وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن. وهو عالم لم يُعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي، وليس للعقل دليل عليه. ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوروبا يدرسون في مباحث عالم الجن وعالم الأرواح، ويحاولون أن يطلعوا على غوامض هذه العوالم. ونُقل عن كثير منهم أنهم تحدثوا مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، وعن اتصال العالم الإنسي بالعالم الجني، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة.
فإذا سمى الله هذه السورة بهذا الاسم فمعناه أنه أعطى هذا العالم الخفي عنايته وسمى السورة باسمه، كما اعتنى بالحديد، وهو نوع من المعادن. وهكذا توجهت عنايته إلى النور وأنواع الحيوان والنبات والأوقات المختلفة، وبكل شيء نراه وما لا نراه، لنجدّ في البحث عن المعادن كلها، وعن حساب الزمان، ونُعنى بالعلوم العناية اللائقة المفيدة.
وقد أفاض الأستاذ طنطاوي جوهري رحمه الله في كتابه " الجواهر " في هذا الموضوع وأطال ونقل أشياء كثيرة من محاولات الأوروبيين وبحوثهم في هذا الموضوع وقال إنه ألّف كتابا سماه " كتاب الأرواح " ذكر فيه ما جرّبه القوم في أوروبا، وكيف أحضروا الأرواح، وما الشروط وما الواجب على الإنسان في ذلك، وما فوائد هذا العلم ومضارّه.
ونقل نبذة من خطبة " السير : أوليفر لودج "، وهو من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنجليز، إذ أكد في مجمع من كبار العلماء أنه حادث الأموات، وأن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح، وأنهم يهتمون بنا، وأن إخوانه من الجمعية الروحية الذين ماتوا كلموه بعد موتهم وبرهنوا له ببراهين قاطعة أنهم هم الذين يكلمونه. وقال : إن ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله حق بلا تأويل. وقال إنه اشتغل بهذا الفن ثلاثين سنة فله الحق أن يحكم بما يقول. ومن أراد الزيادة فليرجع إلى تفسير " الجواهر " للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري.
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على حكاية أقوال الجن وما يتعلق بهم، وأنهم سمعوا كتابا بديعا، هو القرآن، يهدي إلى الصواب فآمنوا به وتركوا الشرك. وأن الله تعالى لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما يقول السفهاء منهم على الله شططا. وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه.. وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن فزاد الجن الإنس ضلالا باستعاذتهم بهم.. وأن الجن ظنوا مثل بعض الإنس أنه لن يبعث الله أحدا.. وأنهم طلبوا خبر العالم العلوي المعبَّر عنه بالسماء فمُنعوا.. وأن الجن كانوا يقعدون مقاعد خالية ليتمكنوا من السمع، فمنِعوا الآن برجم الشهُب لهم، وأنهم لا يدرون :﴿ أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ﴾. وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، وأنهم علموا أنهم لن يفرّوا من أمر الله إن أراد بهم أمرا على هذه الأرض، وأنهم حين سمعوا الهدى آمنوا به.. ﴿ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ﴾. وأنهم فريقان : مسلمون، وجائرون، فالمسلم قصد طريق الحق وتوخاه، أما الجائر فإنه يكون ﴿ لجهنم حطبا ﴾. وأن الإنس والجن إذا استقاموا على الطريقة المثلى وسّع الله عليهم رزقهم واختبرهم به.
وأن المساجد لله، فعلى من يدخلها أن يُخلص لله فيها ولا يشرك به أحدا. وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله كاد الجن يكونون جماعات ملتفة حوله من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عباراته وسمعوا من قراءته.
ثم تُختم السورة بتوجيهات علوية إلى الرسول الكريم والمؤمنين، وأنّ علم الساعة عند الله وحده وهو ﴿ عالم الغيب فلا يُظهر على غيه أحدا، إلا من ارتضى من رسول.... ﴾.
وأنه تعالى ﴿ أحصى كل شيء عددا ﴾ مما خلق، وعرفه فلا يغيب عنه شيء.
ﰡ
عجبا : عجيبا بديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس.
قل يا محمد لأمتك : أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، فدُهِشوا من عَظَمته وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ.
وقل لهم : إنه جلَّ وعلا ما اتخذَ زوجةً ولا ولدا.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وحفص : وأنه تعالى بفتح الهمزة وكل ما هو معطوف عليها، وذلك في أحد عشر موضعا إلى قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله... ﴾. وقرأ الباقون بكسر الهمزة في هذه المواضع كلها إلا في قوله تعالى ﴿ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ ﴾ [ الجن : ١٨ ] فإنهم اتفقوا على الفتح.
أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع فعلى العطف على قوله « فآمنا به » كأنه قيل فصدقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا الخ... وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على :﴿ إِنَّا سَمِعْنَا... ﴾.
وعلى لسان الجنّ أخبرهم يا محمد أنه كان يقول سفهاؤنا على الله قولاً بعيداً عن الحقّ والصواب، وأنّا كنا نظنّ أن لن يَكذِب أحد على الله تعالى فينسبَ إليه الزوجة والولد، ويصفه بما لا يليق به.
رهقا : إثما، وحَمْلَ المرء على ما لا يطيق.
وكذلك أخبر قومك يا محمد، أن بعض الجن يقولون إن رجالاً من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن ولا يستعيذون بالله فزادهم الجن ضلالا وطغيانا.
ولا ظُلماً يلحقه أبدا.
أوحى الله إلى الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لو استقام الإنسُ والجنُّ على الحقّ والعملِ بشريعة العدل، ولم يَحِيدوا عنها، لأسقيناهم ماءً غزيرا، ولرزقناهم سَعة في الرزق ورخاءً في العيش. يقال سقاه و أسقاه. والفعلان وردا في القرآن الكريم.
﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾. أي عذاباً شديداً.
ومن يغيّر أو يبدّل، ولا يتّبع أوامرَ الله ونواهيَه يُدْخِله اللهُ عذاباً شاقاً لا يطيقُ له حملا.
قراءات :
قرأ هل الكوفة ويعقوب : يسلكه بالياء. والباقون نسلكه بالنون.
قل أوحي إليّ أن المساجدَ لله فلا تعبُدوا فيها مع الله أحدا.
لبدا : بكسر اللام وفتح الياء، جماعات والمراد : متراكمين متزاحمين. وسيأتي أنه قرئ : لُبدا بضم اللام وفتح الباء، وهما لغتان.
وأنه لمّا قامَ محمد صلى الله عليه وسلم يعبدُ اللهَ ويقرأُ القرآن كاد الجِنُّ يكونون مزدَحِمين عليه جماعاتٍ، تعجُّبا مما رأوه وسمِعوه.
وقال بعض المفسّرين : لمّا قامَ عبدُ الله بالرسالة يدعو الله وحدَه مخالفاً المشركين في عبادَتِهم الأوثان، كادَ الكفّارُ لِتظاهُرِهم عليه وتعاوُنِهم على عَداوته يزدَحِمون متراكمين جماعاتٍ جماعات.
قراءات :
قرأ ابن عامر : لُبدا بضم اللام. والباقون لبدا بكسر اللام وفتح الباء.
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة : قل إنما أدعو ربي بفعل الأمر، والباقون : قال إنما أدعو ربي بالفعل الماضي.
ثم بين أنه لا يملك من الأمر شيئا وأن كل شيءٍ بيدِ الله :
﴿ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً ﴾.
لستُ أملك لكم دفعَ ضرر ولا تحصيلَ هدايةٍ ونفع، وإنما الّذي يملِكُ ذلك كلَّه هو الله تعالى.
ثم بين الكتاب عجز الرسول عن شئون نفسِه بعد عجزِه عن شئون غيره فقال :
﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾.
إنه لا يجيرني من الله ولا يدفع عني عذابَ الله إن عصيتُه أحد، ولن أجِد من دونه ملجأً ولا ملاذا، ولن ينصرني منه ناصر.
ثم بيّن جزاء الذين يعصُون الله ورسوله فقال :
﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾.
ومن يعصِ الله فيما أمَرَ به، ويكذّب برسوله، فإن جزاءه نارُ جهنم يَصلاها خالداً فيها أبدا.
ثم أمر الله رسولَه الكريم أن يقول للناس : إنه لا عِلمَ له بوقتِ الساعة، ولا يدري أقريب وقتُها أم بعيد.
إلا رسولاً ارتضاه لِعِلْمِ بعضِ الغيب، فإنه يُدخِل من بين يدي الرسولِ ومن خَلْفِه حفظةً من الملائكة تحولُ بينه وبين الوساوس، فالله يصونُ رُسلَه ويحفظهم من كل شيء.
وهكذا انتهت هذه السورة الكريمة بردّ كل شيء إليه تعالى، وأنه يراقب كل شيء حتى رسُله الكرام.