال: لما نزَّل القرآن منجمًا، والكتابان جملة جيء ب (نزَّل) في الأول، و (أنزل) في الثاني.
وإنما كان في خطبة " الكشاف ": (الحمد للَّه الذي أنزل الفرقان) كلامًا مؤلفًا منظمًا، ونزَّله بحسب المصالح منجمًا؛ لأنه أراد بالأول إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وهو الإِنزال المذكور في (إنَّا أنزلناه في ليلة القدر)، وفي قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن).
وأما قول القفال: إن المعنى الذي أُنْزِل في وجوب صومه أو الذي أُنْزِل في شأنه. فتكلف لا داعي له. وبالثاني تنزيله من السماء الدنيا إلى رسول الله ﷺ في ثلاث وعشرين سنة.
ويشكل على الزمخشري (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً). فقيد (نُزِّلَ) بـ (جُمْلَةً وَاحِدَةً)، وقوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ
444
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ..)، وذلك إشارة إلى قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا..)، وهي آية واحدة..
- (مُصدّقًا). إن قلت: قول ابن عطية: أنها حال مؤكدة. يردّ بأن الكلام الحق في نفسه قد يكون مصدقًا، لغيره، وقد لا، فلا يلزم من كونه حقا التصديق.
فالجواب: أن ابن عطية: اعتبر الحق من حيث. رجوعه إلى الكتاب وارتباطه به فلا بدّ أن يكون مصدقًا، ولم يعتبره في نفسه. ومعنى تصديقه: أي لأصول ما فيها من الشرائع، والأحكام لا أنه مصدق لأشخاص تلك الأحكام، وجزئياتها، بل هو ناسخ لها أو المراد دلالتها على صحة كونها مُنزلة من عند الله لما ذكر إنزاله القرآن على محمد ﷺ أتى بالتوراة، والإِنجيل على معنى الاستدلال على صحة نزول القرآن عليه فكأنه يقال: لا تنكروا نزول القرآن عليه فقد نزل على موسى، وعيسى، وغيرهما.
٤ - فإن قلت: ما افاد (من قبل) وهو معلوم؟. قلت: للدلالة على أوّل أزمنة القَبْلَية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأوّل ما نزل، بل تقدمه كُتُب قبله، واستدام حكمها إلى أوّل أزمنة القَبْلِية، ويحتمل تعلقه بـ (هدى) أي: أن هداية التوراة، والإِنجيل كانت للناس من قبل، وهذا غير معلوم.
وإنما المعلوم أن إنزالهما قبل. وقال هنا: (للناس)، وفي أوّل البقرة (للمتقين)، فقيل: للتشريف.
وقيل: إن المراد هنا الهداية الأعمِّية كما في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). وهناك خاصة بالتوفيق والإِرشاد إلى طريق الحق، وهي تطلق على الأمرين.
- (بآيات اللَّه..) المعجزات، أو آيات القرآن، وهو عام خرج على سبب، وفيه عند الأصولين خلاف لكن قالوا: إن السبب يجب دخوله فيه، والصحيح أنه عام فيه، وفي غيره وحيث يكون في اللفظ وصف مناسب للسبب فإنه يقصر على ذلك السبب، وإلَّا فهو عام، والآية هنا ليس فيها وصف مناسب فهي عامة فيه، وفي غيره.
- (لهم..). جرى مجرى التهكم؛ لأن اللام تقتضي الملك، والإِنسان إنما يملك ما يلائمه لا ما لا يلائمه، والأصل: " على ".
وشدة العذاب باعتبار الكمية، والكيفية، والدوام الأبدي.
٥ - (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥). يدل على أنه يصح أن ينفى عن الذات ما يتحقق عدم اتصافها به، ولا يلزم منه تحصيل
446
الحاصل. وعلمه تعالى يتعلق بالموجود، والمعدوم، وبالمستحيل؛ لأنّا نعلم أن الجمع بين النقيضين محال، فيدل على أن المعدوم شيء، وهل يدل على تعلق علمه بالكليات، والجزئيات؟.
إن قلنا: إن العلم بالكليات من لوازمه الجهل بالجزئيات فنقول: إنها تدل على تعلق علمه بالجزئيات، وإلا فلا وهو مذهب المتأخرين، وذهب " المقترح " إلى أن الخلق يقتضي العلم وإن كان قبيحًا.
وقال غيره: إنما يقتضيه الإتقان لا نفس الخلق.
فإن قلت: التقييد بالمجرور يخرج علمه تعالى بذاته؛ لأنها لا في الأرض ولا في السماء!.
447
فالجواب: أن الآية سيقت للردّ على نصارى نجران في قولهم: عيسى إله، وتضمنت مع ذلك الوعد، والوعيد، فناسب التقييد بالمجرور.
٦ - (هو الذي يصوركم..) البناء على المضمر يفيد الحصر، وكذا
تعريف الخبر، وأتى ب (يصوركم) بصيغة المضارع، وإن كان التصوير ماضيًا، لأن المراد به التعجب كقوله تعالى: (فتصبح الأرض مخضرة).
وعبر عن المشيئة بصيغة المضارع أيضا، وهي حاصلة أولاً باعتبار ظهور أثرها، لأنه مستقبل، وفيه ردّ على الطبايعية.
- (لا إله إلا هو). كالنتيجة لما ذُكِرَ من المقدمات.
٧ - (ومنه آيات محكمات). الزمخشري: أُحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال، أو الاشتباه. يريد: والنسخ.
ابن التلمساني في أول " شرح المعالم الفقهية ": قال ابن عباس، والزجاج: القرآن [كله] محكم إلا آيات القيامة فإنها متشابهة إذ لم يكشف الغطاء عنها.
وقيل: المتشابه ما ورد عليه النسخ، والمحكم ما عداه ". انتهى.
فعلى هذا يكون في القرآن ما هو محكم متشابه كالمتعة فإنها أجيزت ثم نسخت ثم نُسخ الناسخ.
449
وقال بعض السلف: المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم ما عداها. وعبر عنه ابن عطية: بأن المحكم ما فهم العلماء معناه، " المتشابه ما لم يكن لهم سبيل إلى علمه كوقت قيام الساعة، وخروج يأجوج، ومأجوج، ونزول عيسى، والحروف المقطعة في أوائل السور.
انظر قوله: نزول عيسى فليس في القرآن.
450
قال ابن التلمساني: وقال الأصم:: المحكم نعته عليه السلام في الكتب السالفة، والمتشابه نعته في القرآن.
وقال واصل بن عطاء، وعمر بن عبيد المعتزليان: المحكم: الوعيد الوارد على الكبائر: والمتشابه: ما ورد على الصغائر. وهذا أول من زاد درجة بين الإِيمان، والكفر سموها فسقًا، وجعلوها مخلدة في النار إن مات قبل التوبة فاعتزلهما الحسن البصري لهذه المقالة، واعتزلا مجلسه فسموا معتزلة ". انتهى.
451
وذكر الأصوليون الخلاف هل يرد في القرآن ما لا يُفْهم أم لا؟.
وقال بعض شُرَّاح " المحصول ": أما بالنسبة إلى الكلام القديم الأزلي فلا خلاف فيه في امتناع ذلك.
قال: وإنما الخلاف في الألفاظ المعبر بها عنه، والتقسيم المذكور في الآية الظاهر أنه غير مستوفٍ؛ لأن الأقسام ثلاثة منها: ما هو نص في معناه، ولا يصح صرفه عنه بوجه.
ومنها: الظاهر.
ومنها: المحتمل. فالمحكم هو النص الذي لا احتمال فيه والمتشابه هي: الألفاظ المحتملة التي يحتاج في ردها إلى الصواب دليل عقلي أو سمعي ويبقى ما هو ظاهر في معناه.
وعلى قول ابن مسعود أيضا القائل: أن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ يبقى قسم آخر وهو ما ليس بناسخ ولا منسوخ، وذلك أكثر القرآن.
452
وفي الآية سؤال، وهو أن المفسرين قالوا: المحكم في القرآن أكثر من المتشابه.
و (آيات) جمع سلامة، ونص سيبويه على أنه جمع قلة إذا لم يدخل عليه " أل "، و " ضميرهن " الذي هو ضمير جماعة المؤنث إنما يكون لما دون العشرة، فكيف عبّر عنه بجمع القلة، وأعيد عليه ضمير (آيات) القليل؟.
والجواب: أنه قد يطلق جمع القلة، ويراد به الكثرة كما يوضع جمع الكثرة موضع جمع القلة، وأعيد الضمير على (آيات) باعتبار لفظها
453
كإعادته مفردًا على لفظ (من)، والمراد: بها العموم " وكذلك (أُخر) جمع كثرة، عبر به عن القليل، وتقرر أنه إذا لم يسمع في الاسم إلَّا جمع واحد إمّا قلة أم كثرة إنه يجوز أن يراد به الجمع الآخر.
- و (متشابهات) جمع قلة، وأفرد (أُم) وهو خبر عن جمع لوجهين:
الأول: أنه لما كانت المحكمات متحدة المعاني، ولا تنافي بينهما ولا اختلاف صارت كالآية الواحدة.
الثاني: أنه على التوزيع، والمراد أن كل آية (أُم).
٧ - (فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ..). دليل على أن العقل في القلب.
قال الطيّبي في " التبيان ": هذا من باب الجمع، والتقسيم، قوله: (منه
454
آيات محكمات.. وأخر متشابهات) جمع ثم عقبه بقوله: (فأمّا الذين..)، وبقوله: (والراسخون..) فهذا تقسيم، وتفريق. انتهى. واتباع من لا زيغ في قلبه المتشابه قصدًا، لصرف معناه: إلى الصواب.
٧ - (والراسخون في العلم). كان بعضهم يجري الخلاف في عطفه، واستئنافه على الخلاف، هل بين العلم القديم، والعلم الحادث اشتراك أم لا؟.
- (يقولون..) أي: بقلوبهم؛ لأن من آمن بقلبه داخل في هذا، وَذكرُ لفظ (الربِّ) مناسب أي: لورود المحكم، والمتشابه في الكتاب رحمة من الله بنا؛ لننظر في الأدلة، ونتدبر بعقولنا فنخرجه عن ظاهره الحقيقي إلى مجازه دفعًا للحكم بالباطل فيحصل لنا الأجر، والمثوبة بذلك عند الله عزّ وجلّ.
455
٨ - (ربنا لا تزغ قلوبنا..) قرئ (تَزع) بفتح التاء و (وقلوبنا) فاعل.
وقول أبي حيان هو مثل: " لا أَرَينَّك ها هنا ". إنما يتم على قول المعتزلة: أن العبد يخلق أفعاله، فيقولون: كيف يطلب من الله ترك ما ليس من فعله فيحتاجون إلى أن يجعلوه مثل: " لا أرينّك ها هنا "؛ لاستحالة نهي الإِنسان نفسه ألَّا يخلق لها أسباب الزيغ، فتزيغ.
- وقوله: (إذ..) هنا اسم. يريد اسم للزمان الماضي.
قال: وليست بظرف، لأن الظرف لا يضاف إليه. إن أراد أنها لا
456
تعرب ظرفًا لا في اللفظ، ولا في المعنى فغير صحيح، بل معناها الظرفية.
ابن هشام: زعم الجمهور أن (إذ) لا يقع إلا ظرفًا، أو مضافًا إليها اسم زمان صالح للاستغناء عنه، نحو: " يومئذٍ "، و " حينئذٍ " أو غير صالح نحو قوله تعالى: (بعد إذ هديتنا..).
وفي الآية سؤال، وهو لِمَ أضيف الزيغ للقلوب، والهداية لجميع الذات؟.
وجوابه: من وجوه:
الأول: أنهم طلبوا نفي الزيغ عن العضو الأخص الذي هو القلب؛ لأن حصول الزيغ فيه سبب في عمومه في جميع البدن، ونفي السبب يستلزم نفي المسبَّب، والهداية حاصلة عامة في سائر البدن فأخبروا بذلك رغبة في دوامها كذلك.
الثاني: أن الزيغ يحصل للقلب بأوَّل وهلة، والهداية إنما تحصل غالبًا بعد تأمل، ونظر، واستدلال، فحصولها يشترك فيه جميع الحواس.
فإن قلت: قد ينظر في الشبهة فيضل فقد حصل الزيغ بالتأمل؟.
والجواب: أنه لم ينظر، ليضل، وإنما نظر ليهتدي فضل.
457
فإن قلت: قد يحصل الزيغ ببعض الأفعال، لأنه قد يشرب الخمر مثلاً فيكون سببًا في ضلاله!.
فالجواب: إنما المراد في الآية إنما هو الزيغ المسبَّب عن الاعتقاد؛ لأن ذلك بدء سياق الآية لا عن الأفعال وهو في الغالب يحصل من غير نظر إذ الإِنسان إذا ترك النظر، والاستدلال ضل فهو قد زاغ بالترك.
الثالث: إن الزيغ من أفعال القلوب، والهداية عامة في أفعال القلوب، وأفعال الأبدان، وهذا إن كان من قول الراسخين في العلم فهي هداية خاصة، وإن كان أمرًا لجميع الناس أن " يقولوه "، فهي هداية عامة.
- (وهب لنا). جاء على الأصل في تقديم دفع المؤلم على جلب الملائم، وقدم المجرور على المفعول به مع أن الأصل العكس؛ لأن تعدي الفعل إلى المفعول به أقوى من تعديه إلى المجرور؛ لأن الأهم المقصود حصول الهبة لهم.
ابن عطية: المراد (هب لنا) نعيمًا صادرًا عن الرحمة، لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا يتصور فيها الهبة ". انتهى. ومعنى الآية متضح بما قرَّره الآمدي في " أفكار الأبكار " قال: اختلفوا إذا ورد ما يستحيل على اللَّه الإِتصاف به فمنهم: من رده، لصفة الفعل فإن رددته، لصفة
458
الفعل لم يكن هناك إشكال ولا يحتاج إلى ما قال ابن عطية.
٩ - (ربنا إنك جامع الناس..). خبر في معنى الإِقرار، والتذلل، واللام في (ليوم) إمّا للتوقيت أو للتعليل على حذف تقديره: لجزء يوم.
و (الميعاد) مصدر " أَوْعد " في الشر، والآية تضمنت " الوعد " و " الوعيد "، وغلب فيها معنى التخويف.
١٠ - (إن الذين كفروا..) المناسب تفسيرهم بنصارى نجران؛ لموافقة سبب النزول.
فإن قلت: وكذلك المؤمنون لا تغنى عنهم أموالهم، ولا أولادهم من الله شيئًا، قال تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا..).
قال: فالجواب: أن المؤمنين ينفعهم مالهم بإنفاقه في سبيل الله والولد الصالح يدعو لأبيه بعد موته، فينتفع بدعائه بخلاف الكافر.
459
فإن قلت: تأكيده بقوله: (شيئًا) يقتضي العموم في القليل، والكثير!.
فالجواب: أنه عام في الأشخاص، لا في الأزمنة، والأحوال.
قيل: ورد تخفيف العذاب عن أبي لهب ليلة الاثنين، ويومه؛ لكونه اعتق الخادم التي بشرته بولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم. ، وكذلك أبو
460
طالب أخبر النبيّ صلى اللة عليه وسلم: " أنه أهون أهل النار عذابًا ".
- (هم وقود النار). إن كان لفظ (الذين كفروا) للعموم فالمضمر، هنا للحصر، وإلّا فللتأكيد.
١١ - (كدأب..). انظر: إعرابه في أبي حيان.
قيل: لِمَ شبههم ب (آل فرعون) دون غيرهم؟.
أجيب: بأنه لم يهلك إهلاكًا عامًا بعد نزول التوراة غيرهم، وحُكِي هذا السؤال، وجوابه عن القاضي أبي العباس بن حيدره.
وقول الفخر: إضافة (دأب) للفاعل، أو للمفعول،. يرد بأن فعله غير متعد فلا يصح إضافته للمفعول.
١٢ - (قل للذين كفروا ستغلبون) في الآية سؤال وهو ما الحكمة في إتيان الفعل مبنيًا للمفعول مع أن الأولى ههنا ذكر الفاعل لا سيما مع
" ما ". ذكر ابن عطية، وغيره: من أن النبيّ ﷺ لما غلب قريشًا بـ " بدر " قالت اليهود: هذا هو النبيّ الذي في كتابنا الذي لا يهزم، فلما كانت وقعت " أحد " كفر جميعهم، وقالوا: ليس هو النبيّ المنصور. وكان الأولى أن يذكر فاعل الغلبة، لأنهم يقولون: نعم نُغْلَبُ ولكن يَغْلِبُنا غيرك، وهو النبيّ الحقيقي لا أنت؟.
وجوابه: أن هذا تنبيه على التنفير من الدعوى، وأنه ينبغي للإِنسان أن لا يدعى شيئًا.
قال الفخر: في الآية حجة بجواز تكليف ما لا يطاق؛ لأن هؤلاء خوطبوا بأنهم يغلبون، ويعذبون، ومع هذا فهم مكلفون بالإِيمان. انتهى. يردّ بأن المعنى إن دمتم على دينكم، والحكم عليهم بأنهم يغلبون ويعذبون معلل بكفرهم، لأن ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يشعر بالغلبة.
١٣ - (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ). في الآية سؤالان:
الأول: أن المطابقة في كلام العرب معتبرة، وهو نوع من أنواع البديع فالأصل أن يقال: فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى تقاتل في سبيل الطاغوت، أو فئة مؤمنة، وأخرى كافرة، فلا بدّ في العدول عن هذا من حكمه. وما هي؟.
463
وجوابه: أنه لو قيل: فئة مؤمنة لما لزم أن يكون قتالها في سبيل الله، - وقوله: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مستلزم للإِيمان، والجهاد، ولو قال: وأخرى تقاتل في سبيل الطاغوت لما أفاد أنها كافرة إذ لعلها مؤمنة، وقصدت العدوان، والظلم فلما قال: كافرة استلزم القتال بدلالة قوله: (التقتا) فاستلزم استصحاب الكفر.
السؤال الثاني: لِمَ عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني بالاسم، وهلا قيل: فئة مقَاتِلة في سبيل الله، وأخرى كافرة، أو فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى تكفر؟!.
والجواب من وجهين:
الأول: أن القتال أمر فعلي متجدد فناسب التعبير عنه بالفعل المضارع، والكفر أمر اعتقاديِّ قلبي فهو ثابت، فناسب التعبير عنه، بالاسم المقتضى للثبوت.
الثاني: أن في الآية حذف التقابل أي: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت.
- (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). فيها أوجه:
أحدها: ترون المشركين مثليّ المشركين. وقد يُشْكل مع ما في سورة الأنفال: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا..).
وجوابه: أن المسلمين يرون المشركين قبل القتال مثليهم ابتلاءً من اللَّه لهم فإذا شرعوا في القتال يرونهم قليلين فهزموهم، وهذه الرؤية إن كانت
464
من غلا البصر يكون المصدر، وهو (رأي العين) " ترشيحًا "؛ للمجاز، وإن كانت حقيقية للناس يخلقهم هنالك فيكون مصدرًا حقيقة.
- (لأولى الأبصار). قيل: (لعبرة الأولي الأبصار)؛ لأنه قد ينظر، ولا يعتبر!.
أجيب: بأن " بَصيرة " يجمع على " أبصار ". انظره.
١٤ - (زُيِّن للناس). مناسبتها لما قبلها أن ما تقدم اقتضى الحض على الجهاد، ومدح المتصف به، ومن خالف نفسه في ميلها إلى الراحة، وأتت هذه في معرض الذم لمن لم يتصف بذلك، وطاوع نفسه في ميلها إلى الشهوات. وقيل: المزين هو الله. وقيل: الشيطان. فعلى الأول هو تزيين خلق، وعلى الثاني تزيين وسوسة، فهو مشترك فإن قلنا: بتعميم المشترك صح حمله على الأمرين، وإلَّا فنجعله، للقدر المشترك بينهما، وهو مطلق الحمل على حب الشهوات خلقًا، وإبداعًا، أو وسوسة، وكسبًا. والتزيين
465
هو إظهار الشيء في أحسن صورته، وإن كانت مرجوحة كمن يكسوا خادمه ثوبًا حسنًا. والحب في اللغة: مطلق الميل. والشهوة: هي الميل إلى الأمر الحسي. فميل الإِنسان إلى الصلاة، ونحوها حب لا شهوة، فالحب أعمّ من الشهوة، و " المزُينَّ ": إنما هو الشيء المُشْتهَى فهو من باب تعليق الحكم على سبب السبب، لأن الشهوة متعلقة بالمُشْتهَى. والحب متعلق بالشهوة.
والتزيين متعلق بالحب.
- و (الناس) عام في الأولياء، والصالحين، وغيرهم لكن غيرهم يتبعونه في تزيينه، وهم لا يتبعونه.
قيل: " الألف واللام " لا يصح كونها؟ للعهد إذ لم يتقدم معهود، ولا للجنس بمعنى العموم لقوله: (من النساء والبنين) فهم غير داخلين في العموم.
أجيب: بأنها للجنس، وقد يَرِدُ التخصيص مصاحبًا للعام. وقول أبي البقاء: حُركَتْ الهاء في الشهَوات؛ لأنه اسم غير صفة. يوهم أنه لا يصح فيها إلا الفتح، وليس كذلك، بل يجوز فيها الإسكان، والفتح.
وقال ابن عصفور في " باب التثنية والجمع ": إن الاسم إذا كان على وزن " فِعْل " أو " فُعْل " أو " فِعْله " أو " فُعْله " فإن كان صحيحًا جاز فيه ثلاثة أوجه: بقاء العين ساكنة كهنْدات جمع هِنْد، وجَمْل، وجمْلات، وفتحها
466
طلبًا للتخفيف كهنَدات، واتباعها للفاء كهنِدات، وجمِلات، وإن كان معتل العين فالإِسكان ليس إلَّا كدِيْمة، ودُوْلة، فقول: دِيمات، ودُوْلات، وإن كان معتل اللام فحكمه حكم الصحيح ما لم تكن اللام ياءً فلا يجوز إلَّا الاتباع. انتهى.
- و (شهوات) جمع شهوة، وهو معتل اللام، وليست لامُه ياءً فيجوز فيه ثلاثة أوجه: يتفق فيها وجهان يرجعان إلى وجه واحد وهما: اتباع العين الفاء، وفتح العين. ويبقى وجه آخر وهو: الإسكان.
وفي الدرة الألفية ومثل: " خطوة "، و " سدره " أتت في جمعها الفاء ثلاث روايات. وتقديم (النساء) على (البنين) من باب التقديم بالرتبة، والأصالة، وتقديم ذلك على (الذهب والفضة)؛ لأنه أهم.
فإن قلت: في سورة الكهف قدم " المال " فقال: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).
فالجواب: أن آية الكهف اقتضت الحكم بإسناد الزينة بهما إلى (الحياة الدنيا)، ولا شك أن المال في ذلك مقدم؛ لأنه إن كان المال كان الولد معه زينة، وإن لم يكن فالأولاد محنة، وعذاب. وهذه الآية أُسندت الزينة فيها إلى النفس وشهوتها، ولا شك أنها إلى الأولاد، والنساء أميل منها إلى المال، لأنها تبذل المال في تحصيل ذلك، والعطف يدل؛ لأن شهوة النساء عامة التعلق إذ لم يلزم من شهوة البنين شهوة النساء دون العكس.
467
قال: السكاكي: قد يكون في كل واحد من الأمرين صفة تقتضي التقديم لكن يكون أحدهما أهم في مكان فيقدم، وإن أخر في غيره؛ لكون قرينة أخص منه في ذلك، فمنه قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، فتقديم " الأموال " من باب تقديم السبب فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على مؤنته فهو سبب إلى التزويج، والنكاح سبب إلى التناسل؛ ولأن المال سبب للتنعم بالولد، وفقده سبب، للشقاء به، وكذلك تقديم النساء على البنين في قوله: (حب الشهوات من النساء والبنين) إلى آخر الآية. إنما أخر ذكر " الذهب " و " الفضة " عن " النساء " و " البنين "؛ لأنهما أقوى في الشهوة الجبلية من المال فإن الطبع يحث على بذل المال لتحصيل النكاح، والولد. قال الشاعر:
لولا بُنيَّات كزغب القطا... رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بنينا... أكبادنا تمشي على الأرض
والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبلية، والبنون أقعد من الأموال، والذهب أقعد من الفضة، والفضة أقعد من الأنعام، أو وسيلة إلى تحصيلها، فلما صُدِّرت الآية بالأهم، وكان المحبوب مختلف المراتب، اقتضت حكمة الترتيب أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، انتهى.
468
- (والقناطير المقنطرة). كناية عن المال الكثير، وقيل: إن المال الكثير قسمان: مال تكون كثرته نادرة، وهو القنطار. ومال تكون كثرته غالبة، وهو ما دون ذلك.
فإن قلت: بَقِيَ اللِّباس!.
فالجواب أن اللِّباس أمْر حاجيّ ضروري لكل الناس لا تتعلق الشهوة إلّا بأخصه، فليس اللباس كله مزينا.
وأجاب الفخر: بأن اللباس يشترى بالذهب، والفضة فذكْرهما يغني عنه. ويقال: له، وكذلك الخيل المسومة، والأنعام، والحرث تشترى بالذهب، والفضة.
- (ذلك متاع الحياة الدنيا). إن قلت: أليس هو أيضا متاع الآخرة لمن يتزوج ليكثر سواد المسلمين، وينفق ماله في سبيل الله، ويكسب الخيل للجهاد؟!.
فالجواب: أن الحكم عليه في الآية بأنه متاع الحياة الدنيا معناه: من حيث التزيين، والشهوة.
- (والله عنده حسن المآب). (عنده) تشريف؛ لأن عنده أيضا شرّ المآب.
١٥ - (قل أؤنبئكم...) لما تضمن الكلام السابق تزيين الأمور المذكورة الدنيوية، وتحسينها، قد يُتَوَهم أن يكون لمن يشتهيها، ويحبها عذر في محبته لها، وهجومه عليها، فعقبه بهذا نفيًا لذلك العذر، وأكده بثلاثة أمور:
الأول: لفظ " النبأ "؛ لأنه أخص من الخبر؛ لاقتضائه غير آية الخبر كما قالوه في قوله: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَأ..).
الثاني: دخول أداة الاستفهام تنبيهًا للمخاطب، واستحضاراً لذهنه؛ ليفهم ما يلقى له.
الثالث: لفظ (قل) مع أن القرآن كله هو مأمور بتبليغه للناس، فهو دليل على الاعتناء بالمبلَّغ، وتعظيم أمره. وذِكر لفظ (الرب) مناسب: إشارة إلى أن هذا الثواب تفضل من الله تعالى ليس باستحقاق بوجه.
وقول أبي حيان: لا يصح كون (خير) فعلًا لئلا يكون بعض ما بَقيَ خير منه، بناءً على أن (مِن) للتبعيص، وهي محتملة للسببية أي: بخير سببه ذلك المتقدم، وقد تقدم تقرير السببية، وهو توهم العذر مُظْهِرة حبًّا.
١٦ - ومعنى (الذين يقولون..) الزمخشري: (الذين) نَصْب على المدح، أو رَفْع، ويجوز الجر صفة للمتقين، أو للعباد. انتهى.
470
كونه صفة للعباد لا يتقرر مع قوله هو، وابن عطية في قوله تعالى: - (واللَّه بصير بالعباد) إنه وعد، ووعيد فكيف يوصف العباد بهذه الصفة وهم قائلون للأمرين؟!.
فاختلف أهل السنة، والمعتزلة في القول هل هو حقيقة في النفسي مجاز في اللساني، أو العكس، أو مشترك؟.
471
فإن قلت: الخطاب للَّه تعالى، وهو عالم بكل شيء فلِمَ أكدوا إيمانهم بـ (أن)؟!./
فالجواب أن المخاطب إذا لم يكن مُنْكِرًا، ولا ظهرت عليه مخايل الإِنكار، وبموضع الخطاب من ينكر فإنه يؤكد.
فإن قلت: لمَ عبر عن قولهم بالمضارع فقال: (الذين يقولون) وقال: وقيل: (للذين اتقوا..) بلفظ الماضي؟.
فالجواب: أن المطلوب تحصيل التقوى فأتى بها بصيغة المضي إشعارًا بتأكد الأمر بها، والمبادرة إلى فعلها كأنها واقعة. والدعاء المطلوب أسند: لأمته لكثرة الذنوب فهو مأمور بتكرر الاستغفار منها في كل وقت. وأيضا فالإِيمان وقع منهم في الماضي لقولهم: (آمنا)، ونقول التقوى هي تفسير الإِيمان.
واختلف القرويون: هل يجوز أن يقول الإِنسان: " أنا مؤمن، أو لابد أن يضيف إلى ذلك " إن شاء الله "؛ لأنه لا يقطع بحقيقة إيمانه.
والآية تدل على الأول؛ لأنها أتت في معرض المدح لمن قال هذه
472
المقالة، والمدح على الشيء يدل على جوازه، ومذهب ابن سحنون، وابن عبدوس جواز ذلك من غير استثناء، وحُكي عن الركراكي بالقيروان، وكان صالحًا أنه قال: لا أماته الله على الإِسلام إن كان يعتقد أنه مسلم.
فسُئل عن ذلك سيدي أبو عبد الله بن سلامة فقال: يريد اعتقاد أنه كامل الإِسلام، وأمّا الإِسلام فلا شك في حصوله.
وقال غيره: أرادها في الحديث: " المسلم من سلم الناس من لسانه
473
ويده ". وقال ابن بطال في أوائل " شرح البخاري "، وجماعة يرون
الاستثناء، وهو قول ابن عبد الحكم، وحمديس، وابن عبدوس، وأحمد بن صالح الكوفي. قال أبو عبيد وجماعة من الفقهاء: يأتون به من غير
474
استثناء منهم أبو عبد الرحمن السُلَميِّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التميمي، وعون بن عبد الله، ولما عَرّف عياض في " المدارك " لمحمد بن سحنون قال: لا يستثنى في مسألة الإِيمان، وخالفه ابن عبدوس، وغيره، وكان يقول: " أنا مؤمن " عند اللَّه، وأنكره ابن عبدوس، وأصحابه، وأهل مصر، والمشرق، وتُكلم بذلك بمصر في حلقة أبي الذكر الفقيه
475
فأنكروه، فقال أبو الذكر: وعندنا فرقة بالمغرب يقال: لهم السحنونية تقول: ذلك، وكان ابن سحنون يقول: المرء يعلم اعتقاده فكيف يعلم أنه يعتقد الإِيمان ثم يشك فيه، ، وكان أصحابه يسمون من خالفهم الشكوكية لاستثنائهم.
قال القاضي عياض: وهذا خلاف لفظي لا حقيقة فمن التفت إلى مغيب الحال، والخاتمة، وما سبق به القدر. قال: بالاستثناء. ومن التفت إلى حال يقينه، وصحة معتقده في ذمته لم يقل به. ثم نشأ بينهم بعدُ اختلاف آخر بعد ثلاثمائة سنة في القول في الغير هل يقال: هو مؤمن عند اللَّه أم لا؟. وجرى فيه بين ابن التبان وابن أبي زيد، والشبيبي، وأبي
476
ميسرة، والداودي " زحوف، والصحيح قول ابن أبي زيد: إن كانت سريرتك مثل علانيتك فأنت مؤمن عند الله زاد الدوادي " وختم لك بذلك. وأما ابن التبان، وغيره فأطلقوا القول " بأنت مؤمن ".
477
١٧ - (الصابرين والصادقين). قدم الصبر؛ لأنه رأس الإِيمان، رأس كل عبادة؛ لأنه حبس النفس على المشاق، وما تأتي العبادة إلا بالصبر ثم عقبه بالصدق؛ لأن الإِنسان قد يحبس نفسه على المشاق رياءً، وسمعة فأخبر أنهم صادقون في صبرهم ثم عقبه بالقنوت، وهي العبادة القاصرة ثم عقبه
478
بالعبادة المتعدية، للغير وهي الإنفاق في الزكاة، وصلة الرحم وغير ذلك، وأيضا فالصدقة برهان ودليل على صحة ذلك كله، فلذلك أخرها بعدُ كمن يذكر المسألة، وحكمها ثم يذكر بعد ذلك دليلها ثم عقبه بالاستغفار. قال الزمخشري: والواو المتوسطة بين الصفات، للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها. وقول أبي حيان: لا يُعْلم ذلك في عطف الصفات.
يردّ بأن هذا ليس من علمه، وإنما هو من علم البيان، وقالوا: فيه عطف الصفات يقتضي ذلك. وقول ابن عطية: الصدق في القول، والفعل، هو بناء على استعمال اللفظ في حقيقته، ومجازه لأنه حقيقة في القول.
479
١٨ - (شهد اللَّهُ..). وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق الثناء على المؤمنين بوصف الإِيمان، والصبر، وما عُطِف عليه عَقْبه ببيان أن السبب الحامل لهم على ذلك ليس هو أمرًا غميضًا خفيًا بحيث يخفى على غيرهم، بل هو أمر جلي واضح فأخبر بهذه أن الله تعالى نصب الدلائل الدالة على وحدانيته، وعَلِمَها الملائكة، والأنبياء، والعلماء فاهتدوا بها إلى الإِيمان، وشرائطه.
- و (شهد) هنا بمعنى أعلم. والشهادة يراد بها التحمل، ويراد بها الإِعلام، وهو المعبر عنه في غير هذه بالآداء.
وقال أبو عبيدة: (شهد اللَّهُ) معناه: قضى، وحكم.
وقال ابن عطية: وهذا مردود من جهات. انتهى؛ لأن الحكم أمر جعلي، والتوحيد عقلي، ولا يصح تفسيره، ولأن الشهادة ليست بعض الحكم بالشيء، بل هي سبب فيه، وموجب له، فهي غيره، وأيضا فتعلق الحكم حادث لا يقال: حكم فلان بأن (لا إله إلا هو)؛ ولأن لفظ: " الشهادة بعيد من لفظة " القضاء "، ولا علاقة بينهما تبيح الإطلاق المجازي بوجه.
- (قائمًا..) في إعرابه وجهه أحسنها عند الزمخشري: أنه. منصوب على المدح، أو صلة لقوله: [(لا إله إلا هو)]، وتعقبه أبو حيان بأن فيه
480
الفصل بأجنبي، وهما المعطوفان، وليسا معمولين لشيء من جملة (لا إله). وَيرِدُ عليه أيضا المفهوم أن ثم (إله) غير قائم بالقسط، وهو محال.
فإن قلت: ما أفاد تكرار (لا إله إلا هو)؟.
فالجواب: من وجهين:
الأول: أن المذكور أولًا كالمقدمتين.
والثاني: كالنتيجة لا سيما على تفسير الزمخشري.
فنقول المراد: أن الله تعالى أعلم بذلك بنصب الدلائل الدالة عليه فعلمها الملائكة، والعلماء كعلمهم بالمقدمتين، ثم لما علموا تلك الدلائل وتحققوها حكموا بأن " لا إله إلا اللَّه ".
الجواب الثاني: أنه كرره لقوله (العزيز الحكيم) أي: تيقنوا ذلك بهاتين الصفتين. وعبر عنه الفخر بعبارة لا تفي بهذا المعنى فقال: الأول أتوا به على معنى الشهادة، والثاني: إخبار بما في نفس الأمر، أو كما قال.
481
وانظر: أسئلة ابن السِّيد فله في هذه الآية كلام حسن.
١٩ - (وما اختلف..)، لمَّا تقدَّم ذكرُ الوحدانية؟ والثناء على من آمن عَقْبَه ببيان أن كفر من كفر لم يكن لشبهة عرضت، ولا لخفاء الدلائل، ولا لغموض المعجزة، بل لمجرد البغي، والعناد. وقال البيانيون: إن ذكر المحكوم عليه مع الحكم يكون لأحد ثلاثة أمور:
إما: لمطلق البيان كقولك: " أكرم زيد بن عمرو " أو للإِعلام باستحقاقه له، وهو الذي عبر عنه الأصوليون بقولهم: ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يشعر بأنه علة فيه كقولك: " أكرم المحسن إليك "، وإما لبيان مناقضته له كقولك: " أكرم من أساء إليك "، والآية من هذا القسم؛ لأن مجيء العلم لهم موجب للاتفاق على الإِيمان فجعلوه هم موجبًا؛
للاختلاف، وهذا من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح.
- (فإن اللَّه سريع الحساب). لازمه هو جواب الشرط أي: فإن الله يعاقبه سريعًا، وأما مدلول اللفظ فثابت في نفس الأمر آمن، أو كفر.
٢٠ - (حاجوك..) بدأ أولًا بالمحاجة، والحجّة الدليل الصحيح الصدق بالنسبة إلى دعوى المدعي.
- (فقل أسلمت). إمَّا متاركة، وإعراض عنهم كما يقول الفخر: هذا تشكيك في البديهيات، والضروريات فلا يستحق جوابًا. فمحاجتهم له مباهتة في أمر بديهي، وإما مناظرة أي: فقل: أنتم مشتغلون بدنياكم، وأنا أسلمت قصدي للَّه، وما حقكم أن تحاجوني في هذا فإنني ما أتيت بما هو غريب، فلا نسلم وجهي إلى مشاركتكم في شيء من أمور دنياكم.
483
فإن قلت: هلا قيل: " وقل لهم " كما قيل (فإن حاجوك).
فالجواب: أن المحاجة إنما تقع من رؤسائهم، فلو قيل: وقل لهم لكان خاصًّا بهم دون غيرهم، وهو مأمور بأن يقول: ذلك، للجميع، وهذا السؤال إنما يَرِدُ على أن قوله: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوا الكتاب) عام فِي اليهود، والنصارى باتفاق.
- (فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا..). هذه الآية تدل على (إن) بمنزلة " إذا " بدليل المعاندة بينهما فهما إما متساويان أو أحد الأمرين أرجح فقد دخلت (إن) إما الأولى أو الثانية على الأرجح، وهذا خلاف قولهم إن كلمة (إن) لا تدخل إلَّا على ما ليس بمحقق الوقوع مما هو ممكن، أو مما يفرض وقوعه، وليس بممكن بخلاف " إذا ".
- (فإنما عليك البلاغ). الحصر هنا بحسب السياق فيما بينه، وبينهم أي: فلا يلحقك ضرر من أجلهم (إنما عليك البلاغ) فلا تكون منسوخة بآية السيف كما فهم ابن عطية؛ لأنه على ما قررنا لا منافاة بين حصر أمره
484
بالتبليغ، وبين أمره بقتالهم.
٢١ - (بغير حق..). قال الزمخشري: في سورة البقرة آية: ٦١،: قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق فما أفاد ذكره؟!.
وأجاب: بأن المراد أنهم لم يستندوا في قتلهم إياهم لشبهة بوجه، وإنما ذلك عناد منهم.
فإن قلت: لمَ نكَّر " الحق " هنا، وعرّفه في البقرة؟.
فالجواب أن هذه نزلت قبل آية البقرة كجواب الزمخشري في (رب اجعل هذا بلدًا آمنًا).
وأجاب ابن الزبير: بأن هذه في متقدمي بني إسرائيل كلهم كانوا
485
كفارًا لم يؤمن منهم إلا القليل فناسب التنكير المقتضى؛ " للعموم، وآية البقرة في معاصريه عليه السلام، وآمن منهم كثير فناسب التعريف المقتضى للخصوص ".
- (ويقتلون الذين يأمورون بالقسط). إذا طُبقت على سبب نزولها على ما حكى ابن عطية كان فيها دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضدّه؛ لأن ابن عطية نقل حديثًا أنهم " قتلوا ثلاثة وأربعين نبيًا فاجتمع من عبادهم وأحبارهم مائة وعشرون، ليغيروا وينكروا عليهم فقتلوهم أجمعين " فعّبر في الآية عن النهي عن المنكر بأنهم آمرون بالقسط، ووجه ذلك أن امتثال النهي عن المنكر أشد على النفوس من امتثال الأمر بالقسط فإذا كانوا يقتلونهم من حيث اتصافهم بالإنكار فيما هو أخف عليهم، فأحرى أن
486
يقتلوهم من حيث اتصافهم بالأشد.
٢٢ - (أولئك) الإِشارة بلفظ البعد، للقريب للتعظيم في المدح، أو الذم.
وقال الطيّبي: إمّا للتعظيم مثل (فذلكن الذي لمتنني فيه)، أو للإبعاد كهذه الآية.
- (وناصرين). جَمْعُه بمعنى التوزيع أي كل واحد ليس له ناصر.
٢٣ - (وهم معرضون). إما أن المراد: وحالهم، وشأنهم الإِعراض بدليل إتيانه بلفظ الاسم، والأول بلفظ الفعل، أو المراد: أنهم يتولون عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، ويعرضون عن الإِيمان.
ابن هشام المصري: عطف الجملة الاسمية على الفعلية، وبالعكس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الجواز مطلقًا، وهو المفهوم من قول النحويين في باب الاشتغال في مثل: " قام زيد وعمرو أكرمته " إن نَصَب "عمرو " أرجح؛ لأن تناسب الجملتين المتعاطفتين أولى من تخالفهما.
الثاني: المنع مطلقا حكى ابن جنيّ، ويلزم إيجاب النصب في مسألة
487
الاشتغال السابقة إلا أن تجعل الواو للِاستئناف.
الثالث: لأبي علي يجوز في الواو فقط نقله عنه أبو الفتح في " سرّ الصناعة "، وبنى عليه مَنْعَ كون الفاء في " خرجتُ فإذا الأسد حاضر " عاطفة.
وأضعف الثلاثة القول الثاني وقد لهج به الرازي في تفسيره، وذكر
488
في كتابه في " مناقب الشافعي " - رضي الله عنه - أن مجلسًا جمعه، وجماعةً من الحنفية، وأنهم زعموا أن قول الشافعي: " يحل أكل متروك التسمية " مردود بقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أالأنعام: ١٢١،.
قال: فقلت: لهم لا دليل فيها، بل هي حجة للشافعي، وذلك أن الواو ليست، للعطف لتخالف الجملتين الاسمية، والفعلية ولا للاستئناف؛ لأن أصل الواو أن يرتبط ما بعدها بما قبلها فبَقِي أن تكون للحال، فتكون جملة الحال مقيدة للنهي، والمعنى لا تأكلوا منه في حالة كونه فسقًا، ومفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقًا. والفسق فسَّره الله تعالى بقوله: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ). فالمعنى لا تأكلوا منه إذا سُمي عليه غيرُ الله، ومفهومه كلوا منه إذا لم يُسمَّ عليه غيرُ اللَّه ".
ْانتهى ملخصا موضحًا. ولو أبطل العطف بتخالف الجملتين بالإِنشاء، والخبر لكان صوابا.
489
٢٤ - (معدودات). وقال في البقرة: (معدودة) آية: ٨٠، بالإِفراد فالجمع بناء على أن كل يوم منها موصوف بكونه معدودًا، والإِفراد بناء على أن المعدود مجموعها، لا يقال: يلزم على هذا كون الواحد معدودًا وهو ليس بعدد؛ لأن ذلك في اصطلاح أهل الحساب، وما مرادنا إلا أنه كقوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة)، بالإِفراد إشارة إلى أن تلك الأيام قليلة، والجمع إشارة إلى أن كل يوم منها في نفسه موصوف بالقلة، والقصر فهو أبلغ من وصف جميعها بالقلة، وأشار إليه الزمخشري في سورة البقرة، وأيضا فاليوم، وإن كان واحدًا باعتبار وصف اليومية فهو متكثر متعدد باعتبار أزمنته، وساعاته.
٢٦ - (قل اللهم مالك الملك..). إن أريد ب (الملك) العلم يتعلق ولا يؤثر فهو عام، وإن أريد به التأثير وهو القدرة فيمتنع حمله على العموم؛ لأن " الملك " الذي يشتق منه " مالك " لا يدخل فيه.
- (وتنزع الملك) وَضَع الظاهر موضع المضمر؛ لأن النزع يقتضي سَبْقِيْة
490
الإِتياء للشخص المنزوع منه، وإن اعتبرته بصفة كان غير الأول أي: تؤتي الملك من تشاء من حيث كونك مقبلًا عليه، أو محسنًا إليه (وتنزع الملك ممن تشاء) من حيث كونك غير مقبل عليه، أو غير محسن إليه.
(وتعزُّ من تشاء). انظر ما ذكره الفخر فهو لا يتم؛ لأنه فرق بين العزة
491
القديمة، والحادثة، وقد قال الفقهاء فيمن حلف بعزة اللَّه إن أراد الحادثة لم يحنث، وإن أراد القديمة حنث.
٢٧ - (تولج الليل في النهار..) ابن عطية معناه: ما ينتقص من النهار يزاد في الليل، والعكس في كل فصل من السنة. انتهى. بل ذلك في كل يوم لكن عبر ابن عطية بما يفهمه العوام ونقص كل يوم وزيادته إنما يفهمه العلماء.
ولذلك كان بعضهم يقول: إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام، وألفاظ يفهمها الخواص، وعلى ما يفهمه الفريقان وهو شأن الكلام الوجيز البليغ، ومنه هذه الآية؛ لأن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلا الخواص، والفصول التي يدركها العوام، وكذلك المخلوقات تدرك العوام دلالتها على خالقها بتغيرها الحسيّ، وهو الإحياء، والإماتة ونحوهما، وبروز الثمرة، والنبات حالتي الوجود، والعدم، ويدرك العالم وجه دلالتها بأدق من ذلك من جهة أن العرض لا يبقى زمانين فلابدّ للجوهر في كل زمن من عرض يخلقه الله فيه. والآية دالة على أن النهار متقدم على
492
الليل؛ لأن المُولَج فيه ظرف للمُولج، والظرف سابق على المظروف، وتدل أيضا على بطلان مذهب من زعم أن الفضلة الفجرية ليست من الليل، ولا من النهار؛ لأن الإِيلاج يقتضي اتصال المُولج بالمُولج فيه من غير فاصل بينهما فلو كان هناك زمن ثالث فاصل بينهما لما تصور إيلاج أحدهما في الآخر ولزم أن يكون النهار مولجًا في الفضلة التي تليه، والفضلة مولجة في الليل، والليل مولج في الفضلة، والفضلة مولجة في النهار، وذلك مصادم للفظ الآية إلّا أن يجاب بأن الآية لا حصر فيها، ولا تنافي كون الفضلة مُولجة أيضا مع إيلاج أحدهما في الآخر، أو يقال: إيلاج بعض الفضلة في أحدهما يُعدُّ إيلاج أحدهما فيما يستلزم إيلاج أحدهما في الآخر، ولا يتقرر قياسًا من الشكل الأول؛ لعدم تكرار الوسط.
قيل: وفي الآية رد على " قول " المنجمين باستواء زمني الليل، والنهار في وسط الأرض، وهو موضع خط الاستواء.
وقولهم: إن بعض المواضع يكون فيها النهار دائمًا، وبعضها يكون الليل دائمًا على ما اقتضته الهيئة عندهم.
وأجيب بوجهين:
الأول: أن تلك المواضع خالية لا عمارة فيها، والآية خطاب لنا فيما نشاهده، وتتعلق به الأحكام، والخالي لا تكليف فيه.
493
وردّ بأن وسط الأرض معمور باتفاق، واختلفوا فيما بعد خط الاستواء من جهة الجنوب، ومذهب بطليموس أن العمارة فيه بقدر ست عشرة درجة من الفلك.
الثاني: الآية مطلقة فتصدق بصورة. وُردَّ بأنها مطلقة في الإِيلاج لا في لفظ الليل، والنهار؛ لأنه معرّف بـ (أل) فيعم.
- (وتخرج الحي من الميت). ابن عطية: قيل: الميْت بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات، ومشددًا يستعمل فيهما. انتهى.
عادتهم ينتقدون على الشاطبي قوله:
وميْتًا لدى الأنعام والحجرات خُذْ [وما] لم يمت للكل جاء مثقلًا
فيردون عليه بقوله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميْت)، مع أن فيه الخلاف قال في " التيسير ": ما كان قد مات، فثقَّله نافع، وحمزة، وحفص، والكسائي،
494
وخففه الباقون. قال مكي: ما لم يمت، فهو مشدّد باتفاق لم يختلفوا فيه، ولم يختلفوا في تخفيف ما هو نعت لما فيه هاء التأنيث.
- (وترزق من تشاء). استدل بها المعتزلة. على أن الرزق إنما يطلق على الحلال؛ لأنها خرجت مخرج الامتنان، ولا يكون إلّا بالحلال.
ويجاب بمنع كونها للامتنان، بل للإِخبار بكمال قدرة اللَّه تعالى، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
- (بغير حساب). أي: تفضلا منك.
فإن قلت: قوله: (من تشاء)، يدل على تخصيص الرزق بالبعض دون البعض، فما الجمع بينه، وبين قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على اللَّه رزقها) سبق تخريجها.
فالجواب: أن المشيئة هنا قيدت بقوله: (بغير حساب) فبعض الناس يرزقه الرزق الكثير، وبعضهم يقدر عليه رزقه كما قال: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا..).
495
ابن عطية: هذا هو معنى التجريد " انتهى.
قال صاحب " المثل السائر " وهو ابن الأثير ما نصه: التجريد إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد نفسك من جردت السيف إذا نزعته من غمده، وله فائدتان:
طلب التوسع في الكلام، وتمكن المُخَاطَبْ من إجراء أوصاف مقصودة له من مدح، وغيره على نفسه، وهو قسمان: محض، وغير محض. المحض: أن تأتي بالكلام خطاب: لغيرك تخاطب به نفسك فتكون جردت الخطاب عن نفسك لغيرك، وأنت تريد به نفسك كقوله:
496
إلَامَ يراك المرءُ في زِيِّ شاعر وقد نَحَلْت شوقًا فروعُ المنابر
كتمت بصيت الشعر علما وحكمة ببعضها ينقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير إنك فارس الـ مقال ومحْي الدَّارِسات الغَوَابر
وَإنَّك أعييت المَسَامِع والنُّهَى بقولك عمَّا في بطون الدَّفاتر
فأجرى الخطاب على غيره، وهو يريد نفسه ليتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة.
الثاني: غير المخص: وهو خطاب لنفسك لا لغيرك، ولئن كان بين النفس، والبدن فرق إلَّا أنَّهما كأنهما شيءٌ واحدة لعلاقة أحدهما بالآخر، وبين هذا القسم، والذي قبله فرق ظاهر، وهو أولى بأن يسمى تجريدًا. وهذا هو نصف تجريد؛ لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئًا بل خاطبتها كأنك فصلتها عنك وهي منك كقوله:
أقول لها وقد جَشَأَت وجَاشَتْ مكانكِ تحمدي أو تستريحي
قال: وَمثَّل أبو علي الفارسي التجريد بقولهم: " لئن لقيت فلانًا لتقلينَّ منه
497
الأسد "، " ولئن سألتَه لتسألنّ منه البحر " وهو عينُه الأسدُ، والبحر، فاعتقدوا أن فيه معنى كامنًا جردوه منه، وأبطله ابن الأثير، وقال: ليس بتجريد، وإنما هو تشبيه أي " لتلقينَّ منه كالأسد " " ولتسألن منه كالبحر ".
وأجاب صاحب " الفلك الدائر ": بأن هذا خلاف في التسمية، فيقول الفارسي: ومن أنبأك أن التجريد ما قلت أنت، فلعله ما قلت أنا فكما سميت أنت ذلك تجريدًا أسمي أنا " هذا " كذلك ". انتهى.
فانظر كلام ابن عطية ما يوافقه من القولين المذكورين.
٢٨ - (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء). أتى النهي هنا بلفظ: الغَيْبة، وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) بلفظ الخطاب؟
وقالوا: النهي بلفظ الغَيْبة أشد، وأبلغ، وهذا اللفظ يحتمل أربع معانٍ على استواء. إما اتحاد مجموع المؤمنين لمجموع الكافرين، أو اتحاد كل فرد لكل فرد، أو المجموع لكل واحد، أو العكس.
ابن عطية: هذا النهي إنما هو فيما يظهره المرء فأما في النية فلا يفعله مؤمن ". انتهى.
498
قال شيخنا: يريد الميل إليهم بالنية، وأما المحبة الجبلية بسبب القرابة فمعفو عنها إذ لا يستطاع دفعها، وقرُئ شاذا: (لا يتخذُ) بالرفع.
وإنما يجيء تأويل ابن عطية على قراءة الخَفض، لأنه نهي خوطب به المؤمنون، ومن مال إليهم بقلبه لم يدخل تحت الخطاب؛ لأنه غير مؤمن، وأما على قراءة الرفع فيتناول ذلك اتخاذهم أولياء في الظاهر، والميل إليهم بالقلب، ومعناه: لا يصدر ذلك من المؤمنين.
- (من دون المؤمنين). ذكر ابن عطية فيه تأويلات، ويظهر فيه تأويل آخر نظير ما تقدم في قوله: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) فانظره.
499
وذُكر عن يحى بن أكثم أنه كتب إلى الرشيد وقد أدنى يهوديًا:
يا مَلِكاً طاعتهُ عصْمة... وحُبْه مفترض واجب
إن الذي شرفت من أجله... يَزْعُم هذا أنه كاذب
فأبعد اليهودي، ونبذه.
- (إلا أن تتقوا..). ذكر ابن عطية هنا وجوه الإكراه وبماذا يكون.
قال شيخنا: وكان الشيوخ يحكون في باب الإِكراه عن بعض فقهاء المشارقة
500
أنه أودع عنده بعض الأمراء وديعة فأتى أمير آخر وطلبها منه، فأنكرها، وأبى أن يحضرها فقال له: أحضرها " والك ". فأحضرها بحضرة العدول، فأشهدهم على ذلك، وُعدَّ ذلك القول منه إكراها.
- (ويحذركم اللَّهُ نفسه). اختلف الأصوليون هل يطلق على ذات الباري تعالى نفس أم لا؟!. واستدل من أجاز بقوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ).
وأجاب المانع بأن المراد: " ولا أعلم ما في نفسي "، الإِضافة على معنى الملك، والخلق، والاختراع أي: ولا أعلم في نفسك التي خلقتها واخترعتها وهي ذاتي.
٢٩ - (قل إن تخفوا.. ). إن قلت: هذا يردّ على ابن عطية في حمله الولاية على الأمر الظاهر دون الباطن.
501
فالجواب: أن ثبوت الولاية في الظاهر فرع عن تقررها في الباطن.
وفي الآية سؤال وهو أنه إذا اجتمع لفظان أحدهما يستلزم الآخر، ويدل عليه - اكْتُفِي بذكر الدال عن ذكر الآخر، فإن ذُكِرَ معا بُدِئ بالمدلول، وأُخر الدال عليه فِرارًا من التأكيد، وجاء قوله: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة..)، على خلاف هذا الأصل، وكذا هذه الآية، فما أفاد (أو تبدوه)؟!. فكان الأشياخ يقولون: إن ابن زيتون كان يقول: المراد المبالغة في بيان أن علم اللَّه متعلق بجميع الكائنات، فلما قال: (إن تخفوا) دلّ على تعلق علمه تعالى بالخفي مطابقة وبالظاهر التزامًا ثم قال: (أو تبدوه) ليدل على تعلق علمه بالظاهر مطابقة؛ لأن دلالة المطابقة اقوى من دلالة الالتزام إذ هي دالة بالمنطوق، ودلالة الالتزام تدل بالمفهوم.
انتهى.
فإن قلت: لِمَ قدم (إن تخفوا) وجعل (أو تبدوه) تأكيدًا ولو عكس لكان تأسيسًا؟.
فالجواب: أن ذلك ليدل اللفظ دلالتين: بالمطابقة، واللزوم، وذلك أبلغ من دلالته دلالة واحد.
502
وأجيب أيضا: بأنه إشارة إلى مساواة الإخفاء، للإبداء بالنسبة إلى علم الله تعالى.
وأجيب: أيضا بأن حصول المعلومات في الخارج مسبب عن حصولها في الباطن، والسبب متقدم على مسببه وحصول الأقوال في الظاهر مسَّبب عن كونها كانت خفية في الباطن. وذكر الأصوليون أن المتقدم على ستة أقسام: بالذات، وبالشرف، وبالرتبة، وبالزمان، وبالمكان، وبالسبب، وفي الآية سؤال آخر، وهو لِمَ قال: (في صدوركم)، ولم يقل: في قلوبكم؟.
والجواب: أن ذلك ليدل على القلب بالمطابقة، ومعنى (تخفوا) أي تدوموا على إخفائه؛ لأن ما في الصدر قد أخفى، والمراد نوعه لا شخصه؛ لأن العرض لا يبقى زمنين.
(ويعلم ما في السماوات وما في الأرض). كالدليل على ما قبله؛ لأن ما في الصدور من جملة ما في السماوات، والأرض، وكل ما في السماوات، والأرض معلوم لله فما في صدوركم معلوم لله، وهو قياس من الشكل الأول.
503
- (واللَّه على كل شيء قدير). انظر حسن تركيب هذه فإن الوعد، والتخويف إنما يكون بمجموع صفتي العلم، والقدرة فالقادر إذا لم يعلم بمخالفة عبده له لا يعاقبه، وكذلك إن علم، ولم يقدر على العقوبة.
وقول ابن عطية: الشيء في كلام العرب هو الموجود. يَرِدُ عليه أن تعلق القدرة بالموجود يستلزم تحصيل الحاصل إلَّا أن يريد التعلق باعتبار دوام وجوده ثم جعل ابن عطية من أقسام الموجود: الممكن، وإنما يتقرر ذلك على قول ابن سيناء. في صادقية العنوان على الذات أنه بالفعل خلافًا لقول الفارابي أنه بالقوة.
٣٠ - (ويوم تجد.) قيل: العامل فيه (ويحذركم)، وردّه أبو حيان
504
بالتنافر؛ لأن التحذير في الدنيا، والوجدان في الآخرة.
ويجاب: بأنه على حذف مضاف أي: عقابه.
فإن قلت: عقاب مصدر موصول لا يصح إضماره، وإبقاء عمله.
أجيب: بجوازه مع الظرف.
- (محضرا). تأكيد، وإطناب ووهم ابن عطية هنا في قوله بحدوث التعلق، وأشد منه غلطاً الفخر في المعالم الدينية. واختلفوا هل تكتب الحفظة المباحات أم لا؟. وهذه الآية تدل على أنها لا تكتب؛ لأنه تعالى ذكر أولًا تعلق علمه بجميع الكائنات كلها ذوات، ومعان، ومأمورات، ومنهيات ثم ذكر:
أن الخير الواقع يوجد، والشرّ كذلك، ولم يذكر المباح فدل على أنه لا يكتب.
505
الفخر: كيف تجد الأعمال وهي أعراض، والعرض لا تصح إعادته " انتهى. يصح إعادته بمحله الذي كان فيه بناء على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه. و (لو) للتمني.
- (ويحذركم اللَّه نفسه). الزمخشري: (نفسه) هي ذاته المميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم، وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور ". انتهى.
قال شيخنا: هذا يحقق قولهم إنه جاهل بأصول الدين، ويقال: نصف نحوي يُلحن جميع الناس، ونصف أصولي يُكفر جميع الناس، فإنه
506
تناقض في قوله: عالم بعلم ذاتي قادر بقدرة ذاتية؛ لأن أهل السنة يقولون: عالم بعلم قادر بقدرة. والمعتزلة يقولون: عالم لذاته، وينفون العلم، والقدرة.
٣١ - (قل إن كنتم تحبون اللَّه..). ذكر الزمخشري هنا كلامًا لا ينبغي كتبه. وأنكره عليه ابن الخطيب - ومحبة العبد للَّه من الناس من أنكرها - قال: ؛ لأن المحبة هي الميل، والميل يستدعي مُمالًا إليه، وهو من عوارض الأجسام حسبما ذكره ابن الخطيب هنا، وعياض في " الإِكمال "، وغيرهما.
507
ابن عطية: ومحبة الله للعبد أن يجعله مهديًا ذا قبول في الأرض " انتهى. قوله: ذا قبول: وصف كمال فقد تجد من الأولياء من هو غير معروف، وليس له عند الخلق نسبة.
ابن مالك: قد يستعمل مفعول عِوضا عن " مَفْعَل ". قالوا: " محبوب "، ولم يقولوا: مُحَب.
قلت: إلَّا فيما أنشده ابن عصفور:
ولقد نزلتِ فلا تظنى غيره مني بمنزلة المُحَب المُكْرَمِ
قال ابن مالك: لا يستعمل فاعل عوض " مَفْعِل ". قالوا: وَارِس من أَوْرَس الشجر، ولم يقولوا: مَوْرِس، ويافع من أيفع الغلام ولم يقولوا: مَوْفع.
508
٣٢ - (قل أطيعوا اللَّه والرسول..)، وفي آية أخرى، (وأطيعوا الرسول..)، وعدم ذكر الفعل في المعطوف أبلغ لاقتضائه أن طاعتهما شيء واحد كقوله: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللَّه).
٣٣ - (إن اللَّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران).
دلت الآية بالمطابقة على اصطفاء الأول، وباللزوم على اصطفاء إبراهيم، وعمران؛ لدلالة القرينة على أن اصطفائهما كان بسببهما.
فإن قلت: لأي شيء خصّ آل إبراهيم، وآل عمران بالاصطفاء ولم يذكر آل آدم، وآل نوح!.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الآل: هم القرابة، وآدم، ونوح وكل الناس قرابتهم
509
لأنهما أبو البشر بخلاف إبراهيم، وعمران لوجود النسل من غيرهما فلهما على هذا قرابة تخصهما.
الثاني: أن يكون من باب حذف التقابل أي: أن الله اصطفى آدم، وآله، ونوحًا، وآله، وإبراهيم، وآل إبراهيم، وعمران، وآل عمران.
فإن قلت: في آل آدم من ليس بمصطفى. قيل: وكذلك آل إبراهيم، والظاهر أن عمران الأول هو والد موسى، وليس هو أبو مريم إذ لو كان هو لقال: إذ قالت امرأته؛ لأن وضع الظاهر موضع المضمر على خلاف الأصل.
الزمخشري: وقيل: بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة " انتهى.
510
بينهما على ما ذكر الزمخشري من نسبهما جدان خاصة. فهذا يدل على طول أعمارهم.
(على العالمين). أي: عالمي زمانهم من الآدمين فلا يؤخذ منه تفضيلهم على الملائكة.
511
قيل: ألفاظ القرآن من آياته عليه السلام، ومعجزاته الحادثة وهي خلة تحت مسمى العالم؛ لأنها مما سوى الله تعالى فيلزم أن يكون عليه
512
السلام أفضل منها كما قال صاحب البردة:
513
قال شيخنا: لا ينبغي الخوض في ذلك، والتفضيل إنما يكون بين متجانسين، والقرآن كلام الله، والنبيّ ﷺ خَلْقُه. قيل له: فلِمَ تكلمتم على ليلة القدر مع ليلة المولد؟. فقال: كُرْها لا اختيارًا.
514
وحكى ابن الحباب: أن الأستاذ أبا جعفر اللَّبْليِّ سأله ما الأحسن " شَرْحُه للجمل " أو " مقرِّب " ابن عصفور؟. قال: فما تخلصت منه إلا إني قلت: له هذاك تأليف مستقل، وهذا شرح، فذا تأليف، وذا تأليف.
٣٤ - (سميع عليم). السماكي: هذا من نوع التقديم بالرتبة فإن ذلك يتضمن التخويف، والتهديد فبدأ بالسمع؛ لتعلقه بالأصوات، وإن من سمع حسك قد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم، وإن كان علم الله
يتعلق بما ظهر، وما بطن.
٣٥ - (إني نذرت لك ما في بطني..). قال ابن عطية، وابن العربي:
" نذرت بعد أن حملت ".
وقال الزمخشري: قَبْل أن تحمل. والأول ظاهر الآية. ابن العربي: لا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده؛ لأنه لا يملكه فكيف هذا؟.
فأجاب: بأن المرء يريد ولده للأنْس به فطلبت هذه المرأة الولد، لتأنس به فلما منّ الله عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك، وهو على خدمة الله موقوف.
- (فتقبل مني...) حكى ابن دقيق العيد: الخلاف هل القبول أخص من الإِجزاء، أو هما مترادفان، أو متغايران؟. وظاهر كلام الفقهاء أنهما مترادفان بدليل استدلالهم على وجوب الطهارة بقوله صلى الله عليه
وسلم: " لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور "، وعلى أن القبول أخص، فعادتهم يجيبون عن اسْتشْكال استدلال الفقهاء المذكور بأن الإجزاء مجوز للقبول فإجراء الطهارة يجوز قبولها فإذا انتفى القبول انتفى الإجزاء، ولا ينعكس يعني مهما ثبت إمكان القبول ثبت الإجزاء، ومهما انتفى الإِمكان انتفى الإجزاء.
٣٦ - (فلما وضعتها). قيل: (لما) بمعنى حين، وهي لا تعلم هل هي أنثي، أو ذكر إلا بعد الوضع لا حين الوضع.
وجوابه: أن المعني فحين تم وضعها، والضمير عائد على مَعْنيٍّ. وبني
517
أولا على اللفظ، وثانيا على المعنى، وهو الأصح، ، والعكس قبيح.
- (إني وضعتها..) قال عبد القاهر: قد تدخل " إن " للدلالة على أن الظن كان من المتكلم في الذي كان، وكان هو يظن أنه لا يكون، فيكون ردًا على نفسه ظنَّه الذي ظنَّ؛ لأن الظن واقع من المُخاطِب كقولك للشيء وهو بمرأَى، ومَسْمَع من المُخَاطَب: " إنه كان من الأمر ما تَرَى، وأحسنت إلى فلان ثم إنه فعل جَزَائي ما ترى ". فتَجْعَلُك كأنك تردُّ على نفسك ظًنَّك الذي ظننتَ وتُبَينُ الخطَأ الذي توهَّمْتَ، ، وعليه (رب إنِّي وضعتها أنثى)، و (رب إن قومي كذبون).
وقال الزمخشري: قالت ذلك تحسرًا على خيبة رجائها ".
- (وليس الذكر كالأنثى..). ابن عطية: إن قلت: هلَّا قالت: وليست الأنثى كالذكر؛ لأنه إنما ينفي شَبَه المفضول للفاضل لا العكس!.
فأجاب: بأنها بدأت بذكر الأهم في نفسها ". انتهى.
قال شيخنا: إن كان هذا من كلام الله تعالى فلا سؤال، ويكون أخبر
518
تعالى أن الذكر الذي تمنته هي ليس هو كالأنثى التي وضعتها، بل هي أشرف، وأحسن، وإن كان كلامها، وهو الأظهر فإمّا أن تكون قالت: ذلك معترفة أن الله لا يريد إلا الحسن، وأن هذه الأنثى أحسن من الذكر الذي تمنته. وإمّا أن يقول: أنها في مقام الدهش فجعلت ما حقه أن يكون اسمًا خبرًا لدَهَشِها؛ لأن قصدها كان في الذكر.
ابن العربي: قال بعض الشافعية: الدليل على أن المُطَاوِعَة في نهار رمضان لزوجها على الوطىء لا تشاركه في وجوب الكفارة. قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى)، وردّه ابن العربي بوجهين:
الأول: أنه لا خلاف بين الشافعية عن بكرة أبيهم أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا.
الثاني: " أنّا لا نعلم من أصول الفقه الفرق بين الأقوال الواردة بلفظ العموم [وهي] على قصد الخصوص، وبين ما جاء بلفظ العموم مرادًا به العموم أيضا، وهذه المرأة إنما قصدت بكلامها أنها نذرت خدمة الولد للمسجد، ورأته أنثى فاعتذرت إلى ربها من خروجه على خلاف ما قصدت، وقولها: (ليس الذكر كالأنثى) أرادت أن الأنثى تحيض فلا تصلح في تلك الأيام للمسجد. ويحتمل أن تريد أنها امرأة فلا تصلح لمخالطة الرجال.
519
٣٧ - (تقبلها..). وقع الإطناب في الخبر عن القبول من ثلاثة أوجه: لفظ (تقبل) أي: طلب من نفسه قبولها، وذلك يقتضي غاية الاعتناء بها.
وتنكير (قبول)، وتنكير (حسن) للتعظيم أي: قبول حَسَن أي حُسْن.
- (زكريا). إذا كان عجمياً كما قال ابن عطية فلا يبحث عن وزنه، ولا أصله كما قال الزمخشري في التوراة، والإِنجيل تُكلِف اشتقاقهما من الورى، والنجل، ووزنهما بـ " تفعله "، و " إفعيل " إنما يصح بعد كونهما عربيين.
- (وجد عندها رزقاً). الفخر: يؤخذ منه إثبات كرامات الأولياء خلافًا لمن أنكرها ". انتهى. إنما هذا إرهاص لا كرامة والفرق بينهما أن صدور الأمر الخارق للعادة إن كان في زمن النبوة من غير النبيّ أو من النبيّ من غير تحديه، فهو إرهاص، وإلِّا فكرامة.
٣٨ - (هنالك دعا زكريا). هذا الذي طلب زكريا ليس بخارق للعادة، وإنما هو مستبعد؛ لأنَّا قد شاهدنا الشيخ الكبير يولد له، وقد جرى نظيره لأم مريم، فلذلك دعا.
وقال القَرَافي: لا يجوز الدعاء بخوارق العادات.
وقال الشيخ عزّ الدين: يجوز للإِنسان أن يدعو بالولاية، وإن لم يكن أهلًا لها.
وقال شيخنا ابن عرفة: لا ينبغي أن يدعو من ليست فيه قابلية للتدريس، والقضاء بأن يكون مدرسًا أو قاضيًا.
- (قال رب). تفسير لقوله: (دعا).
- (من لدنك). يقتضي كون الذرية حسنة صالحة. و (طيبة تأكيد.
- (إنك سميع الدعاء) من إقامة السبب مقام المسبَّب؛ لأن سماعه للدعاء سبب في الإِجابة، ولا خصوصية توجب تخصيص السماع بالدعاء، بل هو سميع للدعاء ولغيره، فما المراد إلا أنك مجيب الدعاء أي: إني عهدت منك إجابة دعائي، وها أنا دعوتك فاستجب لي، أو أنك معهدي منك إجابة الدعاء المستوفاة فيه شرائطه، وهو الإِخلاص، والخضوع، والإنابة.
521
الزمخشري: أي: يجيب الدعاء.
ابن عطية: (سميع) من سامع ". انتهى. فعلى هذا تكون الألف واللام في (الدعاء) للجنس، وعلى الأول للعهد أي مجيب الدعاء المعهود وهو دعاء الإِخلاص، والتضرع.
الفخر: لا يجوز للنبي أن يدعو إلا بإذن خيفة أن يدعو فلا يستجاب له قاله المتكلمون وهو ضعيف ". انتهى. ووجه ضعفه ما في الصحيح من أن النبي صلى اللة عليه وسلم دعى بثلاثة أمور فاستجيب له، في اثنين، ولم يستجب له في الثالث.
522
٣٩ - (فنادته الملائكة..). يؤخذ منه جواز نداء المصلي، وإعلامه بما يستبشر به بما فيه عبادة أو مصلحة دينية كهذه.
فإن قلت: لعل الصلاة هنا الدعاء!.
فالجواب: أن المحراب، والقيام قرينة في أن المراد الصلاة الشرعية؛ ولأنه إذا تعارض حمل اللفظ على حقيقته الشرعية، أو على حقيقته اللغوية فحمله على الشرعية أولى.
قال شيخنا: وكان بعضهم يحكى أنه رأى الملائكة، وأن الكلام وقع منهم له، فأنكره عليه بعض علمائنا بأصول الدين، وقال: كذب؛ لأن الملك إنما يكلم نبيًا أو رسولاً فرد عليه ابن عبد السلام بحديث مسلم في " كتاب الزهد " في الثلاثة الذين أحدهم أقرع، والآخر أعمى، والآخر فقير كلمهم الملك.
523
وأخرجه أيضا البخاري في " كتاب بدء الخلق ".
قلت: وأخبرني الشيخ العابد الزاهد الصالح أبو فارس عبد العزيز البسيلي، وهو عم والدي رحمهما الله تعالى أنه كان عند صلاته بالليل، وكان كثير التهجد تأتي إليه الملائكة في صفة طيور كبار ويسلمون عليه " سلام عليكم " ذكر لي ذلك قرب وفاته رحمة الله تعالى عليه.
- (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى). في هذا، ونحوه ردّ على ابن عصفور فإن صاحب
524
" الجمل " لما قال: والحدث: المصّدر، وهو اسم الفعل، والفعل مشتىّ منه ".
قرر ابن عصفور ما يلزمه من التناقض بأن هذا الاسم بعد المسمى. وفي هذه الآية سمى هذا ب (يحيى) قبل أن تحصل النطفة في الرحم، وقد سمى الله نبيه بمحمد قبل أن يوجد.
وجوابه: أن الغالب هو ما ذكره ابن عصفور، وإن هذا على سبيل الفرض، والتقدير أي: على تقدير تقدم وجود صورته.
- (مصدقًا). ابن عطية: حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة، والسلام. انتهى. يريد أنه لا يكون النبيّ إلا مصدقًا. ويحتمل أن تكون مبينة؛ لأنه ما صدق حتى جرى سبب التصديق، لأنه لم يصدق بعيسى حتى أخبرته به الملائكة فإذا أُخبر " الخبرَ " النبيُّ بذلك أصدق بلا شك، وإن لم يُخْبر به فإنه لا يصدق ولا يكذب.
فإن قلت: الفرض أنه صدَّق به أولًا؛ لأن الملائكة أخبرته بذلك، في البطن بدليل أن ابن عطية قال: روى ابن عباس: " أن امرأة زكريا قالت
525
لمريم وكلٌ منهما " حامل ": " إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك، وفي رواية: يسجد له ".
فالجواب: أنه وإن صح هذا فمرتب على الوحي، والإِخبار بصحة نبوة عيسى، وليس التصديق مخلوقًا في المُصَدِّق بالطبع بخلاف قولك: " الحق مصدقًا ". فإن الحق لا يكون إلا مصدقا.
- (وسيدًا). كَرِه في " العتبية " الدعاء بـ (يا سيدي). وحكى ابن رشد فيه قولين، وتكلم ابن عطية هنا في معاوية، وأبي بكر، و " عمر " بكلام صعب لا ينبغي نقله، ولا يحل اعتقاده.
- (وحصورًا). الظاهر أن ذلك اختيار منه؛ لأنه نقص في الخلقة؛ لأنه
526
عيب ينزه عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد قال القاضي عياض في " الشفاء ": إن الإِكثار من النكاح وصف كمال. وما ذكره ابن حزم في " النحل والملل " في ذلك الرجل النكَّاح السفَّاح، وذمه إنما هو، لأن ذلك كان منه لمجرد الشهوة البهيمية، وأمّا الإِكثار منه بغير تكثير النسل، والذرية في الإِسلام فلا ذمّ فيه.
ابن العربي: الصحيح قول من قال: أن الحصور هو الذي يكف عن النساء عن قدرة منه؛ لوجهين:
أحدهما: أنه مدحه، وأثنى عليه بذلك، والمدح إنما يكون على الفعل المكتسب دون الجَبليِّ في الغالب.
الثاني: أن (حصورًا) " فعول "، وبناء " فعول " في اللغة من صيغ الفاعلين، قال: وإذا ثبت هذا ف (يحيى) كفَّ عن النساء عن قدرة منه في شرعه. فأما شرعنا فالنكاح رُوِي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " نهى
527
عثمان بن مضعون عن التبتل "، قال الراوي: ولو أُذن لنا فيه لاخْتصينا ". ولهذا بالغ قوم فقالوا: النكاح واجب، وقصر آخرون فقالوا: مباح، وتوسط علماؤنا فقالوا: مندوب: والصحيح أنه يختلف باختلاف حال الناكح والزمان، وقد بيناه فِي سورة النساء ". انتهى.
والبشارة بكل وصف من هذه الأوصاف على حِدَتِه لا بالمجموع
والحكم على شيئين تارة يعتبر فيه كونهما مجتمعين، وتارة يراعى فيه كل واحد على حِدَته مثل: " لا تأكل سمكًا، وتشرب لبنا ". ومن كلامهم:
528
" اللهم ذئبًا وضبعًا "، فإن الذئب وحده، أو الضبع وحده مع الغنم يضرانها فإذا اجتمعا اشتغل بعضهما ببعض فلا يضرانها.
٤٠ - (قال ربِّ..). هذا انتقال من خطاب الملائكة - لخطاب الله تعالى كقول إبراهيم لجبريل لما رُمي في النار وقد قال له: ألك حاجة؟.
فقال: أما إليك فلا.
وأخطأ الفخر هنا في قوله: إن المراد بالربّ: الملَك، ولذا قال الزمخشري في مريم: ومن بدع التفاسير أن قولها: (يا رب) نداء لجبريل بمعنى: يا سيدي.
529
الفخر: كيف دَعا أولًا بالولد ثم استبعد ثانيًا أن يكون له ولد؟!.
فأجاب بأوجه، وذكر ابن عطية هنا كلامًا خَلِقا لا يليق بالأنبياء، ولا يحل نقله.
وقد يجاب: بأن هذا تحقيق لزيادة الولد لكن لأجل الموانع التي فيه اسْتبْعد كون الولد من صلبه، وعرض له شك ضعيف، واحتمال مرجوح.
فقال: لعله من ذرية بعض قرابتي فسأل مستبعدًا كونه له، وقد يكون ظاهر الكلام شيئًا، وباطنه غيره كقول نوح عليه السلام: (قال رب إن ابني من أهلي). (قال يا نوح إنه ليس من أهلك).
530
أي الناجين، وإلا فقد عُلِم أنه من أهلك، ، وكذلك هذا لما سمع البشارة بكلام ظاهره الاحتمال سأل عنه استغرابًا له، واستبعادًا كونه من صلبة، واحْتَمل عنده أن يكون من صلب غيره.
- (وقد بلغني الكبر). الذي يتوقع منه الطلب، والقصد هو " البالغ " تقول: " بلغت المدينة "، ولا يقول: " بلغني المدينة "، فالزمان طريق، والكَبر هو الطالب.
٤١ - (إلا رمزا..) الرمز: الإِشارة، وجعل الزمخشري الاستثناء منقطعًا؛ لأنه قال: الرمز ليس من جنس الكلام. وهذ يدل على أن إطلاق الكلام عنده على الإِشارة ليس حقيقة، وهو ظاهر كلام ابن التلمساني، لأنه قال: لا خلاف أن إطلاقه على الكناية، والإِشارة، ودلالة الحال مجاز. وظاهر كلام ابن عصفور أنه حقيقة لغوية، وليس بمجاز؛ لأنه جعله لغة يطلق على الكناية، والإِشارة، وما يفهم من حال الشيء. وأعرب أبو حيان (رمزًا) مفعولا على حذف حرف الجرّ أي إلا برمز، وأبطل نصبه على الاستثناء فإن العامل المتقدم مفرغ للعمل فيما بعد (إلَّا). قال: ؛ لأن
531
المفرغ إذا حذف منه حرف النفي، استقام في الكلام مثل: " ما لقيت إلا زيدًا ". تقول: " لقيت زيدًا " بخلاف " ما قام القوم إلا زيدًا ". لا يحسن " قام القوم زيدًا "، وهنا يحسن آيتك أن تكلم الناس رمزًا " انتهى كلامه.
ويجاب: بأن غير المفرغ مشتمل على نفي، وإثبات، فنفيتَ القيام عن القوم، وأثبته لزيد فإذا اسقطت حرف النفي لم يستقم بقاء لفظ القوم الذي هو منفي مع زيد الذي هو مثبت، وهنا لا تقول: إنه مستثنى من الناس، بل من الكلام المفهوم من (تكلم)، والمعنى لا تكلم الناس كلامًا إلا رمزًا.
فالرمز مخرج من الكلام، والمخرج منه أبدًا أوسع من المخرج إذ لا يجوز استثناء المستغرق، وإذا كان أوسع منه فهو غيره قطعًا؛ لأن الجزء غير الكل، وإذا " كان غيره " استحال حمله عليه، وبيانه أن المعنى: لا تكلم " الناس كلامًا " لفظًا، وغير لفظ إلا رمزًا ولو أسْقطت النفي و (إلا) وقلت: آيتك أن تكلم الناس كلامًا لفظًا، وغير لفظ رمزًا، لقبح ذلك، ولم يحسن إذ لا يوصف " اللفظ بالرمز فلذلك قلنا: إنه استثناء غير مفرغ كما أعربه الزمخشري، وابن عطية. وهذا مع قوله تعالى في سورة مريم (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، يدل على أن اليوم يشمل الليل
532
والنهار. واحتج الباجي بهذه الآية على لزوم الطلاق بالإِشارة، والرمز؛ لأنه أطلق عليه كلاما.
وسُئل شيخنا ابن عرفة: هل تقبل زيادة التجار للسمسار في السلعة بالإشارة وتلزمهم؟.
فقال: نعم إذا فُهمت.
فإن قلت: لِمَ قدم هنا (العشي) على (الإِبكار)؟.
فالجواب: قال القاضي أبو علي عمر بن عبد الرفيع رحمه الله هو مبالغة في الأمر بذلك، وإشعار بتكرره؛ لاقتضائه التسبيح في عشي كل يوم، وبكرة غده، ولو قيل: بالإِبكار، والعشي لما تناول إلا طرفي نهار يوم واحد.
وأجاب غيره: بأن ذلك؛ لأن أول ما صلى جبريل بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم صلاة الظهر "، وهي من العشي.
533
قال الزمخشري: الإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى.
وقال غيره: من طلوع الشمس إلى الضحى.
٤٢ - (إن اللَّه اصطفاكِ..). الاصطفاء الأول: جعلها منذورة لبيت المقدس بعد ما كان النذر في النساء ممنوعًا، أو خاصاً بالرجال، والاصطفاء الثاني: بالولاية، أو النبوة، ولا يفسر الاصطفاء الثاني بولادتها عيسى عليه السلام؛ لأن البشارة بهذا مقدمة على البشارة بالولادة، والتطهير باعتبار الاعتناء بها في تربيتها في كفالة زكريا، وصونها بموضع مرتفع مغلق عليها بحيث لا يصل إليها أحد، وتربيتها على هذه الصفة موجبة لشرفها، وحسن نشأتها.
ابن عطية: اختلفوا هل كانت نبية أو لا " انتهى.
الاحتجاج على كونها نبيَّة بكلام الملائكة لها لا يصح بدليل الحديث
الذي في " كتاب الزهد، والرقائق " من مسلم في الثلاثة: " أعمى، وأبرص، وأقرع كلمهم الملَك "، ومنهم من فرق بأن النبيّ يعلمه المَلَك بنفسه
534
وغير النبيّ لا يعلمه. وهو مردود بأن الثالث من المذكورين في حديث مسلم وهو الأعمى علمه المَلَك بنفسه وقال له: " إنما أردت أن أخبر حالكم، وأنا ملك أرسلني الله إليكم "، والصحيح أنها وليّة لا نبيّة وما تنبأت امرأة قط، وإنما هذا إرهاص. قال السُهيلي في كتاب " التعريف والإعلام فيما وقع مبهما من أسماء الأعلام ": إنما عينت مريم باسمها في القرآن، ولم يذكر فيه اسم امرأة فرعون، ولا امرأة نوح، ولا امرأة لوط، ولا أسماء غيرهن من الناس، ردًا على نصارى نجران؛ لأنهم كانوا يضيفونها إلى الله، ويعتقدون أنها زوجة له، وأن عيسى ابنه، وكان من عادة العرب أنهم يكنون عن الزوجات، ولا يذكرونهن بأسمائهن، ويذكرون ما بأسمائهن فذكرت مريم باسمها؛ تنبيها على أنها أمة الله؛ وردّ على النصارى في اعتقادهم ". انتهى كلامه.
فائدة التأكيد بيان أنها لما منحها اللَّه تعالى من الخير، والصلاح تستحقر نفسها، وتستعظم ذلك بالنسبة إليها، وتتعجب فنُزِلَتْ منزلةَ المُنْكِر، لذلك.
535
- (على نساء العالمين). فيه سؤالان:
الأول: ما أفاد ذكر (العالمين)، ولو قيل: على النساء لتم الكلام،
وأفاد؛ لأن الألف، واللام، للجنس؟.
والجواب: أن هذا أبلغ في التفضيل على من تقدم، ومن تأخر.
الثاني: أن الشيء إذا كان له جنس بعيد يشمله، ويشمل غيره، وجنس قريب فإضافته إلى الجنس القريب أولى.
- (العالمين). جمع عالم، وهو كل ما سوى الله تعالى؛ ليشمل الجن، والإِنس، وجميع أنواع الحيوان فالأصل أن يقال: على نساء بني آدم؛ لأنه أقرب!.
فإن أُجيب: بأن إناث غير بني آدم من الحيوان لا يقال: لهن نساء بل إناث، قيل: فلِمَ عدَل عن نساء بني آدم إِلى ما ذكر؟!.
والجواب: أن العالمين هنا ليس بجمع عالم كما يقوله أهل أصول الدين، وإنما المراد به بنو آدم خاصة.
٤٣ - (اقنتي..). ذكر الباجي في تفسير القنوت ثمانية أوجه.
536
وقال الغِمَارِيِّ: القنوت يراد به الدعاء، والصلاة، والخشوع والسكوت، والإِخلاص، والإقرار بالعبودية، واستدلوا بالآية على إبطال القول بأن الواو تفيد الترتيب.
وأجيب: بأن احتمال كون السجود في شرعهم قبل الركوع يبطله.
وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا. انظر ابن عطية والزمخشري.
القَرَافي في " شرح المحصول ": قال سيف الدين نقل عن جماعة أن الواو للترتيب حيث يستحيل الجمع كقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا.. لاقرار.
ابن هشام: قول السيرافي: أن النحويين، واللغويين أجمعوا على أنها تفيد الترتيب. مردود، بل قال: بإفادتها إياه قُطْرب، والربعيّ، والفراء،
537
وثعلب، وأبو عمر الزاهد، وهشام، والشافعي. السماكي: قدم السجود لشرفه؛ لحديث " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ".
فإن قلت: فالركوع قبل السجود بالزمان، والرتبة والعادة؛ لأنه انتقال من علو إلى انخفاض، والعلو بالرتبة قبل الانخفاض!.
قال الفخر: قلت: ليس المراد بـ (اركعي) مجرد الركوع بل مجموع الصلاة فكأنه قيل: صلي مع المصلين، والركوع يعبر به عن مجموع الصلاة، ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم، لرجل دخل المسجد وهو يخطب فجلس: " قم فاركع ".
538
وكذلك السجود ولم يرد السجود وحده، فتضمنت الآية صلاتها وحدها في بيتها، وهي التي عبر عنها بالسجود، فإن السجود أفضل حالات العبد، كما أن صلاة المرأة، وحدها أفضل، وصلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع؛ لأنه دون السجود في الفضيلة كما أن صلاتها جمع المصلين دون صلاتها وحدها. انتهى كلامه. وهو على مذهبه؛ لأنه شافعي.
وأما مالك فيقول: الصلاة في جماعة أفضل للرجل، والمرأة ".
٤٤ - (وما كنت لديهم..). كالدليل على أنه من أنباء الغيب. قيل: (لَدَى) أخص من (عند)، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم انظر الجواب عنه. قيل: وخصومتهم إنما هي قبل إلقاء الأقلام فلِمَ أخرت عنها؟. انظره.
539
ابن عطية: الجمهور على تجويز القرعة فيما يصح فيه التراضي دون قرعة، وأما ما لا يجوز فيها التراضي فجوزها الجمهور، ومنعها أبو حنيفة.
ابن العربي: ثبت " أن رجلاً اعتق ستة أعبد في مرضه، ولا مال له
غيرهم فأقرع النبي - ﷺ - بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعة ".
واحتج أبو حنيفة بأن القرعة في شأن زكريا كانت فيما يجوز فيه التراضي بخلاف حديث الأعبد فإنه لا يصح التراضي في الحرية، والرق، وإنا يثبت بالحكم دون قرعة فجازت، ولا طريق للتراضي فيها، وضعَّفه ابن العربي بأن القرعة فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاحّ
540
ولا يصحُّ لأحد أن يقول: القرعة تجري في موضع التراضي فإنها لا تكون أبدًا مع التراضي، فكيف يستحيل اجتماعها معه؟. ثم يقال: إنها لا تكون إلّا في محله، هذا بعيد " انتهى كلامه.
ويجاب: بأن أبا حنيفة يمنع استحالة اجتماعهما مع التراضي، وقد نص ابن عطية على أن الجمهور على تجويزها فيما يصح فيه التراضي.
٤٨ - (ويعلمه الكتاب..) أبو حيان: هو معطوف على (كذلك الله يخلق ما يشاء..). انتهى.
541
ويلزمه عطف الجملة الفعلية على الاسمية. لا يقال: الأولى فعليه أيضا؛ لتصديرها ب (قال) لأنه لم يجعله معطوفًا على (قال)، بل على ما بعده، وفي عطفه الاسمية على الفعلية؛ والعكس ثلاثة أقوال ذكرها ابن هشام المصري:
أحدها: الجواز مطلقًا. قال: وهو المفهوم من قول النحويين في باب الاشتغال.
الثاني: المنع مطلقًا حُكِي عن ابن جنيّ.
الثالث: لأبي علي يجوز في الواو فقط.
قال: وأضعفها الثاني.
وقدم (الكتاب)؛ لأن أول ما يتعلم الصغير الكتابة ثم الحكمة: وقدم (التوراة والإِنجيل) على الرسالة؛ لأن كونه رسولًا لا ينافي بأن يكون قبل ذلك نبيًا يُنَزَلُ عليه ثم أرسل؛ لأن الرسول، هو الذي أمر بالتبليغ.
542
والنبيّ: أنزل عليه الوحي، ولم يؤمر بالتبليغ. وأجاز الزمخشري أن يكون، (ويعلمه) كلامًا مستأنفًا.
قال أبو حيان، واعترض بأنه عنى أنه استئناف إخبار، فثبوت الواو ينفيه؛ لأنها تقتضي العطف " انتهى.
هذا غير صحيح، وقد ذكر غير واحد أنه يصح وقوع الواو في ابتداء الكلام من غير عطف، بل ذكر ابن التلمساني في باب القياس: أن الفاء يصح وقوعها في ابتداء الكلام ".
وقال القرافي في " شرح المحصول ": نقل سيف الدين عن جماعة أن الواو ترد للاستئناف " كقوله تعالى: (والراسخون في العلم). ، ونصّ المَازري في " المعلم " في أول " كتاب الجهاد ": على أن " ثم " تكون " للاستئناف ".
وقال عياض في " كتاب السلام " في حديث الردّ على الذميِّ أنه يقول
543
له: " وعليك "، قال: إن الواو فيه للاستئناف ". وقال ابن عصفور: " فيما تأتينا فتحدثنا ". أن الرفع على الاستئناف ". ، وذكر ابن هشام المصري من أقسام الواو: واو الاستئناف قال نحو (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ) الحج: هـ، "وتشربُ اللبن" فيمن رفع، و (ونذرُهم في طغيانهم يعمهون) فيمن رفع، ونحو (واتقوا اللَّه ويعلمُكم اللَّه).
قال: إذ لو كانت للعطف؛ لانتصب (وَنُقِرُّ)، ولانتصب، أو انجزم " تشربُ "، ولانجزم (ونذرُهم)، وللزم عطف الخبر على الأمر.
544
وكذلك قولهم: " دعني ولا أعود "؛ لأنه لو نصب كان المعنى: ليجتمع تركك لعقوبتي، وتركي لما تنهاني عنه: وهذا باطل؛ لأن طلبه لترك العقوبة إنما هو في الحال، فإذا تقيد ترك النهي بالحال لم يحصل غرض المؤدب، ولو جزم فإمّا بالعطف، ولم يتقدم جازم أو بـ " لا " على أن تقدر ناهية، ويرده أن المُقتضِي لترك التأديب إنما هو الخبر عن نفي العود لا نهيه نفسه عن العود إذ لا تناقض بين النهي عن العود، وبين العود، بخلاف العود، والإِخبار بعدمه، ويوضحه أنك تقول: " أنا أنهاه وهو يفعل "، ولا تقول: " أنا أفعل وأنا لا أفعل ".
٤٩ - (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ..). أبو حيان: أجاز أبو البقاء أن يكون موضعه رفعًا أي: هو أني قد جئتكم " انتهى.
هذا غير صحيح؛ لأن النحويين يقولون في باب الفرق بين " إن " و " أن " كل موضع يحسن فيه الاسم، والفعل فهي فيه مكسورة، وخبر
المبتدأ يكون اسمًا، ويكون فعلا، وقد جاءت هنا مفتوحة فبطل أن يكون خبر مبتدأ مقدر.
٥١ - (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) وكذا في سورة مريم، وفي الزخرف (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ).
قال الفخر: وحكمة ذلك أنه سبق في هذه الآية ما يدل على ربوبية الله تعالى، وأنه الفاعل لكل شيء لقوله: (بإذن اللَّه). وآية مريم قبلها (ما كان للَّه أن يتخذ من ولد) وهي دالة على نفي ما ادعاه المجوسي، وأمّا آية الزخرف فأولها: (ولما جاء عيسى بالبينات)، وليس فيها (بإذن اللَّه)، فناسب فيها التأكيد ب (هو) ردًا على من يدعي الاثنين، وأن عيسى إله، أو ابن.
٥٢ - (نحن أنصار اللَّه..). فيه سؤال وهو أن الجواب باعتبار الفَهْم لم يطابق السؤال، وإنما تحصل المطابقة لو قال: " نحن أنصارك إلى الله ".
والجواب: أن هذا أبلغ؛ لأنه يفيد أنهم أنصاره، وزيادة اعتصامهم باللَّه، ويدل عليه قولهم: (آمنا باللَّه وأشهد بأنا مسلمون) أي حصَّلنا الإِيمان، وأشهد بأنا متصفون بشرائعه من الصلاة، والحج، وغير ذلك من شرائعهم، وقال في سورة المائدة (بأننا)، بنونين.
وأجاب الفخر: بأن تلك جاءت على الأصل غير مخففة؛ لأنه أول كلام الحواريين؛ لأنه أخبر فيها عن الله بقوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين).
وهذه حكاية عيسى أنه سألهم فأقروا له بمثل ما كانوا أقروا به لله تعالى، فحذفوا النون من ذلك اختصارًا.
٦٤ - (سواءٍ بيننا وبينكم..). نقل أبو حيان هنا عن سيبويه أنه أجاز إتيان الحال من النكرة، ولم يبين أين ذكره في " كتابه "، وكلامه يدل على أنه يجوز عنده؛ لأنه قال في " باب المنصوبات ": ويقول: قمت حسناً " فالأظهر في " حسنا " أنه حال من المصدر المقدَّر.
فإن قيل: كيف يصح إتيان الحال منه، وهو نكرة؟!.
547
فالجواب: أنه لما كان مسترًا صار بمنزلة المضمر، والحال يصح إتيانها من المضمر إذ هو معرفة، وكلام سيبويه هذا يدل على أنه لا يجوز عنده أن تأتي الحال من النكرة إلا إذا كانت النكرة مصدرًا غير ملفوظ به.
فإن قلت: إنه قد قال في " باب الحال " في قولك: " مررت برجل مع امرأة قائمين "، إن " قائمين " حال.
فالجواب: أنه لما أُعْرِبَ حالًا؛ لأن رجلاً موصوف بقوله مع امرأة، والتقدير: " كائن مع امرأة "، فلما وصف قرب من المعرفة فأتت الحال منه، وأتت من المرأة على جهة التغليب، وإلّا فالأصل أن لا تأتي منها لكن تغليب المعرفة غير معروف، ويمكن أن يريد أبو حيان ما حكى سيبويه من قولهم: " له مائة بيضًا "، و"مررت بما قعدةَ رجلٍ ".
- (أن لا نعبد إلا اللَّه) أبو حيان: يدل من (كلمةٍ)، وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من (سواء).
قال المختصر: وفيه نظر. انتهى. النظر الذي فيه هو: أن المفسرين قالوا: الكلمة هي قوله: (أن لا نعبد إلا اللَّه).. الخ، و (سواء) صفة (كلمة) فإذا جعلت (أن لا نعبد) بدلًا منه لزم وصف الشيء
548
بنفسه، لأن البدل على تقدير أن ينوي بالمبدل منه الطرح، وأن البدل كائن في محله، ويحتمل أن يريد المختصر بالنظر هو الفصل بين الصفة والموصوف، أو عدم الرابط بينهما؛ لأنه على هذا يكون (أن لا نعبد) صفة ليس فيها ضمير يعود على (كلمة)، لكنه لو أراد هذا لبينه كما بينه في الردّ على من أجاز أن يكون (ألّا نعبد) مبتدأ، وخبره (بيننا وبينكم)، والجملة صفة لـ (كلمة)، فقال: هو وهم؛ لخلو الجملة من الرابط بين الصفة، والموصوف.
وفي الآية أسئلة. الأول: ما أفاد (ولا نشرك به شيئا) وهو معنى ما قبله؟.
وجوابه: أن الخلاف بيننا، وبين الحنفية في أصول الفقه في الاستثناء من النفي هل هو إثبات أم لا؟. فكان الإِتيان باللفظ الصريح الذي لا خلاف فيه أولى.
الثاني: قال في أول الآية (قل) وفي آخرها (فقولوا). فخاطب
أولًا النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحده، وثانيًا جميع المسلمين!.
549
وجوابه: أن الأول: خاص به عليه السلام، وهو دعاء أهل الكتاب إلى الإِيمان. والثاني: إقرار بالإِسلام، وهو عام في جميع المسلمين. ويحتمل وجهًا آخر وهو أن يكون ﷺ أُمر ثانيًا أن يقول للمسلمين: (قولوا اشهدوا بأنّا مسلمون)، فيكون كالأول في أن الخطاب له عليه السلام.
الثالث: أن الآية إنما أتت في معرض الردّ على الكفار في عبادتهم غير اللَّه، والواقع منهم إنما هو زيادة اثنين خاصة كما في قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن اللَّه ثالث ثلاثة)، فكان الأولى على هذا عدم جمع " أرباب "، وأيضا فنفى الجمع يستلزم نفي المفرد!.
وجوابه إمّا بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو كما قال ابن التلمساني في قول الرجل لامرأته: " أتتبرجين للرجال " وهي لم تتبرج إلا لرجل واحد. أو يكون الجمع واقعًا على الكثير لقوله تعالى في سورة براءة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه..).
الرابع: أن قوله: (ولا يتخذ بعضنا بعضًا) مفهوم من قوله: (ولا نشرك به شيئا) فما أفاد؟.
وجوابه: أنه تشنيع عليهم في جعلهم بعضهم آلهة، واتخاذهم من هو مربوب ربا.
الخامس: قوله: (من دون الله) يقتضي تخصيصهم بذلك لا أنهم أشركوا بينهم، وبين اللَّه.
وجوابه: أنهم جزَّأوا عبادتهم فالجزء الذي خصوا به غير الله عبدوه فيه من دون اللَّه.
550
السادس: أن ظاهر قوله: (نعبد... ولا نشرك) تناول ذلك للمسلمين خاصة، وقوله: (فإن تولوا) يقتضي العموم.
وجوابه: أن القرينة، والسياق تقتضي تعميم الأول في المسلمين، والكافرين.
السؤال السابع: قال في الآية المتقدمة (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)، وفي هذه الآية (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون)!.
وجوابه: أنه قال في الأولى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم..)، والمجادلة بعد ظهور الدلائل الواضحة من التعنت والمباهتة، والفساد، فناسب قوله: (فإن اللَّه عليم بالمفسدين). وفي هذا أُمِرَ ﷺ أن يدعو أهل الكتاب إلى الايمان، وأنهم إن تولوا فالمسلمون ثابتون على إسلامهم، ولا أثرة لتوليهم في ذلك.
السؤال الثامن: لمَ أتى ب (أن) دون (إذ) مع أن الغالب توليهم وعدم إيمانهم؟!.
وجوابه: أن حصول. الدلائل الواضحة على التوحيد ينزل غير الغالب منزلة الغالب.
وفي هذه الأسئلة، وأجوبتها، وأمثالها مما ذكرنا في كتابنا هذا هو ممَّا كان يقع بين الطلبة في مجلس شيخنا ابن عرفة رحمه الله، أو بينه، وبينهم،
551
وذلك مما يدلك على علو مرتبته، وعظم منفعته. ولذلك كان حذاق الطلبة يفضلونه على غيره من مجالس التدريس.
وأنشدنا من نظمه في هذا المعنى:
لو ناسَبَتْ قَدْرَة آياتِه عِظَمًا أُحْيَ اسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ
إذا لم يكن في مجلس العلم نكتةٌ بتقرير إيضاح لمشكل صُورَة
وعَزْوِ غريبَ النقل أو حلَّ مشكلٍ أو إشكال أبدته نتيجة فكرة
فدع سَعْيَه وانظر لنفسك واجتهد وإيَّاك تركاً فهو أقبح خُلْةٍ
ولتلميذه الفقيه أبي عبد اللَّه محمد بن خُلْفة الأبيِّ جواب لها:
552
يميناً بمن أولاك أرفع رتبة وزان بك الدنيا بأكمل زينة
لمجلسك الأعلى الكفيل بكلها على حين ما عنها المجالس وَلَّت
فأبقاك من رقاك، للخلق رحمة وللدين سيفاً قاطعاً كل بدعة
وقد أساء الأدب بعض من ينتمي إلى العلم، ووصف الجهل أليق به فذم هذا المجلس بشعر سخيف لا يليق كتبه، ولم يشعر بقلب النكتة عليه حسبما قرره الجدليون، وقال فيه شيخنا رحمه اللَّه منظومًا يتضمن " لزوم " فسقه بدليل قياسي، وهو هذا:
وما حال من يهجو أخاه بلفظة كذا ذاكرُ المرويِّ عنه الأئمة
وعلم أصول الفقه والبحث والنظر سواء حال من قد ساءه قلب نكتة
فباء بفسق قاله سيدٌ أتى بذكر وقرآن ووعظ وحكمة
روى مسلم عن شيخه عند قوله سباب لدى الإسلام فسق بحجة
بصغرى وكبرى ينتجان فسمومه فباللَّه أعرض عنه وادفعه بالتي.
قوله: مع شيخه: يريد البخاري، والصغرى: من هجو المسلم سباب للمسلم، والكبرى: لفظ الحديث.
553
٦٧ - (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). فيه أسئلة الأول: قال: (وما كان من المشركين).
ولم يقل: وما كان مشركاً، كما قال: (ما كان يهوديًا ولا نصرانيًّا) أو يقول: وما كان من اليهود، ولا من النصارى كما قال: (من المشركين)؟!.
وجوابه: أن اليهودية، والنصرانية طريق واحد؛ لأن لهما كتابًا يرجعان إليه، وطرق الشرك كثيرة متشعبة لا تنحصر، فناسب الجمع وهو جواب الزمخشري في قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور..)، قال: لمَ جمع (الظلمات)، وأفرد (النور)؟. فأجاب: بأن الظلمات كثيرة مختلطة، والنور واحد.
الثاني: المناسب أن يقال: ما كان يهوديًا أو نصرانيًا وما كان من المشركين، ولكن كان حنفيا مسلمًا، فيذكر النفي مع النفي ثم يثبت!.
وأجيب بوجهين:
الأول: لما كانت الآية ردًا على اليهود، والنصارى، وكان الكلام معهم نفى أولًا: كونه منهم، " ثم " أثبت له الإِسلام؛ لأنه الأهم، والمقصود بالذات ثم بالغ فنفى عنه الشرك.
الجواب الثاني: لمَّا كان دين اليهود والنصارى يشبه دين المسلمين في الاستناد للكتب، والشرك ليس كذلك ذكر الثلاثة أولًا، وأخر الشرك.
السؤال الثالث: لمَ أثبت ياء النسب في يهودي، ونصراني وحذفها من حنيف؟.
والجواب: أن هذا هو المناسب لادعاء اليهود، والنصارى أنه على دينهم، وأنه نسب إليه، والمسلمون ما ادعوا ذلك وإنما قالوا: إنهم على دين مثل دينهم.
٦٨ - (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه..)، أورد الفخر هنا سؤالاً، وأجاب: وهو أنه عليه السلام إمّا أن يكون متبعًا، لإِبراهيم في أصول الشريعة، أو في فروعها، فإن كان الأول فلا خصوصية له بذلك على غيره من البشر. وإن كان في الفروع فيلزم أن يكون مقررًا لشريعته لا ناسخًا.
وأجاب بوجهين: إمّا إنه مُتّبع له في أكثر الفروع وزاد عليه بأشياء
اختص بها. وإمّا أن شريعة موسى، وعيسى نسخت شريعة إبراهيم ثم نسختها شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقرَّرت شريعة إبراهيم.
٦٩ - (ودت طائفة من أهل الكتاب). أبو حيان (مِن) للتبعيض، وأجاز ابن عطية كونها لبيان الجنس، قال أبو حيان: وفيه بعد ". انتهى.
قيل: ؛ لأنها إذا كانت لبيان الجنس يكون لفظ (طائفة) مجرد تأكيد لتمام الكلام دونه. وردّ بإفادته الإِبهام، والتفسير وذلك من البلاغة كقول الزمخشري في (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت).
٧١ - (وأنتم تعلمون). قيل: لِمَ قال أولا: (وأنتم تشهدون).
وثانيا: (وأنتم تعلمون)؟!.
أجيب: بأن المراد أولاً حضورهم، لصدور المعجزات. والكفر: الجحد، والتغطية. فناسب ذلك، وهنا التلبيس، والكتم يناسب العلم.
قال ابن عطية: وفي قوله: (وأنتم تعلمون) توقيف على العناد ظاهرًا " انتهى.
اختلف في وقوع الكفر عنادًا، والصحيح جواز وقوعه، وعليه يدل كلام ابن عطية هنا، وهذا إنما هو باعتبار الحكم الشرعي مثل الذي يعلم الحق، ويحيد عنه في الظاهر، فهذا هو الكفر عنادًا. وأما عقلًا فيستحيل الكفر عنادًا؛ لأنه يستحيل أن يجتمع في عقله، وباطنه الحق، وعدمه؛ لأن ما في الباطن شيء واحد.
٧٢ - (من أهل الكتاب...) لم يقل منهم؛ لأنهم قالوا: إن الاسم إذا أريد تحقيره لا يكنى عنه إشارة إلى أنه كالعدم فلا يكون للضمير ما يعود عليه، ووصفهم ب (أهل الكتاب)، وتكرار ذلك، [إشارة] إلى إقامة الحجة عليهم.
(والطائفة): حكى فيها أهل أصول الفقه خلافا ذكره الفخر في المسألة الرابعة من باب الأخبار من " معالمه الفقهية ".
٧٧ - (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) فيها أسئلة: الأول: ِ لمَ أضيف (العهد) إلى اللَّه، و (الأيمان) إليهم، والأصل المشاكلة؟!.
وجوابه: أن المراد (بعهد اللَّه): آياته، ويدل عليه قوله في سورة براءة (اشتروا بآيات اللَّه ثمنًا قليلًا)، وإحدى الآيتين تفسر الأخرى.
الثاني: لمَ جمع (الأيمان)، وأفرد العهد؟.
وجوابهَ: أنه إشارة إلى اتحاد طريق الحق، وتشعب طرق الباطل كما أجاب الزمخشري في جمع (الظلمات) وتوحيد (النور)،
وإشارة، لكثرة أيمانهم، وإن كان بصيغة جمع القلة؛ لأنه هنا واقع " موقع " جمع الكثرة، أو يكون جمع (الأيمان) على معنى التوزيع، أو المراد (بالعهد) المصدر الواقع على القليل، والكثير فلا يحتاج إلى جمعه بخلاف الأيمان، فهذه أربعة أوجه في جواب السؤال الثاني.
الثالث: قال في براءة: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم).
فأضاف العهد إليهم، وهنا أضافه للَّه تعالى.
وجوابه: أن المراد (بالعهد) المذكور في براءة المصدر، وإضافته إليهم بمعنى عهدهم اللائق بهم. والمراد به هنا الآيات كما تقدم، والآيات مضافة إلى اللَّه تعالى لا غير.
٧٩ - (ما كان لبشر..). هذا كما يقوله المنطقيون من أن الموجبة الجزئية تناقضها السالبة الكلية؛ لأنهم إنما ادعوا عبادة " عزير "، و " المسيح "، فأتى بالنفي عامًا.
- (من دون الله). أتى به، وإن كان النفي " دونه " أبلغ؛ لأنه الواقع منهم.
١٠٤ - (ويأمرون بالمعروف..). ابن العربي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب على الكفاية، ومنه نصر الدين بإقامة الحجة على المخالفين، وقد يكون فرض عين إذا علم المرء من نفسه صلاحيته للنظر، واستقلاله بالجدل، وثبت عنه ﷺ أنه قال: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". وفيه من غريب الفقه أنه بدأ بالتغيير باليد، وهو في ثاني رتبة عن التغيير باللسان، لأن أول ما يبدأ في التغيير بالقول " انتهى.
ويجاب: أن التقديم على أقسام:
الزمخشري: الأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجبًا، فواجب وإن كان ندبًا فندب، وأما النهي عن المنكر فواجب كله؛ لأن ترك المنكر واجب؛ لاتصافه بالقبح " انتهى كلامه.
قال ابن بشير في الصلاة: الثاني: " لما تكلم على الوتر "، اختلف الأصوليون هل يجب الأمر بالمعروف فيما طريقه الندب، أو يكون الأمر بذلك مندوباً.
١٠٥ - (أولئك لهم عذاب عظيم). يحتمل أن يكون من حذف التقابل والتقدير: وأولئك لهم أجر كريم، وهم المفلحون، وأولئك لهم عذاب عظيم، وهم الخاسرون.
١٠٦ - (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). يحتمل كونه من آثار الوضوء قاله ابن عطية، ويلزم عليه أن من لم يتوضأ قط وهو غير جاحد الوجوب أن
560
يكون كافرًا؛ لأن الآية من التقسيم المستوفى، ويلزم عليه أيضا أن من لم يفرض عليهم من الأمم قبلنا وضوء لا يدخلون في الآية، وهذا باطل.
الزمخشري: من كان من أهل الحق وُسم ببياض اللون، وإشراقه، وابيضت صحيفته، وسعى النور بين يديه بيمينه، ومن كان من أهل الباطل وُسم بسواد اللون، وكسوفته، وكمده، واسودت صحيفته.
- (فاما الذين اسودت وجوههم..) ابن عطية: بدأ بذكر البياض لشرفه فلما فُهِم المعنى، وتعين به الكفار، والمؤمنون أبدأ، بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم.
السماكي: لو بدأ بحكم الأول لزم منه أن ينفصل الحكم عن كل واحد منهما وهو تفسير لا لف ونشر، قال: وإنما اللف، والنشر: أن يَذْكرَ شيئين ثم يُرْمى بتفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يرد كل تفسير إلى اللائق به كقوله تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).
قال: ونظير هذه قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا..).
قال: ومعنى التفسير: أن يذكر شيئًا لم يقصد تخصيصه، فيعيده مع ذلك
561
المخصص.
١١١ - (ثم لا ينصرون). جعل المفسرون المهلة معنوية، ويحتمل أن تكون زمانية، وهو أبلغ؛ لأن من هُزِمَ حين المقاتلة يتوقع نصره بعد ذلك، ولا يقطع بأنه لا ينصر على من هزمه، فأفادت (ثم) أنهم لا ينصرون بعد الانهزام بوجه.
١١٢ - (إلَّا بحبلٍ..) من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح (وكانوا يعتدون). الاعتداء أخص، قال المَازَري في " كتاب النكاح " من " المُعْلِم ": قال بعض البغداديين: لا يمنع أن يطلق على من أخل بالمندوب أنه عاص؛ لأن المعصية مخالفة الأمر، والمندوب مأمور به ". انتهى.
ويحتمل أن يكون من باب اللف والنشر فالعصيان راجع للكفر بآيات الله بالقول، والاعتداء راجع؛ لقتل الأنبياء.
١١٧ - (مثل ما ينفقون..). إن قلت: لمَ عبر في المشبه بلفظ المضارع فقال: (ينفقون)، وفي المشبه به بلفظ الماضي فقال: (أصابت)؟.
فالجواب: أن المشبه به لا بدّ أن يكون أعرف عند المخاطب من المشبه، فناسب الماضي؛ لأنه معلوم.
١٢٠ - (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ..). في الآية أسئلة الأول: لمَ كان الشرط ب (إن) دون (إذا) المقتضية لتحقيق الوقوع؟.
وجوابه: أنه إشارة إلى تأثرهم و (لو) بما لا يتحققونه.
الثاني: لمَ قدم " الحسنة " على " السيئة "؟.
وجوابه: أن تأثرهم لها أشد.
الثالث: لمَ نكرهما؟.
وجوابه: أَنه إشارة إلى التقليل، وأنهم يتأثرون لأدنى شيء.
الرابع: لمَ عبر في الأولا بالمس "، والثاني بالإِصابة؟.
وجوابه: أن ابن عطية قال: المس: هو أوائل الملاقاة، والمخالطة.
والإِصابة: منتهى ذلك ". انتهى كلامه.
فجاءت الآية على الوجه الأبلغ بمعنى أنهم يتأثرون بأول مبادئ حصول الحسنة. وأما السيئة فإنما غرضهم منتهى حصولها لا مبادئه.
الخامس: لِمَ قال في الثاني: يفرحوا بها، ولم يقل تسرهم في مقابلة (تسؤهم)؟ يقتضي - اغتمامهم لذلك، وإخفاؤهم إياه حسدًا؛ لأن العادة أن الإِنسان إذا سمع بحسنة نالت عدوه فإنه يغتم لذلك، ويخفيه، ولا يتحدث به حسدًا له. وإذا سمع بمصيبة نزلت به فإنه يفرح بها، ويظهرها، ويتحدث بها تشفيًا فيه.
وأجاب الزمخشري: عن هذا بأن المس مستعار، لمعنى الإِصابة فالمعنى فيهما واحد.
وقال بعضهم: الإِصابة أعم؛ لاستعمالها في الحسيّ، وفي المعنوي، ومنه قول الأصوليين: اختلف هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد.
و" المس " خاص بالمحسوسات. وفرق ابن راشد في " المقدمات " بين المس، واللمس فجعل اللمس: لا يكون عن قصد. والمس: يكون مقصوداً، أو غير مقصود. تقول: " تماس الحجران " ولا يقال: " تلامس الحجران ".
وفي سورة براءة نظير هذه الآية (إن تصبك حسنة).
١٢١ - (مقاعد للقتال...) الزمخشري: اتُسع في " قعد "، و " قام " حتى أُجْريا مجرى " صار ". واستعمل " المقعد "، و " المقام " في معنى المكان كقوله:
(في مقعد صدق..). واعترضه أبو حيان: بأن الأصحاب قالوا: لم يجئ " قعد " بمعنى " صار " إلا في قوله: " شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة " أي: صارت، قال: وأمّا إجراء " قام " مجرى " صار " فلم يعدها أحد في أخوات " كان " أولا تأتي بمعنى " صار "، ولا أن لها خبرًا إلَّا ابن هشام الخضراوي جعلها من أفعال المقاربة في قول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم... انتهى.
وكذا ابن مالك في " تسهيل الفوائد " في أفعال المقاربة قال: منها: للشروع في الفعل " طَفِق "، و " جعل "، و " أخذ "، و " علق "، و " هبّ "، و " قام ".
١٣٥ - (إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم..) يحتمل أن يكون المراد (الفاحشة): المعاصى المتعدية؟ للغير. و (الظلم): المعاصي القاصرة
566
على النفس. وهو أحد تفسير الزمخشري في قوله: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه..).
- (ولم يصروا على..). عدم الإِصرار شمل ما إذا نوى عدم العودة إلى الذنب، أو لم يستحضر ذلك.
فإن قلت: ما أفاد (ولم يصروا) بعد قوله: (ذكروا اللَّه فاستغفروا..) وفي الحديث: " ما أصر من استغفر.. "؟.
فالجواب: أن المعنى (لم يصروا) على ما فعلوه في الماضي، وحالهم في المستقبل أنهم إذا فعلوا فاحشة فإنهم يستغفرون اللَّه منها، وهذا نحو جواب الفخر: في قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون..)، أو يجاب: بأن الأول أفاد استغفارهم عن الفعل الواقع منهم، ويبقى اللمم بالفعل، والعزم على العودة، فأفادهم قوله: (ولم يصروا) أو يجاب: بأنهم إذا فعلوا واستغفروا لا
567
يعودون إلى الذنب مرة أخرى لكن إذا عادوا إليه فهو ذنب آخر، وفاحشة أخرى ليست منفية بعدم الإِصرار.
- (وهم يعلمون). قال الزمخشري: حال من فعل " الإِصرار "، وحرف النفي منصب عليهما معا، وفسره بوجوه:
منها: قول بعضهم (وهم يعلمون) أن باب التوبة مفتوح ". انتهى. النفي على هذا التفسير منصب على الأول فقط دون الثاني.
١٣٦ - (ونعم أجر العاملين). الفخر: عن القاضي عبد الجبار من المعتزلة: فيها دليل عك أن الثواب مرتبط بالعمل. انتهى. إنما يدل على أن هذا الثواب الخاص على العمل لا على أن لا ثواب إلا على العمل. وأيضا العمل يصدق على الإِيمان، ونحن نقول: إذا لم يحصل الإِيمان فلا ثواب.
واعتزل الزمخشري هنا ورقق على مذهبه بآثار ذكرها، وخلط الصحيح منها
568
بالسقيم، وما يوافق عليه أهل السنة بما يخالفون فيه حيلة منه؛ ليموه على الناظر، وقوله عن رابعة:
ترجو النجاة..................
قال الطيِّبي قبله:
ما بال نفسك تبغي أن تدنسها وثوب جسمك مغسول من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وفى سورة العنكبوت (نعم أجر العاملين)، بغير واو العطف!.
فأجاب أبو جعفر الزبير: بأن هنا وقع ذكر الجزاء مفصلًا، ومعطوفَّا فناسب العطف بخلافه في آية العنكبوت.
١٣٨ - (هَذَا بَيَانٌ). كقول سيبويه هذا باب كذا قيل: فيه دليل على امتناع، ورود المجمل فيه.
569
وأجيب: بأن المراد دلالته على وجود الله تعالى، ووحدانيته، وما يجب له، وما يستحيل عليه، والعطف ترقى، و " البيان " راجع للتصوير، و " الهدى " للتصديق بالحق، و " الموعظة " راجعة لاتباع الأوامر، والنواهي، والاتعاظ بالخوف من عقاب اللَّه.
١٣٩ - (ولا تهنوا..) ابن عطية: هو من " وهن "، ومن كلامهم لا المؤمن هين لين، انتهى. يردّ بأن " وهن " معتل الفاء " وهن " معتل العين فالمادة مختلفة. والعجيب من أبي حيان كيف سكت عنه، ولم يتعقبه.
وقول ابن عطية: ومنه فعل عمرو بن سعيد مع عبد الملك بن مروان عند قتله إياه، يوهم أن عمرًا مكر بعبد الملك، وليس كذلك، بل المنقول العكس فالصواب العكس وهو أن يقول: فعل عبد الملك بعمر.
١٤٠ - (إِنْ يَمْسَسْكُمْ..) فعل الشرط مستقبل وهو هنا ماضٍ، لأن
570
مس القرح لهم قد وقع، ومضى فيرجع إلى المسبَّب؛ لأن " المس " سبب في التألم وهو دائم مستمر في المستقبل، والمعنى: أن ينلكم تألم في المستقبل بسبب مسّ القرح لكم. وجواب الشرط إمّا المذكور في الآية، أو لازمه أي: " فلكم في الكفار إسوة، وتسلٍ ". فقلنا لهم: مثل ذلك، فانظر ما تقدم في الكلام على قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ). وخلط ابن عطية في لفظ (قرح) فحكم للمجاور لحرف الحلق بحكم حرف الحلق؛ لأن ما وسطه حرف حلق يجوز فتحه، وتسكينه، وما آخره حرف حلق فيه خلاف.
- (وليعلم الله الذين آمنوا..) قول الزمخشري: أي ليعلمهم علمًا يتعلق به الجزاء، يوهم أن ثم علمًا لا يتعلق به الجزاء. وقوله: الفرق بين العلم، والمعرفة أن المعرفة من التصورات. والعلم: تصديق.
إن قيل: يُردّ بأن قولك: " عرفت زيدًا " تصديق، لا تصور. أجيب: بأن مراده: أن متعلق العلم التصديق، ومتعلق المعرفة تصور.
571
١٤١ - (وليمحص اللَّه الذين آمنوا ويمحق الكافرين). عبّر عن المؤمنين بالفعل، وعن الكافرين بالاسم إشارة إلى أن من اتصف بأدنى الإِيمان مغفور له، والمغضوب عليه إنما هو من صَمَّم على الكفر، وداوم عليه. وهذا معنى قوله في الحديث: " سبقت رحمتي غضبي ". وعبر في القسمين: بالوصف دون الاسم إشارة إلى الصفة التي لأجلها مدح هؤلاء وذم هؤلاء.
فإن قلت: قال الفخر: هي خاصة بكفار بدر. ففيها امتحق الكافرون!.
فأجيب: بأن المحق قسمان: حسيّ، ومعنوي؛ لأن محق البعض يوجب إذلال الباقين، وحسرتهم، فهو محق لهم بالمعنى.
١٤٢ - (أن تدخلوا الجنة..) أي: دخولًا أوليًا، وهو الدخول المسبَّب عن الجهاد. وعبّر عن المجاهدين " بالفعل و " عن الصابرين بالاسم؛ لأن الصبر عام لا توجد عبادة بدونه فعّبر عنه بما يقتضي الثبوت، واللزوم لعمومه، أو يكون المراد: الصابرين على الجهاد. فعبّر عنه بالاسم؛ لأن الجهاد متلف للنفس فالصبر عليه أقوى من الصبر على غيره من العبادات المشقة غير المتلفة للنفس.
١٤٣ - (ولقد كنتم تمنون الموت..). إن قلت: هذا كيف يفهم مع قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنوا لقاء العدو وسلوا اللَّه العافية "؟.
فالجواب: أن ذلك كان في أول الإِسلام حيث كان الكفر كثيرًا، والإِسلام قليلًا فنهوا عن تمني لقاء العدو، أو المراد هنا: أن الشهادة
والهجوم على القتال حين اللقاء، أو تكون هذه نزلت أولًا وجرتِ الآية مجرى العتاب لهم؛ لأن عتاب من تمنى لقاء العدو ثم قعد، وكزّ عن قتاله حِين اللقاء أشد من عتاب غيره.
١٤٤ - (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ..). تضمنت أمرين: كونه من البشر، وذم من همّ بالردّة يوم أحد.
قيل: الحصر على بابه، وحقيقته؛ لأن وصف الرسالة يستلزم جميع أوصاف الكمال. ورُدَّ بأنه لم يكن قبل البعثة رسولا فالقضية حينية، لا دائمة.
- (أفإن مات..). قول أبي حيان: الشرط ب (إن) دخل على (انقلبتم) لا على (موته). يرُدُّ بأنه دخل على مجموع القضية؛ لأن أصله " إن مات انقلبتم "، وهذا شرط لازم قد دخل عليه الاستفهام بمعنى الإنكار على الملازمة الشرطية، وموته ممكن، وقتله ممكن، غير واقع؛ لقوله تعالى: (واللَّه يعصمك من الناس..).
- (شيئًا) تأكيد بالمصدر دخل على النفي فهو نفي أخص.
١٤٥ - (وما كان..). الزمخشري: إن أريد نفي ما هو منفي بذاته أتى بأداة النفي فقط مثل: " ما يطير زيد "، ولا يحتاج لنفي القابلية، لأن العقل يصدق ذلك النفي، وإن أريد نفي ما هو ممكن الوقوع، أو قريب من الإِمكان أتى بـ " كان " التي تقتضي نفي القابلية مثل: " ما كان لزيد أن يقوم "، فهو قابل لذلك باعتبار جنسه غير قابل له بذاته فدخلت (كان) هنا على النفي، وأتى به في صورة الممكن؛ ليكون أبلغ في النفي.
١٤٦ - (وكأين..). أنشد ابن عطية هنا:
وكأين ترى من صامت لك مُعْجبِ زيادَتُهُ أو نَقْصُهُ في التَّكلًّمِ.
قال أبو عبيد في " الأمثال ":
575
البيت للأحنف بن قيس كان مجالسه رجل يطيل الصمت حتى أُعْجِبَ به الأحنف ثم إنه تكلم يومًا فقال: يا أبا سرّ أتقدر أن تمشي على سرْدق المسجد، فعندها تمثل الأحنف بالبيت بعده:
لسانُ الفَتى نِصْفٌ ونِصْفٌ فؤادهُ فلم يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحم والدّمِ
قال شيخنا ابن عرفة " أخبرني شيخنا ابن الحُبَاب " قال: أخبرني شيخنا أبو العباس أحمد السُّلَميّ قال: قلت: لشيخنا الأستاذ أبي الحسن علي بن عصفور لِمَ أكثرت من الشواهد في " شرحك للإِيضاح " على
576
(كأين)؟. قال: ؛ لأني دخلت على السلطان أبي عبد الله المنتصر فألفيت ابن هشام خارجًا من عنده فأخبرني أنه سأله عما يحفظ من الشواهد في شرحك للإِيضاح " على قراءة، (كأين) فلم يستحضر غير بيت الإِيضاح:
وكأين بالأباطح من صديق يراني لو أُصِبْتُ هو المصابا
قال ابن عصفور: فلما سألني أنا قلت له: احفظ فيها خمسين بيتًا فلما
577
أنشدته نحو العشر، قال: حسبك ثم أعطاني خمسين دينارًا فخرجت فوجدت ابن هشام " المصري " جالسًا بالباب فأعطيته شطرها.
ابن هشام المصري، (كأين): اسم مركب من كاف التشبيه وأيّ المنونه؛ ولذا جاز الوقف عليها بالنون؛ لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية؛ وكذا رُسِمَ في المصحف نونا، ومن وقف حذفه اعتبر حكمه في الأصل، وهو الحذف في الوقف. وتوافق " كأيّ "، " كم " في خمسة أمور: الإِبهام، والافتقار إلى التمييز، والبناء، ولزوم التصدير، وإفادة التكثير تارة وهو الغالب نحو: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، والاستفهام أخرى، وهو نادر، ولم يثبته إلا ابن قتيبة، وابن عصفور، "
578
وابن مالك، واستدل عليه بقول أبي بن كعب لابن مسعود رضي الله عنهما: " كأيّ تقرأ سُورةَ الأحزاب آيةً "؟. فقال: " ثلاثا " وسبعين ".
وتخالفها في خمسة أمور: أنها مركبة، وكم بسيطة على الصحيح خلافًا لمن زعم أنها مركبة من الكاف، و " ما " الاستفهامية ثم حذفت ألفها؛ لدخول الجار، وسُكِنَتْ ميمها؛ للتخفيف؛ لثقل الكلمة بالتركيب. وكون مميزها مجرورًا بـ " من " غالبًا حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ويرُده قول سيبويه: " وكأيّ رجلًا قد رأيت " زعم ذلك يونس إلا أن أكثر العرب لا يتكلمون
579
به إلا مع " من ". وكونها لا تقع استفهامية عند الجمهور. وقد مضى. ولا تقع مجرورة خلافًا لابن قتيبة، وابن عصفور أجازا بـ " كأيَّن تبيع هذا الثوب "؟. وأن خبرها لا يقع مفردا.
- (فما وهنوا..). الضمير إمّا عائد على لفظ: " الربيين " دون معناه مثل: " عندي درهم ونصفه "؛ لأن من مات لا يوصف بعدم الوهن، وإما عائد عليه لفظًا، ومعنى، والمعنى: أنهم ماتوا على حالة التجلد، والشدّة من غير ضعف في قلوبهم، وجاءت الآية على أحسن ترتيب؛ لأن الوهن أشدّها، ويليه الضعف، ويليه الاستكانة فنفى أولا الأبلغ ثم ما دونه ثم ما دونه؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وفيه الحذف من الثاني؛ لدلالة الأول عليه وهو (لما أصابهم)، ويدل على أن من فعل شيئًا من الطاعات، وترك شيئًا من المعاصي من غير مشقة عليه في ذلك أنه يسمى صابرًا؛ لأن هؤلاء لم ينلهم وهن، ولا خوف فسماهم صابرين.
١٤٧ - (.. وإسرافنا.). يحتمل أن يكون المراد بالإِدراف: عدم اجتناب النواهي؛ لأنه لغة: الزيادة على الشيء. قال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا)، وقال تعالى: (وكذلك نجزي من
أسرف ولم يؤمن..). وقرئ (قولُهُم) بالرفع. وقول ابن عطية الخبر فيما بعد (إلَّا). يردّ بما في " الإِيضاح "، وغيره: أنه لا يجوز " أن الذاهبة جاريته صاحبها "، فالمعنى: كان قولهم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا قولهم.
والجواب: إما أنه على قراءة الرفع وهي الشاذة يكون الخبر أعم من المبتدأ فيصح الإِخبار به عنه؛ لأنه أعم منه؛ لأن قولهم مضاف لضميرهم، وإن قالوا أعم منه، والتقدير: وما كان قولهم إلَّا قول (ربنا اغفر لنا ذنوبنا) و " قول " أعم من " قولهم "، وأمّا على القراءة المشهورة فيكون من باب " فأنكرت الوجوه "، وقلت: " هم هم "، ومثل " جَدّ جدّه " فهو تأكيد، وإطناب.
١٥٢ - (.. وَعْده إذ تحسونهم..). قول أبي حيان: العامل في (إذ)، (وعده)،. يرد بأن الوعد قديم. فإن قلت: المراد متعلقه. قلنا:
متعلقه الصدق؛ لأن الوعد إذا وقع الموعود به كان صدقًا، وإلّا كان كذبًا.
فالعامل فيه صدق مع أن الصدق قديم، لكن المراد ظهور الصدق للوجود.
- (منكم من يريد الدنيا..) المناسب أن يكون المعنى يريد الدنيا والآخرة؛ لأنهم مسلمون (ومنكم من يريد الآخرة) فقط.
١٥٣ - (إذ تصعدون..). ضعف أبو حيان كون العامل في (إذ) اذكر " مقدر، بأن " اذكر " مستقبل و (إذ تصعدون) ماضٍ!.
ويجاب بجوابين:
أحدهما: أنه عامل فيه عمل الفعل في المفعول به لا عمله في الظرف.
الثاني: أنه عامل فيما يتعلق به أي: اذكر حالكم (إذ تصعدون).
- (والرسول). أي رسول الله ﷺ أو رَسُوله (في أخراكم)؛ لأنهم لما انهزموا، ورجعوا وثبت هو في موضعه صار في أخراهم بعد أن كان في وَسَطهم، ومقدمهم.
١٥٤ - (نعاسًا..). أبو حيان: يمتنع كونه مفعولًا من أجله؛ لأنه ليس مفعولًا لفاعل الفعل المعلل يريد من " نعس " ففاعله ليس الله بخلاف فاعل الإِنزال، ولو كان إنعاسًا من أنعس لاتحد الفاعل!.
قيل: مذهب الأشعرية: أن لا فاعل حقيقة إلَّا الله تعالى، ونسبة الفعل إلى العبد مجاز.
أجيب: بأن المفعول من أجله إنما ينسب الفعل لمن يصح وقوع الحدث منه. والنعاس يستحيل وقوعه من الله تعالى، وفي الأنفال (إِذْ يَغْشَاكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ)، فقدم النعاس!.
والجواب: أن الفاعل هناك هو النعاس، وقدم، وفاعل الإِنزال هنا هو اللَّه، والمنزَّل هو النعاس لم يكن إنزاله لذاته، بل لكونه أمنا.
واختلف الزمخشري، وابن عطية نقل الزمخشري: أن النعاس غشيهم في مصافهم. وقال ابن عطية: أن ذلك كان بعد ارتحال أبي
583
سفيان من موضع الحرب، وانفصال القتال، وهو ظاهر الآية للعطف بـ (ثم).
- (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم..). الزمخشري: (قد أهمتهم) صفة لـ (طائفة) و (يظنون) صفة أخرى، أو حال بمعنى ظانين، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها.
- و (يقولون). بدل من (يظنون). ابن هشام: كأنه نسي المبتدأ فلم يجعل شيئًا من هذه الجملة خبرًا له، فلعله رأى أن خبره محذوف أي: ومنكم طائفة صفتهم كيت، وكيت. والظاهر أن الجملة الأولى خبر، وأن الذي سَوَّق الابتداء بالنكرة صفة مقدرة أي: وطائفة من غيركم مثل: " السمن مَنَوانِ بدرهم " أي: منوان منه. واعتماده على واو الحال كما جاء في الحديث وهو قوله: " دخل وبُرْمةٌ على النَّارِ.. ".
584
- (في أنفسهم..). إن قلت: ما أفاد مع أن الإِخفاء لا يكون إلّا في النفس؟!.
فالجواب: أن الإِخفاء قد يكون بين رجلين يُسِر أحدهما إلى الآخر حديثاً أخفياه عن غيرهما، وقد يكون في حديث النفس.
- (يقولون). ليست مفسره للتي قبلها؛ لأن القول في الاصطلاحِ حقيقة في النطق اللفظىِّ، وكذلك قال الفقهاء: إذا حلف ألَّا يقول شيئًا فإنه لا يحنث إلا بالنطق " اللفظي " فهما جملتان مستقلتان.
- (قل لو كنتم في بيوتكم..) هذا إمّا تكذيب للقضية المتقدمة بصدق نقيضها، وإمّا إبطال لإِحدى مقدمتي القياس، وهي الكبرى فمعنى الأول: لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا، ولو لم نخرج ما قتلنا، فأبطلت القضية كلها.
فإن قيل لهم: بل لو كان لكم من الأمر شيء لخرجتم. ومعنى الثاني: أن تمنع الكبرى، وهي كلما لم يخرجوا لم يقتلوا بصدق ما هو أخص منها؛ لأن كونهم في بيوتهم أخص من قولهم (لو كان لنا من الأمر شيء) فإذا ترتب الموت على كونهم في بيوتهم فأحرى أن يترتب على عدم خروجهم.
قال ابن عطية: هذا من المنافقين قول بأن للإِنسان أجلين. انتهى. إنما هو منهم وقوف مع الأمور العادية، فلعلهم لم يعتقدوه مذهبًا.
585
- (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ..). إن قلت: لمَ أسند الابتلاء إلى الصدور، والتمحيص للقلوب وهو سؤال مذكور في جنس الابتلاء؟.
" فالجواب أن الابتلاء " هو الاختبار فهو إشارة إلى كمال تعلق علم الله تعالى، وعمومه فناسب أن يسند إلى الأعم، وهو الصدر. وأما التمحيص: فهو: تخليص شيء من شيء، وتصفيته. فناسب تعلقه بالمقصود من الإِنسان، وهو القلب.
١٥٥ - (إن الذين تولوا..). في هذه الآية من التلطف ما ليس في آية الأنفال وهو قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره..).
ذكر في تلك لفظ: " الدبر " دون هذه، وعبر هنا ب (تولوا) الدال على تكلف الفعل إشارة إلى أن لهم في ذلك عذرًا للفرق بين " ولى " و " تَوَلى " كما فرقوا بين " كَرُم "، و " تَكَرَّم "، فلذلك رتب عليه الوعيد الأخف مع العفو، وأيضا فهذه إخبار عمّا وقع فناسب التلطف، وتلك تقدير، للوقوع فناسب التخويف، والتشديد فِي الوعيد.
- (إنما استزلهم..). قال الفخر: احتج به الكعبيّ من المعتزلة على أن الشرك لا يقع من الله تعالى لأجل أداة الحصر.. ". انتهى.
يجاب: بأن نسبته لغيره إنما هي في اللفظ فقط على جهة الأدب، والكل من " الله " خلقه، وفعله، والحصر في الآية إنما هو في لفظ بعض أي: لم يستزلهم الشيطان إلّا ببعض مكسوبهم، لا أنهم لم يستزلهم إلاّ الشيطان.
قال الزمخشري: لِمَ قيل: ب (بعض ما كسبوا)؟. وأجاب: بأنه كقوله تعالى: (ويعفو عن كثير..)، وهو بناء منه على أن المعنى ما كسبوه من الشر. ونقول: لفظ (كسبوا) صادق على كل مكسوبهم خيرًا، أو شرًا. فالشّر بعضه فلا يَرِدُ السؤال.
١٥٦ - (لا تكونوا كالذين كفروا..). إذا نُهي الإِنسانُ عن الشبه بمتصف بوصفين صرف النهي لأخصهما، وهو هنا القول، ولأجله وقع النهي. وجملة (إذا ضربوا) حكاية حال ماضية.
الفخر: الآية حجة على الكرَّامية القائلين: بأن مجرد النطق بالشهادتين كاف في حصول الإِيمان، وإن لم يصحبه الاعتقاد القلبي " انتهى.
وجوابه: أن ذلك إنما هو فيمن نطق بالشهادتين، ولم يعتقد بقلبه شيئًا. وأما هؤلاء فهم معتقدون؛ للنقيض.
قال بعضهم: إذا عوقّد بين أمرين بـ " أو " ثم رُتب عليهما أمران آخران جاز عطف أحدهما على الأخر بـ " أو " أو " الواو ".
- (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ...) إن قلت: ما أفاد ذكر الإِحياء، وسياق الكلام في الإِماتة؟. قلت: فائدته التسوية أي: كما شاهدتم الإحياء دون سبب كذلك هو تعالى قادر على إماتتهم دون سبب.
١٥٧ - (أو متم..). إما أنه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه، أو كما قال ابن بشير فى " كتاب الطهارة فى التيمم ": إن الأصوليين اختلفوا في العطف هل يقتضي التشريك في المعنىّ كما يقتضيه في الإِعراب أم لا؟.
وأشار إليه ابن التلمساني في المسألة الرابعة من الباب الثالث في العطف على العام هل يفيد العموم أم لا؟.
وفائدة الإطلاق في (أو متم)؟ ليتناول من مات قبل حضور القتال، وبعده، ولم يُقْتل فيه.
وقال في " المدونة " في الأول: لا يسهم له.
- (مغفرة من الله..). هو كقوله: (القواعد من البيت)، حسبما قرَّره الزمخشري. والتنكير للتعظيم. ولما كانت (المغفرة) من نعم دفع المؤلم، و (الرحمة) أعم. كان ذكرها تأسيسًا.
- (خير) على قراءة الغَيبة " فَعْل "، وعلى قراءة الخطاب " أَفْعَل ".
فإن قلت: كيف خوطب بها من مات؟. قلت: هي حكاية حال ماضية أي: خير من جمعهم المال لو عاشوا، وجمعوه. وبدأ بالقتل؛ لأنه أغلب، وأعم، ليرتب عليه الوصف العام.
١٥٩ -.. (لِنْتَ لَهُمْ..). يدل على أنه في مقام التوسط بين الشدة، واللين؛ ولذا لم يقل: كنت لينًا. قال أبو حيان: (ما): زائدة، قيل: فيلزم عليه أن القرآن مخلوق؛ لأن الحروف، والألفاظ مخلوقة إلا أن يريد أن الحروف مخلوقة، والمعنى قديم. ومنع بعضهم ورود الزيادة في القرآن كما منع إطلاق التهكم فيه. وقيل: فائدته التأكيد بمنزلة تكرير اللفظ بعينه. وقيل:
589
الزيادة من باب المجاز. وقيل: في الآية تقديم، وتأخير أي: فبـ (رحمة) " ما "، فتكون (ما) نكرة صفة، وعلى ما قال أبو حيان تكون نكرة لا موصوفة، ولا موصولة كما التعجبية.
- (فاعف). الفاء للتسبيب لا عاطفة؛ لأن الطلبية لا تعطف على الخبرية. وتقدير السببية بتمهيد أنه لين الجانب قابلة للعفو.
والظاهر أنهم ثلاثة أقسام: فريق فروا، ولم يرجعوا فهؤلاء أمر بالعفو عنهم.
وفريق فروا فلما قال لهم: ارجعوا رجعوا فهؤلاء، أمر بالاستغفار لهم.
وفريق ثبتوا، ولم يفروا فهؤلاء أمر بمشاورتهم في الأمر.
فإن قلت: قال الفخر: المشاورون أبو بكر، وعمر. وعمر لم يثبت!.
قيل: عمر منصبه معلوم. قال ابن عطية: ومن لا يستشير أهل العلم، والدين، فعزله واجب بلا خلاف. قال شيخنا ابن عرفة: هذا غير صحيح، ولم أره لغيره، والمسألة مذكورة في أصول الدين في باب
590
الإِمامة، وفي كُتُب الحديث، وفي الفقه، وذكروا فيها: إذا فعل الإِمام ما هو أشد من ذلك لا يجب عزله بوجه.
١٦٠ - (إن ينصركم الله..) أتى ب (إن) دون (إذا) إشارة لتساوي الأمر، وأن نُصْرَتَهم، وخُذْلانهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى متساويان. فإن قيل: لفظ الآية ليس صريحًا في غلبتهم، فهلاّ قيل: إن ينصركم الله تُنْصَروا أو تَظْفُرُوا؟.
فالجواب: أن المذكور مستلزم لذلك، وأفاد مع ذلك انتصارهم في المستقبل.
وأجيب أيضا: بأن نصرة الله بأحد وجهين: إمّا بأن يغلبوا عدوهم.
وإما بممانعته، ومساواته إذا كان العدو أكثر، وأقوى: فيكون نصرهم بمعنى: منع عدوهم من غلبتهم.
فإن قلت: لِمَ لم يقل في الثاني: وإن يخذلكم فلا ناصر لكم؟.
والجواب: إذا كان المخاطب موافقًا على ما خوطب به فيؤتى في خطابه بحرف الاستفهام.
١٦١ - (وما كان لنبيٍّ أن يغل.). الصواب حمله على حقيقته.
والمراد: أن جميع ما يصدر منه عليه السلام ليس بغلول؛ لأنه مشرع.
الزمخشري: وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك فتُليت عليه الآية فقال: إذًا أحملها طيبة الريح خفيفة الحَمْل. قال الطيِّبي: هذا منه كفر.
١٦٢ - (أفمن.). قال أبو حيان: هذه تدلك على أن مثل هذا التركيب في العطف، أو المعطوف عليه مقدر قبل الهمزة ". انتهى.
لا دليل فيها، بل التقدير: " استوى الطائع، والعاصي فمن اتبع " وتكون الهمزة كهمزة (أَطَّلَّعَ...).
فإن قلت: لم أضيف الرضوان دون المسخط؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: إضافة الرضى تشريفًا، ولم يضف السخط تأدبًا كقوله: (الذي خلقني فهو يهدين) ثم قال: (وإذا مرضت فهو يشفين).
الثاني: أن تنكير السخط للتعظيم أي: ليس من اتبع أدنى شيء من رضى اللَّه كمن باء بسخط عظيم من الله فأحرى من اتبع أعلى الرضىّ.
فإن قلت: يبقى من " باء " بأدنى السخط!.
قلت: الآية إنما خرجت مخرج التنفير، والوعظ، فالمناسب التعليل في جانب الرضى بمعنى أن قليله لا يقارب عظيم السخط، ولا يدانيه فهو نفي تشبيه، أو يجاب بأن أدنى السخط، وإن قل فهو من العظيم عظيم فيستوي في ذلك أعلاه، وأدناه بخلاف الرضى.
١٦٣ - (هم درجاتٌ عند اللَّهِ..). جعلوه على حذف مضاف من الثاني أي " ذو درجات "، وإن شئت قدَّرته في الأول أي: " منازلهم درجات "، والضمير قيل: عائد على المؤمنين، وقيل: على النوعين. فإن قلت: يترجح عوده على الكافرين، لأنه أقرب. فأجاب الفخر: بذكر عاقبة الكافرين،
وبأن المناسب للكافرين الدركات.
١٦٤ - (لقد مَنَّ..). المنُّ يطلق بمعنى: التذكير بالنعمة، ويطلق على التفضل بالنعمة. وهو المراد هنا. قيل: فيه دليل لأهل السنة أن بعث الرسل محض تفضل لا واجب. وردّ بأن المنّ على المؤمنين، والبعثة للجميع. وأجيب: بأن المنّة للمؤمنين باعتبار المثال، والعاقبة. وردّ أيضا بأن المنّ عليهم بكونه منهم. وهذا على قراءة ضم الفاء (من أنفُسهم).
فإن قلت: لِمَ عبر هنا بلفظ: " الرسول ". وفي قوله: (وما كان لنبيٍّ أن يغل..) بلفظ: " النبي "؟.
فالجواب: أن تلك في مقام التنفير، والتخويف فإذا نهوا عن نسبة الغلول " للنبيّ " فأحرى " الرسول "، وهذه في مقام التذكير بالنعمة، فناسب فيها لفظ، " الرسول "؛ لأنه أبلغ في الإِنعام عليهم.
١٦٥ - (أَوَلَمَّا..). ابن عطية: الهمزة إمّا للإِنكار، أو للتقرير " انتهى. كونها للتقرير ضعيف؛ لأنه غالبًا إنما يكون بأمر ملائم كقولك: " ألم أحسن إليك ".
فإن قلت: إصابتهم مثليها ملائم!.
قلت: الهمزة إنما دخلت على قولهم. وقول الفخر: احتج بها المعتزلة على أن العبد يخلق أفعاله. يردّ بأنه لم يقل أحد أن العبد يخلق أفعال غيره.
والمصيبة التي أصابتهم بفعل الكافرين، وإنما فعلهم السبب في ذلك فإن استدلوا بالسبب قلنا: يرده قوله: (إن اللَّه على كل شيء قدير).
١٦٦ - (وما أصابكم..). قول ابن عطية: فيها تقديم، وتأخير أي:
بإذن الله ما أصابكم. لا يحتاج إليه.
- (وليعلم..) أي: ليظهر متعلق علمه وهو: وعد ووعيد، وعّبر عن المؤمنين بالاسم، وعن المنافقين بالفعل إشارة إلى أن ذلك الوعد إنما هو لمن ثبت له الإِيمان. والوعيد لمن اتصف بأدنى نفاق فأجرى الأول مجرى الأمر، والثاني مجرى النهي.
١٦٧ - (يقولون بأفواههم..) يحتمل أن يريد نطقهم بكلمة " الإِيمان " أو قوهم (لو نعلم قتالًا)، وهو الظاهر؛ لأنه لو أريد الأول لقيل: يقولون بأفواههم ما في قلوبهم نقيضه، بل عبَّر بالأعم.
- (والله اعلم بما يكتمون). تسجيل عليهم بالكفر.
١٦٨ - (لإِخوانهم:.). إن أريد بإخوانهم الموتى فاللام، للتعليل، وإن أريد الأحياء فللتعدية، ويحتمل جعل (قل فادرءوا) خبر (الذين) بمعنى: قل لهم. وصيغة " أَفْعل " هنا للتعجيز.
قال الزمخشري: فإن قلت: فقد كانوا صادقين في دفعهم القَتْل عن أنفسهم بالقعود. وأجاب بوجهين:
الأول: أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود، وأن يكون
غيره. وقد تكون المقاتلة، والوقوف سببا في النجاة. ويردّ بأن (لو أطاعونا ما قتلوا) موجبة جزئية، وإنما نقيضها سالبة كلية، وأما السالبة الجزئية فلا يناقضها بوجه.
فإن قلت: إنما نفوا القَتْل فلِمَ ذكر في الردّ الموت؟.
فالجواب: أن الموت أعم فعجْزِهم عن دفعه يستلزم عَجْزِهم عن دفع الأخص منه. وقال: (ادرءوا) وَلم يقل: لا يموتون، إشارة إلى ملازمة الموت لهم.
١٦٩ - (ولا تحسبُن..) قول ابن عطية: أرى، القراءة بضم الباء. إنما تحسن على أن السبع غير متواتر.
١٧١ - (يستبشرون..). جعلوه مطاوع " بشرّ "، والمطاوع في الغالب إنما هو في الماضي مثل " كسرته فانكسر "، و " جبرته فانجبر ".
- (وبنعمة من اللَّه وفضل..) الأمر الملائم إن اعتبر من حيث ذاته فهو نعمة، ومن حيث سببه فهو فضل؛ لأن سببه من الله، ولذا قيد النعمة بقوله: (من اللَّه)، ولم يقيد الفضل. والآية صريحة في مذهب أهل السنة في قولهم: إن الثواب محض تفضل.
- (وأن الله..). على قراءة الكسر يحتمل كونها جملة اعتراض، وذكر ابن هشام المصري: أنه يجوز اقتران جملة الاعتراض بالواو، وبالفاء. ولم يحك في ذلك خلافًا.
١٧٢ - (للذين أحسنوا منهم واتقوا..). هو على التوزيع فمنهم من بلغ درجة الإِحسان كأبي بكر، وعمر، ومنهم دون ذلك فهو في رتبة المتقين.
١٧٣ - (فزادهم إيمانا..) هذا يشبه قلب النكتة، وهو الاحتجاج بدليل الخصم على نقيض دعواهم وذكر ابن عطية الخلاف فِي زيادة الإِيمان. والتحقيق أن القدر المجزئ منه لا يزيد، ولا ينقص، والإِيمان
الكامل يزيد وينقص. فإن قلت: القول بزيادته ملزوم لاجتماع الأمثال في محل واحد.
فالجواب: أن إمام الحرمين قال: الإِيمان عَرَضٌ لا يبقى زمنين فيخلف بعضه بعضًا. فعلى هذا لا تجتمع الأمثال بوجه، والآية تدل على أن الزيادة في نفس الإِيمان لا باعتبار الأعمال؛ لأنهم حين قيل لهم: هذا.
كانوا جلوسًا غير منتصبين للقتال فزادهم ذلك قوة في الاعتقاد القلبي ثم بعد ذلك تحركوا: للخروج والمبارزة.
وحكى ابن عطية: أنهم تحرجوا من الخروج. والذي في السير أنهم اختلفوا: فمنهم من عزم على الخروج، وهان عليه. ومنهم من شق عليه.
١٧٦ - (في الكفر..). عزاه ب (في) دون " إلى "؛ لأنه أبلغ في دخولهم في الكفر.
- (ولهم عذاب عظيم) تأسيس؛ لأن نفي حظ الآخرة لا يلزم منه تعذيبهم.
١٧٧ - (ولهم عذاب أليم). وقال في الأول (عظيم)؛ لأن كفر من سارع أشد من كفر من توانا.
١٧٨ - (ولهم عذاب مهين). مناسب للاملاء؛ لأنه باعتبار ظاهر الأمر إكرام لهم؛ فناسب لفظ المهانة، والذلة.
١٧٩ - (يميز الخبيث من الطيب). قيل: القاعدة أن القليل هو الذي يميز من الكثيرة فتقتضي هذه الآية أن الخبيث أقل. فما الجمع بينها، وبين قوله تعالى: (ولو أعجبك كثرة الخبيث)؟.
وجوابه: أن ذلك شرطية لا تدل على الحصول. قيل: ويدل على مذهب أبي حنيفة في أن الأصل في الناس العدالة؛ لأن العميدي قال:
في الصور المفردة إذا " أشكل " علينا تبعيتها لأحد نوعيّ الجملة بالتعيين فإنَّا نلحقها بأكثر النوعين. وفي مذهبنا أن الصفة إذا كانت محتملة للصحة، والفساد حملت على الصحة ما لم يكن الفساد في الناس أغلب فتحمل عليه. وقد قررنا اقتضاء هذه الآية أن الطيب أكثر.
وأجيب: بأن الخطاب بالآية للصحابة وكلهم عدول. والأصل إذ ذاك في الناس العدالة، ويتقرر مفهوم الغاية بأنه يحصل معرفة المؤمن من الكافر، ولا يزالون مختلطين بالمعاشرة، والسكنى، وغير ذلك.
- (أجر عظيم). يدل على أن وصف التقوى أخص من وصف الإِيمان.
١٨٠ - (يبخلون..). قال: قيل (ولا يحسبن الذين كفروا..)، بلفظ الماضي مع أن المحكوم عليه واحد!.
وجوابه: أن الكفر متعلقه شيء واحد، وهو ما أتى به الرسول
ولا تجدد فيه. والبخل له متعلقات متعددة، ولا يسمى بخيلاً حتى يتكرر بخله، ويتجدد.
١٨١ - (سنكتب..). عبر عنه بالمستقبل، وعن السمع بالماضي؛ لأن المراد بالكَتْب الجزاء، وهو مستقبل، وأكدوا نسبة الفقر إلى اللَّه دون نسبة الغنى إليهم كان ذلك عندهم أمر جليّ بين. وهذا من خبثهم.
- (وقتلهم الأنبياء). إما على حذف مضاف أي: قتل أنبيائهم، أو نُسِب إليهم مجازا، فتعارض المجاز، والاضمار.
١٨٢ - (.. بما قدمت أيديكم..). يتناول القول، والفعل، أو الفعل ويدل على القول من باب أحرى، لأن الفعل أقل من القول فإذا عوقبوا على الأقل فأحرى " على " الأكثر. والقول أشد من الفعل بدليل الكفر.
١٨٣ - (الذين قالوا إن اللَّه عهد إلينا.). الآية فيها إشكال وهو أن اليهود ينكرون النسخ حسبما تقرَّر في أصول الفقه، وهذا القول منهم
إقرار بالنسخ لاقتضائه أن شريعتهم تُنْسخ إذا أتاهم رسُول بقربان تأكله النار!.
فإن أجيب: بأن المراد رسول تكون شريعته موافقة لشريعتهم. " ردّ بأن هذه مقاولة بينهم، وبين النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم، وقد أتاهم بشريعة ناسخة، لشريعتهم ". وكذلك عيسى قبله.
١٨٥ - (كُلُّ نَفْسٍ..). إن قلنا: إن ذاتة تعالى لا يطلق عليها
نفس فهو باق على عمومه. وإن قلنا: يطلق عليها نفس ة لظاهر قوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ..) فيكون مخصوصًا.
وجعله الفخر: متناولًا للجَمَادات. بناء منه على أن المراد بالنفس: الذات. وأنه من باب السلب لا العدم والمَلَكة.
١٨٦ - (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ..). الصواب عدم دخول النبيّ ﷺ في هذا الخطاب؛ لأنه ممن لا يتأثم بمثل ذلك. والعطف ترقٍ. ونص الأصوليون في الكليات الخمس أن آكدها حفظ الأديان، ثم النفس، ثم العقول، ثم الأنساب، ثم الأموال كذا رتبها الآمدي، وابن الحاجب.
قال ابن التلمساني: الأديان ثم النفوس " ثم الأنساب " ثم الأعراض ثم العقول ثم الأموال. وظاهر الآية مخالف لذلك فيما بين قوله: (وأنفسكم) مع قوله: (ولتسمعُنَّ) الآية، فظاهره أن حفظ الأعراض آكد من حفظ النفوس، ولمس كذلك؛ لأن الأعراض إنما فيها حد القذف، والنفوس فيها القصاص في الدنيا، والعذاب في الآخرة حتى قال ابن عباس، وغيره: إنه مخلد في النار ولا تنفعه التوبة.
604
والجواب: أن ضم حفظ الأعراض هنا إلى سبب نزول الآية، يدل على أنه هنا راجع، لحفظ الأديان، وهو آكد من حفظ النفوس كما سبق، فهو ترقٍ على بابه.
فإن قلت: (ولتسمعُنَّ) مستقبل، وما ذكروه في سبب نزول الآية يقتضي أنه ماض!. قيل: هو ماضٍ، ويتزايد في المستقبل.
- (وإن تصبروا..). عبر بـ " إن " دون " إذا " مع أن الصبر مطلوب مراد وقوعه إشارة لإِمكان المراد المتعسر منه المشكوك في وقوعه، فيدل على طلب المتيسر منه من باب أحرى.
605
- (من عزم الأمور..). أي يبتغون بالصبر وجه الله تعالى لا التجلد، والحَمِيْة في الباطل.
وجواب الشرط محذوف أي: تؤجروا أجرًا عظيماً، فإن ذلك من عزم الأمور، فالمذكور دليل الجواب، وعلته. والأمور جمع أمر بمعنى الشأن، وجمعه باعتبار اختلاف أنواعه.
١٨٧ - (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ..). إن قلت: المناسب باعتبار الفَهْم العكس في الترتيب، لأن عدم كتمانه إنما يفيد إلْقاءه فقط مبينًا، أو غير مبين، والأمر بتبيانه يفيد الأمر بالإلقاء المفهوم من قوله (ولا تكتمونه)، وزيادة فلو عكس لكان العاطف تأسيسًا، وهو أن يلقى أولًا غير مُبيَّن ثم يُبين في ثاني حال.
فالجواب: أنه رُوعي فيه ما تقرّر من أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأخص يستلزم الأعم؛ لأن البيان، وعدم البيان إما بكتم الكتاب عنهم من أصل. وإمّا بإلقائه لهم مبهمًا غير مُبينَّ، فلما أمر بالبيان توهم أنهم ما بينوا للأمة إلّا ما سمعوه منهم. وأمّا ما لم يبلغ الناس فلا يلزمهم تبيانه لهم. فقيل: ولا تكتموا عنهم ما بلغكم منهم، ولم يشعروا هم به؛ لئلا يقال: أنهم ما يجب عليهم أن يُبلغوا للناس إلّا آيات التكليف،
606
وما يتعلق به حكم من وعد ووعيد، ونحوه فيبلغون لهم ذلك، ويبينونه، ليعلموه، ويعملوا بمقتضاه، وما سوى ذلك من القصص الخارجة عن أمور التكليف العلمية، والعملية فليس بواجب عليهم تبليغه، فاحترز من ذلك بقوله: (ولا تكتمونه).
وأجيب أيضا: بأن المراد: ليبيننه لعوام الناس، ولا يكتمونه عن
خواصهم أي: ألقوه مبيَّنًا، وغير مبيّن بحسب الحاضرين، أو أمروا ببيان ما نُزِّل منه، أو ألقوه؛ لأنهم كانوا يلقونه لهم غير مُبيَّن، وأن لا يكتموا عنهم ما يُنزَل منه فى المستقبل.
- (فنبذوه وراء ظهورهم..) كان الفقيه " أبو العباس أحمد بن علوان يقول: وراء الظهر هو الوجه فهم طرحوه أمامهم.
607
وأجيب: بأن المراد بالظهر مقابل الأمام فهم نبذوه وراء ورائهم مبالغة في النبذ، وتقدم نظيره في البقرة.
١٨٨ - ابن عطية: قرأ حمزة (لا تحسِبَن) بالتاء، وكسر السين، وفتح الباء " انتهى. الذي ذكر عنه القراء: فتح السن، وتنكير (مفازة)؛ للتقليل، ويدل على نفي الكثير من باب أحرى.
١٨٩ - (ولله ملك السماوات والأرض) قيل: يؤخذ منه أن الحوز دليل الملك، وانظر في أواخر سورة البقرة.
- (واللَّه على كل شيء قدير). حكى ابن عطية عن الباقلاني: أنه عام مخصوص بالمستحيل. فظاهره أن المستحيل يطلق عليه شيء. وأكثر
608
الأصولين كابن التلمساني، وغيره: منعوا ذلك. وبعضهم جوز الإطلاق، وذكر الآمدي في أبكار الأفكار مسألتين:
أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء؟. مذهبنا المنع، ومذهب المعتزلة: أنه شيء، ولا نبني عليه كفر، ولا إيمان.
الثانية: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لا؟. فنحن ننفيه، وهم يثبتونه، ويلزمهم قدم العالم. فعلى الثاني ليس المحال بشيء باتفاق، وعلى الأول هو شيء.
وقال سراج الدين في " الحاصل "، والسِّراج في " اختصار المحصول ": اتفق أهل السنة، والمعتزلة على أن المعدوم المستحيل لا يطلق عليه شيء، وإنما الخلاف في المعدوم الممكن. وحكى الشيرازي " شارح ابن الحاجب ": الإِجماع على أنه لا يطلق على المستحيل شيء. وحكى
609
الأصبهاني " شارح ابن الحاجب ": أن المستحيل شيء ذَكَره في باب العام والخاص، لما ذكر ابن الحاجب: التخصيص بالنقل، وذكر هذه الآية، تعقب ذلك. قال الأصبهاني: إنها مخصصه بواجب الوجود، وبالمستحيل.
فظاهره صحة إطلاق لفظ (شيء) عليه.
وقال الشيرازي " شارحه " في حدّ القياس: وهو حمل معلوم على معلوم. وإنما لم يقل: حمل شيء ليدخل المعدوم، والممكن عندنا، والمستحيل عندنا، وعند المعتزلة، فظاهره الاتفاق على أنه ليس بشيء. وكذا قال ابن التلمسانى في " شرح المعالم الدينية "، وظاهر كلامه في " شرح المعالم الفقهية " في حدّ القياس أن المعدوم ليس بشيء، فإنه قال: حمل معلوم على معلوم، وإنما لم يقل: حمل شيء ليدخل المعدوم " انتهى.
وأما الحال عند أهل أصول الدين فهي باعتبار ذاتها " ليست بشيء "؛ لأنها لا موجودة، ولا معدومة، وباعتبار ما هي تابعة له فهي شيء.
610
١٩٠ - (إن في خلق السماوات). اختلف الأصوليون رضي الله عنهم هل الخلق نفس المخلوق، أو غيره؟. واحتج من قال: إنه نفسه بأنه لو كان غيره للزم عليه إما قدم العالم إن قلنا: إن ذلك الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر، وإما التسلسل إن قلنا: بالافتقار.
وأجاب الآخرون: بأنه لو كان نفسه، للزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه في هذه الآية، وأمثالها. والتحقيق: أنه في الشرع يطلق ويراد به نفس المخلوق كقوله تعالى: (ثم أنشأناه خلقًا آخر..)، ويطلق على الإِنشاء، والاختراع والتكوين، كهذه الآية، والتأكيد بـ (إن)، للتنبيه، لغفلة الناس عن ذلك غالبًا، وذكر هنا (الليل والنهار)، وفي سورة نوح ذكر لازمهما (الشمس والقمر) اكتفاء.
- (لآيات..). أي: في كل واحدة آيات، قال ابن عطية: المراد: العقل
التكليفي لا أَزْيد.
١٩١ - (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا..). قال شيخنا رحمه الله: كان بعضهم يستشكل فَهْم هذه الآية على مذهب أهل السنة في نفي العلة، والغرض، والتحسين، والتقبيح، وسألني عن ذلك؟.
فقلت له: معنى الآية ما خلقت هذا مخالفًا لِمَا أَنْبأَتنا به الرُسُل عنك من الحشر، والنشر، والإعادة، والثواب، والعقاب، بل هو موافق لذلك ودليل عليه لا أنه لأجله وعلة فيه، ومثله (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق..).
والارتباط عندنا في ذلك عادي شرعي، وأفعال الله تعالى غير معللة، ولابن سلامه هنا كلام ضعيف، وما قلناه أصوب.
١٩٢ - (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ..). هذا الدعاء تلطف من وجهين: تكرار
612
النداء خمس مرات، وذكر لفظ (الرب) المشعر بالشفقة، والرأفة، فقيل: الملازمة بين الشرط، وجوابه جلية واضحة فما أفاد التأكيد بـ (إن)؟!.
وأجيب: باحتمال كونه تعليلًا لقوله: (فقنا عذاب النار). وذكر أبو حيان في إعراب (من) ثلاثة أوجه. ويحتمل وجهًا رابعًا، وهو أنه مبتدأ، و (تدخل) وحده خبرها على الوجه الضعيف الذي ذكر في قوله: " كله لم أصنع " بالرفع، وفي قوله: فثوب لَبسْتُ وثوب أجر ". واستدل بها الزمخشري على نفي الشفاعة، لأن الخزي يقتضي عدم خروجهم منها.
ويردّ بصحة صدق الخزي على كل من دخلها على أن الوقف على (النبي) في قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ..).
- والمراد ب (الظالمين): الكفار، أو ما لهم أنصار ابتداءً، قبل دخولهم النار، وبعد ذلك تنفع الشفاعة فيمن هو مؤمن، أو نقول: نفي الأنصار لا ينافي ثبوت الشفاعة، لافتقار شفاعتهم إلى القبول.
613
١٩٣ - (فآمنا..). دليل لما اختاره عياض، وهو القول الثالث في مسألة القائل: " أنا مؤمن "، هل لا بدّ من زيادة إن شاء الله أو لا؟. فقال عياض: إن أراد في المستقبل، وما تقع به الخاتمة فلا بدّ من زيادتها، وإن أراد صحة معتقده في الوقت الحالي وجب حذفها. وهذا إنشائي. وتكلم على ذلك كما عُرفَ محمد بن سحنون، وانظر ما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: (قَولوا آمنا..).
قال الزمخشري: والذنوب الكبائر، والسيئات الصغائر. والصواب العكس لأجل الترتيب لئلا يكون تكرار لغير فائدة؛ لأن مغفرة الكبائر يستلزم مغفرة الصغائر من باب أحرى ألَا ترى أن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، ويؤيد هذا قوله بعد: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
فالمراد: بالسيئات الكبائر، والمغفرة: الستر. فلا يلزم منها المحو، فلذلك قال: (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)؛ ليفيد محو الذنوب من أصل، وكذلك
هو في الدنيا يستر الله على العبد معصيته ثم يعاقبه عليها في الآخرة.
والداعي بالمغفرة فقط يقصد بها الستر في الدنيا، والآخرة وإن قرنها بالتكفير فيزيد الستر في الدنيا، والمحو في الآخرة.
- (فقنا عذاب النار..). ترقٍ؛ لأنه دفع مؤلم، وهو آكد من جلب الملائم.
١٩٤ - (ربنا وآتنا ما وعدتنا..) أي ما وعدتنا به لا الميعاد بالإطلاق.
١٩٥ - (أَنّيَ لا أضيع عمل عامل منكم..). يؤخذ منه أن الإِيمان عمل.
قيل لشيخنا: قد قالوا: إن الإِيمان لا يوزن نص عليه أبو طالب، وصاحب " موازنة الأعمال "، وغيرهما، قالوا: ؛ لأنه لو وزن الإِيمان لرجح بجميع السيئات، وذكروا في ذلك حديثًا.
فردّ شيخنا: بأن الإِيمان يوزن، ولا يلزم أن يرجح بالسيئات.
والمسألة علمية فلا يحتجُّ فيها بخبر الآحاد كما قال شيخ المَازَري في
616
حديث: " من اغتصب شبرًا من الأرض طوقه اللَّه به من سبع أرضين يوم
القيامة "، مع أنه حديث صحيح أخرجه البخاري، ومسلم، فكيف
617
بحديث لم يخرجه واحد منهما ولا صححه أحد.
- (من ذكر أو أنثى..). احترس بأن لا يتوهم تفضيل أحد صنفي الذكور، والإِناث على الآخر.
618
- (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي..). الآية إما عطف موصوفات، أو عطف صفات.
- (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ..). يدل على أن المراد بالسيئات الكبائر كما سبق لا الصغائر كما قال الزمخشري؛ لأنها مغفورة باجتناب الكبائر، وغفران الكبائر إما بالتوبة، أو بالموازنة مع هذه الأفعال فترجح بها.
وقال الأصوليون: فائدة الترتيب في الكليات الخمس التي أَوَّلها، وآكدها حفظ الأديان إذا ظهر الفسوق، وتُعدى الحدود من الخلفاء، فإن الإِنسان يهاجر من البلد الذي فِسْقُهم فيها بأشدها إلى الذي فِسْقُهم فيها بأخفها، والعطف فيما بين الأول، والثاني تدلي، وفيما بعده ترقى.
١٩٦ - (لَا يَغُرَّنَّكَ..). حاصل ما ذكره الزمخشري هنا أن الأمر الملائم إن اعْتُبر من حيث ذاته مع قطع النظر عن عاقبته ومآله فهو غرور، وإن رُوعي " مآله " فليس بغرور.
١٩٧ - (متاع قليل..). حذف مبتدأه لكون الخبر لا يصلح إلّا له.
الزمخشري: قِلَّته بالنسبة إلى الثواب الأخروي "، انتهى. هو بالنسبة إليه عدم فيكون كقول سيبويه: " قلَّ رجل فعل ذلك، وأنشده: مررت بأرض قل ما تنبت البقلا.
ابن العربي في " سراج المريدين " في الاسم الحادي، والثلاثين وهو الزاهد.
١٩٨ - (لكن الذين..) كان الصعلوكي، الفقيه الحنفي من
620
خُرَاسَان ممَّن جمع رئاسة الدين، والدنيا لقي وهو راكب يهوديًا خارجًا من سجن حمام في أطمار سجنه بدخانه فقال: ألستم تروون عن نبيكم: " أن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر "؟، وهو عبد كافر، وترى حالي، وأنت مؤمن ترى حالك فقال له على البديهية إذا صرت يا هذا لعذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صرت أنا إلى نعيم اللَّه كان هذا سجني. فعجب الخلق من فقهه، وبراعته.
- (اتقوا ربهم لهم..). عبر بلفظ: " الرب " دون لفظ: " اللَّه "؛ لأنهم إذا اتقوه مع استشعار الحَنَان، والشفقة فاحرى مع استحضار مقام الجلال.
- (خالدين). أعربه مكيِّ: حالًا من ضمير (لهم) بناء على أنه خبر، و (وجنات) مبتدأ.
621
- (ونزلًا). النُزُل ما يقدم للضيف ساعة نزوله، وهو أدنى مما يقدم له إذا بات باعتبار العادة؛ لأن ما قدم له أولا لم يكن صُنعَ لأجله فجعل الجنة (نُزُلاً) فقط، وما وراءها من الإِحسان أكثر من ذلك.
- (عند اللَّه خير..). الفخر: احتج أهل السنة بهذه الآية، على إثبات الرؤية. لأنه ليس ثَمَّ ما هو خير من الجنة إلَّا النظر إلى وجه اللَّه عزّ وجل.
١٩٩ - (لَمَن يؤمن باللَّه..). عبر بالمضارع مع أنهم كانوا آمنوا، إما للتصوير على أن المراد بالآية النجاشيِّ، وإما للتجدد على أن المراد: غيره؛ لأن النجاشي قد مات.
فإن قلت: المُنَزَلُ إليهم متقدم في النزول على المنزل إلينا فهلا قدم في اللفظ!.
فالجواب: أنه قدم ما هو مستبعد الوقوع فكان تصوير الإِخبار بأن إيمانهم به أهم، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ..)، فقدم تحرير الرقبة؛ لأنها
مستبعده في مظنة الترك؛ لأن القتل خطأ ثم قال: (وإن كان من قوم بينكم وبيهم ميثاق فدية..) فقدم الدية؛ لكون المقتول كافرًا فهي مستبعدة في مظنة الترك، وكما قالوا في قوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين..)، قدم الوصية؛ لأنها عن غير عوض فهي مستبعدة الوقوع.
- (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا..). تعريض بأحبار اليهود فإنهم كانوا يقبلون الرَّشاء.
- (قليلاً..). لا مفهوم له؛ لأنه لايقع إلا قليلاً لفنائه.
- (وسريع الحساب). الأظهر أن المراد قرب وقته. وقيل: قصر مدته. وإذا كان المخلوق يقول: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك..)
، ثم وفَّى به، وقدر عليه فما بالك بالخالق؟!.
٢٠٠ - (وصابروا..) أي: صابروا بعضكم بعضًا؛ ليكون كل واحد منكم أصبر من صاحبه، أو من جميع أصحابه.
الزمخشري: أي: صابروا أعداء الله في الجهاد أي: غالبوهم في الصبر على شدائد الحروب، ولا تكونوا أقل صبرًا منهم. وزاد ابن عطية صابروا أنفسكم أي: عاقبوها فأَكْرِهُوها على الصبر.
623
- (رابطوا). ابن عطية عن ابن الموَّاز: المرابط هو الذي يشخص لثغر من الثغور، ليرتبط فيه مدة ما. فأمّا سُكَّان الثغور دائمًا بأهاليهم فليسوا بمرابطين. ولما نقله الباجي في أواخر " كتاب الجهاد " قال: الظاهر أنه مرابط، وإن أقام بأهله.
قال شيخنا: وهو الصحيح أَلَا ترى أن مالكًا قال في " المدونة ": لا بأس أن يخرج الرجل بأهله إلى مثل السواحل لا إلى دار الحرب في الغزو إلّا أن يكون في عسكر عظيم لا يخاف عليهم. وكان السلطان أبو الحسن المُريني إذا خرج للجهاد يبحث على من عنده زوجة حرَّة فيأمره بإخراجها معه، وإذا كان الإِنسان " يؤجر على اللقمة يجعلها في فيّ امرأته "، كما في الحديث الصحيح فأحرى أن يؤجر على مجاهدته عن امرأته. وكذا الرباط فإنه يكون حرص الإِنسان حينئذ على السلامة أشد؛ لأنه يناضل عن نفسه، وعن حريمه، وعن المسلمين. ولمَّا عَرَّف عياض في " المدارك " بسعيد بن
624
فحلون قال: إنه سمع رجلاً يسأل المغاميِّ عن رجل أراد الخروج إلى " ظلمتك " مرابطًا، وأراد أن يُخْرِجَ معه جارية تخدمه، ويطاؤها، فقال: لا تخرج إليها بجارية أصلاً قال سعيد: فلما دخلت الاسكندرية سألت عنها ابن ميِّسر فقيهها فقال: إذا كانت المدائن التي يحبس عليها
625
عامة الروم فلا تخرج، وأمّا مثل الاسكندرية فيخرج إليها بالنساء، إذ لا يُجْسرعليها.
- (واتقوا الله..). حجة للمتأخرين في أن المتقي أخص من المؤمن؛ لأن المقصود أخص وصف التقوى.
* * *
626
Icon