ﰡ
١٥٤ - قال اللَّه تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقريش: (يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير) وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، وما تقول في محمد، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله صالحًا، فلئن كنتَ صادقًا فإن آلهتهم لكَما تقولون قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: قلت: ما يصدون؟ قال: يضجون، (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال: هو خروج عيسى ابن مريم - عليه السلام - قبل يوم القيامة.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر هذا الحديث القرطبي وابن كثير، وذكرا معه غيره.
أما الطبري والبغوي وابن عطية والشنقيطي وابن عاشور فلم يذكروا هذا الحديث وقد تباينت أقوالهم واختلفت آراؤهم فيما يذكرون من سبب نزولها وتفسيرها.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ولما شبه الله عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم، فمثله به بأنه خلقه من تراب من غير فحل، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون: ما يريد محمد منا إلا أن نتخذه إلهًا نعبده كما عبد النصارى المسيح... ثم ذكر الروايات) اهـ.
وقال ابن كثير: (وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال: وجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة... فذكر قصة عبد الله بن الزبعرى) اهـ.
وقال الشنقيطي: (قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزِبْعَري السهمي قبل إسلامه أي: ولما ضَرَبَ ابنُ الزبعرى المذكور عيسى ابن مريم مثلاً فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك فرحاً منهم وزعماً أن ابن الزبعرى خصمك أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل.
وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلاً أن اللَّه لما أنزل قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ): قال ابن الزبعرى: إن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن كل معبود من دون الله في النار وأننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون اللَّه فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه.
وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.
فاتضح أن ضربه عيسى مثلاً يعني أنه على ما يزعم أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله من أن كل معبود وعابده في النار، يقتضي أن يكون عيسى مثلاً لأصنامهم في كون الجميع في النار، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يثني على عيسى الثناء الجميل، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فزعم ابن الزبعرى أن كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعترف بأن عيسى رسول الله وأنه ليس في النار دلّ ذلك على بطلان كلامه عنده، وعند ذلك أنزل اللَّه: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وأنزل الله أيضاً قوله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا... ) الآية.
قال جماعة من العلماء: والدليل أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل ألبتَّة على ما زعموا وهم أهل اللسان ولا تخفى عليهم معاني الكلمات.
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الوضع العربي لغير العقلاء لأنه قال: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) ولم يقل: (ومَن تعبدون) وذلك صريح في أن المراد الأصنام، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرًا ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك بقوله تعالى بعده: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي الذي نزل به القرآن، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلاً إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل.
وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) هو عامة قريش.
والذين قالوا إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر عيسى وسمعوا قول اللَّه تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)، قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى.
وعلى هذا القول فمعنى قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه. اهـ بتصرف.
والظاهر - والله أعلم - أن المعنى الأول أصح وهو اختيار أكثر المفسرين، ويدل عليه سياق القرآن، بخلاف القول الثاني الذي اختاره الطبري فإنه لا دليل على أن المشركين كانوا يعتقدون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد منهم أن يعبدوه كما عبد النصارى عيسى ابن مريم.
وسياق الآيات يدل على أن ضارب المثل بعيسى بعض المشركين لأن الله قال: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) إلى قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ولو كان المثل هنا هو المذكور في قوله تعالى:
ثم إن سورة الزخرف مكية، وآل عمران مدنية، فكيف يُفسر المثل المذكور في سورة الزخرف مع تقدم نزولها، بالمثل المذكور في سورة آل عمران مع تأخر نزولها؟
وإذا تحققنا ضعف القول الثاني الذي اختاره الطبري، فلننظر في موافقة القول الأول لسبب النزول.
وأقول: إن سياق السبب الذي معنا لا يخالف ما ذكره المفسرون وخصوصًا الشنقيطي ففي سياق الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير) هذا يتفق مع قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) لأنه لو كان فيهم خير ما كانوا حصب جهنم.
وقوله في الحديث: فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله صالحًا، لا يمنع أن يكون القائل بحسب قول المفسرين ابنَ الزِبعرى.
قال الشنقيطي: (ووجه التعبير بصيغة الجمع في قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعرى يرجع إلى أمرين:
أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة.
والأمر الثاني: أن جميع كفار قريش، صوبوا ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلاً وفرحوا بذلك ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه) اهـ بتصرف.
وبهذا يتبين موافقة الحديث لسياق القرآن، ودلالته على نزولها واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا وإن كان موقوفًا على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلا أنه سبب نزول الآية لموافقته لسياق القرآن وتصريحه بالنزول واتفاق أكثر المفسرين على معناه واللَّه أعلم.