تفسير سورة الزخرف

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت في المصاحف العتيقة والحديثة ﴿ سورة الزخرف ﴾ وكذلك وجدتها في جوء عتيق من مصحف كوفي الخط مما كتب في أواخر القرن الخامس، وبذلك ترجم لها الترمذي في كتاب التفسير من جامعة، وسميت كذلك في كتب التفسير.
وسماها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ﴿ سورة حم الزخرف ﴾ وإضافة كلمة حم إلى الزخرف على نحو ما بيناه في تسمية سورة ﴿ حم المؤمن ﴾ روى الطبرسي عن الباقر أنه سماها كذلك.
ووجه التسمية أن كلمة ﴿ وزخرفا ﴾ وقعت فيها ولم تقع في غيرها من سور القرآن فعرفوها بهذه الكلمة.
وهي مكية : وحكى ابن عطية الاتفاق على أنها مكية، وأما ما روى عن قتادة وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن آية ﴿ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ﴾ نزلت بالمسجد الأقصى فإذا صح لم يكن منافيا لهذا لأن المراد بالمكي ما أنزل قبل الهجرة.
وهي معدودة السور الثانية والستين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة فصلت وقبل سورة الدخان.
وعدت آيها عند العادين من معظم الأمصار تسعا وثمانين، وعدها أهل الشام ثمانيا وثمانين.
أغراضها
أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من الأغراض : التحدي بإعجاز القرآن لأنه آية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به والتنويه به عدة مرات وأنه أوحى الله به لتذكيرهم وتكرير تذكيرهم وإن أعرضوا كما أعرض من قبلهم عن رسلهم.
وإذ قد كان باعثهم على الطعن في القرآن تعلقهم بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها كان من أهم أغراض السورة، التعجيب من حالهم إذ جمعوا بين الاعتراف بأن الله خالقهم والمنعم عليهم وخالق المخلوقات كلها. وبين اتخاذهم آلهة يعبدونها شركاء لله، حتى إذا انتقض أساس عنادهم اتضح لهم ولغيرهم باطلهم.
وجعلوا بنات لله مع اعتقادهم أن البنات أحط قدرا من الذكور فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص.
وإبطال عبادة كل ما دون الله على تفاوت درجات المعبودين في الشرف فإنهم سواء في عدم الإلهية للألوهية ولبنوة الله تعالى.
وعرج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفه تخييلاتهم وترهاتهم.
وذكرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. وخص إبراهيم بأنه جعل كلمة التوحيد باقية في جمع من عقبه وتوعد المشركين وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارهم وقوعه من مغذيات كفرهم وإعراضهم لاعتقادهم أنهم في مأمن بعد الموت.
وقد رتبت هذه الأغراض وتفاريعها على نسخ بديع وأسلوب رائع في التقديم والتأخير والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسبات التي اقتضتها البلاغة، وتجديد نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه. وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمثل والقوارع والترغيب والترهيب، شيء عجيب، مع دحض شبه المعاندين بأفانين الإقناع بانحطاط ملة كفرهم وعسف معوج سلوكهم.
وأدمج في خلال ذلك ما في دلائل الوحدانية من النعم على الناس والإنذار والتبشير.
وقد جرت آيات هذه السورة على أسلوب نسبة الكلام إلى الله تعالى عدا ما قامت القرينة على الإسناد إلى غيره.

وَالْمَثَلِ وَالْقَوَارِعِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ شَيْءٌ عَجِيبٌ، مَعَ دَحْضِ شُبَهِ الْمُعَانِدِينَ بِأَفَانِينِ الْإِقْنَاعِ بِانْحِطَاطِ مِلَّةِ كُفْرِهِمْ وَعَسْفِ مُعْوَجِّ سُلُوكِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ.
وَقَدْ جَرَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أُسْلُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَدَا مَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى غَيره.
[١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِره ومواقعها قَبْلَ ذِكْرِ الْقُرْآن وتنزيله.
[٢، ٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢ إِلَى ٣]
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)
أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ عَرَبِيًّا وَاضِحَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُصَدِّقُوا بِهِ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مُكَابِرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ كَانُوا كَمَنْ لَا يَعْقِلُونَ.
فَالْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَهُوَ تَوْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ إِذْ لَيْسَ الْقَسَمُ هُنَا بِرَافِعٍ لِتَكْذِيبِ الْمُنْكِرِينَ إِذْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْمُقْسِمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْقَسَمِ هُمُ الْمُنْكِرُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَتَفْرِيعِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥] عَلَيْهِ. وَتَوْكِيدُ الْجَوَابِ بِ (إِنَّ) زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ لِلْخَبَرِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ.
وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ الْقُرْآنَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُبِينًا، وَجَعْلِ جَوَابِ الْقَسَمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُبِينًا، تَنْوِيهٌ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ إِذْ جَعَلَ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ الْمُقَسَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَبِيلِهِ قَوْلَ أَبِي تَمَّامٍ:
159
وَثَنَايَاكِ إِنَّهَا إِغْرِيضُ وَلَآلٍ تُؤْمٌ وَبَرْقٌ وَمِيضُ
إِذْ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ جُمْلَةَ (إِنَّهَا إِغْرِيضُ) جَوَابَ الْقَسَمِ وَهُوَ الَّذِي تَبِعَهُ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ فِي شَرْحَيْهِمَا «لِلْكَشَّافِ»، وَهُوَ مَا فَسَّرَ بِهِ التَّبْرِيزِيُّ فِي شَرْحِهِ لِدِيوَانِ أَبِي تَمام، وَلَكِن التفتازانيّ أَبْطَلَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ «الْكَشَّافِ» وَجَعَلَ جُمْلَةَ (إِنَّهَا إِغْرِيضُ) اسْتِئْنَافًا أَيِ اعْتِرَاضًا لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِ ثَنَايَاهَا أَنْ يُقْسِمَ بِهَا، وَجَعَلَ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلَهُ بَعْدَ أَبْيَات ثَلَاثَة:
لتكادني غِمَارٌ مِنَ الْأَحْ دَاثِ لَمْ أَدْرِ أَيَّهُنَّ أَخُوضُ
وَالنُّكَتُ وَالْخُصُوصِيَّاتُ الْأَدَبِيَّةُ يَكْفِي فِيهَا الِاحْتِمَالُ الْمَقْبُولُ فَإِنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ:
وَارْتِكَاضُ الْكَرَى بِعَيْنَيْكَ فِي النَّ وْمِ فُنُونًا وَمَا بِعَيْنِي غُمُوضُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا ثَانِيًا فَيَكُونَ الْبَيْتُ جَوَابًا لَهُ.
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ لِيُكْتَبَ وَأَنَّ الْأُمَّةَ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَتِهِ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالْمُرَادُ بِ الْكِتابِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ.
وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ، أَيْ إِنَّا جَعَلْنَا الْكِتَابَ الْمُبِينَ قُرْآنًا وَالْجَعْلُ: الْإِيجَادُ وَالتَّكْوِينُ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَقْرُوءٌ دُونَ حُضُورِ كِتَابٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ وَلَوْلَا ذَلِكَ
لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مَقْرُوءٌ لِأَنَّ كُلَّ كِتَابٍ صَالِحٌ لِأَنْ يُقْرَأُ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ قُرْآنٌ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ هَذَا الْكِتَابِ مَقْرُوءًا، أَيْ مُيَسَّرًا لِأَنْ يُقْرَأُ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ١٧] وَقَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[الْقِيَامَة: ١٧]. وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: ٩].
فَحَصَلَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِوَصْفَيْنِ: كَوْنِهِ كِتَابًا، وَكَوْنِهِ مَقْرُوءًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ كِتَابُ الْإِسْلَامِ.
160
وَ (عَرَبِيًّا) نِسْبَةً إِلَى الْعَرَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَنْسُوبُ كِتَابًا وَمَقْرُوءًا فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى الْعَرَبِ نِسْبَةُ الْكَلَامِ وَاللُّغَةِ إِلَى أَهْلِهَا، أَيْ هُوَ مِمَّا يَنْطِقُ الْعَرَبُ بِمِثْلِ أَلْفَاظِهِ، وَبِأَنْوَاعِ تَرَاكِيبِهِ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَعَلْناهُ.
وَمَعْنَى جَعْلِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا تَكْوِينُهُ عَلَى مَا كُوِّنَتْ عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَاهِرِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ قُرْآنًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا دَلَالَةً عَلَى عَدِيدِ الْمَعَانِي، وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ أَفْهَمُ لِدَقَائِقِهَا، وَلِذَلِكَ اصْطَفَى رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِتَتَظَاهَرَ وَسَائِلُ الدَّلَالَةِ وَالْفَهْمِ فَيَكُونُوا الْمُبَلِّغِينَ مُرَادَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَمِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بِهَاتِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَأْبَى مِنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ بُعَدَاءُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَالرُّشْدِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَدْيَهُمْ فَلَا يُقْطَعُ عَنْهُمْ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتِمَّ مُرَادُهُ وَيَكْمُلَ انْتِشَارُ دِينِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَيَتَدَبَّرُوا إِخْلَاصَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ إِنْ هُمْ ثَابُوا إِلَى رُشْدِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَرَضَانِ: أَحَدُهُمَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَمَدْحُهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوجٌ عَلَى مِنْوَالِ أَفْصَحِ لُغَةٍ، وَثَانِيهِمَا التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْعَرَبِ حِينَ لَمْ يَتَأَثَّرُوا بِمَعَانِيهِ بِأَنَّهُمْ كَمَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ الْمُفْتَتَحَةُ بِهِمَا السُّورَةُ مِنْ مَعْنَى التَّحَدِّي بِأَنَّ هَذَا كِتَابٌ بِلُغَتِكُمْ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَحَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٣].
وَالْعَقْلُ الْفَهْمُ. وَالْغَرَضُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا التَّدَبُّرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنَّ كَمَالَهُ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفْصَاحِ نَسْتَأْهِلُ الْعِنَايَةَ بِهِ لَا الْإِعْرَاضَ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مُشْعِرٌ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّا يَسَّرْنَا فَهْمَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَأَعْرَضْتُمْ وَلَمْ تَعْقِلُوا مَعَانِيَهُ،
161
لِأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِقْدَارٌ عَظِيمٌ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَقَلُوا، فَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ عَلَى طَريقَة الْكِنَايَة.
[٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣]، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ ثَنَاءً ثَانِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ رِفْعَةً وَإِرْشَادًا.
وأُمِّ الْكِتابِ: أَصْلُ الْكِتَابِ. وَالْمُرَادُ بِ أُمِّ الْكِتابِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٩]، لِأَنَّ الْأُمَّ بِمَعْنَى الْأَصْلِ وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، أَيِ الْمُحَقَّقُ الْمُوَثَّقُ وَهَذَا كِنَايَةً عَنِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا عَهْدًا عَلَى طُولِ مُدَّةٍ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذِرُ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
وَعلي أَصْلُهُ الْمُرْتَفِعُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِشَرَفِ الصِّفَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ.
وحَكِيمٌ: أَصْلُهُ الَّذِي الْحِكْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَأْيِهِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِمَا يَحْوِي الْحِكْمَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَالْقَوَانِينِ الْمُقِيمَةِ لِنِظَامِ الْأُمَّةِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْمَعَانِي هُوَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ وَصَدَرَ عَنْ عِلْمِهِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ هَذَا شَهَادَةً بِعُلُوِّ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ فِي الْيَمِينِ: اللَّهُ يَعْلَمُ، وَعلم اللَّهُ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ.
ولَدَيْنا ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّهُ أَوْ مِنْ أُمِّ الْكِتابِ
وَالْمَقْصُودُ:
زِيَادَةُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَشْرِيفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي أُمِّ الْكِتابِ بِضَمِّ هَمْزَةِ أُمِّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ أُمِّ الْكِتابِ فِي الْوَصْلِ اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ فِي، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى فِي لَمْ يكسر الْهمزَة.
[٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: ٣]، أَيْ أَتَحْسَبُونَ أَنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَمَّا نَزَلَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَبْعَثُنَا عَلَى أَنْ نَقْطَعَ عَنْكُمْ تَجَدُّدَ التَّذْكِيرِ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ آخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِعَادَةُ تَذْكِيرِهِمْ وَكَانُوا قَدْ قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ مَا فِيهِ هَدْيُهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا وَتَدَبَّرُوا، وَكَانَتْ إِعَادَةُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ مَوْسُومَةً فِي نَظَرِهِمْ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَ إِعْرَاضِهِمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي قَطْعِ الْإِرْشَادِ عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ بِهِمْ مُرِيدٌ لِصَلَاحِهِمْ لَا يَصُدُّهُ إِسْرَافُهُمْ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ زِيَادَةِ التَقَدُّمِ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْهَدْيِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ نَضْرِبَ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا مِنْ جَرَّاءِ إِسْرَافِكُمْ.
وَالضَّرْبُ حَقِيقَتُهُ قَرْعُ جِسْمٍ بِآخَرَ، وَلَهُ إِطْلَاقَاتٌ أَشْهَرُهَا: قَرَعَ الْبَعِيرَ بِعَصًا، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالصَّرْفِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ الْغَرَائِبَ عَنِ الْحَوْضِ، أَيْ أَطْرَدَهَا وَصَرَفَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِأَهْلِ الْمَاءِ، فَاسْتَعَارُوا الضَّرْبَ لِلصَّرْفِ وَالطَّرْدِ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ (١)
_________
(١) (اضْرِب) فعل أَمر فهمزته همزَة وصل مَكْسُورَة. وَجَاء بِهِ مَفْتُوح الآخر على تَقْدِير نون التوكيد ضَرُورَة، و (طارقها) بدل من (الهموم) أَي الَّتِي تحدث لَك فِي اللَّيْل، و (القونس) عظم ناتىء بَين أُذُنِي الْفرس إِذا ضرب بِالسَّيْفِ فِي الْحَرْب هلك الْفرس، أَرَادَ: اضْرِب الهموم ضربا قَاطعا.
163
وَالذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ.
وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحِ الْوَجْهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ تَرْكَ اسْتِمَاعِهِ وَتَرْكَ النَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَانْتَصَبَ صَفْحاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي مَكَانِ صَفْحٍ، كَمَا يُقَالُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَفْحاً مَصْدَرَ صَفَحَ عَنْ كَذَا، إِذَا أَعْرَضَ، فَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالْإِعْرَاضِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ الضَّائِرِ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ «لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ فَتَكُونُ
إِنْ شَرْطِيَّةً، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ أَنْ تَقَعَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ بِخِلَافِ (إِذَا) الَّتِي هِيَ لِلشَّرْطِ الْمُتَيَقَّنِ وُقُوعه، فالإتيان بإن فِي قَوْلِهِ:
إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لِقَصْدِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ الْمَعْلُومِ إِسْرَافُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي إِسْرَافِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ إِسْرَافَهُمْ وَفِي هَذَا ثِقَةٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى إِمْعَانِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى جَعْلِ إِنَّ مَصْدَرِيَّةً وَتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفًا، أَيْ لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ، أَيْ لَا نَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْرِفِينَ بَلْ لَا نَزَالُ نُعِيدُ التَّذْكِيرَ رَحْمَةً بِكُمْ.
وَإِقْحَامُ قَوْماً قَبْلَ مُسْرِفِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْرَافَ صَارَ طَبْعًا لَهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
164

[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٦ إِلَى ٨]

وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
لَمَّا ذَكَرَ إِسْرَافَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِصْغَاءِ لِدَعْوَةِ الْقُرْآنِ وَأَعْقَبَهُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً عَمَّا يُلَاقِيهِ مِنْهُمْ فِي خِلَالِ الْإِعْرَاضِ مِنَ الْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ بِتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ حَالَهُ فِي ذَلِكَ حَالُ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ وَسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ، ووعد للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى قَوْمِهِ بِتَذْكِيرِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهُمْ. وَجُعِلَ لِلتَّسْلِيَةِ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بِقَرِينَةِ الْعَدْلِ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِزَجْرِهِمْ عَنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ.
فَجُمْلَةُ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف:
٣] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى هُنَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ.
وكَمْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ، وَمُوقِعُ كَمْ نَصْبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَرْسَلْنا، وَهُوَ مُلْتَزَمٌ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فَنُقِلَ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ.
وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْإِخْبَارُ بِالْكَثْرَةِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي كَمْ. وَالدَّاعِي
إِلَى اجْتِلَابِ اسْمِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِ هَذَا الْحُكْمِ أَدْخَلُ فِي زَجْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ وَأَدْخَلُ فِي تَسْلِيَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْصِيلِ صَبْرِهِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ تُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا تَتَخَلَّفُ، وَذَلِكَ أَزْجَرُ وَأَسْلَى.
والْأَوَّلِينَ جَمْعُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِينَ السَّابِقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: ٧١] فَإِنَّ الَّذِينَ أُهْلِكُوا قَدِ انْقَرَضُوا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ خَلَفَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ
165
نَبِيءٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا يُقَارِنُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ إِتْيَانَ ذَلِكَ النَّبِيءِ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ.
وَضَمِيرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُسْرِفِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطَابُهُمْ فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسَالِ خِطَابِهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَبْلُغُهُمْ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الْإِضْمَارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الِالْتِفَاتِ فِي الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَنَاطَ الِالْتِفَاتِ هُوَ اتِّحَادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأَتِّي الِاقْتِصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ الْأُولَى، وَهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضَى نَقْلِ الْإِضْمَارِ، وَلَا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً بِازْدِيَادِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنَا الْتِفَاتٌ وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شَارِحُوهُ، وَلَكِن الْعَلامَة التفتازانيّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِيهِ الضَّمِيرَانِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالٌ، وَخُصُوصِيَّاتُ الْبَلَاغَةِ وَاسِعَةُ الْأَطْرَافِ. وَالَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَنْ يَأْتِيهم من نبيء. وَهَذَا تَرْتِيب بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَقْتَضِي كَلَامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلَا نَعْجِزُ عَن إهلاك هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَهُمْ أَقَلُّ بَطْشًا.
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ
[مُحَمَّد: ١٣].
166
وَالْبَطْشُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ.
وَانْتَصَبَ بَطْشاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْأَشُدِّيَّةِ.
ومَثَلُ الْأَوَّلِينَ حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ. وَمَعْنَى مَضى: انْقَرَضَ، أَيْ ذَهَبُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَمُضِيِّ الْمَثَلِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّ مُضِيَّ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِمُضِيِّ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: ٤٥]. وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: فِي الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ إِظْهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ صَرِيحًا وَجَارِيًا مجْرى الْمثل.
[٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] مُوَجَّهًا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّسْلِيَةِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، عَطَفَ عَلَيْهِ خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الْآيَةَ، لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ عَجَبًا مَعَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُ خَالِقِ الْعَابِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَوْ سَأَلَهُمْ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ خَالِقِ الْخَلْقِ لَمَا اسْتَطَاعُوا غَيْرَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَجُمْلَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] عَطْفَ الْغَرَضِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِإِقْرَارِهِمُ الضِّمْنِيِّ: أَنَّ أَصْنَامَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ صِفَةِ اسْتِحْقَاقِ أَنْ تُعْبَدَ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ وَلَامِ الْجَوَابِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ تَنْزِيلًا لِغَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ، وَهَذَا التَّنْزِيلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَدَارَةِ حَالَتِهِمْ بِالتَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْكَشْفَ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ فِي صُورَةِ سُؤَالِهِمْ عَنْ خَالِقِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي
مَجْرَى أَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ حَتَّى إِذَا سَأَلَهُمُ السَّائِلُ عَنْ خَالِقِهِمْ لَمْ يَتَرَيَّثُوا أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّهُ اللَّهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ.
وَتَاءُ الْخِطَابِ فِي سَأَلْتَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ التَّسْلِيَةِ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ يَتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ.
والْعَزِيزُ الْعَلِيمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ مِنْ مَقُولِ جَوَابِهِمْ وَإِنَّمَا حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِالْمَعْنَى، أَيْ لَيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الَّذِي الصِّفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَقُولُونَ: خَلَقَهُنَّ اللَّهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٢٥] ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. وَذَلِكَ هُوَ المستقرى مِنْ كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَشِعْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِنَّمَا عدل عَن اسْم الْعَلِيِّ إِلَى الصِّفَتَيْنِ زِيَادَةً فِي إِفْحَامِهِمْ بِأَنَّ الَّذِي انْصَرَفُوا عَنْ تَوْحِيدِهِ بِالْعِبَادَةِ عَزِيزٌ عَلِيمٌ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَرْجُوَهُ النَّاسُ لِلشَّدَائِدِ لِعِزَّتِهِ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ بَاطِنَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرُّهُمْ، بِخِلَافِ شُرَكَائِهِمْ فَإِنَّهَا أَذِلَّةٌ لَا تَعْلَمُ، وَإِنَّهُمْ لَا يُنَازَعُونَ وَصْفَهُ بِ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ.
وَتَخْصِيصُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِصِفَاتِ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ عَاجِزَةٌ عَنْ دَفْعِ الْأَيْدِي.
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَإِنْ سَأَلْتَهُمْ: أَهْوَ الْعَزِيز الْعَلِيم.
[١٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
هَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ تَخَلُّصٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِسْدَاءِ النِّعَمِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَوَدِ حَيَاةِ النَّاسِ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ
168
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] الْآيَةَ وَجُمْلَةِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥] الْآيَةَ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْوَارِدِ عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاجْتِلَابُ الْمَوْصُولِ لِلِاشْتِهَارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَسَاوَى الِاسْمَ الْعَلَمَ فِي الدَّلَالَةِ.
وَذُكِرَتْ صِلَتَانِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ لَكُمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِنْشَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ إِعَادَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا شَيْئًا عَجِيبًا.
وَلَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعَانِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ إِذْ كِلْتَاهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَجَعْلُهُمَا كَجَعْلٍ وَاحِدٍ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الْأَحَدَ عَشَرَ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْله مُقْرِنِينَ [الزخرف: ١٠- ١٣] لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَالْمِهَادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ، أَيْ يُوَطَّأُ وَيُسَهَّلُ لِمَا يَحِلُّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤١]. وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ جَعَلَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا وَذَلِكَ الِانْبِسَاطُ لِنَفْعِ الْبَشَرِ السَّاكِنِينَ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ جِسْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُرَوِيَّتَهَا لَيْسَتْ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مَهْداً بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمِهَادُ.
وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَيُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلَى وَسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤٤]. وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُهَا، وَهِيَ السُّهُولُ وَسُفُوحُ الْجِبَالِ وَشِعَابُهَا، أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ كُلَّهَا
169
جِبَالًا فَيَعْسُرَ عَلَى الْمَاشِينَ سُلُوكُهَا، بَلْ جَعَلَ فِيهَا سُبُلًا سَهْلَةً وَجَعَلَ جِبَالًا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَلِأَنَّ الْأَرْضَ صَالِحَةٌ لِاتِّخَاذِ طُرُقٍ مَطْرُوقَةٍ سَابِلَةٍ.
وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهِ تِلْكَ الطُّرُقَ بِهَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاتِّبَاعَ بَعْضِهِمْ آثَارَ بَعْضٍ حَتَّى تَتَعَبَّدَ الطُّرُقُ لَهُمْ وَتَتَسَهَّلَ وَيَعْلَمَ السَّائِرُ، أَيَّ تِلْكَ السُّبُلِ يُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ.
وَفِي تَيْسِيرِ وَسَائِلِ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ بِهِ تَيْسِيرَ التَّجَمُّعِ وَالتَّعَارُفِ وَاجْتِلَابَ الْمَنَافِعِ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَى دَفْعِ الْغَوَائِلِ وَالْأَضْرَارِ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا مِنْ أَكْبَرِ مَظَاهِرِ الْمَدَنِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ النَّاسِ مِنَ النَّبَاتِ وَالثَّمَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَالْكَمْأَةِ وَالْفَقْعِ وَهِيَ وَسَائِلُ الْعَيْشِ فَهِيَ سُبُلٌ مَجَازِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ
هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ طه.
وَالِاهْتِدَاءُ: مُطَاوِعُ هَدَاهُ فَاهْتَدَى. وَالْهِدَايَةُ حَقِيقَتُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الدَّالُّ عَلَى الطَّرَائِقِ هَادِيًا، وَتُطْلَقُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ وَمِنْهُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤]. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ رَجَاءَ حُصُولِ عِلْمِكُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
وَمَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، مَثَّلَ حَالَ مَنْ كَانَتْ وَسَائِلُ الشَّيْءِ حَاضِرَةً لَدَيْهِ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى لِحُصُولِ المتوسل إِلَيْهِ.
[١١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١١]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)
انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْعَيْشِ فِيهَا، وَهُوَ مَاءُ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ تُنْبِتُ الْأَرْضُ مَا يصلح لاقيات النَّاسِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ اهْتِمَامًا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً فَلَا يَخْطُرُ حُضُورُهَا بِالْبَالِ عِنْدَ حُظُورِ الصِّلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا فِي الْجَامِعِ
170
الْخَيَالِيِّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ وَغَيْرِهَا فَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ مِصْدَاقَهُ هُوَ فَاعِلُ جَمِيعِهَا.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْيَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَيْفَ نُنْشِزُها [الْبَقَرَة: ٢٥٩] بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَتَلَا ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢] فَأَصْلُ الْهَمْزَةِ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ نَشَرَ بِمَعْنَى حَيِيَ، يُقَالُ: نَشَرَ الْمَيِّتُ، بِرَفْعِ الْمَيِّتِ قَالَ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَأَصْلُ النَّشْرِ بَسْطُ مَا كَانَ مَطْوِيًّا وَتَفَرَّعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَعَانِي الْإِعَادَةِ وَالِانْتِشَارِ.
وَالنَّشْرُ هُنَا مَجَازٌ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لِلْأَرْضِ مَجَازٌ، وَزَادَهُ حُسْنًا هُنَا أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِ: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ.
وَضَمِيرُ فَأَنْشَرْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَالْمَيِّتُ ضِدُّ الْحَيِّ. وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ مَجَازٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣].
وَإِنَّمَا وُصِفَتِ الْبَلْدَةُ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ بِالْمَيِّتِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِكَوْنِهِ عَلَى زِنَةِ الْوَصْفِ الَّذِي أَصْلُهُ مَصْدَرٌ نَحْوَ: عَدْلٌ وَزُورٌ فَحَسُنَ تَجْرِيدُهُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ وَهُوَ اسْتِطْرَادٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، بِمُنَاسَبَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ فِي بَعْضِهَا دَلَالَةٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ إِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الِانْتِشَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَأَنْشَرْنا، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ تُخْرَجُونَ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ فَنَائِكُمْ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِحْدَاثُ الْحَيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ إِظْهَارُ إِمْكَانِ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
171
فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُخْرَجُونَ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ تُخْرَجُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْمعْنَى وَاحِد.
[١٢- ١٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
هَذَا الِانْتِقَالُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الْحَيَاةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ وَسَائِلِ الِاكْتِسَابِ لِصَلَاحِ الْمَعَاشِ، وَذَكَرَ مِنْهَا وَسَائِلَ الْإِنْتَاجِ وَأَتْبَعَهَا بِوَسَائِلِ الِاكْتِسَابِ بِالْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ. وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاحِدُ ثَانِيًا، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ زَوْجٌ لِلْآخَرِ مِثْلَ الشَّفْعِ. وَغُلِّبَ الزَّوْجُ عَلَى الذَّكَرِ وَأُنْثَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٣]، وَتُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ الزَّوْجُ عَلَى الصِّنْفِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرَّعْد: ٣]. وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا، وَفِي أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ مَنَافِعُ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا وَنِتَاجِهَا.
وَلَمَّا كَانَ الْمُتَبَادَرُ من الْأزْوَاج بادىء النَّظَرِ أَزْوَاجَ الْأَنْعَامِ وَكَانَ مِنْ أَهَمِّهَا عِنْدَهُمُ الرَّوَاحِلُ عَطَفَ عَلَيْهَا مَا هُوَ مِنْهَا وَسَائِلُ لِلتَّنَقُّلِ بَرَّا وَأَدْمَجَ مَعَهَا وَسَائِلَ السَّفَرِ بَحْرًا. فَقَالَ:
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ فَالْمُرَادُ بِ مَا تَرْكَبُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ
هُوَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا وَسِيلَةُ الْأَسْفَارِ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: ٤١، ٤٢] وَقَدْ قَالُوا: الْإِبِلُ سَفَائِنُ الْبَرِّ.
172
وَجِيءَ بِفِعْلِ جَعَلَ مُرَاعَاةً لِأَنَّ الْفُلْكَ مَصْنُوعَةٌ وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً، وَالْأَنْعَامُ قَدْ عُرِفَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِشُمُولِ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَزْواجَ إِيَّاهَا. وَمَعْنَى جَعْلِ اللَّهُ الْفُلْكَ وَالْأَنْعَامَ مَرْكُوبَةً: أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّةَ التَّفْكِيرِ الَّتِي يَنْسَاقُ بِهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَوْجُودَاتِ فِي نَفْعِهِ فَاحْتَالَ كَيْفَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَيَرْكَبُ فِيهَا وَاحْتَالَ كَيْفَ يُرَوِّضُ الْأَنْعَامَ وَيَرْكَبُهَا.
وَقَدَّمَ الْفُلْكَ عَلَى الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظُ الْأَزْوَاجِ فَذِكْرُهَا ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرَى وَلَوْ ذَكَرَ الْأَنْعَامَ لَكَانَ ذِكْرُهُ عَقِبَ الْأَزْوَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَادَةِ. فَلَمَّا ذَكَرَ الْفُلْكَ بِعُنْوَانِ كَوْنِهَا مَرْكُوبًا عَطَفَ عَلَيْهَا الْأَنْعَامَ فَصَارَ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ مُتَرَقَّبًا لِلنَّفْسِ لِمُنَاسَبَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
إِذْ أَعْقَبَ ذِكْرَ رُكُوبِ الْجَوَادِ بِذِكْرِ تَبَطُّنِ الْكَاعِبِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يُعْقِبْهُ بَقَوْلِهِ: وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً، لِاخْتِلَافِ حَالِ الرُّكُوبَيْنِ: رُكُوبِ اللَّذَّةِ وَرُكُوبِ الْحَرْبِ.
وَالرُّكُوبُ حَقِيقَتُهُ: اعْتِلَاءُ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْفُلْكِ لِتَشْبِيهِهِمُ الْفُلْكَ بِالدَّابَّةِ بِجَامِعِ السَّيْرِ فَرُكُوبُ الدَّابَّةِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَرُكُوبُ الْفُلْكِ يَتَعَدَّى بِ (فِي) لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصِيلِ وَاللَّاحِقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها فِي سُورَةِ هُودٍ [٤١].
ومِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ.
وَحَذَفَ عَائِدَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مَفْعُولُ تَرْكَبُونَ هُنَا مُبَيَّنًا بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَانَ حَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى إِلَى أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِ (فِي) فَغَلَبَتِ التَّعْدِيَةُ الْمُبَاشِرَةُ عَلَى التَّعْدِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، وَحَذَفَ الْعَائِدَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ التَّغْلِيبِ. وَاسْتِعْمَالُ فِعْلِ تَرْكَبُونَ هُنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَالِاسْتِوَاءُ الِاعْتِلَاءُ. وَالظُّهُورُ: جَمْعُ ظَهْرٍ، وَالظَّهْرُ مِنْ عَلَائِقِ الْأَنْعَامِ لَا مِنِِْ
173
عَلَائِقِ الْفُلْكِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ التَّغْلِيبِ. وَالْمَعْنَى: عَلَى ظُهُورِهِ وَفِي بُطُونِهِ. فَضَمِيرُ ظُهُورِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ الصَّادِقِ بِالْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْبَيَانِ، عَلَى أَنَّ السَّفَائِنَ
الْعَظِيمَةَ تَكُونُ لَهَا ظُهُورٌ، وَهِيَ أَعَالِيهَا الْمَجْعُولَةُ كَالسُّطُوحِ لِتَقِيَ الرَّاكِبِينَ الْمَطَرَ وَشِدَّةَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ. وَلِذَلِكَ فَجَمْعُ الظُّهُورِ مِنْ جَمْعِ الْمُشْتَرِكِ وَالتَّعْدِيَةُ بِحَرْفِ عَلى بُنِيَتْ عَلَى أَنَّ لِلسَّفِينَةِ ظَهْرًا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٨].
وَقَدْ جُعِلَ قَوْلُهُ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ فِي حَالِ التَّلَبُّسِ بِمَنَافِعِهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِلشُّكْرِ عَلَيْهَا. وَأَجْدَرُ بِعَدَمِ الذُّهُولِ عَنْهَا، أَيْ جَعَلَ لَكُمْ ذَلِكَ نِعْمَةً لِتَشْعُرُوا بِهَا فَتَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، فَالذِّكْرُ هُنَا هُوَ التَّذَكُّرُ بِالْفِكْرِ لَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ.
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ تَقَلَّبُوا فِي نَعَمِ اللَّهِ وَشَكَرُوا غَيْرَهُ إِذِ اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يُشَارِكُوهُ فِي الْأَنْعَامِ. وَذِكْرُ النِّعْمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ شُكْرِهَا لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَازِمٌ لِلْإِنْعَامِ عُرْفًا فَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ إِلَّا نِسْيَانُهُ فَإِذَا ذَكَرَهُ شَكَرَ النِّعْمَةَ.
وَعَطَفَ عَلَى تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ قَوْلَهُ: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا، أَيْ لِتَشْكُرُوا اللَّهَ فِي نُفُوسِكُمْ وَتُعْلِنُوا بِالشُّكْرِ بِأَلْسِنَتِكُمْ، فَلَقَّنَهُمْ صِيغَةَ شُكْرٍ عِنَايَةً بِهِ كَمَا لَقَّنَهُمْ صِيغَةَ الْحَمْدِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَصِيغَةَ الدُّعَاءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَافْتَتَحَ هَذَا الشُّكْرَ اللِّسَانِيَّ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلثَّنَاءِ إِذِ التَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ بِالصَّرِيحِ وَيَدُلُّ ضِمْنًا عَلَى إِثْبَاتِ الْكِمَالَاتِ لِلَّهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ. وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ التَّسْبِيحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَمْدُ الَّذِي أَفَادَهُ التَّسْبِيحُ شُكْرًا لِتَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ التَّسْخِيرِ لَنَا.
174
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَرْكُوبِ حِينَمَا يَقُولُ الرَّاكِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سفينة.
والتسخير: التذييل وَالتَّطْوِيعُ. وَتَسْخِيرُ اللَّهِ الدَّوَابَّ هُوَ خَلْقُهُ إِيَّاهَا قَابِلَةً لِلتَّرْوِيضِ فَاهِمَةً لِمُرَادِ الرَّاكِبِ، وَتَسْخِيرُ الْفُلْكِ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ الْبَحْرِ صَالِحًا لَسَبْحِ السُّفُنِ عَلَى مَائِهِ، وَخَلْقِ الرِّيَاحَ تَهُبُّ فَتَدْفَعُ السُّفُنَ عَلَى الْمَاءِ، وَخَلْقِ حِيلَةِ الْإِنْسَانِ لِصُنْعِ الْفُلْكِ، وَرَصْدِ مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَوَضْعِ الْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ دُونَ أَنْ تَبْلُغَ اسْتِخْدَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ. وَلِهَذَا عَقَّبَ بَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ، أَيْ بِمُجَرَّدِ الْقُوَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، أَيْ لَوْلَا التَّسْخِيرُ الْمَذْكُورُ، فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَنا أَيْ سَخَّرَهَا لَنَا فِي حَالِ ضَعْفِنَا بِأَنْ كَانَ تَسْخِيرُهُ قَائِمًا مَقَامَ الْقُوَّةِ.
وَالْمُقْرِنُ: الْمُطِيقُ، يُقَالُ: أَقْرَنَ، إِذَا أَطَاقَ، قَالَ عَمْرو بن معديكرب:
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا
وَخُتِمَ هَذَا الشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَى اللَّهِ، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْبَعْثِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِتَلْقِينِهِمُ الْإِقْرَارَ بِالْبَعْثِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِسُؤَالِ إِرْجَاعِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِرْجَاعِ الْأَمْوَاتِ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرْجَى لِإِرْجَاعِ الْمُسَافِرِ سَالِمًا إِلَى أَهْلِهِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُفَارِقُهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْزِيهِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ وَبِنِسْبَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَشْكُرُوا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَمْ تَفْعَلُوا، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَكَّدَ الْخَبَرَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا شَكَرُوا لِلَّهِ مَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ.
175
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا مُلَاحِظًا لِلْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ نَاظِرًا لِتَقَلُّبَاتِ الْحَيَاةِ نَظَرَ الْحُكَمَاءِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِبَسَائِطِ الْأُمُورِ على عظيمها.
[١٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)
هَذَا مُتَّصِلٌ بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَنْ خَالِقِ الْأَشْيَاءِ لَيَعْتَرِفُنَّ بِهِ وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ جُزْءًا.
فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى: وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَمَعْنَى الْحَالِ تُفِيدُ تَعْجِيبًا مِنْهُمْ فِي تَنَاقُضِ آرَائِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَقَلْبِهِمُ الْحَقَائِقَ، وَهِيَ غَبَارَةٌ فِي الرَّأْيِ تَعْرِضُ لِلْمُقَلِّدِينَ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ لِأَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ عَقَائِدَهُمْ مِنْ مُخْتَلِفِ آرَاءِ الدُّعَاةِ فَيَجْتَمِعُ لِلْمُقَلِّدِ مِنْ آرَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي النَّظَرِ مَا لَوِ اطَّلَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَأَبْطَلَهُ أَوْ رَجَعَ عَنِ الرَّأْيِ الْمُضَادِّ لَهُ.
فَالْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ إِلَهًا، وَجَعَلُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ، وَالْبُنُوَّةُ تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لِخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَنَاتٌ فَهُنَّ لَا مَحَالَةَ مَخْلُوقَاتٌ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنَّ مَخْلُوقَاتٍ لَزِمَ أَنْ يَكُنَّ مَوْجُودَاتٍ بِوُجُودِهِ فَكَيْفَ تَكُنَّ بَنَاتِهِ. وَإِلَى هَذَا التَّنَاقُضِ
الْإِشَارَةُ بَقَوْلِهِ: مِنْ عِبادِهِ أَيْ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ لَيْسَتِ الْعُبُودِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا عُبُودِيَّةَ الْمَخْلُوقِ جُزْءًا، أَيْ قِطْعَةً.
وَالْجُزْءُ: بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ. وَالْوَلَدُ كَجُزْءٍ مِنَ الْوَالِدِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْوَلَدِ: بَضْعَةٌ. فَهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ اعْتِقَادِ حُدُوثِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا عِبَادُ اللَّهِ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَاهِيَّةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ عَقِيدَةُ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفَةً لَهُمْ وَمَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجُزْءِ:
الْبَنَاتِ، لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ أُمَّهَاتُهُمْ سَرَوَاتُ الْجِنِّ، أَيْ شَرِيفَاتُ الْجِنِّ فَسَرَوَاتُ جَمْعُ سُرِّيَّةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُبَرِّدَ قَالَ: الْجُزْءُ هَاهُنَا الْبَنَاتُ، يُقَالُ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى. وَفِي «اللِّسَانِ» عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ:
أَنْشَدْتُ بَيْتًا فِي أَنَّ مَعْنَى جُزْءِ مَعْنَى الْإِنَاثِ وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ أَقَدِيمٌ أَمْ مَصْنُوعٌ، وَهُوَ:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبٌ قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارُ أَحْيَانًا
وَفِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» : أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ، وَفِي «اللِّسَانِ» أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ:
زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً لِلْعَوْسَجِ الرَّطْبِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ
وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ. وَجَزَمَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ وَأَنَّ الْبَيْتَيْنِ مَصْنُوعَانِ.
وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ على الشَّيْء بوصفه حُكْمًا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فَكَأَنَّهُ صُنْعٌ بِالْيَدِ وَالصُّنْعُ بِالْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجَعْلُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تَذْيِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اسْتِنْكَارِ مَا زَعَمُوهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ شَدِيدٌ. وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ خَاصَّةً.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ كُفْرَهُ فِي أَقْوَالِهِ الصَّرِيحَةِ فِي كُفْرِ نعْمَة الله.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَمِ لِلْإِضْرَابِ وَهُوَ هُنَا انْتِقَالِيٌّ لِانْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا لَزِمَهُ من انتقاص حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنِِِ
177
انْتِقَاصٍ يُنَافِي الْكَمَالَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ:
وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَبْنَاءً إِنَاثًا وَهَلَّا جَعَلُوهَا ذُكُورًا. وَلَيْسَتْ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ عَنِ الْفَسَادِ الْمُنْجَرِّ إِلَى معتقدهم بالطريقين لِأَنَّ الْإِبْطَالَ الْأَوَّلَ نَظَرِيٌّ يَقِينِيٌّ وَالْإِبْطَالُ الثَّانِي جَدَلِيٌّ بَدِيهِيٌّ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْم: ٢١، ٢٢]. فَهَذِهِ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ عَلَيْهِمْ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا ادَّعَتْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ النُّبُوءَةَ فِي بَنِي تَمِيمٍ أَيَّامَ الرِّدَّةِ وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَطَلِيحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ التَّمِيمِيُّ:
أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا
وَأُوثِرَ فِعْلُ اتَّخَذَ هُنَا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِاتِّخَاذَ بِالْوِلَادَةِ، أَيْ بِتَكْوِينِ الِانْفِصَالِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُزَاوَجَةِ مَعَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَيَشْمَلُ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّبَنِّي فَعَلَى كِلَا الْفَرْضَيْنِ يَتَوَجَّهُ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ لِلَّهِ أَدْوَنَ مِمَّا هُوَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْل: ٦٢]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بِإِبْطَالِ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَنَّى الْمَلَائِكَةَ، سَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَابَ التَّأَوُّلِ وَالتَّنَصُّلِ مِنْ فَسَادِ نِسْبَتِهِمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا التَّبَنِّيَ، كَمَا تَنَصَّلُوا حِينَ دَمَغَتَهُمْ بَرَاهِينُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ فَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]، وَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨].
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا هُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَتَسَلُّطُ الْإِنْكَارِ عَلَى اتِّخَاذِ الْبَنَاتِ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْبَنَاتِ لِكَوْنِ الْمَعْلُومِ مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ جُزْءًا أَنَّ الْمَجْعُولَ جُزْءًا لَهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالنَّفْيُ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ مُنْصَبٌّ إِلَى قَيْدِ الْحَالِ، فَحَصَلَ
178
إِبْطَالُ اتِّخَاذِ اللَّهِ الْبَنَاتِ بِدَلِيلَيْنِ، لِأَنَّ إِعْطَاءَهُمُ الْبَنِينَ وَاقِعٌ فَنَفْيُ اقْتِرَانِهِ بِاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ اتِّخَاذِهِ الْبَنَاتِ فَالْمَقْصُودُ اقْتِرَانُ الْإِنْكَارِ بِهَذَا الْقَيْدِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الْوَاوَ فِي جُمْلَةِ وَأَصْفاكُمْ لَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ أَصْفَاهُمْ بِالْبَنِينِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخِطَابُ فِي وَأَصْفاكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ لِمُوَاجَهَتِهِمْ بِهِ.
وَتَنْكِيرُ بَناتٍ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَأما تَعْرِيف بِالْبَنِينَ بِاللَّامِ فَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمُ الْمُتَنَافَسِ فِي وُجُودِهِ لَدَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٩].
وَتَقْدِيمُ الْبَنَاتِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْبَنِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُنَّ أَهَمُّ هُنَا إِذْ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ لَهُ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٠]. وَلِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَحْقِيرِهِمُ الْبَنَاتِ وَتَطَيُّرِهِمْ مِنْهُنَّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّورَى.
وَالْإِصْفَاءُ: إِعْطَاءُ الصَّفْوَةِ، وَهِيَ الْخِيَارُ مِنْ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي وأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: أَحَدُهُمْ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِيَكُونُوا مَحْكِيًّا حَالَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ فَسَادِ مَقَالَتِهِمْ وَتَشْنِيعًا بِهَا إِذْ نَسَبُوا لِلَّهِ بَنَاتٍ دُونَ الذُّكُورِ وَهُوَ نَقْصٌ، وَكَانُوا مِمَّنْ يَكْرَهُ الْبَنَاتِ وَيُحَقِّرُهُنَّ فَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الِاسْتِخْفَافِ بِجَانِبِ الإلهية.
وَالْمعْنَى: أأتّخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ اللَّهُ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي حَالِ أَنَّكُمْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُكُمْ بِمَا ضربه للرحمان مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا.
179
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَجُمْلَة أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: ١٨].
وَاسْتِعْمَالُ الْبِشَارَةِ هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: ٢] لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إِعْلَامٌ بِحُصُولِ أَمْرٍ مُسَرٍّ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا مَوْصُولَةٌ، أَيْ بُشِّرَ بِالْجِنْسِ الَّذِي ضَرَبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مَثَلًا وَشَبَهًا لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ جَعَلُوا جِنْسَ الْأُنْثَى جُزْءًا لِلَّهِ، أَيْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ فَالْمُبَشَّرُ بِهِ جِنْسُ الْأُنْثَى، وَالْجِنْسُ لَا يَتَعَيَّنُ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ بُشِّرَ بِمِثْلِ مَا ضربه للرحمان مَثَلًا.
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ.
وَالضَّرْبُ: الْجَعْلُ وَالصُّنْعُ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّينَارِ، وَقَوْلُهُمْ: ضَرْبَة لازب، فَمَا صدق
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا هُوَ الْإِنَاثُ.
وَمَعْنَى ظَلَّ هُنَا: صَارَ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ النَّاقِصَةَ الْخَمْسَةَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا بَابُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْغَيْظِ إِذْ يَصْعَدُ الدَّمُ إِلَى الْوَجْهِ فَتَصِيرُ حُمْرَتُهُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمَعْنَى: تَغَيَّظَ.
وَالْكَظِيمُ: الْمُمْسِكُ، أَيْ عَنِ الْكَلَامِ كربا وحزنا.
[١٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٨]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
عَطْفُ إِنْكَارٍ عَلَى إِنْكَارٍ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ وَأَصْلُ التَّرْتِيبِ: وَأَمَنْ يُنَشَّأُ. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْإِنْكَارِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ أَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَلِذَلِكَ يكون مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ اتَّخَذَ
180
فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَالتَّقْدِيرُ: أَاتَّخَذَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ إِلَخْ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بَناتٍ بَدَلًا مُطَابِقًا وَأُبْرِزَ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ حُذِفَ مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَإِذْ كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى حُكْمِ الْخَبَرِ كَانَ مُوجِبُ الْإِنْكَارِ الثَّانِي مُغَايِرًا لِمُوجِبِ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوف بِمَا لوصفين اللَّذَيْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْإِنْكَارُ مَوْصُوفًا وَاحِدًا وَهُوَ الْأُنْثَى.
وَنَشْءُ الشَّيْءِ فِي حَالَةٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مُقَارِنًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فَتَكُونَ لِلشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ. وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ حَرْفُ فِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ فَمَعْنَى مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ تُجْعَلُ لَهُ الْحِلْيَةُ مَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ كَوْنِهِ وَلَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّ الْبِنْتَ تُتَّخَذُ لَهَا الْحِلْيَةُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهَا وَتُسْتَصْحَبُ فِي سَائِرِ أَطْوَارِهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا شُقَّتْ طَرَفَا أُذُنَيْهَا لِتُجْعَلَ لَهَا فِيهِمَا الْأَقْرَاطُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَلَا يُحَلَّى بِمِثْلِ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَدَامُ لَهُ. وَالنَّشْءُ فِي الْحِلْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّعْفِ عَنْ مُزَاوَلَةِ الصِّعَابِ بِحَسَبِ الْمُلَازَمَةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي اتِّخَاذِ اللَّهِ بَنَاتٍ لَا غَنَاءَ لَهُنَّ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِاتِّخَاذِهَا زِيَادَةُ عِزَّةٍ، بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِهِمْ، فَهَذَا احْتِجَاجٌ إِقْنَاعِيٌّ خِطَابِيٌّ.
والْخِصامِ ظَاهِرُهُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَازَعَةُ بِالْكَلَامِ وَالْمُحَاجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى إِبَانَةِ حُجَّتِهَا. وَعَنْ قَتَادَةَ: مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا حُجَّةٌ إِلَّا
جَعَلَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَعنهُ: مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ هُنَّ الْجَوَارِي يُسَفِّهُهُنَّ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّهُنَّ غَيْرُ قَوَادِرَ عَلَى الِانْتِصَار بالْقَوْل فبلأولى لَا يَقْدِرْنَ عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، أَيْ فَلَا جَدْوَى لِاتِّخَاذِهِنَّ أَوْلَادًا.
وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يُحْمَلَ الْخِصَامُ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالدِّفَاعِ بِالْيَدِ فَإِنَّ الْخَصْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَارِبِ، قَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: ١٩] فُسِّرَ بِأَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
181
فَمَعْنَى غَيْرُ مُبِينٍ غَيْرُ مُحَقِّقِ النَّصْرِ. قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ:
«وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدِ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ».
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا فَضْحُ مُعْتَقَدِهِمُ الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَإِلَّا لَكَانُوا حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بُنُوَّةً أَنْ لَا يَجْعَلُوا لَهُ بُنُوَّةَ الْإِنَاثِ وَهُمْ يَعُدُّونَ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَاتٍ مُسْتَضْعَفَاتٍ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ.
والْحِلْيَةِ: اسْمٌ لِمَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُون مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [النَّحْل: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْشَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ يُنَشَّؤُا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ: يُعَوِّدُهُ عَلَى النَّشْأَةِ فِي الْحِلْية ويربّى.
[١٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٩]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥]، أُعِيدَ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦] لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بَقَوْلِهِ:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ اسْتِقْرَاءً لِإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ إِذْ أُبْطِلَ ابْتِدَاءً بِمُخَالَفَتِهِ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِمُخَالَفَتِهِ لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالِ، فَكَمُلَ هُنَا إِبْطَالُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ لِدَلِيلِ الْحِسِّ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ عِنْدَ بِعَيْنٍ فَنُونٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ، أَيِ الَّذِينَ هُمْ مَعْدُودُونَ فِي حَضْرَةِ الْقُدْسِ الْمُقَدَّسَةِ بِتَقْدِيسِ اللَّهِ فَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ بِدُونِ وَسَاطَةٍ
وَهُمْ دَائِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩]
182
وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَاف: ٢٠٦] وَمِنْهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
الْحَدِيثَ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ وَالْقَرِينَةُ هِيَ شَأْن من أضيف إِلَيْهِ عِنْدَ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عِبادُ الرَّحْمنِ بِعَيْنٍ وَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ دَالٌ مَضْمُومَةٌ عَلَى مَعْنَى:
الَّذِينَ هُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى اسْم الرحمان تُفِيدُ تَشْرِيفَهُمْ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ عُبُودِيَّةُ الْقُرْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩].
وَجُمْلَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ وَجُمْلَةِ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مَضْمُومَةٌ وَسُكُونِ شِينِ أَشَهِدُوا مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ وَكَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الْهَمْزَتَيْنِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ دُونَ صِيغَةِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَلْقُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْضُرُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِحُضُورِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ لِجِبْرِيلَ حِينَ يَسْتَفْتِحُ» مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ، قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ وَفَتَحَ لَهُ»
. وَالْمَعْنَى: أَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْف: ٥١].
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَشِينٍ مَفْتُوحَةٍ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، فَالْهَمْزَةُ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ شَهِدَ، أَيْ مَا حَضَرُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: ١٥٠].
وَجُمْلَةُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ لِأَنَّ
183
ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَعِيدِ. وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوَعُّدِ. وَكِتَابَةُ الشَّهَادَةِ كِنَايَةٌ عَن تحقق الْعقَاب عَلَى كَذِبِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
[الزخرف: ٤] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قالُوا [آل عمرَان: ١٨١]. والسّين فِي سَتُكْتَبُ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَتِهِمْ: ادِّعَاؤُهُمْ أَن الْمَلَائِكَة إِنَاثًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا شَهَادَةً تَهَكُّمًا بِهِمْ.
وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَهْدِيدٍ وَإِنْذَارٍ بِالْعِقَابِ وَلَيْسَ مِمَّا يُتَطَلَّبُ عَنْهُ جَوَابٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: ٨]، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
لَذَاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَقِيلَ إنّك مَنْسُوب ومسؤول
أَي مسؤول عَمَّا سَبَقَ مِنْكَ مِنَ التَّكْذِيبِ الَّذِي هُوَ مَعْلُوم للسَّائِل.
[٢٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩]، فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِأَنْ تُعْبَدَ. فَحُكِيَ هُنَا مَا اسْتَظْهَرُوهُ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ عِنْدَ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ يَرُومُونَ بِهَا إفحام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، أَيْ لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ نَعْبُدَهَا لَكَانَ اللَّهُ صَرَفَنَا عَنْ أَنْ نَعْبُدَهَا، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ هَذَا قَاطِعٌ لجدال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ دِينِهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْحَوَادِثِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي مَا عَبَدْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُمُ الْغَالِبُ، وَأَقْوَامٌ مِنْهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَأَقْوَامٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ مِثْلَ بَنِي مُلَيْحٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ. فَضَمِيرُ جَمْعِ
184
الْمُذَكِّرِ تَغْلِيبٌ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا فَلَوْ أَرَادُوا الْمَلَائِكَةَ لَقَالُوا مَا عَبَدْنَاهَا أَو مَا عَبدنَا هنّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطَبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مُعَادَ الضَّمِير الْمَلائِكَةَ [الزخرف: ١٩] وَلَعَلَّهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ: إِنَّهُمْ إِنَاثٌ وَلَيْسَ اقْتِرَانُ كَلَامٍ بِكَلَامٍ بِمُوجِبٍ اتِّحَادَ مَحْمَلَيْهِمَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ بعيد من اللَّفْظِ لِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِنَ
الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا طَوَائِفُ قَلِيلَةٌ عَبَدُوا الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ مَعَ الْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ الدِّيَانَةَ الْعَامَّةَ لِلْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مَثَارُهَا تَخْلِيطُ الْعَامَّةِ وَالدَّهْمَاءِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ والإرادة، وَبَين الرضى وَالْمَحَبَّةِ، فَالْعَرَبُ كَانُوا يَقُولُونَ: شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ
فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ تَخْلِيطًا بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِوُقُوعِ شَيْءٍ، وَبَيْنَ مَشِيئَتِهِ الَّتِي قَدَّرَهَا فِي نِظَامِ الْعَالَمِ مِنْ إِنَاطَةِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَاتِّصَالِ الْآثَارِ بِمُؤَثِّرَاتِهَا الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ بِقَدَرٍ حِينَ كَوَّنَ الْعَالَمَ وَنَظَّمَهُ وَأَقَامَ لَهُ سُنَنًا وَنَوَامِيسَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَدَارِهَا إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَلْبَ نُظُمِهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى. فَمَشِيئَةُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا أَقَامَهُ مِنْ نِظَامِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَأَهْلِهِ. وَمَشِيئَتُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي تَدُلُّ عَلَيْهَا شرائعه الْمَبْعُوث بِهَا رُسُلُهُ.
وَهَذَا التَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ هُوَ مَثَارُ خَبْطِ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَثَارُ حَيْرَةِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْقُصُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَالْخِطَابِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٨].
وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّادِر مِنْهُم يَنْتَظِم مِنْهُ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
185
عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرف فِي شؤوننا وشؤون الْخَلَائِقِ لَكِنَّا عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ.
وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ بَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ وَلَا حُجَّةٌ عَلَى قِيَاسِهِمْ لِأَنَّ مُقَدَّمَ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ وَهُوَ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِبَاسِ الْمَشِيئَةِ التَّكْوِينِيَّةِ بِالْمَشِيئَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَكَانَ قِيَاسُهُمْ خَلِيًّا عَنِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْيَقِينُ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: مَا لَهُمْ بِذلِكَ أَيْ بَقَوْلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ بَلْ هُوَ مِنْ جَهَالَةِ السَّفْسَطَةِ وَاللَّبْسِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْخَرْصُ: التَّوَهُّمُ وَالظَّنُّ الَّذِي لَا حُجَّةَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: ١٠].
[٢١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢١]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: ٢٠] فَبَعْدَ أَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠] مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ الْعَقْلِ، انْتَقَلَ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى حُجَّةِ النَّقْلِ عَنْ إِخْبَارِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ من شؤونه.
وَاجْتَلَبَ لِلْإِضْرَابِ حَرْفَ أَمْ دُونَ (بَلْ) لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمْ مِنِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ. وَالْمَعْنَى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ. وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: ٤].
وَفِي هَذَا ثَنَاءٌ ثَالِثٌ عَلَى الْقُرْآنِ ضِمْنِيٌّ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُسْتَمْسَكُ بِهِ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف:
٢٢].
ومِنْ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى (قَبْلَ). وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلَ) ضَمِيرُ
الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ: كِتاباً.
ومُسْتَمْسِكُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (مُمْسِكُونَ) يُقَالُ: أَمْسَكَ بِالشَّيْءِ، إِذَا شَدَّ عَلَيْهِ يَدَهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَى الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: ٤٣].
[٢٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٢]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
هَذَا إِضْرَابُ إِبْطَالٍ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: ٢١] فَهُوَ إِبْطَالٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ فِيمَا قَالُوهُ وَلَا نَقْلٌ. فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ إِذْ لَمْ يُقَارِنُوا بَيْنَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ آبَائِهِمْ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُمَيِّزَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَيَعْرِضَهُ عَلَى مِعْيَارِ الْحَقِّ.
وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٢] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ أَيْ ذُو دِينٍ.
وعَلى اسْتِعَارَةُ تَبَعِيَّةٌ لِلْمُلَابَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ.
وَقَوْلُهُ: عَلى آثارِهِمْ خَبَرُ (إِنَّ). ومُهْتَدُونَ خَبَرٌ ثَانٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى آثارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِ مُهْتَدُونَ بِتَضْمِينِ مُهْتَدُونَ مَعْنَى سَائِرُونَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ إِلَّا تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ، وَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا اتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُمُ اهْتِدَاءً لِشِدَّةِ غُرُورِهِمْ بِأَحْوَالِ آبَائِهِمْ بِحَيْثُ لَا يتأملون فِي مصادفة أَحْوَالهم للحق.

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٣]

وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَمَسُّكِ الْمُشْرِكِينَ بِدِينِ آبَائِهِمْ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢]، أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُتْرَفُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ.
وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوْ لِلِاعْتِرَاضِ وَمَا الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا تَعْطِفُ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفًا لَفْظِيًّا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، قَدِ اسْتَوَوْا فِيهِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي مُثَارِهِ وَهُوَ النَّظَرُ الْقَاصِرُ الْمُخْطِئُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٣]، أَيْ بَلْ هُمُ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِهِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ وَهُوَ الطُّغْيَانُ. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا تَسْلِيَة للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ، بِأَنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ لَقُوا مِثْلَ مَا لَقِيَ.
وَكَافُ التَّشْبِيهِ مُتَعَلِّقٌ بَقَوْلِهِ: قالَ مُتْرَفُوها. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ وَالتَّشْوِيقِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مِنْ أَحْوَالٍ مُقَدَّرَةٍ أَيْ مَا أَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ قَوْلٍ قَالَهُ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا إِلَخْ.
وَالْمُتْرَفُونَ: جَمْعُ الْمُتْرَفِ وَهُوَ الَّذِي أُعْطِيَ التَّرَفَ، أَيِ النِّعْمَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٣].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِثْلُ قُرَيْشٍ فِي الِازْدِهَاءِ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، أَيْ فِي بَطَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. فَالتَّشْبِيهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مِثْلُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي سَبَبِ الِازْدِهَاءِ وَهُوَ مَا هُمْ
فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ حَتَّى نَسُوا احْتِيَاجَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١].
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْحَاضِرِينَ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِآثَارِ آبَائِهِمْ، وَجَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ السَّابِقَيْنِ وَصْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ بِآبَائِهِمْ مُقْتَدُونَ، لِأَنَّ أَقْوَالَ السَّابِقَيْنِ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُ مُخْتَلِفَهَا أَنَّهَا اقْتِدَاءٌ بِآبَائِهِمْ، فَحِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى، وَحِكَايَةُ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى طَرِيقَةٌ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ كَثُرَ وُرُودُهَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَام الْعَرَب.
[٢٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٤]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ لِمُفْرَدٍ فَيَكُونُ أمرا للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢].
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ قالَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نَذِيرِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣]. فَحَصَلَ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَجَابُوا أَقْوَامَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ فِعْلُ قُلْ أَوْ قالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي مَجَالِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جِئْتُكُمْ بِضَمِيرِ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ جِئْنَاكُمْ بِنُونِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الَّذِينَ قَرَأُوا قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ جِئْنَاكُمْ عَائِدًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَاطَبِ بِفِعْلِ قل لتعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِ تَعَالَى الَّذِي خَاطَبَهُ بَقَوْلِهِ: قُلْ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ عَاطِفَةٌ الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَهَذَا الْعَطْفُ مِمَّا
يُسَمَّى عَطْفَ التَّلْقِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤].
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمَشُوبِ بِالْإِنْكَارِ. وَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَاوِ لِأَجْلِ التَّصْدِيرِ.
ولَوْ وَصْلِيَّةٌ، ولَوْ الْوَصْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ بِنِهَايَةِ مَدْلُولِ شَرْطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١]، أَيْ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ تَبْقَوْنَ عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ وَتَتْرُكُونَ مَا هُوَ أَهْدَى.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ لَعَلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ أَهْدَى مِنْهُمْ. وَصَوْغُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنَ الْهَدْيِ إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ لَهُمْ لِيَتَدَبَّرُوا، نَزَّلَ مَا كَانَ عَلَيْهِم آبَاؤُهُمْ مَنْزِلَةَ مَا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهُدَى اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَتَصَدَّوْا لِلنَّظَرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:
٢٤].
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:
٢٣]، لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى: لَا نَتَّبِعُكُمْ وَنَتْرُكُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَضَمِيرُ قالُوا رَاجِعٌ إِلَى مُتْرَفُوها [الزخرف: ٢٣] لِأَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف:
٢٥] يُعَيِّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ وَقَعَ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَقَعَ تَهْدِيدُهُمْ بِأُولَئِكَ.
وَقَوْلُهُمْ: (مَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، فَإِطْلَاقُهُمُ اسْمَ الْإِرْسَالِ عَلَى دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ تَهَكُّمٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً بِالْمَعْنَى وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ مُرْسَلُونَ بِهِ، وَمَا أُرْسِلُوا بِهِ تَوْحِيد الْإِلَه.
[٢٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٥]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٤]، أَيِ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عَقِبَ
تَصْرِيحِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي مَقَالِهِمْ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَالِانْتِقَامُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ بِالسُّوءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: نَقِمَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، إِذَا كَافَأَ عَلَى السُّوءِ بِسوء، وَفِي الْمثل: هُوَ كَالْأَرْقَمِ إِنْ يُتْرَكْ
يَلْقَمْ وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ. الْأَرْقَمُ: ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يَعْتَقِدُ الْعَرَبُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَإِنْ تَرَكَهُ الْمَرْءُ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهِ فَيَلْسَعُهُ وَيَقْتُلُهُ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمَرْءُ انْتَقَمَ بِتَأْثِيرِهِ فَأَمَاتَ قَاتِلَهُ وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالِانْتِقَامِ اسْتِئْصَالُهُمْ وَانْقِرَاضُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦]. وَلِذَلِكَ فَالنَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ نَظَرُ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَخْبَارِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٧]، وَلَيْسَ نَظَرَ الْبَصَرِ إِذْ لَمْ يَرَ النَّبِيءُ حَالَةَ الِانْتِقَامِ فِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّأَمُّلُ.
وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحَالَةِ وَهُوَ قَدْ عَلَّقَ فِعْلَ النَّظَرِ عَن مَفْعُوله.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
لَمَّا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَشَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِهِمْ سَاقَ لَهُمْ أَمْثَالًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ مِنْهَا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ. وَابْتَدَأَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]، بِأَنَّ أَوْلَى آبَائِهِمْ بِأَنْ يَقْتَدُوا بِهِ هُوَ أَبُوهُمُ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِنِسْبَتِهِ إِبْرَاهِيمُ.
191
وَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ عَطْفٌ عَلَى عُمُومِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [الزخرف: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ، وَهُوَ عَطْفُ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ.
وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ زَمَانَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ قَوْلًا صَرِيحًا فِي التبرّؤ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَخُصَّ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ قَوْمِهِ وَمَا هُوَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمُ اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَعْبُدُ أَبُوهُ أَدَلُّ عَلَى تَجَنُّبِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِحَيْثُ لَا يُتَسَامَحُ فِيهَا وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَعْبُدُهَا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مُوَحِّدِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ مِثْلَ الْأَبِ، وَلِتَكُونَ حِكَايَةُ كَلَامِ
إِبْرَاهِيمَ قُدْوَةً لِإِبْطَالِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢] قَالَ تَعَالَى:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: ٤] أَيْ فَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَقْتَدُوا بِآبَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ وَهَلَّا اقْتَدَيْتُمْ بِأَفْضَلِ آبَائِكُمْ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ.
وَالْبَرَاءُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْفَعَالِ مِثْلُ الظَّمَاءِ وَالسَّمَاعِ يُخْبَرُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ- وَهِيَ مَا فَوْقَ نَجْدٍ إِلَى أَرْضِ تِهَامَةَ مِمَّا وَرَاءَ مَكَّةَ- وَأَمَّا أَهْلُ نَجْدٍ فَيَقُولُونَ بَرِيءٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ (مَا تَعْبُدُونَ)، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَيْ مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤].
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى: إِنَّنِي اهْتَدَيْتُ إِلَى بُطْلَانِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ بِهَدْيٍ مِنَ اللَّهِ.
192
وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ هِدَايَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَسْتَمِرُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُفْهَمُ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ الْآنَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ الْآنَ عَلَى هُدًى فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى هُدًى فِي الْمُسْتَقْبل.
[٢٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٨]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
عَطَفَ عَلَى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ [الزخرف: ٢٦] أَيْ أَعْلَنَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِي قَوْمِهِ مُعَاصِرِيهِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَنْقُلُونَهَا إِلَى مُعَاصِرِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. إِذْ أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ وَأَنْ يُوصُوا بَنِيهِمْ بِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١- ١٣٢] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَبِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ أَبْقَى إِبْرَاهِيمُ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي عَقِبِهِ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ. وَلِذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ لِصَاحِبَيْهِ فِي السَّجْنِ يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] وَقَالَ لَهُمَا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يُوسُف: ٣٧- ٤٠].
فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي جَعَلَها عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمُ الْجَلَالَةِ لِيَعُودَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَها. وَحَكَى فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ لِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ بِالْكَلِمَةِ نَظَرًا لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي لَفْظَ كَلِمَةً لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١٠٠] إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، أَيْ
193
قَوْلُ الْكَافِرِ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠]. وَقَالَ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: ٥] وَهِيَ قَوْلُهُمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْبَقَرَة: ١١٦] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [الْبَقَرَة: ١٣٢]، أَيْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَة: ١٣١] فَأَعَادَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ التَّأْنِيثِ عَلَى تَأْوِيلِ (الْكَلِمَةِ).
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ كَلِمَةٌ إِذَا كَانَ كَلَامًا سَائِرًا عَلَى الْأَلْسِنَةِ مُتَمَثَّلًا بِهِ، كَمَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»
، أَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَجْعُولًا شِعَارًا كَقَوْلِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ٧٤] ».
فَالْمَعْنَى: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْلَهُ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: ٢٦، ٢٧] شِعَارًا لِعَقِبِهِ، أَيْ جَعَلَهَا هِيَ وَمَا يُرَادِفُهَا قَوْلًا بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ فَلَا يَخْلُو عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ نَابِذِينَ لِلْأَصْنَامِ. وَأَشْعَرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ بِأَنَّ هَاتِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ دُونَ أَنْ تَعُمَّ الْعَقِبَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَقِبِ مَجْمُوعُ أَعْقَابِهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَمْ تَنْقَطِعْ مِنَ الْيَهُودِ وَانْقَطَعَتْ مِنَ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ تَقَلَّدُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ إِلَّا مَنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ أَوْ تَنَصَّرَ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ كُلِّ عَقِبٍ فَإِنَّ الْعَرَب لم يَخْلُو مِنْ قَائِمٍ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِثْلَ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ كَالْقَبَائِلِ الْمُتَنَصِّرَةِ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَمِثْلَ الْمُتَحَنِّفِينَ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
وَذَلِكَ أَنَّ فِي تَرِدُ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥]. وَقَالَ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيُّ مِنَ الْحَمَاسَةِ:
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ وَالْعَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ الَّذِينَ لَا يَنْفَصِلُونَ مِنْ أَصْلِهِمْ بِأُنْثَى، أَيْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ بِالْوِصَايَةِ عَلَيْهَا رَاجِيًا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا التَّوْحِيدَ إِذَا رَانَ رَيْنٌ
عَلَى قُلُوبِهِمْ، أَوِ اسْتَحْسَنُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَاف: ١٣٨] فَيَهْتَدُونَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ حِين يضيق الزّمن عَنْ بَسْطِ الْحُجَّةِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَلَامِ الَّذِي يُجْعَلُ شِعَارًا لِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَصْلًا مَوْضُوعًا قَدْ تَبَيَّنَ
194
صِدْقُهُ وَإِصَابَتُهُ، فَاسْتِحْضَارُهُ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ بَسْطِ الْحُجَّةِ لَهُ.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لِأَنَّ جَعْلَهُ كَلِمَةَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف: ٢٦] بَاقِيَةً فِي عقبه، أَرَادَ مِنْهُ مَصَالِحَ لِعَقِبِهِ مِنْهَا أَنَّهُ رَجَا بِذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ فُتِنُوا بِعِبَادَتِهَا أَوْ يَتَذَكَّرُوا بِهَا الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنْ عَبَدُوهَا، فَمَعْنَى الرُّجُوعِ، الْعَوْدُ إِلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٤٨]، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ.
فَحَرْفُ (لَعَلَّ) لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ هَنَا رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنَى قَوْلٍ صَادِرٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِإِنْشَاءِ رَجَائِهِ، بِأَنْ يُقَدَّرَ: قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَوْ قَائِلًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ إِلَى تَغْيِيرِ اعْتِقَادٍ طَارِئٍ بِاعْتِقَادٍ سَابِقٍ، شَبَّهَ تَرْكَ الِاعْتِقَادِ الطَّارِئِ وَالْأَخْذَ بِالِاعْتِقَادِ السَّابِقِ بِرُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ رُجُوعِ السَّاعِي إِلَى بَيْتِهِ.
وَالْمَعْنَى: يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ حَادَ عَنْهَا إِلَيْهَا، وَهَذَا رَجَاؤُهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِ عَقِبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة:
١٢٤] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَلَّ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِ رَجَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَمُودُ نَسَبِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ تَقِيَّةً مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي رِسَالَةِ «طَهَارَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّقَائِصِ» (١).
وَفِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ كَانَتْ غَيْرَ مَجْهُولَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَتَّجِهُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ كَانَتْ بَالِغَةً لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ بِمَا تَنَاقَلُوهُ مِنْ أَقْوَالِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَمِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ الْعَرَبُ، فَيَتَّجِهُ مُؤَاخَذَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ قَبْلَ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا النَّظَرَ فِيمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَهُمْ أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهُ أَوْ أَعْرَضُوا. فَيَكُونُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مُؤَاخَذِينَ عَلَى نَبْذِ
_________
(١) نشرت فِي مجلة........ بِبَغْدَاد سنة.
195
التَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا وَمُعَاقَبِينَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي صِحَاحِ الْآثَارِ مِنْ تَعْذِيبِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي سَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ حَامِلُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ عَلَى الشِّرْكِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ على قَوْلهم.
[٢٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٢٩]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٨]، وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ مَا رَجَاهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ رُجُوعِ بَعْضِ عَقِبِهِ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِرَعْيِهَا. فَإِنَّ أَقْدَمَ أُمَّةٍ مِنْ عَقِبِهِ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى كَلِمَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ.
وَبَعْدَ بَلْ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَ الْإِبْطَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ:
بَلْ لَمْ يَرْجِعْ هَؤُلَاءِ وَآبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَتَبَرَّأُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَا أَخَذُوا بِوِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِسَائِلٍ يَسْأَلُ عَمَّا عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ جَزَاءً عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي وِصَايَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهَلَّا اسْتَأْصَلَهُمْ. كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٢٣- ٢٥]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ يَجِيئَهُمْ رَسُولٌ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ يَرْتَبِطُ بِهَا وُجُودُ الْعَرَبِ زَمَنًا طَوِيلًا بِدُونِ رَسُولٍ، وَتَأَخُّرُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إِلَى الْإِبَّانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ.
وَبِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ حَصَلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَا بَدَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
196
مِنْ فَظِيعِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُمْ فَكَانَ مُوقِعُ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغَ مِنْ مَوْقِعِهَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
بَلْ مَا تَذَكَّرُ مِنْ نَوَارَ وَقَدْ نَأَتْ وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَرِمَامُهَا
إِذْ كَانَ انْتِقَالُهُ اقْتِضَابًا وَكَانَ هُنَا تَخَلُّصًا حَسَنًا.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ أَنَّ مُصْطَلَحَ الْقُرْآنِ أَنْ يُرِيدَ بِمِثْلِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَمْ أَرَ مَنِ اهْتَدَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١] وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَالْمُرَادُ بِآبَائِهِمْ آبَاؤُهُمُ الَّذِينَ سَنُّوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَالَّذِينَ عَبَدُوهَا مِنْ بَعْدِهِ. وَتَمْتِيعُ آبَائِهِمْ تَمْهِيدٌ لِتَمْتِيعِ هَؤُلَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَةُ التَّمْتِيعِ مَجِيءَ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَجِيئَهُ لِهَؤُلَاءِ. وَالتَّمْتِيعُ هُنَا التَّمْتِيعُ بِالْإِمْهَالِ وَعَدَمِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ.
وَالْمُرَادُ بِ الْحَقُّ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] وَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وَهَذِهِ الْآيَةُ ثَنَاءٌ رَاجِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ مُتَّصِلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ.
فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى التَّمْتِيعُ وَأُخِذُوا بِالْعَذَابِ تَدْرِيجًا إِلَى أَنْ كَانَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهَدَى اللَّهِ لِلْإِسْلَامِ مَنْ بَقِيَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَيَّامَ الْوُفُودِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨].
وَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ هُوَ: الْقُرْآنُ، وَالرَّسُولُ الْمُبين: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصْفُهُ بِ مُبِينٌ لِأَنَّهُ أَوْضَحَ الْهُدَى وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ كَلَامٍ. فَالْإِبَانَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعَانِي دِينِهِ وَأَلْفَاظِ كِتَابِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ بِالِانْتِشَالِ
197
مِنْ أَوْحَالِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ إِلَى مَنَاهِجِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ وَأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، فَيَجْبُرَ لِأُمَّةٍ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِأَبِيهِمْ حَتَّى يَكْمُلَ لِدَعْوَتِهِ شَرَفُ الِاسْتِجَابَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا زِيَادَةُ الْإِمْهَالِ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧].
وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِلَى قَوْله: وَآباءَهُمْ [الزخرف: ٢٨، ٢٩] أَنَّ آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ الشِّرْكَ وَأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ بَقِيَتْ كَلِمَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِمُخَالَفَةِ قَوْمِهِمُ اتِّقَاءَ الْفِتْنَةِ. وَلَا
عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لديهم شرع.
[٣٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٠]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ تَغَافُلِهِمْ، أَيْ قَدْ كَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ قَبْلَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ لِأَنَّ لِلْغَفَلَاتِ الْمُتَقَادِمَةِ غِشَاوَةً تُصَيِّرُ الْغَفْلَةُ جَهَالَةً، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسْتَيْقِظُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ فَيَتَذَكَّرُوا كَلِمَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا:
هَذَا سِحْرٌ، أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَازْدَادُوا رَيْنًا عَلَى رَيْنٍ.
فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لَا فِي إِفَادَةِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي تَعْقِيبِ الْغَايَةِ بِهَذَا الْكَلَامِ إِيذَانٌ بِأَنَّ تَمْتِيعَهُمْ أَصْبَحَ عَلَى وَشْكِ الِانْتِهَاءِ.
فَجُمْلَةُ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف: ٢٩] فَإِنَّ لَمَّا تَوْقِيتِيَّةٌ فَهِيَ فِي قُوَّةِ حَتَّى الْغَائِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ عَقِبَ ذَلِكَ التَّمْتِيعِ لَمْ يَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، أَيْ كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْحَقِّ مُشْرِكِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَتَسَاهُلٍ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ صَارُوا مُشْرِكِينَ عَنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ مَقُولٌ ثَانٍ، أَيْ قَالُوا: هَذَا سِحْرٌ فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّا بِهِ، أَيْ بِالْقُرْآنِ، كَافِرُونَ، أَيْ سَوَاءَ كَانَ سِحْرًا أَمْ غَيْرَهُ، أَيْ فَرَضُوا أَنَّهُ سِحْرٌ ثُمَّ ارْتَقَوْا فَقَالُوا إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، أَيْ كَافِرُونَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءً كَانَ سِحْرًا أَمْ شِعْرًا أَمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ ليؤيسوا الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانهم بِهِ.
[٣١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣١]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] فَهُوَ فِي حَيِّزِ جَوَاب لَمَّا [الزخرف: ٣٠] التَّوْقِيتِيَّةِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْجِيبِ أَيْضًا، أَيْ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ لِإِنْكَارِ الْحَقِّ إِذْ قَالُوا لِلْقُرْآنِ: هَذَا سِحْرٌ، وَإِذْ كَانَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالْقُرْآنِ سَاحِرٌ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ طَعْنٍ آخَرَ مِنْهُمْ فِي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ.
ولَوْلا أَصْلُهُ حَرْفُ تَحْضِيضٍ، اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازِمَةِ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ عَلَى تَحْصِيلٍ مَا هُوَ مَقْطُوعٌ بِانْتِفَاءِ
حُصُولِهِ يَسْتَلْزِمُ الْجَزْمَ بِانْتِفَائِهِ.
وَالْقَرْيَتَانِ هُمَا: مَكَّةُ وَالطَّائِفُ لِأَنَّهُمَا أَكْبَرُ قُرَى تِهَامَةَ بَلَدِ الْقَائِلِينَ وَأَمَّا يَثْرِبُ وَتَيْمَاءُ وَنَحْوَهُمَا فَهِيَ مِنْ بَلَدِ الْحِجَازِ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ لِلْعَهْدِ، جَعَلُوا عِمَادَ التَّأَهُّلِ لِسِيَادَةِ الْأَقْوَامِ أَمْرَيْنِ: عَظَمَةُ الْمُسَوَّدِ، وَعَظَمَةُ قَرْيَتِهِ، فَهُمْ لَا يَدِينُونَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَبَائِلِ فِي أَشْهَرِ الْقُرَى لِأَنَّ الْقُرَى هِيَ مأوى شؤون الْقَبَائِلِ وَتَمْوِينِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، وَالْعَظِيمُ:
مستعار لصَاحب السؤدد فِي قَوْمِهِ، فَكَأَنَّهُ عَظِيمُ الذَّاتِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ حَبِيبَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَنَوُا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ.
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآن وَلم يسموا شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا شَخْصَيْنِ وَوَصَفُوهُمَا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَاقْتَصَرَ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ إِيجَازًا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا كَانُوا يُؤَهِّلُونَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لِلرِّسَالَةِ تَحْمِيقًا لِرَأْيِهِمْ.
وَكَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ عَنَوْهُمَا ذَوَيْ مَالٍ لِأَنَّ سَعَةَ الْمَالِ كَانَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ وَصْفِ السُّؤْدَدِ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [الْبَقَرَة: ٢٤٧].
[٣٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٢]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:
٣١]، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ مَنْ يَتَخَيَّرُ أَصْنَافَ النَّاسِ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلرِّسَالَةِ بِيَدِهِمْ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ ضَمِيرُ هُمْ الْمَجْعُولُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، عَلَى مُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ لِيُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ وَتَخْطِئَةً لَهُمْ فِي تَحَكُّمِهِمْ.
200
وَلَمَّا كَانَ الِاصْطِفَاءُ لِلرِّسَالَةِ رَحْمَةً لِمَنْ يُصْطَفَى لَهَا وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، جَعَلَ تَحَكُّمَهُمْ فِي ذَلِكَ قِسْمَةً مِنْهُمْ لرحمة الله بِاخْتِيَار هم مَنْ يَخْتَارُ لَهَا وَتَعْيِينِ الْمُتَأَهِّلِ لِإِبْلَاغِهَا إِلَى الْمَرْحُومِينِ.
وَوُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُضِيفَ لِفَظُ (الرَّبِّ) إِلَى ضَمِيرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُ تَأْنِيسًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ شَأْنَهُ بِإِبْلَاغِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ وَبِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَتَدْبِيرَهُ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا قَسَمْنَا بَيْنَ النَّاسِ مَعِيشَتَهُمْ فَكَانُوا مُسَيَّرِينَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا هَيَّأْنَا لَهُمْ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَأَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ، فَسَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِي أَشْغَالِهِمْ عَلَى حِسَابِ دَوَاعِي حَاجَةِ الْحَيَاةِ، وَرَفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى بعض ومسخّرا بِهِ. فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي تَدْبِيرِ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي إِقَامَةِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّ ذَلِك أعظم شؤون الْبَشَرِ. فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْن محيص فِي الشَّاذِّ بِكَسْرِ السِّينِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَخَّرِ، أَيِ الْمَجْبُورِ عَلَى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَاسْمٌ لِمَنْ يُسْخَرُ بِهِ، أَيْ يُسْتَهْزَأُ بِهِ كَمَا فِي «مُفْرَدَات» الرَّاغِب و «الأساس» و «الْقَامُوس». وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ وَلَا تَدَخُّلَ لِمَعْنَى الْهُزْءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَكَلَامُ الرَّاغِبِ مُحْتَمَلٌ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْخِيرِ. فَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنِيَّيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ سُخْرِيًّا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِتَحَمُّلِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَتَعَمَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شؤون حَيَاتِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ، أَيْ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ وَابْنُ زَيْدٍ،
201
فَلَامَ لِيَتَّخِذَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِفِعْلِ قَسَمْنا، أَيْ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ، أَيْ أَسْبَابَ مَعِيشَتِهِمْ لِيَسْتَعِينَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَتَعَارَفُوا وَيَتَجَمَّعُوا لِأَجْلِ حَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَتَتَكَوَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبَائِلُ وَالْمُدُنُ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَامًّا فِي كُلِّ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِغَيْرٍ آخَرَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْمًا مِنَ السُّخْرِيَةِ وَهِيَ الِاسْتِهْزَاءُ. وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يُعَيِّنْ قَائِلَهُ وَبِذَلِكَ تَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]
وَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْرِيضٌ بالمشركين الَّذين استهزؤوا بِالْمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [١١٠]. وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ السُّخْرِيِّ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] وَقَوْلُهُ: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ [ص: ٦٣].
وَلَعَلَّ الَّذِي عَدَلَ بِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِهَذَا الْمَعْنَى اسْتِنْكَارُهُمْ أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَسْخَرَةً عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي رَفْعِهِ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ وَاسِعٌ فِي نَظَائِرِهِ وَأَشْبَاهِهِ. وَتَأْوِيلُ مَعْنَى اللَّامِ ظَاهر.
وَجُمْلَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَذْيِيلٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ رَدٌّ ثَانٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي جَعَلُوهُ عِمَادَ الِاصْطِفَاءِ لِلرِّسَالَةِ هُوَ أَقَلُّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَهِيَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّفْضِيلِ حِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فَإِنَّ الْمَالَ شَيْءٌ جَمَعَهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ اصْطِفَاءِ اللَّهِ الْعَبْدَ لِيُرْسِلَهُ إِلَى النَّاسِ.
وَرَحْمَةُ اللَّهِ: هِيَ اصْطِفَاؤُهُ عَبْدَهُ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانُوا غَيْرَ قَاسِمِينَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ يَقْسِمُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِهِمْ
202

[٣٣- ٣٥]

[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
وَلَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ دَلَّ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ امْتِنَاعَ وُقُوعِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَيْ أَرَادَ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَضْمُونِ شَرْطِهَا.
لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ خُلُقِهِمْ تَعْظِيمَ الْمَالِ وَأَهْلِ الثَّرَاءِ وَحُسْبَانَهُمْ ذَلِكَ أَصْلَ الْفَضَائِلِ وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِزَكَاءِ النُّفُوسِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جَعْلَهُمُ الْمَالَ سَبَبَ الْفَضْلِ بِإِبْطَالَيْنِ، بِقَوْلِهِ:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وَقَوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: ٣٢]، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَعْرِيفِهِمْ أَنَّ الْمَالَ وَالْغِنَى لَا حَظَّ لَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَجَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ حَقَائِقَهَا وَمَقَادِيرَهَا فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمَالُ لِلْكَافِرِينَ
وَمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ جَعَلَ لَهُ أَسْبَابًا نَظَمَهَا فِي سِلْكِ النُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَجَعَلَ لَهَا آثَارًا مُنَاسِبَةً لَهَا، وَشَتَّانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوَاهِبِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّرَائِرِ الطَّيِّبَةِ، فَالْمَالُ فِي الْغَالِبِ مَصْدَرٌ لِإِرْضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَمَرْصَدٌ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّطَاوُلِ. وَأَمَّا مَوَاهِبُ النُّفُوسِ الطَّيِّبَةِ فَمَصَادِرُ لِنَفْعِ أَصْحَابِهَا وَنَفْعِ الْأُمَّةِ، فَفِي أَهْلِ الشَّرِّ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَفِي أَهْلِ الْخَيْرِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، فَظَهَرَ التَّبَايُنُ بَيْنَ آثَارِ كَسْبِ الْمَالِ وَأَثَارِ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ.
وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّحْقِيرِ لِلْمَالِ إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِمَا أَسَّسُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١]، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ على جملَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: ٣٢].
وَالنَّاسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْبَشَرِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْبَشَرِ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا بِاتِّحَادٍ فِي نَسَبٍ أَوْ دِينٍ أَوْ
203
حَالَةٍ مُعَرَّفٍ بِهَا فَمَعْنَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يَحْتَمِلُ أَنَّ لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ الْبَشَرُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ، أَيِ الْكُفْرُ وَنَبْذُ الْفِكْرَةِ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ (١).
فَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: لَوْلَا أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كُفَّارًا لَخَصَّصْنَا الْكَافِرِينَ بِالْمَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَتَرَكْنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا ادَّخَرْنَا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَيَحْسَبُ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ أَنَّ لِلْكُفْرِ أَثَرًا فِي حُصُولِ الْمَالِ جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً لِمَنْ سَمَّاهُمْ بِالْكَافِرِينَ فَيَتْبَعُوا دِينَ الْكُفْرِ لِتَخَيُّلِهِمُ الْمُلَازِمَةَ بَيْنَ سَعَادَةِ الْعَيْشِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي الْأَجْيَالِ الْأَوْلَى أَصْحَابَ أَوْهَامٍ وَأَغْلَاطٍ يَجْعَلُونَ لِلْمُقَارَنَةِ حُكْمَ التَّسَبُّبِ فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْلَا تَجَنُّبُ مَا يُفْضِي إِلَى عُمُومِ الْكُفْرِ وَانْقِرَاضِ الْإِيمَانِ، لَجَعَلْنَا الْمَالَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ خَاصَّةً، أَيْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ انْقِرَاضَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يُقَدِّرِ اتِّحَادَ النَّاسِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: ١١٨، ١١٩] أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْعِبَادِ فَعَطَّلَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى اضْمِحْلَالِ الْهُدَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَيْ أَبْقَى بَيْنَهُمْ بَصِيصًا مِنْ نُورِ الْهُدَى.
وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلْعَهْدِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَعَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمرَان: ١٧٣] وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً اتِّحَادُهُمْ فِي الثَّرَاءِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنْ تَصِيرَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَهْلَ ثَرْوَةٍ كُلَّهُمْ أَيْ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنِ اشْتِمَالِ كُلِّ بَلَدٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ وَكُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْعُمْرَانِ وَاحْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، هَذَا لِمَالِهِ، وَهَذَا لِصِنَاعَتِهِ، وَآخَرُ لِمَقْدِرَةِ بَدَنِهِ لَجَعَلْنَا من يكفر بالرحمان وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءً فِي الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَلَخَّصُ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ الثَّرَاءَ وَالرَّفَاهِيَةَ لَا يُقِيمُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ لَهُمَا وَزْنًا فَلَا يُمْسِكُهُمَا عَنِ النَّاكِبِينَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ، فَصَارَ الْكَلَامُ يَقْتَضِي مُقَدَّرًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ لَكِنْ لَا يَكُونُ النَّاسُ سَوَاءً فِي الْغِنَى لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْكَوْنِ الْبِشْرِيِّ
_________
(١) جمعناهم فِي هَذَا التَّأْوِيل لِأَن مآل أَقْوَالهم مُتَقَارِبَة.
204
أَنْ لَا تَكُونَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَوْ قَبِيلَةٌ أَوْ أَهَلُ بَلْدَةٍ أَغْنِيَاءَ لَيْسَ فِيهِمْ مَحَاوِيجُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى انخرام نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَارْتِفَاعِ احْتِيَاجِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَيَهْلِكُ مُجْتَمَعُهُمْ، وَاللَّهُ أَرَادَ بَقَاءَهُمْ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ.
وَيُرَجِّحُ هَذَا جَعْلُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ يَكْفُرُ خُصُوص وصف الرحمان فَإِنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ أَنْكَرُوا وصف الرحمان قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠] وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ.
وَمَعْنَى لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ لَقَدَّرْنَا فِي نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ أَسْبَابَ الثَّرَاءِ مُتَّصِلَةً بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْكُفْرُ سَبَبًا وَمَجْلَبَةً لِلْغِنَى، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ فِي عُقُولِ النَّاسِ وَأَسَالِيبِ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ أَسْبَابَ تَعْمِيمِ الْكُفْرِ فِي الْأَرْضِ لُطْفًا مِنْهُ بِالْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ كُفْرٍ جُزْئِيٍّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ حِفْظًا مِنْهُ تَعَالَى لِنَامُوسِ تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا. وَهَذَا مِنْ تَفَارِيعِ التَّفْرِقَة بَين الرضى وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبُيُوتِهِمْ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ، أَيْ لَجَعَلْنَا لِبُيُوتِ من يكفر بالرحمان فَيَكُونُ قَوْلُهُ لِبُيُوتِهِمْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ ممّن يكفر بالرحمان. وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لِلتَّوْكِيدِ كَمَا فَعَلُوا فِي الْبَدَلِ مِنَ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ فِي نَحْوِ: مَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ فَقَرَنُوا الْبَدَلَ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ وَلَمْ يَقُولُوا: مَنْ ذَا سَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ ابْتِدَاءً بِفِعْلِ الْجَعْلِ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ من يكفر بالرحمان فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ قَرْنُهُ مَعَ مَظَاهِرِ الْغِنَى فِي قَرْنِ التَّحْقِيرِ، ثُمَّ يَذْكُرُ مَا
يَعِزُّ وُجُودُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْخَبَرُ كُلُّهُ مُسْتَغْرَبًا كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُنْظَمَ فِي أُسْلُوبِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُقُفاً بِضَمِّ السِّينِ وَضَمِّ الْقَافِ جَمْعُ سَقْفٍ بِفَتْحِ السِّينِ
205
وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ: الْبِنَاءُ الْمُمْتَدُّ عَلَى جُدْرَانِ الْبَيْتِ الْمُغَطِّي فَضَاءَ الْبَيْتَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٢٦]. وَهَذَا الْجَمْعُ لَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا رَهْنٌ وَرُهُنٌ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُفْرَدِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِبُيُوتِهِمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِكُلِّ بَيْتٍ سَقْفٌ.
وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ قَالَ تَعَالَى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢]، فَيَكُونُ هُنَا عَطْفًا عَلَى سُقُفاً جَمْعًا لِعَدِيدِ الْمَحَاسِنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّهَبِ لِأَنَّ الذَّهَبَ يُتَزَيَّنُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الْإِسْرَاء: ٩٣]، فَيَكُونُ وَزُخْرُفاً عَطْفًا عَلَى سُقُفاً بِتَأْوِيلِ: لَجَعَلْنَا لَهُمْ ذَهَبًا، أَيْ لَكَانَتْ سُقُفُهُمْ وَمَعَارِجُهُمْ وَأَبْوَابُهُمْ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ مُنَوَّعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ فِي تَلْوِينِهَا. وَابْتُدِئَ بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فِي التَّحَلِّيَاتِ وَأَجْمَلُ فِي اللَّوْنِ، وَأَخَّرَ الذَّهَبَ لِأَنَّهُ أَنْدَرُ فِي الْحُلِيِّ، وَلِأَنَّ لَفْظَهُ أَسْعَدُ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِ آخِرِهِ تَنْوِينًا يَنْقَلِبُ فِي الْوَقْفِ أَلِفًا فَيُنَاسِبُ امْتِدَادَ الصَّوْتِ وَهُوَ أَفْصَحُ فِي الْوَقْفِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ زُخْرُفاً مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَرِدُ سُؤَالٌ عَنْ تَخْصِيصِ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ بِالْفِضَّةِ. ومَعارِجَ اسْمُ جَمْعِ مِعْرَاجٍ، وَهُوَ الدَّرَجُ الَّذِي يُعْرَجُ بِهِ إِلَى الْعَلَالِي.
وَمَعْنَى يَظْهَرُونَ: يَعْلُونَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْف: ٩٧]، أَيْ أَنْ يَتَسَوَّرُوهُ.
وَسُرُرُ بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٤]، وَفَائِدَةُ وَصْفِهَا بجملة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ هَذِهِ الْبَهْرَجَةَ مَعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي دَعَةِ الْعَيْشِ وَالْخُلُوِّ عَنِ التَّعَبِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَعَارِجَ وَالْأَبْوَابَ وَالسُّرُرَ مِنْ فِضَّةٍ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ لِدَلَالَةِ مَا وُصِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ.
206
وَذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ السَّقْفِ وَالْمَعَارِجِ وَالْأَبْوَابِ وَالسُّرُرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَتَاعُ الدُّنْيَا لَا يَعُودُ عَلَى مَنْ أُعْطِيَهُ بِالسَّعَادَةِ
الْأَبَدِيَّةِ وَأَمَّا السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ فَقَدِ ادَّخَرَهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ وَلَيْسَتْ كَمَثَلِ الْبَهَارِجِ وَالزِّينَةِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تُصَادِفُ مُخْتَلَفَ النُّفُوسِ وَتَكْثُرُ لِأَهْلِ النُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ الْخَسِيسَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمرَان: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَتَكُونُ إِنْ الَّتِي قَبْلَهَا مُخَفِّفَةً مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ لِلتَّوْكِيدِ وَتَكُونُ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَمَّا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ وَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةِ وَ (مَا) زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَهِيَ لَمَّا أُخْتُ (إِلَّا) الْمُخْتَصَّةِ بِالْوُقُوعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا.
[٣٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٦]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)
ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَبَيَانٌ لِلنَّاسِ، وَوَصْفِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ، وَأَعْلَمُوا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ تَذْكِيرَهُمْ وَمُحَاجَّتَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ يَدْعُو بِالْحَقِّ وَيَعِدُ بِهِ.
وَأَطْنَبَ فِي وَصْفِ تَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَيْقِظُونَ مِنْ غِشَاوَتِهِمْ، وَفِي تَنْبِيهِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ حَقِّيَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَفُضِحَتْ شُبُهَاتُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا تَعْوِيلَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ الضَّالُّونَ، وَأُنْذِرُوا بِاقْتِرَابِ انْتِهَاءِ تَمْتِيعِهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَتَقَضَّى ذَلِكَ بِمَزِيدِ الْبَيَانِ، وَأَفْضَى الْكَلَامُ إِلَى مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ إِلَى قَوْله عَظِيمٍ [الزخرف: ٣٠، ٣١]، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ، عَادَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى عَوَاقِبِ صَرْفِهِمْ عُقُولَهُمْ
207
عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الدَّعْوَةِ الْقُرْآنِيَّةِ فَكَانَ انْصِرَافُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يُسَخِّرُ اللَّهُ شَيَاطِينَ لَهُمْ تُلَازِمُهُمْ فَلَا تَزَالُ تَصْرِفُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الْحَقِّ وَأَدِلَّةِ الرُّشْدِ. وَهُوَ تَسْخِيرٌ اقْتَضَاهُ نِظَامُ تَوَلُّدِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِهَا، فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ عَمَى بَصَائِرِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ الْبَيِّنِ، وَهَذَا مِنْ سُنَّةِ الْوُجُودِ فِي تَوَلُّدِ الْأَشْيَاءِ مِنْ عَنَاصِرِهَا فَالضَّلَالُ يَنْمِي وَيَتَوَلَّدُ فِي النُّفُوسِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا عَلَى الْقَلْبِ وَأَكِنَّةً فِيهِ وَخَتْمًا عَلَيْهِ وَلَا يَضْعُفُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِتَكَرُّرِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَبِالزَّجْرِ وَالْإِنْذَارِ، فَمِنْ زِنَادِ التَّذْكِيرِ تَنْقَدِحُ شَرَارَاتُ نُورٍ فَرُبَّمَا أَضَاءَتْ فَصَادَفَتْ قُوَّةَ نُورِ
الْحَقِّ حَالَةَ وَهَنِ الشَّيْطَانِ فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيُفِيقُ صَاحِبُهَا مِنْ نَوْمَةِ ضَلَالِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ارْعَوَى ضَالٌّ عَنْ ضَلَالِهِ وَلَمَا نَفَعَ إِرْشَادُ الْمُرْشِدِينَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] الْآيَة.
فجملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَدَمَ فَهْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] بِحَالِ مَنْ يَعْشُو عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ لِلْبَصَرِ.
ويَعْشُ: مُضَارِعُ عَشَا كَغَزَا عَشْوًا بِالْوَاوِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا غَيْرَ ثَابِتٍ يُشْبِهُ نَظَرَ الْأَعْشَى، وَإِمَّا الْعَشَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ فَهُوَ اسْمُ ضَعْفِ الْعَيْنِ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: عَشَيَ بِالْيَاءِ مِثْلُ عَرَجَ إِذَا كَانَتْ فِي بَصَرِهِ آفَةُ الْعَشَا وَمَصْدُرُهُ عَشَىَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ مِثْلُ الْعَرَجِ. وَالْفِعْلُ وَاوِيٌّ عَشَا يَعْشُو، وَيُقَالُ عَشِيَ يَعْشَى إِذَا صَارَ الْعَشَا لَهُ آفَةٌ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْأَدْوَاءِ تَأْتِي كَثِيرًا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلَ مَرَضٍ. وَعَشِيَ يَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِأَجْلِ كَسْرَةِ صِيغَةِ الْأَدْوَاءِ.
208
فَمَعْنَى وَمَنْ يَعْشُ مَنْ يَنْظُرُ نَظَرًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ إِلَّا سَمَاعُ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ دُونَ تَدَبُّرٍ وَقَصْدٍ لِلِانْتِفَاعِ بِمَعَانِيهِ، فَشَبَّهَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مَعَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِنَظَرِ النَّاظِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ.
وَعُدِّيَ يَعْشُ بِ عَنْ الْمُفِيدَةِ لِلْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَن ذكر الرحمان وَإِلَّا فَإِنَّ حَقَّ عَشَا أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) كَمَا قَالَ الْحَطِيئَةُ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُهُ إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
وَلَا يُقَالُ: عَشَوْتُ عَنِ النَّارِ إِلَّا بِمِثْلِ التَّضْمِينِ الَّذِي فِي هَاتِهِ الْآيَةِ. فَتَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى يُعْرِضُ: أَرَادَ تَحْصِيلَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ التَّعْدِيَةِ بِ عَنْ، وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ (عَشَا) بِمَعْنَى أَعْرَضَ أَرَادَ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى أَصْلِيًّا لِفِعْلِ (عَشَا) وَظَنَّ أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْإِعْرَاضِ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْفِعْلِ وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلتَّعْدِيَةِ بِ عَنْ فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيٌّ.
وذِكْرِ الرَّحْمنِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥]. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّحْمنِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَهَذَا ثَنَاءٌ خَامِسٌ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالتَّقْيِيضُ: الْإِتَاحَةُ وَتَهْيِئَةُ شَيْءٍ لِمُلَازَمَةِ شَيْءٍ لِعَمَلٍ حَتَّى يُتِمَّهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ قَيَّضَ الْبَيْضَةَ، أَيِ الْقِشْرَ الْمُحِيطَ بِمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الْمُحِّ لِأَنَّ الْقَيْضَ يُلَازِمُ الْبَيْضَةَ فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا الْفَرْخُ فَيَتِمَّ مَا أُتِيحَ لَهُ الْقَيْضُ.
فَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ لِلْجَعْلِ مِثْلُ طَيَّنَ الْجِدَارَ: وَمِثْلُ أَزَرَهُ، أَيْ أَلْبَسَهُ الْإِزَارَ، وَدَرَعُوا الْجَارِيَةَ، أَيْ أَلْبَسُوهَا الدِّرْعَ. وَأَصْلُهُ هُنَا تَشْبِيهٌ أَيْ نَجْعَلُهُ كَالْقَيْضِ لَهُ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٢٥] فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا. وَأَتَى الضَّمِيرُ فِي لَهُ مُفْرَدًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الشَّرْطُ شَيْطَانًا وَلَيْسَ لِجَمِيعِهِمْ شَيْطَانٌ وَاحِدٌ وَلِذَلِكَ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [الزخرف:
٣٨] بِالْإِفْرَادِ، أَيْ قَالَ كُلُّ مَنْ لَهُ قَرِينٌ لِقَرِينِهِ.
209
وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ نُقَيِّضْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ شَيْطاناً فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مُقَيَّضٌ لِإِضْلَالِهِ، أَيْ هُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ.
وَفُرِّعَ عَنْ نُقَيِّضْ قَوْلُهُ: فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ لِأَن التقيض كَانَ لِأَجْلِ مُقَارَنَتِهِ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي جَرَتْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «نَيْلِ الِابْتِهَاجِ بِتَطْرِيزِ الدِّيبَاجِ» فِي تَرْجَمَةِ الْحَفِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ شَيْخِنَا ابْنِ عَرَفَةَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ حَضَرْتُهُ فَقَرَأَ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فَقَالَ: قرىء يَعْشُو بِالرَّفْعِ ونُقَيِّضْ بِالْجَزْمِ (١). وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِكَلَامٍ مَا فَهِمْتُهُ. وَذَكَرَ أَنَّ فِي النُّسْخَةِ خَلَلًا وَذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ. فَاهْتَدَيْتُ إِلَى تَمَامِهِ وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّ جَزْمَ نُقَيِّضْ بِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِشَبَهِهَا بِالشَّرْطِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا كَانُوا يُعَامِلُونَ الْمَوْصُولَ الَّذِي لَا يُشْبِهُ لَفْظَ الشَّرْطِ بِذَلِكَ فَمَا يُشْبِهُ لَفْظُهُ لَفْظَ الشَّرْطِ أَوْلَى بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ. فَوَافَقَ وَفَرِحَ لَمَّا أَنَّ الْإِنْصَافَ كَانَ طَبْعَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَطَالَبُونِي بِإِثْبَاتِ مُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَقُلْتُ: نَصُّهُمْ عَلَى دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ فِي نَحْوِ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ،
فَنَازَعُونِي فِي ذَلِكَ وَكُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِحِفْظِ التَّسْهِيلِ فَقُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيمَا يُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ «وَقَدْ يَجْزِمُهُ مُسَبِّبٌ عَنْ صِلَةِ الَّذِي تَشْبِيهًا بِجَوَابِ الشَّرْطِ وَأَنْشَدْتُ مِنْ شَوَاهِدِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعْ
فَجَاءَ الشَّاهِدُ مُوَافِقًا لِلْحَالِ. قَالَ: وَكُنْتُ فِي طَرَفٍ الْحَلْقَةِ، فَصَاحَ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَالَ:
يَا أَخِي مَا بَغَيْنَا، لَعَلَّكَ ابْنُ مَرْزُوقٍ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُكُمْ»
انْتَهَى مِنِ «اغتنام الفرصة». اهـ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَيْ فَكَانَ قَرِينًا مُقَارَنَةً ثَابِتَةً دَائِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَلْ: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا قَرِينًا لَهُ. وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى
_________
(١) هَذِه الْقِرَاءَة تنْسب إِلَى زيد بن عَليّ إِمَام الزيدية. [.....]
210
مُتَعَلِّقِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ قَرِينٌ لِلِاهْتِمَامِ بضمير مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أَيْ قَرِينٌ لَهُ مُقَارَنَةً تَامَّةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ يَعْقُوب بياء الْغَائِبِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ على الرَّحْمنِ.
[٣٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٧]
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: ٣٦] أَيْ مُقَارَنَةَ صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرَا إِنَّهُمْ وَ (يَصُدُّونَ) عَائِدَانِ إِلَى شَيْطاناً [الزخرف: ٣٦] لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابَ شَرْطٍ اكْتَسَبَ الْعُمُومَ تَبَعًا لِعُمُومِ مَنْ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ مِثْلُ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ عَلَى خلاف بَين أيمة أُصُولِ الْفِقْهِ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ لَا يَجْرِي هُنَا لِأَنَّ عُمُومَ شَيْطاناً تَابِعٌ لِعُمُومِ مَنْ إِذْ أَجْزَاءُ جَوَابِ الشَّرْطِ تَجْرِي عَلَى حُكْمِ أَجْزَاءِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَقَرِينَةُ عُمُومِ النَّكِرَةِ هُنَا لَا تَتْرُكُ مَجَالًا لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ لَا لِمُطْلَقِ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي (يَصُدُّونَهُمْ) عَائِدٌ إِلَى مَنْ لِأَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْشُو عَن ذكر الرحمان نُقَيِّضْ لَهُمْ شَيَاطِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْطَانٌ.
وَضَمِيرَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ (يَصُدُّونَهُمْ)، أَيْ وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ عَنِ السَّبِيلِ أَنْفُسَهُمْ مُهْتَدِينَ.
وَقَدْ تَتَشَابَهُ الضَّمَائِرُ فَتَرُدُّ الْقَرِينَةُ كُلَّ ضَمِيرٍ إِلَى مَعَادِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
فَضَمِيرُ: أَحْرَزُوا، لِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ، وَضَمِيرُ: جَمَّعُوا، لِلْمُسْلِمِينَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩].
وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّبِيلِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ الْمُمْتَدَّةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَقَدْ مُثِّلَتْ حَالَةُ الَّذِينَ يَعْشُونَ عَن ذكر الرحمان وَحَالُ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِحَالِ مَنِ اسْتَهْدَى قَوْمًا لِيَدُلُّوهُ عَلَى طَرِيقٍ مُوصِلٍ لِبُغْيَتِهِ فَضَلَّلُوهُ وَصَرَفُوهُ عَنِ السَّبِيلِ وَأَسْلَكُوهُ فِي فَيَافِي التِّيهِ غِشًّا وَخَدِيعَةً، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى حَيْثُ يَبْلُغُ طَلِبَتَهُ.
فَجُمْلَةُ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُمْ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْله فَهُوَ [الزخرف: ٣٦] وَالرَّابِطُ وَاوُ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْسَبُ الْمَصْدُودُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بِهِمْ إِلَى السَّبِيلِ.
وَالِاهْتِدَاءُ: الْعِلْمُ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَقْصُود.
[٣٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٨]
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ التَّسَبُّبَ الَّذِي هُوَ غَايَةٌ مَجَازِيَّةٌ. فَاسْتِعْمَالُ حَتَّى فِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَلَيْسَتْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى دَوَامِ الصَّدِّ عَنِ السَّبِيلِ وَحُسْبَانِ الْآخَرِينَ الِاهْتِدَاءَ إِلَى فَنَاءِ الْقَرِينَيْنِ، إِذْ قَدْ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ فَيَنْقَطِعَ الصَّدُّ وَالْحُسْبَانُ فَلَا تَغْتَرَّ بِتَوَهُّمِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُفَارَقُ حَتَّى فِي جَمِيعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَر جاآنا بِأَلِفِ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى عَائِدًا عَلَى مَنْ يَعْشُ عَن ذكر الرحمان وَقَرِينِهِ، أَيْ شَيْطَانِهِ، وَأُفْرِدَ ضَمِيرُ قالَ لِرُجُوعِهِ إِلَى مَنْ يَعْشُ عَن ذكر الرحمان خَاصَّةً، أَيْ قَالَ الْكَافِرُ مُتَنَدِّمًا عَلَى مَا فَرَّطَ مِنِ اتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ وَائْتِمَارِهِ بِأَمْرِهِ.
212
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جاءَنا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قالَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦]، أَيْ قَالَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الَّذِي يعشو.
وَالْمعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ قِرَاءَةَ التَّثْنِيَةِ صَرِيحَةٌ فِي مَجِيءِ الشَّيْطَانِ مَعَ قَرِينِهِ الْكَافِرِ وَأَنَّ الْمُتَنَدِّمَ هُوَ الْكَافِرُ، وَالْقِرَاءَةُ بِالْإِفْرَادِ مُتَضَمِّنَةٌ مَجِيءَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ شَيْطَانَهُ الْقَرِينَ حَاضِرٌ مِنْ خِطَابِ الْآخَرِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ:
وَبَيْنَكَ. وَحَرْفُ يَا أَصْلُهُ لِلنِّدَاءِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّلَهُّفِ كَثِيرًا كَمَا فِي قَوْلِهِ يَا حَسْرَةً [يس: ٣٠] وَهُوَ هُنَا لِلتَّلَهُّفِ وَالتَّنَدُّمِ.
وَالْمُشْرِقَانِ: الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، غُلِّبَ اسْمُ الْمَشْرِقِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ خُطُورًا بِالْأَذْهَانِ لِتَشَوُّفِ النُّفُوسِ إِلَى إِشْرَاقِ الشَّمْسِ بَعْدَ الْإِظْلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ: إِمَّا مَكَانُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا فِي الْأُفُقِ، وَإِمَّا الْجِهَةُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تَبْدُو الشَّمْسُ مِنْهَا عِنْدَ شُرُوقِهَا وَتَغِيبُ مِنْهَا عِنْدَ غُرُوبِهَا فِيمَا يَلُوحُ لِطَائِفَةٍ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهُوَ مَثَلٌ لِشِدَّةِ الْبُعْدِ. وَأُضِيفَ بُعْدَ إِلَى الْمَشْرِقَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ بِتَقْدِيرِ: بَعُدَ لَهُمَا، أَيْ مُخْتَصٌّ بِهِمَا بِتَأْوِيلِ الْبُعْدِ بِالتَّبَاعُدِ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ حَصَلَ مِنْ صِيغَةِ التَّغْلِيبِ وَمِنَ الْإِضَافَةِ. وَمُسَاوَاتُهُ أَنْ يُقَالَ بُعْدَ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْمَغْرِبِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَنَابَتْ كَلِمَةُ الْمَشْرِقَيْنِ عَنْ سِتِّ كَلِمَاتٍ.
وَقَوْلُهُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، بَعْدَ أَنْ تَمَنَّى مُفَارَقَتَهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ ذَمًّا فَالْكَافِرُ يَذُمُّ شَيْطَانَهُ الَّذِي كَانَ قَرِينًا، وَيُعَرِّضُ بِذَلِكَ لِلتَّفَصِّي مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى الشَّيْطَانِ الَّذِي أَضَلَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا تَفْظِيعُ عَوَاقِبِ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ الَّتِي كَانَتْ شَغَفَ الْمُتَقَارِنِينَ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مُقَارَنَةٍ على عمل سيئ الْعَاقِبَةِ. وَهَذَا مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: ٦٧].
213
وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ قَرِينِ السُّوءِ وَذَمِّ الشَّيَاطِينِ لِيَعَافُهُمُ النَّاسُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
[٣٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٩]
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨] وَأَنَّ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فعل جاءَنا [الزخرف: ٣٨] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ حَضَرَا لِلْحِسَابِ وَتِلْكَ الْحَضْرَةُ تُؤْذِنُ بِالْمُقَاوَلَةِ فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا حَضَرَا وَتَبَرَّأَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ قَصْدًا لِلتَّفَصِّي مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ آنِفًا فَيَقُولُ اللَّهُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ عَشَوْا عَن ذكر الرحمان وَلِشَيَاطِينِهِمْ.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تُلْقُوا التَّبِعَةَ عَلَى الْقُرَنَاءِ فَأَنْتُمْ مُؤَاخَذُونَ بِطَاعَتِهِمْ وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِإِضْلَالِكُمْ وَأَنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ عَذَابَ فَرِيقٍ لَا يُخَفِّفُ عَنْ فَرِيقٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٨].
وَوُقُوعُ فِعْلِ يَنْفَعَكُمُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ
نَافِعًا بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَا يُخَفِّفُ عَنِ الشَّرِيكِ مِنْ عَذَابِهِ. وَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنْ تَسَلِّي أَحَدٍ بِرُؤْيَةِ مِثْلِهِ مِمَّنْ مُنِيَ بِمُصِيبَةٍ فَذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَعَالَمُ الْحَقَائِقِ دُونَ الْأَوْهَامِ. وَفِي هَذَا التَّوَهُّمِ جَاءَ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى جَعْلِ الْمَصْدَرِ فَاعِلًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِنَّكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِذْ ظَلَمْتُمْ
214
وَفَاعِلُ يَنْفَعَكُمُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى التَّمَنِّي بِقَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف:
٣٨]، أَيْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ تَمَنِّيكُمْ وَلَا تَفَصِّيكُمْ.
وإِذْ أَصْلُهُ ظَرْفٌ مُبْهَمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي تُفَسِّرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُضَافُ هُوَ إِلَيْهَا وَيَخْرُجُ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مَا يُقَارِبُهَا بِتَوَسُّعٍ أَوْ إِلَى مَا يُشَابِهُهَا بِالْمَجَازِ. وَهُوَ التَّعْلِيلُ، وَهِيَ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، شُبِّهَتْ عِلَّةُ الشَّيْءِ وَسَبَبُهُ بِالظَّرْفِ فِي اللُّزُومِ لَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مَعْنَى التَّعْلِيلِ مِنْ مَعَانِي إِذْ وَلَمْ يَنْسُبْهُ لأحد من أيمة النَّحْوِ وَاللُّغَةِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ إِذْ بَدَلًا من الْيَوْمَ، وَتَأْويل الْكَلَامَ عَلَى جَعْلِ فِعْلِ ظَلَمْتُمْ بِمَعْنَى: تَبَيَّنَ أَنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ، أَيْ وَاسْتَعْمَلَ الْإِخْبَارَ بِمَعْنَى التَّبَيُّنِ، كَقَوْلِ زَائِدِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْفَقْعَسِيِّ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهِ بُدَّا
أَيْ تَبَيَّنَ أَنْ لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: رَاجَعْتُ أَبَا عَلِيٍّ مِرَارًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ الْآيَةَ مُسْتَشْكِلًا إِبْدَالَ إِذْ مِنَ الْيَوْمَ فَآخِرُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ فَكَأَنَّ الْيَوْمَ مَاضٍ أَوْ كَانَ إِذْ مُسْتَقْبلَة اهـ. وَهُوَ جَوَابٌ وَهِنٌ مَدْخُولٌ.
وَأَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَوَالٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَزْمِنَةٍ وَهِيَ لَنْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، والْيَوْمَ اسْمٌ لِزَمَنِ الْحَالِ، وإِذْ اسْمٌ لِزَمَنِ الْمُضِيِّ، وَثَلَاثَتُهَا مَنُوطَةٌ بِفِعْلِ يَنْفَعَكُمُ وَمُقْتَضَيَاتُهَا يُنَافِي بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالنَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُنَافِي التَّقْيِيدَ بِ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ لِلْحَالِ، وإِذْ يُنَافِي نَفْيَ النَّفْعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيُنَافِي التَّقْيِيدَ بِ الْيَوْمَ فَتَصَدَّى الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ لِدَفْعِ التَّنَافِي بَيْنَ مُقْتَضَى إِذْ وَمُقْتَضَى الْيَوْمَ بِتَأْوِيلِ مَعْنَى إِذْ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَمْ يَتَصَدَّ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لِدَفْعِ التَّنَافِي بَيْنَ مُقْتَضَى الْيَوْمَ الدَّالِّ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ وَبَيْنَ
مُقْتَضَى لَنْ وَهُوَ حُصُولُ النَّفْيِ فِي الِاسْتِقْبَالِ. وَأَنَا أَرَى لِدَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ ظَرْفًا لِلْحُكْمِ وَالْإِخْبَارِ، أَيْ تَقَرَّرَ الْيَوْمَ انْتِفَاءُ انْتِفَاعِكُمْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْعَذَابِ انْتِفَاءً مُؤَبَّدًا مِنَ الْآنَ، كَقَوْلِ مِقْدَامٍ الدُّبَيْرِيِّ:
215
لَنْ يُخْلِصَ الْعَامَ خَلِيلٌ عَشْرَا ذَاقَ الضِّمَادَ أَوْ يَزُورَ الْقَبْرَا
وَقَدْ حَصَلَ مِنِ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الدَّوَالِّ الثَّلَاثِ فِي الْآيَةِ طِبَاقٌ عَزِيزٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ فِي الْجُمْلَة.
[٤٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٠]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً [الزخرف: ٣٦] لِأَنَّ ذَلِكَ أَفَادَ تَوَغُّلَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ وَعُسْرَ انْفِكَاكِهِمْ عَنْهَا، لِأَنَّ مُقَارَنَةَ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى التَّهْوِينِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّحَرُّقِ عَلَيْهِمْ فِي تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْغَيِّ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَأْيِيسٍ مِنَ اهْتِدَاءِ أَكْثَرِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ حرص الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُمْ نَاجِعًا فِيهِمْ إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ ضَلَالَهُمْ فَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النَّحْل: ٣٧]، وَلَمَّا كَانَ حَال الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُعَاوَدَةِ دَعْوَتِهِمْ كَحَالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ التَّذْكِيرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ فَخُوطِبَ بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ وَسُلِّطَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى كَلَامٍ فِيهِ طَرِيقُ قَصْرٍ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ مَعَ إِيلَاءِ الضَّمِيرِ حَرْفَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ قَصْرٌ مُؤَكَّدٌ وَقَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ أَنْتَ لَا تُسْمِعُهُمْ وَلَا تَهْدِيهِمْ بَلِ اللَّهُ يُسْمِعُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ إِنْ شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس:
٩٩].
وَمِنْ بَدِيعِ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ حَالَ إِعْرَاضِهِمْ عَن الذّكر بالعشا، وَهُوَ النَّظَرُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ شَبَحَ الشَّيْءِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ هُنَا بِالصُّمِّ الْعُمْيِ إِشَارَةً أَنَّ التَّمَحُّلَ لِلضَّلَالِ وَمُحَاوَلَةَ تَأْيِيدِهِ يَنْقَلِبُ بِصَاحِبِهِ إِلَى أَشَدِّ الضَّلَالِ لَا أَنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وَالْأَحْوَالُ تَنْقَلِبُ مَلَكَاتٍ. وَهُوَ مَعْنَى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»
أَيْ حَتَّى يَحِقَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَذِبَ مَلَكَةٌ لَهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ إِعْرَاضُهُمُ انْصِرَافًا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ كَانَ حَالُهُمْ يُشْبِهُ حَالَ الصُّمِّ الْعُمْيِ كَمَا مَهَّدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦]
كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، فَظَهَرَتِ
الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالْعَشَا وَبَيْنَ مَا فِي هَذَا الِانْتِقَالِ لِوَصْفِهِمْ بِالصُّمِّ الْعُمْيِ.
وَعَطْفُ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنَ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ بِاعْتِبَارِ انْفِرَادِهِمَا، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّمَمَ وَالْعَمَى لَمَّا كَانَا مَجَازَيْنِ قَدْ يَكُونُ تَعَلُّقُهُمَا بِالْمَسْمُوعِ وَالْمُبْصَرِ جُزْئِيًّا فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ فَكَانَ الْوَصْفُ بِالْكَوْنِ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ تَنْبِيهًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى أبين ضلالا.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [الزخرف: ٤٠] إِلَى آخِرِهَا الْمُتَضَمِّنَةِ إِيمَاء إِلَى التأييس مِنَ اهْتِدَائِهِمْ، وَالصَّرِيحَةِ فِي تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَجَاءَ هُنَا تَحْقِيقُ وَعْدٍ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَمَعْنَاهُ: الْوَعْدُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ إِنْ كَانَ فِي حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَوَعِيدُهُمْ بِالْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عِقَابِ الْآخِرَةِ، فَلِأَجْلِ الْوَفَاءِ بِهَذَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَانِ: الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَكَوْنُ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي حَيَاة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْمُفَرَّعُ هُوَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، فَمُرَادٌ مِنْهُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَ (إِمَّا) كَلِمَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ أَصْلُهُمَا (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (مَا) زَائِدَةٌ بَعْدَ (إِنْ)، وَأُدْغِمَتْ نُونُ (إِنْ) فِي الْمِيمِ مِنْ حَرْفِ (مَا)، وَزِيَادَةُ (مَا) لِلتَّأْكِيدِ، وَيَكْثُرُ اتِّصَالُ فِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَ (إِنِ) الْمَزِيدَةِ بَعْدَهَا (مَا) بِنُونِ التَّوْكِيدِ زِيَادَةً فِي التَّأْكِيدِ، وَيَكْتُبُونَهَا بِهَمْزَةٍ وَمِيمٍ وَأَلِفٍ تَبَعًا لِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا.
وَالذَّهَابُ بِهِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّوَفِّي بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُفَارَقَةٌ لِلْأَحْيَاءِ فَالْإِمَاتَةُ كَالِانْتِقَالِ بِهِ، أَيْ تَغْيِيبِهِ وَلِذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنِ الْمَوْتِ بِالِانْتِقَالِ.
وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بَعْدَ وَفَاتِكَ.
217
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ مُنْتَقِمُونَ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقَةِ وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي وَعَدْناهُمْ الِانْتِقَامُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ بِقَتْلِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ
الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ
[الدُّخان: ١٦] وَالْبَطْشَةُ هِيَ بَطْشَةُ بَدْرٍ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَإِنَّمَا صِيغَ كَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الِانْتِقَامِ وَدَوَامِهِ، وَأَمَّا جُمْلَةُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فَهِيَ دَلِيلُ جَوَابِ جُمْلَةِ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِأَنَّ اقْتِدَارَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا عَلَى إراءته الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ، فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لَا مَحَالَةَ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَتَقْدِيرُهُ: أَوْ إِمَّا نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ، وَهُوَ الِانْتِقَامُ تَرَ انْتِقَامًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مقتدرون، أَي مُقْتَدِرُونَ الْآنَ فَاسْمُ الْفَاعِلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانِ الْحَالِ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ.
وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ: أَوْ إِمَّا نُرِيَنَّكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ مِنْهُمْ وعَلَيْهِمْ عَلَى مُتَعَلِّقَيْهِمَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فِي التَّمَكُّنِ بِالِانْتِقَامِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَعْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فَإِنَّ الْوَعْدَ إِذَا ذُكِرَ مَفْعُولُهُ صَحَّ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُهُ انْصَرَفَ لِلْخَيْرِ وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ لِلشَّرِّ دَائِمًا.
وَالِاقْتِدَارُ: شِدَّةُ الْقُدْرَةِ، وَاقْتَدَرَ أَبْلَغُ مِنْ قَدَرَ. وَقَدْ غَفَلَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ وَجَوَابَاهُمَا عَلَى خَمْسَةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ (مَا) الزَّائِدَةُ، وَنُونُ التَّوْكِيدِ، وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلتَّوْكِيدِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى مُنْتَقِمُونَ.
218
وَفَائِدَةُ التَّرْدِيدِ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَعْمِيمُ الْحَالَيْنِ حَالِ حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالِ وَفَاتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: وَقْتُ ذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَوْقِيتُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّنَا مُنْتَقِمُونَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ كُنْتَ حَيًّا أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ، أَيْ فَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ مِنْ شَأْنِنَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ أَمْرِنَا وَدِينِنَا، وَلَعَلَّهُ لِدَفْعِ استبطاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ تَأْخِيرَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالنَّبِيءِ الْمَوْتَ فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ دَعْوَتِهِ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْتِهِ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠] فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ لما يسمعونه.
[٤٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٣]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣)
لَمَّا هَوَّنَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَأَنْ لَا يَخُورَ عَزْمُهُ فِي الدَّعْوَةِ ضَجَرًا مِنْ تَصَلُّبِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَنُفُورِهِمْ مِنَ الْحَقِّ.
وَالِاسْتِمْسَاكُ: شِدَّةُ الْمَسْكِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَالْأَمْرُ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِفِعْلٍ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ لَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ هُنَا طَلَبُ الثَّبَاتِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهَذَا كَمَا يُدْعَى لِلْعَزِيزِ الْمُكْرَمِ، فَيُقَالُ: أَعَزَّكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَكَ، أَيْ أَدَامَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: أَحْيَاكَ اللَّهُ، أَيْ أَطَالَ حَيَاتَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيمِ الدُّعَاءِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
وَالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَجُمْلَةُ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَأْيِيدٌ لِطَلَبِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الْعَمَلُ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لِيُفِيدَ أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاسِخٌ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَتَمَكَّنُ السَّائِرُ مِنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَشُوبُهُ فِي سَيْرِهِ تَرَدُّدٌ فِي سُلُوكِهِ وَلَا خَشْيَةُ الضَّلَالِ فِي بُنْيَاتِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٧٩].
وَحَرْفُ عَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادِ بِهِ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥]. وَهَذَا تثبيت للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَا زَاغَ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَيَتْبَعُهُ تَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا ثَنَاءٌ سَادِسٌ على الْقُرْآن.
[٤٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٤]
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
ذُكِرَ حَظّ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الثَّنَاءِ وَالتَّأْيِيدِ فِي قَوْلِهِ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:
٤٣] الْمَجْعُولِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ تَعْلِيلٌ آخَرُ اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ حَظِّ
الْقُرْآنِ مِنَ الْمَدْحِ، وَالنَّفْعِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ، وَتَشْرِيفُهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: لَكَ وَأُتْبِعَ بِحَظِّ التَّابِعِينَ لَهُ وَلِكِتَابِهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِقَوْلِهِ وَلِقَوْمِكَ. ثُمَّ عَرَّضَ بالمعرضين عَنهُ والمجافين لَهُ بقوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، مَعَ التَّوْجِيهِ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ ذِكْرٌ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يُكْسِبُهُ وَيُكْسِبُ قَوْمَهُ حُسْنَ السُّمْعَةِ فِي الْأُمَمِ فَمَنِ اتَّبَعَهُ نَالَ حَظَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عدّ فِي عِدَادَ الْحَمْقَى كَمَا سَيَأْتِي، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى انْتِفَاعِ الْمُتَّبِعِينَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتِضْرَارِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ فِيهَا، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى عَشَرَةِ مَعَانٍ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ أَوْفَرَ مَعَانِيَ مِنْ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
220
الْمَعْدُودِ أَبْلَغَ كَلَامٍ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْإِيجَازِ إِذْ وَقَفَ، وَاسْتَوْقَفَ، وَبَكَى وَاسْتَبْكَى.
وَذَكَرَ الْحَبِيبَ، وَالْمَنْزِلَ فِي مِصْرَاعٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ ذَلِكَ الْمِصْرَاعِ وَعِدَّةُ مَعَانِيهَا عَشَرَةٌ فِي حِينَ كَانَتْ مَعَانِي مِصْرَاعِ امْرِئِ الْقَيْسِ سِتَّةً مَعَ مَا تَزِيدُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَهِيَ التَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ وَالْكِنَايَةِ وَمُحَسِّنِ التَّوْجِيهِ.
وَالذِّكْرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَ الْعَقْلِ، أَيِ اهْتِدَاءَهُ لِمَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ، فَشُبِّهَ بِتَذَكُّرِ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ كَثِيرُ الذِّكْرِ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ الْمَوْعِظَةِ. وَيَحْتَمِلُ ذِكْرَ اللِّسَانِ، أَيْ أَنَّهُ يُكْسِبُكَ وَقَوْمَكَ ذِكْرًا، وَالذِّكْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَالِبٌ فِي الذِّكْرِ بِخَبَرِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ يُكْسِبُ قَوْمَهُ شَرَفًا يُذْكَرُونَ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يَعْنِي الْقُرْآنُ شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَاحْتَاجَ أَهْلُ اللُّغَاتِ كُلِّهَا إِلَى لِسَانِهِمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ فَشَرُفُوا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أهل اللّغات».
وَيُقَال ابْنُ عَطِيَّةَ «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فَإِذَا قَالُوا لَهُ: فَلِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَكَ؟ سَكَتَ حَتَّى إِذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: لِقُرَيْشٍ»
. وَدَرَجَ عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ».
فَفِي لَفْظِ ذِكْرٌ مُحَسِّنُ التَّوْجِيهِ فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَوْمَهُ بِالثَّنَاءِ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ مَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَقَومه هُمْ قُرَيْشٌ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ أَوْ جَمِيعُ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ شَرُفُوا بِكَوْنِ الرّسول الْأَعْظَم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ الشَّرَفُ لَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْصُرِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَوْلَاهُ مَا كَانَ لِلْعَرَبِ مَنْ يَشْعُرُ بِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ.
وَهَذَا ثَنَاءٌ سَابِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالسُّؤَالُ فِي قَوْله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ سُؤَالُ تَقْرِيرٍ. فَسُؤَالُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ
221
مِقْدَارِ الْعَمَلِ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ، وَسُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ قَالَ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف: ١٩] وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ [الْملك: ٨، ١١].
[٤٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٥]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
الْأَمْرُ بِالسُّؤَالِ هُنَا تَمْثِيلٌ لِشُهْرَةِ الْخَبَرِ وَتَحَقُّقِهِ كَمَا فِي قَول السمؤال أَوِ الْحَارِثِيِّ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ وَقَوْلِ زَيْدِ الْخَيْلِ:
سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ بشدّتنا وَقَوله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يُونُس: ٩٤] إِذْ لَمْ يكن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَكٍّ حَتَّى يَسْأَلَ، وَإِلَّا فَإِنَّ سُؤَالَهُ الرُّسُلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَالْمَعْنَى اسْتَقْرِ شَرَائِعَ الرُّسُلِ وَكُتُبَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ هَلْ تَجِدُ فِيهَا عِبَادَةَ آلِهَةٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَاسْتَفْتِ قَلْبَكَ»
أَيْ تَثَبَّتْ فِي مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
وَجُمْلَةُ أَجَعَلْنا بَدَلٌ من جملَة وَسْئَلْ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢] أَيْ لَيْسَ آبَاؤُكُمْ بِأَهْدَى مِنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَكْذِيبَ رَسُولِنَا لِأَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السُّؤَالُ عَنْ شُهْرَةِ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنَّا مَا أَمَرْنَا بِعِبَادَةِ آلِهَةٍ دُونَنَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِنَا. وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الظَّرْفِ بِعَامِلِهِ.
وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رُسُلِنا بَيَانٌ لِ قَبْلِكَ.
فَمَعْنَى أَجَعَلْنا مَا جَعَلْنَا ذَلِكَ، أَيْ جَعْلَ التَّشْرِيعِ وَالْأَمْرِ، أَيْ مَا أَمَرْنَا بِأَنْ تُعْبَدَ آلِهَةٌ دُونَنَا. فَوَصَفَ آلِهَةً بِ يُعْبَدُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَرْضَى بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونَ غَيْرَهُ إِلَهًا مِثْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَكَانُوا فِي عَقَائِدِهِمْ أَشْتَاتًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُوهُ مِنَ اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. فَلَمَّا نُفِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أَبْطَلَ جَمِيعَ هَذِهِ التَّمَحُّلَاتِ.
وَأُجْرِيَ آلِهَةً مَجْرَى الْعُقَلَاءِ فَوُصِفُوا بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ بِقَوْلِهِ: يُعْبَدُونَ.
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جَرْيًا عَلَى مَا غَلَبَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِذِ اعْتَقَدُوهُمْ عُقَلَاءَ عَالِمِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَسَلْ بتَخْفِيف الْهمزَة.
[٤٦، ٤٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَوْلَهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦- ٨].
وَسَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ تَذْكِرَةً بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَا تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلَمَّا تَقَضَّى أُتْبِعَ بِتَنْظِيرِ حَال الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طُغَاةِ قَوْمِهِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِحَالِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَإِنَّ لِلْمِثْلِ وَالنَّظَائِرِ شَأْنًا فِي إِبْرَازِ الْحَقَائِقِ وَتَصْوِيرِ الْحَالَيْنِ تَصْوِيرًا يُفْضِي إِلَى تَرَقُّبِ مَا كَانَ لِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ مِنْ عَوَاقِبَ أَنْ تَلْحَقَ أَهْلَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى، فَإِن فِرْعَوْن وملئه تَلَقَّوْا مُوسَى بِالْإِسْرَافِ فِي الْكُفْرِ وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِاسْتِضْعَافِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَا بَذْخَةٍ وَلَا مُحَلًّى بِحِلْيَةِ الثَّرَاءِ وَكَانَتْ مُنَاسِبَةً قَوْلَهُ
223
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف:
٤٥] الْآيَةُ هَيَّأَتِ الْمَقَامَ لِضَرْبِ الْمَثَلِ بِحَالِ بَعْضِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِشَرِيعَةٍ عُظْمَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ قَوْلُهُ فِيهَا فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: ٥٥، ٥٦]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآخِرِينَ الْمُكَذِّبُونَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ. وَمِنَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِالْخُصُوصِ هُنَا: قَوْله وَمَلَائِهِ أَيْ عُظَمَاءِ قَوْمِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ شَبِيهٌ بِحَالِ أَبِي جَهْلٍ وَأَضْرَابِهِ، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَابِهٌ لِحَالِ قُرَيْشٍ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا من نبيء فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ من نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزخرف: ٦، ٧]، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف: ٥٢] لِأَنَّهُمْ أَشْبَهُوا بِذَلِكَ حَالَ أَبِي جَهِلٍ وَنَحْوِهِ فِي قَوْلِهِمْ:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ سَادَةِ قُرَيْشٍ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْأَدَبِ مِنْ كَلِمَةِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ رَسُولُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَتْرُكُوا جَانِبَ الْحَيَاءِ بِالْمَرَّةِ وَفِرْعَوْنُ كَانَ رَسُولُهُ غَرِيبًا عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف: ٥٣] لِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فَإِنَّ عَظَمَةَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ كَانَتْ بِوَفْرَةِ الْمَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قِصَصِ بِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُمْ: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ [الزخرف: ٤٩] وَهُوَ مُضَاهٍ لِقَوْلِهِ فِي قُرَيْشٍ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٣٠]، وَقَوْلُهُ: فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: ٥٥] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ، وَذَلِكَ إِنْذَارٌ بِمَا حَصَلَ مِنِ اسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَحَصَلَ مِنَ الْعبْرَة فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْجَهَلَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي رَدِّ فَضْلِ الْفُضَلَاءِ فَيَتَمَسَّكُونَ بِخُيُوطِ الْعَنْكَبُوتِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ صَاحِبَ الْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ صَارَ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا انْتَصَرَ عَلَيْهِ الَّذِي اسْتَضْعَفَهُ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
224
وَ (إِذا) حَرْفُ مُفَاجَأَةٍ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بعده حصل عَن غَيْرِ تَرَقُّبٍ فَتُفْتَتَحُ بِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُفَادُ مِنْهَا حُصُولُ حَادِثٍ عَلَى وَجْهِ الْمُفَاجَأَةِ. وَوَقَعَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا إِذا جَوَابًا لِحَرْفِ (لَمَّا)، وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَ (لَمَّا) تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهَا جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ مَا فِي إِذا مِنْ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَالضَّحِكُ: كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْآيَاتِ وَالتَّكْذِيبِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْحَاضِرِينَ صَدَرَ مِنْهُمْ ضَحِكٌ، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَ رُؤْيَةِ آيَةٍ إِذْ لَعَلَّ بَعْضَهَا لَا يَقْتَضِي الضَّحِكَ.
[٤٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٨]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)
الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَحْوَالٍ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ،
وَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ إِلَّا كَافِيَةٌ فِي الرَّبْطِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى فِي حَالِ أَنَّهَا آيَاتٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَة فَإِنَّمَا يَسْتَخِفُّونَ بِهَا لِمُكَابَرَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
وَصَوْغُ نُرِيهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ. وَمَعْنَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ تَأْتِي تَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَكُونُ هُنَالِكَ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ مِنْ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ مُتَرَتِّبَةً فِي الْعِظَمِ بِحَسَبِ تَأَخُّرِ أَوْقَاتِ ظُهُورِهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ بعد أُخْرَى ناشىء عَنْ عَدَمِ الِارْتِدَاعِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَيَحْتَمِلُ مَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْآيَاتِ مَوْصُوفَاتٌ بِالْكِبَرِ لَا بِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً فِيهِ وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَلَاقَى فِي الْفَضْلِ وَتَتَفَاوَتُ مَنَازِلُهَا فِيهِ
225
التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ، أَيْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا، فَعَلَى ذَلِكَ بَنَى النَّاسُ كَلَامَهُمْ فَقَالُوا: رَأَيْتُ رِجَالًا بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِيهَا فَتَارَةً يُفَضِّلُ هَذَا وَتَارَةً يُفَضِّلُ ذَاكَ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ (١) :
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
وَقَدْ فَاضَلَتِ الْأَنْمَارِيَّةُ (٢) بَيْنَ الْكَمَلَةِ مِنْ بَنِيهَا ثُمَّ قَالَتْ لَمَّا أَبْصَرْتُ مَرَاتِبَهُمْ مُتَقَارِبَةً قَلِيلَةَ التَّفَاوُتِ: ثَكِلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلُ، هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفَرَّغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا. فَالْمَعْنَى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَهِيَ آيَةٌ جَلِيلَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَادُ تُنْسِيهِمُ الْآيَةَ الْأُخْرَى. وَالْأُخْتُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمُمَاثَلَةِ فِي كَوْنِهَا آيَةً.
وَعُطِفَ وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ عَلَى جُمْلَةِ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ لِأَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْعَذَابُ: عَذَابُ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا يُؤْلِمُ وَيَشُقُّ، وَذَلِكَ الْقَحْطُ وَالْقُمَّلُ وَالطُّوفَانُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ فِي الْمَاءِ.
وَالْأَخْذُ بِمَعْنَى: الْإِصَابَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْعَذابِ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا تَقُولُ: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، أَيْ ابَتْدَأْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُفِيقُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَفِي هَذَا
تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ إِذْ أُصِيبُوا بِسِنِي الْقَحْطِ.
وَالرُّجُوعُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِذْعَانِ وَالِاعْتِرَافِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٨]. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي نُرِيهِمْ وأَخَذْناهُمْ، ولَعَلَّهُمْ عَائِدَةٌ إِلَى فِرْعَوْن وملئه.
[٤٩]
_________
(١) قَائِله هُوَ العرندس الْكلابِي أَو عبيد بن العرندس من أَبْيَات.
(٢) الأنمارية هِيَ فَاطِمَة بنت الخرشب الأنمارية أم الكملة من بني عبس وهم أَبنَاء زِيَاد: ربيع وَعمارَة وَقيس وَأنس. وَلَهُم ألقاب: الْكَامِل، والحافظ، والوهاب، وَأنس الفوارس.
226

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٩]

وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)
عَطَفَ عَلَى وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الزخرف: ٤٨]. وَالْمَعْنَى: وَلَمَّا أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ عَلَى يَدِ مُوسَى سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. وَمُخَاطَبَتُهُمْ مُوسَى بِوَصْفِ السَّاحِرِ مُخَاطَبَةُ تَعْظِيمٍ تَزَلُّفًا إِلَيْهِ لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُمْ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ وَكَانَتْ عُلُومُ عُلَمَائِهِمْ سِحْرِيَّةً، أَيْ ذَاتَ أَسْبَابٍ خَفِيِّةٍ لَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُمْ وَغَيْرُ أَتْبَاعِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ لَهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٣٦، ٣٧].
وَكَانَ السحر بِأَيْدِي الْكَهَنَةِ وَمِنْ مَظَاهِرِهِ تَحْنِيطُ الْمَوْتَى الَّذِي بقيت بِهِ جُثَثُ الْأَمْوَاتِ سَالِمَةً مِنِ الْبِلَى وَلَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهِ. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٤] قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَلَا تُنَافِي مَا هُنَا لِأَنَّ الْخِطَابَ خِطَابُ إِلْحَاحٍ فَهُوَ يَتَكَرَّرُ وَيُعَادُ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور بأيه السَّاحِرُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي الْوَقْفِ أَيْ بِفَتْحَةٍ دُونَ أَلِفٍ وَهُوَ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ رِوَايَةٌ. وَعَلَّلَهُ أَبُو شَامَةَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الرَّسْمَ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً وَهُوَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةُ أَيُّهَ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ، وَالْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْهَاءِ لِأَنَّهَا (هَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ يَفْصِلُ بَيْنَ (أَيْ) وَبَيْنَ نَعْتِهَا فِي النِّدَاءِ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ رَعْيًا لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالْأَصْلُ أَنْ يُرَاعَى فِي الرَّسْمِ حَالَةُ الْوَقْف.
وعنوا ب رَبَّكَ الرَّبَّ الَّذِي دَعَاهُمْ مُوسَى إِلَى عِبَادَتِهِ. وَالْقِبْطُ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَبًّا وَلَا يُحِيلُونَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ، وَكَانَتْ لَهُمْ أَرْبَابٌ كَثِيرُونَ مُخْتَلِفَةٌ أَعْمَالُهُمْ وَقَدْرُهُمْ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَانَتْ عَقَائِدُ الْيُونَانِ.
وَأَرَادُوا بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مَا خَصَّكَ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِكَ مِمَّا اسْتَطَعْتَ بِهِ أَنْ تَأْتِيَ بِخَوَارِقِ الْعَادَةِ.
وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ خَفِيَّةٍ قِيَاسًا عَلَى مَعَارِفِهِمْ
بِخَصَائِصِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَامَّةُ، وَكَانَ الْكَهَنَةُ يَعْهَدُونَ بِهَا إِلَى تَلَامِذَتِهِمْ وَيُوصُونَهُمْ بِالْكِتْمَانِ.
وَالْعَهْدُ: هُوَ الِائْتِمَانُ عَلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِهِ النُّبُوءَةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَإِذْ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الْعَهْدِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ادْعُ وَهِيَ لِلِاسْتِعَانَةِ. وَلَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ عَلِمُوا أَنَّ رَبَّ مُوسَى قَادِرٌ، وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عَهْدًا يَقْتَضِي اسْتِجَابَةَ سُؤْلِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ جَوَابٌ لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ ادْعُ لَنا رَبَّكَ أَي فَإِن دَعَوْتَ لَنَا وَكَشَفْتَ عَنَّا الْعَذَابَ لَنُؤَمِّنَنَّ لَكَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٤] لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ الْآيَةَ. فَ (مُهْتَدُونَ) اسْمُ فَاعِلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْوَعْدِ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله: يَنْكُثُونَ [الزخرف: ٥٠] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٢، ١٣] حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الْآيَةَ.
وَسَمَّوْا تَصْدِيقَهُمْ إِيَّاهُ اهْتِدَاءً لِأَنَّ مُوسَى سَمَّى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ هَدْيًا كَمَا فِي آيَةِ النَّازِعَاتِ [١٩] وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى.
[٥٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥٠]
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
أَيْ تَفَرَّعَ عَلَى تَضَرُّعِهِمْ وَوَعْدِهِمْ بِالِاهْتِدَاءِ إِذَا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ أَنَّهُمْ نَكَثُوا الْوَعْدَ.
وَالنَّكْثُ: نَقْضُ الْحَبْلِ الْمُبْرَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٥]، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْخَيْسِ بِالْعَهْدِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ آنِفًا فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [الزخرف: ٤٧].

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥١]

وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١)
لَمَّا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بِدَعْوَةِ مُوسَى، وَأَضْمَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ نَكْثَ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدُوهُ مُوسَى بِأَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ، خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَتَّبِعَ قَوْمُهُ دَعْوَةَ مُوسَى وَيُؤْمِنُوا بِرِسَالَتِهِ فَأَعْلَنَ فِي قَوْمِهِ تَذْكِيرَهُمْ بِعَظَمَةِ نَفْسِهِ لِيُثَبِّتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلِئَلَّا يَنْقُلَ إِلَيْهِمْ مَا سَأَلَهُ مِنْ مُوسَى وَمَا
حَصَلَ مِنْ دَعْوَتِهِ بِكَشْفِ الْعَذَابِ وَلِيَحْسَبُوا أَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَذَابِ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ إِذْ قَوْمُهُ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مِنْ سُؤَالِ كَشْفِ الْعَذَابَ.
وَالنِّدَاءُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي قَوْمِهِ. وَكَانَ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ مُنَادُونَ يُعَيَّنُونَ لِذَلِكَ وَرُبَّمَا نَادَوْا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرَادُ عِلْمُ النَّاسِ بِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٠] ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٣- ٥٥].
وَوَقَعَ فِي الْمَقَامَةِ الثَّلَاثِينَ لِلْحَرِيرِيِّ: «فَلَمَّا جَلَسَ كَأَنَّهُ ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ الْأَحْمَاءِ، وَحُرْمَةِ سَاسَانَ أُسْتَاذِ الْأُسْتَاذِينَ، وَقُدْوَةِ الشَّحَّاذِينَ، لَا عَقَدَ هَذَا الْعَقْدَ الْمُبَجَّلَ، فِي هَذَا الْيَوْمِ الْأَغَرِّ الْمُحَجَّلِ، إِلَّا الَّذِي جَالَ وَجَابَ، وَشَبَّ فِي الْكُدْيَةِ وَشَابَ».
فَذَلِكَ نِدَاءٌ لِإِعْلَانِ الْعَقْدِ.
وَجُمْلَةُ قالَ إِلَخْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نَادَى، وَالْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ فِي قالَ مِثْلُ الَّذِي فِي وَنادى فِرْعَوْنُ.
وَفِرْعَوْنُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي.
فَالْأَنْهَارُ: فُرُوعُ النِّيلِ وَتُرَعُهُ، لِأَنَّهَا لِعِظَمِهَا جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ نَهَرٍ فَجُمِعَتْ عَلَى أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ لِنَهَرٍ وَاحِدٍ هُوَ النِّيلُ. فَإِنْ كَانَ مَقَرُّ مُلْكِ فِرْعَوْنَ هَذَا فِي مَدِينَةِ مَنْفِيسَ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ إِشَارَةً إِلَى تَفَارِيعِ النِّيلِ الَّتِي تَبْتَدِئُ قُرْبَ الْقَاهِرَةِ فَيَتَفَرَّعُ النِّيلُ بِهَا إِلَى فَرْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ فَرْعُ دِمْيَاطَ
وَفَرْعُ رَشِيدٍ، وَتُعْرَفُ بِالدِّلْتَا. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ الَّذِي كَانَ يُدْعَى فَرْعُ تَنِيسَ لِأَنَّ تَنِيسَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَغَمَرَهَا الْبَحْرُ، وَلَهُ تَفَارِيعُ أُخْرَى صَغِيرَةٌ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تُرْعَةٌ، مِثْلُ تُرْعَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَهُنَالِكَ تَفَارِيعُ أُخْرَى تُدْعَى الرَّيَاحُ. وَإِنْ كَانَ مَقَرُّ مُلْكِهِ طَيْبَةَ الَّتِي هِيَ بِقُرْبِ مَدِينَةِ آبُو الْيَوْمَ فَالْإِشَارَةُ إِلَى جَدَاوِلِ النِّيلِ وَفُرُوعِهِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ لِعُيُونِهِمْ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ادَّعَى أَنَّ النِّيلَ يَجْرِي بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْ تَحْتِي كِنَايَةً عَنِ التَّسْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ [التَّحْرِيم: ١٠] أَيْ كَانَتَا فِي عِصْمَتِهِمَا. وَيَقُولُ النَّاسُ: دَخَلَتِ الْبَلْدَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَحْتَ الْمَلِكِ فُلَانٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّيْلَ يَجْرِي فِي مَمْلَكَتِهِ مِنْ بِلَادِ أَصْوَانَ إِلَى الْبَحْرِ
فَيَكُونُ فِي تَحْتِي اسْتِعَارَةً لِلتَّمَكُّنِ مِنْ تَصَارِيفِ النِّيلِ كَالِاسْتِعَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مَرْيَم: ٢٤] عَلَى تَفْسِيرِ (سَرِيًّا) بِنَهْرٍ، وَكَانَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يَرُوجُ عَلَى الدَّهْمَاءِ لِسَذَاجَةِ عُقُولِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَنْهَارِ مَصَبَّ الْمِيَاهِ الَّتِي كَانَتْ تَسْقِي الْمَدِينَةَ وَالْبَسَاتِينَ الَّتِي حَوْلَهَا وَأَنَّ تَوْزِيعَ الْمِيَاهِ كَانَ بِأَمْرِهِ فِي سِدَادٍ وَخِزَانَاتٍ، فَهُوَ يهوّل عَلَيْهِم بِأَنَّهُ إِذَا شَاءَ قَطَعَ عَنْهُمُ الْمَاءَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ يُوسُفَ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [يُوسُف: ٥٩] فَيَكُونُ مَعْنَى مِنْ تَحْتِي مِنْ تَحْتِ أَمْرِي أَيْ لَا تَجْرِي إِلَّا بِأَمْرِي، وَقَدْ قِيلَ: كَانَتِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي تَحْتَ قَصْرِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَلا تُبْصِرُونَ تَقْرِيرِيٌّ جَاءَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ تَحْقِيقًا لِإِقْرَارِهِمْ حَتَّى أَنَّ الْمُقَرِّرَ يَفْرِضُ لَهُمُ الْإِنْكَارَ فَلَا يُنكرُونَ.
[٥٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥٢]
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢)
أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَأَنَا خَيْرٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ اللَّازِمُ تَقْدِيرُهُ بَعْدَهَا تَقْرِيرِيٌّ. وَمَقْصُودُهُ: تَصْغِيرُ شَأْنِ مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ بِأَشْيَاءَ هِيَ عَوَارِضُ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً انْتَقَلَ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ نَفْسِهِ إِلَى إِظْهَارِ
230
الْبَوْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُ دِينَهُ وَعِبَادَةَ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا. وَالْإِشَارَةُ هُنَا لِلتَّحْقِيرِ. وَجَاءَ بِالْمَوْصُولِ لِادِّعَاءِ أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ شَيْءٌ عُرِفَ بِهِ مُوسَى.
وَالْمَهِينُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: الذَّلِيلُ الضَّعِيفُ، أَرَادَ أَنَّهُ غَرِيبٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بُيُوتِ الشَّرَفِ فِي مِصْرَ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ يَعْتَزُّ بِهِمْ، وَهَذَا سَفْسَطَةٌ وَتَشْغِيبٌ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ انْتِصَارٍ حَتَّى يُحَقَّرَ الْقَائِمُ فِيهِ بِقِلَّةِ النَّصِيرِ، وَلَا مَقَامَ مُبَاهَاةٍ حَتَّى يُنْتَقَصَ صَاحِبُهُ بِضَعْفِ الْحَالِ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَكادُ يُبِينُ إِلَى مَا كَانَ فِي مَنْطِقِ مُوسَى مِنَ الْحُبْسَةِ وَالْفَهَاهَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي الْآيَةِ عَنْ مُوسَى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الْقَصَص: ٣٤] وَفِي الْأُخْرَى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: ٢٧، ٢٨]، وَلَيْسَ مَقَامُ مُوسَى يَوْمَئِذٍ مَقَامَ خَطَابَةٍ وَلَا تَعْلِيمٍ وَتَذْكِيرٍ حَتَّى تَكُونَ قِلَّةُ الْفَصَاحَةِ نَقْصًا فِي عَمَلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَقَامُ اسْتِدْلَالٍ وَحُجَّةٍ فَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِبْلَاغِ مُرَادِهِ وَلَوْ بِصُعُوبَةٍ وَقَدْ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ حِينَ تَفَرَّغَ لِدَعْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا قَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى [طه: ٣٦]. وَلَعَلَّ فِرْعَوْنُ قَالَ ذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ فِي بَيْتِ فِرْعَوْنَ فَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ لِيُذَكِّرَ النَّاسَ بِأَمْرٍ قَدِيمٍ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي بُعِثَ مُوسَى فِي
زَمَنِهِ هُوَ مِنْفِطَاحُ الثَّانِي وَهُوَ ابْنُ رَعْمَسِيسَ الثَّانِي الَّذِي وُلِدَ مُوسَى فِي أَيَّامِهِ وَرُبِّيَ عِنْدَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ (مِنْفِطَاحَ) كَانَ يَعْرِفُ مُوسَى وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨].
وَأَمَّا رَسُولنَا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ ذَاتِ فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ وَكَانَتْ مُعْجِزَتُهُ الْقُرْآنَ الْمُعْجِزَ فِي بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَكَانَتْ صِفَةُ الرَّسُولِ الْفَصَاحَةَ لِتُكُونَ لَهُ الْمَكَانَةُ الْجَلِيلَةُ فِي نُفُوسِ قَوْمِهِ.
وَمَعْنَى وَلا يَكادُ يُبِينُ وَيَكَادُ أَنْ لَا يُبِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
231

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥٣]

فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)
لَمَّا تَضَمَّنَ وَصْفُهُ مُوسَى بِمَهِينٍ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهُ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ تَرَقِّيَا فِي إِحَالَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَفِرْعَوْنُ لِجَهْلِهِ أَوْ تَجَاهُلِهِ يُخَيِّلُ لِقَوْمِهِ أَنَّ لِلرِّسَالَةِ شِعَارًا كَشِعَارِ الْمُلُوكِ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. [الزخرف: ٣١].
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْإِنْزَالِ، أَيْ هَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَيْ سَوَّرَهُ الرَّبُّ بِهَا لِيَجْعَلَهُ مَلِكًا عَلَى الْأُمَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَسَاوِرَةٌ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ أَسْوِرَةٌ.
وَالْأَسَاوِرَةُ: جَمْعُ أَسْوَارٍ لُغَةً فِي سِوَارٍ. وَأَصْلُ الْجَمْعِ أَسَاوِيرُ مُخَفَّفٌ بِحَذْفِ إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ ثُمَّ عَوَّضَ الْهَاء عَن الْمَحْذُوف كَمَا عَوَّضَتْ فِي زَنَادِقَةٍ جَمْعُ زِنْدِيقٍ إِذْ حَقُّهُ زَنَادِيقُ.
وَأَمَّا سِوَارٌ فَيُجْمَعُ عَلَى أَسْوِرَةٍ.
وَالسِّوَارُ: حَلْقَةٌ عَرِيضَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ تُحِيطُ بِالرُّسْغِ، هُوَ عِنْدُ مُعْظَمِ الْأُمَمِ مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَوْ ذَاتُ سَوَارٍ لَطَمَتْنِي أَيْ لَوْ حُرَّةٌ لَطَمَتْنِي، قَالَهُ أَحَدُ الْأَسْرَى لَطْمَتْهُ أَمَةٌ لِقَوْمٍ هُوَ أَسِيرُهُمْ. وَكَانَ السِّوَارُ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ بِفَارِسَ وَمِصْرَ يَلْبَسُ الْمَلِكُ سِوَارَيْنِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ شِعَارِ الْفَرَاعِنَةِ لُبْسُ سِوَارَيْنِ أَوْ أَسْوِرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَرُبَّمَا جَعَلُوا سِوَارَيْنِ عَلَى الرُّسْغَيْنِ وَآخَرَيْنِ عَلَى الْعَضُدَيْنِ. فَلَمَّا تَخَيَّلَ فِرْعَوْنُ أَنَّ رُتْبَةَ الرِّسَالَةِ
مِثْلُ الْمُلْكِ حَسَبَ افْتِقَادَهَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ عِنْدَهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ الرِّسَالَةِ.
وأَوْ لِلتَّرْدِيدِ، أَيْ إِنْ لَمْ تُلْقَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ من ذهب فلتجىء مَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ شَاهِدِينَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ وُجُودَ الْمَلَائِكَةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ فَلَعَلَّ فِرْعَوْنُ ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ مُجَارَاةً لِمُوسَى إِذْ لَعَلَّهُ سَمِعَ مِنْهُ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ فَأَرَادَ إِفْحَامَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَظْهَرُونَ لَهُ.
ومُقْتَرِنِينَ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ، أَيْ مُقْتَرِنِينَ مَعَهُ فَهَذِهِ الْحَالُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى مَعَهُ لِئَلَّا يُحْمَلَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ عَلَى إِرَادَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَيِّدُهُ بِالْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَرَنْتُهُ بِهِ فَاقْتَرَنَ، أَيْ مُقْتَرِنِينَ بِمُوسَى وَهُوَ اقْتِرَانُ النصير لنصيره.
[٥٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥٤]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
أَيْ فَتَفَرَّعَ عَنْ نِدَاءِ فِرْعَوْنَ قَوْمَهُ أَنْ أَثَّرَ بِتَمْوِيهِهِ فِي نُفُوسِ مَلَئِهِ فَعَجَّلُوا بِطَاعَتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِاتِّبَاعِ مُوسَى لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ. فَالْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةِ التَّأَمُّلِ فِي خَلْعِ طَاعَةِ فِرْعَوْنَ وَالتَّثَاقُلِ فِي اتِّبَاعِهِ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالِامْتِثَالِ لَهُ كَمَا يَخِفُّ الشَّيْءُ بَعْدَ التَّثَاقُلِ.
وَالْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ فَأَسْرَعُوا إِلَى التَّصْدِيقِ بِمَا قَالَهُ بَعْدَ أَنْ صَدَّقُوا مُوسَى فِي نُفُوسِهِمْ لَمَّا رَأَوْا آيَاتِهِ نُزُولًا وَرَفْعًا. وَالْمُرَادُ بِ قَوْمَهُ هُنَا بَعْضُ الْقَوْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَضَرُوا مَجْلِسَ دَعْوَةِ مُوسَى هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَانُوا فِي صُحْبَةِ فِرْعَوْنَ.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي استخف لمبالغة فِي أَخَفَّ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ [آل عمرَان: ١٥٥] وَقَوْلُهُمْ: هَذَا فِعْلٌ يَسْتَفِزُّ غَضَبَ الْحَلِيمِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةٍ فَأَطاعُوهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي غَيْرِ مَقَامِ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ قَدْ كَانُوا فَاسْقِينَ أَمْرٌ بَيَّنَ ضَرُورَةَ أَنَّ مُوسَى جَاءَهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَلَا يَقْتَضِي فِي الْمَقَامِ تَأْكِيدَ كَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، أَيْ كَافِرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَفُّوا لِطَاعَةِ رَأْسِ الْكُفْرِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَلِّهُونَ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا حَصَلَ
لَهُمْ تَرَدُّدٌ فِي شَأْنِهِ بِبِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ رَجَعُوا إِلَى طَاعَةِ فِرْعَوْنَ بِأَدْنَى سَبَبٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا: الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ فِي شَأْنِهِمْ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥] سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ.
[٥٥، ٥٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٦]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
عُقِّبَ مَا مَضَى مِنَ الْقِصَّةِ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ الْمُتَفَرِّعُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهِيَ: الِانْتِقَامُ، فَالْإِغْرَاقُ، فَالِاعْتِبَارُ بِهِمْ فِي الْأُمَمِ بَعْدَهُمْ.
وَالْأَسَفُ: الْغَضَبُ الْمَشُوبُ بِحُزْنٍ وَكَدَرٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى صَنِيعِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِعْلُ آسَفُونا لِأَنَّهُ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ انْتِقَامُ اللَّهِ مِنْهُمُ انْتِقَامًا كَانْتِقَامِ الْآسِفِ لِأَنَّهُمْ عَصَوْا رَسُولَهُ وَصَمَّمُوا عَلَى شِرْكِهِمْ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتِ الصِّدْقِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَاسْتُعِيرَ آسَفُونا لِمَعْنَى عَصَوْنَا لِلْمُشَابَهَةِ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا عَصَوْنَا عِصْيَانَ الْعَبْدِ رَبَّهُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْآسِفِ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْغَضَبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ كَمَا يُعَامِلُ السَّيِّدُ الْمَأْسُوفُ عَبْدًا أَسَفَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ لِرَحْمَةِ سَيِّدِهِ مَسْلَكًا. وَفِعْلُ آسَفَ قَاصِرٌ فَعُدِّيَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْهَمْزَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونا إِيجَازٌ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مُؤْسَفِينَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ حَتَّى يُبْنَى أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ فَدَلَّ إِنَاطَةُ أَدَاةِ التَّوْقِيتِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَآسَفُونَا فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ. وَالِانْتِقَامُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف: ٤١].
وَإِنَّمَا عُطِفَ فَأَغْرَقْناهُمْ بِالْفَاءِ عَلَى انْتَقَمْنا مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ إِغْرَاقَهُمْ هُوَ عَيْنُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، إِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ انْتَقَمْنا مُؤَوَّلٌ بِقَدَّرْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَيَكُونُ
234
عَطْفُ فَأَغْرَقْناهُمْ بِالْفَاءِ كَالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢]، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ تَسَبُّبِ آسَفُونا فِي الْإِغْرَاقِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: انْتَقَمْنَا مِنْهُم فأغرقناهم، عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ فَأَغْرَقْناهُمْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَزِيدَتِ الْفَاءُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى التَّبْيِينِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ عَاطِفَةً جُمْلَةَ انْتَقَمْنا عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ [الزخرف: ٥٤] فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ انْتَقَمْنا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ وَالْمُفَرَّعَةِ عَنْهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي
الْيَمِ
[الْأَعْرَاف: ١٣٦].
وَفُرِّعَ عَلَى إِغْرَاقِهِمْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ سَلَفًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ، أَيْ يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ. وَالسَّلَفُ بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: جَمْعُ سَالِفٍ مِثْلَ: خَدَمٍ لِخَادِمٍ، وَحَرَسٍ لِحَارِسٍ. وَالسَّالِفُ الَّذِي يَسْبِقُ غَيْرَهُ فِي الْوُجُودِ أَوْ فِي عَمَلٍ أَوْ مَكَانٍ، وَلَمَّا ذُكِرَ الِانْتِقَامُ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّلَفِ هُنَا السَّالِفَ فِي الِانْتِقَامِ، أَيْ أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ سَيَلْقَوْنَ مِثْلَ مَا لَقَوْا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَالْكِسَائِيُّ سَلَفاً بِضَمِّ السِّينِ وَضَمِّ اللَّامِ وَهُوَ جَمْعُ سَلِيفٍ اسْمٌ لِلْفَرِيقِ الَّذِي سَلَفَ وَمَضَى.
وَالْمَثَلُ: النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ، يُقَالُ: مَثَلَ بِفَتْحَتَيْنِ كَمَا يُقَالُ شَبَهُ، أَيْ مُمَاثِلٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمَثَلُ وَاحِدٌ يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ. وَأُطْلِقَ الْمَثَلُ عَلَى لَازِمِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ عِبْرَةً لِلْآخِرِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْعَجِيبِ الشَّأْنِ الَّذِي يَسِيرُ بَيْنَ النَّاسِ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ لِلْآخَرِينَ حَدِيثًا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ وَيَعِظُهُمْ بِهِ مُحَدِّثُهُمْ.
وَمَعْنَى الْآخِرِينَ، النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ آخِرُ مُمَاثِلٍ لَهُمْ فِي حِينِ هَذَا الْكَلَامِ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ المكذبون للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ آخِرُ الْأُمَمِ الْمُشَابِهَةِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا لَكُمْ وَمَثَلًا لَكُمْ فَاتَّعِظُوا بِذَلِكَ.
وَيَتَعَلَّقُ لِلْآخِرِينَ بِ سَلَفاً وَمَثَلًا عَلَى وَجه التَّنَازُع.
235

[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٥٨]

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)
عَطَفَ قِصَّةً مَنَّ أَقَاصِيصِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ أَقَاوِيلِهِمْ، جَرَتْ فِي مُجَادَلَةٍ مِنْهُمْ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا تَصْدِيرٌ وَتَمْهِيدٌ بَيْنَ يَدَيْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ [الزخرف: ٦٣] الْآيَاتِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ذِكْرِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
واقتران الْكَلَام بلما الْمُفِيدَةِ وُجُودَ جَوَابِهَا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا، أَوْ تَوْقِيتِهِ، يَقْتَضِي أَنَّ مَضْمُونَ شَرْطِ لَمَّا مَعْلُومُ الْحُصُولِ وَمَعْلُومُ الزَّمَانِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَدِيثٍ جَرَى بِسَبَبٍ مِثْلُ ضَرَبَهُ ضَارِبٌ لِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ عِيسَى، عَلَى أَن قَوْلهم أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ جَرَى فِي أَثْنَاءِ الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِ عِيسَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ حِكَايَةِ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ عَقَائِدِهِمْ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ مَا يعرفهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ جَدَلٍ جَرَى مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَزِيدُهُ بَيَانًا قَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: ٥٩] وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَخْفَى آيِ الْقُرْآنِ مَعْنًى مُرَادًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يُبَيِّنُ إِجْمَالَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ» وَزَادَ مِنْ عِنْدِهِ احْتِمَالًا رَابِعًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا ثَانِيًا وَوَجْهًا ثَالِثًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَمِعُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى.. كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: ٥٩] وَلَيْسَ خُلْقُهُ مِنْ دُونِ أَبٍ بِأَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ آدَمَ مِنْ دُونِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ أَوْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسُورَةَ الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ قَالُوا: نَحْنُ أَهْدَى مِنَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا آدَمِيًّا وَنَحْنُ عَبَدَنَا الْمَلَائِكَةَ أَيْ يَدْفَعُونَ مَا سَفَّهَهُمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يُسَفِّهَ النَّصَارَى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنْ تَجَاهُلٍ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَدٍّ عَلَى النَّصَارَى.
236
وَالَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٨] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ إِذْ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى قَبْلَ إِسْلَامه للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَاصَّةٌ لَنَا وَلِآلِهَتِنَا أَمْ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ لَكُمْ وَلِآلِهَتِكُمْ وَلِجَمِيعِ الْأُمَمِ»، قَالَ: «خَصَمْتُكَ وَرَبُّ الْكَعْبَةِ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ نَبِيءٌ وَقَدْ عَبَدَتْهُ النَّصَارَى فَإِنْ كَانَ عِيسَى فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِيَنَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا مَعَهُ»
فَفَرِحَ بِكَلَامِهِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَضَجَّ أَهْلُ مَكَّةَ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٠١] وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى لِجَاجِهِمْ.
وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَزِيدُ فِي رِوَايَةِ كَلَامِ ابْنِ الزِّبَعْرَى: وَقَدْ عَبَدَتْ بَنُو مُلَيْحٍ الْمَلَائِكَةَ فَإِنْ كَانَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةُ فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِينَا. وَهَذَا يَتَلَاءَمُ مَعَ بِنَاءِ فِعْلِ ضُرِبَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ عِيسَى مَثَلًا لِمُجَادَلَتِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى، وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ مَضْرُوبًا فِي الْقُرْآنِ لَقَالَ: وَلَمَّا ضَرَبْنَا ابْنَ مَرْيَمَ مَثَلًا، كَمَا قَالَ بَعْدَهُ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: ٥٩]. وَيَتَلَاءَمُ مَعَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ يَصِدُّونَ بِحَرْفِ (مِنْ) الِابْتِدَائِيَّةِ دُونَ حَرْفِ (عَنْ) وَمَعَ قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي ضَرَبُوهُ عَائِدٌ إِلَى ابْنِ مَرْيَمَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ عَلَى هَذَا الْمُمَثَّلُ بِهِ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ، لِأَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى نَظَّرَ آلِهَتَهُمْ بِعِيسَى فِي أَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِثْلَهُ فَإِذَا كَانُوا فِي النَّارِ كَانَ عِيسَى كَذَلِكَ. وَلَا يُنَاكِدُ هَذَا الْوَجْهَ إِلَّا مَا جَرَى عَلَيْهِ عَدُّ السُّوَرِ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ مِنْ عَدِّ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي كَانَتْ آيَتُهَا سَبَبَ الْمُجَادَلَةِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ وَلَعَلَّ تَصْحِيحَ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ بَكُرَ بِالْإِبْطَالِ عَلَى مَنْ جَعَلَ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِالْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ تَرْتِيبُ النُّزُولِ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَلَا بِمُحَقَّقِ السَّنَدِ فَهُوَ يُقْبَلُ مِنْهُ مَا لَا مُعَارِضَ لَهُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ ثُمَّ تُلْحَقُ بِسُورَةٍ نَزَلَتْ قَبْلَهَا.
237
فَإِذَا رُجِّحَ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ كَانَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِابْنِ الزِّبَعْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠١] لِأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ شُمُولِ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨] لِعِيسَى مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ نَظَرٌ وَإِنْصَافٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا إِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَى مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ لَا إِلَى مَعْبُودِ النَّصَارَى وَقَلِيلٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ بِالْخِطَابِ الْقُرْآنِيِّ أَيَّاَمَئِذٍ، وَلَمَّا أجابهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْآيَةَ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ إِنَّمَا عَنَى الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ أَصْنَامِهِمْ لَا تَفْقَهُ وَلَا تَتَّصِفُ بِزَكَاءٍ، بِخِلَافِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمُ الْقُرْآنُ بِرِفْعَةِ الدَّرَجَةِ قَبْلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا، إِذْ لَا لَبْسَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِقَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا جَوَابًا إِجْمَالِيًّا، أَيْ مَا أَرَادُوا بِهِ إِلَّا التَّمْوِيهَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ تُفِيدُ أَنَّ عِيسَى لَيْسَ حَصَبَ جَهَنَّمَ، وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ إِجْمَالٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ وَتَذْكِيرٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحَادِثَةِ حِينَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٍ يَصِدُّونَ بِضَمِّ الصَّادِّ مِنَ الصُّدُودِ إِمَّا بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ وَالْمُعْرَضُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا بِجَدَلِهِمْ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَنَاقُضًا، وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الضَّمَّ لُغَةٌ فِي مُضَارِعِ صَدَّ بِمَعْنَى ضَجَّ مِثْلُ لُغَةِ كَسْرِ الصَّادِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الصَّادِ وَهُوَ الصَّدُّ بِمَعْنَى الضَّجِيجِ وَالصَّخَبِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا قُرَيْشٌ قَوْمُكَ يَصْخَبُونَ وَيَضِجُّونَ مِنِ احْتِجَاجِ ابْنِ
الزِّبَعْرَى بِالْمَثَلِ بِعِيسَى فِي قَوْلِهِ، مُعْجَبِينَ بِفَلْجِهِ وَظُهُورِ حُجَّتِهِ لِضَعْفِ إِدْرَاكِهِمْ لِمَرَاتِبِ الِاحْتِجَاجِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِعُنْوَانِ قَوْمُكَ. لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيْفَ فَرِحُوا مِنْ تَغَلُّبِ ابْنِ الزِّبَعْرَى على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِمْ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ مَعَ أَنَّهُمْ قَوْمُكَ وَلَيْسُوا قَوْمَ عِيسَى وَلَا أَتْبَاعَ دِينِهِ فَكَانَ فَرَحُهُمْ ظُلْمًا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، قَالَ زُهَيْرٌ:
238
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً عَلَى الْمَرْءِ مَنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْهُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ يَصِدُّونَ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ (عَنْ)، وَلَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِهَا عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِ يَصِدُّونَ تَعَلُّقًا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ يَصُدُّونَ صَدًّا نَاشِئًا مِنْهُ، أَيْ مِنَ الْمَثَلِ، أَيْ ضُرِبَ لَهُمْ مَثَلٌ فَجَعَلُوا ذَلِكَ الْمَثَلَ سَبَبًا لِلصَّدِّ. وَقَالُوا جَمِيعًا: آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، تَلَقَّفُوهَا مِنْ فَمِ ابْنِ الزِّبَعْرَى حِينَ قَالَهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادُوهَا. فَهَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى: إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى نَبِيءٌ وَقَدْ عَبَدَتْهُ النَّصَارَى فَإِنْ كَانَ عِيسَى فِي النَّارِ قَدْ رَضِينَا أَنْ نَكُونَ وَآلِهَتُنَا فِي النَّارِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ تَقْرِيرِيٌّ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيءَ يُفَضِّلُ عِيسَى عَلَى آلِهَتِهِمْ، أَيْ فَقَدْ لَزِمَكَ أَنَّكَ جَعَلْتَ أَهْلًا لِلنَّارِ مَنْ كُنْتَ تُفَضِّلُهُ فَأَمْرُ آلِهَتِنَا هَيِّنٌ.
وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي مَا ضَرَبُوهُ عَائِدٌ إِلَى ابْنِ الزِّبَعْرَى وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أُعْجِبُوا بِكَلَامِهِ وَقَالُوا بِمُوجَبِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ الْغَائِبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا لَكَ ذَلِكَ الْمَثَلَ إِلَّا جَدَلًا مِنْهُمْ، أَيْ مُحَاجَّةً وَإِفْحَامًا لَكَ وَلَيْسُوا بِمُعْتَقِدِينَ هَوْنَ أَمْرِ آلِهَتِهِمْ عِنْدَهُمْ، وَلَا بِطَالِبِينَ الْمَيْزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عِيسَى خَيْرٌ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا مُجَارَاةَ النَّبِيءِ فِي قَوْلِهِ لِيُفْضُوا إِلَى إِلْزَامِهِ بِمَا أَرَادُوهُ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي ضَرَبُوهُ عَائِدًا إِلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ فِعْلِ وَقالُوا، أَيْ مَا ضَرَبُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ، أَيْ مَا قَالُوهُ إِلَّا جَدَلًا. فَالضَّرْبُ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ بَيْتًا، وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا
239
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا جَدَلًا مُفَرَّغٌ لِلْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ أَوْ لِلْحَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ
جَدَلًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ مَا ضَرَبُوهُ لِشَيْءٍ إِلَّا لِلْجَدَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِهِ بِمُجَادِلِينَ أَيْ مَا ضَرَبُوهُ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ أَنَّهُمْ مُجَادِلُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى وَصْفِهِمْ بِحُبِّ الْخِصَامِ وَإِظْهَارِهِمْ مِنَ الْحُجَجِ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ تَمْوِيهًا عَلَى عَامَّتِهِمْ.
وَالْخَصْمُ بِكَسْرِ الصَّادِ: شَدِيدُ التَّمَسُّكِ بِالْخُصُومَةِ وَاللَّجَاجِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ عِنْدَهُ، فَهُوَ يُظْهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور آلِهَتُنا بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ بتخفيفها.
[٥٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥٩]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
لَمَّا ذُكِرَ مَا يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ جِدَالِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨]، وَكَانَ سَبَبُ جِدَالِهِ هُوَ أَنَّ عِيسَى قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمْ يَتْرُكِ الْكَلَامَ يَنْقَضِي دُونَ أَنْ يُرْدِفَ بِتَقْرِيرِ عُبُودِيَّةِ عِيسَى لِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، إِظْهَارًا لِخَطَلِ رَأْيِ الَّذِينَ ادَّعَوْا إِلَهِيَّتَهُ وَعَبَدُوهُ وَهُمُ النَّصَارَى حِرْصًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لِلْحَقِّ.
وَقَدْ قُصِرَ عِيسَى عَلَى الْعُبُودِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ قَصْرِ الْقَلْبِ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ زَعَمُوهُ إِلَهًا، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ لَا إِلَهٌ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ. ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ: أَنْعَمْنا عَلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَدْ فُضِّلَ بِنِعْمَةِ الرِّسَالَةِ، أَيْ فَلَيْسَتْ لَهُ خُصُوصِيَّةُ مَزِيَّةٍ عَلَى بَقِيَّةِ الرُّسُلِ، وَلَيْسَ تَكْوِينُهُ بِدُونِ أَبٍ إِلَّا إِرْهَاصًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَهُوَ إِبْطَالٌ لِشُبْهَةِ الَّذِينَ أَلَّهُوهُ
بِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ كَوْنَهُ خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يُفِيدُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ كَانَ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ دُونَ أَنْ يَقْرَبَهَا ذَكَرٌ لِيَكُونَ عِبْرَةً عَجِيبَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ ضَعُفَ إِيمَانُهُمْ بِالْغَيْبِ وَبَعْدَ عَهْدِهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ فَبَعَثَ اللَّهُ عِيسَى مُجَدِّدًا لِلْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ، وَمُبَرْهِنًا بِمُعْجِزَاتِهِ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَمُعِيدًا لِتَشْرِيفِ اللَّهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، وَمُظْهِرًا لِفَضِيلَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَلِعِنَادِ الَّذِينَ مَنَعَهُمُ الدَّفْعُ عَنْ حُرْمَتِهِمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِمُعْجِزَاتِهِ فَنَاصَبُوهُ الْعَدَاءَ وَسَعَوْا لِلتَّنْكِيلِ بِهِ وَقَتْلِهِ فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَفَعَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَاهْتَدَى بِهِ أَقْوَامٌ وَافْتَتَنَ بِهِ آخَرُونَ. فَالْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى
الْعِبْرَةِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: ٥٦].
وَفِي قَوْلِهِ: لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِيسَى لَمْ يُبْعَثْ إِلَّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ، وَمَنِ اتَّبَعُوهُ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُصُورِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَإِنَّمَا تَقَلَّدُوا دَعْوَتَهُ لِأَنَّهَا تُنْقِذُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ والوثنية والتعطيل.
[٦٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٦٠]
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
لَمَّا أَشَارَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالَةِ الَّذِينَ زَعَمُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، مِنْ قَصْرِهِ عَلَى كَوْنِهِ عَبْدًا لِلَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ وَأَنَّهُ عِبْرَةٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عُقِّبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا يُمَاثِلُ تِلْكَ الضَّلَالَةَ، وَهِيَ ضَلَالَةُ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي ادِّعَاءِ بُنُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمِ حِكَايَتُهَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥] الْآيَاتِ فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى جَعَلَ مَكَانَهُمُ الْعَوَالِمَ الْعُلْيَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ بَدَلًا عَنِ النَّاسِ، أَيْ أَنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَهُمْ بِالذَّاتِ وَمَا هُوَ إِلَّا وَضْعٌ بِجَعْلٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ لِلْأَرْضِ سُكَّانًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَكَسَ فَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ فِي الْأَرْضِ بَدَلًا عَنْ
النَّاسِ، فَلَيْسَ تَشْرِيفُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِسُكْنَى الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا بِمُوجِبٍ بُنُوَّتَهُمْ لِلَّهِ وَلَا بِمُقْتَضٍ لَهُمْ إِلَهِيَّةً، كَمَا لَمْ يَكُنْ تَشْرِيفُ عِيسَى بِنِعْمَةِ الرِّسَالَةِ وَلَا تَمْيِيزُهُ بِالتَّكَوُّنِ مِنْ دُونِ أَبٍ مُقْتَضِيًا لَهُ إِلَهِيَّةً وَإِنَّمَا هُوَ بِجَعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ.
وَجُعِلَ شَرْطُ لَوْ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ لَمْ تَزَلْ مُمْكِنَةً بِأَنْ يُعَوِّضَ لِلْمَلَائِكَةِ سُكْنَى الْأَرْضِ.
وَمَعْنَى (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ الْبَدَلِيِّةُ وَالْعِوَضُ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: ٣٨].
وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ (جَعَلَنَا)، وَقُدِّمَ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْبَدَلِيِّةِ لِتَتَعَمَّقَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ فِي تَدَبُّرِهَا.
وَجُمْلَةُ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ شِبْهِ الْجُمْلَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْكُمْ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَخْلُفُونَ لِدَلَالَةِ مِنْكُمْ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُ هَذَا الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ بَيَانًا لِمَضْمُونِ مِنْكُمْ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَعَلَيْهِ دَرَجَ الْمُحَقِّقُونَ. وَمُحَاوَلَةُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» حَمْلُ مِنْكُمْ عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَائِيَّةِ وَالِاتِّصَالُ لَا يُلَاقِي سِيَاق الْآيَات.
[٦١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٦١]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها.
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرِدَاتٍ وَاعْتِرَاضًا اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَةُ.
لَمَّا أُشْبِعَ مَقَامُ إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ ثُنِي الْعِنَانُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. وَهَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُنْكِرِينَ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ وَبِذَلِكَ
242
فَسَّرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَيَكُونُ هَذَا ثَنَاءً ثَامِنًا عَلَى الْقُرْآنِ، فَالثَّنَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ اسْتَمَرَّ مُتَّصِلًا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ آخِذًا بَعْضَهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ مُتَخَلَّلًا بِالْمُعْتَرِضَاتِ وَالْمُسْتَطْرِدَاتِ وَمُتَخَلِّصًا إِلَى هَذَا الثَّنَاءِ الْأَخِيرِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ.
وَيُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: ٤٣] وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، عَلَى أَنَّ وُرُودَ مِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْقُرْآنُ كَثِيرٌ مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ مَعَادٍ فَضْلًا عَلَى وُجُودِ مَعَادِهِ.
وَمَعْنَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْقُرْآنَ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالدِّينِ الْخَاتَمِ لِلشَّرَائِعِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ إِلَّا انْتِظَارُ انْتِهَاءِ الْعَالَمِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا
رُوِيَ مِنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى مُشِيرًا إِلَيْهِمَا»
، وَالْمُشَابَهَةُ فِي عَدَمِ الْفَصْلِ بَينهمَا.
وَإسْنَاد لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ إِذْ فِيهِ الدَّلَائِلُ الْمُتَنَوِّعَةُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَوُقُوعِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمُعْلِمِ، مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهِ مُحَصِّلًا لِلْعِلْمِ بِالسَّاعَةِ إِذْ لَمْ يُقَارِبْهُ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَدْ نَاسَبَ هَذَا الْمَجَازَ أَوِ الْمُبَالَغَةَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُبْقِ لِأَحَدٍ مِرْيَةً فِي أَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِعِيسَى، وَتَأَوَّلُوهُ بِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَامَةُ السَّاعَةِ، أَيْ سَبَبُ عِلْمٍ بِالسَّاعَةِ، أَيْ بِقُرْبِهَا، وَهُوَ تَأْوِيلٌ
بَعِيدٌ فَإِنَّ تَقْدِيرَ مُضَافٍ وَهُوَ نُزُولُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَيُنَاكِدُهُ إِظْهَارُ اسْمِ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ عِيسى [الزخرف: ٦٣] إِلَخْ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرَ شَأْنٍ، أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُهِمَّ لِعِلْمِ النَّاسِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ.
243
وَعُدِّيَ فِعْلُ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: لَا تُكَذِّبُنَّ بِهَا، أَوِ الْبَاءِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ.
وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ اتَّبَعُوا مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ كَلَامِي وَرَسُولِي، جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الضَّمَائِرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمُرَادُ بِاتِّبَاعِ اللَّهِ:
اتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَإِرْشَادِهِ الْوَارِدِ عَلَى لِسَانِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاتِّبَاعُ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِامْتِثَالِهِمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنَّ شَبَّهَ حَالَ الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَ اللَّهِ بِحَالِ السَّالِكِينَ صِرَاطًا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٥٢، ٥٣] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ: وَقُلِ اتَّبِعُونِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لِلْقُرْآنِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام:
١٥٣].
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا مَعَ بَقَاءِ نُونِ الْوِقَايَةِ دَلِيلا عَلَيْهَا.
[٦٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٦٢]
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)
لَمَّا أُبْلِغَتْ أَسْمَاعُهُمْ أَفَانِينَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَرَى فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ حَظَّهُ مِنَ الْبَيَانِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَهْيِهِمْ عَنْ أَنْ يَحْصُلَ صَدُّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ عَنْ هَذَا الدِّينِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي دَعَوَا إِلَى اتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: ٦١] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الصُّدُودَ عَنْ هَذَا الدِّينِ مِنْ وَسْوَسَةِ
الشَّيْطَانِ، وَتَذْكِيرًا بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ عَدَاوَةً قَوِيَّةً لَا يُفَارِقُهَا الدَّفْعُ بِالنَّاسِ إِلَى مساوئ الْأَعْمَالِ لِيُوقِعَهُمْ فِي الْعَذَابِ تَشَفِّيًا لِعَدَاوَتِهِ.
وَقَدْ صِيغَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ فِي صَدِّهِ إِيَّاهُمْ بِصِيغَةِ نَهْيِ الشَّيْطَانِ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِي مُكْنَتِهِمُ الِاحْتِفَاظَ مِنَ الِارْتِبَاقِ فِي شِبَاكِ الشَّيْطَانِ، فَكُنِّيَ بِنَهْيِ الشَّيْطَانِ عَنْ صَدِّهِمْ عَنْ نَهْيِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ لَهُ بِأَبْلَغَ مِنْ تَوْجِيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، وَلَا أَلْفَيَنَّكَ فِي مَوْضِعِ كَذَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُمُ الشَّيْطَانُ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْ مَكَائِدِ عَدُّوهِ. وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ نَاشِئَةٌ مِنْ خُبْثِ كَيْنُونَتِهِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْخُبْثِ مَنْ تَنَافِي الْعُنْصُرَيْنِ فَإِذَا الْتَقَى التَّنَافِي مَعَ خُبْثِ الطَّبْعِ نَشَأَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا الْقَصْدُ بِالْأَذَى، وَقَدْ أَذْكَى تِلْكَ الْعَدَاوَةَ حَدَثٌ قَارَنَ نَشْأَةَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ تَكْوِينِهِ، فِي قِصَّتِهِ مَعَ آدَمَ كَمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَحَرْفُ (إِنْ) هُنَا مَوْقِعُهُ مَوْقِعُ فَاءِ التَّسَبُّبِ فِي إِفَادَة التَّعْلِيل.
[٦٣، ٦٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)
قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قِصَّةِ إِرْسَالِ مُوسَى.
وَلَمْ يُذْكَرْ جَوَابُ لَمَّا فَهُوَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَمَوْقِعُ حَرْفِ لَمَّا هُنَا أَنَّ مَجِيءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ صَارَ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ مِمَّا تَقَدَّمَ
245
فِي قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: ٥٩] الْآيَةَ، أَيْ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَحُذِفَ جَوَابُ لَمَّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥] لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ سَنَنَ الْأُمَمِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ لَمْ يَخْتَلِفْ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ عَنْ قَوْمٍ آمَنُوا بِهِ وَقَوْمٍ كَذَّبُوهُ ثُمَّ كَانُوا سَوَاءً فِي نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَزَاعِمِ النَّصَارَى أَنَّ عِيسَى ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الزخرف: ٦٥] أَيْ أَشْرَكُوا كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا. فَتَمَّ التَّشَابُهُ بَيْنَ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّفْرِيعِ.
وَفِي قِصَّةِ عِيسَى مَعَ قَوْمِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِشْرَاكَ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُخَامِرَ نُفُوسَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِقًا بِهَا مِنْ قبل، فَإِن عيس بُعِثَ إِلَى قَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا
يَدِينُونَ بِالشِّرْكِ إِذْ هُوَ قَدْ بُعِثَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّهُمْ مُوَحِّدُونَ فَلَمَّا اخْتَلَفَ أَتْبَاعُهُ بَيْنَهُمْ وَكَذَّبَتْ بِهِ فِرَقٌ وَصَدَّقَهُ فَرِيقٌ ثُمَّ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ حَدَثَتْ فِيهِمْ نِحْلَةُ الْإِشْرَاكِ.
وَجُمْلَةُ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ وَلَيْسَتْ جَوَابًا لِشَرْطِ لَمَّا الَّذِي جُعِلَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مَرْيَم: ٣٧] دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَفِي إِيقَاعِ جُمْلَةِ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بَيَانًا لِجُمْلَةِ جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ بَادَأَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنْ يُسْرِعُوا إِلَى غَايَاتِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَبَادِئُ الدَّعْوَةِ تُنَافِي عَقَائِدَهُمْ، أَيْ لَمْ يَدْعُهُمْ عِيسَى إِلَى أَكْثَرَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحِكْمَةِ وَبَيَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى مَا يُنَافِي أُصُولَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ صُدُودٍ مُرِيعٍ عَنْهُ وَتَكْذِيبٍ.
وَابْتِدَاؤُهُ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ وَهُوَ إِجْمَالُ حَالِ رِسَالَتِهِ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي وَعْيِ مَا سَيُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ تَفَاصِيلِ الدَّعْوَةِ الْمُفَرَّعِ بَعْضُهَا عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
وَالْحِكْمَةُ هِيَ مَعْرِفَةُ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَسَنِ وَيَكُفُّ عَنِ الْقَبِيحِ وَهِي هُنَا النبوءة،
246
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٩].
وَقَدْ جَاءَ عِيسَى بِتَعْلِيمِهِمْ حَقَائِقَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَوَاعِظِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ، عُطِفَ عَلَى بِالْحِكْمَةِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ جِئْتُكُمْ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالتَّبْيِينُ: تَجْلِيَةُ الْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ لِغُمُوضٍ أَوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَهُ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْيَهُودِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ التَّوْرَاةِ أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَحْكَامِ لِلْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ الْمَحْكِيَّ فِي آيَة سُورَة آل عمرَان [٥٠] وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ قَالَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ حِكَايَةُ مَا قَالَهُ لَهُمْ مِمَّا لَيْسَ شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ قَوْمَهُ بِالتَّكْذِيبِ فَهُمْ كَذَّبُوهُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَيْ كَذَّبُوهُ فِي حَالِ ظُهُورِ آيَاتِ صِدْقِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَفِي حَالِ انْتِفَاءِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ شَكًّا. وَإِنَّمَا قَالَ:
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، إِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِبَيَانِ كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعْضِ ثُمَّ يَكْمُلُ بَيَانُ الْبَاقِي عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ
يُبَيِّنُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ. وَإِمَّا لِأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ غَيْرُ شَامِلٍ لِجَمِيعِ مَا هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ يَنْتَظِرُ بَيَانَهُ مِنْ بَعْدُ تَدْرِيجًا فِي التَّشْرِيعِ كَمَا وَقَعَ فِي تَدْرِيجِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ رَاجِعًا إِلَى أَحْكَامِ الدِّينِ دُونَ مَا كَانَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَفِي قَوْلِهِ: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَهْيِئَةٌ لَهُمْ لِقَبُولِ مَا سَيُبَيَّنُ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَوْ مِنْ بَعْدُ.
247
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِيمَا لَهُ ظَاهِرٌ وَفِي مَا يَرْجِعُ إِلَى الْبَيَانِ بِالنَّسْخِ، وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَفَرَّعَ عَلَى إِجْمَالِ فَاتِحَةِ كَلَامِهِ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ وَبَيَانِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَإِنَّ التَّقْوَى مَخَافَةَ اللَّهِ. وَقَدْ
جَاءَ فِي الْأَثَرِ «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ»
(١)، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ تَشْمَلُ مَعْنَى وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَإِذَا أَطَاعُوهُ عَمِلُوا بِمَا يُبَيِّنُ لَهُمْ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ الْعَمَلُ. وَأَجْمَعُ مِنْهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَهُ «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»
، لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فِي شَرِيعَةٍ لَا يُتَرَقَّبُ بَعْدَهَا مَجِيءُ شَرِيعَةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَطِيعُونِ فَإِنَّهُ مَحْدُودٌ بِمُدَّةِ وُجُودِهِ بَيْنَهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَفَرُّدُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ إِذْ لَا يَخَافُ اللَّهَ إِلَّا مَنِ اعْتَرَفَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِهَا.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، أَيِ اللَّهُ رَبِّي لَا غَيْرُهُ. وَهَذَا إِعْلَانٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى مُوَحِّدِينَ، لَكِنْ قَدْ ظَهَرَتْ بِدْعَةٌ فِي بَعْضِ فِرَقِهِمُ الَّذِينَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ غَيْرُ مُنْكِرِينَ ذَلِكَ.
وَتَقْدِيمُ نَفْسِهِ عَلَى قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّي وَرَبُّكُمْ لِقَصْدِ سَدِّ ذَرَائِعِ الْغُلُوِّ فِي تَقْدِيسِ
عِيسَى، وَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ سَتَغْلُو فِيهِ فِرَقٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَيَزْعُمُونَ بُنُوَّتَهَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَضِلُّونَ بِكَلِمَاتِ الْإِنْجِيلِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا عِيسَى: أَبِي، مُرِيدًا بِهِ اللَّهَ تَعَالَى.
وَفُرِّعَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوهُ فَإِنَّ الْمُنْفَرِدَ بِالْإِلَهِيَّةِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُعْبَدَ.
_________
(١) رَوَاهُ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي «نَوَادِر الْأُصُول» عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا وَضَعفه الْبَيْهَقِيّ.
248
وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، أَيْ هَذَا طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى الْفَوْزِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَدُونَ تَرَدُّدٍ، كَمَا أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَنْبَهِمُ السَّيْرُ فِيهِ على السائر.
[٦٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٦٥]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
هَذَا التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مَنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ مَسَاقَ التَّنْظِيرِ بَيْنَ أَحْوَالِ الرُّسُلِ، أَيْ عَقِبَ دَعْوَتِهِ اخْتِلَافَ الْأَحْزَابِ مِنْ بَيْنِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ وَالَّذِينَ تَقَلَّدُوا مِلَّتَهُ طَلَبًا لِلِاهْتِدَاءِ.
وَهَذَا التَّفْرِيعُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ (لَمَّا) الْمَحْذُوفِ.
وَضَمِيرُ بَيْنِهِمْ مُرَادٌ بِهِ الَّذِينَ جَاءَهُمْ عِيسَى لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَ عِيسى [الزخرف: ٦٣] فَإِنَّ الْمَجِيءَ يَقْتَضِي مَجِيئًا إِلَيْهِ وَهُمُ الْيَهُودُ.
ومِنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ مَدْلُولِ بَيْنِهِمْ أَيِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافَ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ فَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ عِيسَى وَهُمْ: يحيى بن زَكَرِيَّاء وَمَرْيَمُ أَمُّ عِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ الِاثْنَا عَشَرَ وَبَعْضُ نِسَاءٍ مِثْلُ مَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ وَنَفَرٍ قَلِيلٍ، وَكَفَرَ بِهِ جُمْهُورُ الْيَهُودِ وَأَحْبَارُهُمْ، وَكَانَ مَا كَانَ مَنْ تَأَلُّبِ الْيَهُودِ عَلَيْهِ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ. ثُمَّ انْتَشَرَ الْحَوَارِيُّونَ يَدْعُونَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى فَاتَّبَعَهُمْ أَقْوَامٌ فِي بِلَادِ رُومِيَّةَ وَبِلَادِ الْيُونَانِ وَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ اخْتَلَفُوا مِنْ بَيْنِهِمْ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ فَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: نَسْطُورِيَّةٍ، وَيَعَاقِبَةَ، وَمَلْكَانِيَّةٍ. فَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ الْيَعَاقِبَةُ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ، أَيْ بِطَرِيقِ الْحُلُولِ، وَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ وَهُمُ الْكَاثُولِيكُ: عِيسَى ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ مَجْمُوعُهَا هُوَ الْإِلَهُ، وَتِلْكَ هِيَ: الْأَبُ اللَّهُ، وَالِابْنُ عِيسَى، وَرُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ فَالْإِلَهُ عِنْدَهُمْ أَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ.
وَقَدْ شَمِلَتِ الْآيَةُ كِلَا الِاخْتِلَافَيْنِ فَتَكُونُ الْفَاءُ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَةِ التَّعْقِيبِ وَمَجَازِهِ بِأَنْ يَكُونَ شُمُولُهَا لِلِاخْتِلَافِ الْأَخِيرِ مَجَازًا عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ لِتَشْبِيهِ مُفَاجَأَةِ
249
طُرُوِّ الِاخْتِلَافِ
بَيْنَ أَتْبَاعِهِ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ حَدَثَ عَقِبَ بَعْثَةِ عِيسَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا زَمَانٌ طَوِيلٌ دَبَّتْ فِيهِ بِدْعَتُهُمْ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ شَائِعٌ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ مَانِعَةً مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَحْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَجْمَلُ هُنَا وَوَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْيَهُودُ دَعْوَةَ عِيسَى، وَآيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا أَحْدَثَهُ النَّصَارَى فِي دِينِ عِيسَى مِنْ زَعْمِ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِلَهِيَّتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِهِمْ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِ (اخْتَلَفَ) أَيْ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ مِنْ بَيْنِهِمْ دُونَ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، أَيْ كَانَ دِينُهُمْ سَالِمًا فَنَشَأَ فِيهِمْ الِاخْتِلَافُ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَخْتَصُّ الْخِلَافُ بِأَتْبَاعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصَارَى إِذِ اخْتَلَفُوا فِرَقًا وَابْتَدَعُوا قَضِيَّةَ بُنُوَّةِ عِيسَى مِنَ اللَّهِ فَتَكُونُ الْفَاءُ خَالِصَةً لِلتَّعْقِيبِ الْمَجَازِيِّ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ تَهْدِيدٌ بِوَعِيدٍ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْرِيعُ التَّذْيِيلِ عَلَى الْمُذَيَّلِ، فَالَّذِينَ ظَلَمُوا يَشْمَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، وَهَذَا إِطْلَاقُ الظُّلْمِ غَالِبًا فِي الْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ أَفْضَى بِهِمْ أَنْ صَارَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنْ لُزُومِ مُنَاسَبَةِ التَّذْيِيلِ لِلْمُذَيَّلِ، بِأَنْ يَكُونَ التَّذْيِيلُ يَعُمُّ الْمُذَيَّلَ وَغَيْرَهُ فَيَشْمَلُ عُمُومُ هَذَا التَّذْيِيلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٧] قَوْلُهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَجُعِلَتِ الصِّلَةُ فِعْلَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّصَارَى وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مَرْيَم: ٣٨] لَمَّا أُرِيدَ التَّخَلُّصُ إِلَى إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إنذار النَّصَارَى.
250

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٦٦]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَنْزِيلِ سَامِعِ قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف:
٦٥] مَنْزِلَةَ مَنْ يَطْلُبُ الْبَيَانَ فَيَسْأَلُ: مَتَى يَحُلُّ هَذَا الْيَوْمُ الْأَلِيمُ؟ وَمَا هُوَ هَذَا الْوَيْلُ؟ فَوَرَدَتْ جُمْلَةُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً جَوَابًا عَنِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنَ السُّؤَالِ، وَسَيَجِيءُ الْجَوَابُ عَنِ الشِّقِّ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: ٦٧] وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ [الزخرف: ٧٤] الْآيَاتِ.
وَقَدْ جَرَى الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ سَوَاءٌ قُرْبَ زَمَانِ وُقُوعِهِ أَمْ بَعْدُ، فَلَا يُرِيبُكُمْ عَدَمُ تَعْجِيلِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [يُونُس: ٥٠]، وَقَدْ أَشْعَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَقْيِيدُ إِتْيَانِ السَّاعَةِ بِقَيْدِ بَغْتَةً فَإِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا تَسْبِقُهُ أَمَارَةٌ لَا يُدْرَى وَقْتُ حُلُولِهِ.
ويَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ أَنْ أَشْرَكُوا لِحُصُولِ الْعَذَابِ إِلَّا حُلُولَ السَّاعَةِ. وَعَبَّرَ عَنِ الْيَوْمِ بِالسَّاعَةِ تَلْمِيحًا لِسُرْعَةِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّاعَةَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَهِيَ: حُصُولُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ.
وأَنْ تَأْتِيَهُمْ بَدَلٌ مِنَ السَّاعَةَ بَدَلًا مُطَابِقًا فَإِنَّ إِتْيَانَ السَّاعَةِ هُوَ عَيْنُ السَّاعَةِ لِأَنَّ مُسَمَّى السَّاعَةِ حُلُولُ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَالْحُلُولُ هُوَ الْمَجِيءُ الْمَجَازِيُّ الْمُرَادُ هُنَا.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي تَأْتِيَهُمْ.
وَالشُّعُورُ: الْعِلْمُ بِحُصُولِ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ.
وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُ بَغْتَةً يَقْتَضِي عَدَمَ الشُّعُورِ بِوُقُوعِ السَّاعَةِ حِينَ تَقَعُ عَلَيْهِمْ كَانَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ مُؤَكِّدَةً لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قبلهَا.

[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٧٣]

الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ بَعْضِ الْأَهْوَالِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِجْمَالُ التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥].
وَثَانِيهمَا: موعظة الْمُشْركين بِمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ لِأَمْثَالِهِمْ وَالْحَبْرَةِ
لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أُوثِرَ بِالذِّكْرِ هُنَا مِنَ الْأَهْوَالِ مَا لَهُ مَزِيدُ تَنَاسُبٍ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَأَلُّبِهِمْ عَلَى مناواة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ مَا أَلَّبَهُمْ إِلَّا تَنَاصُرُهُمْ وَتَوَادُّهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّبَاهِي بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ فِي نَوَادِيهِمْ وَأَسْمَارِهِمْ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: ٢٥] وَتِلْكَ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَبْلُ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: ٣٨].
والْأَخِلَّاءُ: جَمْعُ خَلِيلٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّخَلُّلِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَخَلِّلِ لِصَاحِبِهِ وَالْمُمْتَزِجِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٢٥]. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (إِذْ) مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ هُوَ الْمُعَوِّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥].
252
وَالْعَدُوُّ: الْمُبْغَضُ، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ عَادٍ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى جَرَيَانُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ، وَالْمُذَكَّرِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَتَعْرِيفُ الْأَخِلَّاءُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا، أَيِ الْأَخِلَّاءُ مِنْ فَرِيقَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْأَخِلَّاءُ مِنْ قُرَيْشٍ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الْأَخِلَّاءِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَخْدِمُوا خُلَّتَهُمْ فِي إِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَإِنِ افْتَرَقُوا فِي الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ويَوْمَئِذٍ ظرف مُتَعَلق بعدوّ، وَجُمْلَة يَا عِبادِ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْخِطَابِ، أَيْ نَقُولُ لَهُمْ أَوْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ (يَاءِ) الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَحَذْفُهَا حَسَنٌ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ تَنْوِينٍ وَهِيَ قَدْ عَاقَبَتْهُ فَكَمَا يُحْذَفُ التَّنْوِينُ فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُنَادَى كَذَلِكَ تُحْذَفُ الْيَاءُ هُنَا.
وَمُفَاتَحَةُ خِطَابِهِمْ بِنَفْيِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ تَأْنِيسٌ لَهُمْ وَمِنَّةٌ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ مِثْلِهِ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ
وَالْفَسَادِ.
وَلَا خَوْفٌ مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْتَحْ لِأَنَّ الْفَتْحَ عَلَى تَضْمِينِ (مِنْ) الزَّائِدَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْعُمُومِ وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّأْكِيدُ مُفِيدًا التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ نَفْيِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ الْمَقَامُ غَيْرَ مُقَامِ التَّرَدُّدِ فِي نَفْيِ جِنْسِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا بِهِمْ حِينَئِذٍ مَعَ وُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَأَمَارَةُ نَجَاتِهِمْ مِنْهُ وَاضِحَةٌ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَصْبِ اسْمِ لَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أَمْ زَرْعٍ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَهْ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَهْ. رِوَايَتُهُ بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَنْ لَيْلِ تِهَامَةَ مَشْهُورٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ بَيَانَ وُجُوهِ الشَّبَهِ مِنْ قَوْلِهَا كَلَيْلِ تِهَامَهْ.
253
وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي فِي نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ، فَالتَّقَوِّي أَفَادَ تَقَوِّيِ النَّفْيِ لَا نَفْيَ قُوَّةِ الْحُزْنِ الصَّادِقِ بِحُزْنٍ غَيْرِ قَوِيٍّ. هَذَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعْمَالِ فِي نَفْسِ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦]، تَطْمِينًا لِأَنْفُسِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ قَدْ يَهْجِسُ بِخَوَاطِرِهِمْ هَلْ يَدُومُ لَهُمُ الْأَمْنُ الَّذِي هُمْ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا نَعْتٌ لِلْمُنَادَى مِنْ قَوْله: يَا عِبادِ جِيءَ فِيهَا بِالْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ الصِّلَةِ عَلَى عِلَّةِ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، وَعُطِفَ عَلَى الصِّلَةِ قَوْلُهُ:
وَكانُوا مُسْلِمِينَ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ إِذْ كَانَتْ أُولَاهُمَا فِعْلًا مَاضِيًا وَالثَّانِيَةُ فِعْلَ كَوْنٍ مُخْبَرًا عَنْهُ بَاسِمِ فَاعِلٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ: عَقْدُ الْقَلْبِ يَحْصُلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ كَمَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ، فَهُوَ مَعْرُوضٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ أُوثِرَ بِفِعْلِ (كَانَ) الدَّالِّ عَلَى اتِّحَادِ خَبَرِهِ بِاسْمِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ قِوَامِ كِيَانِهِ.
وَعَطَفَ أَزْوَاجَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الْإِذْنِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ التَّمَتُّعِ بِالْخُلَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وتُحْبَرُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ مُضَارِعُ حُبِرَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِعْلُهُ حَبَرَهُ، إِذَا سَرَّهُ، وَمَصْدَرُهُ الْحَبْرُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالِاسْمُ الْحُبُورُ وَالْحَبْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [١٥].
وَجُمْلَةُ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ
عَلَيْهِمْ الْتِفَاتٌ بَلِ الْمَقَامُ لِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
والصحاف: جمع صَحْفَة، وَهِي: إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ وَاسِعُ الْفَمِ يَنْتَهِي أَسْفَلُهُ بِمَا يُقَارب التكوير. والصحفة: إِنَاءٌ لِوَضْعِ الطَّعَامِ أَوِ الْفَاكِهَةِ مِثْلُ صِحَافِ الْفَغْفُورِيِّ الصِّينِيِّ تَسَعُ شِبَعَ خَمْسَةٍ، وَهِيَ دُونُ الْقَصْعَةِ الَّتِي تَسَعُ شِبَعَ عشرَة. وَقد ورد أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابَ اتَّخَذَ صِحَافًا عَلَى عَدَدِ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُؤْتَى إِلَيْهِ بِفَاكِهَةٍ أَوْ طُرْفَةٍ إِلَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ.
254
وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ إِنَاءٌ لِلشَّرَابِ مِنْ مَاءٍ أَوْ خَمْرٍ مُسْتَطِيلُ الشَّكْلِ لَهُ عُنُقٌ قَصِيرٌ فِي أَعْلَى ذَلِكَ الْعُنُقِ فَمُهُ وَهُوَ مَصَبُّ مَا فِيهِ، وَفَمُهُ أَضْيَقُ مِنْ جَوْفِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ عُرْوَةٌ يُمْسَكُ مِنْهَا فَيُمْسَكُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى عُنُقِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ عُرْوَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْإِبْرِيقِ إِلَّا أَنَّهُ لَا خُرْطُومَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا الْإِبْرِيقُ فَلَهُ عُرْوَةٌ وَخُرْطُومٌ.
وَحُذِفَ وَصْفُ الْأَكْوَابِ لِدَلَالَةِ وَصْفِ صِحَافٍ عَلَيْهِ، أَيْ وَأَكْوَابٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَهَذِهِ الْأَكْوَابُ تَكُونُ لِلْمَاءِ وَتَكُونُ لِلْخَمْرِ.
وَجُمْلَةُ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ إِلَخْ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةَ، هِيَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ.
وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةُ، وَقَدْ عَمَّ قَوْلُهُ: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ كُلَّ مَا تَتَعَلَّقُ الشَّهَوَاتُ النَّفْسِيَّةُ بِنَوَالِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَاللَّهُ يَخْلُقُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ الشَّهَوَاتِ اللَّائِقَةِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ وَالسُّمُوِّ.
وتَلَذُّ مُضَارِعُ لَذَّ بِوَزْنِ عَلِمَ: إِذَا أَحَسَّ لَذَّةً، وَحَقُّ فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ اللَّذَّةُ بِالْبَاءِ فَيُقَالُ: لَذَّ بِهِ، وَكَثُرَ حَذْفُ الْبَاءِ وَإِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِنَفْسِهِ فَيَنْتَصِبُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى صَارَ الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَدِّي فَقَالُوا: لَذَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ التَّقْدِيرُ، وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ. وَالضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ هُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ. وَلَذَّةُ الْأَعْيُنِ فِي رُؤْيَةِ الْأَشْكَالِ الْحَسَنَةِ وَالْأَلْوَانِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا النَّفْسُ، فَلَذَّةُ الْأَعْيُنِ وَسِيلَةٌ لِلَذَّةِ النُّفُوسِ فَعَطَفَ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ عَلَى مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ عَطْفَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَقَدْ تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ مَا لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ كَالْمُحَادَثَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ وَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْمُوسِيقَى. وَقَدْ تُبْصِرُ الْأَعْيُنُ مَا لَمْ تَسْبِقْ لِلنَّفْسِ شَهْوَةُ رُؤْيَتِهِ أَوْ مَا اشْتَهَتِ النَّفْسُ طَعْمَهُ أَوْ سَمْعَهُ فَيُؤْتَى بِهِ فِي
صُوَرٍ جَمِيلَةٍ إِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ.
255
وَ (الْأَنْفُسُ) فَاعِلُ تَلَذُّ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ مَا تَشْتَهِيهِ بِهَاءِ ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي مُصْحَفِ الْمَدِينَةِ وَمُصْحَفِ الشَّامِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مَا تَشْتَهِي
بِحَذْفِ هَاءِ الضَّمِيرِ، وَكَذَلِكَ رُسِمَ فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ وَمُصْحَفِ الْبَصْرَةِ وَمُصْحَفِ الْكُوفَةِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ قَارِئِ الْكُوفَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَخَذَ بِهَا حَفْصٌ وَالْأُخْرَى أَخَذَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ. وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمُتَّصِلِ الْمَنْصُوبِ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ بِشَارَةٌ لَهُمْ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْحَبْرَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، وَجِيءَ فِيهِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ تَأْكِيدًا لِحَقِيقَةِ الْخُلُودِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُدَّةِ فَحَسْبُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ، وَعُطِفَ عَلَى بَعْضِ مَا يُقَالُ لَهُمْ مَقُولٌ آخَرُ قُصِدَ مِنْهُ التَّنْوِيهُ بِالْجَنَّةِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ أُعْطُوهَا بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، فَأُشِيرَ إِلَى الْجَنَّةِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا وَإِلَّا فَإِنَّهَا حَاضِرَةٌ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها الْآيَةَ تَذْيِيلٌ لِلْقَوْلِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ والْجَنَّةُ خَبَرُهُ، أَيْ تِلْكَ الَّتِي تَرَوْنَهَا هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي سَمِعْتُمْ بِهَا وَوُعِدْتُمْ بِدُخُولِهَا. وَجُمْلَةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ صِفَةٌ لِلْجَنَّةِ.
وَاسْتُعِيرَ أُورِثْتُمُوها لِمَعْنَى: أُعْطِيتُمُوهَا دُونَ غَيْرِكُمْ، بِتَشْبِيهِ إِعْطَاءِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِإِعْطَاءِ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَيِّتِ لِوَارِثِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِهِ وَآثَرُ بِنَيْلِهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْجَنَّةَ أَمْرٌ كَائِنٌ مُتَقَرَّرٌ، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ ذَلِكَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، أَيْ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ إِلَى وَفَاتِهِمْ.
256
وَجُمْلَةُ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلْجَنَّةِ. وَالْفَاكِهَةُ: الثِّمَارُ رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَلَذُّ مِنَ الْمَآكِلِ، وَطُعُومُهَا مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ سَامِعٍ.
وَوَجْهُ تَكْرِيرِ الِامْتِنَانِ بِنَعِيمِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ فِي الْجَنَّةِ: أَنَّ ذَلِكَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ الطِّبَاعُ الْبَشَرِيَّةُ فِي اسْتِلْذَاذِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مِنْها تَأْكُلُونَ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَام: ١٤١].
[٧٤، ٧٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٥]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)
لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِتْمَامُ التَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥] عَقِبَ تَفْصِيلِ بَعْضِهِ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: ٦٦] إِلَخْ. وَبِقَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: ٦٧] حَيْثُ قُطِعَ إِتْمَامُ تَفْصِيلِهِ بِالِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْوَعِيدِ وَتَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِهَا.
الْمَوْقِعُ الثَّانِي: أَنَّهَا كَالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ يُثِيرُهُ مَا يَسْمَعُ مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنَ التَّسَاؤُلِ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُ أَضْدَادِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ.
وَالْمَوْقِعَانِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِ الْجُمْلَةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
وَافْتِتَاحُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، أَوْ لِتَنْزِيلِ السَّائِلِ الْمُتَلَهِّفِ لِلْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي مَضْمُونِهِ لِشِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، أَوْ نَظَرًا إِلَى مَا فِي الْخَبَرِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِإِسْمَاعِهِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُنْكِرُونَ مَضْمُونَهُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.
وَالْمُجْرِمُونَ: الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الْإِجْرَامَ، وَهُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا:
الْمُشْرِكُونَ المكذبون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ السِّيَاقَ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ وَعِيدِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥]، وَلِأَنَّ جَوَاب الْمَلَائِكَة نداءهم
بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف: ٧٨] لَا يَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ كَارِهُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، فَذِكْرُ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ إِجْرَامٌ.
وَجُمْلَةُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَذابِ جَهَنَّمَ ويُفَتَّرُ مُضَاعَفُ فَتَرَ، إِذَا سَكَنَ، وَهُوَ بِالتَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُفَتِّرُهُ أَحَدٌ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ.
والإبلاس: الْيَأْسُ وَالذُّلُّ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَزَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي معنى الإبلاس قَيْدَ السُّكُوتِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ السُّكُوتَ مِنْ لَوَازِم معنى الإبلاس وَلَيْسَ قَيْدًا فِي الْمَعْنى.
[٧٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٧٦]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ قُصِدَ مِنْهَا نَفْيُ اسْتِعْظَامِ مَا جُوِّزُوا بِهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ وَنَفْيِ الرِّقَّةِ لِحَالِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥].
وَالظُّلْمُ هُنَا: الِاعْتِدَاءُ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ بِضُرٍّ بِغَيْرِ مُوجِبٍ مَشْرُوعٍ أَوْ مَعْقُولٍ، فَنَفْيُهُ عَنِ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَيِ الْمُعْتَدِينَ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ وَلَمَزُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [١٣].
وهُمْ ضمير فصل لَا يُطْلَبُ مُعَادًا لِأَنَّهُ لَمْ يُجْتَلَبْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُعَادٍ لِوُجُودِ ضَمِيرِ كانُوا دَالًّا عَلَى الْمَعَادِ فَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُجْتَلَبٌ لِإِفَادَةِ قَصْرِ صِفَةِ الظُّلْمِ عَلَى اسْمِ (كَانَ)، وَإِذْ قَدْ كَانَ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ كَافِيًا فِي إِفَادَةِ
الْقَصْرِ كَانَ اجْتِلَابُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ تَأْكِيدًا لِلْقَصْرِ بِإِعَادَةِ صِيغَةٍ أُخْرَى مِنْ صِيَغِ الْقَصْرِ. وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَ ضَمِيرَ الْفَصْلِ فِي الْكَلَامِ غَيْرَ وَاقِعٍ فِي مَوْقِعِ إِعْرَابٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ، وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ حَرْفٌ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنِ الْإِعْرَابِ وَيُسَمِّيهِ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ فَصْلًا، وَيُسَمِّيهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ عِمَادًا.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانُوا وَبَنُو تَمِيمٍ يَجْعَلُونَهُ ضَمِيرًا طَالِبًا مُعَادًا وَصَدْرًا لِجُمْلَتِهِ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُونَ جُمْلَتَهُ فِي مَحَلِّ الْإِعْرَابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو زَيْدٍ النَّحْوِيُّ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ عَلَى أَنَّ هُمْ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مِنْهُ وَمِنْ خَبَرِهِ خَبَرُ كانُوا. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ كَانَ يَقُولُ: أَظُنُّ زَيْدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، بِرَفْع خير.
[٧٧، ٧٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٧٧ إِلَى ٧٨]
وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
جُمْلَةُ وَنادَوْا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥]، أَوْ عَطْفٌ عَلَى
جُمْلَةِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَحُكِيَ نِدَاؤُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّهُ مِمَّا سَيَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا لِأَنَّ إِبْلَاسَهُمْ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْيَأْسُ يَكُونُ بَعْدَ أَنْ نَادَوْا يَا مَالِكُ وَأَجَابَهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ، وَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَ جُمْلَةَ وَنادَوْا حَالِيَّةً، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر:
٦٨] وَهَذَا إِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ وَنادَوْا إِلَخْ مَعْطُوفَةً.
وَ (مَالِكُ) الْمُنَادَى اسْمُ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِجَهَنَّمَ خَاطَبُوهُ لِيَرْفَعَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى شَفَاعَةً.
259
وَاللَّامُ فِي لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ لَامُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ إِلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّبْلِيغِ كَمَا هُنَا، أَوْ تَنْزِيلِ الْحَاضِرِ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ لِاعْتِبَارٍ مَا مِثْلَ التَّعْظِيمِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْوَزِيرِ لِلْخَلِيفَةِ: لِيَرَ الْخَلِيفَةُ رَأْيَهُ.
وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى: الْإِمَاتَةِ كَقَوْلِهِ: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الْقَصَص: ١٥]، سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ الْحَيَاةَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْ إِحْسَاسِ الْعَذَابِ. وَهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُمِيتَهُمْ فَأُجِيبُوا بِأَنَّهُمْ مَاكِثُونَ جَوَابًا جَامِعًا لِنَفْيِ الْإِمَاتَةِ وَنَفْيِ الْخُرُوجِ فَهُوَ جَوَابٌ قَاطِعٌ لِمَا قَدْ يَسْأَلُونَهُ مِنْ بَعْدُ.
وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) بِحَذْفِ الْكَافِ عَلَى التَّرْخِيمِ، فَذُكِرَتْ قِرَاءَتُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَا كَانَ أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَعَنْ بَعْضِهِمْ: حَسَّنَ التَّرْخِيمَ أَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ الِاسْمِ لِضَعْفِهِمْ وَعِظَمَ مَا هم فِيهِ اهـ. وَأَرَادَ بِبَعْضِهِمُ ابْنَ جِنِّي فِيمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّ ابْنَ جِنِّي قَالَ:
وَلِلتَّرْخِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِرٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِعِظَمِ مَا هُمْ عَلَيْهِ ضَعُفَتْ وَذُلَّتْ أَنْفُسُهُمْ وَصَغُرَ كَلَامُهُمْ فَكَانَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاخْتِصَارِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ سَمِعت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَنادَوْا يَا مالِكُ بِإِثْبَاتِ الْكَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) رَوَاهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيكون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَوَاتَرَتْ قِرَاءَةُ إِثْبَاتِ الْكَافِ وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَرْوِيَّةً بِالْآحَادِ فَلَمْ تَكُنْ قُرْآنًا.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ.
وَضَمِيرُ جِئْناكُمْ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْحَقُّ: الْوَحْيُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَنَسَبَ مَالِكٌ الْمَجِيءَ بِالْحَقِّ إِلَى جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ اعْتِزَازِ الْفَرِيقِ وَالْقَبِيلَةِ بِمَزَايَا
260
بَعْضِهَا، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
وَفَكَكْنَا غِلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالْعَنَاءُ (١)
وَإِنَّمَا نُسِبَتْ كَرَاهَةُ الْحَقِّ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا سَادَةٌ كُبَرَاءُ لِمِلَّةِ الْكُفْرِ وَهُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْإِرْهَابِ وَالتَّرْغِيبِ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ صَدَّ أَبَا طَالِبٍ عِنْدَ احْتِضَارِهِ عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَثَانِيهِمَا دَهْمَاءُ وَعَامَّةٌ وهم تبع لأيمة الْكُفْرِ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٦] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَاتِ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَأُولَئِكَ إِنَّمَا كَرِهُوا الْحَقَّ لِأَنَّهُ يَرْمِي إِلَى زَوَالِ سُلْطَانِهِمْ وَتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ لِلْحَقِّ عَلَى كارِهُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْحَقِّ تَنْوِيهًا بِهِ، وَفِيهِ إِقَامَةُ الفاصلة أَيْضا.
[٧٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٧٩]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
أَمْ منقطة لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ مَعَ اتِّحَادِ الْغَرَضِ. انْتَقَلَ مِنْ حَدِيثِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا. فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: ٦٦] إِلَخْ.
وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمْ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاة الِاسْتِفْهَام وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَتَهْدِيدٌ، أَيْ أَأَبْرَمُوا أَمْرًا. وَضَمِيرُ أَبْرَمُوا مُرَادٌ بِهِ الْمُشْركُونَ الَّذين ناوأوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرُ (إِنَّا) ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ.
_________
(١) يُرِيد امْرأ الْقَيْس بن الْمُنْذر أَخا عَمْرو بن هِنْد وَكَانَ: أسره ملك من غَسَّان فَأَغَارَ عَمْرو بن هِنْد أَخُوهُ فِي جَيش من بكر بن وَائِل قَبيلَة الشَّاعِر وَقتلُوا الْملك وأنقذوا امْرأ الْقَيْس.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّا مُبْرِمُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ تَقْدِيرِ حُصُولِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ فَيُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ إِنْ أَبْرَمُوا أَمْرًا مِنَ الْكَيْدِ فَإِنَّ اللَّهَ مُبْرِمٌ لَهُمْ أَمْرًا مِنْ نَقْضِ الْكَيْدِ وَإِلْحَاقِ الْأَذَى بِهِمْ، وَنَظِيرُهُ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً
فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطّور: ٤٢].
وَعَنْ مُقَاتِلٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَدْبِيرِ قُرَيْشٍ بالمكر بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ حِينَ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ أَبُو جَهْلٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْرُزَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ لِيَشْتَرِكُوا فِي قتل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ بَنُو هَاشِمٍ الْمُطَالَبَةَ بِدَمِهِ، وَقَتَلَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ فِي بَدْرٍ.
وَالْإِبْرَامُ حَقِيقَتُهُ: الْقَتْلُ الْمُحْكَمُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِحْكَامِ التَّدْبِيرِ وَالْعَزْمِ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ.
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ أَبْرَمُوا ومُبْرِمُونَ لِأَنَّ إِبْرَامَهُمْ وَاقِعٌ، وَأَمَّا إِبْرَامُ اللَّهِ جَزَاءً لَهُمْ فَهُوَ تَوَعُّدٌ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ نَقْضَ مَا أَبْرَمُوهُ فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ، أَيْ نَحْنُ نُقَدِّرُ لَهُمُ الْآنَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ إِيجَادُ أَسْبَابِ وَقْعَةِ بَدْرٍ الَّتِي اسْتُؤْصِلُوا فِيهَا.
وَالْأَمْرُ: الْعَمَلُ الْعَظِيمُ الْخَطِيرُ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ مُبْرِمُونَ لِدَلَالَةِ مَا قبله عَلَيْهِ.
[٨٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٠]
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
أَمْ وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: أَمْ يَحْسَبُونَ هُمَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً [الزخرف: ٧٩].
وَحَرْفُ بَلى جَوَابٌ لِلنَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّا لَا نَسْمَعُ، أَيْ بَلَى نَحْنُ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ.
وَالسَّمْعُ هُوَ: الْعِلْمُ بِالْأَصْوَاتِ.
وَالْمُرَادُ بِالسِّرِّ: مَا يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ وَسَائِلِ الْمَكْر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّجْوَى مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ خَفِيٍّ.
وَعَطَفَ وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا يُسِرُّونَ عِلْمٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ فِيهِمْ وَهُوَ مُؤَاخَذَتُهُمْ بِمَا يُسِرُّونَ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْأَعْمَالِ تُؤْذِنُ بِأَنَّهَا سَتُحْسَبُ لَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ.
وَالْكِتَابَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَجَازًا، أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْإِحْصَاءِ وَالِاحْتِفَاظِ.
وَالرُّسُلُ: هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِتَقَصِّي أَعْمَالَ النَّاسِ وَلِذَلِكَ قَالَ:
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ كَقَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨]، أَي رَقِيب
[٨١، ٨٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٨١ إِلَى ٨٢]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِادِّعَاءِ بُنُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الزخرف: ٥٧]، وَعَقِبَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْد الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩].
وَأَعْقَبَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَمَا أَعَدَّ لِلَّذِينِ انْخَلَعُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِالْإِيمَانِ، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَقَامِ التَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ، جَمْعًا بَيْنَ الرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ، وَالَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ بَعْضَ أَصْنَامِهِمْ بَنَاتُ اللَّهِ مِثْلَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَأَمَرَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيْ قُلْ لَهُمْ جَدَلًا وَإِفْحَامًا،
263
وَلَقَّنَهُ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْزُبُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا. وَالَّذِينَ يَقُولُ لَهُم هَذَا الْمَقُول هُمُ الْمُشْرِكُونَ الزَّاعِمُونَ ذَلِكَ فَهَذَا غَرَضُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُوجُ عِنْدَهُ ذَلِكَ. وَنَظْمُ الْآيَةِ دَقِيقٌ وَمُعْضِلٌ، وَتَحْتَهُ مَعَانٍ جَمَّةٌ:
وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا: أَنَّهُ لَوْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ أَبْنَاءً لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَعْبُدُهُمْ، أَيْ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِأَنْ أَعْبُدَهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَقَلَّ فَهْمًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ابْنًا لِلَّهِ وَلَا يَعْتَرِفَ لِذَلِكَ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ ابْنَ اللَّهِ يَكُونُ مُنْسَلًّا مِنْ ذَاتٍ إِلَهِيَّةٍ فَلَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْإِلَهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، فَالدَّلِيلُ مُرَكَّبٌ مِنْ مُلَازَمَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَالشَّرْطُ فَرْضِيٌّ، وَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الْجَوَابِ وَالشَّرْطِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَاقِلٌ دَاعٍ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ مَا يُوَرِّطُهُ، وَأَيْضًا لَا يَرْضَى لَهُمْ إِلَّا مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى النُّصْحِ لَهُمْ، وَبِهِ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ وَيُفِيدُ أَنَّهُ ثَابِتُ الْقَدَمِ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِ.
وَنُفِيَ التَّعَدُّدُ بِنَفْيِ أَخَصِّ أَحْوَالِ التَّعَدُّدِ وَهُوَ التَّعَدُّدُ بِالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ كَتَعَدُّدِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّعَدُّدِ فَيَنْتَفِي أَيْضًا تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ الْأَجَانِبِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِلْحَجَّاجِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ: لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى فَقَالَ سَعِيدٌ:
لَوْ عَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكَ، فَنَبَّهَهُ إِلَى خَطَئِهِ بِأَنَّ إِدْخَالَ النَّارِ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مُرَكَّبٌ مِنْ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ أَوَّلُ جُزْأَيْهَا وَهُوَ الْمُقَدَّمُ بَاطِلٌ، وَثَانِيهِمَا وَهُوَ التَّالِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ بُطْلَانَ التَّالِي لَازِمٌ لِبُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ، كَقَوْلِكَ:
إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ، وَالِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِبُطْلَانِ التَّالِي عَلَى بُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ لِأَنَّ كَون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابِدًا لِمَزْعُومٍ بُنُوَّتُهُ لِلَّهِ أَمْرٌ مُنْتَفٍ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا عَلَى وِزَانِ الِاسْتِدْلَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢]، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ جُعِلَ شَرْطُهَا بِأَدَاةٍ صَرِيحَةٍ فِي الِامْتِنَاعِ، وَهَذِهِ جُعِلَ شَرْطُهَا بِأَدَاةٍ غَيْرِ صَرِيحَةٍ فِي الِامْتِنَاعِ.
264
وَالنُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْأَدَاةِ الصَّرِيحَةِ فِي الِامْتِنَاعِ هُنَا إيهامهم فِي بادىء الْأَمْرِ أَنَّ فَرْضَ الْوَلَدِ لِلَّهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَلِيَتَأَتَّى أَنْ يَكُونَ نَظْمُ الْكَلَامِ مُوَجَّهًا حَتَّى إِذَا تَأَمَّلُوهُ وَجَدُوهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ بِطَرِيقِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ. وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا رَوَاهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّضِرَ بْنَ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. فَقَالَ النَّضِرُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَنِي، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: مَا صَدَقَكَ وَلَكِنْ قَالَ: مَا كَانَ للرحمان وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَرُوِيَ مُجْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ السُّدِّيِّ فَكَانَ فِي نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَإِطْمَاعٌ لِلْخُصُومِ بِمَا إِنْ تَأَمَّلُوهُ اسْتَبَانَ وَجْهُ الْحَقِّ فَإِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ ذَلِكَ عُدَّ إِعْرَاضُهُمْ نُكُوصًا.
وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أُخَرَ مِنَ الْمَعَانِي. مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِن كَانَ للرحمان وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، أَيْ فَأَنَا أول الْمُؤمنِينَ بتكذيبكم، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهِ بِجُمْلَةِ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ.
وَمِنْهَا، أَنْ يَكُونَ حَرْفُ إِنْ لِلنَّفْيِ دُونَ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ للرحمان وَلَدٌ فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ: أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، أَيْ أَتَنَزَّهُ عَنْ إِثْبَاتِ الشَّرِيكِ لَهُ، وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنِهِ. وَمِنْهَا: تَأْوِيلُ الْعابِدِينَ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَبَدَ يَعْبُدُ مِنْ بَابِ فَرِحَ، أَيْ أَنِفَ وَغَضِبَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَطَعَنَ فِيهِ نِفْطَوَيْهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي اسْمِ فَاعِلِ عَبَدَ يَعْبُدُ عَبْدٌ وَقَلَّمَا يَقُولُونَ: عَابِدٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَأْتِي بِالْقَلِيلِ مِنَ اللُّغَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَدٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَلَدٌ بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ جَمْعُ وَلَدٍ.
وَجُمْلَةُ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَكْمِلَةً لِمَا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ، أَيْ قُلْ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ عَلَى الْفَرْضِ،
وَالتَّقْدِيرِ: مَعَ تَنْزِيهٍ عَنْ تَحَقُّقِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَيَكُونُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمُ التَّالِي فِي جُزْأَيِ الْقِيَاسِ الشَّرْطِيِّ الِاسْتِثْنَائِيِّ.
265
وَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ يَصِفُونَ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ:
قُلْ لَهُمْ إِنَّ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِهِ عَمَّا يَقُولُونَ فَتَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ وَجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤]. وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهَا نَزَّهَتِ اللَّهَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَصْفُهُ بِرُبُوبِيَّةِ أَقْوَى الْمَوْجُودَاتِ وَأَعَمِّهَا وَأَعْظَمِهَا، لِأَنَّهُ يُفِيدُ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ الْوِلَادَةِ، فَقَدْ تَمَّ خَلْقُ الْعَوَالِمِ وَنِظَامِ نَمَائِهَا وَدَوَامِهَا، وَعُلِمَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقَهَا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ وَإِلَّا لَاحْتَاجَ إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ، وَاقْتَضَى عَدَمَ السَّبْقِ بِعَدَمِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ فَوُجُودُ الْوَلَدِ لَهُ يكون عَبَثا.
[٨٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٣]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
اعْتِرَاضٌ بِتَفْرِيعٍ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْوَلَدِ وَالشُّرَكَاءِ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ مِنْ إِجْدَاءِ الْحُجَّةِ فِيهِمْ وَأَنَّ الْأَوْلَى بِهِ مُتَارَكَتُهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ إِلَى أَنْ يَحِينَ يَوْمٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ. وَهَذَا مُتَحَقق فِي أيمة الْكُفْرِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَصَدِّينَ لمحاجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَادَلَتِهِ وَالتَّشْغِيبِ عَلَيْهِ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضِرِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ مِمَّنْ قُتِلُوا يَوْم بدر.
و (الْيَوْم) هُنَا مُحْتَمِلٌ لِيَوْمِ بَدْرٍ وَلِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ وُعِدُوهُ، وَالْوَعْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.
وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ: الدُّخُولُ فِي لُجَّةِ الْمَاءِ مَاشِيًا، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْبَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
وَالْمَعْنَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَعِبِهِمْ فِي مَوَاقِعِ الْجد حِين يهزأوون بِالْإِسْلَامِ. واللعب: المزح والهزل.
وَجُزِمَ فِعْلُ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا بِلَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةً وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ جَزْمًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ فَالْأَمْرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ مِنْ قَبِيلِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
[فصلت: ٤٠].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلاقُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ، وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ مَجَازٌ فِي أَنَّهُ لِقَاءٌ مُحَقَّقٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُلْقُوا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مضارع الْمُجَرّد.
[٨٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٤]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: ٨١] وَالْجُمْلَتَانِ اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَانِ، قُصِدَ مِنَ الْعَطْفِ إِفَادَةُ نَفْيِ الشَّرِيكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ مُطْلَقًا بَعْدَ نَفْيِ الشَّرِيكِ فِيهَا بِالْبُنُوَّةِ، وَقُصِدَ بِذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْإِحَاطَةُ بِعَوَالِمِ التَّدْبِيرِ وَالْخَلْقِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ أَصْنَامُهُمُ الْمَنْصُوبَةُ، وَجَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ فِي السَّمَاءِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِذْ جَعَلُوهُمْ بَنَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ قَوْلُهُ: فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ إِبْطَالًا لِلْفَرِيقَيْنِ مِمَّا زُعِمَتْ إِلَهِيَّتُهُمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهَا الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ عَلَى أَنه وصف للرحمان مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: ٨١]، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِإِيرَادِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ صِفَةٍ، وَبِإِيرَادِ مُبْتَدَأٍ فِيهَا لِإِفَادَةِ قَصْرِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ إِيرَادَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعْرِفَةً وَالْمُسْنَدِ مَعْرِفَةً طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ. فَالْمَعْنَى وَهُوَ لَا غَيْرُهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، وَصِلَةُ الَّذِي جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ حُذِفَ صَدْرُهَا، وَصَدْرُهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى مُعَادِ ضَمِيرِ وَهُوَ وَحَذْفُ صَدْرِ الصِّلَةِ اسْتِعْمَالٌ حَسَنٌ إِذَا طَالَتِ الصِّلَةُ كَمَا هُنَا. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ.
وَالْمَجْرُورَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِ إِلهٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ مَعْنَى الْمَعْبُودِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ، إِذَا عَبَدَ فَشَابَهَ الْمُشْتَقَّ. وَصَحَّ تَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ بِهِ فَتَعَلُّقُهُ بِلَفْظِ إِلَهٍ كَتَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِغِرْبَالٍ وَأَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورِ بِكَانُونَ فِي قَوْلِ الْحَطِيئَةِ يَهْجُو أُمَّهُ مِنْ أَبْيَاتِ:
أَغِرْبَالًا إِذَا اسْتُودِعْتِ سِرًّا وَكَانُونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا (١)
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
بَعْدَ أَنْ وُصِفَ اللَّهُ بِالتَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أُتْبِعَ بِوَصْفِهِ بِ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَدْقِيقًا لِلدَّلِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، حَيْثُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِيهِمَا لِمَا فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَصْفِ لَهُ وَنَفْيِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَتْمِيمًا لِلدَّلِيلِ وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ تَدْقِيقًا إِذِ التَّدْقِيقُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِ دَلِيلِهِ وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِتَمَامِ الْحِكْمَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ مُسْتَغْنٍ عَمَّا سِوَاهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وَلَدٍ وَلَا إِلَى بِنْتٍ وَلَا إِلَى شريك.
[٨٥]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٥]
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
عُطِفَ عَلَى سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف: ٨٢]، قُصِدَ مِنْهُ إِتْبَاعُ إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ.
وتَبارَكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْمَدْحِ لِأَنَّ مَعْنَى تَبارَكَ كَانَ مُتَّصِفًا بِالْبَرَكَةِ اتِّصَافًا قَوِيًّا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ تَفَاعَلَ مِنْ قُوَّةِ حُصُولِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى صُدُورِ فِعْلٍ مِنْ فَاعِلَيْنِ مِثْلَ: تَقَاتَلَ وَتَمَارَى، فَاسْتُعْمِلَتْ فِي مُجَرَّدِ تَكَرُّرِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ: تَسَامَى وَتَعَالَى.
_________
(١) الرِّوَايَة بِنصب غربالا وكانونا بِتَقْدِير: أتكونين، وَيجوز رفعهما بِتَقْدِير: أَأَنْت.
268
وَالْبَرَكَةُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ.
وَقَدْ ذُكِرَ مَعَ التَّنْزِيهِ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِاقْتِضَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ التَّنْزِيهُ عَنِ الْوَلَدِ الْمَسُوقِ الْكَلَامِ لِنَفْيِهِ، وَعَنِ الشَّرِيكِ الْمَشْمُولِ لِقَوْلِهِ: عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: ٨٢]، وَذُكِرَ مَعَ التَّبْرِيكِ وَالتَّعْظِيمِ أَنَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُلْكِ لِلْعَظَمَةِ وَفَيْضِ الْخَيْرِ، فَلَا يَرِيبُكَ أَنَّ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف: ٨٢] مُغْنٍ عَنِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ غَرَضَ الْقُرْآنِ التَّذْكِيرُ وَأَغْرَاضُ التَّذْكِيرِ تُخَالِفُ أَغْرَاضَ الِاسْتِدْلَالِ وَالْجَدَلِ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ يُلَائِمُ التَّنْبِيهَ عَلَى مُخْتَلَفِ الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالتَّعَرُّضِ لِلِاسْتِمْدَادِ مِنَ الْفَضْلِ. ثُمَّ إِنَّ صِيغَةَ تَبارَكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَقْتَضِي اسْتِغْنَاءَهُ عَنِ الزِّيَادَةِ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَاتِّخَاذِ الشَّرِيكِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ
اسْتِدْلَالًا آخَرَ تَابِعًا لِدَلِيلِ قَوْلِهِ: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: ٨٢].
وَقَدْ تَأَكَّدَ انْفِرَادُهُ بِرُبُوبِيَّةِ أَعْظَمِ الْمُوجُودَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِقَوْلِهِ: رَبِّ الْعَرْشِ [الزخرف: ٨٢] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤] وَقَوْلِهِ:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما.
فَكَمْ مِنْ خَصَائِصَ وَنُكَتٍ تَنْهَالُ عَلَى الْمُتَدَبِّرِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُفِيدًا التَّصَرُّفَ فِي هَذِهِ الْعَوَالِمِ مُدَّةَ وُجُودِهَا وَوُجُودِ مَا بَيْنَهَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ مَعَ مُلْكِ الْعَوَالِمِ الْفَانِيَةِ مُلْكُ الْعَوَالِمِ الْبَاقِيَةِ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي تِلْكَ الْعَوَالِمِ بِمَا فِيهَا بِالتَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ. وَتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِقَصْدِ التَّقَوِّي إِذْ لَيْسَ الْمُخَاطَبُونَ بِمُثْبِتِينَ رُجْعَى إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ أَصْلًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِلْأَصْنَامِ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] فَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ فِي
269
الدُّنْيَا أَوْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْجَدَلِ وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ [الزخرف: ٨٦].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلْمُبَاشَرَةِ بِالتَّهْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ تَبَعًا لِأُسْلُوبِ الضَّمَائِرِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيّ للْمَجْهُول.
[٨٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٦]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)
لَمَّا أَنْبَأَهُمْ أَنَّ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِبْطَالًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَبَدُوا دُونَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ اسْتَثْنَاهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ فَهُمْ يُشَفَّعُونَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] ثُمَّ قَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، وَقَدْ
مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٢٨].
وَوَصَفَ الشُّفَعَاءَ بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ. فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ لِلَّذِينِ خَالَفَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَشْهَدُ لله بِالْحَقِّ.
[٨٧]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٧]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
بَعْدَ أَنْ أَمْعَنَ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ إِلَهٌ غَيْرَ اللَّهِ بِمَا سِيقَ مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، جَاءَ هُنَا بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ غَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
أَيْ سَأَلْتَهُمْ سُؤَالَ تَقْرِيرٍ عَمَّن خلقهمْ فَإِنَّهُ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلِكَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ»، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَكَّدَ إِنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ فَقَالَ: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي سَفَاهَةِ رَأْيِهِمْ إِذْ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مَنْ لَمْ يَخْلُقْ، قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧].
وَالْخُطَّابُ فِي قَوْلِهِ: سَأَلْتَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ إِنْ سَأَلَهُمْ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ وَالْإِقْرَارِ الْإِنْكَارُ وَالتَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.
وَ (أَنَّى) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ فَمَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ يُصْرَفُونَ. ويُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ: يُقَالُ: أَفَكَهُ عَنْ كَذَا، يَأْفِكُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَبُنِيَ لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَمْ يَصْرِفْهُمْ صَارِفٌ وَلَكِنْ صَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ خَالِقِهِمْ، فَقَوْلُهُ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ، أَيْ أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَفْسِكَ إِذْ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ ذَاهِبًا ذَهَبَ بِهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا ذهب بِنَفسِهِ.
[٨٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٨]
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
الْقِيلُ مَصْدَرُ قَالَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ مُرَادٌ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيِ الْمَقُولُ مِثْلُ الذِّبْحِ وَأَصْلُهُ: قَوْلٌ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. وَالْمَعْنَى: وَمَقُولِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ: (قِيلَ) ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْحِجَاجِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: ٨١]، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَا
رَبِ
وَبِقَرِينَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ وَبِقَرِينَةِ إِجَابَتِهِ بِقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: ٨٩]، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا عَنِ الْخِطَابِ
271
فِي قَوْلِهِ:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: ٨٧]، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ الْمُحَاجَّةِ وَمِنْ حِكَايَةِ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَزَحْزَحُوا عَنِ الْكُفْرِ قَيْدَ أَنْمُلَةٍ، حَصَلَ الْيَأْسُ لِلرَّسُولِ مِنْ إِيمَانِهِمْ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ الْتِجَاءً إِلَى اللَّهِ فِيهِمْ وَتَفْوِيضًا إِلَيْهِ لِيَجْرِيَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي التَّحَسُّرِ أَوِ الشِّكَايَةِ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الْفرْقَان: ٣٠]، أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَفْرِيعُ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ [الزخرف: ٨٩]، فَفِي ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: ٨٧] فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ: وَقَوْلُكَ: يَا رَبِّ إِلَخْ. وَيُحَسِّنُ هَذَا الِالْتِفَاتَ أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِشَيْءٍ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ فَجَعَلَ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ لِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْمِلُ نِدَاءَهُ وَشَكْوَاهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عَبَسَ: ١]. وَإِضَافَةُ الْقِيلِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ تَكَرَّرَ مِنْهُ وَعُرِفَ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، أَيْ عُرِفَ بِهَذَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقِيلِهِ بِنَصْبِ اللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ الرَّسُولُ قِيلَهُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: ٨٧] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: ٨٧]، أَيْ وَقَالَ الرَّسُولُ حِينَئِذٍ يَا رَبِّ إِلَخْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
تَمْشِي الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا وَقِيلُهُمُ إِنَّكَ يَا بن أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
عَلَى رِوَايَةِ (قَيْلِهِمْ) وَنَصْبِهِ، أَيْ وَيَقُولُونَ: قِيلَهُمْ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْمَعِيِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِقَوْلِهِ: لَا نَسْمَعُ [الزخرف: ٨٠]، وَالتَّقْدِيرُ: بَلَى وَنَعْلَمُ قِيلَهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: ٨٥] أَيْ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ.
272
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِجَرِّ لَامِ (قِيلِهِ) وَيَجُوزُ فِي جَرِّهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى السَّاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف:
٨٥] أَيْ وَعِلْمُ قِيلِ الرَّسُولِ: يَا رَبِّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا وَعْدٌ لِلرَّسُولِ بِالنَّصْرِ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ بِالِانْتِقَامِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْقَسَمِ وَيَكُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ جُمْلَةَ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ: يَا رَبِّ، تَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ وَلِقِيلِهِ الَّذِي هُوَ تَفْوِيضٌ لِلرَّبِّ وَثِقَةٌ بِهِ.
وَمَقُولُ قِيلِهِ هُوَ يَا رَبِّ فَقَطْ، أَيْ أَقْسَمَ بِنِدَاءِ الرَّسُولِ رَبَّهُ نِدَاءَ مُضْطَرٍّ.
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «شَرْحِ الْكَعْبِيَّةِ» عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ: أَنَّ مَنْ جَرَّ فَقَوْلُهُ بِظَنٍّ وَتَخْلِيطٍ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ لِإِمْكَانِ تَخْرِيجِ الْجَرِّ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ.
وَقَدْ حُذِفَ بَعْدَ النِّدَاءِ مَا نُودِيَ لِأَجْلِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَقَامُ مَنْ أَعْيَتْهُ الْحِيلَةُ فِيهِمْ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى رَبِّهِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَسَوف تعلمُونَ [الزخرف: ٨٩].
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْقُرْآنِ غَالِبًا وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ عَدَمِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ مِنْ أَنْ يَقُولَ: هَؤُلَاءِ لَا يُؤمنُونَ.
[٨٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٨٩]
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا أَفْصَحَتْ عَنْ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ الْقِيلَ وَفَوَّضْتَ الْأَمْرَ إِلَيْنَا فَسَأَتَوَلَّى الِانْتِصَافَ مِنْهُمْ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ، أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ لَهُمْ وَقُلْ لَهُمْ إِنْ جَادَلُوكَ: سَلامٌ، أَيْ سَلَّمْنَا فِي الْمُجَادَلَةِ وَتَرَكْنَاهَا. وَأَصْلُ سَلامٌ مَصْدَرٌ جَاءَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. فَأَصْلُهُ النَّصْبُ، وَعُدِّلَ إِلَى رَفْعِهِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢].
273
يُقَالُ: صَفَحَ يَصْفَحُ مِنْ بَابِ مَنَعَ بِمَعْنَى: أَعْرَضَ وَتَرَكَ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥] وَلَكِنَّ الصَّفْحَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الصَّفْحِ الْمُنْكَرِ وُقُوعُهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَهْدِيدًا لَهُمْ وَوَعِيدًا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ تَعْلَمُونَ لِلتَّهْوِيلِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ تَعْلَمُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مِمَّا أُمِرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ وَقُلْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ.
وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الْجِدَالِ وَالْوَعِيدِ مَا يُؤْذِنُ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ.
274

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٤- سُورَةُ الدُّخَانِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ حم الدُّخَانُ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ يُعَضِّدُ بَعْضُهُمَا بَعْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانَ فِي لَيْلَةٍ أَوْ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ»
الْحَدِيثَ. وَاللَّفْظَانِ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ حم غَيْرُ خَاصَّةٍ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَلَا تُعَدُّ عَلَمًا لَهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ.
وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ الدُّخَانِ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالدُّخَانِ وُقُوعُ لَفْظِ الدُّخَانِ فِيهَا الْمُرَادُ بِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أَيَّدَ اللَّهُ بهَا رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الدُّخَانِ بِمَعْنًى آخَرَ قَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ حم تَنْزِيلُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: ١١] وَهِيَ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ تَنْزِيلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْجَعْبَرِيُّ وَصَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَى أَنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَا أَحْفَظُ خِلَافًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» اسْتِثْنَاءُ قَوْله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥] وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْكَوَاشِيُّ قَوْلًا وَمَا عَزَاهُ إِلَى مُعَيَّنٍ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَوْلٌ نَشَأَ عَمَّا فَهِمَهُ الْقَائِلُ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
275
Icon