بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة البروج وهي مكيةﰡ
قَالَ عِكْرِمَة: ذَات الْقُصُور.
وَيُقَال: ذَات الْخلق الْحسن، وَيُقَال: ذَات الْمنَازل، وَهِي منَازِل الْقَمَر، وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا ذَكرنَاهَا من قبل.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْأَثر أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك، عَن [أبي] إِسْحَاق.
الْأَثر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الشَّاهِد يَوْم النَّحْر، والمشهود يَوْم عَرَفَة، قَالَه إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الشَّاهِد هُوَ الْمَلَائِكَة، والمشهود هُوَ الْإِنْسَان، قَالَه السّديّ، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ مُحَمَّد، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن بن عَليّ، وَابْن عمر، وَابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْقَوْل الْخَامِس: الشَّاهِد هُوَ الله،
قَالَ عَليّ: فِي قوم من الْحَبَشَة، وَعَن مُجَاهِد: فِي قوم من نَجْرَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: فِي قوم من الْيمن، وَعَن بَعضهم قوم بالروم، وَقيل غير ذَلِك.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ بِنَجْرَان قوم على شَرِيعَة عِيسَى بن مَرْيَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يدينون بِالتَّوْحِيدِ، فَجَاءَهُمْ ذُو نواس وأحضرهم - وَهُوَ ملك من مُلُوك الْيمن - وَخَيرهمْ بَين الْيَهُودِيَّة والإحراق بالنَّار، فَاخْتَارُوا الإحراق بالنَّار، فَخدَّ لَهُم أُخْدُودًا، وأضرم فِيهَا النَّار، وَأمرهمْ بالتهود أَو يلْقوا أنفسهم فِيهَا، فَألْقوا أنفسهم فِيهَا حَتَّى احترقوا.
وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ فِي آخِرهم امْرَأَة وَمَعَهَا صبي رَضِيع، فَلَمَّا بلغت النَّار توقفت فَتكلم الصَّبِي وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، سيري وَلَا تُنَافِقِي، فَإِنَّمَا هِيَ غُمَيْضَة.
وَقد ذكر مُسلم فِي الصَّحِيح فِي هَذَا قصَّة طَوِيلَة، وَكَذَلِكَ أَبُو عِيسَى على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، وذكرا فِيهِ حَدِيث الْملك والراهب والساحر، وَهُوَ مَا روى عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب قَالَ: " كَانَ رَسُول الله إِذا صلى الْعَصْر هَمس، والهمس فِي بعض قَوْلهم تحرّك شَفَتَيْه كَأَنَّهُ يتَكَلَّم، فَقيل لَهُ: إِنَّك يَا رَسُول الله إِذا صليت الْعَصْر همست قَالَ: إِن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ أعجب بأمته، من يقوم لهَؤُلَاء؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن خَيرهمْ بَين أَن أنتقم مِنْهُم وَبَين أَن أسلط
قَالَ: فنظروا لَهُ على مَا وصف، وأمروه أَن يحضر ذَلِك الكاهن وَأَن يخْتَلف إِلَيْهِ.
قَالَ: فَجعل يخْتَلف إِلَيْهِ، وَكَانَ على طَرِيق الْغُلَام رَاهِب فِي صومعة - قَالَ معمر: أَحسب أَن أَصْحَاب الصوامع كَانُوا يَوْمئِذٍ مُسلمين - قَالَ: فَجعل الْغُلَام يسْأَل ذَلِك الراهب كلما مر بِهِ، فَلم يزل بِهِ حَتَّى أخبرهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أعبد الله. قَالَ: فَجعل الْغُلَام يمْكث عِنْد الراهب، ويبطئ عَن الكاهن، فَأرْسل الكاهن إِلَى أهل الْغُلَام إِنَّه لَا يكَاد يحضرني، فَأخْبر الْغُلَام الراهب بذلك، فَقَالَ لَهُ الراهب: إِذا قَالَ لَك الكاهن: أَيْن كنت؟ فَقل: عِنْد أَهلِي، فَإِذا قَالَ لَك أهلك: أَيْن كنت؟ (فَأخْبرهُم أَنَّك) كنت عِنْد الكاهن.
قَالَ فَبَيْنَمَا الْغُلَام على ذَلِك إِذْ مر بِجَمَاعَة من النَّاس كثير قد حبستهم دَابَّة - وَقَالَ بَعضهم: إِن الدَّابَّة كَانَت أسدا - قَالَ: فَأخذ الْغُلَام صخرا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ مَا يَقُول الراهب حَقًا فأسألك أَن أَقتلهُ، ثمَّ رمى فَقتل الدَّابَّة.
فَقَالَ النَّاس: من قَتلهَا؟ فَقَالُوا: الْغُلَام، فَفَزعَ النَّاس وَقَالُوا: قد علم هَذَا الْغُلَام علما لم يُعلمهُ أحد.
قَالَ: فَسمع بِهِ أعمى، وَقَالَ لَهُ: إِن أَنْت رددت بَصرِي فلك كَذَا كَذَا.
فَقَالَ لَهُ: لَا أُرِيد مِنْك هَذَا، وَلَكِن إِن أَنْت شرطت إِن رَجَعَ إِلَيْك بَصرك أَن تؤمن بِالَّذِي رده عَلَيْك فعلت؟ قَالَ: فَدَعَا الله فَرد عَلَيْهِ بَصَره، فَآمن الْأَعْمَى، فَبلغ الْملك أَمرهم، فَبعث إِلَيْهِم، فَأتي بهم فَقَالَ: لأقتلن كل وَاحِد مِنْكُم قتلة لَا أقتل [بهَا] صَاحبه، فَأمر بِالرَّاهِبِ وَالرجل الَّذِي كَانَ أعمى فَوضع الْمِنْشَار على مفرق أَحدهمَا فَقتله، وَقتل الآخر بقتلة أُخْرَى، ثمَّ أَمر بالغلام فَقَالَ: انْطَلقُوا بِهِ إِلَى جبل كَذَا وَكَذَا فألقوه من رَأسه، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى ذَلِك الْمَكَان الَّذِي أَرَادوا أَن يلقوه مِنْهُ جعلُوا يتهافتون من ذَلِك الْجَبَل ويتردون، حَتَّى لم يبْق مِنْهُم إِلَّا
قَالَ: ثمَّ رَجَعَ، فَأمر بِهِ الْملك أَن ينطلقوا بِهِ إِلَى الْبَحْر فَيُلْقُوهُ فِيهِ، فَانْطَلقُوا إِلَى الْبَحْر، فغرق الله الَّذين كَانُوا مَعَه وأنجاه، فَقَالَ الْغُلَام: إِنَّك لَا تقتلني حَتَّى تصلبني وترميني، وَتقول إِذا رميتني: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام.
قَالَ: فَأمر بِهِ فصلب ثمَّ رَمَاه، وَقَالَ: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام.
قَالَ: فَوضع الْغُلَام يَده على صُدْغه حِين رمى بِهِ ثمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّاس: لقد علم هَذَا الْغُلَام علما مَا علمه أحد، فَإنَّا نؤمن بِرَبّ الْغُلَام.
قَالَ: فَقيل للْملك: [أجزعت] إِن خالفك ثَلَاثَة، فَهَذَا الْعَالم كلهم قد خالفوك.
قَالَ: فَخدَّ أُخْدُودًا، ثمَّ ألْقى فِيهَا الْحَطب وَالنَّار، ثمَّ جمع النَّاس.
فَقَالَ: من رَجَعَ عَن دينه تَرَكْنَاهُ، وَمن لم يرجع ألقيناه فِي هَذِه النَّار، فَجعل يُلقيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُود.
قَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: ﴿قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود﴾ حَتَّى بلغ ﴿ذُو الْعَرْش الْمجِيد﴾ قَالَ: فَأَما الْغُلَام فَإِنَّهُ دفن.
قَالَ: فَذكر أَنه أخرج فِي زمن عمر بن الْخطاب، وأصبعه على صُدْغه كَمَا وَضعهَا حِين قتل ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث حسن غَرِيب (صَحِيح).
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس [المحبوبي]، أخبرنَا عبد الرَّزَّاق، عَن معمر... الْخَبَر.
وَذكر مُسلم هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، وَخَالف فِي مَوَاضِع أخر مِنْهُ.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن اسْم ذَلِك الْغُلَام كَانَ عبد الله بن التامر.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حفر فِي زمن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حفيرة، فوجدوا عبد الله بن التامر، وَيَده على صُدْغه فَكَانَ كلما أخروا يَده عَن ذَلِك الْموضع (انثعب) دَمًا، وَإِذا تركُوا
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي كَانَ إِذا ذكر هَذِه الْقِصَّة قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من جهد الْبلَاء ".
وَقد ذكر بعض أهل الْمعَانِي أَن قَوْله: ﴿قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود﴾ هُوَ جَوَاب الْقسم.
وَعَن غَيره: وَمَا عابوا.
وَذكر الزّجاج: مَا أَنْكَرُوا.
قَالَ عبد الله بن قيس (بن) الرقيات:
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا | أَنهم يحملون إِن غضبوا) |
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك | فَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب) |
وَقَوله: ﴿الْعَزِيز الحميد﴾ أَي: الْغَالِب بقدرته، الحميد فِي أَفعاله.
قَالَ الزّجاج: وَالْمرَاد من الْآيَة أَن الله تَعَالَى ذكر قوما بلغت بصيرتهم فِي الدّين أَن خيروا بَين الْكفْر وَبَين الإحراق بالنَّار، فصبروا حَتَّى أحرقوا بالنَّار.
وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " لَا تشرك بِاللَّه وَإِن قتلت وأحرقت ".
وَعَن الرّبيع بن أنس: أَن النَّار الَّتِي أحرقوا الْمُؤمنِينَ فِيهَا ارْتَفَعت من الْأُخْدُود، فأحرقت الْملك وَأَصْحَابه، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق﴾.
وَذكر الْأَزْهَرِي: أَنه يجوز أَن يكون الْوَدُود، بِمَعْنى المودود كالحلوب وَالرُّكُوب بِمَعْنى المحلوب والمركوب، فعلى هَذَا فِي قَوْله: ﴿الْوَدُود﴾ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمُحب لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ.
وَالْآخر: الَّذِي يُحِبهُ الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْعرش هُوَ السرير فِي اللُّغَة، وَأما فِي الْقُرْآن هُوَ الْعَرْش الْمَعْرُوف فَوق السَّمَوَات.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه لَا يقدر قدره.
وَعَن بَعضهم: ذُو الْعَرْش ذُو الْملك، يُقَال: كل عرش فلَان أَي: ملك فلَان، وَيُقَال: تبوأ فلَان على سَرِير ملكه أَي: اسْتَقر ملكه، وَإِن لم يكن ثمَّ سَرِير فِي ذَلِك الْوَقْت، حَكَاهُ الْقفال، وَالْقَوْل الصَّحِيح الأول.
وَأما قِرَاءَة الرّفْع فَهُوَ صفة الله تَعَالَى، وَذَلِكَ بِمَعْنى الْعُلُوّ وَالْعَظَمَة، وَأما قِرَاءَة الْخَفْض فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه صفة الْعَرْش، وَمعنى الْمجِيد فِيهِ العالي الرفيع، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صفة الله تَعَالَى إِلَّا أَنه خفض بالجوار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿إِن بَطش رَبك﴾ كَأَنَّهُ قَالَ: إِن بَطش رَبك الْمجِيد لشديد، أوردهُ النّحاس.
وَعَن بَعضهم: أَن جَوَاب الْقسم قَوْله: ﴿إِن بَطش رَبك لشديد﴾ وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين.
وَفِي بعض الْآثَار أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مرض فَدخل الْقَوْم يعودونه فَقَالُوا لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيبا؟ فَقَالَ: قد دَعوته.
فَقَالُوا: فَمَاذَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو بكر: فَقَالَ أَنا فَاعل لما أُرِيد.
وَذكر النقاش أَن فِرْعَوْن لما أتبع بني إِسْرَائِيل كَانُوا خَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة ألف.
وَقَرَأَ مُحَمَّد اليمامي: " بل هُوَ قُرْآن مجيد " على الْإِضَافَة معنى قُرْآن رب مجيد.
وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن اللَّوْح الْمَحْفُوظ من درة بَيْضَاء دفتاه ياقوت أَحْمَر كِتَابَته نور وقلمه نور ينظر الله فِيهِ كل يَوْم ثلثمِائة وَسِتِّينَ نظرة يُمِيت ويحيي، ويعز ويذل، ويفقر ويغني، وَيفْعل مَا يَشَاء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه مَكْتُوب فِي صَدره لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله.
وَذكر الْحِفْظ هَاهُنَا ليبين أَن مَا يُوحى إِلَيْهِ من الْقُرْآن هُوَ مَحْفُوظ من السَّهْو والغلط، وَأَن مَا يَقُوله النَّبِي يَقُوله عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَعَن فرقد السبخي: أَن قَوْله: ﴿فِي لوح مَحْفُوظ﴾ هُوَ قلب الْمُؤمن، وَهُوَ قَول ضَعِيف، وَالله أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿وَالسَّمَاء والطارق (١) وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق (٢) النَّجْم الثاقب (٣) ﴾.تَفْسِير سُورَة الطارق
وَهِي مَكِّيَّة