ﰡ
وَقِيْلَ : لِما سألوه عن الغنائمِ ؛ لأنَّها كانت حرَاماً على مَن قبلهم، كما قال عليه السلام :" لَمْ تُحَلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا " وإنما سُميت الغنائمُ أنْفَالاً ؛ لأن الأنفالَ جمعُ النَّفْلِ، والنفلُ الزِّيَادَةُ، والأنفالُ مما زادَهُ الله هذه الأُمة من الحلالِ، والنافلةُ من الصَّلاةِ ما زادَ على الفرضِ، ويقال لولدِ الولد : نافلةٌ ؛ لأنه زيادةٌ على الولدِ.
وعن ابنِ عبَّاس في سبب نُزول هذه الآيةِ :(أنَّ النَّبِيّ ﷺ رَغَّبَ أصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ :" مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذا، وَمَنْ جَاءَ بأَسيرٍ فَلَهُ كَذا " فَلَمَّا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ سَارَعَ الشَّبَابُ، وأَقْبَلُواْ بالأُسَارَى، وَأَقَامَ الشُّيُوخُ عِنْدَ الرَّايَاتِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَخَافَةَ أنْ يَغْتَالَهُ أحَدٌ مَنَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَقَعَ الاخْتِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ الَّذِينَ ثَبَتُواْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ : قِيَامُنَا أفْضَلُ مِنْ ذهَابهِمْ، فَلَوْ أعْطَيْتَهُمْ مَا وَعَدْتَهُمْ لَمْ يَبْقَ لَنَا وَلاَ لِعَامَّةِ أصْحَابكَ شَيْءٌ. وقَالَ الآخَرُونَ : نَحْنُ قَتَلْنَا وَأَسْرْنَا. وَكَانَ ذلِكَ مُرَاجَعَةً بَيْنَهُمْ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ سَاكِتٌ لاَ يَقُولُ شَيْئاً، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها يسألونَك عن الأنفال لِمَن هي، ويجوز أن يكون (عن) صِلَةً في الكلامِ، والمعنى يَسألونَكَ الأنفالَ التي وعدتَهم يومَ بدرٍ، قلِ الأنفالُ للهِ والرسولِ ليس لكم فيها شيءٌ. قال عُبادة بن الصَّامت :(لَمَّا اخْتَلَفْنَا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَسَاءَتْ أخْلاَقُنَا، نَزَعَهَا اللهُ مِنْ أيْدِينَا وَجَعَلَهَا إلَى رَسُولِهِ وَقَسْمَهَا بَيْنَنَا عَلَى سواءٍ). وَقِيٍْلَ : إنَّ التَّنْفِيلَ المذكورَ في هذه الآيةِ لروايةٍ غَلَطٍ وقعَ من الرَّاوي ؛ لأنه لا يجوزُ على النبيِّ ﷺ خَلْفُ الوَعْدِ واسترجاعُ ما جعلَهُ لأحدٍ منهم، والصحيحُ : أنَّهم اختلَفُوا في الغنائمِ من غير تَنْفِيلٍ كان من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ ؛ أي اتَّقُوا مَعاصِيَهُ واحذروا مخالفةَ أمرهِ وأمرَ رسولهِ، (وَأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي كونوا مُجتَمعين على ما يأمرُكم به اللهُ ورسولهُ، ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ في الغنائمِ وغيرِها، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، كما تَزعمونَ.
ثُمَّ زادَ في نعتِ المؤمنينَ فقال :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ أي يُقيمونَها بوضُوئِها ورُكوعِها وسُجودِها في مواقيتها، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ ؛ أعطَيناهُم من الأموال، ﴿ يُنفِقُونَ ﴾، في طاعةِ اللهِ، وإنَّما خصَّ اللهُ الصلاةَ والزكاةَ ؛ لعِظَمِ شأنِهما وتأكيدِ أمرِهِمَا.
فبلغَ ذلك أبو سُفيان، فأرسلَ من الطريقِ ضَمْضَمَ بنِ عمرٍو والغفاري يخبرُ أهلَ مكَّة أن مُحَمَّداً قد اعترضَ لِعيرِكم فأدْرِكُوها. فَنَزِلَ جبريلُ عليه السلام على رسول اللهِ ﷺ فأخبرَهُ بنَفَرِ المشركين يُريدون عِيرَهم، وقالَ :(يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ يَعِدُكَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إمَّا الْعِيرُ وَإمَّا الْعَسْكَرُ) فأخبرَ بذلك رسولُ الله ﷺ المسلمينَ فَسُرُّوا بذلكَ وأعجبَهم، فاستشارَ رسولُ الله ﷺ حين عرفَ أنَّهم لا يُخالِفونَهُ، فقالوا لهُ :(وَاللهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أنْ نَخُوضَ الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ) ثم أخبرَهم أن في المشركين كَثْرَةً فشُقَّ على بعضِهم وقالوا : ألاَ كُنْتَ أخْبَرْتَنَا أنَّهُ يَكونُ قِتَالٌ، فَنُخْرِجَ سِلاَحَنا وَقُوَّتَنَا، إنَّمَا خَرَجْنَا في ثِيَابنَا نُرِيدُ الْعِيْرَ. فَنزلَ اللهُ هذه الآيةَ وهم بالرَّوحاءِ.
ومعناها : امْضِ على وجهِكَ من الرَّوحَاء (كَمَا أخْرَجَكَ رَبُكَ مِنْ بَيْتِكَ) أي من المدينة (بالْحَقِّ) أي الأمرِ الواجب، ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ ؛ يعني كراهةَ الطبعِ للمشقَة لا كراهةَ الحقِّ، وَقِيْلَ معناهُ :﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ﴾ ؛ متَكَرِّهِينَ له كما أخرجكَ ربُّك من بيتِكَ مع تكرُّهِكَ له، ومعنى يُجَادِلُونَكَ أي يُخاصِمُونَكَ بقولِهم : هلاَّ أعْلمتَنا القتالَ حتى كنا نستعدَّ له، ﴿ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ﴾ ؛ أي بعد ما ظهرَ لهم أنكَ لا تصنعُ إ لا ما أمرَكَ ربُّكَ قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ ﴾ ؛ أي هُم بما عليهم من شدَّة المشقَّةِ لقلَّتِ عددِهم وعُدَّتِهم، وكثرةِ عدُوِّهم كأنَّما يُسَاقُونَ إلى الموتِ، ﴿ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ ؛ إلى أسباب الموتِ.
وقولهُ تعالى :﴿ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ قال ابنٌُ عبَّاس :(كَانَ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ فَكَانَ جُمْلَتُهُمْ ألْفَيْنِ). يقالُ : رَدَفْتُ الرَّجُلَ ؛ إذال ركبتُ خلفَهُ، وَأردَفْتُهُ إذا أركبتَهُ خلفَكَ. وقال عكرمةُ وقتادة والضحَّاك :(مَعْنَاهُ : بأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُتَتَابعِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً)، وقد يجوزُ أن يقالَ : أرْدَفْتُ الرَّجُلَ إذا جاءَ بعدَهُ، وكذلك رَدَفَهُ. وأما قراءةُ نافع (مُرْدَفِينَ) بفتحِ الدالِ فمعناه : أرْدَفَهُمُ اللهُ بالمؤمنين، ويقال : أرْدَفْتُهُ وَرَدَفْتُهُ بمعنى تَبعْتُهُ، قال الشاعرُ : إذا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُرَيَّا ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَاأي جاءَت بعدَها ؛ لأن الجوزاءَ تطلعُ بعدَ الثُريا.
فنَزَل جبريلُ في خَمسمائةِ مَلَكٍ على الْمَيْمَنَةِ، ونزلَ مِيكَائِيلُ في خَمسمائةِ مَلَكٍ على الْمَيْسَرَةِ في صُورَةِ الرِّجالِ عليهم ثيابٌ بيضٌ وعمائمُ بيضٌ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ﴾ ؛ أي ولتَسْكُنَ قلوبُكم في الحرب فلا تخافون من عدوِّكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ليس النَّصرُ بقلَّة العددِ ولا بكثرتهِ ولا من قِبَلِ الملائكةِ، ولكن النصرَ من عندِ الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ بالنَّقمةِ ممن عصَى، ﴿ حَكِيمٌ ﴾، في أفعالهِ.
وقد اختلفُوا هل قاتلَتِ الملائكةُ يومَ بدرٍ مع المؤمنين أم لاَ ؟ قال بعضُهم : لَم يُقاتِلوا ولكنَّ اللهَ أيَّدَ المؤمنين ليُشجِّع بهم قلوبَهم، ويُلقِي بهم الرُّعبَ في قلوب الكافرين، ولو بعثَهم اللهُ بالْمُحارَبَةِ لكان يكفِي مَلَكٌ واحدٌ، فإنَّ جبريلَ أهْلَكَ برِيشَةٍ واحدة سَبْعاً من قُرى قومِ لُوط، وأهلكَ بصيحةٍ واحدة جميعَ بلادِ ثَمود. وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية.
وقال بعضُهم : إنَّ الملائكةَ قاتَلَتْ ذلك اليوم ؛ لأنه رُوي أن أبَا جَهْلٍ قال لابنِ مسعود : مِنْ أيْنَ كَانَ ذلِكَ الضَّرْبُ الَّذِي كُنَّا نَسْمعُ ولاَ نَرَى شَخْصاً ؟ فَقَالَ لَهُ :(مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : هُمْ غَلَبُونَا لاَ أنْتُمْ!
فسَاروا حتى نزَلُوا بدراً بجانب الوادِي على غيرِ ماءٍ، ونزلَ المشركون على جانبهِ الأقصَى على الماءِ، والوادِي بينَهما فبَاتُوا ليلَتَهم تلك، فألقَى اللهُ على المسلمين النَّومَ فنَامُوا، ثم استيقَظُوا وقد أجْنَبُوا وليس معهم ماءٌ، فأتَاهُم الشيطانُ فوَسْوَسَ إليهم وقالَ : لهم تزعُمون أنَّكم على دينِ الله وأنتم مُجنِبُونَ تُصَلُّونَ على الجنَابَةِ، والمشرِكُون على الماءِ.
فأمطَر اللهُ الوادي وكان ذا رَمْلٍ تغيبُ فيه الأقدامُ، فاشتدَّ الرملُ وتلبَّدت بذلك أرضُهم وأوْحَلَ أرضَ عدوِّهم، وبنَى المسلمون في مكانِهم حِياضاً واغْتسَلُوا من الجنابةِ وشرِبُوا وسَقَوا دوابَّهم وتَهيَّأُوا للقتالِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ أي واذكرُوا إذ يُلقِي اللهُ عليكم النُّعاسَ، والنُّعاسُ : أولُ النَّومِ قبل أن يثقلَ. وقولهُ تعالى :﴿ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ أي أمْناً من اللهِ منهم بوعدِ النَّصرِ أمْناً حتى غَشِيَهم النعاسُ في حالِ الاستعداد للقتال. قال ابنُ عبَّاس :(النُّعَاسُ عِنْدَ الْقِتَالِ أمْنٌ مِنَ اللهِ، وَفِي الصَّلاَةِ مِنَ الشِّيْطَانِ).
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو (يَغْشَاكُمُ) واحتجَّا بقولهِ تعالى :﴿ يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ ﴾[آل عمران : ١٥٤] فجعل الفعلَ للنُّعاس.
وعنِ ابن عبَّاس أنه قال :(سَوَّى أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ صُفُوفَهُمْ، وَقَدَّمُواْ رَايَاتِهِمْ فَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى بعِيرٍ لَهُ يَدْعُو اللهَ وَيَسْتَغِيثُ، فَهبَطَ جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ ومِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْمَلَكُ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَيَقُولُ لَهُ : دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ فِسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ : واللهِ لإِنْ حَمَلُواْ عَلَيْنَا لاَ نَثْبتُ لَهُمْ أبَداً.
وَألْقَى اللهُ فِي قُلُوب الْكَفَرَةِ الرُّعْبَ بَعْدَ قِيَامِهِمْ لِلصَّفِّ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ : يَا مُحَمَّدُ أخْرِجْ إِلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ نُقَاتِلُهُمْ. فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو عَفْرَاءَ مِنَ الأنْصَارِ : عُوذ وَمِعْوَذ وَمَعَاذاً أُمُّهُمْ عَفْرَاءُ وَأبُوهُمُ الْحَارِثُ، فَمَشَواْ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمْ : ارْجِعُواْ وَأرْسِلُوا إلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَخَرَجَ إلَيْهمْ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ عَلِيٌّ : فَمَشَيْتُ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَمَشَى إلَيَّ، فَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ أطَرْتُ يَدَهُ، ثُمَّ بَرَكْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ، فَقَامَ شَيْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ إلَى عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَينِ، ثُمَّ ضَرَبَ عُبَيْدَةُ ضَرْبَةً أخْرَى فَقَطَعَ سَاقَ شَيْبَةَ، ثُمَّ قَامَ حَمْزَةُ إلَى عُبَيْدَةَ بن ربيعة فَقَالَ : أنا أسدُ اللهِ وَأسَدُ رَسُولِهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ. فَقَامَ أبُو جَهْلٍ فِي أصْحَابِهِ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ : لاَ يَهُولَنَّكُمْ مَا لَقِيَ هَؤُلاَءٍ، فإِنَّهُمْ عَجِلُواْ وَاسْتَحْمَقُوا، ثُمَّ حَمَلَ هُوَ بنَفْسِهِ، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى قُرَيْشٍ فَهَزَمُوهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ﴾ ؛ أي سأقذفُ في قلوبهم المخافَة منكم. علَّمَ اللهُ المسلمين كيف يضرِبُونَهم، فقال عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ ﴾ ؛ معناهُ على الأعنَاقِ، وقال عطيَّة والضحاكُ :(مَعْنَاهُ فَاضْرِبُواْ الأَعْنَاقَ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾[محمد : ٤]، وَقَالَ ﷺ :" إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لأعَذِّبَ بعَذاب اللهِ تعَالَى، إنَّمَا بُعِثْتُ بضَرْب الرِّقََاب وَشَدِّ الْوَثَاقِ) ".
وقال بعضُهم (فَوْقَ) بمعنى (عَلَى)، أي فَاضرِبُوا على الأعناقِ، وقال عكرمةُ :(مَعْنَاهُ فَاضْربُوا الرُّؤُوسَ). وقال ابن عبَّاس :(فَاضْرِبُواْ الأعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا) يعني الرُّؤُوسَ والأعناقَ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾[النساء : ١١] أي اثنَتين فما فوقَهما، وإنما أمرَ الله تعالى بضرب الرِّقاب والأعنَاقِ ؛ لأنَّ أعلى جلدةِ العُنقِ هو الْمَقْتَلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ ؛ قال عطيَّة :(يَعْنِي كُلَّ مِفْصَلٍ)، وقال ابنُ عَبَّاس والضحاكُ :(يَعْنِي الأَطْرَافَ).
وقال بعضُهم معنى قولهِ تعالى :﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ ﴾ الصَّنَادِيدُ، وقولهِ تعالى :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ يعني السَّفَلَةَ. إلا أنَّ الأوَّل أصحُّ. وَقِيْلَ : معناه : واضرِبُوا منهم كلَّ عُضوٍ أمكَنَكم، وليس عليكم تَوَقِّي عضوٍ دون عضو.
وعن أبي سعيد الفاراني أنه كان يقولُ :(أرَادَ اللهُ أنْ لاَ تَتَلَطَّخَ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ بفَرَثِ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَهُمْ أنْ يَضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَيَضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ). والبَنَانُ في اللغة : هو الأصابعُ وغيرُها من الأعضاءِ التي بها يكون قِوَامُ الإنسانِ صوناً لمكانه وحياته، مأخوذٌ من قولهم : أبْنَنَ الرجلُ بالمقامِ إذا أقامَ بهِ.
وأما إظهارُ التضعيفِ في موضع الجزمِ في قوله ﴿ يُشَاقِقِ ﴾ فهو لغةُ أهلِ الحجاز، وغيرُهم يُدغِمُ أحدَ الحرفين في الآخر لاجتماعِهما من جنسٍ واحد، كما قال تعالى في سورة الحشرِ﴿ يُشَآقِّ اللَّهَ ﴾[الآية : ٤] بقافٍ واحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾ في فتحِ (أنَّ) وجهان أحدُهما : لأنَّها في موضعِ الرفع تقديرهُ ذلِكُمْ قَذُوقُوهُ وَاعْلَمُوا أنَّ للكَافِرِينَ. والثاني : لأنَّها في موضع النصب ؛ تقديرهُ : ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَاعْلَمُوا أنَّ للكَافِرِينَ. وَقِيْلَ : واعلَمُوا بأنَّ للكافرين، فلما حَذفَ الباءَ نُصب.
والتَّحَرُّفُ في اللغة : هو الزَّوَالُ من جهةِ الاستواءِ، والتَّحَيُّزُ : طلبُ حَيِّزٍ يَكْمُنُ فيه.
واختلفَ العلماءُ هل الوعيدُ في هذه الآيةِ مقصورٌ على حرب بدرٍ أم هو عامٌ في جميعِ الأوقات ؟ قال بعضهم : إنه خاصٌّ في حرب بدر ؛ لأنه لم يكن يومئذٍ للمسلمين فيه سِواهُم، وكان النبيُّ ﷺ حاضِراً في ذلك الحرب، وكان النصرُ موعوداً إليه يومئذٍ ومع حضُورهِ، وكان لا يعدُّ غيرهُ فئةً، وكان المنهزِمُ عن القتالِ يومئذ غيرَ متحيِّزٍ إلى فئةٍ، فأما اليومَ المنهزمُ عن الحرب يكون مُتَحيِّزاً إلى فئَةٍ أعظمَ من الْمُحاربين من المسلمين. وقال بعضُهم : إنه عامٌّ في جميعِ الأوقات، ولا يجوزُ الانْهزَامُ عن قتالِ المشركين مع قوَّة القتال، وإلى هذا ذهبَ ابنُ عباس، وذكرَ محمَّد بنُ الحسنِ في السِّيَرِ الكبير (أنَّ الْجَيْشَ إذا بَلَغُوا اثْنَى عَشَرَ ألْفاً فَلَيْسَ لَهُمْ أنْ يَفِرُّواْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ). واحتَجَّ بما رُوي عن النبيِّ ﷺ أنه قالَ :" خَيْرُ الأَصْحَاب أرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ قِلَّةٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ ؛ معناهُ : رُوي " أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ تُرَاب الْوَادِي " فَنَاوَلَهُ قَبْضَةً، فَاسْتَقْبَلَ بَها وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ فَرَمَاهُمْ وَقَالَ :" شَاهَتِ الْوُجُوهُ وَقَبُحَتْ " فَمَلأَ اللهُ أعْيُنَهُمْ بهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ أحَدٌ إلاَّ وَقَدْ شُغِلَ بعَيْنِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَهَزَمُوهُمْ ". فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ أعلمَ الله أن كفّاً من التُّراب لا يملأُ عُيونَ ذلك الجيشِ برَميَةِ بَشَرٍ ؛ لأنه تعالى توَلَّى إيصالَ ذلك إلى أبصارِهم من الموضعِ الذي كان فيه النبيُّ ﷺ حتى أصابَ عَيْنَ كلَّ واحدٍ منهم قِسْطٌ من ذلك التُّراب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ﴾ ؛ أي وليُنْعِمَ على المؤمنين بالنَّصرِ والغنيمةِ والأُسَارى نعمةً حسنةً. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، أي سميعٌ لدُعائِكم، عليمٌ بأفعالِكُم وضمائرِكم.
وقال السديُّ والكلبي :(كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُواْ إلَى بَدْرٍ، تَعَلَّقواْ بأِسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالُواْ : اللَّهُمَّ انْصُرْ أعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأهْدَى الْفِئَتَينِ وَأكْرَمَ الْحِزْبَينِ وَأفْضَلَ الدِّينَيْنِ، اللَّهُمَّ أيُّ الْفِئَتَينِ أحَبُّ إلَيْكَ فَانْصُرْهُمْ، اللُّهُمَّ اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ، إنْ تَسْتَنْصِرُواْ فَقَدْ جَاءََكُمُ النَّصْرُ، فَنُصِرَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم). وقال عكرمةُ :(قَالَ الْمُشْرِكُونَ : اللُّهُمَّ لاَ نَعْرِفُ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ، فَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بالْحَقِّ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ أيْ إنْ تَسْتَحْكِمُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْحُكْمُ، وَإنْ تَسْتَقْضُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي وإن تَنتَهُوا عن الشِّرك والمعاصي فهو خيرٌ، ﴿ وَإِن تَعُودُواْ ﴾ ؛ إلى القتالِ ؛ ﴿ نَعُدْ ﴾ ؛ بأنْ نأمُرَ المسلمين بجهادِكم وننصُرهم عليكم. وقال بعضُهم : هذه الآيَةُ خطابٌ للمؤمنين ؛ أي اسْتَنْصِرُوا الله وَاسْأَلُوهُ الفتحَ فقد جاءكم الفتحُ والنصر، وإنْ تنتَهُوا عن فعلِكم في الأُسارى والفداءِ يومَ بدرٍ فهو خيرٌ لكم، وإنْ تعودُوا إلى فعلِكم بالأُسارى نَعُدْ إلى الإنكار عليكم، ﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ﴾ ؛ أي وإنْ سُلب عنكم النصرُ حتى لا تُغنِي عنكم جماعتُكم شيئاً، ﴿ وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾ ؛ في العددِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قرأ نافعٌ وابن عامر بخفض (إنَّ) وبفتحِ (أنَّ) بمعنى ولأَن الله، وَقِيْلَ : عطفٌ على قولهِ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾[الأنفال : ١٨]، وَقِيْلَ : على معنى وَاعْلَمُوا أنَّ الله، وقرأ الباقون (وإنَّ اللهَ) بالكسرِ على الابتداء، واختارَهُ أبو عُبيد وأبو حاتم ؛ لأن قراءةَ عبد الله :(وَإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرِ والمعونة.
وأما تخصيصُ المؤمنين بالأمرِ لهم بالطَّاعة وإن كانت هذه الطاعةُ واجبةً على غير المؤمنين كوجوبها على المؤمنين، فلأحَدِ مَعنيين : إما إجلالاً لهم ورَفعاً لقدرهم فيدخلُ غيرُهم في الخطاب على جهة التَّبَعِ لهم، وإما لأنه لم يَعْتَدَّ بغيرِ المؤمنين ؛ لإعراضهم عما وجبَ عليهم.
وقولهُ تعالى :﴿ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ أي إذا دعَاكُم إلى العلمِ الذي يُحييكم في أمرِ الدِّين. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا دعاكم إلى الجهادِ الذي يُحيي أمرَكم. وَقِيْلَ : إذا دعاكم إلى ما يكون سَبَباً للحياةِ الدَّائمة في نعيمِ الآخرة ؛ لأنه إذا حصلَ الامتثالُ بأمرِ الله ورسولهِ، حصلت هذه الحياةُ الدائمة، وإن لم يحصِلِ الامتثالُ أدَّى ذلك إلى العقاب الذي يتمنَّى معه الموتَ. قال القتيبي :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ يَعْنِي الشَّهَادَةَ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾[آل عمران : ١٦٩]). واللامُ في قولهِ (لِمَا) بمعنى (إلى).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ ؛ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ؛ أحدُها : أن معناهُ : يَحُولُ بين المرءِ وأمَلهِ بالموتِ أو غيره من الآفَاتِ، فبادِرُوا إلى الطاعاتِ قبلَ الحيلولَةِ، ودَعُوا التسويفَ فإنَّ الأجلَ يَحُولُ دون الأملِ. وقال مجاهدُ :(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبهِ لاَ يَتْرُكُهُ يَفْهَمُ وَلاَ يَعْقِلُ).
والثاني : أن معناهُ : أنَّ الله تعالى أقربُ إلى ذي القلب مِن قلبه، فإنَّ الذي يَحُولُ بين الشَّيء وغيرهِ أقربُ إلى ذلك الشيءِ من غيره، كما قالَ تعالى :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾[ق : ١٦]، وفي هذا تحذيرٌ شديد.
والثالث أن معناهُ : أن اللهَ يُقَلِّبُ القلوبَ من حالٍ إلى حالِ كما جاء في الدُّعاء :" يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوب ". وقال ابنُ جبير :(يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ أنْ يُؤْمِنَ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ أنْ يَكْفُرَ). وقال ابنُ عبَّاس والضحاك :(يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَمَعْصِيَتِهِ، ويَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَطَاعَتِهِ). وقال السديُّ :(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤْمِنَ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَكْفُرَ إلاَّ بإذنِهِ).
قرأ الحسنُ :(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرِّ) بتشديدِ الراء من غير همزٍ، وقرأ الزهريُّ بضمِّ الميمِ والهمزة وهي لغاتٌ صحيحة.
وقولهُ تعالى :﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ؛ عطفٌ على قولهِ :﴿ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾. معناهُ : واعلَمُوا أنَّ مَحْشَرَكُمْ في الآخرةِ إلى اللهِ، فيَجزِي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ، إنْ كان خَيراً فخيرٌ، وإنْ كان شرّاً فشَرٌّ.
وَقِيْلَ : في آخرِ الآية تأويلُ الآيةِ ؛ أي الذي يَحُولُ بين المرءِ وقلبهِ قادرٌ على أن يُبَدِّلَ خوفَكم أمْناً، وأمْنَ عدُوِّكم خَوفاً، فيجعلَ القويَّ ضعيفاً والضعيفَ قوياً، والعزيزَ ذليلاً والذليلَ عَزِيزاً، والشُّجاعَ جَباناً، الجبانَ شُجاعاً، يفعلُ ما يشاء وما يريدُ فأجيبُوا الرسولَ في الجهادِ ولا تخافُوا ضعفَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ ﴾ جوابُ الأمر بلفظ النَّهي، كما يقالُ : أنْزَلْ مِنَ الدَّابة لا تَطْرَحْكَ أو لا تطرَحنَّكَ، معناهُ : أنْ تَنْزِلَ عنها لا تطرحَنَّك، فاذا أثبَتَّ النونَ الخفيفةَ والثقيلة كان آكدَ للكلامِ، ومنهُ قوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾[النمل : ١٨].
والمرادُ بالفتنةِ القتلُ الذي رَكِبَ الناسَ فيه بالظُّلم، وكان أمرُ الله أمراً باتِّقاء تركِ الإنكارِ على أهلِ المعاصي واتِّقاء الاختلاطِ بأهلِ المعصية، قال ابنُ عبَّاس :(أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ لاَ يقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَيَعُمُّهُمُ اللهُ بالْعَذاب).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ تحذيرُ شدَّة العقوبةِ لِمَن أهَاجَ الفتنَ، قال ﷺ :" الْفِتْنَةُ رَاتِعَةٌ فِي بلاَدِ اللهِ وَاضِعَةٌ خِطَامَهَا، فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَهَاجَهَا " وفي بعضِ الأخبار :" الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللهُ مَنْ أَيْقَظَهَا ".
فلما نزلت هذه الآيةُ شدَّ أبُو لُبابَةَ نفسَهُ على سَاريَةٍ من سَوَاري المسجدِ، وقالَ (لاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ) فمكثَ سبعةَ أيَّام لا يذوقُ فيها طعاماً ولا شَراباً حتى خَرَّ مَغشِيّاً عليهِ، ثم تَابَ اللهُ عليه، فجاءَ رسولُ الله ﷺ فَحَلَّهُ بيدهِ، فقال أبو لُبابة :(تَمَامُ تَوْبَتِي أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أصَبْتُ فِيْهَا الذنْبَ، وَأنْ أتَخَلَّعَ مِنْ مَالِي) فَقَالَ ﷺ :" يُجْزِيكَ الثُّلْثُ أن تَتَصَدَّقَ بهِ ".
وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى الآيَةِ : لا َتَخُونُوا اللهَ بتَرْكِ فَرَائِضِهِ، وَالرَّسُولَ بتَرْكِ سُنَّتِهِ). ﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ﴾ أي ولا تَخُونُوا أمانَاتِكم، انتصبَ على الظَّرفِ ؛ أي إنَّكم إن فَعَلْتُم ذلك فإنما خُنْتُمْ أمانَاتِكم عَطفاً.
ويقالُ : أرادَ بقولهِ :﴿ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ ﴾ الخيانَة من الغنائمِ التي هي عطيَّةُ اللهِ، والخيانةُ للهِ فيها خيانةُ الرسولِ أيضاً ؛ لأنه هو القَيِّمُ بقِسْمَتِها، وقولهُ :﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ﴾ يحتملُ الخيانةَ في الغنائمِ أيضاً ؛ لأنَّهم كلُّهم مُشتَركون فيها، فمَنِ استبدَّ بشيءٍ منها فقد خَانَ، ويحتملُ الخيانةَ في أثْمَانِ بعضِ الناس بعضاً من حقُوقِ أنفسهم، وقال الأخفشُ :(قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ﴾ عَطْفًاً عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ، تَقْدِيرُهُ : وَلاَ تَخُونُوا أمانَاتِكُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أي ثوابٌ جَسِيمٌ في الآخرةِ لمن لَم يَعْصِ اللهَ لأجلِ المالِ والذرِّية.
وَقِيْلَ : معناهُ يجعل لكم مَخْرَجاً ونَجاةً في الدُّنيا والآخرةِ. وقال الضحَّاك :(فُرْقَاناً : أيْ ثَبَاتاً). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ أي يَمحُ عنكم ذنُوبَكم، ويستْرُ عليكم خطَايَاكم ولا يؤاخِذْكم بها، ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ أي عظيمُ الفضلِ على عباده أسْدَى لهم بالنِّعَم.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيشٍ اجْتَمَعُواْ فِي دَار النَّدْوَةِ يَمْكُرُونَ برَسُولِ اللهِ ﷺ وَيَحْتَالُونَ لَهُ، مِنْهُمْ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبيعَةَ ؛ وَأَبُو جَهْلٍ ؛ وَأَبُو سُفْيَانَ ؛ وَالنَّضِِرُ بْنُ الْحَارثِ ؛ وَأبُو الْبُحْتُرِيِّ بْنُ هِشَامٍ ؛ وَنَبيهُ وَمُنَبهُ ؛ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَرَبيعَةُ بْنُ الأَسْودِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبيرٍ عَلَيْهِ ثِيَابُ أطْمَارٍ، فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ فَقَالُواْ : مَا لَكَ يَا شَيْخُ دَخَلْتَ فِي خَلْوَتِنَا بغَيْرِ إذنِنَا؟! فَقَالَ : أنَا رَجُلٌ مِنْ أهْلِ نَجْدٍ قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَأَرَاكُمْ حَسَنَةً وَجُوهُكُمْ طَيِّبَةً رَوَائِحُكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أنْ أسْمَعَ حَدِيثَكُمْ فَأقْتَبِسَ مِنْكُمْ خَيْراً فَدَخَلْتُ، وَإنْ كَرِهْتُمْ مَجْلِسِي خَرَجْتُ، وَمَا جِئْتُكُمْ إلاَّ أنِّي سَمِعْتُ باجْتِمَاعِكُمْ فأَرَدْتُ أنْ أحْضُرَ مَعَكُمْ، وَلَنْ تَعْدُمُوا مِنِّي رَأياً وَنُصْحاً. فَقَالُوا : هَذا رَجُلٌ لاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ.
فَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَبَدأَ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ : أمَّا أنَا فَأَرَى أنْ تَأْخُذوا مُحَمَّداً، فَتَجْعَلُوهُ فِي بَيْتٍ تَسُدُّونَ عَلَيْهِ بَابَهُ ؛ وَتَشُدُّونَ عَلَيْهِ وِثَاقَهُ ؛ وَتَجْعَلُونَ لَهُ كُوَّةً تُدْخِلُونَ عَلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَيَكُونُ مَحْبُوساً عِنْدَكُمْ إلى أنْ يَمُوتَ. فَقَالَ إبْلِيسُ : بئْسَ مَا رَأيْتَ! تَعْمَدُونَ إلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ أهْلُ بَيْتٍ، وَقَدْ سَمِعَ بهِ مَنْ حَوْلَكُمْ فَتَحْبسُوهُ، يُوشِكُ أنْ يُقَاتِلَكُمْ أهْلُ بَيْتِهِ وَيُفْسِدُواْ عَلَيْكُمْ جَمَاعَتَكُمْ فَقَالُوا صَدَقَ واللهِ الشَّيْخُ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ أبُو الْبَخْتَرِيِّ فَقَالَ : أرَى أنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ فَتَشُدُّوا وثَاقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تُخْرِجُوهُ مِنْ أرْضِكُمْ حَتَّى يَمُوتَ أوْ يَذْهَبَ حَيْثُ يَشَاءُ. فَقَالَ إبْلِيسُ : بئْسَ الرَّأيِ مَا رَأيْتَ! تَعْمَدُونَ إلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ أهْلُ بَيْتٍ، وَقَدْ سَمِعَ بهِ مَنْ حَوْلَكُمْ أفْسَدَ عَلَيْكُمْ جَمَاعَتَكُمْ وَمَعَهُ مِنْكُمْ طَائِفَةٌ، فَتُخرِجُونَهُ إلَى غَيْرِكُمْ فَيَأْتِيهمْ فَيُفْسِدُ مِنْهُمْ أيْضاً جَمَاعَةً بمَا يَرَونَ مِنْ حَلاَوَةِ كَلاَمِهِ وَطَلاَقَةَ لِسَانِهِ، وَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَتَسْتَمِعُ إلَى حُسْنِ حَدِيثِهِ، ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّكُمْ بهِمْ فَيُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَيَقْتُلَ أشْرَافَكُمْ. فَقَالُواْ : صَدَقَ واللهِ الشَّيْخُ.
فَتَكَلَّمَ أبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أرَى أنْ تَجْتَمِعَ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَأْخُذُونَ السُّيُوفَ، فَيَضْرِبُونَهُ جَمِيعاً ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإذا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمَهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلاَ يَدْرِي قَوْمُهُ مَنْ يأْخُذُونَ وَلاَ يَقُومُونَ عَلَى حَرْب قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَإنَّمَا إذا رَأوا ذلِكَ قَبلُوا الدِّيَةَ، فَتُؤَدِّي قُرَيْشُ دِيَتَهُ وَاسْتَرَحْنَا. فَقَالَ إبْلِيسُ : صَدَقَ واللهِ الشَّابُّ، وَهُوَ أجْوَدُكُمْ رَأْياً، الْقَوْلُ قَوْلُهُ لاَ أرَى غَيْرَهُ. فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذلِكَ.
فَنَزَلَ جِبرِيلُ عليه السلام فأَخْبَرَ النَّبيَّ ﷺ بذلِكَ، وَأَمَرَهُ أنْ لاَ يَبيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبيتُ فِيْهِ، وَأَمَرَهُ بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ) وَكَانَ مِنْ أمْرِ الْغَارِ مَا كَانَ، فذلك قولهُ ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ﴾ أي ليَحبسُوكَ، وهو ما قالَهُ عمرُو بن هشام.
ومعنى الآيةِ : واذكُرْ يا مُحَمَّدُ إذا قالُوا : اللَّهُمَّ... وأنتَ بين أظهُرِهم بمكَّة، فلم يُعذِّبهم اللهُ حينئذٍ وَعذبَهم من بعدُ، فأُسِرَ النضرُ يومَ بدرٍ وقُتِلَ صَبراً، وكان الذي أسَرَهُ المقدادُ بن الأسودِ. وقولهُ تعالى :﴿ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾ عناداً وتوكيداً وصِلَةً في الكلامِ، و ﴿ الْحَقَّ ﴾ نُصِبَ بخبرِ كان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ ﴾ ؛ أي ما كان الكفَّارُ أولياءَ المسجدِ الحرام، قال الحسنُ :(وَذلِكَ أنَّهُمْ كَانُواْ يَقُولُونَ : نَحْنُ أوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَرَدَّ اللهُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ). وَقِيْلَ : معناهُ : وما كانوا أولياءَ اللهِ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ﴾ ؛ أي مَا أولياءُ اللهِ، وَقِيْلَ : ما أولياءُ المسجدِ الحارمِ إلا المتّقونَ الشِّركَ، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ﴾ ؛ الكفار، ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، ذلكَ.
وَالْمُكَاءُ : طائرٌ أبيض يكون في الحجاز يُصَفِّرُ يسمَّى باسم بصوته، ويقالُ : مَكَا يَمْكُو إذا صَفَّرَ. وصَدَى تَصْدِيَةً إذا صَفَّقَ بيدهِ.
وقال مقاتلُ :(كَانَ النَّبيُّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ عَنْ يَمِينِهِ وَرَجُلاَنِ عَنْ يَسَارِهِ، فَيُصَفِّرُونَ كَمَا يُصَفِّرُ الْمُكَاءُ، وَيُصَفِّقُونَ بأَيْدِيهِمْ ؛ لِيَخْلِطُواْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقِرَاءَتَهُ، وَكَانُواْ يَفْعَلُونَ كَذلِكَ بصَلاَةِ مَنْ آمَنَ بهِ، فَقَتَلَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ). وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ ؛ ويقالُ : أرادَ بهذا أنه يُقال لهم يومَ القيامةِ :﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ وقال أبُو جَعفر :(سَأَلْتُ أبَا سَلَمَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ فَجَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا صَفِيراً). وقال ابنُ عبَّاس :(كَانَتْ قُرَيْشُ يَطُوفُونَ بالْبَيْتِ عُرَاةً، وَيُدْخِلُونَ أصَابعَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ فَيُصَفِّرُونَ).
ومعنى الآية : إنَّ الذين كفَرُوا يُنفِقُونَ أموالَهم على عدَاوَةِ رسولِ اللهِ ﷺ ليَصُدُّوا الناسَ عن دين اللهِ، فيستقبحُ هذه الإنفاق منهم، ثم يكون إنفاقُهم ندامةً عليهم يومَ القيامة، يُهزَمُونَ ويُقتلون ببدرٍ لا تنفعُهم نفقتهم.
والْحَسْرَةُ : مأخوذةٌ من الكَشْفِ، يقالُ : حَسَرَ رَأْسَهُ إذا كَشَفَهُ، والْحَاسِرُ : كاشِفُ الرَّأسِ، فيكونُ المعنى : ثم يَكْشِفُ لهم عن ذلكَ ما يكونَ حَسْرَةً علِيهم. قِيْلَ : كان يُطعِمُ كلُّ واحدٍ منهم كلَّ يومٍ عَشْرَ جُزُرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ ؛ بيانُ أنَّ ذلك القتلَ والهزيمةَ لا يُكفِّران ذُنوبَهم، وأنَّهم يُحشرون في الآخرةِ إلى جهنَّم للجزاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾ ؛ أي يجعلَ ما أنفقَهُ المشركون في معصيةِ الله بعضَهُ فوقَ بعضٍ، فيجعلهُ رُكَاماً فيُكَوَّي بذلك جِبَاهُهم وجنُوبُهم في جهنَّم.
وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ ﴿ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ﴾ طَرْحَ بعضهِ على بعضٍ، كما يفعلُ بالمتاعِ الخفيف تَحقِيراً له. وَقِيْلَ : معنى (فَيَرْكُمَهُ) أي يجمَعهُ حتى يصيرَ كالسَّحاب الْمَرْكُومِ وهو المجتَمِعُ الكثيفُ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ. وقولهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ؛ أي هم الذين خَسِرُوا أنفُسَهم في الدُّنيا والآخرةِ، وغُشَّتْ صفقَتُهم وخَسِرَتْ تجارَتُهم ؛ لأنَّهم اشتَرَوا بأموالِهم عذابَ اللهِ في الآخرةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾ ؛ أي وتكون الطاعةُ كلُّها للهِ، فتجتمعُ الناسُ على دِين الإسلامِ. وقولهُ تعالى :﴿ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ؛ أي فإن انتَهَوا عن الشِّركِ فإنَّ اللهَ يجازيهم جزاءَ البصِير بأعمالِهم. ﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ ؛ أي أعرَضُوا عن طاعةِ اللهِ، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ ﴾ ؛ أي نَاصِرُكم، ﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ ؛ نِعْمَ الحافظِ والوَلِيِّ، ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ ؛ مُنصِرُكم عليهم.
وبهذا أخذ أبو حَنيفة وأصحابهُ ؛ قالوا : إنَّ قولَهُ تعالى ﴿ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ لافتتاحِ الكلامِ باسمه تعالى على طريقِ التبرُّك، لا لأنَّ للهِ نصيباً من الْخُمُسِ، فإنَّ الدُّنيا والآخرة كلُّها لهُ سُبحانه، وسهمُ رسولِ اللهِ ﷺ سَقَطَ بموتهِ ؛ لأن الأنبياءَ عليهمُ السَّلام لا يُورَثُونَ، وبينَهم ذوِي القراباتِ كان جعل النبيِّ ﷺ سهمَهُ في مَن شاءَ منهم، ألاَ ترى أنه أعطَى بني هاشم وبنِي المطَّلب، وأحرمَ بني نوفل وبني عبدِ شمس مع مساواتِها بني عبدِ المطلَّب في القُرْب ؛ لأن بني هاشم لم يفارقوهُ في جاهليَّة ولا إسلامٍ، وإذا بَطَلَ هذان السَّهمان بعدَ رسولِ اللهِ ﷺ، ورَجَعْنَا إلى السِّهام الثلاثةِ التي ذُكرت مَعَهُما، فقُسِّمَ الخمُسُ على ثلاثةِ أسهُم، ويدخلُ في استحقاقهِ فقراءُ بني هاشم دونَ أغنيائِهم بدلاً عمَّا حُرِمُوا من الصَّدقات، وأربعةُ أخماسِ الغَنيمة للغَانِمين.
واليَتِيمُ من كلِّ جنسٍ من الحيوان الذي ماتَتْ أمُّهُ، إلا من بَني آدمَ فإنه إذا ماتَ أبوهُ. والمسكينُ الذي أسْكَنَهُ الضعفُ عن النُّهوضِ لحاجتهِ. وابنُ السَّبيلِ المنطقعُ عن مالهِ.
وقال بعضُهم : يُقسَمُ الخمُس الآنَ على أربعةِ اسهُم، فينفردُ سهم قرابةِ النبيِّ ﷺ، وقال الشافعيُّ :(يُقْسَمُ الْخُمُسُ الآن عَلَى خَمْسَةِ أسْهُمٍ، سَهْمٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ يُصْرَفُ إلَى الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ)، ومِن أصحابهِ مَن قالَ : يصرفُ إلى الخليفةِ، وسهمُ قرابةِ ذوي النبيِّ ﷺ لأغنيائِهم وفُقَرائِهم، وثلاثةُ أسهُمٍ لليتامَى والمساكين وابنِ السَّبيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ ؛ معناهُ : اقبَلُوا ما أُمِرتُم به في الغنيمةِ إن كُنتم صدَّقتُم بتوحيدِ الله، وبما أنزَلنا على عبدِنا مُحَمَّدٍ ﷺ، وقولهُ تعالى :﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ ﴾ أي يومَ بدرٍ فُرِّقَ فيه بين الحقِّ والباطلِ بنصرِ المؤمنين وكَبْتِ الكافرين مع ضَعفِ المسلمين وقَتلِهم. وقولهُ تعالى :﴿ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ أي يومَ جَمْعِ الكافرين والمؤمنين، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ من نصرِ المؤمنين وغير ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾ ؛ أي إنَّ اللهَ جَمَعَكم مع المشركين وأصحاب العِيرِ في ليلةٍ واحدة بمَنْزِلٍ واحدٍ، ولو تَواعَدْتُم للاجتماعِ هناكَ لاختلَفْتُم في المعيادِ بالعوائقِ التي تعوقُ عن ذلك، وبأنَّكم لو كُنتم تعلمون كثرةَ عددِ المشركين وقلَّةَ عَدَدِكم لم تَحضُروا في ذلك المكان للقتالِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ ؛ أي ولكن قَدَّرَ اللهُ اجتماعَكم في ذلك المكانِ ليَقْضِيَ الله أمْراً كائناً لا محالةَ من إعزازِ المسلمين وإعلائهِ " الإسلام ". على سائرِ الأديان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ؛ أي ليَمُوتَ من ماتَ منهم بعد قيامِ الحجَّة عليهم، ﴿ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ؛ ويعيشَ من عاشَ بعد قيامِ الحجَّة عليهم، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ ﴾ ؛ بمقالَتِكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بضمائرِكم، يُجازيكم على قدرِ أعمَالِكم.
قرأ أهلُ مكَّة والبصرة (بالْعِدْوَةِ) بكسرِ العين، وقرأ الباقون بضمِّها وهما لُغتان مشهورتان كالكِسْوَة والكُسْوَة والرِّشْوَة والرُّشْوَةِ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ قرأ نافعُ والبزي وخلَفٌ (حَييَ) بيائين مثل (حَييَ) على الأصلِ، وقرأ الباقون بياءٍ واحدة مشدَّدة على الإدغامِ، ومعنى ﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ أي ليَمُوتَ من ماتَ عن بيِّنة رآها وغيرةٍ عاينَها، أو حجَّة قامت عليه، وكذلكَ حَيوةُ من يحيَى لوعدهِ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾[الإسراء : ١٥].
رُوي عن عبدِالله بن مسعود أنهُ قال :(قُلْتُ لِرَجُلٍ بجَنْبي : أتُرَاهُمْ تَسْعِينَ رَجُلاً ؟ قَالَ : هُمْ قَرِيبٌ مِنَ الْمِائَةِ، فَلَمَّا أسَرْنَا رَجُلاً مِنْهُمْ سَأَلْنَاهُ عَنْ عَدَدِهِمْ، قالَ : كُنَّا ألْفاً أوْ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ).
وقولهُ تعالى :﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ قد تقدَّم تفسيرهُ، والفائدةُ في إعادتهِ أنَّ المرادَ بالأوَّل إعلاءُ الإسلامِ على سائرِ الأديان، وبالثاني قتلُ المشركين وأسُرهم يومَ بدر وكلاهما كان كائناً في علمِ الله.
وَقِِيْلَ : معناهُ : وتذهبَ دولَتكم وقوَّتُكم، وقال مجاهد :(وَتَذْهَبَ نُصْرَتُكُمْ)، وقال السديُّ :(جُرأتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ وَجَلَدُكُمْ). وقولهُ تعالى :﴿ وَاصْبِرُواْ ﴾ ؛ أي اصبروا على قتالِ المشركين ولا توَلُّوهم الأدبارَ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، بالنصرِ والمعونة.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكينَ قَالُوا لأَبي جَهْلٍ وَأصْحَابهِ قَبْلَ وُصُولِهمْ إلَى بَدْرٍ : ارْجِعُواْ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ نَحَتِ الْعِيرُ، قَالُواْ : لاَ حَتَّى تُنْحَرَ الْجَزُورُ وَتُشْرَبَ الْخُمُورُ وَتُغَنِّي الْقَيْنَاتُ، حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ بمَسِيرِنَا. فَنَزَلُواْ ببَدْرٍ وَمَعَهُمُ الْقَيْنَاتُ بالدُّفُوفِ وَيَتَغَنَّيْنَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَقَاهُمْ كَأْسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخُمُور، وَنَاحَتْ عَلَيهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقَيْنَاتِ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَكُونُواْ مِثْلَهُمْ، وَأمَرَهُمْ بإخْلاَصِ النِّيَّةِ وَالصَّبْرِ فِي نَصْرِ دِينهِ وَمُؤَازَرَةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ ﴾ ؛ أي أخافهُ أنْ يُصيبَني معَكم بعذابهِ، ﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ لِمَنِ استحقَّهُ، قال مقاتلُ :(كَذبَ عَدُوُّ اللهِ، مَا كَانَ بهِ مِنْ خَوْفٍ مِنَ اللهِ، فَإنَّ اللهَ قَدْ أنْظَرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَلَكِنَّهُ خَذلَهُمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ). ويقالُ : ظنَّ إبليسُ أن الوقتَ الذي أنظرَهُ الله قد حضرَ.
وعن ابنِ عبِّاس :(أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لَمَّا وَجَدُواْ الْعِيرَ أرَادُوا الرُّجُوعَ، فَتَمَثَّلَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْنَمِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ : لاَ تَرْجِعُواْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، فإِنَّكُمْ كَثيرٌ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإنِّي مُعِينٌ لَكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فلاَ تَمُرُّونَ بأحَدِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إلاَّ سَارَ مَعَكُمْ، فَإنَّهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنِي.
فَسَارُواْ وَسَارَ إبْلِيسُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ أحَدُ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ : يَا سُرَاقَةُ أيْنَ مَا ضَمَمْتَ لَنَا ؟ فَيَقُولُ : مُرُونِي، حَتَّى قِدِمُوا بَدْراً، فَلَمَّا كَأنَ عِنْدَ الْقِتَالِ رَأى إبْليسُ جِبْرِيلَ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبيْهِ رَاجِعاً، وََقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : يَا سُرَاقَةُ أيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَقَالَ : إنِّي أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، فَقَالَ الْحَارثُ : وَمَا تَرَى إلاَّ جَعَاشِيشَ أهْلَ يَثْرِبَ ؟ - وَالْجُعْشُوشُ : الرَّجُلُ الْقَصِِيرُ - فَلَمَّا رَأى الْحَارثُ إبْلِيسَ يَنْطَلِقُ، أهْوَى بهِ لِيَأْخُذهُ، فَدَفَعَهُ إبْلِيسُ فَرَمَى بهِ، ثمَّ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وقَالَ :- إني - أخَافُ اللهَ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَاب.
فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا يَقُولُونَ : هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ، فَبَلَغَ ذلِكَ سُرَاقَةُ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : بَلَغَنِي أنَّكُمْ تَقُولُونَ أنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ! وَالَّذِي نَحْلِفُ بهِ مَا بَلَغَنِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ سَمِعْتُ بمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَنِي هَزِيْمَتُكُمْ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ لَهُ : أمَا أتَيْتَنَا يَوْمَ كَذا وَكَذا ؟ وَهُوَ يَقُولُ : لاَ ؛ وَالَّذي نَحْلُِ بهِ مَا كَانَ مِنْ ذا قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ. فَلَمَّا أسْلَمُواْ عَرَفُوا أنَّهُ إنَّما كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ).
فإنْ قِيْلَ : كيفَ يجوزُ أن يتمكَّن إبليسُ مِنْ أن يخلعَ صورةَ نفسِهِ ويلبسَ صورةَ سُراقة ؟ ولو كان قادِراً على أن يجعلَ نَفسَهُ صورةَ إنسانٍ كان قادراً على أن يجعلَ غيرَهُ إنسَاناً ؟ قِيْلَ : إذا صَحَّتْ هذه الروايةُ، فالجوابُ : أن اللهَ خَلَقَ إبليسَ في صُورةِ سُراقة، واللهُ تعالى قادرٌ على خلقٍ إنسان في مثلِ صورة سُراقة ابتداءً، فكان قادراً على أن يُصوِّر إبليسَ في مثل صورةِ سُراقة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَرَّ هَـاؤُلاءِ دِينُهُمْ ﴾ قال ابنُ عباس :(لَمَّا نَفَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى بَدْرٍ وَلَمْ يُخْلِفُوا بمَكَّةَ أحَداً قَدِ احْتَلَمَ إلاَّ خَرَجُواْ بهِ، وَأخْرَجُواْ مَعَهُمْ أُنَاساً كَانوُا قَدْ تَكَلَّمُوا بالإسْلاَمِ بمَكَّةَ، فَلَمَّا الْتَقَواْ وَرَأوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ، ارْتَابُوا وَنَافَقُواْ وَقَالُواْ لأَهْلِ مَكَّةَ : غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ، يَعْنُونَ الْمُسْلِمِينَ غَرَّهُمْ دِينُهُمْ حِينَ خَرَجُواْ مَعَ قِلَّتِهِمْ إلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ). فَقُتِلَ هَؤُلاَءِ مَعَ الْمُشْرِكينَ يَوْمَئِذٍ، وَضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأدْبَارَهُمْ، كَمَا ذكَرَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي ومَن يَثِقْ باللهِ في جميعِ أمُورهِ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ بنصرهِ على عدوِّهِ ولو كَثُرَ عددهُ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ يضعُ الأمورَ مواضِعَها.
والدَّأبُ في اللغة : الْعَادَةُ، يقالُ : فلانٌ يَدْأبُ في كذا ؛ أي يُدَاوِمُ عليه ويُتعِبُ نفسَهُ فيه. وآلُ الرَّجُلِ : الذين يَرجِعُونَ إليه بأَوْكَدِ الأسبَاب، ولهذا يقالُ لقرابةِ الرجُل : آلُ الرَّجُلِ ولا يقالُ لأصحابهِ : آلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ)، وقال عطاء ومجاهدُ :(كَنِيَّتِهِمْ)، وَقِيْلَ : كَمِثَالِهم، والمعنى : أنَّ أهلَ بدرٍ من المشركين فَعَلُوا كفِعْلِ آل فرعون من الكُفر والتكذيب، ففعلَ اللهُ بهم كما فعل بآلِ فرعون من الهلاكِ والعذاب.
قال الكلبيُّ :(يَعْنِي بالآيَةِ أهْلَ مَكَّةَ، بَعَثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّداً ﷺ، فَغَيَّرُواْ نِعْمَةَ اللهِ، وَتَغْييرُهَا كُفْرُهَا وَتَرْكُ شُكْرِهَا)، وقال السديُّ : نِعْمَةُ اللهِ يَعْنِي مُحَمَّداً، أنْعَمَ اللهُ بهِ عَلَى قُرَيْشٍ فَكَذبُوهُ وَكَفَرُواْ بهِ، فَنَقَلَهُ اللهُ إلَى الأَنْصَارِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي سميعٌ لجميعِ المخلوقاتِ المسموعات، عليمٌ لمعاناتكم.
فإن قِيْلَ : لِمَ كرَّرَ آلَ فرعون ؟ قِيْلَ : المرادُ بالأوَّل أن هؤلاءِ جازَاهُم اللهُ بالقتلِ والأَسْرِ، كما جُوزِيَ أولئكَ بالغرقِ والهلاك، والمرادُ بالثاني : أن صُنْعَ هؤلاءِ في النِّعم التي أنعمَ اللهُ عليهم كصُنعِ آلِ فرعون فيما أعطاهم اللهُ من الْمُلْكِ والعزِّ في الدُّنيا، فلما غَيَّرَ كلُّ فريقٍ النعمَ غيَّر اللهُ سبحانه ما بهم.
وقال ابنُ عبَّاس :(فَشَرِّدْ بهِمْ، أيْ نَكِّلْ بهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ)، وقال ابنُ جُبير :(أْنْذِرْ بهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ). وَقِيْلَ : اقتُلْهُم قَتْلاً، وَقِيْلَ : أثْخِنْ فيهِمُ القتلَ حتى يخافَكَ غيرُهم من أهلِ مكَّة وأهلِ اليَمَنِ. وقال القُتَيبيُّ :(سَمِّعْ بهِمْ) وقرأ ابنُ مسعود (فَشَرِّذْ) بالذالِ المعجَّمة وهما واحدٌ. وقال قُطرب :(التَّشْرِيدُ بالدَّالِ : التَّنْكِيلُ، وَالذالِ : التَّفْرِيقُ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي لكَي يعتَبروا فَلا يَنقضُوا العهدَ الذي بينَكَ وبينهم مخافةَ أن يحِلَّ بهم مثلَ ما حلَّ ببني قُريظة.
والمعنى : إمَّا تعلَمَنَّ يا مُحَمَّدُ من قومٍ مُعاهِدين لكَ نَكْثَ عهدٍ ونقضَ عهدٍ يظهرُ لك من آثارِ الغدرِ والخيانة كما ظهرَ لكَ من بني قُريظة والنَّضِير، فَانْبذْ إليهم ؛ أي فَاطْرَحْ إليهم عهدَهم على سواءٍ ؛ أي أخبرْهم وَأعْلِمْهُمْ قبلَ حَربكَ إياهم أنَّكَ فَسَخْتَ العهدَ بينَكَ وبينهم، حتى تصيرَ أنتَ وهم على سواءٍ في العلم بأنَّكَ لهم محاربٌ، فيأخذُوا للحرب أُهْبَتَهَا وَتَبْرَأ من الغدرِ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾ ؛ أي لا يرضَى عملَ الذين يَخُونُونَ بالبَدْأةِ بالقتالِ من غيرِ أعلامٍ بنقضِِ العهد.
وقرأ أبو جعفرٍ وأبنُ عامرٍ وحمزةُ وحفص بالياءِ على معنى لا تَظُنَّنَّ هؤلاءِ المشركين إنَّ من ماتَ منهم فقد فاتَ من الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنَّ اللهَ لا يبعثهُ يومَ القيامةِ ولا يعاقبهُ. وقرأ أهلُ الشام :(أنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ) بالفتحِ، وتكونُ (لاَ) صلةً تتقديرهُ : ولا تحسبَنَّ الذين كفَرُوا سَبَقُوا أنَّهم لا يُعجِزُونَ ؛ أي لا يَفُوتُونَ. وقيل معناهُ : لأَنَّهُمْ، وقرأ عامَّة القُرَّاء بالكسرِ على الابتداء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : ارْتَبطُوا الخيلَ لَهم ولقتالِهم ؛ أي أعِدُّوا لَهم ذلك لتخويفِ عُدوِّ اللهِ وعدُوِّكم ﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾ أي مِن دون كُفَّار العرب وأهلِ الكتاب ﴿ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ﴾ أي لا تَعرِفُونَهُمْ. قال ابنُ عبِّاس :(يَعْنِي كُفَّارَ الْجِنِّ)، قَالَ ﷺ :" لاَ يَقْرُبُ صَاحِبَ قَوْسٍ جِنِّيٌّ أبَداً ". ويقالُ : إن الجنَّ لا تدخلُ بيتاً فيه قوسٌ ولا سلاحٌ.
قال السديُّ :(أرَادَ بهِ أهْلَ فَارِسَ)، وقال الحسنُ :(هُمُ الْمُنَافِقُونَ)، وقال الضحَّاك :(هُمُ الشَّيَاطِينُ)، ولا يمتنعُ أن يكةون الكلُّ مرادٌ بالآيةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي ما تُنفقوا من شيءٍ في الجهادِ يوفَّ إليكم ثوابهُ، ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ ؛ أي لا يُنقَصُ شيءٌ من حقِّكم.
والسِّلْمُ والسَّلْمُ بالخفضِ والنصب، وإنما قال ﴿ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ لأن السَّلم والْمُسَالَمَةَ بمعنى واحدٍ، فردَّ الكنايةَ إلى المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي ثِقْ باللهِ تعالى إنْ نَقَضُوا العهدَ، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ﴾ ؛ بمقالَتِكم ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ ؛ بما تفعلون.
وقال بعضُ المفسِّرين : موضعُ (مَنْ) خفْضٌ عطفاً على الكافِ في قولهِ ﴿ حَسْبُكَ اللَّهُ ﴾ أي وحسبُ مَنِ اتَّبعَكَ. وقال بعضُهم : موضعهُ رفعٌ عطفاً على اسمِ الله ؛ أي حسبُكَ اللهُ ومَتبُوعُكَ مِن المؤمنين. قِيْلَ : إن هذه الآية قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ نزلَتْ في البيداءِ في غَزوةِ بدرٍ قبلَ القتالِ.
وقولهُ تعالى :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي ذلك النصرُ من اللهِ لكم على الكفَّار وخُذلانُهم بأنَّكم تفقهونَ أمرَ اللهِ وتصدِّقُونه فيما وعدَهُ من الثواب، والكفارُ لا يفقهون ذلك ولا يصدِّقونه.
قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَبْعَثُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْعَشَرَةَ مِنَ الْكُفَّار، وَالْمِائَةُ مِنْهُمْ الأَلْفَ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا أمَرَ اللهُ، فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِقتالِ الْكُفَّارِ ببَدْرٍ وَكَانَ فَرَضَ الْقِتَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذكَرَ اللهُ فِي هَذِه الآيَةِ، شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ ؛ أي الآنَ هَوَّنَ اللهُ عليكم القتالَ الذي فرضَهُ عليكم وسهَّلَ الأمرَ عليكُمْ لتَعرِفُوا فتَشكُروا، وعَلِمَ فِي الأزلِ أن في الواحدِ منكم ضَعْفاً عن قتالِ العشرةِ، والمائةِ عن قتالِ الألفِ). وَقِيْلَ : عَلِمَ أنَّ فيكم ضَعْفاً في النُّصرة في أمرِ الدِّين.
قرأ عاصمُ وحمزة وخلَف (ضَعْفاً) بفتح الضاد، وقرأ الباقون بضَمِّها أي عَجْزاً عما فرضَ عليكم، ومَن قرأ (ضَعفاً) فمعناه شيوخاً وضعافاً، وقرأ أبو جعفر (ضُعَفَاءَ) بضمِّّ الضادِ وفتح العين والمدِّ وهمزة من غيرِ تنوينٍ على جمعِ ضَعيف مثل شُرَكاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ ؛ أمرَ اللهُ بأنَّ الواحدَ يثبتُ للاثنين وضَمِنَ له النصرَ عليهما. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بأمرِ اللهِ، ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ؛ أي مُعِينٌ لَهم، قال ابنُ عبَّاس :(مَنْ فَرَّ مِنْ رَجُلَينِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ لَمْ يَفِرَّ). وهذا إذا كان للواحدِ المسلمِ من السِّلاح والقوَّة مثلَ ما لكلِّ واحدٍ من رجُلين من الكافرين كان فَارّاً، فأما إذا لم يكن، لم يَثبُتْ حُكم الفرارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ﴾ ؛ خطابٌ للذين أسرَعُوا في أخذِ الغنائِمِ وشَغَلُوا أنفُسَهم بذلك عن القتالِ، وذلك أنَّهم لَمَّا كان يومُ بدرٍ تعجَّلَ ناسٌ من المسلمين فأصَابُوا من الغنائمِ، ومعناه : تريدون بالقتالِ المالَ، وسَمَّاهُ عَرَضاً لقِلَّةِ لُبْثِهِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾ ؛ أي يريدُ منكم العملَ بما تستحقُّون به ثوابَ الآخرِةِ، ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ ؛ أي مَنِيعٌ في سُلطَانهِ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ في أمْرِهِ وقضائِه، فاعمَلُوا ما أمَرَكم به.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ في هذه الآيةِ :(وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا قَـتَلَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ سَبْعِينَ وَأسَرُواْ سَبْعِينَ، اسْتِشَارَ النَّبِيُّ ﷺ أصْحَابَهُ فِي أمْرِ الأُسَارَى، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ قَوْمُكَ، فَإنْ تَقْتُلْهُمْ يَدْخُلُوا النَّارَ، وَلَكِنْ فَادِهِمْ فَيَكُونَ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُمْ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ اللهَ يَُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أعْلَمُ قَوْماً كَانُوا أشَرَّ لِنَبيِّهِمْ مِنْهُمْ فَاقْتُلْهُمْ.
فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ ﷺ وسلم برَأي أبي بَكْرٍ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلاً فَقالَ :" مَثَلُ أبي بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام حَيْثُ قَالَ :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [إبراهيم : ٣٦]، وَمَثَلُ عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ عليه السلام حَيْثُ قَالَ :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ [نوح : ٢٦] " ثمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْفِدَاءَ عَلَى الأَسَارَى ".
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ... ﴾[الأنفال : ٦٧] إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ، " قَالَ عُمَرُ : فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ : مَا يُبْكِيكُمَا؟! حَتَّى الأَرْضُ إن وَجَدَتْ بُكَاءً لِبُكَائِكُمَا بَكَتْ مَعَكُمَا، فَقَالَ ﷺ :" إنَّمَا أبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أصْحَابُكَ مِنْ أخْذِ الْفِدَاءِ "، ثُمَّ قَرَأَ عليه السلام ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ [الأنفال : ٦٧] ".
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ :" لَمَّا جِيءَ بالأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ ﷺ :" مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاَءِ ؟ " فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : قَوْمُكَ وَأهْلُكَ اسْتَبقْهُمْ لَعَلَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَذبُوكَ وَأخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمْ، وَمَكِّنْ عَلِيّاً مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبْ عُنُقَهُ، وَمَكِّنِّي مِنْ فُلاَنٍ - بسَبَبٍ لَهُ - فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فإنَّ هَؤُلاَءِ أَئِمَةُ الْكُفْرِ. فَسَكَتَ النَّبيُّ ﷺ، فَقَالَ أُنَاسٌ : نَأْخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ، وَقَالُ نَاسٌ : نَأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ، فَقَالَ ﷺ :" إنَّ اللهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رجَالٍ حَتَّى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإنَّ اللهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رجَالٍ حتَّى تَكُونَ أشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة : ١١٨]، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى قَالَ :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [يونس : ٨٨]، ثُمَّ قالَ ﷺ لِلأُسَارَى :" أنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةً فَلاَ يَنْقَلِبَنَّ أحَدٌ إلاَّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْب عُنُقٍ " ثمَّ قَالَ ﷺ ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ [الأنفال : ٦٧] ".
وقولهُ تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ ؛ أي اخْشَوْهُ ولا تفعَلُوا شيئاً لَمْ تُؤمَرُوا به ولم يرَخَّصْ لكم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لَمَا فرَّطَ منكم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بكم إذا لم يعذِّبكم فيما فعلتُم قبل الرُّخصةِ.
فَقَالَ ﷺ : وَأيْنَ الذهَبُ الَّذِي أعْطَيْتَهُ أمَّ الْفَضْلِ عِنْدَ مَخْرَجِكَ ؟ فَقُلْتَ : إنْ حَدَثَ بي حَدَثٌ فِي وَجْهِي هَذا فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِاللهِ وَقُُثَمِ وَلِلْفَضْلِ " قَالَ : وَمَا يُدْريكَ؟! قَالَ :" أخْبَرَنِي اللهُ بذلِكَ " فَقَالَ : أشْهَدُ أنَّكَ صَادِقٌ وَإنِّي لَمْ أعْلَمْ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَطُّ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإنِّي دَفَعْتُ إلَيْهَا الذهَبَ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ إلاَّ اللهُ، وَأَنَا أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَأَسْلَمَ وَأَمَرَ ابْنَ أخِيهِ أنْ يُسْلِمَ "، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعنَاها : يَا أيُّها النبيُّ قُلْ للعبَّاس وعقيل وغيرِهم من الأُسَارَى : إنْ يعلَمِ اللهُ في قلُوبكم رغبةً في الإيمان وإخْلاَصاً في النيَّة، يُؤتِكُمْ خيراً مما أخذ منكم من الفديةِ. يجوزُ أن يكون المعنى : يَخْلِفُ عليكم في الدُّنيا، ويجوز أن يكون : ويُجازيكُم في الآخرةِ.
وكان العباسُ أحدَ الثلاثة عشر الذين ضَمِنُوا طعامَ أهلِ بدر، فخرجَ معهم بعشرين أوقِيَّةً من ذهبٍ ليُطعِمَ بها الناسَ، ولم تبلُغْهُ نوبةُ الإطعامِ حتى أُسِرَ وأُخِذ وهي معه فأخذُوهَا منه، " فلما وضعَ النبيُّ ﷺ على العبَّاسِ الفداءَ مِائَةَ أوقِيَّةِ قَالَ :(يَا مُحَمَّدُ احْتَسِبْ لِيَ بالْعِشْرِينَ أوْقِيَّةً مِنْ فِدَائِي). فأَبَى وَقَالَ :" أمَّا شَيْءٌ خَرَجْتَ تَسْتَعِينُ بهِ عَلَيْنَا فَلاَ أتْرُكُهُ لَكَ ".
فَلَمَّا أسْلَمَ العباسُ كان إذا قرأ هذه الآية قال :(صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَدْ أعْطَانِي خَيْراً مِمَّا أخَذ مِنِّي، أبْدَلَنِي مَكَانَ الْعِشْرِينَ أوْقِيَّةً الَّتِي أُخِذتْ مِنِّي عِشْرِينَ مَمْلُوكاً، كُلُّ مَمُْوكٍ يَضْرِبُ بعِشْرِينَ ألْفاً فِي التِّجَارَةِ، وَأعْطَأنِي زَمْزَمَ مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بهَا جَمِيعَ أمْوَالِ أهْلِ مَكَّةَ، أنْجَزَ لِي أحَدَ الْوَعْدَينِ، وَأنَا أرْجُو أنْ يُنْجِزَ لِيَ الْوَعْدَ الثَّانِي، أنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبي).
وعن العلاءِ بن الحضرميِّ رضي الله عنه أنَّهُ بَعَثَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانِينَ ألْفاً، فَقَالَ الْعَبَّاسُ :(أعْطِنِي مِنْ هَذا الْمَالِ) فأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا أطَاقَ حَمْلَهُ، فَجَعَلَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ :(أمَّا إحْدَى اللَّتَيْنِ وُعَدَنَا اللهُ فَقَدْ أنْجَزَهَا، فَلاَ نَدْري مَا يَصْنَعُ بالأخْرَى). يعني ﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾.
ثُمَّ ذكرَ اللهُ الأنصارَ فقال :﴿ وَالَّذِينَ آوَواْ ﴾ ؛ النبيَّ والمهاجرين معَهُ أعطَوهُم المأوَى وأنزَلُوهم ديارَهم، ﴿ وَّنَصَرُواْ ﴾ ؛ أي أعَانُوهم بالسَّيْفِ على الكفَّارِ، ﴿ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ ؛ أي أنصارُ بعضٍ في الدِّين والمواريثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ﴾ ؛ أي والذين صدَّقُوا من أهلِ مكَّة في ديارِهم ولَم يُهاجِرُوا إلى المدينةِ، ﴿ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ ؛ أي ليس بينَكُم وبينهم ميراثٌ، ﴿ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ﴾ ؛ وإطلاقُ لفظ الموالاةِ يقتضي التوارثَ في الجملةِ، وإن كان بعضُ أسباب الموالاة أوكدَ من بعضٍ.
قال ابنُ عبَّاس : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَامَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامِ وَأُنَّاسٌ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ لاَ يَرِثُنَا إخْوَانُنَا وَهُمْ عَلَى دِينِنَا مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا ؟ فَهَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أمْرٍ إن اسْتَعَانُونَا علَيْه ؟ فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ﴾.
معناهُ : وإن قاتَلَهم الكفارُ ليَردُّوهُم عنِ الإِسلامِ فانصرُوهم، ﴿ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ ﴾ ؛ إلاَّ أن يقاتِلُوا قوماً، ﴿ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾ ؛ فاستنصرُوكم عليهم فلَم تقاتِلُوهم معهم، بل عليهم أن يكُفُّوا عن طلب النُّصرة منكم لهم عليهم ؛ لأنه أمانٌ، وأمانُ واحدٍ من المسلمين يلزمُ كافَّتهم، فيجبُ الإصلاحُ بينهم على غيرِ وجه القتال. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، أي بصيرٌ بأعمالِكم، يجازِيكم عليها.
قال ابنُ عبَّاس : فَمَكَثُواْ عَلَى هَذا مَا شَاءَ اللهُ إنْ يَمْكُثُواْ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ ؛ أيْ أنْصَارُ بَعْضٍ فِي الدِّينِ، وَبَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ. يعني أنَّ الكافرَ لا يرثُ المؤمنَ الذي لم يهاجِرْ، بلِ الكافرُ يرثُ من الكافرِ، والمؤمنُ يرِثُ المؤمنِ، فصارت هذه الآيةُ ناسخةً للتي قبلَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ أي إلاَّ تفعلُوا ما أمَرتُكم به ولم تُورِثُّوا الأعرابيَّ الذي لَمْ يهاجِرْ من المهاجرِ، ولم تجعلُوا وولايةَ الكافرِ للكافر وولايةَ المؤمن للمؤمنِ، ﴿ تَكُنْ فِتْنَةٌ ﴾ أي بالْمَيْلِ إلى الضَّلالةِ وفسادٍ في الدِّين، فإن الكفارَ بعضُهم أولياء بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ ؛ أي أن الأقاربَ بعضُهم أولَى ببعضٍ في الميراثِ من غيرِهم، هاجَرُوا أو لم يُهاجِرُوا إذا كانوا مُسلِمِينَ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ ؛ يجوزُ أنْ يكون المرادُ بالكتاب القُرْآن، ويجوز أن يكون معناهُ في اللوحِ المحفوظ، ويجوز أن يرادَ بالكتاب الْحُكْم، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ ﴾[المجادلة : ٢١] أي حَكَمَ اللهُ، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي عليمٌ بكلِّ ما فَرَضَ من المواريثِ وغيرِ ذلك.
قال قتادةُ :(وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَكَانُواْ يَتَوَارَثُونِ بالإسْلاَمِ وَالهْجْرَةِ، وَكَأنَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُهَاجِرُ، وَكَانَ لاَ يَرِثُ أخَاهُ)، فَنَسَخَ اللهُ ذلِكَ بقَوْلِهِ :﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ وَصَارَتِ الْوِرَاثَةُ بالْقَرَابَةِ كَمَا ذكَر َاللهُ فِي سُورَةِ النِّساءِ، وَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةُ ".
وعن أبَيِّ بن كعبٍ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ فأَنَا لَهُ شَفِيعٌ وَشَهِيدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ النِّفَاقِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، وَرُفِعَ لَهُ بهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ ".