ﰡ
مدنية، ست آيات، عشرون كلمة، تسعة وتسعون حرفا
قُلْ يا أشرف المرسلين أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) أي ألتجئ بمصلح الناس والقائم بتدبيره، وذكر الله أنه رب الناس على التخصيص مع أنه رب جميع المحدثات، لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم، وهو معبودهم.
وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، مَلِكِ النَّاسِ (٢) عطف بيان، جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي لا بطريق تربية سائر الملاك لمماليكهم، ولا يجوز هاهنا «مالك الناس» بإثبات الألف بخلاف مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ في سورة الفاتحة [الآية: ٤] والفرق أن قوله: بِرَبِّ النَّاسِ أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقبه هذا الملك ليفيد أنه تعالى مالك وملك معا، فإن قيل: أليس قال تعالى في سورة الفاتحة: رَبِّ الْعالَمِينَ [الآية: ٢] ثم قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الآية: ٤] فيلزم وقوع التكرار هناك قلنا: اللفظ دل على أنه رب العالمين، وهي الأشياء الموجودة في الحال، وعلى أنه مالك ليوم الدين، فهناك «الرب» مضاف إلى شيء موجود الآن، و «المالك» مضاف إلى شيء يوجد في الآخرة، فلم يلزم التكرير، فظهر الفرق، وأيضا فإن جواز القراءات يتبع النزول لا القياس، إِلهِ النَّاسِ (٣) عطف بيان جيء به لبيان أن ملكه تعالى بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة، وإيجادا وإعداما، فوصف الله أولا بأنه رب الناس، ثم الرب قد يكون ملكا وقد لا، فبين بقوله ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلها وقد لا، فبين بقوله إِلهِ النَّاسِ لأن الإله خاص بالله تعالى لا يشركه فيه غيره، وأيضا إن أول ما يعرف العبد من معبوده كونه معطيا لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة، وهذا هو الرب، ثم ينتقل من معرفة هذه الصفة إلى معرفة استغنائه عن الخلق، فيحصل العلم بكونه ملكا، لأنه هو الذي يفتقر إليه غيره ويستغني عن غيره، ثم عرف العبد أنه هو الذي ولهت
وهي الغاسق، والنفاثات، والحاسد. أما في هذه السورة المستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة: وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى: سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية: سلامة الدين.
وهذا تنبيه على أن مضمرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا، وإن عظمت، والله أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد انتهى ما منّ الله به علينا من المعاني الميسّرة والألفاظ المسهّلة في خامس ربيع الآخر ليلة الأربعاء عام سنة ١٣٠٥ ألف وثلاثمائة وخمسة على يد الفقير إلى الله تعالى محمد نووي غفر الله له ولوالديه، ولمشايخه، ولإخوانه المسلمين، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين آمين