تفسير سورة الأحزاب

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:" وَذلِكَ أنَّ أبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ؛ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أبي جَهْلٍ؛ وَأبَا الأَعْوَر السُّلَمِيِّ قَدِمُواْ فَنَزَلُواْ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأسِ الْمُنَافِقِيْنَ؛ وَجَدِّ ابْنِ قَيْسٍ؛ وَمُعْتَب ابْنِ قَسْرٍ الْمُنَافِقَيْنِ. وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أبي سَرْحٍ، فَطَلَبُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانُواْ طَلَبُواْ مِنْهُ الأَمَانَ عَلَى أنْ يُكَلِّمُوهُ، فَقَالُواْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا اللاَّتَ والْعُزَّى وَمَنَاتَ، وَقُلْ: إنَّ لَهَا شَفَاعَةً فِي الآخِرَةِ وَمَنْفَعَةً لِمَنْ عَبَدَهَا، وَنَدَعُكَ أنْتَ وَرَبُّكَ! فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه: ائْذنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ فِي قًتْلِهِمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنِّي قَدْ أعْطَيْتُهُمُ الأَمَانَ ". فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ أنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ الْمَدِيْنَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه: أُخْرُجُواْ فِي لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبهِ "، وَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. ومعناهَا: يا أيُّها النبيُّ اتَّقِ اللهَ في نقضِ العهد الذي بينَكَ وبين أهلِ مكَّة لا تَنْقِضْهُ قبلَ أجَلِهِ ﴿ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ فيما دعَوكَ إليه، ولا تَمِلْ إليهم، ولا تَرْفِقْ بهم ظَنّاً منكَ أن ذلك أقربُ إلى استِمَالَتِهم إلى الإيْمانِ، فإن ذلك يؤدِّي إلى أن يُظَنَّ بك مقارنة القومِ على كُفرِهم، فمعنى قولهِ ﴿ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ يعني أبَا سُفيان وأبا الأعور وعِكرمةَ، والمنافقين عبداللهِ بنِ أُبَي وجَدِّ بنِ قَيْسٍ وغيرِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾؛ أي عَلِيماً بأحوَالِهم، حَكِيماً فيما أوجبه عليك في أمرِهم وفيما يخلقهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ ﴾؛ أي اعمَلْ بما أمرَكَ اللهُ في القُرْآنِ من مُجانَبَةِ الكفَّار والمنافقينَ وتَرْكِ مُوافَقَتِهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾؛ قرأ بالياءِ أبو عمرٍو، وقرأ الباقونَ بالتَّاء أي خَبيرٌ بكَ وبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ﴾؛ أي فَوِّضْ أمرَكَ إلى اللهِ واعتمِدْ عليه في مُعاملتِهم بما أُمِرْتَ به في شأنهم.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾؛ أي حَافِظاً وناصِراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي مُعَمَّرٍ جَمِيْلِ بْنِ أبي رَاشِدٍ الْفِهْرِيِّ، وَكَانَ رَجُلاً حَافِظاً لَبيْباً لِمَا يَسْمَعُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ فِي جَوْفِي لَقَلْبَيْنِ، أعْقِلُ بكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أفْضَلَ مِنْ عَقْلٍ مُحَمَّدٍ! وَكَانَتْ قُرَيْشُ تُسَمِّيْهِ ذا الْقَلْبَيْنِ لِدَهَائِهِ وَكَثْرَةِ حِفْظِهِ لِلْحَدِيْثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ تَكْذِيْباً لَهُمْ، فَأَخْبَرَ أنَّهُ مَا خَلَقَ لأَحَدٍ قَلْبَيْنِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْر وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَفِيْهِمْ أبُو مُعَمَّرٍ، تَلَقَّاهُ أبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَعْدُو وَإحْدَى نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ وَالأُخْرَى فِي رجْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أبَا مُعَمَّرٍ مَا فَعَلَ النَّاسُ؟ قَالَ: انْهَزَمُواْ. فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُ إحْدَى نَعْلَيْكَ فِي يَدِكَ وَالأُخْرَى فِي رجْلِكَ؟! فَقَالَ: مَا شَعَرْتُ إلاَّ أنَّهُمَا فِي رجْلِيَّ. فَعَرَفُواْ يَوْمَئِذٍ أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ مَا نَسِيَ نَعْلَهُ فِي يَدِهِ). وقال الزهريُّ ومقاتلُ: (هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُظَاهِرِ امْرَأتَهُ وَالْمُتَبَنِّي وَلَدَ غَيْرِهِ، يَقُولُ: فَكَمَا لاَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ، لاَ تَكُونُ امْرَأةُ الْمُظَاهِرِ أُمَّهُ حَتَّى لاَ يَكُونَ لَهُ أُمَّانِ، وَلاَ يَكُونُ وَلَدٌ ابْنَ رَجُلَيْنِ). قًَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾؛ أي ما جَعَلَ نساءَكم اللاَّئي تقولونَ لَهُن: أنتُنَّ علينا كظُهور أُمَّهاتِنا، لَم نجعلَهن كأُمَّهاتِكم في الْحُرْمَةِ. وكانت العربُ تُطَلِّقُ نساءَها في الجاهلية بهذا اللفظِ، فلما جاءَ الإسلامُ نُهُوا عنه، وأُوجِبَتِ الكفارةُ في سورةِ الْمُجادلَةِ. قًَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾؛ أي ما جعلَ مَن تدَّعُونَهُ ابناً من أبناءِ غيرِكم كأبنائكم الذين مِن أصْلاَبكم في الانتساب والْحُرمَةِ والْحُكْمِ، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ بَعْدَ أنْ أعْتَقَهُ، فَكَانَ يُقَالُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ أُمِرَ أنْ تُلْحَقَ الأدْعِيَاءُ بآبَائِهم، وَكَانَ يَوْمَ تَبَنَّاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْوَحْيِ. قرأ نافعُ وأبو عمرٍو (وَتَظَّهَّرُونَ) بفتح التاءِ وتشديد الظَّاء والهاءِ من غير ألِف، وقرأ الشَّاميُّ كذلك إلاّ أنَّه بألف، وقرأ حمزةُ والكسائي مثلَ قراءةِ شامي إلاّ أنه بالتخفيفِ، وقرأ عاصمُ والحسن بضمِّ التاء وتخفيف الظَّاء وبألف وكسرِ الهاء، قال أبو عمرٍو: (وَهَذا مُنْكَرٌ؛ لأَنَّ التَّظَاهُرَ مِنَ التَّعَاوُنِ). قًَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾؛ أي الذي تقولونَهُ من إضافةِ القَلبَينِ إلى الرجُل الواحدِ، وقولِ الرجُل لامرأتهِ: أنتِ علَيَّ كظهرِ أُمِّي، وقولِ الرجُل لغيرِ ابنه: هذا ابْنِي، قَولهُ: تقولونَ بأفواهِكم من غيرِ أن يكون له حقيقةٌ ولا عليه دلالةٌ ولا حُجَّةٌ.
﴿ وَٱللَّهُ ﴾؛ تعالَى: ﴿ يَقُولُ ٱلْحَقَّ ﴾؛ أي يُبَيِّنُ أنَّ الذين يقولونه قولٌ باطل.
﴿ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ ﴾؛ أي يَدُلُّ على طريقِ وإلى الدِّين المستقيمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ ﴾؛ أي نَسِّبُوا هؤلاءِ الأدعياء إلى الآباءِ الذين قد وُلِدُوا على فِرَاشِهم وقولوا: زيدُ بنُ حارثةَ، ولا تقولوا: زيدُ بن مُحَمَّدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي أعْدَلُ في حُكمِ الله من نِسبَتِكم إياهم إلى الذين تبنَّوهُم. وعن ابنِ عمرَ رضي الله عنه أنه كان يقولُ: (مَا كُنَّا نَدْعُوا زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ إلاَّ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾؛ فهم إخوانُكم في الدِّين؛ أي مَن أسْلَمَ منهم.
﴿ وَمَوَالِيكُمْ ﴾؛ أي وبنُو أعمَامِكم، فقولوا: يا أخِي ويا ابنَ عَمِّي في الآيةِ إباحةُ إطلاق اسم الأُخُوَّةِ وحظْرُ اطلاقِ اسم الأبوَّةِ، وفي ذلك دليلٌ على أن مَن قال لعبدهِ: هذا أخِي؛ لَم يُعْتَقْ لأنه يحتملُ الأخُوَّة في الدِّين، وإن قال: هذا ابنِي؛ عُتِقَ لأن ذلك ممنوعٌ في غير النَّسب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾؛ أي ليس عليكم إثْمٌ في نِسْبَةِ الرجُل إلى غير أبيه على وجهِ الخطأ. قال قتادةُ: (وَلَوْ دَعَوْتَ رَجُلاً لِغَيْرِ أبيْهِ وَأنْتَ تَحْسَبُ أنَّهُ أبُوهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ بَأْسٌ).
﴿ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾؛ أي ولكنِ الإثمُ عليكم فيما تعمَّدونَهُ من ادعائهم إلى غيرِ آبائهم.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً ﴾؛ أي لِمَن تعمَّدَ ثم تابَ.
﴿ رَّحِيماً ﴾؛ به بعدَ التوبةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ موضع قوله (مَا) خُفِضَ عطفاً على قولهِ ﴿ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ ﴾ تقديرهُ: ولكن فيما تعمَّدت قلوبُكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾؛ أي هو أشْفَقُ وأبَرُّ وأحقُّ بالمؤمنين مِن بعضهم ببعضٍ، وهو أولَى بكلِّ إنسانٍ منه بنفسهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: إذا حَكَمَ فيهم بشيءٍ نَفَذ حكمهُ فيهم، ووجبَتْ طاعتهُ عليهم. وقال ابنُ عبَّاس: (إذا دَعَاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى شَيْءٍ، وَدَعَتْهُمْ أنْفُسُهُمْ إلَى شَيْءٍ، كَانَتْ طَاعَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ أنْفُسِهِمْ). وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ طَاعَتُهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ). وقال الحكماء: النبيُّ أولَى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم لأنفُسِهم، تدعُوهم إلى ما فيه هلاكُهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما فيهِ نَجاتُهم. وقال أبُو بكرٍ الورَّاق: (لأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَقْلِ، وَأنْفُسُهُمْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهَوَى). وقال بَسَّامُ بنُ عبدِالله: (لأَنَّ أنْفُسَهُمْ تُحْرَسُ مِنْ نَار الدُّنْيَا، وَالنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْرِسُهُمْ مِنْ نَار الآخِرَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾؛ أي كأُمَّهَاتِهم في تَعْظِيْمِ حَقَّهِنَّ وفي تحريم نكَاحِهن، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يتزوَّجَ بهنَّ، كما لا يجوزُ التزويجُ بالأُمِّ. ولَم يُرِدْ إثباتَ الأُميَّة من جميعِ الوُجُوهِ، ألاَ ترَى أنه لا تحلُّ رؤيَتُهن ولا يَرَيْنَ المؤمنين بخلافِ الأُمَّهات، وكذلك لا يخلُو بهنَّ، ولا يسافرُ بهم، ولا يرثُهن ولا يرِثونَهُ، ولو كنُ كالأُمَّهات من جميعِ الوجوه لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يزوِّجُ بناتَهُ من أحدٍ مِن الناسِ؛ لأن البناتَ يكُنَّ أخَواتِ المؤمنينَ. ومِن هذا المعنى ما رُوي: أنَّ امْرَأةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: يَا أُمِّ، قَالَتْ: (لَسْتُ لَكِ بأُمٍّ، إنَّمَا أنَا أُمُّ رجَالِكُمْ) فبَانَ بهذا أنَّ معنى الأُمومَةِ تحريمَ نكاحِهن فقط. ولِهذا لا يجوزُ أن يقالَ لبنَاتِهن أنَّهن أخواتُ المؤمنينَ. وفائدةُ تحريمِ نكاح أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على المؤمنين في حياتهِ وبعد وفاتهِ تعظيمُ أمرهِ وتفخيمُ شأْنِه، ولذلكَ حَرُمَ على الابنِ نكاحُ امراةِ أبيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وذوُ القرابةِ بعضُهم أحقُّ بميراث بعضٍ في حُكمِ اللهِ.
﴿ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ ﴾؛ إذا لَم يكونوا قرابةً، وذلك أنَّهم كانوا يتوَارَثُونَ في ابتداءِ الإسلامِ بالهجرةِ والْمُوَآخَاةِ. قال الكلبيُّ: (آخَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُوَآخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَإذا مَاتَ أحَدُهُمْ وَرثَهُ الثَّانِي دُونَ عُصْبَتِهِ وَأهْلِهِ، فَمَكَثُواْ كَذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ ﴿ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ الََّذِيْنَ آخَا رَسُولُ اللهِ بَيْنَهُمْ وَالْمُهَاجِرِيْنَ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ الْمُوَارَثَةَ بالْمُوَآخاةِ وَالْهِجْرَةِ، وَصَارَتْ لِلأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنَ الْقَرَابَاتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾؛ ﴿ مَّعْرُوفاً ﴾ استثناءٌ ليس مِن الأول، ومعناهُ: لكن فِعْلُكم إلى أوليائِكم جائزٌ، يريدُ أن يُوصِي الرجلُ لِمَنْ يتوَلاَّهُ ممن لا يرثهُ بما أحبَّ من ثُلْثِ مالهِ، فيكونُ الموصَى له أولَى بقدر الوصيَّة من القريب الوارث، وقال ابنُ زيدٍ: (مَعْنَاهُ إلاَّ أنْ تُوصُواْ لأَوْلِيَاءِكم مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾؛ أي كانَ الميزانُ للأقرباءِ، والوصيةُ للأصدقاءِ، ونُسِخَ الميراثُ بالهجرةِ ورَدَّهُ إلى ذوي الأرحامِ مَكتوباً في اللَّوح المحفوظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ ﴾؛ أي واذْكُرْ إذ أخَذْنا مِن النَّبيِّينَ عُهودَهم؛ أي يصدِّقُ بعضُهم بعضاً، ويبَشِّرُ الأولُ بالآخرِ، ويأخذُ كلُّ رسول منهم على قولهِ بما أمرَ اللهُ به، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ﴾؛ قِيْلَ: إنَّ الواو مقحمةٌ؛ وتقديره: منكَ ومِن نوحٍ، فيكونوا (مِنْكَ) ما بعدَهُ تفسيرُ (النَّبيِّيْنَ). والفائدةُ في تخصيصِ هؤلاء الأنبياءِ الخمسة بالذِّكر؛ لأنَّهم أهلُ الشرائعِ والكتب، وأُوْلُو العَزْمِ من الرُّسُلِ، ولَهم الأُمَمُ والتَّبَعُ. وقَدَّمَ ذِكْرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأن الخطابَ معه. وجاء في التفسيرِ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إنِّي خُلِقْتُ قَبْلَ الأَنْبيَاءِ وَبُعِثْتُ بَعْدَهُمْ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾؛ أي عَهْداً وَثِيقاً بأن يَعبدونِي ولا يُشرِكون بي شيئاً. وَقِيْلَ: وأخَذْنَا منهم عَهْداً شديداً على الوفَاءِ بما حُمِّلُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾؛ أي لكَي يسألَ الْمُبَلِّغِيْنَ عن تبلِيغِهم وهو قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ﴾[القصص: ٦٥].
وفائدةُ سؤالِ الرُّسُلِ وهم صادِقُون؛ لتكذيب الذينَ كفَرُوا بهم فيكون هذا السؤالُ احْتِجَاجاً على الكاذِبين، وإذا سُئِلَ الصَّادِقُونَ، فكيفَ يُظَنُّ بالكاذِبين؟! وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ أي أعَدَّ للَّذين كفَرُوا بالرُّسُلِ عذاباً شَديداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾؛ يُذكِّرُهم اللهُ إنْعَامَهُ عليهم في دفعِ الأحزَاب عنهم من غيرِ قتالٍ، وذلك: أنَّ الْكُفَّارَ جَاءُوا بأَجْمَعِهِمْ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ، وَأحَاطُواْ بالْمَدِيْنَةِ مِنْ أعْلاَهَا وَأسْفَلِهَا، طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدِ الأَسَدِي وَأصْحَابُهُ مِنْ فَوْقِ الْوَادِي، وَكَانَ أبُو الأَعْوَر السُّلَمِيُّ وَأصْحَابُهُ مِنْ أسْفَلِ الْوَادِي، وَكَانَ أبُو سُفْيَانٍ وَأصْحَابُهُ وَيَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي مُوَاجَهَةِ الْمُؤْمِنِيْنَ، فَاشْتَدَّ الْخَوْفُ بالْمُؤْمِنِيْنَ وَزَاغَتْ أبْصَارُهُمْ؛ أيْ مَالَتْ مِنَ الْخَوْفِ، وَيُقَالُ: مَالَتْ أبْصَارُ الْمُنَافِقِيْنَ خَوْفاً مِنَ النَّظَرِ إلَيْهِمْ. وكانَ الكُفَّارُ خَمْسَةَ عَشَرَ ألْفاً، وبَلَغَتْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِيْنَ الْحَنَاجِرَ؛ أيْ كَادَتْ تَبْلُغُ الْحُلُوقَ، وَذلِكَ أنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ تَرْفَعُ الرِّئَةَ، فترفعُ الرِّئَةُ القلبَ. كما رُوي:" أنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " قُولُواْ: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، يَكْفِيْكُهُمُ اللهُ تَعَالَى " فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْكُفَّار ريْحاً بَاردَةً مُنْكَرَةً شَغَلَتْهُمْ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلحَرْب، وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْمَكَانِ، وَقَلَعَتْ خِيَامَهُمْ وَأكْفَأَتْ أوَانِيَهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مِنْهَا فِي سَلاَمَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ إلاَّ مَسَافَةُ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ ذلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ عليه السلام كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ ﴾؛ يعني الذين تَحَزَّبُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق، وهم عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وأبُو سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وبَنُو قُرَيْظَةَ.
﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ﴾، وهي الصَّبَا، أُرسِلَتْ عليهم حتى أكفَأَتْْ قدورَهم ونزعت فَسَاطِيْطَهُمْ، وقوله: ﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾، يعني الملائكةَ؛ ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾.
ورُوي:" أنَّ شَابّاً مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أبَا عَبْدِاللهِ هَلْ رَأيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: (إيْ وَاللهِ لَقَدْ رَأيْتُهُ) قَالَ: وَاللهِ لَوْ رَأيْنَاهُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى رقَابنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ حُذيْفَةُ: (يَا ابْنَ أخِي أفَلاَ أُحَدِّثُكُ عَنِّي وَعَنْهُ؟) قَالَ: بَلَى. قَالَ: (وَاللهِ لَوْ رَأيْتَنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَبنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ. قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: " ألاَ رَجُلٌ يَأْتِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ؟ " فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْجَهْدِ. ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: " ألاَ رَجُلٌ يَأْتِيْنِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ؟ " فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أحَدٌ، دَعَانِي فَلَمْ أجِدْ بُدّاً مِنْ إجَابَتِهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " اذْهَبْ فَجِئْ بخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ ". قَالَ حُذيْفَةُ: قُمْتُ وَجَنْبَيَّ يَضْطَرِبَانِ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأسِي وَوَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِيْنِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ ". قَالَ: فَانْطَلَقْتُ أمْشِي حَتَّى أتَيْتُ الْقَوْمَ، وَإذا ريْحُ اللهِ وَجُنُودُهُ يَفْعَلُ بهِمْ مَا يَفْعَلُ، مَا يَسْتَمْسِكُ لَهُمْْ بنَاءٌ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهُمْ نَارٌ، وَلاَ يَطْمَئِنُّ لَهُمْ قِدْرٌ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ، إذْ خَرَجَ أبُو سُفْيَانَ مِنْ رَحْلِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؛ مَا أنْتُمْ بدَار مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَتِ الْخُفُّ وَالْحَافِرْ وَأخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَهَذِه الرِّيْحُ لاَ يَسْتَمْسكُ لَنَا مَعَهَا شَيْءٌ، وَلاَ تَثْبُتُ لَنَا نَارٌ وَلاَ تَطْمَئِنُّ قِدْرٌ. ثُمَّ عَجَّلَ فَرَكِبَ رَاحِلََتَهُ، وَإنَّهَا لَمَعْقُولَةٌ مَا حَلَّ عِقَالَهَا إلاَّ بَعْدَمَا رَكِبَهَا. فَقَالَ حُذيْفَةُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ رَمَيْتُ عَدُوَّ اللهِ فَكُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئاً، فَأَوْتَرْتُ قَوْسِي وَأنَا أُرِيْدُ أنْ أرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ ". فَحَطَطْتُ الْقَوْسَ ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " مَا الْخَبَرُ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ. ثُمَّ أدْنَانِي مِنْهُ وَبي مِنَ الْبَرْدِ مَا أجِدُهُ، فَأَلْقَى عَلَيَّ طَرَفَ ثَوْبهِ، وَألْزَقَ صَدْري ببَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ ﴾ أي مَالَتْ عن كلِّ شيء، فلم تَنْظُرْ إلاَّ إلى عدُوِّها مُقبلاً مِن كلِّ جانب.
﴿ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ ﴾، وَالْحَنْجَرَةُ جَوْفُ الْحَلْقِ. قال قتادةُ: (شَخَصَتِ الْقُلُوبُ مِنْ مَكَانِهَا، فَلَوْلاَ أنَّهُ ضَاقَ الْحُلْقُومُ عَنْهَا أنْ تَخْرُجَ لَخَرَجَتْ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ يعني الملائكةَ، بَعَثَ اللهُ ملائكةً على المشركين فقَلَعَتْ أوتادَ الخيلِ وأطْنَابَ الْفَسَاطِيْطِ، وأطفأَتِ النيرانَ وجالَتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ، وكَثُرَ تكبيرُ الملائكةِ في جوانب عسكَرِهم حتى وقعَ بهم الرعبُ فانْهَزَمُوا من غيرِ قتالٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، أي مِن فوق الوادِي مِن قِبَلِ المشرقِ عليهم مالكُ بن عوفٍ البَصْرِيّ، وعُيَينَةُ بن حِصْنِ الفزَّاري في ألْفٍ مِنْ غَطَفَانَ.
﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، يعني مِن قِبَلِ المغرب فيهم أبُو سفيانَ في قُريشٍ ومَن تَبعَهُ، وأبو الأعْوَر السُّلمي من قِبَلِ الخندقِ. وكانَ مِن حديثِ الخندقِ:" أنَّ نَفَراً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ حَييُّ بْنُ أخْطَبَ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبْيعِ وَهَوْذةُ بْنِ قَيْسٍ وَأبُو عُمَارَةَ الْوَائِلِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيْرِ خَرَجُواْ حَتَّى قَدِمُواْ عَلَى قُرَيْشِ فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابُوهُمْ فَاجْتَمَعُواْ مَعَ قُرَيْشٍ. فَسَارَتْ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ الْفَزَّاريُّ، وَسَارَتْ بَنُو مُرَّةً وَقَائِدُهَا الْحَارثُ بْنُ عَوْفٍ، وَسَارَتْ بَنُو أشْجَعَ وَقَائِدُهَا مُسْعِرُ بْنُ رَخَيْلَةَ الأَشْجَعِيُّ، وَسَارَتْ قُرَيْشُ وَقَائِدُهَا أبُو سُفْيَانَ. فَلَمَّا سَمِعَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ الَّذِي أشَارَ بالْخَنْدَقِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَلْمَانُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا بفَارسَ إذا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا. فَحَفَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ حَتَّى أحْكَمُوهُ. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ، أقْبَلَتْ قُرَيْشُ حَتَّى نَزَلَتْ بمَجْمَعِ الأَسْيَالِ مِن رُومَة، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَكَانَ الْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَعَظُمَ عِنْدَ ذلِكَ الْبَلاَءُ وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأتَاهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَظَهَرَ النِّفَاقُ فِي الْمُنَافِقِيْنَ، حَتَّى قَالَ مُعْتَبُ بْنُ بَشِيْرِ الْمُنَافِقُ: كَانَ مُحَمَّدُ وَعَدَنَا أنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَحَدُنَا لاَ يَقْدِرُ أنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ، مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً. فذلك قوله تعالى: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ ﴾.
فَأَقَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأقَامَ الْكُفَّارُ مَعَهُ بضْعاً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً قَرِيْباً مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ إلاَّ الرَّمْيَ بالنَّبْلِ وَالْحَصَى وَالْحِصَار. فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلاَءُ عَلَى النَّاسِ وَاسْتَطَالَ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنِ وَإلَى الْحَارثِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، وَأعْطَاهُمَا ثُلْثَ ثِمَار الْمَدِيْنَةِ عَلَى أنْ يَرْجِعَا بمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْقَوْمِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى وَقَعَ الْكِتَابُ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ، فَذكَرَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذلِكَ، فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أهَذا شَيْءٌ أمَرَكَ اللهُ بهِ أمْ أمْرٌ تُحِبُّهُ أنْتَ أمْ أمْرٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ فَإنْ كَانَ أمْراً مِنَ اللهِ لَكَ فَلاَ بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بهِ، وَإنْ كَانَ أمْراً تُحِبُّهُ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، وَإنْ كَانَ شَيْئاً تَصْنَعُهُ لَنَا فَعَرِّفْنَا بهِ، فَقَالَ صلى الله الله عليه وسلم: " بَلْ وَاللهِ مَا صَنَعْتُ ذلِكَ إلاَّ أنِّي رَأيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بقَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أنْ أكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ ". فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلاَءِ الْْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ لاَ نَعْبُدُ اللهَ وَلاَ نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لاَ يَطْمَعُونَ أنْ يَأْكُلُوا مِنْ ثِمَارنَا تَمْرَةً إلاَّ قِرَاءً أوْ شِرَاءً، فَكَيْفَ وَقَدْ أكْرَمَنَا اللهُ بالإسْلاَمِ وَأعْزَّنَا بكَ نُعْطِيْهِمْ أمْوَالَنَا! مَا لَنَا بهَذا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللهِ لاَ نُعْطِيْهِمْ إلاَّ السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فقال صلى الله عليه وسلم: " فَأَنْتَ وَذاكَ ". فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيْفَةَ الَّتِي كَتَبُواْ فِيْهَا صُلْحَهُمْ فَمَحَاهَا. ثُمَّ إنَّهُمْ تَرَامَواْ بالنَّبْلِ، فَوَقَعَتْ رَمْيَةٌ فِي أكْحَلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَطَعَتْهُ، رَمَاهُ ابْنُ الْغُرْفَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَا زَالَ أكْحَلُهُ يَسِيْلُ دَماً حَتَّى خِيْفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ أبْقَيْتَ مِنْ حَرْب قُرَيْشٍ فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإنَّهُ لاَ شَيْءَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ جِهَادِ قَوْمٍ آذواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذبُوهُ وَأخْرَجُوهُ، وَإنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لَنَا شَهَادَةً وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. ثُمَّ أتَى نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيُّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ أسْلَمْتُ وَإنَّ قَوْمِي مِنْ غَطَفَانَ لَمْ يَعْلَمُواْ بإسْلاَمِي، فَمُرْنِي فِيْهِمْ بمَا شِئْتَ، فَقَالَ عليه السلام: " إنَّمَا أنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إنِ اسْتَطَعْتَ ". فَخَرَجَ نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيْماً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ؛ لَقَدْ عَلِِمْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ المَحَبَّةِ. قَالُواْ: صَدَقْتَ؛ لَسْتَ عِنْدَنَا بمُتَّهَمٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ قُرَيْشاً وَغَطَفَانَ جَاءُوا لِحَرْب مُحَمَّدٍ، وَإنَّ قُرَيْشاً وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَهَيْئَتِكُمْ؛ لأنَّ هَذِهِ بَلَدُكُمْ وَبهَا أمْوَالُكُمْ وَأبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى أنْ تَحَوَّلُواْ إلَى غَيْرِكُمْ، وَإنَّ قُرَيْشاً وَغَطَفَانَ أمْوَالُهُمْ وَأوْلاَدُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بَعِيدُونَ، إنْ رَأوْا لَهُمْ هَا هُنَا صَوْلَةً وَغَنِيْمَةً أخَذُوهَا، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذلِكَ لَحِقُواْ ببلاَدِهِمْ، وَخَلَّواْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذا الرَّجُلِ وَهُوَ رَجُلٌ ببَلَدِكُمْ لاَ طَاقَةَ لَكُمْ بهِ، فَلاَ تُقَاتِلُوهُ حَتَّى تَأْخُذُواْ رَهْناً مِنْ أشْرَافِ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ يَكُونُونَ بأَيْدِيكُمْ ثِقَةً عَلَى أنْ يُقَاتِلُواْ مَعَكُمْ. فَقَالُواْ لَهُ: لَقَدْ أشَرْتَ برَأيٍ وَنَصِيْحَةٍ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أتَى قُرَيْشاً، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؛ قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إيَّاكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّداً، وَقَدْ بَلَغَنِي أمْراً رَأيْتُ حَقّاً عَلَيَّ أنْ أُبْلِغْكُمُوهُ نُصْحاً لَكُمْ، فَاكْتُمُواْ عَلَيَّ. قَالُواْ: نَفْعَلُ! قَالَ: اعْلَمُواْ أنَّ مَعْشَرَ الْيَهُودِ قَدْ نَدِمُواْ عَلَى مَا صَنَعُواْ فِيْمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أرْسَلُواْ إلَيْهِ: أنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى فِعْلِنَا، فَهَلْ يُرْضِيْكَ عَنَّا أنْ نَأْخُذ مِنَ الْقَبيْلَتَيْنِ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رجَالاً مِنْ أشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ فَتَضْرِبُ رقَابَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: نَعَمْ، وَأنْتُمْ إذا بَعَثَتِ الْيَهُودُ إلَيْكُمْ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْناً مِنْ رجَالِكُمْ فَلاَ تَدْفَعُواْ إلَيْهِمْ رَجُلاً وَاحِداً. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أتَى غَطَفَانَ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ؛ أنْتُمْ أصْلِي وَعَشِيْرَتِي وَأحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وَلاَ أرَاكُمْ تَتَّهِمُونِي. قَالُواْ: صَدَقْتَ! قَالَ: فَاكْتُمُواْ عَلَيَّ، قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ وَحَذرَهُمْ مَا حَذرَهُمْ. فَأَرْسَلَ أبُو سُفْيَانَ وَرُؤُوسُ غَطَفَانَ إلَى يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ نَفَراً مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، فَأَتُوْهُمْ وَقَالُواْ لَهُمْ: قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَأَعِدُّواْ لِلْقِتَالِ حَتَّى يَفْرَغَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ بَنُو قُرَيْظَةَ: لَسْنَا بالَّّذِي نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رَهْناً مِنْ رجَالِكُمْ تَكُونُ ثِقَةً بأَيْدِيْنَا، فَإنَّا نَخَافُ أنَّكُمْ إذا اشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ أنْ تَسِيْرُواْ إلَى بلاَدِكُمْ وَتَتْرُكُونَا، وَهَذا الرَّجُلُ قَرِيْبٌ مِنْ بلاَدِنَا، وَلاَ طَاقَةَ لَنَا بهِ. فَرَجَعَتِ الرُّسُلُ بمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَقَالَتْ قُرَيْشُ وَغَطَفَانُ: وَاللهِ إنَّ الَّذِي حَدَّثَنَا بهِ نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ. وَأرْسَلُواْ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: وَاللهِ لاَ نَدْفَعُ إلَيْكُمْ رَجُلاً وَاحِداً مِنْ رجَالِنَا، وَلَكِنَّكُمْ إنْْ كُنْتُمْ تُرِيْدُونَ الْحَرْبَ فَاخْرُجُواْ مَعَنَا فَقَاتِلُواْ وَنَحْنُ مَعَكُمْ. قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: لاَ نُقَاتِلُ إلاَّ إذا أعْطَيْتُمُونَا رَهْناً مِنْ رجَالِكُمْ. فَقَالُواْ لَهُمْ: حَدَّثَنَا نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ بذلِكَ فَلَمْ نُصَدِّقْهُ، فَقَالُواْ لَهُمْ: إنَّ الَّذِي ذكَرَهُ لَكُمْ حَقٌّ. وَخَذلَ اللهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ الرِّيْحَ فِي لَيْْلَةٍ شَاتِيَةٍ شَدِيْدَةِ الْبَرْدِ حَتَّى انْصَرَفُواْ رَاجِعِيْنَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ ﴾، فأمَّا المنافقونَ فظَنُّوا أنَّ مُحَمَّداً وأصحابَهُ سَيُغلبون ويُستأصَلون، وأما المؤمنونَ فأيقَنُوا أنَّ ما وعدَهم اللهُ تعالى حقٌّ، وأنه سيُظْهِرُ دِيْنَهُ على الدِّين كلِّه ولو كَرِهَ المشركونَ. قال الحسنُ في معنى: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ ﴾: (يَعْنِي ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ باللهِ خَيْراً، وَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أنَّ الْكَافِرِيْنَ ظَهَرُواْ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ). قرأ نافعُ وعاصم وابنُ عامر: (الظُّنُونَا) و(الرَّسُولاَ) و(السَّبيْلاَ) بإثباتِ الألف فيها وَقْفاً ووَصْلاً لأنه من أواخرِ الآي، وقرأ أبو عمرٍو بغير ألفٍ وقفاً ووَصْلاً، وقرأ الباقون بالألفِ في الوقفِ دون الوصلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي في تلكَ الحالِ اخْتُبرَ المؤمنونَ بالقتالِ ليتَبيَّن المخلصُ من المنافقِ. وَقِيْلَ: معناهُ: امْتُحِنَ المؤمنونَ بالخوفِ الشَّديد الذي عندَهُ يظهرُ المؤمن القويُّ من المؤمنِ الضعيفِ، وذوُوا العزمِ الصحيح من غيرِهم. وقوله: ﴿ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾؛ أُزْعِجُواْ وحُرِّكُوا تَحريكاً شديداً، وذلك أن الخائفَ يكون قَلِقاً مُضطرباً لا يستقرُّ على مكانهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ معناهُ: وإذ يقول الذين يستبطنون الكفرَ والذين في قُلوبهم شَكٌّ وضَعْفُ اعتقادٍ: مَا وَعَدَنا مُحَمَّدٌ أنَّ فارسَ والرومَ يُفتحان علينا ونحنُ في مكاننا هذا الذي لا يقدرُ أحدٌ أن يَبْرُزَ لحاجتهِ إلاَّ باطلاً. قال قتادةُ: (قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أنْ نَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِ وَفَارسَ، وَأحَدُنَا لاَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يُجَاوزَ رَحْلَهُ، هَذا وَاللهِ الْغَرُورُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ ﴾؛ قال مقاتلُ: (هُمْ بَنُو سَالِمٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ)، وقال السديُّ: (عبدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأصْحَابُهُ). (يَا أهْلَ يَثْرِبَ) أي يا أهلَ المدينةِ، قال أبو عُبيدة: (يَثْرِبُ اسْمُ أرْضِ، وَمَدِيْنَةُ الرَّسُولِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْها). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ مُقَامَ لَكُمْ ﴾ أي لاَ مَوْقِفَ لكم في هذا الموضعِ، فارجِعُوا إلى المدينةِ. وقرأ عاصمُ (لاَ مُقَامَ) بضمِّ الميمِ؛ أي لا إقامةَ لكم ها هُنا؛ لكثرةِ العدُوِّ وغلبةِ الحِرَاب، فارجِعُوا إلى منازلِكم، أمَرُوهم بالهرب من عسكرِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ ﴾؛ معناهُ: ويستأذنُ فريقٌ منهم النبيَّ عليه السلام في الرُّجوعِ إلى منازلِهم بالمدينةِ؛ وهم: بنُو حَارثَةَ وبَنُو سَلَمَةَ، وكانوا يعتَلُّون في الاستئذانِ بقولِهم: ﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾؛ أي بيُوتُنا خاليةٌ من الرِّجالِ نخافُ عليها، وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ بيوتَنا ليست بجديدةٍ. وقال مقاتلُ والحسن: (مَعْنَاهُ: قَالُواْ بُيُوتُنَا ضَائِعَةٌ نَخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقَ). وقال قتادةُ: (قَالُوا بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ وَلاَ نَأْمَنُ عَلَى أهْلِنَا). فكذبَهم اللهُ تعالى وَأعْلَمَ أنَّ قصدَهم الهربُ، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾؛ مِن القتالِ ونُصرةِ المؤمنينَ. وقرأ ابنُ عبَّاس وأبو رجاءٍ: (إنَّ بُيُوتُنَا عَوِرَةٌ) بكسرِ الواو؛ أي قصيرةُ الجدران، فيها خلَلٌ وفُرجَةٌ. قال الزجَّاجُ: (يُقَالُ: عَوَرَ الْمَكَانُ يَعْوَرُّ عَوْراً وَعَوْرَةً، وَبُيُوتٌ عَوْرَةٌ وَعَوِرَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرٌ). والْعَوْرَةُ في اللغة: ما ذهَبَ عنه السَّتْرُ والحِفظُ، تقولُ العربُ: اعْوَرَّ الفارسُ إذا كان فيه موضعُ خللٍ للضَّرب، وعَوَرَ المكانُ إذا بَدَتْ منه عورةٌ. قال الشاعرُ: مَتَى تَلْقَهُمْ، لاَ تَلْقَ لِلْبَيْتِ عَوْرَةً   وَلاَ الضَّيْفَ مَحْرُوماً وَلاَ الْجارَ مُرْمِلايقال: أرْمَلَ القومُ إذا فرغَ زادُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ﴾؛ أي لو دُخلَتِ المدينةُ على هؤلاءِ المنافقين مِن أطرَافِها، يعني: لو دَخَلَ عليهم هؤلاءِ الأحزابُ من نواحِيها.
﴿ ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا ﴾؛ أي ثُم دُعُوا إلى الشِّركِ لأجَابُوها سَريعاً وأعطَوها من أنفُسِهم. والمعنى: لو أنَّ الأحزابَ دخَلُوا المدينةَ، ثُم أمَرُوهم بالشِّركِ لأشْرَكُوا. وقرأ أهلُ المدينةِ (لأَتَوْهَا) بالقصرِ؛ أي لفَعَلُوها بأنفُسِهم.
﴿ وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً ﴾؛ أي وما يلبَثُون بإجَابتِها إلاَّ قليلاً حتى يَقْبَلُوا. قال قتادةُ: (وَمَا احْتَبَسُواْ عَنِ الإجَابَةِ إلَى الْكُفْرِ إلاَّ قَلِيْلاً)، ويقالُ: ما يتَلَبَّثُونَ بالمدينةِ بعدَ إجابَتِهم إلاَّ يَسِيراً حتى يَهْلَكُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ ﴾؛ قِيْلَ: إنَّهم بنُو حارثةَ هَمُّوا يومَ أُحُدٍ أن يَفْشَلُوا مع بني سَلَمَةَ، فلمَّا نزلَ فيهم ما نزلَ، عاهَدُوا اللهَ أن لا يعُودُوا لِمثلِها. وقال قتادةُ: (هُمْ قَوْمٌ كَانُواْ غَابُواْ عَنْ وَقْعَةِ بَدْر، وَرَأواْ مَا أعْطَى اللهُ أهْلَ بَدْر مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضِيْلَةِ، فَقَالُواْ: لَئِنْ أشْهَدَنَا اللهُ قِتَالاً لَنُقَاتِلَنَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَاب لَمْ يَفُواْ بذلِكَ الْعَهْدِ). ومعنى الآيةِ: ولقد كانُوا عاهَدُوا اللهَ من قَبْلِ غَزوةِ الخندق ﴿ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ ﴾ أي لا ينهَزِمون ولا يُوَلُّونَ العدوَّ ظُهورََهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً ﴾؛ أي مُطَالَباً مَسْؤُولاً عنه مُحَاسَباً عليهِ، يُسأَلُونَ عنه في الآخرةِ. ثُم أخبرَ اللهُ أنَّ الفرارَ لا يزيدُهم في آجالِهم؛ فقالَ: ﴿ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ ﴾؛ أي مِن حَضَرَ أجَلهُ ماتَ أو قُتِلَ، فكلاهُما مكتوبٌ عليكم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي إنْ فرَرْتُمْ من الموتِ أو القَتْلِ في هذه الوقعةِ لَمْ يُمَتَّعُوا إلاَّ قليلاً حتى يلحَقُكم أحدُ الأمرَين. والمعنى: لا تَمَتَّعُونَ بعدَ الفرار في الدُّنيا إلاَّ مدَّةَ أجَلِكُمْ. ثُم أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ ما قًَدَّرَهُ عليهم وأرادَهُ بهم لا يُدْفَعُ عنهم، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي مَن الذي يُجِيرُكم ويَمنعُكم من اللهِ.
﴿ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً ﴾؛ أي هَلاَكاً وهزِيْمةً.
﴿ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ﴾؛ أي خَيراً وهو النصرُ. وهذا كُلُّهُ أمرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُخاطِبَهم بهذه الأشياءِ. ثُم أخبرَ الله أنه لا ينفَعُهم قريبٌ ولا نَاصِرٌ ينصرُهم من اللهِ، فقال تعالَى: ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾؛ قال المفسِّرون: هؤُلاءِ قومٌ مِن المنافقين، كانوا يبطئون الْمُجَاهِدِيْنَ ويَمْنَعُونَهُمْ عنِ الجهاد. يقال: عَاقَ يَعُوقُ؛ إذا مَنَعَ، وَعَوَّقَ إذا اعتادَ المنعَ، وعَوَّقَهُ إذا صَرَفَهُ عنِ الوجهِ الذي يريدهُ. قال قتادةُ: (هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ، كَانُواْ يَقُولُونَ: مَا مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ إلاَّ أكَلَةُ رَأسٍ، وَلَوْ كَانُواْ لَحْماً لاَلْتَهَمَهُمْ أبُو سُفْيَانَ وَحِزْبُهُ، دَعُواْ هَذا الرَّجُلَ فَإنَّهُ هَالِكٌ، فَخَلُّوهُمْ وَتَعَالُواْ إلَيْنَا). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ أي ويعلمُ القائلينَ لإخوانِهم تعالَوْا إلينا ودَعُوا مُحَمَّداً فلا تشهَدُوا معه الحربَ، فإنَّا نخافُ عليكم الهلاكَ، وَقََوْلُهُ: ﴿ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي لا يحضُرونَ القتالَ في سبيلِ الله إلاَّ قَلِيْلاً؛ أي لا يُقاتِلُونَ إلاَّ ريَاءً وسُمعةً من غيرِ احتسابٍ، ولو كان ذلك القليلُ للهِ لكانَ كثيراً.
قَوْلُهُ: ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي بُخْلاءَ عليكمُ بأنفُسِهم وأموالِهم، لا ينفقونَ شيئاً منها في سبيلِ الله ونُصرةِ المؤمنين. ثُم أخبر عن جُبْنِهِمْ فقالَ تعالى: ﴿ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ ﴾، من الخوفِ والفَزَعِ كما تدورُ أعْيُنُ الذي يحضرهُ الموت فيُغشَى عليهِ، ويذهبُ عقله ويَشخَصُ بصرهُ فلا يطرفُ، كذلك هؤلاءِ تَشْخَصُ أبصارُهم وتُحَارُ أعينُهم لِما يلحَقُهم من الخوفِ.
﴿ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾؛ أي بَسَطُوا ألسِنَتَهم وأرسَلُوها، طاغِينَ عليكم. قال الفرَّاء: (مَعْنَاهُ: آذوْكُمْ بالْكَلاَمِ وَعَضُّوكُمْ بأَلْسِنَةٍ سَلِيْطَةٍ ذربَةٍ) يُقَالُ: خَطِيْبٌ مِسْلاَقٌ إذا كَانَ بَلِيْغاً فِي خِطَابهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ ﴾؛ أي بُخْلاءَ بالغَنيمةِ، يخاصِمُون فيها ويُشَاحُّونَ المؤمنينَ عليها عند القِسْمَةِ، فيقولونَ: أعْطُونَا فلَسْتُمْ أحقَّ مِنَّا! وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ ﴾؛ أي هُم وإنْ أظهَرُوا الإيْمانَ ونَافَقُوا فليسوا بمؤمنينَ.
﴿ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ أي أبْطَلَ جهادَهم وثوابَ أعمالِهم؛ لأنه لَم يكن في إيْمانٍ.
﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ الإحباطُ.
﴿ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾؛ قال مقاتلُ: (مَعْنَى الآيَةِ: فَإذا ذهَبَ الْخَوْفُ وَجَاءَ الأَمْنُ وَالْغَنِيْمَةُ، سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ؛ أيْ بَسَطُواْ ألْسِنَتَهُمْ فِيْكُمْ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيْمَةِ، وَسَيَقُولُونَ: أعْطُونَا فَلَسْتُمْ أحَقَّ بهَا مِنَّا! فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ وَالْقِتَالِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأخْذلُهُمْ، وَأمَّا عِنْدَ الْغَنِيْمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ ﴾ أي يَظُنُّ المنافقونَ مِن جُبْنِهم وخُبْثِهم أنَّ الأحزابَ لَم يذهَبُوا إلى مكَّة وقد ذهبُوا.
﴿ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ ﴾؛ في المرَّة الثانيةِ؛ أي يرجِعُون إلى القتالِ.
﴿ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ ﴾؛ داخلونَ في الباديةِ معَ الأعراب.
﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ ﴾؛ أي يَتَمَنَّوْنَ لو كانوا في باديةٍ بالبُعْدِ منكُم، يسألونَ عن أخباركم يقولونَ: مَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ وأصْحَابُهُ؟! فيعرفُون حالَكم بالاستخبار لا بالمشاهدةِ. والمعنَى بسُؤالِهم: أنه إذا كان الظَّفَرُ لكم شارَكُوكم، وإنْ كان للمشركين شارَكُوهم، كلُّ هذا مِن الْخَوْفِ وَالْجُبْنِ. قرأ يعقوبُ (يَسَّاءَلُونَ) بالتشديد والمدِّ، بمعنى يَتَسَاءَلُونَ؛ أي يَسأَلُ بعضُهم بعضاً عن أخباركم.
﴿ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ لو كانَ هؤلاءِ المنافقونَ فيكم ما قَاتَلُوا إلاَّ رَمْياً بالحجارةِ من غير احتسابٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾؛ أي لقد كان لكُم في رسولِ اللهِ قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ في الصَّبر على القتالِ والثَّبَاتِ عليه واحتمالِ الشَّدائد في ذاتِ اللهِ.
﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ يرجو ثوابَ اللهِ.
﴿ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ ﴾، وثواب الدنيا والآخرةَ.
﴿ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً ﴾، وذلكَ: أنَّ كل من ذادَ أو ذكَرَ اللهَ في لسانهِ ازدَادت رغبتهُ في الاقتداءِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآيةِ: لقد كان لكُم في رسولِ الله اقتداءٌ لوِ اقتديتُم به، والصبرُ معه في مواطنِ القتال كما فَعَلَ هو يومَ أُحُد إذ كُسِرَتْ رباعيَّتهُ وشُُجَّ حاجبهُ وقُتِلَ عمُّه، فواسَاكم مع ذلك بنفسهِ، فهلاَّ فعلتم مثلَ ما فعلَ هو. وقوله تعالى: ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ ﴾ يدلُّ من قوله (لَكُمْ) وهو تخصيصٌ بعد التعميمِ للمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾؛ وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى كان قد وَعَدَهم في سُورةِ البقرةِ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ ﴾[البقرة: ٢١٤].
.. إلى قولهِ﴿ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾[البقرة: ٢١٤] وقولهِ تعالى:﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾[الفتح: ٢٨].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾؛ أي ما زادَهم ما رأوهُ إلاَّ إيْماناً وتصديقاً بوعدِ الله وتَسلِيماً لآخرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي مِن جُملة المؤمنينَ رجالٌ وَافوا ما عاهدُوا اللهَ عليه بالثَّباتِ على الدِّين والعملِ بمُوجبهِ من الصَّبر على القتالِ وغيرِ ذلك.
﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ﴾؛ أي مَن وَفَّى بنذرهِ، ومنهم مَن أقامَ على ذلك العهدِ حتى قُتِلَ شَهيداً في سبيلِ الله. قِيْلَ: إنَّ المرادَ به حَمْزَةُ ابن عبدِ المطَّلب وأصحابهُ الذين قُتِلُوا يومَ أُحُدٍ. والنَّحْبُ في اللُّغة: النَّذْرُ، وَقِيْلَ: النَّحْبُ هو النَّفَسُ، ومنه النَّحِيْبُ: وهو التَّنَفُّسُ الشديدُ والنَّشْجُ في البكاءِ. والمعنى على هذا القولِ: (مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾؛ الموتَ على ذلك العهدِ. وَقِيْلَ: معناهُ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) أي ماتَ أو قُتِلَ في سبيلِ الله فأدركَ ما تَمنَّى، فذلك قضاءُ النَّحْب. وَقِيْلَ: فَرَغَ من عملهِ، ورجعَ إلى اللهِ. وقال الحسنُ: (قَضَى أجَلَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالصِّدْقِ)، قال ابنُ قُتيبةَ: (قَضَى نَحْبَهُ: قُتِلَ). وأصلُ النَّحْب: النَّذْرُ، كان قومٌ نذرُوا أنَّهم إنْ لَقُوا العدوَّ قَاتَلُوا حتى يُقْتَلُوا أو يَفتحَ اللهُ تعالى فَقُتِلُوا. يقال: فلانٌ قَضَى نَحْبَهُ، إذا قُتِلَ. وقال محمَّد بنُ اسحاقٍ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ نَصْرٍ أوْ شَهَادَةٍ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أصْحَابُهُ). وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالَتْ:" طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللهِ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ، ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُصِيْبَتْ يَدُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أوْجَبَ طَلْحَةُ الْجَنَّةَ " "وعن أبي نَجيحٍ: أنَّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍِ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَبَلِ، فَجَاءَ سَهْمٌ مُتَوَجِّهٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بيَدِهِ فَأَصَاب خِنْصَرَهُ. وعن عائشةَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ سََرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ، فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ "وَقالَ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى شَهِيْدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللهِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾؛ أي ما غيَّرُوا عهدَ اللهِ الذي عاهَدُوه عليهِ كما غَيَّرَهُ المنافقونَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ﴾؛ أي صِدْقَ المؤمنونَ في عهدِهم ليجزِيَهم اللهُ بصدقِهم.
﴿ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾؛ بنقضِ العهدِ.
﴿ إِن شَآءَ ﴾؛ قال السديُّ: (يُمِيْتُهُمُ اللهُ عَلَى نِفَاقِهِمْ إنْ شَاءَ فَيُوجِبُ لَهُمُ الْعَذابَ). فمعنى شَرْطِ المشيئةِ في عذاب المنافقين إمَاتَتُهُمْ على النفاق إنْ شاءَ ثُم يعذِّبُهم.
﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ فيغفرُ لَهم، ليس أنه يجوزُ أن لا يُعذِّبَهم إذا مَاتُوا على النِّفاقِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً ﴾؛ لِمَن تابَ ﴿ رَّحِيماً ﴾؛ بمن ماتَ على التَّوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ﴾؛ معناهُ: وصَرَفَ اللهُ الكفَّارَ عن المؤمنينَ مُغتاظِين لَم يكن فيهم مَن شَفَا غَيْظَهُ، ولَم ينالوا منهم مَالاً ولا غنيمةً، ولَم يَرَوا سُروراً.
﴿ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ ﴾؛ بالرِّيحِ والملائكةِ التي أُرسِلَتْ عليهم.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً ﴾؛ أي لَم يَزَلْ قوِيّاً في مُلكهِ.
﴿ عَزِيزاً ﴾، في قدرته مَنِيعاً بالنِّقمةِ من أعدائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ ﴾؛ معناهُ: وأنزلَ الذين عَاوَنُوا المشركينَ من أهلِ الكتاب وهم بنُو قريظةَ، نقَضُوا العهدَ وأعَانُوا الأحزابَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنزَلَهم اللهُ من حُصونِهم مع شدَّةِ شوكَتِهم، وألقَى في قلوبهم الرُّعبَ." وذلك أنَّ بنِي قريظةَ كانوا قد عاهَدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن لاَ ينصرُوا أعداءَهُ عليهِ، فلما رَأوا الأحزابَ وكَثرَتَهم ظنُّوا أنَّهم يستأصِلُون المؤمنينَ، فنَقَضُوا العهدَ ولَحقوا بهم. فَلَمَّا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَجَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بَيْتِهِ، أرَادَ أنْ يَنْزَعَ لاَمَتَهُ، فَسَمِعَ هَسِيْساً، فَنَظَرَ فَإذا جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي دِرْعِهِ وَسِلاَحِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيْلُ: أتَنْزَعُ لاَمَتَكَ يا رَسُولَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةُ لَمْ يَنْزعُواْ حَتَّى يُقَاتِلُواْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَيُصَلَّى فِيهِمْ الْعَصْرُ؟! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَكَيْفَ لِي بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ؟! " فَقَالَ جِبْرِيْلُ: لأُلْهِمَنَّكَ ذلِكَ، فَوَاللهِ لأَدُقَّنَّهُمُ الْيَوْمَ كَمَا يُدَقُّ الْبَيْضُ عَلَى الصَّفَا. فَنَادَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَصْحَاب، فَخَرَجُواْ إلَى حُصُونِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأُلْقِي الرُّعْبُ فِي قُلُوب الْقَوْمِ حَتَّى طَلَبُواْ الصُّلْحَ، وَأبَواْ إلاَّ أنْ يَنْزِلُواْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَكَانَ سَعْدُ قَدْ أصَابَهُ سَهْمٌ فِي أكْحَلِهِ فِي حَرْب الْخَنْدَقِ، فَسَأَلَ اللهَ أنْ يُؤْخِّرَهُ إلَى أنْ يَرَى قُرَّةَ عَيْنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ. فَلَمَّا طَلَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، رَضِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحُمِلَ سَعْدٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ احْتَبَسَ أكْحَلُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " احْكُمْ فِيْهِمْ ". فَقَالَ: حَكَمْتُ فِيْهِمْ بأَنَّ يُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَيُسْبَى ذرَاريَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأمْوَالُهُمْ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " حَكَمْتَ فِيْهِمْ مِثْلَ مَا حَكَمَ اللهُ فِيْهِمْ ". فَلَمَّا قُتِلَتْ مُقَاتِلَتُهُمْ وَسُبيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذرَاريَهُمْ، انْفَجَرَ أكْحَلُ سَعْدٍ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللهُ ". والصَّيَاصِيُّ: جمعُ صِيصَةٍ، وصِيْصَةُ الثَّور قَرْنُهُ، سُمِّي بذلكَ؛ لأنَّ قَرْنَهُ حِصْنُهُ الَّذِي يَتَحَصَّنُ بهِ. ورُوي:" أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي انْصَرَفَ فِيهَا الأَحْزَابُ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، وَوَضَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم السِّلاَحَ، أتَى جِبْرِيْلُ عليه السلام إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَجِراً بعِمَامَةٍ مِنْ اسْتَبْرَقَ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيْفَةٌ مِنْ دِيْبَاجٍ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جحْشٍ يَغْسِلُ رَأسَهُ وَقَدْ مَشَّطَتْ عِقْصَتَهُ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَاللهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ السِّلاَحَ مُنْذُ أرْبَعِيْنَ لَيْلَةٍ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بالسَّيْرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. وَكَانَ هَذا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَادِياً يُنَادِي: " مَنْ كَانَ سَامِعاً مُطِيْعاً فَلاَ يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ". وَقَدَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ برَايَتِهِ إلَيْهِمْ، فَسَارَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه حَتَّى إذا دَنَا مِنَ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهُمْ مَقَالَةً قَبيْحَةً فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَ عَلِيٌّ رضي الله عنه حَتَّى لَقِيَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالطَّرِيْقِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لاَ عَلَيْكَ أنْ تَدْنُو مِنْ هَؤُلاَءِ الْخَبَائِثِ، قَالَ: " أظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ أذى؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَسَارَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُمْ حَتَّى دَنَا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: " يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ أخْزَاكُمُ اللهُ، وَأنْزَلَ فِيْكُمْ نِقْمَتَهُ " قَالُواْ: يَا أبَا الْقَاسِمِ! مَا كُنْتَ جَهُولاً. فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمْساً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذفَ فِي قُلُوبهِمُ الرُّعْبَ. فَلَمَّا أيْقَنُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَاجِعٍ عَنْهُمْ، قَالَ لَهُمْ كَعْبُ بْنُ أسَدٍ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ؛ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بكُمْ مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وَإنِّي سَأَعْرِضُ عَلَيْكُمْ ثَلاَثَ خِصَالٍ، فَخُذُواْ بأَيِّهَا شِئْتُمْ. قَالُواْ: وَمَا هِيَ؟قَالَ: أمَّا الأُوْلَى فَنُبَايعُ هَذا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ فَوَاللهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أنَّهُ نَبيٌّ مُرْسَلٌ، وَأنَّهُ الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابكُمْ، فَتَأْمَنُواْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ. قَالُواْ: لاَ نُفَارقُ دِيْنَنَا أبَداً، وَلاَ نَسْتَبْدِلُ بهِ غَيْرَهُ. قَالَ: فَإنْ أبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ، فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أبْنَاءَنَا وَنَسَاءَنَا، ثُمَّ نَخْرُجَ إلَى مُحَمَّدٍ رجَالاً مُصَلِّتِينَ بالسُّيُوفِ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَنَا ثِقْلٌ يَهُمُّنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. قَالُواْ: نَقْتُلُ هَؤُلاَءِ الْمَسَاكِيْن! فَلاَ خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ. قَالَ: فَإنْ أبَيْتُمْ هَذِهِ، فَاعْلَمُواْ أنَّ هَذِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَإنَّهُ عَسَى أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ قَدْ أمِنُواْ فِيْهَا، فَانْزِلُواْ لَعَلَّنَا نُصِيْبُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأصْحَابهِ غِرَّةً. قَالُواْ: نُفْسِدُ سَبْتَنَا وَنُحْدِثُ فِيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ أحْدَثَ فِيْهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُواْ فِيه الأحْدَاثَ مُسِخُواْ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ مَنْ هُمْ. قَالَ: ثُمَّ إنَّهُمْ بَعَثُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنِ ابْعَثْ إلَيْنَا أبَا لُبَابَةَ أخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُواْ حُلَفَاءَ الأَوْسِ، نَسْتَشِيْرُهُ فِي أمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ. فَسَأَلُوهُ إنْ نَنزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأشَارَ بيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ: أنَّهُ الذبْحُ. قَالَ أبْو لُبَابَةَ: فَعَلِمْتُ أنِّي قَدْ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ أبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى عَمُودٍ مِنْ أعْمِدَتِهِ، وَقَالَ: لاَ أبْرَحُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ، وَعَاهَدَ اللهَ تَعَالَى أنْ لاَ يَطَأَ أرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أبَداً، وَقَالَ: لاَ يَرَانِي اللهُ فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيْهِ. فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ قَالَ: " أمَا إنَّهُ لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفرْتُ لَهُ، فَأَمَّا إذا فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَمَا أنَا بالَّذِي أُطْلِقُهُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أنْزَلَ تَوْبَتَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " تُبْتُ عَلَى أبي لُبَابَةَ " فَثَارَ النَّاسُ إلَى أبي لُبَابَةَ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لاَ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بيَدِهِ. فَجَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَطْلَقَهُ. قَالَ: فَلَمَّا أصْبَحَ بَنُو قُرَيْظَةَ نَزَلُواْ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَاثَبَتِ الأَوْسُ وَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّهُمْ مَوَالِيْنَا - أيْ حُلَفَاؤُنَا - دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي الْخَزْرَجِ مَا قََدْ عَلِمْتَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَكَانُواْ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُواْ عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُمْ إيَّاهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبى سَلُولٍ فَوَهَبَهُمْ لَهُ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ الأَوْسُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ؛ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ أُحَكِّمَ فِيْهِمْ رَجُلاً مِنْكُمْ؟ " قَالُواْ: بَلَى، قَالَ: " فَذاكَـ " إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْمَةِ امْرَأةٍ مِنَ أسْلَمَ يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ، تُدَاوي الْجَرْحَى وَتَخْدِمُ الْمَرْضَى. فَلَمَّا حَكَّمَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أتَاهُ قًَوْمٌ فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَار، وَقَدْ وَطَّأُواْ لَهُ وسَادَةً مِنْ أدْمٍ، وَكَانَ رَجُلاً جَسِيْماً. ثُمَّ أقْبَلُواْ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا أبَا عَمْرٍو! أحْسِنْ فِي مَوَالِيْكَ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا وَلاَّكَ ذلِكَ لِتُحْسِنَ فِيْهِمْ. فَلَمَّا أكْثَرُواْ عَلَيْهِ؛ قَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أنْ لاَ تَأْخُذهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ. فَعَرَفُواْ أنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مَقْتُولُونَ. فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قُومُواْ إلَى سَيِّدِكُمْ، فَأَنْزِلُوهُ " فَقَامُواْ إلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أبَا عَمْرٍو؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلاَّكَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيْثَاقُهُ أنَّ الْحُكْمَ فِيْهِمْ مَا حَكَمْتُ؟ قَالُواْ: نَعَمْ. قَالَ: أحْكُمُ فِيْهِمْ أنْ يُقْتَلَ الرِّجَالُ وَتُقْسَمَ الأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذرَاري وَالنِّسَاءُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيْهِمْ يَا سَعْدُ بحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ ". ثُمَّ اسْتُنْزِلُواْ، فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَار " ابْنَةِ الْحَارثِ " امْرَأةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّار، ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يُخْرِجُهُمْ إلَيْهِ إرْسَالاً، وَأمَرَ بضَرْب أعْنَاقِهِمْ. وَكَانَ فِيْهِمْ يَوْمِئذٍ عَدُوُّ اللهِ حَييُّ بْنُ أخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أسْدٍ رَأسُ الْقَوْمِ فِي سَبْعِمِائَةٍ. وَقِيْلَ: مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ إلَى تِسْعِمِائَةٍ، فَقَالُواْ لِكَعْبٍ وَهُوَ يَذْهَبُ بهِمْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أرْسَالاً: يَا كَعْبُ مَا تَرَى مَا يُصْنَعُ بنَا؟ قَالَ: مَا لَكُمْ لاَ تَعْقِلُونَ! ألاَ تَرَوْنَ مَنْ ذهَبَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُ، هُوَ وَاللهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ يَزَلْ ذلِكَ دَأبُهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أُتِيَ بحُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ عَدُوِّ اللهِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ فَقَّاحِيَّةٌ وَيَدَاهُ مَغْلُولَتَانِ إلَى عُنُقِهِ بحَبْلٍ، ثُمَّ أُجْلِسَ فَضُرِبَ عُنُقُهُ ". قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (كَانَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ يَضْرِبَانِ أعْنَاقَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ هُنَاكَ)، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي قُرَيْظَةَ إلاَّ امْرَأةٌ وَاحِدَةٌ، كَانَتْ وَاللهِ عِنْدِي تَتَحَدَّثُ مَعِي وَتَضْحَكُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ رجَالَهَا، فَبَيْنَا هِيَ كَذلِكَ إذ هَاتِفٌ يَهْتِفُ باسْمِهَا: أيْنَ فُلاَنَةُ. قَالَتْ: هِيَ أنَا وَاللهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: وَيْلَكِ وَمَا تِلْكَ؟ قَالَتْ: طُلِبْتُ لأُقْتَلَ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قًالَتْ: حَدَثاً أحْدَثْتُهُ، قَالَتْ: فَانْطُلِقَ بهَا فَضُرِبَ عُنُقُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا أنْسَى عََجَباً مِنْهَا، طِيْبَ نَفْسٍ وَكَثْرَةَ ضَحِكٍ، وَقَدْ عَلِمَتْ أنَّهَا تُقْتَلُ). قال الواقديُّ: (وَاسْمُ تِلْكَ الْمَرْأةِ نُبَاتَةُ) امْرَأةُ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ، وَكَانَتْ قَتَلَتْ خَلاَّدَ بْنَ سُوَيْدٍ، رَمَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَقَتَلَهُ، فَقَتَلَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخَلاَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ. وعن الزهريِّ رضي الله عنه قالَ:" كَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ يُقَالُ لَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا وَيُكَنَّى أبا عبدِالرَّحْمَنِ، مَرَّ يَوْماً عَلَى ثَابتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَابتِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بُغَاثٍ، أخَذهُ وَحَزَّ نَاصِيَتَهُ ثُمَّ خَلَّى سَبيْلَهُ. فَجَاءَ ثَابتَ بْنَ قَيْسٍ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَوَجَدَهُ قَدْ صَارَ شَيْخاً كَبيراً، فَقَالَ لَهُ ثَابتُ: يَا زُبَيْرُ هَلْ تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ؟ قَالَ: فَإنِّي أُريْدُ أنْ أُجَازيَكَ بمَا لَكَ عِنْدِي مِنَ الْيَدِ، قَالَ: افْعَلْ، فَإنَّ الْكَرِيْمَ يَجزِي الْكَرِيْمَ. قَالَ ثَابتُ: فَأَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ كَانَ لِلزُّبَيْرِ عِنْدِي يَدٌ وَصَنِيْعَةٌ وَلَهُ عَلَيَّ مِنَّةٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أنْ أجْزِيَهُ، فَهَبْ لِي دَمَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ لَكَ " فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَهَبَ لِي دَمَكَ. فَقَال: إنِّي شَيْخٌ كَبيْرٌ، فَإنْ ذهَبَ أهْلِي وَأوْلاَدِي فَمَا أصْنَعُ بالْحَيَاةِ؟ قَالَ ثَابتُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ أهْلَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: " هُمْ لَكَ " فَقُلْتُ: يَا شَيْخُ؛ قَدْ وَهَبَ لِي رَسُولُ اللهِ امْرَأتَكَ وَأوْلاَدَكَ. فَقَالَ: يَا ثَابتُ؛ كَيْفَ يَكُونُ أهْلُ بَيْتٍ بالْحِجَاز لاَ مَالَ لَهُمْ، فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذلِكَ؟ قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ مَالَهُ، فَقَالَ: " هُوَ لَكَ " فَأَعْلَمْتُهُ بذلِكَ. فَقَالَ لِي: يَا ثَابتُ؛ مَا فَعَلَ الَّذِي وَجْهُهُ مِرْآةٌ مُضِيْئَةٌ كَعْبُ بْنُ أسَدٍ؟ قُلْتُ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حَييُّ بْنُ أخْطَبَ؟ قُلْتُ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقْدَّمُنَا إذا شَدَدْنَا وَحَامِيْنَا إذا كَرَرْنَا غَزَالُ بْنُ شَمْوَالَ؟ قُلْتُ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فُعِلَ ببَنِي كَعْب بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ؟ قُلْتُ: قُتِلُواْ كُلُّهُمْ. قَالَ: فَإنِّي أسْأَلُكَ يَا ثَابتُ بمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الصَّنِيْعَةِ وَالْيَدِ إلاَّ مَا ألْحَقْتَنِي بالْقَوْمِ فَوَاللهِ مَا لِي فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلاَءِ مِنْ خَيْرٍ، فَمَا أنَا بصَائِرٍ حَتَّى ألْقَى الأَحِبَّةَ. فَضَرَبَ ثَابتُ عُنُقَهُ "فَلَمَّا بَلَغَ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه قَوْلُهُ: ألْقَى الأحبَّة، قَالَ: تَلْقَاهُمْ وَاللهِ فِي نَار جَهَنَّمَ خَالِداً فِيْهَا أبَداً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾؛ أي ألْقَى في قلوبهم الخوفَ.
﴿ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾؛ يعني الْمُقًاتِلَةَ.
﴿ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ﴾؛ يعني الذرَاري.
﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾؛ يعني عَقَارَهم ونَخيلَهم ومنازلَهم وأموالَهم من الذهب والفضَّةِ والْحِلِيِّ والعبيدِ والإماء.
﴿ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا ﴾؛ يعني أرضَ بني النَّضِير، وَقِيْلَ: أرضَ خيبرَ. والمعنى: سيفتحُ الله لكم أرضاً لَم تطأُوها الآنَ بأقدَامِكم يعني خيبرَ، ففتحَها اللهُ عليهم بعد بنِي قُريظةَ. وقال الحسنُ: (هِيَ فَارسُ وَالرُّومُ)، وقال قتادةُ: (هِيَ مَكَّةُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾؛ فيه بيانُ أنَّ الله قادرٌ على إظهارِ الإسلام بغيرِ القتال، وإنَّما أمرَ المؤمنين بالقتالِ ليعرِضَهم لجزيلِ الثواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾؛ قال المفسِّرون:" كان بعضُ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلْنَهُ شيئاً من عَرَضِ الدُّنيا وآذينَهُ بزيادةِ النَّفقة، فهَجَرَهُنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وآلَى منهنَّ شهراً أنْ لا يقرَبَهن ولَم يخرج إلى أصحابهِ للصَّلوات. فقالتِ الصحابةُ: مَا شَأْنُ رَسُولِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُ إلَيْهِ لأُعْلِمَكُمْ مَا شَأْنُهُ؟ فَذَهَبَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذنَ فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ عُمَرُ: فَجَعَلْتُ أقُولُ فِي نَفْسِي: أيُّ شَيْءٍ أكَلِّمُ بهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ يَنْبَسِطُ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَوْ رَأيْتَ فُلاَنَةَ وَهِيَ تَسْأَلُنِي النَّفَقَةَ فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " فَذلِكَ الَّذِي أجْلَسَنِي عَنْكُمْ ". فَأَتَى عُمَرُ حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا: لاَ تَسْأَلِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً فَمَا كَانَ مِنْ حَاجَتِهِ لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُ نِِسَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُهُنَّ، حَتَّى قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَغُرُّكَ أنَّكِ امْرَأةٌ حَسْنَاءُ وَإنَّ زَوْجَكِ يُحِبُّكِ لَتَنْتَهِيَنَّ أوْ لَيُنْزِلَنَّ اللهُ فِيْكُنَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَتْ أُمُّّ سَلَمَةَ: يَا ابْنَ الْخَطَّاب؛ أوَمَا بَقِيَ لَكَ إلاَّ أنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ وَنِسَائِهِ! فَمَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأةُ إلاَّ زَوْجَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ "إلى آخرها. وكان يومئذٍ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تسعُ نِسوَةٍ؛ خمسٌ من قُريش: عائشةُ بنت أبي بكر، وحفصةُ بنت عُمر، وأمُّ حبيبةَ بنت أبي سُفيان، وسَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ، وأمُّ سَلَمَةَ بنت أبي أُميَّة، فهؤلاءِ من قريشٍ. وصفيَّة بنتُ حَييِّ بن أخطب الخيبريَّة، وميمونةُ بنت الحارثِ الهلالية، وزينبُ بنت جحشٍ، وجُوَيْرِيَّةُ بنت الحارثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ. وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ:" كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِساً مَعَ حَفْصَةَ، فَتَشَاجَرَا فِيْمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أنْ أجْعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ رَجُلاً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَبُوكِ إذاً، فَأَرْسَلَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: تَكَلَّمِي، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ تَكَلَّمْ وَلاَ تَقُلْ إلاَّ حَقّاً! فَرَفَعَ عُمَرُ يَدَهُ فَوَجَّى وَجْهَهَا ثُمَّ رَفَعَ فَوَجَّى وَجْهَهَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " كُفَّ ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَدُوَّةِ اللهِ! أوَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ إلاَّ حَقّاً، وَالَّذِي بَعَثَهُ بالْحَقِّ لَوْلاَ مَجْلِسُهُ مَا رَفَعْتُ يَدِي حَتَّى تَمُوتِي. فَقَامَ صلى الله عليه وسلم فَصَعَدَ إلَى غُرْفَةٍ، فَمَكَثَ فِيْهَا شَهْراً لاَ يَقْرَبُ شَيْئاً مِنْ نِسَائِهِ، يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى فِيْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ الآيَةُ، فَنَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَرََضَ ذلِكَ عَلَيْهِنَّ كُلُّهُنَّ، فَلَمْ يَخْتَرْنَ إلاَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهَا حَفْصَةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنِّي فِي مَكَانِ الْعَائِذة بكَ مِنَ النَّار، وَاللهِ لاَ أعُودُ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ أبَداً، بَلْ أخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَرَضِيَ عَنْهَا ". وَقِيْلَ: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْييْرِ بَدَأ بعَائِشَةَ أحَبُّهُنَّ إلَيْهِ، فَخَيَّرَهَا فَاخْتَارَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، فَرُؤيَ الْفَرَحُ فِي وَجْهِهِ عليه السلام، وَتَابَعَهَا جَمِيْعُ نِسَائِهِ عَلَى ذلِكَ، فَشَكَرَهُنَّ اللهُ وَقَصَرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ ﴾[الأحزاب: ٥٢].
قِيْلَ:" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَائِشَةُ؛ إنِّي ذاكرٌ لَكِ أمْراً فَلاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي فِيْهِ أبُوكِ " ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ إلَى قًَوْلِهِ: ﴿ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ ﴾؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضَيَ اللهُ عَنْهَا: قَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّهُ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِنِي بفِرَاقِكَ، وَهَلْ أسْتَأْمِرُ فِي هَذا؟! إنِّي أُريْدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لاَ تُخْبرْ أزْوَاجَكَ أنِّي اخْتَرْتُكَ. ثُمَّ فَعَلَ أزْوَاجُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فَعَلَتْ ". وَقِيْلَ:" لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْييْرِ، دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ وَخَيَّرَهُنَّ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ: " أمَّا أنْتِ فَلاَ تُحْدِثِي مِنْ أمْرِكِ شَيْئاً حَتَّى تُشَاورِي أبَوَيْكِ " فَقَالَتْ: أفِيْكَ أُشَاورُهُمَا؟! أنَا أخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، مَا لَنَا وَالدُّنْيَا؟! فَتَبعَهَا سَائِرُ أزْوَاجِهِ، وَلَمْ تَخْتَرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ نَفْسَهَا إلاَّ الْمَرْأةُ الْحِمْيَِرِيَّةُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ أي أُعطيكن مهرَكُنَّ ﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ أي أُطَلِّقْكُنَّ على وجه السُّنة. وَقِيْلَ: معناهُ: أُخْرِجْكُنَّ من البُيوتِ، لأنه ذكرَ المتعةَ قبل التَّسريحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي ثوابَ اللهِ ورضَى رسولهِ ﴿ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ ﴾ أي الجنَّةَ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ ﴾؛ باختيَار ثواب الله ورضَى رسولهِ.
﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾، في الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يَعْنِي النُّشُوزَ وَسُوءَ الْخُلُقِ) ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾؛ أي يُجعَلُ عذابُ جُرمِها في الآخرةِ كعذاب جُرمَيْنِ. والمعنى: يزيدُ في عذابها ضِعْفاً، كما زيدَ في ثوابها ضِعفاً في قولهِ﴿ نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾[الأحزاب: ٣١].
وإنَّما ضُوعِفَ عذابُهن على الفاحشة لأنَّهن يُشَاهِدْنَ من الزَّواجرِ ما يَرْدَعُ عن مواقعةِ الذُّنوب ما لا يشاهدُ غيرُهن، فإذا لَم يَمتَنِعْنَ اسْتَحْقَقْنَ تَضعيفَ العذاب. وقَوْلُهُ تََعَالَى: ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾؛ أي وكان عذابُها على الله هيِّناً. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾، قرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر (نُضَعِّفُ) بالنون وكسرِ العين مشدَّدة من غير ألِف (العذابَ) بالنصب، وقرأ أبو عمرٍو (يُضَعَّفُ) بالياءِ وفتحِ العين والتشديد، ورفعِ (الْعَذابُ)، قال أبو عمرٍو: (وَإنَّمَا قَرَأتُ هَكَذا مُشَدَّداً مِنْ غَيْرِ ألِفٍ لِقَوْلِهِ (ضَعْفَيْنِ)، يُقَالُ: ضَعَّفْتُ الشَّيْءَ إذا جَعَلْتُهُ مِثْلَهُ وَضَاعَفْتُهُ إذا جَعَلْتُهُ أمْثَالَهُ). وقرأ الباقونَ (يُضَاعَفُ) بالألفِ ورفع (الْعَذابُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ أي ومَن يُطِعْ منكن للهِ ورسولِهِ. وَقِيْلَ: ومَن تُقِمْ منكنَّ على طاعةِ الله وطاعة رسولهِ.
﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحاً ﴾؛ فيما بينَها وبين ربها.
﴿ نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾؛ أي نُعطِيها مكانَ كلِّ حَسَنَةٍ عشرين حَسَنَةً.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ﴾؛ أي حَسَناً؛ يعني الجنَّة. والرِّزقُ الكريمُ: ما سَلِمَ من كلِّ آفةٍ، ولا يكونُ ذلك إلاَّ في الجنَّة. قرأ يعقوب (تَقْنُتْ) بالتاءِ ومثلهُ رُوي عن ابنِ عامر، وقوله ﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحاً ﴾، قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلَف (وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُؤْتِهَا) بالياءِ فيهما. وقرأ غيرُهم (وَتَعْمَلْ) بالتاءِ (وَنُؤْتِهَا) بالنُّون. قال الفرَّاء: (وَإنَّمَا قُرِئ (يَقْنُتْ) بالياءِ لأن (مَنْ) أدَاةٌ تَقُومُ مَقَامَ الاسْمِ، يُعَبَّرُ بهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذكَّرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾[يونس: ٤٣]﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾[يونس: ٤٢].
﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ ﴾ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾؛ معناهُ: ليس قَدْرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيرِكن من النِّساء الصالحات، أنْتُنَّ أكرمُ عَلَيَّ، وأنا بكُنَّ أرحمُ وثوابُكن أعظمُ.
﴿ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ ﴾؛ اللهِ. وشَرَطَ عليهنَّ التقوَى بياناً أنَّ فَضِيلَتَهُنَّ إنَّما تكون بالتَّقوى لا باتِّصالِهن بالنبيَِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ: معناهُ: ليست حالَتُكن كحالةِ النِّساء غيركن في الطاعةِ والمعصية والثواب والعقاب إنْ كنتن مُتَّقِيَاتٍ عن المعاصي مُطيعاتٍ لله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ ﴾؛ أي فلا تُلِنَّ القولَ للرِّجال على وجهٍ يُورثُ ذلك الطمعَ فيكن، فيطمعُ المنافقون في مواقعتِكُن، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾؛ يعني زنًى وفجُورٌ ونفاقٌ. والمرأةُ مَنْدُوبَةٌ إذا خاطبَتِ الأجانبَ إلى الْغِلْظَةِ في المقالةِ؛ لأن ذلك أبعدُ مِن الطَّمعِ من الزِّينة. وإنَّما قال ﴿ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ ولَم يقل كواحدةٍ؛ لأن أحَداً عامٌّ يصلحُ للواحدِ والاثنين والجمع والمذكَّر والمؤنث، قال تعالى:﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾[البقرة: ٢٨٥] وقال تعالى﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[الحاقة: ٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾؛ أي قُلْنَ قَولاً حَسَناً لا يؤدِّي إلى الزينةِ، وَقِيْلَ: معناهُ: وقُلْنَ ما يوجبهُ الدِّين والإسلامُ بغيرِ خضوعٍ فيه، بل بتصريحٍ وبيان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾؛ أي إلْزَمْنَ بيوتَكُن ولا تخرُجْن إلاّ في ضَرورةٍ. قرأ نافعُ وعاصم (وَقَرْنَ) بفتح القافِ، وهو مِن قَرَرْتَ في المكانِ أقَرَّ، وكان الأصلُ اقْرِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، فحُذفت الرَّاء الأُولى التي هي عينُ الفعلِ لأجل نَقْلِ التَّضعيفِ، وأُلقِيَتْ حركتُها على القافِ كقوله﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾[الواقعة: ٦٥] و﴿ ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ﴾[طه: ٩٧]، والأصلُ ظَلَلْتَ وظَلَلْتُمْ. وقرأ الباقون (وَقِرْنَ) بكسرِ القاف مِن الوَقَار؛ أي كنَّ أهلَ سَكينةٍ ووَقارٍ، والأمرُ منه للرَّجُلِ قِرَّ، وللمرأة قِرِّي، ولجماعة النساء قِرْنَ، كما يقالُ من الوعدِ: عِدْنَ، ومن الوَصْلِ: صِلْنَ. وعن محمَّد بنِ سِيرين قال: (قِيْلَ لِسَوْدَةِ بنْتِ زَمْعَةَ: ألاَ تَحُجِّيْنَ؛ ألاَ تَعْتَمِرِيْنَ كَمَا يَفْعَلُ أخَوَاتُكِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ، ثُمَّ أمَرَنِي اللهُ أنْ أقِرَّ فِي بَيْتِي، فَوَاللهِ لاَ أخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى أمُوتُ. فَوَاللهِ مَا أُخْرِجَتْ مِنْ بَاب بَيْتِهَا حَتَّى أخْرَجُواْ جَنَازَتَهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ ﴾؛ التَّبَرُّجُ: التَّبَخْتُرُ وَإظْهَارُ الزِّيْنَةِ، وما يستدعِي به من شَهوَةِ الرِّجال وإبراز الْمَحاسِنِ للناسِ. والجاهليةُ الأُولَى: هي ما بينَ عِيسَى عليه السلام ومُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كانتِ المرأةُ من أهلِ ذلك الزمان تَتَّخِذُّ الدِّرْعَ من اللُّؤلُؤِ فتلبسهُ ثُم تَمشِي وسطَ الطريقِ ليس عليها غيرهُ، وتعرِضُ نفسَها للرِّجالِ. وقال بعضُهم: الجاهليةُ الأُولَى ما بين آدمَ ونوحٍ، كان نساؤُهم أقبحَ ما يكون من النِّساءِ، ورجالُهم حِسَانٌ، وكانت المرأةُ تُرَاودُ الرجُلَ عن نفسهِ. فنهَى اللهُ تعالى هؤلاءِ عن فِعْلِ أهلِ الجاهليَّة وأمَرَهُنَّ بإقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة وطاعةِ الله ورسولهِ في باقِي الآيةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي إنَّما أمَرَكُنَّ اللهُ بما أمرَكُنَّ من الطاعةِ ولُزوم البيوتِ ﴿ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ ﴾، يعني رجْسَ الذُّنوب والعُيوب.
﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً ﴾.
وقال ابنُ عبَّاس: (عَمَلَ الشَّيْطَانِ وَمَا لَيْسَ فِيْهِ رضَى). ومعنى الرِّجْسِ: السُّوءُ وما يوجبُ العقوبةَ. والمرادُ بأهلِ البيتِ ها هنا نساءَ النَّبيِِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّهُنَّ في بيتهِ. وَقِيْلَ: أهلُ البيتِ كلُّ مَن اتَّصَلَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم من جهة نسب عليٍّ أو نسبٍ على العُمومِ. وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ: (أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجْمَعِيْنَ). وعن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيََةُ،" دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، فَجَمَعَهُمْ وَأتَى بقَطِيْفَةٍ خَيْبَرِيَّةٍ فَلَفَّهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ ألْوَى بيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أهْلِي أذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيْراً " فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَوَلَسْتُ مِنْ أهْلِكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَدَخَلْتُ الْكِسَاءَ بَعْدَمَا دَعَا وَانْقَضَى دُعَاؤُهُ ". وعن عِكْرِمَةَ رضي الله عنه أنهُ قال: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إلَيْهِ)، وكان عكرمةُ يُنادِي بهذا في السُّوقِ، واحتجَّ بقولهِ في الخطاب﴿ وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ ﴾[الأحزاب: ٣٤] وكِلاَ الخِطَابَيْنِ لأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يعني الخطابَ الأول ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾، وهذا الخطابُ الثانِي. وإنه ذكَّرَ الخطابَ في قولهِ ﴿ عَنكُـمُ ﴾ و ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ ﴾ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان فيهِنَّ فغَلَبَ المذكَّرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ ﴾؛ أي وَاحْفظْنَ ما يُقْرَأُ عليكُن في بُيوتِكن منَ القُرْآنِ والمواعظِ. وهذا حَثٌّ لَهن على حِفْظِ القُرْآنِ والأخبار ومذاكرتَهن بهما للإحاطةِ بحدودِ الشَّريعةِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ﴾؛ أي لَطِيفاً بأوليائهِ، خَبيراً بجميعِ خَلْقِهِ وبجميعِ مصالِحهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ الآيةُ، قال قتادةُ: (لَمَّا ذكَرَ اللهُ أزْوَاجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ نِسَاءٌ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَيْهِنَّ؛ فَقُلْنَ: ذُكْرِتُنَّ وَلَمْ نُذْكَرْ! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقال مقاتلُ:" لَمَّا رَجَعَتْ أسْمَاءُ بنْتُ عُمَيْسٍ مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ، دَخَلَتْ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَتْ: هَلْ نَزَلَ فِيْنَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قُلْنَ: لاَ. فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ النِّسَاءَ لَفِي خَيْبَةٍ وَخَسَارَةٍ! قَالَ: " وَمِمَّ ذلِكَ؟ " قَالَتْ: لأَنَّهُنَّ لاَ يُذْكَرْنَ بخَيْرٍ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةِ ". وقال مقاتلُ: (قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بنْتُ أبي أُمَيَّةَ وَنُسَيْبَةُ بنْتُ كَعْبٍ الأَنْصَاريَّةُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ ربنَا يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلاَ يَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابهِ، فَعَسَى أنْ لاَ يَكُونَ فِيْهِنَّ خَيْرٌ، وَلاَ للهِ فِيْهِنَّ حَاجَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وَقِيْلَ: إنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ: (يَا رَسُولَ اللهِ! ذكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الرِّجَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ بخَيْرٍ، فَمَا فِيْنَا خَيْرٌ نُذْكَرُ بهِ، إنَّا نَخَافُ أنْ لاَ يَتَقَبَّلَ مِنَّا طَاعَةً). فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. وَاعْلَمْ: أنَّ الرجالَ والنساء يُجَازَوْنَ بأعمالِهم الصالحة مغفرةً لذِنوبهم وأجْراً عظيماً. ومعنى الآيةِ: ﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ ﴾ يعني الْمُخْلِصِيْنَ بالتَّوحيدِ والمخلِصاتِ ﴿ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ أي المصدِّقِين بالتوحيدِ والْمُصَدِّقَاتِ. والإسلامُ في اللغةِ: هو الانْقِيَادُ وَالاسْتِسْلاَمُ. والإيْمَانُ في اللغة: هو التَّصْدِيْقُ، غيرَ أنَّ معنى الإسلامِ والإيمان في هذه الآية واحدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْقَانِتَاتِ ﴾؛ أي الْمُطِيعِينَ للهَ في أوامرهِ ونواهيه والْمُطِيْعَاتِ. والقَانِتُ: هو الْمُوَاظِبُ على الطاعةِ، والقُنُوتُ: طُولُ القيامِ في الصَّلواتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلصَّادِقَاتِ ﴾؛ يعني الصَّادِقينَ في إيْمانِهم والصَّادِقاتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ ﴾؛ الصَّابرُ: هو الذي يَحْبسُ نفسَهُ عن جميعِ ما يجبُ الصَّبرُ عنهُ، ويصبرُ على جميعِ ما يجبُ الصبر عليهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْخَاشِعِينَ وَٱلْخَاشِعَاتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾؛ يعني بالْمُتَصَدِّقِيْنَ الذين يُؤدُّونَ ما عليهم مِن الصَّدقة المفروضةِ. ويقالُ: أرادَ به جميعَ الصَّدقاتِ. وأما الخاشِعُ: فهو الْمُتَوَاضِعُ للهِ تعالى وللناسِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ ﴾؛ يعني الصَّائمين صومَ الفرضِ بنيَِّةٍ صادقةٍ، ولكن فِطْرُهُمْ على حَلالٍ. قال ابنُ عبَّاس: (مَنْ صَامَ شَهْرََ رَمَضَانَ وَثَلاَثَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الْغُرِّ الْبيْضِ، كَانَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ، وَيُؤْتُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بمَائِدَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ، وَيُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ، وَيَنْفَحُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ ريْحُ الْمِسْكِ). وقوله تعالى: ﴿ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ ﴾؛ أي عمَّا لا يحلُّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ ﴾؛ قِيْلَ: أرادَ به الذِّكْرَ في الصَّلواتِ الخمسِ. وَقِيْلَ: أرادَ به الذِّكْرَ باللِّسانِ والقلب في جميعِ الأحوال. قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيْدُ فِي أدْبَار الصَّلَوَاتِ غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَفِي الْمَضَاجِعِ، وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَكُلَّمَا غَدَا وَرَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذكَرَ اللهَ). وقال مجاهدُ: (لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذاكِرِيْنَ كَثِيْراً حَتَّى يَذْكُرَ اللهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً). وعن أبي هريرةَ؛ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأيْقَظَ امْرَأتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذاكِرِيْنَ اللهَ كَثِيْراً وَالذاكِرَاتِ "وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾؛ وهو الجنَّةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾؛ نزلَتْ هذه الآيةُ في عبدِالله بن جَحْشٍ وأُختهِ زينبُ، وكانت أُمُّهُما أُمَيْمَةُ بنتُ عبدِ المطَّلب عمَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم،" خَطَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بنْتَ جَحْشٍ لِزَيْدِ ابْنِ حَارثَةَ مَوْلاَهُ، فَكَرِهَ أخُوهَا عَبْدُاللهِ أنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ زَيْدٍ، وَكَانَ زَيْدٌ عَرَبِيّاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْلاَهُ فِي الإسْلاَمِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصَابَهُ مِنْ سَبْيِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: لاَ أرْضَاهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أنَا أتَمُّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ مِنَ ابْنَةِ عَمِّكَ، فَلَمْ أكُنْ لأَفْعَلَ وَلاَ أرْضَاهُ يَا رَسُولََ اللهِ، وَقَالَ أخُوهَا عَبْدُاللهِ كَذلِكَ أيْضاً، وَكَانَتْ زَيْنَبُ بَيْضَاءَ جَمِيْلَةً، وَكَانَ فِيْهَا حِدَّةٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ رَضِيْتُهُ لَكِ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ﴾ أي مَا ينبغِي لِمؤمِنٍ ﴿ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ يعني عبدَاللهِ بن جَحش وأُختَهُ زينبُ إذا اختارَ اللهُ تعالى ورسولهُ أمْراً ﴿ أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ ﴾ بخلافِ ما اختارَ اللهُ ورسولهُ. قرأ أهلُ الكوفةِ (أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بالياءِ للحائلِ بين التأنيثِ والفعل، وقرأ الباقونَ بالتاء. وقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ ٱلْخِيَرَةُ ﴾ قراءَةُ العامَّة بفتحِ الياءِ؛ أي الاختيارُ، وقرأ ابنُ السَّمَيْقِعِ (الْخِيْرَةُ) بسُكون الياءِ، وهُما لُغتانِ. وإنَّما جُمِعَ الضميرُ في قولهِ ﴿ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ ﴾ لأن المرادَ بقولهِ ﴿ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ كلَّ مؤمنٍ ومؤمنة في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي فيما أمَرَتهُ.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾؛ أي فقد أخطأَ خطأً، وذهبَ عن الحقِّ والصواب ذهاباً بَيِّناً. فلما نزلت الآية قَالَتْ: قَدْ رَضِيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. وَكَذلِكَ رَضِيَ أخُوهَا، فَجَعَلَتْ أمْرَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَيْدٍ وَسَاقَ إلَيْهِمَا عليه السلام عَشْرَةَ مَثَاقِيْلَ وَسِتِّيْنَ دِرْهَماً؛ وَخِمَاراً وَمِلْحَفَةً وَدِرْعاً وَإزَاراً؛ وَخَمْسِيْنَ مُدّاً مِنْ طَعَامٍ وَثَلاَثِيْنَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ﴾؛ أي واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ قولَكَ ﴿ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ بالإسلامِ وغيرهِ.
﴿ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾؛ بالإعْتَاقِ؛ وهو زيدُ ابنُ حارثةَ؛ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأتِهِ زَيْنَبُ تَشَاجُرٌ، فَجَاءَ زَيْدٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُوهَا بَما كَانَتْ تَسْتَطِيْلُ عَلَيْهِ بشَرَفِهَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ عَلَى سَبيْلِ الأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ: ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾؛ امْرَأتَكَ ولا تُطلِّقْهَا.
﴿ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ ﴾؛ فيها ولا تَفْعَلْ في أمرِها ما تَأْثَمُ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾؛ خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ، تَزَوَّجَهَا هُوَ وَضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ صِلَةً لِرَحِمِهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، فعاتبَهُ اللهُ على ذلكَ وإخفائه؛ لكي لا يكون ظاهرُ الأنبياء عليهم السلام إلاّ كباطنهم. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلمُ أنَّهما لا يتِّفِقانِ لكثرةِ ما كان يجرِي بينَهما من الخصومةِ، فجعل يُخْفِيْهِ عن زيدٍ، وكان الأَولَى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعُوهُما إلى الْخُلْعِ فلم يفعَلْ، وقالَ لهُ: ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ خشيةَ أنه لو خَالَعَها ثُم تزوَّجَها النبيُّ عليه السلام أن يطعنَ الناسُ عليهِ فيُقالُ: تزوَّجَ بحليلةِ ابنهِ بعد ما بيَّنَ للناسِ أنَّ حليلةَ الابنِ حرامٌ على الأب، فهذا معنى قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ ﴾؛ أي تخافُ لاَئِمَتَهُمْ أنْ يقولُوا: أمَرَ رَجُلاً بطَلاَقِ امْرَأتِهِ ثُمَّ نَكَحَهَا. قال ابنُ عبَّاس في هذه الآيةِ: (أرَادَ بالنَّاسِ الْيَهُودَ، خَشِيَ أنْ يَقُولَ الْيَهُودُ: تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأةَ ابْنِهِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾؛ أي هو أوْلَى بأنْ تخشاهُ في كلِّ الأحوالِ. وعن عليِّ بن الحسنِ: أنْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ: (كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أعْلَمَ نَبيَّهُ عليه السلام أنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أزْوَاجِهِ، وَأنَّ زَيْداً سَيُطَلِّقُهَا، فعلى هذا يكون النبي عليه السلام مُعَاتَباً عَلَى قَوْلِهِ: ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ مَعَ عِلْمِهِ بأَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَتَهُ، وَكِتْمَانِهِ مَا أخْبَرَهُ اللهُ بهِ، وَإنَّمَا كَتَمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأَنَّهُ اسْتَحْيَا أنْ يَقُولَ لِزَيْدٍ: إنَّ زَوْجَتَكَ سَتَكُونُ امْرَأتِي). وَقِيْلَ:" إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ لَمَّا أرَادَ فِرَاقَهَا، جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنِّي أُريْدُ أنْ أُفَارقَ صَاحِبَتِي، فَقَالَ: " مَا لَكَ؟ أرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ؟ " قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأيْتُ مِنْهَا إلاَّ خَيْراً، وَلَكِنَّهَا تَتَعَظَّمُ عَلَيَّ لِشَرَفِهَا وَتُؤْذِيْنِي بلِسَانِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ". ثُمَّ إنَّ زَيْداً طَلَّقَهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ: " مَا أجِدُ فِي نَفْسِي أحَداً أوْثَقَ مِنْكَ، إذْهَبْ إلَى زَيْنَبَ فَاخْطُبْهَا لِي " قَالَ زَيْدٌ: فَذهَبْتُ فَإذا هِيَ تُخَمِّرُ عَجِيْنَهَا، فَلَمَّا رَأيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْري، حَتَّى لَمْ أسْتَطِعْ أنْ أنْظُرَ إلَيْهَا حِيْنَ عَلِمْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أبْشِرِي؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطِبُكِ؛ فَفَرِحَتْ بذلِكَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بهَا، وَمَا أوْلَمَ عَلَى امْرَأةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أوْلَمَ عَلَيْهَا، أطْعَمَ النَّاسَ الْخُبْزَ واللَّحْمَ حَتَّى امْتَدَّ النَّهَارُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾؛ قضَاءُ الوَطْرِ في اللُّغة: بُلُوغُ مُنْتَهَى مَا فِي النَّفْسِ مِنَ الشَّيْءِ، يقالُ: قَضَى وَطْراً منها؛ إذا بَلَغَ ما أرادَ مِن حاجتهِ فيها، ثم صارَ عبارةً عن الطَّلاقِ؛ لأنَّ الرجُلَ إنَّما يطلِّقُ امرأتَهُ إذا لَم يبقَ له فيها حاجةٌ. وعن أنسٍ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: (لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ بْنِتِ جَحْشٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا بغَيْرِ إذْنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾.
وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُفَاخِرُ نِسَاءَ النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أهْلُوكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). ومعنَى الآيةِ: ﴿ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً ﴾ وطلَّقَها ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ﴾؛ أي زوَّجنَاكَ زينبَ لكَيلاَ يُظَنَّ أن امرأةَ المتبَنَّى لا تحلُّ. والأدْعِيَاءُ: جمعُ دَعِيٍّ؛ وهو الذي يُدْعَى ابْناً من غيرِ ولادةٍ. قال الحسنُ: (كَانَتِ الْعَرَبُ تَظُنُّ أنَّ حُرْمَةَ الْمُتَبَنَّى كَحُرْمَةِ الابْنِ، فَبَيَّنَ اللهُ " أنَّ نساءَ " الأدْعِيَاءِ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الْمُتَبَنَّى وَإنْ أصَابُوهُنَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﴿ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ﴾ بخِلاَفِ ابْنِ الصُّلْب، فَإنَّ امْرَأتَهُ تَحْرُمُ بنَفْسِ الْعَقْدِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً ﴾؛ معناهُ: وكان تزويجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لزينبَ قضاءً كائناً مكتُوباً في اللوحِ الْمَحفُوظِ.
قَوْلُُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ ﴾ أي مَا كان عليه من ضِيْقٍ وإثْمٍ فيما شَرَّعَهُ اللهُ تعالى وأحَلَّهُ له كسُنَّةِ اللهِ.
﴿ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ﴾، أي سائرِ الأنبياء الماضِين في التَّوسِعَةِ عليهم في النِّكاحِ، فقَوْلُهُ: ﴿ سُنَّةَ ٱللَّهِ ﴾ منصوبٌ بنَزعِ الخافضِ، وقَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾؛ أي قضاءً مَقْضِيّاً، أخبرَ اللهُ تعالى أن أمرَ زينبَ كان من حُكمِ الله وقَدَرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾؛ موضعُ ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ الخفضُ؛ لأنه نعتُ الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ الذينَ خَلَوا من قَبلُ، كانوا يبَلِّغُون الرسالةَ.
﴿ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾؛ ويخشَون اللهَ ولا يخشونَ أحداً سواهُ، أي لا يخشون مقالةَ الناسِ.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ﴾؛ أي مُجَازياً لِمن يخشاهُ، وَقِيْلَ: حَفِيظاً لأعمالِ العباد، مُجازياً لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ، قَالَ النَّاسُ: إنَّ مُحَمَّداً تَزَوَّجَ امْرَأةَ ابْنِهِ! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾، يعني أنَّهُ ليس بأَبي زَيْدٍ حتى تحرُمَ عليه زوجتهُ.
﴿ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾؛ فعظِّموهُ وأقِرُّوا بهِ. قرأ الحسنُ وعاصم (وَخَاتَمَ النَّبيِّيْنَ) بفتحِ التاء؛ أي آخِرَ النَّبيِّينَ، وقرأ الباقونَ بكسرِ التَّاء على الفاعلِ؛ أي إنه خَتَمَ النَّبيينَ بالنبوَّةِ.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾؛ أي لَم يَزَلْ عالِماً بكلِّ شيء من أقوالِكم وأفعالِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾؛ اختلَفُوا في المرادِ بالذِّكرِ الكثيرِ في هذه الآية. قال الكلبيُّ: (الْمُرَادُ بهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أذْكَاراً كَثِيْرَةً، وَأرَادَ بالتَّسْبيْحِ التَّنْزِيْهَ فِي الصَّلاَةِ). وقال مجاهدُ: (هُوَ أنْ لاَ يَنْسَاهُ أبَداً). وقال مقاتلُ: (هُوَ التَّسْبيْحُ وَالتَّحْمِيْدُ وَالتَّهْلِيْلُ وَالتَّكْبيْرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ أنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ يَتَكَلَّمُ بهِنَّ صَاحِبُ الْجَنَابَةِ وَالْغَائِطِ وَالْحَدَثِ). قَالَ صلى الله عليه وسلم:" يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بي شِفَاهُهُ ". قَوْلُهُ تََعَالَى: ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ، قال الكلبيُّ: (أمَّا بُكْرَةً فَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَأمَّا أصِيْلاً فَصََلاَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ). وقال بعضُهم: أرادَ بذلك صلاةَ الصُّبح وصلاةَ العصرِ على قولِ قتادةَ، وصلاةَ المغرب على قولِ غيرهِ. وخَصَّ طَرَفَي النهار بالذِّكر؛ لأنه يجتمعُ عندَهُما ملائكةُ اللَّيل والنهار، فيقولون: أتينَاهم وهم يُصَلُّونَ، وتركنَاهُمْ وهم يُصَلُّونَ. وَقِيْلَ: خُصَّ التسبيحُ بطرَفَي النهار؛ لأن صحيفةَ العبدِ إذا كان في أوَّلِها وآخِرِها ذكرٌ وتسبيحٌ يرجَى أن يُغْفَرَ له ما بين طَرَفَي الصحيفةِ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" مَا جَلَسَ قَوْمٌ قَطُّّ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى، إلاَّ نَادَى مُنَادِي السَّمَاءِ: أنْ قُومُوا فَقَدْ غُفِرَتْ لَكُمْ ذُنُوبُكُمْ، وَبُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ "وَقِيْلَ: معنَى قولهِ ﴿ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ أي باللَّيلِ والنهار، وفي البَرِّ والبحرِ، والسَّفر والحضرِ، والغِنَى والفقرِ، والصِّحة والسَّقمِ، والسِّر والعلانيةِ، وعلى كلِّ حالٍ. وقال مجاهدُ: (الْكَثِيْرُ هُوَ الَّذِي لاَ يَتَنَاهَى أبَداً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾؛ أي يَرْحَمُكُمْ ويغفرُ لكم، وقوله ﴿ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ أي يَدْعُونَ لكم. وَقِيْلَ: يأمرُ الملائكةَ بالاستغفار لكم. والصَّلاةُ مِن اللهِ الرحمةُ بالثواب، ومِن المؤمنين الدُّعاءُ، ومِن الملائكةِ الاستغفارُ للمؤمنين. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ ﴾؛ أي مِن ظُلُمَاتِ المعاصِي والجهلِ ﴿ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾؛ العِلْمِ والطاعةِ، وَقِيْلَ: مِن ظُلماتِ الكُفرِ إلى نور الإيْمانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾؛ أي لَم يَزَلْ رَحِيْماً بهم إذ رَضِيَ عنهُم وأمَرَ الملائكةَ بالاستغفار لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ﴾؛ أي تحيةُ المؤمنينَ مِن الله تعالى ﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ﴾ أنْ يُسَلِّمَ عليهم، يقولُ لَهم الملائكةُ بأمرِ الله. السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ؛ مَرْحَباً بِعِبَادِي الْمُؤمِنِينَ الَّذينَ أرْضَوْنِي فِي دار الدُّنيا باتِّباعِ أمْرِي. ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ ﴾[الزمر: ٧٣].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾؛ أي رزْقاً حَسَناً في الجنَّةِ، وَقِيْلَ: الأجرُ الكريمُ هو الذي يكون عظيمَ القَدْر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً ﴾؛ على أُمَّتِكَ وعلى جميعِ الأُممِ بتبليغِ الرِّسالةِ.
﴿ وَمُبَشِّراً ﴾؛ للخَلْقِ بالجنَّة والثواب لِمَن أطاعَ اللهَ وصَدَّقَكَ.
﴿ وَنَذِيراً ﴾؛ أي ومُخَوِّفاً بالنار والعقاب لِمَن عصَى الله تعالى وكَذبَكَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ ﴾؛ أي وأرسلناكَ للناس رَاعِياً للخَلْقِ إلى دينِ اللهِ تعالى بأمرهِ، يعني إنَّهُ أمَرَكَ بهذا. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾؛ أي وأرسلناكَ سِرَاجاً مُضِيئاً لِمَن تَبعَكَ واهتدَى بكَ، كالسِّراجِ في الظُّلْمَةِ يُستَضَاءُ بهِ. وإنَّما سُمِّيَ النبيُّ عليه السلام سِرَاجاً؛ لأنه بُعِثَ والأرضُ في ظُلْمَةِ الشِّركِ، فكان حين بُعِثَ كالسِّراجِ في الظُّلمة. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ﴾؛ أرادَ بالفَضْلِ الكبيرِ مغفرةَ الله لَهم، وما أعدَّ لَهم في الجنَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾؛ فيما يطلِبونَهُ منكَ، فقد ذكرنَا تفسيرَهُ في أوَّل السُّورة. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ أي اصْبرْ على أذاهُم واحتَمِلْ منهم، ولا تَشْتَغِلْ بمجَازَاتِهم إلى أن تُؤْمَرَ فيهم بأمرٍ، وهذا منسوخٌ بآية السَّيفِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي فَوِّضْ أمُورَكَ إليهِ. فإنه سَيَكْفِيْكَ أمرَهُم إذا تَوَكَّلْتَ عليهِ؛ أي تَوَكَّلْ عليه في كِفَايَةِ شرِّهم وأذاهم.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً ﴾؛ إذا وَكَّلْتَ أمْرَكَ إليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾؛ أي إذا تَزوَّجتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أن تُجامِعُوهن.
﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾، تَسْتَوْفُونَهَا بالعَدَدِ لا بالحيضِ ولا بالشُّهور. والاعْتِدَادُ هو استيفاءُ العَدَدِ، أسقطَ اللهُ العِدَّةَ من الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخولِ لبَرَاءَةِ رحِمِها، فلو شاءَتْ تزوَّجت مِن يومِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾؛ أي أعْطُوهُنَّ مُتْعَةَ الطلاقِ، وهذا على سبيلِ الوجُوب فيمَن يدخلُ بها ولَم يُسَمِّ لَها مهراً، وعلى النَّدب في مَن سَمَّى لَها مهراً ثُم طلَّقَها قبلَ الدُّخولِ. وقال سعيدُ بن المسيَّب: (نُسِخَ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ بقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾[البقرة: ٢٣٧]). وقال الحسنُ: (الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَمُخْتَلَعَةٍ وَمُلْتَعَنَةٍ، وَلَكِنْ لاَ يُجْيَرُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ ﴾ أرادَ له التسريحُ عن المنْزِلِ لا عن النكاحِ؛ لأن حقَّ الحبسِ لا يثبتُ إلاّ بأحدِ الأمرين: إما النكاحُ؛ وإما العدَّةُ، وقد عُدَّ ما جميع في هذا الموضعِ بعددِ الطَّلاق المذكور. والسَّراحُ الجميلُ: هو الذي لا يكونُ فيه جَفْوَةٌ ولا أذَى ولا منعُ حقٍّ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قولهِ ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾: (أيْ أعْطُوهُنَّ الْمُتْعَةَ، قَالَ: وَهَذا إذا لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقاً، فَأَمَّا إذا فَرَضَ لَهَا صَدَاقاً فَلَهَا نِصْفٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي أبَحْنَا لكَ نساءَكَ اللاِّتِي تزوَّجْتَهن بمُهُورٍ مُسَمَّاةٍ، وأعطيتَ مُهورَهُنَّ، وسَمَّى المهرَ أجْراً لأنه يجبُ بَدَلاً عن منافعِ البُضْعِ، كما أنَّ الأجرَ يجبُ بَدَلاً عن منافعِ الدَّار والعبدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾؛ أي وَأبَحْنَا لكَ ما ملكَتْ يَمينُكَ؛ يعني الْجَوَاري التي يَملِكُها. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ﴾؛ أي مِمَّا أعطاكَ اللهُ من الغنيمةِ جُوَيْرِيَّةَ بنتِ الحارثِ، وصَفِيَّةَ بنتِ حَييِّ بن أخْطََبَ. ويدخلُ في هذه اللفظةِ الشِّراءُ والتزوُّجُ، كما رُوي في صَفِيَّةَ" أنَّهُ عليه السلام أعْتَقَهَا ثُمَّ تََزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ﴾؛ أرادَ به إباحةَ تزويجِ بناتِ عمِّه وبناتِ عمَّاتهِ من بنِي عبدِ المطَّلب.
﴿ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾، وبناتِ خالهِ وبنات خالاتهِ؛ يعني نساءَ بني زُهرَةَ من بنِي عبدِ منافٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾؛ أي هَاجَرْنَ معكَ من مكَّة إلى المدينةِ، وهذا إنَّما كان قَبْلَ تَحليلِ غير الْمُهاجِرَاتِ، ثُم نُسِخَ شرطُ الهجرةِ في التحليلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾؛ بلا مَهرٍ إن أراد النبيُّ أن يتزوَّجَها، ومَن قرأ (وَهَبَتْ) بالفتحِ، فمعناهُ: أحللناهَا أنْ وهَبَت، وهي قراءةُ الحسنِ، فالفتحُ على الماضِي والكسرُ على الاستئنافِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾؛ أي إنْ أرادَ النبيُّ أن يتزوَّجَها فلَهُ ذلكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِصَةً لَّكَ ﴾؛ أي خاصَّةً لكَ.
﴿ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ فليسَ لامرأةٍ أن تَهَبَ نفسَها لرجلٍ بغيرِ شُهودٍ ولا وَلِيٍّ ولا مَهْرٍ إلاّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا مِن خَصَائِصِهِ في النِّكاحِ، كالتَّخْييرِ والعددِ في النِّساء. ولو تزوَّجَها بلفظِ الهبة وقََبلَها بشهودٍ ومَهْرٍ انعقدَ النكاحُ ولَزِمَ المهرُ، وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ، وقال الشافعيُّ ومالكٌ: (لاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بلَفْظِ الْهِبَةِ إلاَّ للنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً؛ لأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ وَلَمْ يَقُلْ لَكَ، لأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، كَانَ يَجُوزُ أنْ يُتَوَهَّمَ أنَّهُ يَجُوزُ ذلِكَ لِغَيْرِهِ عليه السلام كَمَا جَازَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ﴾، لأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وحُجَّةُ أبي حنيفةَ وأصحابهِ: أنَّ إضافةَ الهبةِ إلى المرأةِ دليلاً أنَّ النبيَّ لَم يكن مَخْصُوصاً بالنكاحِ بلفظةِ الهبةِ، وإنَّما كانت خُصوصِيَّة في جواز النِّكاحِ بغير بدلٍ، ولو لَم يكن بلفظِ الهبةِ نكاحاً لِمَا قالَ تَعَالَى ﴿ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾، فلمَّا جعلَ اللهُ الهبةَ جواباً للاسْتِنْكَاحِ، عُلِمَ أنَّ لفظَ الهبة نِكَاحٌ. وقَوْلُهُ ﴿ خَالِصَةً ﴾ نعتُ مصدرٍ؛ تقديرهُ: إنْ وَهَبَتْ نفسهَا هبةً خالصةٌ لك بغيرِ عِوَضٍ، أحْلَلْنَا لكَ ذلك مِن دونِ المؤمنين، فأمَّا المؤمنونَ إذا قَبلُوا هذه الهبةَ على وجهِ النِّكاحِ لزِمَهم المهرُ. ويقالُ: إن الخالصَة نعتٌ للمرأةِ؛ أي جعلنَاها خالصةً لكَ فلا تحلُّ لغيرِكَ مِن بعدِكَ. وقد اختلَفُوا في هذهِ المرأةِ التي وَهَبَتْ نفسَها للنبيِّ مَن هِيَ؟ فقال قتادةُ: (هِيَ مَيْمُونَةُ بنْتُ الْحَارثِ). وقال الشافعيُّ: (زَيْنَبُ بنْتُ خُزَيْمَةَ، امْرَأةٌ مِنَ الأَنْصَار، وَكَانَتْ تُسَمَّى أُمَّ الْمَسَاكِيْنِ). وقال الضحَّاكُ ومقاتلُ: (هِيَ أُمُّ شُرَيْكِ بْنِ جَابرِ مِنْ بَنِي أسَدٍ). وقال عروةُ بن الزُّبيرِ: (هِيَ خَوْلَةُ بنْتُ حَكِيْمِ بْنِ الأَوْقَصِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ ﴾، أي قد علِمنا المصلحةَ للمؤمنين في أنْ لا يتزوجُّوا أكثر من الأربع، ولا يتزوجوا بغيرٍ مهر ولا وليٍّ ولا شهود. والمعنى: أوجَبنا عليهم أن لا يتزوجوا أكثر من أربع بمهر وولي وشهود. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، أي وقد علِمنا ما فَرضنا عليهم فيما ملكت أيمانُهم حتى لا يجوزُ لهم التزويج بالمعتَقة من غيرِ مهر، وحتى لا يباحَ لهم بملك اليمين كما أُبيح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له الصفيُّ من الغنيمة ولم يكن لغيرهِ. وقيل: معناه وما ملكت أيمانهم ممن يجوز سَبْيُه وحربُه، فأما ما كان له عهدٌ فلا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾، أي ضَيْقٌ في أمْرِ النكاح ومنعٍ من شيء تريدهُ، وهذا فيه تقديمٌ؛ تقديرهٌ: خالصةً لك من دون المؤمنين لكيلا يكون عليك حرجٌ، أي أحلَلنا لكَ ما ذكرنا؛ ليرتفعَ عنك الحرجُ والضيق. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً ﴾، أي غفوراً للنبي صلى الله عليه وسلم في التزويجِ بغير مهرٍ.
﴿ رَّحِيماً ﴾، به في تحليلِ ذلك له. وقيل: غفورٌ لمن يستحقُّ المغفرةَ، رحيمٌ بالعبادِ فيما يتَّصلُ بالدِّين والدنيا.
قَوْلُهُ تََعَالَى: ﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ﴾، معناه: تؤخِّرُ مَن تشاءُ من فراشِكَ من نسائك، وتضمُّ إلى فراشِكَ مَن تشاءُ منهن من غير حرجٍ عليك. وهذا من خصائصِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تفضيلاً له، أُبيح له أن يجعلَ لِمَن أحبَّ منهن يوماً أو أكثرَ، ويعطِّلُ مَن شاء منهنَّ فلا يأتيها. وكان القَسْمُ واجباً على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتسويةُ بينهن، فلما " نزَلت " هذه الآيةُ سقطَ الوجوبُ، وصار الاختيار إليه فيهن. قال منصورُ عن أبي رَزين: (وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ، وَكَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ، وَكَانَ مِمَّنْ أرْجَى سَوْدةُ وَجُوَيْرِيَّةُ وَصَفِيَّةُ وَأُمُّ حَبيبَةَ وَمَيْمُونَةَ، وَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ، وَكَانَ قَدْ أرَادَ أنْ يُفَارقَهُنَّ، فَقُلْنَ لَهُ: اقْسِمْ لَنَا مَا شِئْتَ مِنْ نَفْسِكَ، وَدَعْنَا عَلَى حَالِنَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾، معناهُ: إنْ أردتَ أن تُؤوي إليك امرأةً ممن عزَلتهُنَّ من القسمةِ وتضمَّها إليه، فلا عتبَ عليك ولا لَوْمَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾، أي ذلك التخييرُ الذي خيَّرتك في صُحبَتهنَّ أدنى إلى رضاهن إذا كان ذلك مُنَزَّلاً مِن الله عليك، ويرضيهنَّ كلُّهن بما أعطيتهن من تقريبٍ وإرجاء وإيواءٍ. قال قتادةُ: (إذا عَلِمْنَ أنَّ هَذا جَاءَ مِنَ اللهِ لِرُخْصَةٍ، كَانَ أطْيَبَ لأَنْفُسِهِنَّ وَأقَلَّ لِحُزْنِهِنَّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾، واللهُ يعلَمُ ما في قلوبكم من أمر النساء والميلِ إلى بعضِهنَّ، ويعلمُ ما في قلوبكم من الرِّضا والسُّخط وغيرِ ذلك.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً ﴾، بمصالحِ العباد.
﴿ حَلِيماً ﴾، على جهلِهم ولا يعاقبُهم بكلِّ ذنبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ ﴾، قال قتادةُ: (وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ، شَكَرَ اللهُ لَهُنَّ فَقَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِنَّ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ سِوَاهُنَّ). وكُن يؤمئذ تِسعاً: عائشةُ، وحفصةُ، وزينب، وأُم سَلَمة، وأمُّ حَبيبة، وصفيَّة، وميمونةُ، وجويرِيَّة، وسَوْدَةُ. ومعنى الآية: لا يحلُّ لكَ من النساءِ سوى هؤلاء اللاَّتي اخترنَكَ.
﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾، وليس لكَ أن تُطلِّقَ واحدةً منهن وتَزَوَّج بدَلها. وقولهُ: ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾، يعني ماريَّة القِبطية وغيرها من السَّبايا. وقولهُ تعالى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ﴾، أي حفيظاً. وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنها قالت: [مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى حَلَّتْ لَهُ النِّسَاءُ].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾، نزَلت هذه الآيةُ في شأنِ ولِيمَةِ زينب، قال أنسُ ابن مالكٍ:" لَمَّا بََنَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بزَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ، أوْلَمَ عَلَيْهَا بتَمْرٍ وَسَوِيقٍ وَذَبَحَ شَاةً، وَبَعَثَت إلَيْهِ أُمِّي أُمُّ سُلَيمٍ بحَيْسٍ في تُورٍ مِنْ حِجَارَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أدْعُوَ أصْحَابَهُ إلَى الطَّعَامِ فَدَعَوْتُهُمْ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَدْخُلُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَوَضَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ وَدَعَا فِيهِ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبعُواْ وَخَرَجُواْ، وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ارْفَعُواْ طَعَامَكُمْ " فَرَفَعُواْ وَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَ أُوْلَئِكَ الْقَوْمُ يَتَحَدَّثُونَ فِي البَيْتِ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ. وَإنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِكَيْ يَخْرُجُواْ، فَمَشَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جَميعِ بُيُوتِ أزْوَاجِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَإذا الْقَوْمُ جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِهِ، وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحَيَاءِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". قال أنسٌ:" فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب جِئْتُ لأَدْخُلَ كَمَا كُنْتُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَرَاءَكَ يَا أنسُ " ". ومعنى الآية: ﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ ﴾ صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ أي إلا أن يُدعَوا إلى الضيافةِ أو يُؤذن لكم في الدخول، من غير أن يجتنبوا وقتَ الطعام فيستأذنوا في ذلك الوقت، ثم تقعُدوا انتظاراً لبُلوغ الطعامِ ونُضجهِ. ومعنى: ﴿ غَيْرَ نَاظِرِينَ ﴾ أي مُنتظرين نُضجَهُ وإدراكَهُ، يقال أنَى يَأنِي إنَاهُ، إذا حانَ وأدركَ، وكانوا يدخلون بَيتَهُ فيجلسون منتظرين إدراكَ الطعام، فنُهوا عن ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ ﴾، أي فتفرَّقوا.
﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾، ولا تجلسوا مُستَأنِسين لحديثٍ بعدَ أن تأكُلوا.
﴿ إِنَّ ذَٰلِكُمْ ﴾، إنَّ طُولَ مقامكم بعدُ في منزل النبي عليه السلام.
﴿ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ ﴾، صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾، أن يأمركم بالخروج.
﴿ وَٱللَّهُ ﴾، عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾، أي لا يمنعه عن بيان ما هو الحقُّ استحياءً منكم، وإن كان رسولهُ يفعل ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾، أي إذا سألتُم أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من متاعِ البيت، فخاطبُوهم من وراء الباب والسَّترِ، قال مقاتلُ: (أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ أنْ لاَ يُكَلِّمُوا نِسَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قَالَ عُمر: (يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أمَرْتَ أُمَّهَاتَ الْمُؤْمِنِينَ بالْحِجَاب، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب). وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: (كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ احْجِبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). وعن عامرُ رضي الله عنه قال: (مَرَّ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى نِسَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُنَّ: احْتَجِبْنَ؛ فَإنَّ لَكُنَّ عَلَى النِّسَاءِ فَضْلاً كَمَا أنَّ لِزَوْجِكُنَّ عَلَى الرِّجَالِ فَضْلاً. فَلَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ يَسِيراً حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب). وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال: (أمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب نِسَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الْحِجَابُ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: يَا ابْنَ الْخَطَّاب إنَّكَ لَتَغَارُ عَلَيْنَا وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِنَا؟!). وقال أنس:" كُنْتُ أدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بغَيْرِ إذْنٍ، فَجئْتُ يَوْماً لأَدْخُلَ فَقَالَ: " مَكَانَكَ يَا بُنَيَّ، قَدْ حَدَثَ بَعْدُ أنْ لاَ يُدْخَلَ عَلَيْنَا إلاَّ بإِذْنٍ " ". وعن اسماعيل بن أبي حكيم في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ قال: (هَذا أدَبٌ أدَّبَ اللهُ بهِ الثُّقَلاَءَ). وقالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (حسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم فقال: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾، أي سؤالُكم إياهن المتاعَ من وراء حجاب أطهرُ لقلوبكم وقلوبهن من الرِّيبة. وهذا الحكمُ في الحجاب وإن نزلَ في أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى عامٌّ فيه وفي غيره، ونحن مأمورون باتباعهِ والاقتداء به، إلا فيما خصَّه الله به دون أُمَّتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾، أي ليس لكم أنْ تُؤذوه بالدخولِ في منزله بغير إذنه، ولا بالحديثِ مع أزواجه ولا بشيءٍ من الأشياء، ولا يحلُّ لكم ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً ﴾، نزلَ في طلحةَ بن عُبيد الله، قال: (يَنهانا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أن ندخُلَ على بناتِ أعمامنا - يعني عائشةَ وهما من بني تَيْم بن مُرَّة - فلأَنْ ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا حيٌّ لأتزوجنَّ عائشةَ). فحرَّمَ اللهُ أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم على عامَّة الناس، وجعلهنَّ كأُمَّهاتهم في الإكرامِ والتحريم. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً ﴾، أي إنَّ الذي قُلتم وتمنَّيتم من تزويج أزواجهِ بعد موته كان عندَ الله عظيماً في الوِزْر والعقوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ﴾، أي إنْ تُظهروا قَولاً أو تُضمِرُوهُ، فإنَّ الله عالِمٌ بالظواهرِ والبواطنِ والضمائر. وقيل: معناهُ: إنْ تُظهروا أشياءَ من أمرِهنَّ، يعني طلحةَ، قوله تعالى: ﴿ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ أي تسِرُّونَهُ في أنفسكم، وذلك أنَّ نفسَهُ حدَّثته بتزويجِ عائشة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾، أي عليمٌ بكل شيءٍ من السرِّ والعلانية. فلمَّا نزَلت آيةُ الحجاب قال الأباءُ والأبناء والأقاربُ: يا رسولَ الله ونحنُ أيضاً نُكلِّمُهنَّ من وراء حجاب؟ فأنزلَ اللهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ ﴾، الآية. أي لا حرجَ عليهن في إذنِ آبائهن بالدخول عليهن، ولا في إذن الأبناءِ والإخوان وأبناء الإخوانِ وأبناء الأخوات. فإن قيلَ: فهلاَّ ذكَر الأعمامَ والأخوال؟ قيل: إنَّ العمَّ والخالَ يجريان مجرَى الوالدين في الرُّؤية، وكان ذِكرُ الأباء يتضمَّن ثباتَ حُكم الأَعمام والأخوال. وقيل: إنما لم يذكُر الأعمامَ والأخوال لكي لا يدخلَ أبناؤهما، ولا يطمَعا فيهن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ﴾، قال ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يَعْنِي نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، لاَ نِسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَصِفْنَ لأَزْوَاجِهِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنْ رَأيْنَهُنَّ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾، يعني العبيدَ والإماءَ، قيل: حَمْلُهُ على الإماءِ أوْلَى؛ لأن الْحُرَّ والعبيدَ يختلفان فيما يُباح لهما من النَّظَر، فلا يجوزُ للبالغين من العبيدِ أن يَنظُروا إلى شيءٍ منهن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ ﴾، أي واتَّقين اللهَ أن يرَاكُنَّ غيرُ هؤلاء، وقيل: اتَّقين اللهَ في الإذنِ لغير المحارمِ في الدخول عليكن.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، من أعمال العباد.
﴿ شَهِيداً ﴾، لم يغب عنه شيء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ ﴾، معناه: أنَّ اللهَ يترَحَّمُ على النبيِّ ويُثني عليه، وقوله: ﴿ وَمَلاَئِكَـتَهُ ﴾ أي والملائكة يدعونَ له بالرَّحمة، وقوله تعالى: ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ الضميرُ فيه يعودُ على الملائكة دون اسم الله تعالى؛ لأن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُفرِدُ ذِكرَهُ عن ذِكر غيره إعظاماً كما تقدم في قوله:﴿ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾[التوبة: ٦٢].
وقرأ ابن عباس: (وَمُلاَئِكَتُهُ) بالرفع عطفاً على محل قوله تعالى قبل دخول (إنَّ)، ونظيره قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ ﴾[المائدة: ٦٩] وقد مضى ذلك. وقيل: معنى قوله: ﴿ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ ﴾ أي يُثْنُونَ ويترحَّمون ويَدْعُون له. وقال مقاتلُ: (أمَّا صَلاَةُ اللهِ فَالْمَغْفِرَةُ، وَأمَّا صَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ فَالاسْتِغْفَارُ لَهُ). وقولهُ تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ﴾، أي قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، تَعظِيماً وإجْلاَلاً وتَفضِيلاً. وعن كعب بن عُجرة قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قِيلَ:" يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَاركْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيدٌ " ". وعن عبدِالله بن مَسعُود أنه قال: (إذا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ. قَالُواْ: فَعَلِّمْنَا ذلِكَ. قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ. اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً يَغْبطُهُ فِيهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾، يجوزُ أن يكون معناه: واخْضَعُوا لأمرهِ خُضوعاً، ويجوز أن يكون معناه: الدُّعاء بالسلامِ، يقول: السَّلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ. وعن الحسنِ قال:" سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَرَفْنَا السَّلاَمَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "والأفضلُ في هذا الباب أن تصَلِّي على مُحَمَّد وعلى آلهِ، فتقولَ: اللَّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحََمَّد. فإنْ اقتُصِرَ على أحدهما جازَ. واختلفوا في كيفيَّة وجُوب الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهم: تجبُ في العُمرِ مرَّة واحدةً بمنزلة الشهادَتين، وإلى هذا ذهبَ الكرخيُّ قالَ: (إذا صَلَّى عَلَيْهِ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ أدَّى فَرْضَهُ، إلاَّ أنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ فِي الدِّينِ عَلَيْنَا، كَمَا يَلْزَمُ الْمَرْءَ الدُّعَاءُ لأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنِيْنِ لِيَقْضِيَ بذلِكَ الدُّعَاءِ حَقَّهُمَا عَلَيْهِ). وقال بعضُهم: تجبُ عليه في كلِّ مجلسٍ مرَّة بمنزلة سَجدَةِ التِّلاوة. وقال الطحَّاويُّ: (تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كُلِّمَا ذُكِرَ) واستدلَّ بما رُوي أنَّ جبريلَ عليه السلام قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصََلِّ عَلَيْكَ فَلاَ غَفَرَ اللهُ لَهُ "وقال الشافعيُّ رضي الله عنه: (الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي كُلِّ صَلاَةٍ) وهذا قولٌ لم يقُل به أحدٌ غيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾، قال المفسِّرون: هم المشرِكون واليهودُ والنصارى، وصَفُوا اللهَ بالولدِ فقالوا: عُزيرٌ ابن الله، والمسيحُ ابن الله، والملائكةُ بناتُ الله، وكذبوا رسولَهُ وشجُّوا وجهَهُ وكسَرُوا رُباعيته، وقالوا: مجنونٌ، وشاعر، وساحرٌ كذاب. قال صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ أحَدٍ أصْبَرُ عَلَى أذَى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، جَعَلُوا لَهُ نَدّاً وَجَعَلُوا لَهُ وَلَداً، وَهُوَ مَعَ ذلِكَ يُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ "وكذلك قالتِ اليهودُ: يدُ الله مغلولةٌ، وقالوا: إن الله فقيرٌ. ومعنى يُؤذون اللهَ، أي يُخالفون أمرَ اللهِ ويعصونه ويصفونَهُ بما هو مُنَزَّهٌ عنه، والله تعالى لا يلحقهُ أذًى. وقوله تعالى: ﴿ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي باعدَهم اللهُ يعني بالقتلِ والجلاء في الدُّنيا والعذاب بالنار في الآخرة، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾، أي ذي هوانٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ ﴾، أي يَرمُونَهم بما ليس فيهم، قال قتادةُ والحسن: (إيَّاكُمْ وَإيْذاءَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإنَّ اللهَ يَغْضَبُ لَهُ وَيُؤْذِي مَنْ آذاهُ). وعن عبدالرحمن بن سَمُرة قال:" خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: " رَأيْتُ اللَّيْلَةَ عَجَباً، رأيْتُ رجَالاً مُعَلَّقُونَ بأَلْسِنَتِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلاَءِ الَّّذِينَ يَرْمُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾، أي فقد قَالُوا كَذِباً وجَنَوا على أنفُسهم وزْراً وعقوبةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ﴾، أي قُل لنسائك وبناتِكَ والحرائرِ من النساء يُلقِينَ على رُؤوسهن ووجوههنَّ من جلابيبهن، والجلبابُ: هو المقنعةُ التي تسترُ بها المرأة ما يَظْهَرُ من العنُق والصدر، وهي الملاءةُ التي تشتمل بها المرأةُ. قال المفسِّرون: يُغطِّين رؤُوسَهن ووجوههن إلا عَيناً واحدة. وظاهرُ الآية يقتضي أنْ يكُنَّ مأمورات بالسَّتر التام عند الخروجِ إلى الطُّرق، فعليهن أن يَستَتِرْنَ إلا بمقدار ما يعرفنَ به الطريق. وقولهُ تعالى: ﴿ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾، معناه: ذلك أقربُ أنْ يعرِفن الحرائرَ من الإماءِ فلا يؤذِي الحرائر؛ لأن الناسَ كانوا يومئذٍ يُمازحون الإماءَ ولا يمازحون الحرائرَ، وكان المنافقون يمازحون الحرائرَ، فإذا قيلَ لهم في ذلك، قالوا: حسِبنا أنَّهن إماءٌ. فأمرَ اللهُ الحرائرَ بهذا النوعِ من السَّتر قطعاً لأعذار المنافقين. وعن عُمر رضي الله عنه: أنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الإمَاءَ وَيَقُولُ: (اكْشِفْنَ رُؤُوسَكُنَّ وَلاَ تتَشَبَّهْنَ بالْحَرَائِرِ). ومرَّت جاريةٌ بعُمر رضي الله عنه متقنِّعة، فعَلاَها بالدرَّة وقال: (يَا لُكَاعُ، أتَتَشَبَّهِينَ بالْحَرَائِرِ، ألْقِي الْقِنَاعَ). ويقالُ في معنى ذلك: ﴿ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ ﴾ أي أقربُ إلى أن يُعرفن بالسَّتر والصلاح؛ فيَيئَسَ منهن فُسَّاق الرِّجال، فلا يطمَعُون فيهن كطمَعِهم فيمن تتبرَّج وتتكشَّف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾، أي لإنْ لم يَنْتَهِ المنافقون عن نِفَاقهم.
﴿ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾، يعني الفُجور وهم الزُّناة وضعفاء الدِّين عن أذى المؤمنين.
﴿ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾، وهم قومٌ كانوا يُوقعون الأخبارَ بما يكرهُ المؤمنون، ويقولون: قد أتَاكُم العدوُّ، ويقولون لسَرَاياهم: أنهم قُتِلوا وهُزِموا، يُخيفون المؤمنين بذلك. لئن لم ينتَهُوا عن هذه الأفعالِ القبيحة.
﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾، أي لنسلطنَّكَ عليهم، ونأمرك بقتلِهم حتى تقتُلَهم وتخلو منهم المدينة، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾، أي في المدينةِ، والمعنى: لا يُساكِنُونك في المدينة إلا يَسيراً حتى يهلَكُوا.
﴿ مَّلْعُونِينَ ﴾، مطرودين مُبعَدين عن الرَّحمة.
﴿ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ ﴾، أي أينَما وُجدوا وأُدركوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّلْعُونِينَ ﴾ نصبٌ على الحالِ، وقيل: على الذمِّ، وتقديرُ النصب على الحالِ: لا يُجاورونك إلا وهم مَلعُونون مطرودون مخذولون. وقولهُ تعالى: ﴿ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾، أي أُخذوا وقُتلوا مرَّة بعد مرَّة؛ لأنه إذا ظهرَ أمرُ المنافقين كانوا بمنزِلة الكفَّار، ومن حقِّ الكفار أن يُقتلوا حيث يوجدون. قال قتادة: (أرَادَ الْمُنَافِقُونَ أنْ يُظْهِرُوا مَا فِي قُلُوبهم مِنَ النِّفَاقِ، فَلَمَّا وَعَدَهُمُ اللهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَكَتَمُوهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ﴾، أراد بالسُّنة الطريقةَ التي أمرَ اللهُ بلُُزومها واتباعها، وقد كانت هذه السُّنة في الأُممِ الماضية، لَمَّا آذى المنافقون أنبياءَهم، أمرَ الله أنبياءَهُ بقتالهم. قال الزجَّاجُ: (سَنَّ اللهُ فِي الَّذِينَ يُنَافِقُونَ الأَنْبيَاءَ وَيُرْجِفُونَ بهِمْ أنْ يُقْتَلُوا حَيْثُمَا ثُقِفُوا) ولا يبدِّلُ الله سُنَّتَهُ فيهم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾، أي هكذا سُنة الله فيهم إذا أظهَرُوا النفاقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ﴾، قال الكلبيُّ: (سَأَلَ أهْلُ مَكَّةَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ وَعَنْ قِيَامِهَا) فقال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ ﴾، أي قُل لهم يا مُحَمَّد: إنَّما العلمُ بوقتِ قيامها عند اللهِ، لا يُطلِعُ أحدا عليها. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾، أيْ أيُّ شيْءٍ يُعلمُكَ أمرَ الساعة ومتى يكون قيامُها، أي أنتَ لا تعرفهُ، ثم قال: ﴿ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾.
وما بعدَ هذه الآية: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾، ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ ﴾، أي تُقلَّبُ وجوهُ الكفار ظهرَ البطنِ، وقيل: تُقلَّبُ إلى سوادٍ، وقيل: تُقلَّبُ إلى الأقفيةِ. وقرأ أبو جعفر: (تَقَلَّبُ) بفتح التاء بمعنى تَتَقَلَّب. وقرأ عيسى بن عمر: (نُقَلِّبُ) بالنون وكسرِ اللام (وُجُوهَهُمْ) بالنصب. وقولهُ تعالى: ﴿ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ ﴾، في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ ﴾ أي صرَفُونا عن الدِّين وعن سَبيلِ الهدى. قرأ الحسنُ وابن عامرٍ ويعقوب: (سَادَتِنَا) بالألفِ وكسر التاء على جمعِ الجمع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ﴾، أي عذِّبْهم مِثْلَي عذابنا، فيكون ضعفٌ على كُفرِهم وضِعفٌ على دُعائهم لنا إلى الضلالِ. وقوله: ﴿ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ﴾، قرأ عاصم (كَبيراً) بالباء؛ أي عظيماً، وقرأ الباقون بالثاء مِن الكثرة، وإنما اختاروا الكثرةَ لقوله:﴿ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ ﴾[البقرة: ١٥٩] وقولهِ تعالى:﴿ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[البقرة: ١٦١] فهذا يشهدُ للكثرة. حدثنا مُحَمَّد بن الحسنِ العسقلاني، قال: (سمعتُ مُحَمَّدَ بن السري يقولُ: رأيتُ في المنام كأنِّي في مسجدِ عَسقلان؛ وكأنَّ رجُلاً يُناظِرُني ويقول: (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبيرًا) وأنا أقولُ: (كَثِيراً). وإذا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فدخلَ علينا المسجدَ، وكان في وسطِ المسجد منارةً لها بابٌ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقصدُها. فقلتُ: هذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: السلامُ عليكَ يا رسولَ الله استَغفِرْ لي. فأمسكَ عنِّي، فجِئتهُ عن يمينهِ فقلتُ: يا رسولَ الله استغفِرْ لي، فأعرضَ عني، فقمتُ من تلقاءِ صدره، حدَّثَنا سُفيان بن عُيينة عن مُحَمَّد بن المنكدر وعن جابرِ بن عبدالله: " أنَّكَ مَا سُئِلْتَ شَيْئاً قَطْ فَقُلْتُ لاَ " فتبسَّم عليه السلام وقال: " اللَّهم اغفِرْ له ". فقلتُ: يا رسولَ الله إني وهذا نتكلَّمُ في قولهِ تعالى: (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَثِيرًا)، فأنا أقولُ: (كَثِيراً) وهذا يقولُ: (كَبيراً)، قال: فدخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المنارةَ وهو يقولُ: كَثيراً، كَثِيراً، بالثاءِ إلى أن غابَ عني صوتهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ ﴾، أي لا تكونُوا في أذى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كبني إسرائيلَ، الذين آذوا موسَى بعيبٍ أضافوهُ إليه، فبرَّأهُ اللهُ مما قالوا عليه.
﴿ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً ﴾، أي رفيعَ القدر والمنزلةِ. واختلفوا في العيب الذي أضافَهُ بنوا إسرائيلَ إلى موسى، قال بعضُهم: كان هارونُ أحبَّ إلى بني إسرائيلَ من موسى لزيادةِ رفقه بهم، فلما ماتَ هارونُ في حالِ غيبتهما عنهم، قالوا: إنَّ موسى قتلَهُ لتخلصَ له النُّبوة، فأحياهُ الله تعالى حتى كذبَهم. وقال بعضُهم: كان أذاهُم له أنهم رَمَوه بالأَدَرَةِ لكثرةِ حيائه واستتارهِ عن الناس، وكانت بنوا إسرائيلَ عُراةً ينظرُ بعضهم إلى سَوءَةِ بعضٍ، وكان موسى يغتسلُ وحدَهُ، فقالوا: واللهِ ما يمنعُ موسَى أن يغتسلَ معنا إلا أنه آدَرَ. قال: فذهبَ يغتسلُ مرَّة، فوضعَ ثوبَهُ على حجرٍ، فذهبَ الحجرُ بثوبهِ، فخرجَ موسى من الماءِ في إثْرِ الحجرِ، يقول: ثَوبي يا حجرُ، حتى نظَرت بنوا إسرائيل إلى سَوأتهِ عليه السلام، فقالوا: واللهِ ما به من بأسٍ. فقامَ الحجرُ بعدما نظروا إليه وأخذ ثوبه، فطَفِقَ بالحجرِ ضَرباً. قال أبو هُريرة:" وَاللهِ إنَّ بالْحَجَرِ نُدَبٌ سِتَّةٌ أوْ سَبْعَةٌ مِنْ ضَرْب مُوسَى "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً ﴾ أي حَظِيّاً لا يسألهُ شيئاً إلا أعطاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، أي اتَّقوا عذابَ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
﴿ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾، قال ابنُ عباس: (صَوَاباً)، وقال الحسنُ: (صَادِقاً) يعني كلمةَ التوحيدِ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
قولهُ تعالى: ﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾، قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ يَتَقَبَّلُ حَسَنَاتِكُمْ) ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾، بسَدَادِ قَولِكم.
﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾، أي فقد نالَ الخير كلَّهُ وظَفِرَ به، والفوزُ العظيم هو الظَّفَرُ بالكرامةِ والرضوان من اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ ﴾، معناه: إنا عرَضنا الأمانةَ التي هي الشرائعُ والفرائض التي يتعلَّقُ بأدائها الثوابُ وبتركها العقاب. قال ابنُ عباس: (عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ الَّتِي زُيِّنَتْ بالنُّجُومِ وَحَمَلَتِ الْعَرْشَ الْعَظِيْمَ، فَقِيْلَ لَهُنَّ بأَخْذِ الأَمَانَةِ بَما فِيهَا، قُلْنَ: وَمَا فِيهَا، قِيلَ: إنْ أحْسَنْتُنَّ جُزِيتُنَّ، وَإنْ أسَأْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ، قُلْنَ: لاَ. ثُمَّ عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَى الْجِبَالِ الصُّمِّ الشَّوَامِخِ الصِّلاَب الْبَوَاذِحِ).
﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾.
قال ابنُ جريج: (قَالَتِ السَّمَاءُ: يَا رَب خَلَقْتَنِي وَجَعَلْتَنِي سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَأجْرَيتَ فِيَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، لاَ أعْمَلُ فرِيضَةً وَلاَ أبْتَغِي ثَوَاباً. وَقَالَتِ الأَرْضُ: يَا رَب جَعَلْتَنِي بسَاطاً وَمِهَاداً، وَشَقَقْتَ فِيَّ الأَنْهَارَ، وَأنْبَتَّ فِيَّ الأَشْجَارَ، لاَ أتَحَمَّلُ فَرِيضَةً وَلاَ أبْتَغِي ثَوَاباً وَلاَ عِقَاباً). ومعنى قولهِ: ﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾ أي مخافةً وخِشيَةً لا معصيةً ولا مخالفة، والعرضُ كان تَخييراً لا إلزاماً، قولهُ: ﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ أي خِفْنَ من الأمانةِ أن لا توفِّيها، فيلحقهُنَّ العقابُ، فأَبَوا ذلك تَعظيماً لدِين الله وخَوفاً أن لا يقوموا به، وقالوا: نحنُ مسخَّرات لأمرِكَ لا نريدُ ثَواباً ولا عقاباً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾، يعني: وحَملَها آدمُ عليه السلام قال الله له: يا آدمُ إني عرضتُ الأمانةَ على السَّماوات والأرض والجبالَ فأبَين أن يحمِلنَها ولم يُطِقْنَها، فهل أنتَ آخذُها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إنْ أحسنتَ جُزِيتَ، وإنْ أسأتَ عُوقِبْتَ. فتحمَّلها آدمُ، وقال: حَمَلتُها بين أذُنَيَّ وعاتِقي. قال ابنُ عباس: (عَرَضَ اللهُ عَلَى آدَمَ أدَاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَأدَاءَ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَحِلِّهَا، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحِجِّ الْبَيْتِ، عَلَى أنَّ لَهُ الثَّوَابَ وَعَلَيْهِ الْعِقَابَ، فَقَالَ: بَيْنَ أُذُنَيَّ وَعَاتِقِي). وقال مقاتل: (قَالَ اللهُ تَعَالَى لآدَمَ: أتَحْمِلُ هَذِهِ الأَمَانَةَ وَتَرْعَاهَا حَقَّ رعَايَتِهَا؟ فَقَالَ آدَمُ: وَمَا لِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: إنْ أحْسَنْتَ وَأطَعْتَ وَرَعَيْتَ الأَمَانَةَ، فَلَكَ الْكَرَامَةُ وَحُسْنُ الثَّوَاب فِي الْجَنَّةِ، وَإنْ عَصَيْتَ وَأَسَأْتَ مُعَذِّبُكَ وَمُعَاقِبُكَ. قَالَ: قَدْ رَضِيتُ يَا رَب، وَتَحَمَّلَهَا. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ حَمَّلْتُكَهَا. فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾.
قال الكلبيُّ: (ظُلْمُهُ حَيْثُ عَصَى رَبَّهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَجَهْلُهُ حَيْثُ تَحْمَّلَهَا). وقال مقاتلُ: (ظَلُوماً لِنَفْسِهِ، جَهُولاً بعَاقِبَةِ مَا حُمِّلَ). وقال مجاهدُ: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ، عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقْبَلْهَا فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ تَحَمَّلْتُهَا يَا رَب. قال مجاهدُ: فَمَا كَانَ بَيْنَ أنْ تَحَمَّلَهَا وَبَيْنَ أنْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ إلاَّ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ). وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: (إنَّ اللهَ قَالَ لآدَمَ: إنِّي عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ يُطِقْنَهَا، فَهَلْ أنْتَ حَامِلُهَا بمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَب وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إنْ حَفِظْتَهَا أُجِرْتَ، وَإنْ ضَيَّعْتَهَا عُوقِبْتَ، قَالَ: قَدْ تَحَمَّلْتُهَا. فَمَا بِقِيَ فِي الْجَنَّةِ إلاَّ كَقَدْر مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا). وقال زيدُ بن أسلَمْ: (الأَمَانَةُ هِيَ الصَّوْمُ وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ)، وقال بعضُهم: (هِيَ أمَانَاتُ النَّاسِ وَالَوَفَاءُ بالْعُهُودِ. فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤمِنٍ أنْ لاَ يَغُشَّ مُسْلِماً فِي شَيْءٍ لاَ قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ). وقال السديُّ: (هِيَ ائْتِمَانُ آدَمَ ابْنَهُ قَابيلَ عَلَى أهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَذلِكَ أنَّ آدَمَ عليه السلام لَمَّا أرَادَ أنْ يَحُجَّ إلَى مَكَّةَ، قَالَ: يَا سَمَاءُ احْفَظِي أوْلاَدِي بالأَمَانَةِ، فَأَبَتْ وََقَالَ لِلأَرْضَ كَذلِكَ، فَأَبَتْ. وَقَالَ لِلجِبَالِ كَذلِكَ، فَأَبَتْ. ثُمَّ قَالَ لابْنِِهِ قَابيلَ: أتَحْفَظُهُمْ بالأَمَانَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ فَتَجِدُ أهْلَكَ كَمَا يَسُرُّكَ. فَانْطَلَقَ آدَمُ وَرَجَعَ وَقَدْ قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ يَعنِي قَابيلَ حِينَ حَمَلَ أمَانَةَ أبيهِ ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ﴾، أي ليعذبَهم اللهُ بما خَانُوا الأمانةَ وكذبوا الرُّسُلَ، ونقضِ الميثاق الذي أقَرُّوا به حين أُخرِجُوا من ظهرِ آدم. قال الحسنُ: (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ خَانُوهَا، وَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوهَا). قَوْلهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾، لأنَّهم أدَّوا الأمانةَ، وهي الفرائضُ. وقيل: معنى الآية: إنَّا عرَضنا الأمانةَ ليَظهَرَ نِفاقُ المنافقِ، وشِرْكُ المشركِ فيعذِّبُهم اللهُ، ويُظهِرَ إيمانَ المؤمنين فيتوبَ اللهُ عليهم، أي يعودُ عليهم بالمغفرةِ والرَّحمة إنْ حصلَ منهم تقصيرٌ في بعضِ الطاعات، وكذلك ذكرَ بلفظِ التوبة، فدلَّ على أن المؤمنَ العاصي خارجٌ من العذاب.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً ﴾، للمؤمنين إذا تَابُوا.
﴿ رَّحِيماً ﴾، بمن ماتَ على التوبةِ.
Icon