تفسير سورة الزخرف

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِين ِإِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً ﴾.
قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود.
وقوله تعالى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً ﴾ قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى :﴿ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين َبِلِسَانٍ عربي مُّبِينٍ ﴾ [ لشعراء : ١٩٤- ١٩٥ ] وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذي عِوَجٍ ﴾ [ الزمر : ٢٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأولين ﴾.
الضمير في قوله منهم عائد إلى القوم المسرفين، المخاطبين بقوله :﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥ ]، وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
وقوله ﴿ أَشَدَّ مِنْهُم ﴾ مفعول به لأهلكنا، وأصله نعت لمحذوف، والتقدير : فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، على حد قوله في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عُقِل يجوز حذفه وفي النعت يَقِل
وقوله بطشاً : تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعَلا مفضِّلاً كأنت أعلا منزِلاَ
والبطش : أصله الأخذ بعنف وشدة.
والمعنى : فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً، أي أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً.
فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَضَى مَثَلُ الأولين ﴾ أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل، بسبب تكذيبهم الرسل.
وقوله من قال :﴿ مَثَلُ الأولين ﴾ أي عقوبتهم وسنتهم راجع في المعنى إلى ذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، بأن الله أهلك من هم أقوى منهم، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ [ الروم : ٩ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً في الأرض ﴾ [ غافر : ٨٢ ]. وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ في الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ﴾ إلى قوله ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ٦ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رسلي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [ سبأ : ٤٥ ]. وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شيء في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾ [ فاطر : ٤٤ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَمَضَى مَثَلُ الأولين ﴾ ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، بصفته إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً في الأرض وَمَكْرَ السيئ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [ فاطر : ٤٢ -٤٣ ] وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ غافر : ٨٣ -٨٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين ﴾ [ الكهف : ٥٥ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين ﴾ [ الزخرف : ٥٥ – ٥٦ ].
وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل ﴾ [ المائدة : ٣٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة بني إسرائيل، في الكلام على وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
قوله تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.
قرأ هذا الحرف، عاصم وحمزة والكسائي ﴿ مِهداً ﴾ بفتح الميم وسكون الهاء وقرأه باقي السبعة ﴿ مِهَاداً ﴾ بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد وهو الفراش.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جعل الأرض لبني آدم مهداً أي فراشاً وأنه جعل لهم فيها سبلاً أي طرقاً ليمشوا فيها ويسلكوها، فيصلوا بها من قطر إلى قطر. وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، من كونه تعالى جعل الأرض فراشاً لبني آدم وجعل لهم فيها الطرق، لينفذوا من قطر إلى قطر، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا ًلِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ﴾ [ نوح : ١٩ -٢٠ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا في الأرض رواسي أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ].
وذكر كون الأرض فراشاً لبني آدم في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٨ ] وقوله تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ]. وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً ﴾ [ غافر : ٦٤ ] الآية.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَى في الأرض رواسي أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ النحل : ١٥ ].
قوله تعالى :﴿ والذي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت، في قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ جاء موضحاً في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢ ] مع بقية براهين البعث في القرآن. وأوضحنا ذلك أيضاً في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ ]، وفي غير ذلك من المواضع، وأحلنا على ذلك مراراً كثيرة في هذا الكتاب المبارك.
وقد قدمنا في سورة الفرقان معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ بِقَدَرٍ ﴾.
قال بعض العلماء : أي بقدر سابق وقضاء.
وقال بعض العلماء : أي بمقدار يكون به إصلاح البشر فلم يكثر الماء جداً فيكون طوفاناً فيهلكهم، ولم يجعله قليلاً دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ].
وقال تعالى :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ إلى قوله ﴿ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٢١ -٢٢ ].
قوله تعالى :﴿ والذي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا ﴾.
الأزواج الأصناف، والزوج تطلقه العرب على الصنف.
وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله.
قال تعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يس : ٣٦ ].
وقال تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ [ طه : ٥٣ ] وقال تعالى :﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] أي من كل صنف حسن من أصناف النبات.
وقال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [ لقمان : ١٠ ]. ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله تعالى :﴿ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ [ ص : ٥٨ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ﴾ [ طه : ١٣١ ].
وقد قدمنا طرفاً من ذلك في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى ﴿ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [ ١٢ – ١٣ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة المؤمن، في الكلام على قوله تعالى ﴿ اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا ﴾ [ غافر : ٧٩ ] الآية. وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله :﴿ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ﴾، وقوله :﴿ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ راجع إلى لفظ ما في قوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [ ١٢ – ١٣ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة المؤمن، في الكلام على قوله تعالى ﴿ اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا ﴾ [ غافر : ٧٩ ] الآية. وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله :﴿ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ﴾، وقوله :﴿ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ راجع إلى لفظ ما في قوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾.
يعني جل وعلا أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام ليستووا أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ثم يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون ﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ١٣ ].
وقوله :«سبحان » قد قدمنا في أول سورة بني إسرائيل معناه، بإيضاح وأنه يدل على تنزيه الله جل وعلا أكمل التنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله والإشارة في قوله ﴿ هَذَا ﴾ راجعة إلى لفظ ﴿ مَا ﴾ من قوله :﴿ مَا تَرْكَبُونَ ﴾ وجمع الظهور نظراً إلى معنى ﴿ مَا ﴾، لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ولفظها مفرد، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد باعتبار لفظها.
وقوله :﴿ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا ﴾ أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ أي مطيقين. والعرب تقول : أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به من قولهم : أقرنت الدابة للدابة، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها لأن الضعيف إذا لز في القرن أي الحبل، مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر
وقول الآخر :
ركبتم صعبتي أشراً وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه جاء مبيناً في آيات أخر. قال تعالى في ركوب الفلك :﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ [ يس : ٤١ -٤٢ ]. وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ [ النحل : ١٤ ] الآية. وقال تعالى :﴿ اللَّهُ الذي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ الجاثية : ١٢ ] الآية. وقال تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ] الآية. وقال تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ]. وقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِى في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقال تعالى في تسخير الأنعام :﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٧٢ ] وقال تعالى :﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون َلَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الحج : ٣٦ -٣٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ﴾. قال بعض العلماء ﴿ جُزْءًا ﴾ أي عدلاً ونظيراً، يعني الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله.
وقال بعض العلماء :﴿ جُزْءًا ﴾ أي ولداً.
وقال بعض العلماء :﴿ جُزْءًا ﴾ يعني البنات.
وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية : أن الجزء النصيب، واستشهد على ذلك بآية الأنعام. أعني قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] الآية.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر أن قول ابن كثير هذا رحمه الله غير صواب في الآية.
لأن المجعول لله في آية الأنعام، هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام، والمجعول له في آية الزخرف هذه، جزء من عباده لا مما ذرأ من الحرث والأنعام.
وبين الأمرين فرق واضح كما ترى.
وأن قول قتادة ومن وافقه : إن المراد بالجزء العدل والنظير الذي هو الشريك غير صواب أيضاً.
لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب.
أما كون المراد بالجزاء في الآية الولد، وكون المراد بالولد خصوص الإناث، فهذا هو التحقيق في الآية.
وإطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين :
أحدهما : ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مراداً به البنات، ويقولون : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، وامرأة مجزئة أي تلد البنات، قالوا ومنه قول الشاعر :
إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب قد تجزىء الحرة المذكار أحياناً
وقول الآخر :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل
وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلاً إنها كذب وافتراء على العرب.
قال في الكشاف في الكلام على هذه الآية الكريمة : ومن بدع التفاسير، تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث منحول ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا بيتاً وبيتاً :
* إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب *
زوجتها من بنات الأوس مجزئة ا ه. منه بلفظه.
وقال ابن منظور في اللسان : وفي التنزيل العزيز :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ﴾ [ الزخرف : ١٥ ]. قال أبو إسحاق يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات الله تعالى وتقدس عما افتروا، قال : وقد أنشدت بيتاً يدل على أن معنى جزءاً معنى الإناث قال : ولا أدري البيت هو قديم أو مصنوع ؟
* إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب * البيت
والمعنى في قوله :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ﴾ [ الزخرف : ١٥ ] أي جعلوا نصيب الله من الولد الإناث، قال ولم أجده في شعر قديم ولا رواه عن العرب الثقات، وأجزأت المرأة ولدت الإناث، وأنشد أبو حنيفة :
* زوجتها من بنات الأوس مجزئة * البيت
انتهى الغرض من كلام صاحب اللسان.
وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم : أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث معروف، ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له.
والوجه الثاني : وهو التحقيق إن شاء الله أن المراد بالجزء في الآية الولد، وأنه أطلق عليه اسم الجزء، لأن الفرع كأنه جزء من أصله والولد كأنه بضعة من الوالد كما لا يخفى.
وأما كون المراد بالولد المعبر عنه بالجزء في الآية خصوص الإناث فقرينة السياق دالة عليه دلالة واضحة، لأن جعل الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكاراً شديداً وقرع مرتكبه تقريعاً شديداً في قوله تعالى بعده ﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾ إلى قوله :﴿ وَهُوَ في الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ [ الزخرف : ١٦ -١٨ ].
وقرأ هذا الحرف شعبة عن عاصم ﴿ جُزْءا ﴾ بضم الزاي وباقي السبعة بإسكانها وحمزة عند الوقف يسقط الهمزة، بنقل حركتها إلى الزاي مع حذف التنوين للوقف.
قوله تعالى :﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ﴾.
أم هنا بمعنى استفهام الإنكار، فالكفار لما قالوا : الملائكة بنات الله أنكر الله عليهم أشد الإنكار، موبخاً لهم أشد التوبيخ، حيث افتروا عليه الولد، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما وهو الأنثى كما قال هنا :﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ﴾ وهي النصيب الأدنى من الأولاد، وأصفاكم أنتم، أي خصكم وآثركم بالبنين الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد.
وإنكار هذا عليهم وتوبيخهم عليه جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله هنا ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ﴾ [ الزخرف : ١٧ ] يعني الأنثى، كما أوضحه بقوله :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [ النحل : ٥٨ ] يعني فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسوداً يعني من الكآبة وهو كظيم أي ممتلئ حزناً وغماً، وكقوله تعالى هنا ﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ [ الزخرف : ١٨ ] ففيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم عليه جل وعلا الولد جعلوا له أنقص الولدين الذي لنقصه الخلقي، ينشأ في الحلية من الحلي والحلل وأنواع الزينة، من صغره إلى كبره ليجبر بتلك الزينة نقصه الخلقي الطبيعي، وهو في الخصام غير مبين، لأن الأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها.
وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية غاية الإيضاح في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وكقوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ]. وقوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ [ النحل : ٦٢ ]. وقوله تعالى :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ [ الإسراء : ٤٠ ] وقوله تعالى ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [ النجم : ٢١ -٢٢ ].
وقوله تعالى :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ الصافات : ١٤٩-١٥٧ ].
وقد قدمنا كثيراً من الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ] ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلاً الله في قوله :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ﴾ [ الزخرف : ١٧ ] الآية ظاهر، لأن البنات المزعومة يلزم ادعاءها أن تكون من جنس من نسبت إليه، لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ ﴾.
قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر ﴿ عِندَ الرَّحْمَانِ ﴾ بسكون النون وفتح الدال ظرف كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ]، وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ﴿ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ ﴾ بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال جمع عبد كقوله :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ ﴾ الآية.
وقوله ﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾. قرأه عامة السبعة غير نافع أشهدوا بهمزة واحدة مع فتح الشين، وقرأه نافع أأشهد. بهمزتين الأولى مفتوحة محققة، والثانية مضمومة مسهلة بين بين وقالوا يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربع مسائل :
الأولى : أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث زاعمين أنهم بنات الله.
الثانية : أنه وبخهم على ذلك توبيخاً شديداً وأنكر عليهم ذلك في قوله :﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾ يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثاً.
الثالثة : أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم.
الرابعة : أنهم يسألون عنها يوم القيامة.
وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة، جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأولى منها. وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثاً، فقد ذكرها تعالى في مواضع من كتابه كقوله تعالى ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ [ الإسراء : ٤٠ ]. وكقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثى ﴾ [ النجم : ٢٧ ] الآية، وقوله تعالى ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً ﴾ [ الصافات : ١٤٩ -١٥٠ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المسألة الثانية، وهي سؤاله تعالى لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه، حتى علموا أنهم خلقوا إناثاً فقد ذكرها في قوله تعالى :﴿ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ [ الصافات : ١٥٠ ] وبين تعالى أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله :{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الكهف : ٥١ ] الآية.
وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم، فقد ذكرها تعالى في مواضع من كتابه كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين َكِرَاماً كَاتِبِين َيَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الانفطار : ١٠ -١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴾ [ يونس : ٢١ ] وقوله تعالى :﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ ﴾ [ الإسراء : ١٣ -١٤ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٩ ].
وأما المسألة الرابعة : وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر، فقد ذكرها تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] وقوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢ -٩٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾ [ النحل : ٥٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾.
في هذه الآية الكريمة إشكال معروف، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا، أعني قوله تعالى ﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ]، هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح، لأن الله لو شاء أن يعبدوهم ما عبدوهم، كما قال تعالى ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ [ السجدة : ١٣ ] الآية. وقال تعالى :﴿ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٩ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ يونس : ٩٩ ].
وهذا الإشكال المذكور في آية الزخرف هو بعينه واقع في آية الأنعام، وآية النحل.
أما آية الأنعام فهي قوله :﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شيء ﴾ [ ١٤٨ ].
وأما آية النحل، فهي قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شيء نَّحْنُ وَلا ءَابَاؤُنَا ﴾ الآية.
فإذا عرفت أن ظاهر آية الزخرف وآية الأنعام، وآية النحل : أن ما قاله الكفار حق، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئاً، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريباً.
فاعلم أن وجه الإشكال، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق، قال في آية الزخرف :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ] أي يكذبون، وقال في آية الأنعام ﴿ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ]، وقال في آية النحل ﴿ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [ النحل : ٣٥ ].
ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم، هو الكفر بالله والكذب على الله، في جعل الشركاء له وأنه حرم ما لم يحرمه.
والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم ﴿ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٢٠ ] وقولهم ﴿ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] مرادهم به أن الله لما كان قادراً على منعهم من الشرك، وهدايتهم إلى الإيمان ولم يمنعهم من الشرك. دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم.
قالوا لأنه لو لم يكن راضياً به، لصرفنا عنه، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة فنصب على دعواهم أنه راض به، والله جل وعلا يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة وفي قوله ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [ الزمر : ٧ ].
فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية، تستلزم الرضى وهو زعم باطل، وهو الذي كذبهم الله فيه من الآيات المذكورة.
وقد أشار تعالى إلى هذه الآيات المذكورة، حيث قال في آية الزخرف :﴿ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢١ ] أي آتيناهم كتاباً يدل على أنا رضوان منهم بذلك الكفر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله تعالى :﴿ أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾.
أم هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار، يعني جل وعلا أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان، وجعلهم الملائكة بنات الله، لا دليل لهم عليه. ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتاباً يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، فأنكر عليهم هذا هنا إنكاراً دالاً على النفي للتمسك بالكتاب المذكور، مع التوبيخ والتقريع.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة فاطر ﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَـاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] الآية.
وقوله تعالى في الأحقاف ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَـاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـذَآ أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٤ ].
وقوله تعالى في الروم :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٣٥ ].
وقوله تعالى في الصافات :﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَـابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ [ النمل : ٦٤ ].
وقوله تعالى في النمل :﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَإلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ [ الصافات : ١٥٦ -١٥٧ ].
وقوله تعالى في الحج ولقمان :﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـابٍ مُّنِيرٍ ﴾ [ الحج : ٨ ].
وقوله تعالى في الأنعام :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].

ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبيناً أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى، وذلك في قوله ﴿ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ أي شريعة وملة وهي الكفر وعبادة الأوثان ﴿ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾.
فقوله عنهم مهتدون هو مصب التكذيب، لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال.
فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريباً إن شاء الله.
وقال تعالى في آية النحل بعد ذكره دعواهم المذكورة :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾ [ النحل : ٣٦ ].
فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضياً بكفرهم، وأنه بعث في كل أمة رسولاً، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده، ويجتنبوا الطاغوت أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه.
وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الكفر والشقاء.
وقال تعالى في آية الأنعام ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٩ ].
فملكه تعالى وحده للتوفيق والهداية، هو الحجة البالغة على خلقه، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق، فهو فضل منا ورحمة.
ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة، لأنه لم يكن له ذلك ديناً علينا ولا واجباً مستحقاً يستحقه علينا، بل إن أعطينا ذلك ففضل، وإن لم نعطه فعدل.
وحاصل هذا : أن الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق، قبل أن يخلق الخلق، وعلم أن قوماً صائرون إلى الشقاء وقوماً صائرون إلى السعادة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
وأقام الحجة على الجميع، ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبساً فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك.
ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه، من أعمال الخير المستوجبة للسعادة وأعمال الشر المستوجبة للشقاء.
فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا، طائعين مختارين، غير مجبورين، ولا مقهورين ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الإنسان : ٣٠ ]. ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٩ ].
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء.
ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، كحركة المرتعش فرقاً ضرورياً، لا ينكره عاقل.
وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلاً، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك.
بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلاً :
إن هذا بإرادتك ومشيئتك.
ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن أحداً أن ينكر علم الله بكل شيء، قبل وقوعه والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر.
وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتُصيِّر علم الله جهلاً، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟
والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الإنسان : ٣٠ ]، وقال الله تعالى :﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٩ ].
ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه فيأتيه العبد طائعاً مختاراً غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الإنسان : ٣٠ ].
والمناظرة التي ذكرها بعضهم، بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا.
وهي أن عبد الجبار قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله، لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته.
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل.
ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه.
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبراً عليه، أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالرديء، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب.
ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار، هو معنى قوله تعالى :﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٩ ].
وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه.
فقال عمرو ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها، لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا.
فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب، يقع في ملكه ما لا يشاؤه فألقمه حجراً.
وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام عن آية الأنعام المذكورة في هذا البحث، وفي سورة الشمس في الكلام عن قوله تعالى :﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [ الشمس : ٨ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله تعالى :﴿ أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾.
أم هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار، يعني جل وعلا أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان، وجعلهم الملائكة بنات الله، لا دليل لهم عليه. ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتاباً يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، فأنكر عليهم هذا هنا إنكاراً دالاً على النفي للتمسك بالكتاب المذكور، مع التوبيخ والتقريع.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في سورة فاطر ﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَـاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] الآية.
وقوله تعالى في الأحقاف ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَـاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـذَآ أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٤ ].
وقوله تعالى في الروم :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٣٥ ].
وقوله تعالى في الصافات :﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَـابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ [ النمل : ٦٤ ].
وقوله تعالى في النمل :﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَإلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ ﴾ [ الصافات : ١٥٦ -١٥٧ ].
وقوله تعالى في الحج ولقمان :﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـابٍ مُّنِيرٍ ﴾ [ الحج : ٨ ].
وقوله تعالى في الأنعام :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].

قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ﴾ [ ٢٣ -٢٤ ].
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة قد أفلح المؤمنون، في الكلام على قوله تعالى ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ [ المؤمنون : ٤٤ ] الآية.
وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ].
وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ﴾.
قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم : قُلْ أو لو جئتكم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر.
وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم، قَالَ أو لو جئتكم بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي.
فعلى قراءة الجمهور فالمعنى قل لهم يا نبي الله أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال، ولو جئتكم بأهدى، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آبائكم، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلاً.
وعلى قراءة ابن عامر وحفص : فالمعنى قال هو : أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مراراً في هذا الكتاب المبارك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى في البقرة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ]، وكقوله تعالى في المائدة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ].
وأوضح تعالى في آية لقمان أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ لقمان : ٢١ ] كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ [ الصافات : ٦٩ -٧٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأبيه وَقَوْمِهِ مَا هذه التَّمَاثِيلُ التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِين َقَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنبياء : ٥١ -٥٤ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبيه وَقَوْمِهِ إنني بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُون َإِلاَّ الذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه : إنه براء أي بريء، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها، من دون الله أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده فهو وحده معبوده.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه كقوله تعالى :﴿ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّقْدَمُون َفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِينِ ٤ ﴾ [ الشعراء : ٧٥ -٧٨ ]. وكقوله تعالى :﴿ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يا قَوْمِ إني بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ إني وَجَّهْتُ وجهي للذي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٨ -٧٩ ].
وزاد جل وعلا في سورة الممتحنة براءته أيضاً من العابدين وعداوته لهم وبغضه لهم في الله، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ]
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ ذكر نحوه في قوله :﴿ الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ إني ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ ﴾ [ الصافات : ٩٩ ] وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يهدني رَبِّى لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٧ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ إنني بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ إِلاَّ الذي فطرني ﴾ أي خلقني. يدل على أنه لا يستحق العبادة، إلا الخالق وحده جل وعلا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ الذي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأولين ﴾ [ الشعراء : ١٨٤ ] وقوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ] وقوله تعالى :﴿ الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الفرقان : ٢ -٣ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبيه وَقَوْمِهِ إنني بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُون َإِلاَّ الذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه : إنه براء أي بريء، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها، من دون الله أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده فهو وحده معبوده.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه كقوله تعالى :﴿ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّقْدَمُون َفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِينِ ٤ ﴾ [ الشعراء : ٧٥ -٧٨ ]. وكقوله تعالى :﴿ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يا قَوْمِ إني بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ إني وَجَّهْتُ وجهي للذي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٨ -٧٩ ].
وزاد جل وعلا في سورة الممتحنة براءته أيضاً من العابدين وعداوته لهم وبغضه لهم في الله، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ]
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ ذكر نحوه في قوله :﴿ الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ إني ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ ﴾ [ الصافات : ٩٩ ] وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يهدني رَبِّى لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٧ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ إنني بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ إِلاَّ الذي فطرني ﴾ أي خلقني. يدل على أنه لا يستحق العبادة، إلا الخالق وحده جل وعلا.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ الذي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأولين ﴾ [ الشعراء : ١٨٤ ] وقوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ] وقوله تعالى :﴿ الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الفرقان : ٢ -٣ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون َبَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِين ٌوَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾.
الضمير المنصوب في جعلها على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله، المذكورة في قوله ﴿ إنني بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فطرني ﴾ [ الزخرف : ٢٦ -٢٧ ] لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات.
وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله ﴿ إنني بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٦ ].
ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله.
وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله :﴿ إِلاَّ الذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾.
وضمير الفاعل المستتر في قوله ﴿ وَجَعَلَهَا ﴾ [ الزخرف : ٢٨ ].
قال بعضهم : هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق.
وقال بعضهم : هو راجع إلى الله تعالى.
فعلى القول الأول فالمعنى صيَّر إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه أي ولده وولد ولده.
وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم لأنه تسبب لذلك بأمرين :
أحدهما : وصيته لأولاده بذلك وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه، فيوصي به السلف منهم الخلف، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين َوَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ﴾ [ البقرة : ١٣٠ -١٣٢ ].
والأمر الثاني هو سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، كقوله تعالى ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذريتي ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، أي واجعل من ذريتي أيضاً أئمة، وقوله تعالى عنه ﴿ رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذريتي ﴾ [ إبراهيم : ٤٠ ] وقوله عنه ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ] وقوله عنه هو وإسماعيل ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ إلى قوله ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٨ -١٢٩ ].
وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمداً صلى الله عليه وسلم.
ولذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «أنا دعوة إبراهيم ».
وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، كما قال تعالى في سورة العنكبوت ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٧ ]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [ الحديد : ٢٦ ] الآية.
وعلى القول الثاني، أن الضمير عائد إلى الله تعالى، فلا إشكال.
وقد بين تعالى في آية الزخرف هذه، أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه، لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا إنه ساحر. وكثير منهم مات على ذلك. وذلك في قوله تعالى ﴿ بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء ﴾ يعني كفار مكة وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين، هو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾.
وما دلت عليه آية الزخرف هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة :﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] أي الظالمين من ذرية إبراهيم.
وقوله تعالى في الصافات ﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [ الصافات : ١١٣ ].
فالمحسن منهم هو الذي الكلمة باقية فيه، والظالم لنفسه المبين منهم ليس كذلك.
وقوله تعالى في النساء ﴿ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيما ًفَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ﴾ [ النساء : ٥٤ -٥٥ ].
وقد بين تعالى في الحديد أن غير المهتدين منهم كثيرون وذلك في قوله ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [ الحديد : ٢٦ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي جعل الكلمة باقية فيهم لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين لمهتدين منهم، لأن الحق ما دام قائماً في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول كما دل عليه قوله ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٨ ].
والرجاء المذكور بالنسبة إلى بني آدم، لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى، ومن يصير إلى الضلال.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفي الكلام تقديم وتأخير.
والمعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون، أي قال لهم، يتوبون عن عبادة غير الله. ا ه منه.
وإيضاح كلامه، أن المعنى أن إبراهيم، قال لأبيه وقومه : إنني براء مما تعبدون لأجل أن يرجعوا عن الكفر إلى الحق.
والضمير في قوله لعلهم يرجعوا على هذا راجع إلى أبيه وقومه.
وعلى ما ذكرناه أولاً فالضمير راجع إلى من ضل من عقبه، لأن الضالين منهم داخلون في لفظ العقب.
فرجوع ضميرهم إلى العقب لا إشكال فيه وهذا القول هو ظاهر السياق، والعلم عند الله تعالى.
مسألة
ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على اتحاد معنى العقب والذرية والبنين، لأنه قال في بعضها عن إبراهيم ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ].
وقال عنه في بعضها ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي ﴾ [ إبراهيم : ٤٠ ] وفي بعضها ﴿ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] الآية، وفي بعضها ﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] وفي بعضها ﴿ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٧ ] وفي بعضها ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ ﴾ [ الزخرف : ٢٨ ].
فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد، لأن جميعها في شيء واحد. وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن، يدل على أن من وقف وقفاً أو تصدق صدقة على بنيه أو ذريته أو عقبه، أن حكم ذلك واحد.
وقد دل بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم الذرية واسم البنين.
وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت، في اسم الذرية والبنين والفرض أن العقب بمعناهما، دل ذلك على دخول أولاد البنات في العقب أيضاً، فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله تعالى ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ﴾ [ الأنعام : ٨٤ -٨٥ ] وهذا نص قرآني صريح في دخول ولد البنت في اسم الذرية، لأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ولد بنت إذ لا أب له.
ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله تعالى ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] وقوله تعالى ﴿ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت ﴾ [ النساء : ٢٣ ] لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة، شامل لبنات البنات وبنات بناتهن وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص قرآني صحيح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن.
فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب، هو ظاهر القرآن ولا ينبغي العدول عنه.
وكلام فقهاء الأمصار من الأئمة الأربعة وغيرهم في الألفاظ المذكورة معروف، ومن أراد الاطلاع عليه فلينظر كتب فروع المذاهب ولم نبسط على ذلك الكلام هنا لأننا نريد أن نذكر هنا ما يدل ظاهر القرآن على ترجيحه من ذلك فقط.
أما لفظ الولد فإن القرآن يدل على أن أولاد البنات لا يدخلون فيه.
وذلك في قوله تعالى ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ ﴾ [ النساء : ١١ ] الآية، فإن قوله في أولادكم لا يدخل فيه أولاد البنات، وذلك لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص صريح قرآني على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد.
وإن كان جماهير العلماء على أن العقب والولد سواء.
ولا شك أن اتباع القرآن هو المتعين على كل مسلم.
أما لفظ النسل فظاهر القرآن شموله لأولاد البنات لأن قوله تعالى ﴿ ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الذي أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ السجدة : ٦ -٨ ] ظاهر في أن لفظة النسل في الآية شاملة لأولاد البنات كما لا يخفى.
والألفاظ التي يتكلم عليها العلماء في هذا المبحث هي أحد عشر لفظاً ذكرنا خمسة منها وهي : الذرية والبنون والعقب والولد والنسل. وذكرنا أن أربعة منها يدل ظاهر القرآن على أنها يدخل فيها أولاد البنات وواحد بخلاف ذلك وهو الولد.
وأما الستة الباقية منها فهي الآل والأهل ومعناهما واحد.
والقرابة والعشيرة والقوم والموالي، وكلام العلماء فيها مضطرب.
ولم يحضرني الآن تحديد يتميز به ما يدخل في كل واحد منها وما يخرج عنه إلا على سبيل التقريب إلا لفظين منها وهما القرابة والعشيرة.
أما القرابة فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم «أنه أعطى من خمس خيبر بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل » مبيناً أن ذلك هو معنى قوله تعالى ﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ولذي الْقُرْبَى ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] كما تقدم إيضاحه في سورة الأنفال في الكلام على آية الخمس هذه.
وأما العشيرة فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أنه لما نزلت ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي «يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا » الحديث. وفيه تحديد العشيرة الأقربين بجميع بني فهر بن مالك وهو الجد العاشر له صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أبي هريرة في الصحيح. أنه لما نزلت الآية المذكورة قال «يا معشر قريش أو كلمة نحوها
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ ٣١ -٣٢ ].
وقالوا : أي قال كفار مكة، لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين، أي من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف عظيم يعنون بعظمه، كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وعظيم الطائف. هو عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عمرو بن عمير. وقيل هو كنانة بن عبد ياليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر كما أوضحناه مراراً.
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين :
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث يجعلون كثرة المال، والجاه في الدنيا، موجباً لاستحقاق النبوة. وتنزيل الوحي.
ولذا زعموا، أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، بقوله ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي.
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن كقوله تعالى في الدخان ﴿ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين َرَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [ الدخان : ٥ -٦ ]، وقوله في آخر القصص ﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ [ القصص : ٨٦ ] الآية، وقوله في آخر الأنبياء ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
وقد قدمنا الآيات الدالة، على إطلاق الرحمة : والعلم على النبوة في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ [ الكهف : ٦٥ ] الآية.
وقدمنا معاني إطلاق الرحمة، في القرآن في سورة فاطر، في الكلام على قوله تعالى ﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ [ فاطر : ٢ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم، في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً، وهذا وضيعاً، وهذا خادماً، وهذا مخدوعاً، ونحو ذلك فإذا لم يفوض إليهم، حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها.
بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي ؟
فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير.
ومعنى تسخير بعضهم لبعض، خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض، لأن نظام العالم في الدنيا، يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا، أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهييء له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي فتنتظم المعيشة، لكل منهما وهكذا.
وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا، في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً، وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في ( ص ) في قوله تعالى ﴿ أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ في شَكٍّ مِّن ذِكْرِى ﴾ [ ص : ٨ ] الآية.
فقول كفار مكة ﴿ أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ [ ص : ٨ ] معناه إنكارهم، أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه، لكثرة ماله، وجاهه وشرفه فيهم.
وقد قال قوم صالح، مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى منهم ﴿ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ [ القمر : ٢٥ ].
فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة.
كما قال تعالى ﴿ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ البقرة : ١١٨ ] وقال تعالى ﴿ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [ الذاريات : ٥٣ ].
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] وقوله تعالى في المدثر ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِيءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾ [ المدثر : ٥٢ ].
أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء، كما قال مجاهد وغير واحد، وهو ظاهر القرآن.
وفي الآية قول آخر معروف.
وأما إنكاره تعالى عليهم، اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم، وتسفيه عقولهم، في قوله :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ]. فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام.
لأنه تعالى لما قال ﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ أتبع ذلك بقوله، رداً عليهم، وإنكاراً لمقالتهم ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
ثم أوعدهم على ذلك فقوله ﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم، فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾ [ النحل : ٧١ ]. وقوله تعالى ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وللآخرة أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٢٧ ] وقوله تعالى :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] الآية.
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل، والتفاوت في الأرزاق، والحظوظ والقوة والضعف، ونحو ذلك، بقوله هنا ﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ]، كما تقدم.
وقوله تعالى هنا ﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾. يعني أن النبوة، والاهتداء يهدي الأنبياء، وما يناله المهتدون يوم القيامة، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى، في غير هذا الموضع، كقوله في سورة يونس ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٧ ] وقوله تعالى في آل عمران ﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ يونس : ٥٨ ] الآية.
مسألة
دلت هذه الآيات الكريمة، المذكورة هنا، كقوله تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ]. وقوله ﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الْرِّزْقِ ﴾ [ النحل : ٧١ ] الآية ونحو ذلك من الآيات، على أن تفاوت الناس في الأرزاق، والحظوظ سنة، من سنن الله السماوية الكونية، القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض، البتة تبديلها، ولا تحويلها، بوجه من الوجوه، ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية، إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص، عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس، في معايشهم أمر باطل. لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم، بأملاك جميع الناس، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها، كيف شاءوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينظم إليها، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد. وغيرهم من عامة الشعب. محرومون من كل خير. مظلومون في كل شيء. حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة، كما تعلف البغال والحمير.
وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، بقوله تعالى :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٥ ].
وقوله :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُون َوَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدُّنْيَا والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
قوله لبيوتهم، في الموضعين، قرأه ورش وأبو عمرو وحفص، عن عاصم، بضم الباء على الأصل.
وقرأه قالون، عن نافع وابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وشعبة عن عاصم ﴿ لِبُيُوتِهِمْ ﴾ بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء.
وقوله سقفاً : قرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم، سقفاً بضمتين، على الجمع.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ﴿ سَقْفاً ﴾ بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع.
وقوله :﴿ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ قرأه نافع وابن كثير، وابن عامر، في رواية ابن ذكوان، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي ﴿ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدُّنْيَا ﴾ بتخفيف الميم من لما.
وقرأه عاصم، وحمزة وهشام، عن ابن عامر، وفي إحدى الروايتين ﴿ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدُّنْيَا ﴾ بتشديد الميم من لما.
ومعنى الآية الكريمة، أن الله لما بين حقارة الدنيا، وعظم شأن الآخرة في قوله :﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ].
أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة، بين المؤمنين، والكافرين وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصاً بالمؤمنين، دون الكافرين وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر، في نعيم الدنيا بقوله :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة، متفقة على الكفر، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار.
ولكننا لعلمنا، بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا، وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنياً وفقيراً، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.
ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله :﴿ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدُّنْيَا والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزخرف : ٣٥ ].
أي خالصة لهم دون غيرهم.
وهذا المعنى جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ في الحياة الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ].
فقوله :﴿ قُلْ هي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة.
أي خاصة بهم، دون الكفار، يوم القيامة.
إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة.
فقوله في آية الأعراف هذه ﴿ قُلْ هي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ في الحياة الدُّنْيَا ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا.
وذلك الاشتراك المذكور، دل عليه حرف الامتناع، للوجود الذي هو لولا، في قوله هنا﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ].
وخصوص طيبات الآخرة، بالمؤمنين المنصوص عليه في آية الأعراف بقوله ﴿ خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] هو الذي أوضحه تعالى في آية الزخرف هذه بقوله ﴿ والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزخرف : ٣٥ ].
وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله.
وما دلت عليه هذه الآيات. من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى ﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] وقوله ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ] وقول تعالى ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٢٣ ] وقوله ﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ في الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩ -٧٠ ] والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه، أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى ﴿ فذرني وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون َوَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ﴾ [ القلم : ٤٤-٤٥ ] وقوله تعالى ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُون َفَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنعام : ٤٤- ٤٥ ] وقوله تعالى ﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٥ ] وقوله تعالى ﴿ قُلْ مَن كَانَ في الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً ﴾ [ مريم : ٧٥ ] على أظهر التفسيرين. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [ الحج : ٤٤ ].
ودعوى الكفار، أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقاً أعطاهم خيراً منه في الآخرة قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥ -٥٦ ]، وقوله تعالى ﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ [ سبأ : ٣٧ ]، وقوله تعالى ﴿ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [ المسد : ٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ [ الليل : ١١ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا طرفاً من هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ].
ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة. فقوله ﴿ لَّجَعَلْنَا ﴾ أي صيرنا، وقوله ﴿ لِبُيُوتِهِمْ ﴾ بدل اشتمال مع إعادة العامل، من قوله لمن يكفر، وعلى قراءة سقفاً بضمتين، فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف.
وعلى قراءة سقفاً بفتح السين، وسكون القاف : فهو مفرد أريد به الجمع.
وقد قدمنا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ [ الحج : ٥ ] أن المفرد إذا كان اسم جنس. يجوز إطلاقه مراداً به الجمع وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن، ومن الشواهد العربية. على ذلك.
وقوله ﴿ وَمَعَارِجَ ﴾ الظاهر أنه جمع معرج بلا ألف بعد الراء.
والمعرج والمعراج بمعنى واحد وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها، إلى العلو.
وقوله : يظهرون أي يصعدون ويرتفعون، حتى يصيروا على ظهور البيوت. ومن ذلك المعنى قوله تعالى ﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا ﴾ [ الكهف : ٩٧ ].
والسرر جمع سرير، والاتكاء معروف.
والأبواب جمع باب وهو معروف، والزخرف الذهب.
قال الزمخشري : إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر كل ذلك من فضة، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله زخرفاً مفعول، عامله محذوف والتقدير وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً.
وقال بعض العلماء : إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، أي ذهب.
وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله وزخرفاً على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض، وأن المعنى من فضة، ومن زخرف، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفاً.
وأكثر علماء النحو على أن النصيب بنزع الخافض ليس مطرداً ولا قياسياً، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه.
وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله : وإن حذف فالنصب للمتجر نقلاً، إلخ.
وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس، كما أشار في الكافية بقوله :
وابن سليمان اطراده رأى *** إن لم يخف لبس كمن زيد نأى
وقوله تعالى :﴿ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدُّنْيَا ﴾ على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من لما، فإن هي المخففة، من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين إن المخففة من الثقيلة، وإن النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة :
وخففت إن فعل العمل *** وتلزم اللام إذا ما تهمل
وما مزيدة للتوكيد، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام لما بتشديد الميم فإن نافية، ولما حرف إثبات بمعنى إلا.
والمعنى : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
وذكره بعضهم أن تشديد ميم لما على بعض القراءات في هذه الآية وآية الطارق ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [ الطارق : ٤ ] لغة بني هذيل بن مدركة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:قوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] الآية.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:قوله تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] الآية.

قوله تعالى :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في الصافات في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٣ ].
قوله تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٠ ].
قوله تعالى :﴿ فَاسْتَمْسِكْ بالذي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
أمر الله جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم، وبين له أنه على صراط مستقيم أي طريق واضح. لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم، الذي أوحي إليه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، قد جاء موضحاً في آيات أخر، من كتاب الله.
أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم، فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [ الكهف : ٢٧ ].
وأما إخباره له صلى الله عليه وسلم على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أهواء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الجاثية : ١٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الذي لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض ﴾ [ الشورى : ٥٢ -٥٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧٣ -٧٤ ] وقوله تعالى :﴿ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ في الأمر وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الحج : ٦٧ ] وقوله تعالى :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [ النمل : ٧٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وآية الزخرف هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله، وهذا معلوم بالضرورة.
قوله تعالى :﴿ واسأل مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة. من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله، جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ].
وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته.
قال تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٦٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ ﴾ الآية.
قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة الأعراف وسورة طه.
قوله تعالى :﴿ وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به، ولكنه أوضحه في الأعراف في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ -١٣٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ ﴾ [ الأعراف : ١٣٠ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ يا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أوضحه في الأعراف بقوله :﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٤ -١٣٥ ].
والرجز المذكور في الأعراف هو بعينه العذاب المذكور في آية الزخرف هذه.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾. قد تقدم الكلام عليه في طه في الكلام على قوله تعالى عن موسى ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴾ [ طه : ٢٧ ].
قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾.
آسفونا معناه أغضبونا، وأسخطونا وكون المراد بالأسف الغضب، يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٠ ] على أصح التفسيرين.
قوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين ﴾.
قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأولين ﴾ [ الزخرف : ٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [ ٥٧ -٥٨ ].
قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي ( يصدون ) بضم الصاد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ( يصدون ) بكسر الصاد.
فعلى قراءة الكسر فمعنى يصدون يضجون ويصيحون، وقيل يضحكون، وقيل معنى القراءتين واحد. كيعرشون ويعرشون ويعكفون ويعكفون.
وعلى قراءة الضم فهو من الصدود والفاعل المحذوف في قوله ( ضرب ).
قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعري السهمي قبل إسلامه.
أي ولما ضرب ابن الزبعري المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك، فرحاً منهم وزعماً منهم أن ابن الزبعري خصمك، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل.
والظاهر أن لفظة من هنا سببية، ومعلوم أن أهل العربية، يذكرون أن من معاني من السببية، ومنه قوله تعالى :﴿ مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾ [ نوح : ٢٥ ].
أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا.
ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة : أقسم بالله لمن ضربه مات.
وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، أن الله لما أنزل قوله تعالى ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ]، قال ابن الزبعري : إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول إن كل معبود من دون الله في النار وأننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه.
وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.
فاتضح أن ضربه عيسى مثلاً، يعني أنه على ما يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قاله، من أن كل معبود وعابده في النار، يقتضي أن يكون عيسى مثلاً لأصنامهم، في كون الجميع في النار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يثني على عيسى الثناء الجميل، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فزعم ابن الزبعري أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار مع أنه صلى الله عليه وسلم يعترف بأن عيسى رسول الله وأنه ليس في النار، دل ذلك على بطلان كلامه عنده.
وعند ذلك أنزل الله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ في مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكبر ﴾ [ الأنبياء : ١٠١ -١٠٣ ] الآية، وأنزل الله أيضاً قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ] الآية.
وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ﴾، أي ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل.
وقيل إن جدلاً حال وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير، وقد أوضحنا توجيهه مراراً.
والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق.
قال جماعة من العلماء : والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل، لا تدل البتة، على ما زعموه، وهم أهل اللسان، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات.
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة «ما » التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء لأنه قال ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] ولم يقل ( ومن ) تعبدون وذلك صريح في أن المراد الأصنام، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيراً ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك بقوله تعالى بعده :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى ﴾ [ الأنبياء : ١٠١ ] الآية.
وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة، لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي، الذي نزل به القرآن، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلاً، إلا لأجل الجدل، والخصومة بالباطل.
ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ﴾ مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعري يرجع إلى أمرين :
أحدهما : أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدى ورقاء عن رأس خالد
فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم، وهو ورقاء بن زهير، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي، وأن ورقاء بن زهير، ضرب بسيف بني عبس، رأس خالد بن جعفر الكلابي، الذي قتل أباه ونبا عنه، أي لم يؤثر في رأسه، فإن معنى : نبا السيف ارتفع عن الضريبة ولم يقطع.
والشاعر يهجو بني عبس بذلك.
والحروب التي نشأت عن هذه القصة، وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور، كل ذلك معروف في محله.
والأمر الثاني : أن جميع كفار قريش، صوبوا ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، وفرحوا بذلك، ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه.
وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] وقوله ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ] وبين صيغة الإفراد في قوله :﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ [ القمر : ٢٩ ].
وقال بعض العلماء : الفاعل المحذوف في قوله ولما ضرب ابن مريم مثلاً هو عامة قريش.
والذين قالوا إن كفار قريش لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عيسى، وسمعوا قول الله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ]. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى.
وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، في عبادة الناس لكل منهما، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى.
وعلى هذا القول فمعنى قوله ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ﴾ أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه.
وقوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ٦٤ ] الآية.
وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً قبل الهجرة كما هو معلوم.
وكذلك قوله ﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [ آل عمران : ٨٠ ].
ولا شك أن كفار قريش متيقنون، في جميع المدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم، في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة، وهي ثلاث عشرة سنة، أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله، وحده لا شريك له.
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه، افتراء منهم، وهم يعلمون أنهم مفترون، في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ﴾ ؟
التحقيق أن الضمير في قوله ﴿ هُوَ ﴾ راجع إلى عيسى، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء : ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى.
قيل : لأنهم يتخذون الملائكة آلهة، والملائكة أفضل عندهم من عيسى.
وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله، ولم يكن ذلك سبباً لكونه في النار، ومعبوداتنا خير من عيسى، فكيف تزعم أنهم في النار.
وقال بعض العلماء : أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم.
والمعنى على هذا أنهم يقولون : عيسى خير من آلهتنا، أي في زعمك وأنت تزعم أنه في النار، بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ].
وعيسى عبده النصارى من دون الله، فدلالة قولك على أن عيسى في النار، مع اعترافك بخلاف ذلك، يدل على أن ما تقوله، من أنا وآلهتنا، في النار ليس بحق أيضاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ أي لد، مبالغون في الخصومة، بالباطل، كما قال تعالى :﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ] أي شديدي الخصومة.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٤ ]، لأن الفعل بفتح فكسر كخصم، من صيغ المبالغة، كما هو معلوم في محله.
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله تعالى هنا ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ] الآية إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه.
ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها.
فعلى القول الأول، أنهم ضربوا عيسى مثلاً لأصنامهم، في دخول النار، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله تعالى قبلها ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] لأنها لما نزلت قالوا إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم فهم بالنسبة لما دلت عليه سواء.
وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفاً.
وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، في أن عيسى قد عبد، وأنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يعبد كما عبد عيسى، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى يوضح المراد بالمثل.
وأما الآيات التي بينت قوله ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ﴾ [ الزخرف : ٥٨ ] فبيانها له واضح على كلا القولين. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾.
والتحقيق أن الضمير في قوله : هو عائد إلى عيسى أيضاً لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله هنا :﴿ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ لم يبين هنا شيئاً من الإنعام الذي أنعم به على عبده عيسى، ولكنه بين ذلك في المائدة، في قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِيءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] وفي آل عمران، في قوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا والآخرة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ آل عمران : ٤٥ -٤٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا ﴾.
التحقيق أن الضمير في قوله : وإنه راجع إلى عيسى لا إلى القرآن، ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله :﴿ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾ على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم، والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان، حيا علم للساعة أي علامة لقرب مجيئها لأنه من أشراطها الدالة على قربها.
وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى، جار على أمرين، كلاهما أسلوب عربي معروف.
أحدهما : أن نزول عيسى المذكور، لما كان علامة لقربها، كانت تلك العلامة، سبباً لعلم قربها، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب.
وإطلاق المسبب وإرادة السبب، أسلوب عربي معروف في القرآن، وفي كلام العرب.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى :﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً ﴾ [ غافر : ١٣ ].
فالرزق مسبب عن المطر والمطر سببه، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب.
ومعلوم أن البلاغيين، ومن وافقهم، يزعمون أن مثل ذلك، من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم.
والثاني من الأمرين أن غاية ما في ذلك، أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير، وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس، بقرب مجيئها، لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كثير في القرآن، وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله :
وما يلي المضاف يأت خلفا *** عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك : زيد كرم وعمرو عدل أي ذو كرم وذو عدل كما قال تعالى :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ [ الطلاق : ٢ ]، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، ففي قوله تعالى سورة النساء :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [ النساء : ١٥٩ ] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب.
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض.
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتابي، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي.
فالجواب أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى، يجب المصير إليه، دون القول الآخر، لأنه أرجح منه من أربعة أوجه :
الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض.
والقول الآخر بخلاف ذلك.
وإيضاح هذا أن الله تعالى قال :﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ثم قال تعالى :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ ﴾ أي عيسى، ﴿ وَمَا صَلَبُوهُ ﴾ أي عيسى ﴿ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ أي عيسى ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ أي عيسى ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ أي عيسى ﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ] أي عيسى، ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴾ أي عيسى ﴿ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ ﴾ [ النساء : ١٥٧ -١٥٨ ] أي عيسى ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ أي عيسى ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ أي عيسى ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ [ النساء : ١٥٩ ] أي يكون هو، أي عيسى عليهم شهيداً.
فهذا السياق القرآني الذي ترى، ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه، في أن الضمير في قوله قبل موته، راجع إلى عيسى.
الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول، أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير، ملفوظ مصرح به، في قوله تعالى :﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ].
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر.
ومما لا شك فيه، أن ما لا يحتاج إلى تقدير، أرجح وأولى، مما يحتاج إلى تقدير.
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح، أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً.
ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر.
قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ا ه.
وقوله بالدليل القاطع يعني السنة المتواترة، لأنها قطعية وهو صادق في ذلك.
وقال ابن كثير، في تفسير آية الزخرف هذه ما نصه :
وقد تواترت الأحاديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إمَاماً عَادِلاً وَحَكماً مُقْسِطاً » ا ه منه.
وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك.
وأما القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة.
الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح، واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق، إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس، وغيره، ظاهرة البعد والسقوط لأنه على القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص.
وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب، كالذي يسقط من عال إلى أسفل، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل والذي يموت في نومه ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع، من أهل الكتاب، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص.
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة.
وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب فقال إن رأسه يتكلم، بالإيمان بعيسى، وأن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي، لا يخفى بعده وسقوطه، وأنه لا دليل ألبتة عليه كما ترى.
وبهذا كله تعلم، أن الضمير في قوله ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [ النساء : ١٥٩ ]، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا :﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾ [ الزخرف : ٦١ ] كما ذكرنا.
فإن قيل : إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده، ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ] وقوله ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ المائدة : ١١٧ ].
فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين ألبتة على أن عيسى قد توفي فعلاً.
أما قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ] فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه :
الأول : أن قوله :﴿ مُتَوَفّيكَ ﴾ حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص، والعرب تقول : توفي فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص.
فمعنى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ] في الوضع اللغوي أي حائزك إلي، كاملاً بروحك وجسمك.
ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب.
الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها.
وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد، وهو المقرر في أصول مالك إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل.
وإلى تقديم الحقيقة العرفية، على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعودي بقوله : واللفظ محمول على الشرعي *** إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب *** بحث عن المجاز في الذي انتخب
المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية وإن ترجحت بعرف الاستعمال، فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
وهذا القول مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية، ولا اللغوية على العرفية، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل، لاحتمال هذه واحتمال تلك.
وهذا اختيار ابن السبكي، ومن وافقه، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعودي بقوله :
ومذهب النعمان عكس ما مضى *** والقول بالإجمال فيه مرتضى
وإذا علمت هذا، فاعلم أنه على المذهب الأول، الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية، على العرفية، فإن قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ] لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه، ولا يدل على الموت أصلاً، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه.
وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية، فإن لفظ التوفي حينئذ، يدل في الجملة على الموت.
ولكن سترى إن شاء الله، أنه وإن دل على ذلك في الجملة، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلاً.
وقد ذكرنا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب، في سورة آل عمران، وجه عدم دلالة الآية، على موت عيسى فعلاً، أعني قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [ آل عمران : ٥٥ ] فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا، من ثلاثة أوجه :
الأول أن قوله تعالى :﴿ مُتَوَفّيكَ ﴾ لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى.
وأما عطفه ورافعك إلى، على قوله : متوفيك، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي، على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك.
وقد ادعى السيرافي والسهيلي، إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق خلافاً لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه.
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال لم أجده في كتابه.
وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي.
حكاه عنه صاحب الضياء اللامع.
وقوله صلى الله عليه وسلم :«أبدأ بما بدأ الله به » يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب.
وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع.
وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما.
فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] الآية بدليل الحديث المتقدم.
وقد يكون المعطوف بها مرتباً كقول حسان :
* هجوت محمداً وأجبت عنه *
على رواية الواو.
وقد يراد بها المعية كقوله :{ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ا
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مراراً كقوله :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾ [ فاطر : ٦ ] الآية. وقوله ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾.
قوله هنا ﴿ ظَلَمُواْ ﴾ أي كفروا، بدليل قوله في مريم، في القصة بعينها، ﴿ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [ مريم : ٣٧ ].
وقوله ﴿ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ يوضحه قوله هنا :﴿ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾.
وقد قدمنا مراراً الآيات الدالة على إطلاق الظلم على الكفر كقوله :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾[ لقمان : ١٣ ] وقوله :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾[ البقرة : ٢٥٤ ] وقوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ] أي بشرك، كما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الثابت في صحيح البخاري.
قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾.
الاستفهام بهل هنا بمعنى النفي، وينظرون بمعنى ينتظرون، أي ما ينتظر الكفار إلا الساعة، أي القيامة أن تأتيهم بغتة، أي في حال كونها مباغتة لهم، أي مفاجئة لهم، وهم لا يستغفرون أي بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها.
والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله :﴿ أَن تَأْتِيَهُمْ ﴾ في محل نصب، على أنه بدل اشتمال من الساعة، وكون ينظرون، بمعنى ينتظرون، معروف في كلام العرب، ومنه قول امرىء القيس :
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الساعة تأتيهم بغتة، جاء موضحاً في آيات من كتاب الله. كقوله تعالى في الأعراف :﴿ ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ]. وقوله تعالى في القتال ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٨ ] وقوله تعالى :﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾ [ يس : ٤٩ -٥٠ ] الآية.
فالمراد بالصيحة : القيامة.
وقوله :﴿ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾ الآية، يدل على أنها تأتيهم وهم في غفلة، وعدم شعور بإتيانها، إلى غير ذلك من الآيات. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ يا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة.
فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع.
فمن ذلك الإيمان والتقوى، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ -٦٣ ].
ومن ذلك الاستقامة، وقولهم : ربنا الله، وذلك في قوله في فصلت :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] الآية : وقوله تعالى في الأحقاف ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾[ الأحقاف : ١٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والخوف في لغة العرب : الغم من أمر مستقبل.
والحزن : الغم من أمر ماض.
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر.
وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف.
قال بعض العلماء : ومنه قوله تعالى ﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ].
قال معناه : إلا أن يعلما.
ومنه قول أبي محجن الثقفي :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله أخاف : أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام.
وقد دل بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٥ -٣٦ ].
ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل. كما ثبت في الصحيح، في حديث وفد عبد القيس، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جداً.
ومن أصرحها في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون ».
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح «وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ».
فقد سمى صلى الله عليه وسلم «إماطة الأذى عن الطريق » إيماناً.
وقد أطال البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة تسميتها إيماناً.
فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد.
وقد يطلق الإيمان إطلاقاً آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح.
والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله. فغيره تابع له. وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام.
فالإيمان، على هذا الإطلاق، اعتقاد والإسلام شامل للعمل.
واعلم أن مغايرته تعالى بين الإيمان والإسلام في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ].
قال بعض العلماء : المراد بالإيمان هنا، معناه الشرعي، والمراد بالإسلام معناه اللغوي.
لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب إسلام لغة لا شرعاً.
وقال بعض العلماء : المراد بكل منهما معناه الشرعي، ولكن نفي الإيمان في قوله : ولما يدخل الإيمان، يراد به عند من قال هذا، نفي كمال الإيمان لا نفي أصله، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا، لأن قوله ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ ﴾ فعل في سياق النفي وهو صيغة عموم، على التحقيق، وإن لم يؤكد بمصدر، ووجهه واضح جداً، كما قدمناه مراراً.
وهو أن الفعل الصناعي ينحل، عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر وزمن، ونسبة عند البلاغيين، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية، وهو أصوب.
فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعاً، وهو نكرة لم تتعرف بشيء فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي.
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم بقوله :
ونحو لا شربت أو وإن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
ووجه إهمال لا في هذه الآية في قوله تعالى :﴿ لاَ خَوْفٌ ﴾ [ يونس : ٦٢ ] أن لا الثانية التي هي ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ] بعدها معرفة وهي الضمير، وهي لا تعمل في المعارف، بل في النكرات، فلما وجب إهمال الثانية، أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معاً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٨:قوله تعالى :﴿ يا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة.
فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع.
فمن ذلك الإيمان والتقوى، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ -٦٣ ].
ومن ذلك الاستقامة، وقولهم : ربنا الله، وذلك في قوله في فصلت :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] الآية : وقوله تعالى في الأحقاف ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾[ الأحقاف : ١٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والخوف في لغة العرب : الغم من أمر مستقبل.
والحزن : الغم من أمر ماض.
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر.
وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف.
قال بعض العلماء : ومنه قوله تعالى ﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ].
قال معناه : إلا أن يعلما.

ومنه قول أبي محجن الثقفي :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله أخاف : أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام.
وقد دل بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٥ -٣٦ ].
ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل. كما ثبت في الصحيح، في حديث وفد عبد القيس، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جداً.
ومن أصرحها في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون ».
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح «وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ».
فقد سمى صلى الله عليه وسلم «إماطة الأذى عن الطريق » إيماناً.
وقد أطال البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة تسميتها إيماناً.
فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد.
وقد يطلق الإيمان إطلاقاً آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح.
والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله. فغيره تابع له. وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام.
فالإيمان، على هذا الإطلاق، اعتقاد والإسلام شامل للعمل.
واعلم أن مغايرته تعالى بين الإيمان والإسلام في قوله تعالى :﴿ قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ].
قال بعض العلماء : المراد بالإيمان هنا، معناه الشرعي، والمراد بالإسلام معناه اللغوي.
لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب إسلام لغة لا شرعاً.
وقال بعض العلماء : المراد بكل منهما معناه الشرعي، ولكن نفي الإيمان في قوله : ولما يدخل الإيمان، يراد به عند من قال هذا، نفي كمال الإيمان لا نفي أصله، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا، لأن قوله ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ ﴾ فعل في سياق النفي وهو صيغة عموم، على التحقيق، وإن لم يؤكد بمصدر، ووجهه واضح جداً، كما قدمناه مراراً.
وهو أن الفعل الصناعي ينحل، عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر وزمن، ونسبة عند البلاغيين، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية، وهو أصوب.
فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعاً، وهو نكرة لم تتعرف بشيء فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي.
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم بقوله :
ونحو لا شربت أو وإن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
ووجه إهمال لا في هذه الآية في قوله تعالى :﴿ لاَ خَوْفٌ ﴾ [ يونس : ٦٢ ] أن لا الثانية التي هي ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ] بعدها معرفة وهي الضمير، وهي لا تعمل في المعارف، بل في النكرات، فلما وجب إهمال الثانية، أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معاً.

قوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴾.
قوله تعالى في هذه الآية ﴿ وَأَزْوَاجُكُمْ ﴾ فيه لعلماء التفسير وجهان :
أحدهما، أن المراد بأزواجهم، نظراؤهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله واقتصر على هذا القول ابن كثير.
والثاني : أن المراد بأزواجهم، نساؤهم في الجنة.
لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول.
ولذا يكثر في القرآن، ذكر إكرام أهل الجنة، بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة.
قال تعالى :﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ في شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظِلَالٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾ [ يس : ٥٥ -٥٦ ].
وقال كثير في أهل العلم : إن المراد بالشغل المذكور في الآية، هو افتضاض الأبكار. وقال تعالى :﴿ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [ الدخان : ٥٤ ]. وقال تعالى :﴿ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾ [ الواقعة : ٢٢ -٢٣ ]. وقال تعالى :﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ إلى قوله :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ في الْخِيَامِ ﴾ [ الرحمان : ٧٠ -٧٢ ]، وقال :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾ [ الصافات : ٤٨ ] وقال تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ [ ص : ٥٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا : أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن خلافاً لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة.
والحق أن ذلك لغة عربية، ومنه قول الفرزدق :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقول الحماسي :
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلى ثم تصدع
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية «إنها زوجتي » وقوله ﴿ تُحْبَرُونَ ﴾ أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها.
قوله تعالى :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة، والتحلي بهما، ولبس الحرير، ومنه السندس والإستبرق، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ النحل : ١٤ ].
قوله تعالى :﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، أي تلتذ به الأعين أي برؤيته لحسنه، كما قال تعالى :﴿ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٦٩ ]. وأسند اللذة إلى العين، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية، وهي مقدم شعر الرأس، في قوله تعالى :﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ [ العلق : ١٦ ] وكإسناد الخشوع، والعمل والنصب، إلى الوجوه، في قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ [ الغاشية : ٢ -٣ ] الآية.
ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية، كما أن الخشوع والعمل، والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة، فيها كل مشتهى، وكل مستلذ، جاء مبسوطاً موضحة أنواعه في آيات كثيرة، من كتاب الله، وجاء محمد أيضاً إجمالاً شاملاً لكل شيء من النعيم.
أما إجمال ذلك ففي قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
وأما بسط ذلك وتفصيله، فقد بين القرآن، أن من ذلك النعيم المذكور في الآية، المشارب، والمآكل والمناكح، والفرش والسرر، والأواني، وأنواع الحلي والملابس والخدم إلى غير ذلك، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك.
أما المآكل فقد قال تعالى :﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٣ ]، وقال :﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ الواقعة : ٢١ ] وقال تعالى :﴿ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ [ الواقعة : ٢٣ -٣٣ ] وقال تعالى :﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
أما المشارب، فقد قال تعالى :﴿ إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢٥ ] الآية. وقال تعالى :﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ﴾ [ الإنسان : ٥ -٦ ]، وقوله تعالى :﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُون َبِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٧ -١٩ ]. وقال تعالى :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ [ الصافات : ٤٥ -٤٧ ] : وقال تعالى :﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٥ ] وقال تعالى ﴿ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ في الأيام الْخَالِيَةِ ﴾ [ الحاقة : ٢٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الملابس والأواني والحلي، فقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة النحل.
وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريباً.
وهي كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] الآية. ويكفي ما قدمنا من ذلك قريباً.
وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك، ففي آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ [ الرحمان : ٥٤ ]. وقوله تعالى :﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظِلَالٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾ [ يس : ٥٦ ] وقوله تعالى :﴿ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴾ [ الواقعة : ١٥ -١٦ ].
والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب.
وقوله تعالى ﴿ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٧ ]. وقوله تعالى :﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ [ الغاشية : ١٣ ]. وقوله تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعبقري حِسَانٍ ﴾ [ الرحمان : ٧٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما خدمهم فقد قال تعالى في ذلك :﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٧ ]. وقال تعالى في سورة الإنسان في صفة هؤلاء الغلمان :﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ [ الإنسان : ١٩ ]، وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢٠ ].
والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك كثيرة جداً ولنكتف منها بما ذكرنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، قد قدمنا الآيات الموضحة، لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له ألبتة كقوله تعالى :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] أي غير مقطوع، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ] وقوله تعالى :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٦ ].
قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة، ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة كقوله تعالى :﴿ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] وقوله تعالى :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٣ ] وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها، مع وقوله صلى الله عليه وسلم «لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ».
وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل.
وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله.
والله يقول :﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ المائدة : ٢٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَنَادَوْاْ يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾.
اللام في قوله ﴿ لِيَقْضِ ﴾ لام الدعاء.
والظاهر أن المعنى، أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار، أن يدعو الله لهم بالموت.
والدليل على ذلك أمران :
الأول : أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا يا مالك، ولما خاطبوه في قولهم :﴿ رَبُّكَ ﴾.
والثاني : أن الله بين في سورة المؤمن أن أهل النار، يطلبون خزنة النار، أن يدعو الله لهم ليخفف عنهم العذاب، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ ﴾ [ غافر : ٤٩ ]. وقوله ﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ أي ليمتنا فنستريح بالموت من العذاب.
ونظيره قوله تعالى :﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ [ القصص : ١٥ ] أي أماته.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية.
وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت، ولا تغني هي عنهم، ولا يخفف عنهم عذابها، ولا يخرجون منها.
أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا ﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ فقد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ﴾ [ طه : ٧٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا ﴾ [ الأعلى : ١١ -١٣ ]. وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾ [ فاطر : ٣٦ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ] الآية.
وأما كون النار لا تغني عنهم، فقد بينه تعالى بقوله :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء رد عليه بهذه الآية الكريمة.
وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جداً كقوله :﴿ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا ﴾ [ فاطر : ٣٦ ]. وقوله تعالى :﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [ النحل : ٨٥ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ]، وقوله تعالى :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٧٥ ] الآية. وقوله :﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٥ ] وقوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٧ ] على الأصح في الأخيرين.
وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة :﴿ كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٦٧ ] وقوله تعالى في المائدة :﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٧ ]، وقوله تعالى في الحج :﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ الحج : ٢٢ ] الآية. وقوله تعالى في السجدة :﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ السجدة : ٢٠ ]، وقوله تعالى في الجاثية :﴿ فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ﴾ [ الجاثية : ٣٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحاً شافياً في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى ﴿ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ] وفي سورة النبأ في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً ﴾ [ النبأ : ٢٣ ] وسنوضحه أيضاً إن شاء الله، في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية النبأ المذكورة، ونوضح هناك إن شاء الله إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ [ الشورى : ١٣ ].
قوله تعالى :﴿ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ ﴾، وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ﴾ [ مريم : ٧٩ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾.
اختلف العلماء في معنى ﴿ إِن ﴾ في هذه الآية.
فقالت جماعة من أهل العلم إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري، والذين قالوا إنها شرطية، اختلفوا في المراد بقوله : فأنا أول العابدين.
فقال بعضهم : فأنا أول العابدين لذلك الولد.
وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً.
وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد وقالت جماعة آخرون : إن لفظة ﴿ إِن ﴾ في الآية نافية.
والمعنى ما كان لله ولد، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله :﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ ثلاثة أوجه الأول وهو أقربها : أن المعنى ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله، المنزهين له عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله، وجلاله.
والثاني أن معنى قوله ﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ : أي الآنفين المستنكفين من ذلك يعني القول الباطل المفتري على ربنا الذي هو ادعاء الولد له.
والعرب تقول : عبد بكسر الباء يعبد بفتحها فهو عبد بفتح فكسر على القياس، وعابد أيضاً سماعاً، إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه، ومنه قول الفرزدق :
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعقد أن أهجو كليباً بدارم
فقوله : وأعبد يعني آنف وأستنكف.
ومنه أيضاً قول الآخر :
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما
وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه المشهورة : أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت، فولدت لستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم، اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما : إن الله يقول :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ]، ويقول جل وعلا :﴿ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ ﴾ [ لقمان : ١٤ ] فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر.
فما عبد عثمان رضي الله عنه، أن بعث إليها، لترد ولا ترجم.
ومحل الشاهد من القصة، فوالله :( ما عبد عثمان ) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق.
الوجه الثالث : أن المعنى ﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له :
الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة : أنه يتعين المصير إلى القول بأن إن نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء.
وإنما اخترنا أن ﴿ إنٍ ﴾ هي النافية لا الشرطية، وقلنا إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور :
الأول : إن هذا القول جار على الأسلوب العربي، جرياناً واضحاً، لا إشكال فيه، فكون إن كان بمعنى ما كان كثير في القرآن، وفي كلام العرب كقوله تعالى :﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ [ يس : ٢٩ ] أي ما كانت إلا صيحة واحدة.
فقولك مثلاً معنى الآية الكريمة : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين، الخاضعين للعظيم الأعظم، المنزه عن الولد أو الآنفين المستنكفين، من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله، من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين، أن يكون لربنا ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً لا إشكال فيه، لأنه جار على اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، دال على تنزيه الله، تنزيهاً تاماً عن الولد، من غير إيهام ألبتة لخلاف ذلك.
الأمر الثاني : أن تنزيه الله عن الولد، بالعبارات التي لا إيهام فيها، هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة، في القرآن كما قدمنا إيضاحه، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ [ الكهف : ٤ ] الآية. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٨ -٨٩ ] والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن ( إن ) نافية.
فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح.
وخير ما يفسر به القرآن القرآن فكون المعبر في الآية : وما كان للرحمان ولد بصيغة النفي الصريح مطابق لقوله تعالى في سورة بني إسرائيل ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾ [ الإسراء : ١١١ ] الآية. وقوله تعالى في أول الفرقان ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ ﴾ [ الفرقان : ٢ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [ الإخلاص : ٣ ] وقوله تعالى ﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٥١-١٥٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما على القول بأن إن شرطية وأن قوله تعالى :﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له ألبتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على مثل هذا المعنى.
الأمر الثالث : هو أن القول بأن ( إن ) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية، إلا معنى محذور، لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا، يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها.
وإيضاح هذا أنه على القول بأن ( إن ) شرطية، وقوله :﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ جزاء الشرط لا معنى لصدقه ألبتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء.
والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة، منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط وتاليها الذي هو الجزاء، والبرهان القاطع على صحة هذا، هو كون الشرطية المتصلة، تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معاً، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها، فمثال كذبهما معاً مع صدقها قوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها، قضية كاذبة بلا شك، ونعني بأداة الربط لفظة لو من الطرف الأول، واللام من الطرف الثاني، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول كان فيهما آلهة إلا الله، وهذه قضية في منتهى الكذب، وصار الطرف الثاني فسدتا أي السماوات والأرض، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى.
فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته.
فإن كان الربط صحيحاً فهي صادقة، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط.
وإن كان الربط بينهما كاذباً كانت كاذبة كما لو قلت : لو كان هذا إنساناً لكان حجراً، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح.
وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جداً كالآية التي ذكرنا، وكقولك لو كان الإنسان حجراً لكان جماداً، ولو كان الفرس ياقوتاً لكان حجراً، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط.
ومثال صدقها مع كذب أحدهما، قولك لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها، مع أنها كاذبة أحد الطرفين دون الآخر، لأن عدم النجاة من الموت صدق، وكون زيد في السماء كذب، هكذا مثل بهذا المثال البناني، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث.
والمثال الصحيح : لو كان الإنسان حجراً لكان جسماً.
واعلم أن قوماً زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك.
وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي.
والتحقيق الأول.
ولم يقل أحد ألبتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات.
فإذا حققت هذا، فاعلم أن الآية الكريمة، على القول بأنها جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها ألبتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال.
وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير، أن مصب الصدق والكذب، في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك.
فمعنى الآية عليه باطل بل هو كفر.
لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد، لم يكن أول العابدين، وفساد هذا المعنى كما ترى.
وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية.
فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها ألبتة أيضاً، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال، لأن كون المعبود ذا ولد، واستحقاقه هو، أو ولده العبادة، لا يصح الربط بينهما ألبتة إلا على معنى هو كفر بالله، لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولداً أو والداً.
وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله ﴿ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ ﴾ إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد.
ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال.
فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد ظهور فساده كما ترى، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلاً، فادعاء أن ( إن ) في الآية شرطية مثل ما لو قيل : لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له، وهذا لا يصدق بحال، لأن واحداً من آلهة متعددة، لا يمكن أن يعبد، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال.
ويتضح لك ذلك بمعنى قوله :﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ] الآية.
فإن قوله إذاً : أي لو كان معه غيره من الآلهة، لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به، وغالب بعضهم بعضاً ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ولفسد كل شيء.
كما قال تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٢ ] على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين.
ومعنى ابتغائهم إليه تعالى سبيلاً هو طلبهم طريقاً إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم.
والحاصل : أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء، إلا إذا كان الجزاء مستحيلاً أيضاً لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل.
أما كون الشرط مستحيلاً والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر. فهذا مما لا يصح بحال.
ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه. ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط وصحة تاليها الذي هو الجزاء لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة ا
قوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾.
قد قدمنا معنى لفظة سبحان، وما تدل عليه من تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله وإعراب لفظة سبحان مع بعض الشواهد العربية في أول سورة بني إسرائيل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ ﴾ [ الزخرف : ٨١ ] الآية.
نزه نفسه تنزيهاً تاماً عما يصفونه به من نسبة الولد إليه مبيناً أن رب السماوات والأرض، ورب العرش، جدير بالتنزيه عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أنه لما ذكر وصف الكفار له، بما لا يليق به، نزه نفسه عن ذلك، معلماً خلقه في كتابه، أن ينزهوه عن كل ما لا يليق به، جاء مثله موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ فَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ -٩٢ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٤٢ -٤٣ ] وقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]. وقوله تعالى :﴿ سُبْحَـانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِي السَّمَـاوَات وَمَا فِي الأرض وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [ النساء : ١٧١ ] إلى غير ذلك من الآيات.


قوله تعالى :﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [ ٨٣ ].
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل ﴾ [ الحجر : ٣ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِى الأرض إِلَهٌ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٣ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾.
قد بينا الآيات الموضحة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] الآية.
وفي الأعراف في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وفي غير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ٤٨ ] الآية. وفي غير ذلك من المواضع.
قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة، في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي ( وقيله ) بفتح اللام وضم الهاء، وقرأه عاصم وحمزة :( وقيله ) بكسر اللام والهاء.
قال بعض العلماء إعرابه بأنه عطف محل على الساعة لأن قوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾ [ الزخرف : ٨٥ ] مصدر مضاف إلى مفعوله.
فلفظ الساعة مجرور لفظاً بالإضافة، منصوب محلاً بالمفعولية، وما كان كذلك جاز في تابعه النصب نظراً إلى المحل، والخفض نظراً إلى اللفظ، كما قال في الخلاصة :
وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن
وقال في نظيره في الوصف :
واخفض أو نصب تابع الذي انخفض كمبتغي جاه ومالا من نهض
وقال بعضهم : هو معطوف على ﴿ سِرَّهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ].
وعليه فالمعنى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، وقيله يا رب الآية.
وقال بعضهم : هو منصوب على أنه مفعول مطلق.
أي، وقال : قيله وهو بمعنى قوله إلا أن القاف لما كسرت، أبدلت الواو ياء لمجانسة الكسرة.
قالوا : ونظير هذا الإعراب قول كعب بن زهير :
تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
أي ويقولون : قيلهم.
وقال بعضهم : هو منصوب بيعلم محذوفة لأن العطف الذي ذكرنا على قوله : سرهم، والعطف على الساعة يقال فيه إنه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يصلح لكونه اعتراضاً، وتقدير الناصب إذا دل المقام عليه لا إشكال فيه. كما قال في الخلاصة :
ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
وأما على قراءة الخفض، فهو معطوف على الساعة، أي وعنده علم الساعة، وعلم قيله يا رب.
واختار الزمخشري أنه مخفوض بالقسم، ولا يخفى بعده كما نبه عليه أبو حيان.
والتحقيق أن الضمير في قيله، للنبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك، أن قوله بعد :﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ﴾ خطاب له صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، فادعاء أن الضمير في قيله لعيسى لا دليل عليه ولا وجه له.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من شكواه صلى الله عليه وسلم، إلى ربه عدم إيمان قومه، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣٠ ]، وذكر مثله عن موسى في قوله تعالى في الدخان :﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ﴾ [ الدخان : ٢٢ ]، وعن نوح قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ [ نوح : ٥ -٦ ] إلى آخر الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾.
قرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي :( فسوف يعلمون ) بياء الغيبة، وقرأ نافع وابن عامر ( فسوف تعلمون ) بتاء الخطاب.
وهذه الآية الكريمة تضمنت، ثلاثة أمور :
الأول : أمره صلى الله عليه وسلم بالصفح عن الكفار.
والثاني : أن يقول لهم سلام.
والثالث : تهديد الكفار، بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار.
وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع :
كقوله تعالى في الأول ﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [ الحجر : ٨٥ ]، وقوله تعالى ﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٤٨ ].
والصفح الإعراض عن المؤاخذة بالذنب.
قال بعضهم : وهو أبلغ من العفو.
قالوا : لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضاً عن عتابه فما فوقه.
وأما الأمر الثاني، فقد بين تعالى أنه هو شأن عباده الطيبين.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم كما قال تعالى ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]. وقال عن إبراهيم إنه قال له أبوه :﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٦ ] قال له ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ [ مريم : ٤٧ ].
ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم، ومن مجازاتهم لهم بالسوء، أي سلمتم منا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة قد جاء موضحاً في آيات كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ﴾ [ ص : ٨٨ ] وقوله تعالى :﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٧ ] وقوله :﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ [ النبأ : ٤ -٥ ]. وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ التكاثر : ٣ -٤ ]. وقوله تعالى :﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [ التكاثر : ٦ -٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وكثير من أهل العلم يقول : إن قوله تعالى :﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ﴾ وما في معناه منسوخ بآيات السيف، وجماعات من المحققين يقولون هو ليس بمنسوخ.
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي، لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى.
Icon