ﰡ
[الجزء الأول]
الجزء الأول من القسم المكي من تفسير القرآن العظيم المسمى بيان المعاني على مسب ترتيب النزول تأليف السيد عبد القادر ملّا حويش آل غازي العاني ١٣٨٢ هـ- ١٩٦٢ م مطبعة الترقي[خطبة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي» أحمدك يا رب العالمين على ما أوليتني من النعم، وأشكرك يا أكرم الأكرمين على ما وفقتني لسلوك طريقك الأقوم، وأسألك يا مجيب السائلين إفاضة برّك وإحسانك، واستجديك إسبال سترك وعظيم امتنانك، وأرجو منك المعونة على ما قدمت عليه من التفسير، واللطف والعناية والتسهيل والتيسير، وأصلي وأسلم على مفتاح غيبك المكنون، وباب فتحك لأهل معرفتك المأمون، وعلى آله الذين آلوا بخير الأعمال، وأصحابه القائمين بما كان عليه من أفعال وأقوال، وأتباعه الذين صانوا دينه وشرعه المتين، فدام الاقتداء بهم وسيدوم إن شاء الله إلى يوم الدين.أما بعد فإن القرآن العظيم جمع ورتبت سوره وآياته في المصاحف التي بأيدينا طبق مراد الله تعالى بأمر من رسوله الأعظم، ودلالة من الأمين جبريل المكرم، وحينما تشاور الأصحاب رضي الله عنهم على نسخه على الوجه المذكور أراد الإمام علي كرم الله وجهه ترتيب آيه وسوره بحسب النزول، لا لأنه لم ير صحة ما أجمعوا عليه، ولا لأنه حاشاه لم يعلم أن ذلك توقيفي لا محل للاجتهاد فيه، بل أراد أن تعلم العامة تاريخ نزوله ومكانه وزمانه، وكيفية إنزاله، وأسباب تنزيله، ووقائعه وحوادثه، ومقدمه ومؤخره، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وما يسمى بناسخه ومنسوخه، بادىء الرأي، دون تكلف لمراجعة أو سؤال، ولمقاصد أخرى ستظهر
والله أسأل وبأنبيائه أتوسل أن ينفع به عباده، ويديم به الإفادة، ويوفقني لإكماله على الوجه الذي يرضيه راجيا ممن وقف على زلة أو عثرة أن يصلحها بكرمه، إذ ما منا إلا من ردّ وردّ عليه عدا من عصمه الله (على أنه إذا كان له رأي يخالف ما فيه أن يبينه على الهامش)، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ويثيبني عليه رضاءه ورؤيته في دار النعيم، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال الإمام أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله في مقدمة نهايته المشهورة:
(كل مبتدىء شيئا لم يسبق إليه، ومبتدع أمرا لم يقدّم فيه عليه فإنه يكون قليلا ثم يكثر، وصغيرا ثم يكبر. وعسى أن يصدق قوله في كتابي هذا. والله الموفق.
وقد شرعت فيه صباح يوم الأربعاء أول شهر رجب الحرام سنة ألف وثلاثمائة وخمس وخمسين من هجرة سيد الأولين والآخرين، (والموافق ١٧ أيلول سنة ١٩٣٦) وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم ومن تبعهم إلى يوم الدين.
[المقدمة]
المطلب الاوّل في بيان مبادئ في التفسيراعلم وفقك الله، لما كان من الواجب صناعة على كل شارع في فن أن يبين مبادئه العشرة ليكون القارئ على بصيرة منه وهي المذكورة في قول الناظم رحمه الله:
إن مبادي كل فن عشرة | الحد والموضوع ثم الثمرة |
وغاية ونسبة والواضع | والاسم الاستمداد حكم الشارع |
مسائل والبعض بالبعض اكتفى | ومن درى الجميع حاز الشرفا |
٢- وموضوعه آيات القرآن من حيث فهم معانيها والوقوف على ما تشير إليه.
٣- وثمرته معرفة ما في كتاب الله على الوجه الأكمل.
٤- وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى سعادة الدارين.
٥- ونسبته لبقية العلوم يكون هو أفضلها لأن شرف العلم يشرف موضوعه وناهيك بعلم موضوعه كلام الله إذ هو أصل العلوم ومعدنها.
٦- وواضعه الراسخون في العلم من عهد المنزل عليه إلى يومنا هذا فما بعد.
٧- واسمه علم التفسير أي الكشف عن غطاء معانيه والوقوف على ما ترمي إليه مبانيه.
٨- واستمداده من آي الكتاب الجليل، لأنه يفسر بعضه بعضا ومن السنة السنية لأنها شرح له ومن كلام الفصحاء ما يكون بيانا له.
٩- وحكمه الوجوب الكفائي على كل أهل بلدة.
١٠- ومسائله قضاياه من حيث الأمر والنهي والمواعظ والأخبار، وجاء في بعض النسخ بدل وغايته وفضله، وعلى ذلك فإن علم التفسير أفضل العلوم على الإطلاق لكونه متعلقا بكلام الله الذي لا أفضل منه البتة كيف لا وهو رب العالمين أجمعين.
اعلم رعاك الله إن المفسر يحتاج إلى معرفة اثنى عشر علما على الأقل ليتسنى له القيام على أحسن وجه فيما يفسره من كتاب الله تعالى: (١) علم اللغة لمعرفة معلومات الألفاظ بحسب الوضع ومعرفة الألفاظ المشتركة كالعين وشبهها، فإن لم يكن له إلمام بها فلا يجوز له الشروع فيه. روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر، فقال: ما يعجبني إلا أن يكون واقفا عليه. وقال مجاهد: لا يحل التفسير لمن لم يكن عالما بلغات العرب. وقال مالك ينكّل أي من أقدم على تفسيره دون إلمام له بذلك. (٢ و ٣) علم النحو والتصريف لمعرفة أحكام الكلمات العربية من حيث الاشتقاق والإفراد والتركيب والإعراب والبناء، أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمّها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها. وفي قصة أبي الأسود الدؤلي والأعرابي الآتي ذكره في أول سورة التوبة الآتية في ج ٣ بالقسم المدني ما يغني عن البيان (٤) علم المنطق لما فيه من معرفة وجه الجدل والقضايا الموجبة والسالبة وغيرهما. قال الغزالي رحمه الله:
من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه. (٥) علم المعاني بفرعية البيان والبديع لمعرفة خواص تركيب الكلام من جهة إفادة المعنى ومعرفة خواصها ومن حيث اختلافاتها ومعرفة وجوه تحسين الكلام وهو الركن الأقوم لهذا الفن. (٦) علم الحديث لمعرفة المبهم وتبيين المجمل وسبب النزول والتقييد للمطلق والتخصيص للعام المعبر عنه غالبا بالنسخ. (٧) علم أصول الفقه لمعرفة الإجمال والنبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأوامر والنواهي وما يشبهها ويتفرع عنها. (٨) علم الكلام لمعرفة ما يجوز على الله وما يستحيل وما يجب، والنظر في النبوات لئلا يقع المفسر في أخطاء وورطات قد يهلك فيها. (٩) علم القراءات لمعرفة كيفية النطق بالقرآن وترجيح بعض الوجوه المحتملة للمعاني الأكثر رجحانا بالنسبة للقارئين بها على البعض الأقل والأضعف. (١٠) علم الفقه لمعرفة الأحكام الشرعية العملية فيه وبيانها في
(١١) علم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن يشاء من عباده العالمين العاملين المتقين فيلهمهم المعرفة بأسرار كتابه، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) وهذا كالأساس لهذا العلم ليطلع على معانيه بما يفيضه الله على قلبه وركن هذا العلم العكوف على التقوى، وملاكه العمل مع الورع قال تعالى:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» الآية ٢٨٣ من البقرة في ج ٣. (١٢) علم الاعتماد على الرأي فيما لا يهتدى إليه من كتاب أو سنة أو قول معتمد عليه، وهنا يجب السكوت لئلا يهلك لأن الأمر عظيم ليس للرأي فيه مدخل بل لا بد من الاعتماد على شيء معتبر.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي ذر قال: قال صلّى الله عليه وآله وسلم من قال بالقرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار [أي من قال في مشكل القرآن ومتشابهه بما لا يعلم، أو من قال قولا يعلم أن الحق غيره فقد تعرض لسخط الله الذي عاقبته النار والعياذ بالله].
وفي رواية من تكلم بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أي أخطأ طريق الحق إذ عليه أن يرجع إلى اللغة عند عدم الاهتداء إلى تفسير اللفظ، وإلى الأخبار عند عدم اهتدائه إلى الناسخ والمنسوخ بالمعنى المراد فيهما، وإلى صاحب الشرع عند عدم اهتدائه لبيان المعنى المراد منه، فإن لم يحصل له الاهتداء على ما غمض عليه في هذه الطرق فلا بأس بمراجعة فكرته وقدح رويّته ليستدل بما ورد على ما لم يرد، قال تعالى:
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» الآية ٢٤ في سورة محمد عليه السلام ومثلها الآية ٨٢ التي يليها قوله جل قوله «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» الآية في سورة النساء في ج ٣، وقال عز قوله «لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» الآية ٢٩ في سورة ص الآتية. لأن التفسير على صنفين نقلي ومستنده الآيات والأحاديث والآثار وسماعي، ومستنده اللغة والإعراب والبلاغة، هذا وقد أخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس: القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه.
وروي عن علي عليه السلام أنه سئل هل خصكم رسول الله بشيء؟ قال: ما عندي غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه، راجع تفسير الآية الثانية في سورة الحشر في ج ٣ تجد حديث معاذ رضي الله عنه وما به كفاية في هذا البحث.
اعلم هداك الله. أن القرآن العظيم، نزل بلسان عربي مبين، على قوم هم أفصح الناس، الا انه لشدة فصاحته وغور معانيه، وبعد مراميه، لم يدركوا مراد الله في بعض مغازيه، فأحتاج الأصحاب وهم خلاصة ذلك العصر، الى أن يسألوا حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم عن معاني بعض آياته في زمنه، واحتاجوا لأن يسأل بعضهم بعضا عن بيان بيناته بعد وفاته، فمن باب أولى يلزم من بعدهم فهم تلك المعاني الغامضة منه، والوقوف على أحكامه، ومعرفة المراد منها، لأنه مدار السعادة الأبدية، والتمسك بالعروة الوثقى، والوصول الى الصراط المستقيم، وباب رضى رب العالمين، لأن الغرض فيه أمر عسير، لا يهتدى إليه الا بتوفيقات ربانية، وهبات رحمانية من اللطيف الخبير، وإذا كان الأصحاب رضوان الله عليهم على علو رتبتهم في مقامات الكمال، وارتفاع درجاتهم في الفصاحة واستنارة قلوبهم بإشراق مشكاة النبوة فيها، لم تعرج أفهامهم الثاقبة الى إشاراته، ولربما فهم بعضهم غير مراد الله، كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، راجع تفسير الآية (١٨٧) في البقرة في ج ٣، إذ صرفهما لمعناهما المسمى فربط برجليه خيطين ليستبينهما في السحور، فما بالك يا أخي بغيرهم، وخاصة أهل هذا العصر الذي انصرف أهله بكليتهم الى علوم لا مساس لأكثرها بالدين، ولهذا مست الحاجة الى تفسير كتاب الله وانكب عليه السلف الصالح، وعكف عليه التابعون، واقتفى أثرهم العلماء، ولم ينفكوا عن الولوج في لجج معانيه والدخول في صحاري مبانيه الى ان يشاء الله، والى أن يرث الأرض ومن عليها، ولا يعلم تأويله كما أراد غيره. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الآية (٢٦٩) من البقرة أيضا، قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، واخرج ابو عبيده عن الحسن قال: ما أنزل الله آية الا وهو يحب أن
ما مررت بآية لا أعرفها الا أحزنتني، لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» الآية (٤٣) من سورة العنكبوت ج ٢، وغير هذا في هذا كثير. وقد أوجبت على نفسي الاختصار الغير مخل، كما أوجبت ترك التوسع الممل في هذا التفسير المبارك، ولهذا اكتفيت بما ذكرته، والله الملهم لمن أراد بيانه.
المطلب الرابع في أحوال المفسرين به ومأخذ هذا التفسير
اعلم وفقك الله ان أحوال المفسرين في التفسير مختلفة على ثلاثة أصناف:
فمنهم من يقتصر في تفسيره على المنقول في الآية من أقوال من تقدمه من المفسرين وأسباب النزول وأوجه الإعراب ومعاني الحروف. ومنهم من يأخذ في وجوه الاستنباط منها، ويستعمل فكره بما آتاه الله من الفهم، ولا يشتغل في أقوال السابقين لوجودها في بطون الأوراق، ومنهم من يرى الجمع بين الأمرين والتحلي بالوصفين. وبما ان هذا أحسن الأصناف جريت عليه، واقتفيت أثر من مشى عليه الا اني قد اجتنبت التوسع الممل والاختصار المحل، إذ ان في الإطناب افراطا، وفي الإيجاز تفريطا، وكلاهما منتقد. على اني ان شاء الله سآخذ مما عليه الجمهور الموافق للنظم، والمطابق للسياق والمضاهي للسباق. واتبعت في تحرير مكية ومدنية ما هو المعتمد عليه من أقوال كثيرة مقتبسا من كتاب ابي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي وكتاب تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي شيخ القراء بمصر، وكتاب ناظمة الزهر للامام الشاطبي، وشرحها لأبي عيد رضوان المخللاتي، وكتاب ارشاد القراء والكاتبين له أيضا، وكتب القراءات والتفسير على خلاف في بعضها. وسلكت في عد آيه طريقة الكوفيين وهي الوسطى، وخير الأمور أوساطها وهي المروية عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي كرم الله وجهه، حسبما جاء في الكتب المذكورة، وهي ست آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، أما
واعلم ان نصف القرآن على حسب ترتيب المصاحف من حيث الأجزاء جزء ألم أقل من سورة الكهف، وبحسب السور التي هي مائة واربع عشرة سورة من حيث العدد سورة الحديد، وما قيل إن مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لا يرى المعوذتين من القرآن، فهو قول عار عن الصحة، وحاشى لابن مسعود أن ينسب إليه ذلك وقد أخطأ من ذكر هذا ونسبه إليه، هذا ونصفه بحسب الآيات آية (فَأَلْقى عَصاهُ) من سورة الشعراء وبحسب الحروف النون من قوله تعالى (نُكْراً) من سورة الكهف.
أما الكتب التي اعتمدت الأخذ منها ما قرأته من تفسير الخازن والنسفي والبغوي ابن محمود النخجواني وابن عباس وابي السعود الرازي وروح البيان وروح المعاني والبيضاوي والكشاف والخطيب الشربيني وفريد وجدى والجلالين وحاشيتهما للجمل والصاوي وابن كثير والجزي المسميين بالإتقان، والتسهيل والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والفتوحات الربانية للشيخ نعمة الله، وتفسير محي الدين العربي، وما لم أقرأه كالطبري والحسيني والخطيب وتفسير الأستاد رشيد رضا المنسوب للإمام محمد عبده وغيرها كثير من الكتب والرسائل التي مست الحاجة إلى مطالعتها والأخذ منها كالتشريع الإسلامي والوحي المحمدي وهدي الرسول ورسالة التوحيد لمحمد عبده ورسالة معجزات القرآن وغيرها. ومن الكتب الفقهية كالمبسوط للسرخسي والدر المختار وحاشيته لابن عابدين والطحطاوي والدرر والجوهرة والخطيب الشربيني والباجوري علي ابن قاسم وغيرها، ومن كتب الصوفية عوارف المعارف للسهروردي والبهجة السنية للشيخ الخاني ونور الهداية والعرفان للصاحب، والإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلاني واحياء العلوم للغزالي ورسالة أبي القاسم القشيري وغيرها، وكثير
مطلب الأصول المتبعة في التفسير
واعلم حفظك الله أني إذا أردفت كلمة بغير أي التفسيرية أو الواو كالعطوف البيانية فهي معنى الكلمة التي قبلها، وقد أقدم بعض الكلمات المفسرة على المفسرة، واترك ما لا يحتاج للتفسير، مما هو معلوم بداهة مثل قوله تعالى (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) الآية ١٨ في سورة طه الآتية، إذ قال بعض المفسرين: اعتمد عليها إذا مشيت، واستند إليها إذا عيبت، واضرب بها إذا أوذيت، وكذا وكذا ومثل قوله تعالى (قالا رَبَّنا) إذ من المعلوم أنهما هارون وموسى وما شابه هذا مما لا طائل تحته واجتنبت كثيرا من أمثال هذا الحشو الذي لا حاجة اليه غير تكثير الكلام، وإذا أشرت إلى آية أو بحث فإن كان في الجزء الذي أنا فيه اكتفيت بقولي في الآية كذا في السورة المارة أو الآتية، وإلا ذكرت الجزء التي هي فيه مع عدد الآية وبيان السورة، وإذا طال الفصل بين العاطف والمعطوف عليه أو الشرط والجزاء وضعت خطا هكذا- دلالة على ذلك وقد أضع الكلمة أو الكلمات التفسيرية، أو الجمل الاعتراضية، والاستطرادية بين قوسين، لئلا تتصل بالمفسر، وكل جملة ختمتها بالأصح أو الصحيح أو المعتمد أو الأولى فهي في مقابلة أقوال لم تثبت لديّ صحتها وأرجحيتها،
واعلم أن ما أقدمه من الأقوال هو المعتمد، إلا إذا صرحت بعده بأنه هو الأصح أو الصحيح أو الأحسن أو عليه الفتوى، وما ذكرته في قال بعضهم فالمراد به غالبا من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، وقد أصرح بعضا بالفرقة الضالة أو برئيسها، وما وضعته في العدد الأول للسور، فعلى حسب النزول والذي يليه بمقتضى ترتيب القرآن في المصاحف ووضعت الأرقام للآيات، وبينت سورها ومحلها، ليرجع لتفسيرها حذرا من التكرار، ولسهولة المراجعة عند الاستدلال ببعضها على بعض، ولتمييز المدني منها عن المكي، وهذا مانفث في روعي من الداعي الإلهي للاشتغال في هذا التفسير وإني مع ضعفي وعجزي واشتغالي بالحكم وقلة بضاعتي في هذا الميدان ووجودي في زمن فسد أهله وقل خيره وكثر شره، وصار الخوض في الهوى أرغب من تناول طرق الهدى لأنهم أعرضوا عن أمر الدين، وأنفوا من مرافقة الصالحين ومصاحبة الصادقين، فوصفوا السلف الصالح بالرعونة والخلف بالجحود، وهم لعمري لا يفرقون بين لام كي والجحود، فإذا تكلموا خبطوا خبط عشواء، وإذا أجابوا فعلى غير السؤال كان العطاء، يستشهدون بالأحاديث ولا يعرفون رجالها، بل ولا مبانيها، فيما يلائم أهواءهم، وبالآيات ولا يعلمون مراميها ولا معانيها مما لاتعيه أذهانهم، ويؤولون على جهل في السبب والمغزى، ومع هذا يقولون
وينسبون إليهم الإفراط إذا أطالوا الباع في حلبة التفسير للآيات، والتفريط إذا اقتصروا على الغايات، والجهل إذا أغفلوا شيئا ظاهر التأويل، والعناد إذا جالوا في فلسفة أسباب التنزيل، ان أتيتهم بآية قالوا مؤله، وهم يأخذون بظاهر الآيات، أو بحديث قالوا لم يثبت عند الثقات، وأين هم من معرفة التأويل والسند، وهيهات ان يميزوا بين الغث والسمين وهيهات، ويحهم جهال ويزعمون أنهم علماء، وضلال ويظنون انهم أتقياء، ومجانين ويحسبون انهم عقلاء، يناقضون أقوالهم بأفعالهم، وهي أفعى لهم، وأفعالهم بأقوالهم، وليست بأقوى لهم، أرشدنا الله وإياهم إلى الحق وهدانا إلى الرشد، ووفقنا إلى الصدق. عكفت عليه، ولولا السائق الإلهي لما وفقت اليه، إذ قد يكل مثلي عن تفسير سورة من قصار المفصّل، بل عن تأويل آية منها وأقل، ولكن ألطاف رحمانيته رغبتني، وهبات لدنية غمرتني، ونظرات محمدية أعانتني على هذا السفر العجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل وهو الحسيب.
المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي
اعلم رعاك الله، ان التفسير هو كشف ما غطي لأنه مأخوذ من الفسر، وهو الكشف وبيان المعاني المعقولة من الألفاظ، فكما أن الطبيب ينظر في تفسيرته أي دليله ليكشف عن علة المريض بعد فحصه ومعرفة الداء ليصف له الدواء، كذلك المفسر ينظر في معاني الألفاظ بعد تمحيصها، ليكشف عن غوامضها ويعلم معناها وشأنها وقصتها، وهو يتوقف على النقل المسموع في معاني الألفاظ، ويلحق به الحديث الشريف، أما في غيرهما فلا يتوقف على ذلك، بل له أن يقدح فكرته لاستخراج معاني الكتب الأخرى.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه حينما سئل عن القرآن، قال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في القرآن (أي برأي) وقد رخص لأهل العلم بالتفسير والتأويل بما لا يخالف السنة والكتاب، لأن الصحابة رضوان الله عليهم، فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من حضرة الرسول، بل اجتهدوا فيه على قدر فهمهم، وقد دعا ﷺ لابن عباس فقال اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين، فكان أكثر ما نقل عنه في التفسير.
هذا وان المرء مهما سمت رتبته في المعارف، وعلت درجته في الذكاء، لا يبلغ مبلغ ابن عباس، أو عمر رضي الله عنهما، إذا فلا يجوز أن يجرؤ أحد على الحوض في آيات الله إلا عن سماع وتوقيف متواترين، أما بعض أهل هذا الزمن المتزعمون فإنهم يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يفعلون.
هذا وإن من المفسرين من إذا اطلعت على تفسيره شمت منه القصد بإظهار فضله واقتداره حيث أدخل فيه من الكلام ما يحتاج إلى تفسير على أن الأفاضل ليسوا بحاجة إلى إظهار فضلهم وإذا كان الغير لا يستفيد من تفسيرهم فيكونوا قد فسروا لأنفسهم عفا الله عنهم ووقانا شر أنفسنا.
اعلم حرسك الله ان القرآن الكريم أفضل الكتب السماوية وان التمسك به وصول إلى منزله، والمحافظة عليه طريق النجاة، فهو العروة الوثقى والحبل المتين.
فقد روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام يوما فينا رسول الله خطيبا (بماء يدعى خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله واثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه، وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وفي رواية: من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل وفي أخرى: كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة. وفي رواية الترمذي: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. وهذا من الأهمية بمكان، لأن حضرة الرسول في قوله هذا ينتظر نتيجة أعمال أمته في العمل بأحكام القرآن وفي مراعاتهم لأهل بيته، وانهم المسئولون عن ذلك في يوم هم أشد حاجة لشفاعته يوم لا ينفع مال ولا جاه ولا بنون.
هذا واعلم أن كلام السادة الصوفية في القرآن لا يعدّ تفسيرا لغيرهم لأنه عبارة عن إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لهم في خوارق أحوالهم وهي حجاب لغيرهم، بل يحرم عليهم القول بها لعدم معرفتهم المراد منها لأن لهم كلمات استعملوها لا يعرفها إلا من هو منهم أو واقف على تفسيرها، كالمبين في عوارف المعارف للسهروردي وما يماثله من كتبهم، كما أن تفسير بعض المفسرين الذين همهم البلاغة ووجوه الإعراب بما يحتاج إلى تفسير دقيق حجاب لغيرهم أيضا لعدم وقوفهم على مرادهم منه.
فقد روى ابن أبي شيبة في سنده ومحمد بن نصر وابن الأنباري في كتاب المصاحف
مطلب في حفظ القرآن والشهادات به هذا وقد حفظ القرآن عن ظهر غيب في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد من الأنصار، وأبو الدرداء من المهاجرين، وآخرون كثيرون لم أقف على أسمائهم، فهذه شهادات الرسول في حق القرآن وفضله وشهادة الله تعالى مذكورة فيه، وقد طفحت الكتب من يوم نزوله إلى الآن بفضله، وسيستمر إن شاء الله إلى آخر الدوران، أما شهادة الأجانب بفضله فقد صرفنا النظر عنها، اكتفاء بما ذكره السيد محمد فريد وجدي في مقدمة تفسيره، والطنطاوي في تفسيره، ت (٢)
أيمدح من اثنى الإله بنفسه | عليه فكيف المدح من بعد ينشأ |
المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه
اعلم رعاك الله، ان الله عز وجل، راعى في تشريعه على عباده أمورا ثلاثة رحمة بهم وعطفا عليهم.
الأول: عدم الحرج أي الضيق، قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)، الآية ١٥٦ من الأعراف الآتية، وقال جل شأنه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الآية) ١٨٥ من البقرة في ج ٣، وقال فيها أيضا (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) الآية الاخيرة منها، وقال أيضا في صدر هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقال (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ من سورة الحج في ج ٣، وقال (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) الآية ٢٧ من سورة النساء، وقال (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧ من المائدة في ج ٣، أيضا وقال صلّى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة، وكان صلّى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ولذلك شرعت الرخص كالفطر للمسافر وإباحة بعض المحرمات عند الضرورة، والتيمم والمسح في الوضوء والصلاة، وشرب الخمر عند التهديد بالقتل.
وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم في غير نسيان، فلا تبحثوا عنها.
الثالث: التدرج في التشريع، وذلك انه صلّى الله عليه وسلم بعث والعرب على عادات مستحكمة فيهم، منها ما هو صالح للبقاء لا ضرر فيه على تكوينها، ومنها ما هو ضار يجب ابعادهم عنها، فاقتضت حكمته أن يتدرج في نهيهم عنها شيئا فشيئا، كالخمر والميسر، حين سئل عنهما في المدينة، أنزل الله فيهما (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) الآية ٢١٩ من البقرة ج ٣، ففهم فقية النفس طيبها، أن ما كثر إثمه حرم فعله، فانتهى لنفسه، وأكب عليها من لم ينتبه لذلك، وهذه الآية بعد أن عرض عن الخمر في معرض النعم التي عددها على عباده في قوله عز قوله (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) الآية ٦٧ من سورة النحل في ج ٢، لأن العطف يعمّ على أنها ستحرم بعد، لأنها لم توصف بالحسن، إذ وصف المباح من ثمراتها بالحسن، كالثمر والعنب والمريس والزبيب والدبس والخل وسائر الأشربة المتخذة من عصيرها، كما سيأتي تفصيله في تفسيرها، دون السكر فإنه لم يصفه بذلك، وهذه الآية مبدأ التعريض بتحريمها لأنها أول ما نزل منها في مكة شرفها الله، أما آية البقرة فما بعدها، فقد نزلت بالمدينة المنورة، الآية الثالثة قوله
مطلب مميزات المكي عن المدني الثاني: أن آيات المكي على الجملة قصار، وآيات المدني طوال، مثلا سورة الشعراء المكية، آياتها ٢٢٧ وسورة الأنفال المدنية، آياتها ٧٥ مع أن كلا منهما نصف جزء وأن جزء (قَدْ سَمِعَ) مدني وآياته ١٣٧، وجزء تبارك مكي وآياته ٤٣١، وأن سورة الحج مدنية، وسورة المؤمن مكية، عدا بعض آيات فيهما وهما متقاربتان من حيث عدد الآيات، وقد توجد بعض الآيات على العكس لا بعض السور وعليه تكون القاعدة أغلبية، ولهذا قلنا في الجملة، وما قيل ان سورة (التغابن) من جزء قد سمع مكية، وسورة تبارك من جزء تبارك مدنية ضعيف. واعلم أن نسبة المكي للمدني ١٩ من ٣٠ وآياته ٤٧٨٠ ونسبة المدني المكي ١١ من ٣٠ وآياته ١٤٥٦.
الرابع عدم وجود شيء من التشريع التفصيلي في المكي، ومعظم ما فيه يرجع الى المقصد الاول في امر الدّين، وهو التوحيد، واقامة البراهين على وجود الله والبعث، والتحذير من العذاب، ووصف الجنة ونعيمها، والقيامة وأهوالها، والنار وعذابها، والحث على مكارم الأخلاق، وضرب الأمثال مما أصاب الأقدمين لمخالفتهم أنبيائهم وجرأتهم على أذاهم، ومعظم التشريع التفصيلي في المدني. ثم اعلم ان مقاصد القرآن ثلاثة:
الاول ما يتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو مباحث علم الكلام واصول الدين.
الثاني ما يتعلق بافعال القلوب والملكات في الحث على مكارم الأخلاق، وهو مباحث علم الآداب والإحسان.
الثالث ما يتعلق بافعال الجوارح في الأوامر والنواهي، وهو مباحث علم الفقه والمعاملات، إذا يعلن هذا القرآن العظيم انه إنما أنزل لاصلاح البشر مصرحا على لسان المنزل عليه بقوله جل قوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) الآية ١٣٥ في سورة الأعراف الآتية وعليه فانه جامع لكل خير مانع لكل شر.
المطلب الثامن في النزول وكيفيته وترتيب سوره وآياته
اعلم نور الله قلبك، ان الله جل شأنه انزل القرآن العظيم جملة واحدة في اللوح المحفوظ الى سماء الدنيا، ووضع في بيت العزة ليلة القدر السابع عشر او العشرين من شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من ميلاده صلّى الله عليه وسلم الموافق سنة ٦١٠ من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام، يدل على هذا قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة الآتية وقوله جل قوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الآية الثالثة من سورة (حم) والدخان) في ج ٢ وقوله تعالى قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية ١٨٥ من سورة البقرة في ج ٣ ثم انزل نجوما بواسطة الامين جبريل عليه السلام على قلب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم متفرقة عند الحاجة وبحسب الحوادث والوقائع، والأسئلة الموجهة إليه من بعض أمته، وأول ما نزل في نهار تلك الليلة مبادئ سورة (العلق)، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى آخر الآيات الخمس الأول منها، كما سيأتي بيانه في غار حراء بمكة، الذي كان يتعبد فيه، كما روي عن ابن اسحق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، على خلاف للعلماء في الليلة لا في المكان والشهر كما حكاه القسطلاني في شرحه على البخاري، وآخر ما نزل منه سورة النصر الآتية في ج ٣، ومن الآيات آية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ٤ من المائدة في ج ٣، وذلك يوم الجمعة في ٩ ذي الحجة، السنة العاشرة من من الهجرة الموافقة سنة ٦٣ من ميلاده عليه السلام، يوم عرفة، في مكة المكرمة،
وليعلم أن القرآن نزل في مكانين ومدتين.
والأخريان مدة مقامه في المدينة، أي من مغادرته مكة، فتعتبر من ١ ربيع الأول سنة ٥٤، إلى حجة الوداع في ٩ ذي الحجة السنة العاشرة من الهجرة، الموافق لسنة ٦٣ من ميلاده الشريف إذ لم ينزل بعدها إلا آية البقرة المارة الذكر وهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام، وكل ما نزل في هذه المدة يسمى مدنيا، وهو ثمان وعشرون سورة أولها البقرة وآخرها النصر، فيكون مجموع السور مائة وأربع عشرة سورة أولها اقرأ وآخرها النصر.
مطلب محل النزول وعدد السور وتقسيمها وأسمائها ويوجد هناك آيات تخلفت عن سورها بينّاها في محلها وذلك بحسب التنزيل الذي جرينا عليه، أما بحسب ما هو في المصاحف، فأولها الفاتحة وآخرها الناس، وهذا الترتيب لا محيد عنه البتة لأنه أمر توقيفي. أما ما جرينا عليه في هذا التفسير فللأسباب المبينة في خطية الكتاب ليس إلا، ومعنى السورة (المنزلة) قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة | ترى كل ملك دونها يتذبذب |
فائدة معرفة أسباب النزول وبعضها ينزل لسؤال بعض المؤمنين مثل مرثد الغنوي لما أرسله الرسول إلى مكة لاخراج بعض المستضعفين من المسلمين في مكة فعرضت امرأة نفسها عليه فأبى
ومنها ما ينزل بدون حادث، وكلما ترى حكما لم يذكر له المفسرون حادثا انزل الحكم مرتبا عليه.
مطلب مجمل ما كلف الله به عباده واعلم أن كل ما كلف الله به عباده المؤمنين وغيرهم على نوعين:
الأول معاملة بينه وبين عباده كالعبادات التي لا تصلح إلا بالنية، أي لا تكون كاملة إلا بها، وإلا فقد تصح بدونها على خلاف بين المجتهدين، فمنها ما هو عبادة محضة كالصلاة والصوم، ومنها ما هو مالية بدنية اجتماعية كالحج، ومنها ما هو مالية اجتماعية كالزكاة، وقد اعتبرت هذه العبادات الأربع بعد الإيمان بالله تعالى أساس الإسلام وأركانه.
الثاني: معاملة بين العباد أنفسهم، وهي أربعة أنواع.
الأول: مشروعات لتأمين الدعوى، وهي الجهاد وما يتفرع عنه.
الثاني: مشروعات لتكوين البيوت، وهي الزواج والطلاق والأنساب والمواريث.
الثالث: مشروعات للمعاملات بين الناس كالبيع والشراء والإجارة والرهن وغيرها من العقود.
الرابع: مشروعات لبيان العقوبات كالقصاص والأرش والحدود وما يتفرع عنها، وسنأتي على بيان كل نوع في موضعه إن شاء الله تعالى، ونغني القارئ عن مراجعة كتب كثيرة في شأنها، ومن الله التوفيق.
اعلم نور الله بصيرتك انه ثبت في الصحيح عن انس بن مالك رضي الله عنه أنه قال جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة كلهم في الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسعد بن عبيد أبو زيد أحد أعمام انس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
مطلب جمعه ونسخه وكونه توقيفيا وكان جمعه على عهد الرسول على الرقاع واللخاف وجريد النخل، لا على صحف، وكان ترتيبه على ما هو موجود في المصاحف الآن، ثم كان جمعه على زمن أبي بكر، عبارة عن نسخه من هذه الأشياء إلى صحف، وجمعه على زمن عثمان نسخه إلى صحف وكراريس، وجعله بين دفتين، كما هو عليه الآن. ومن قال إنه لم يجمع على عهد الرسول فقد أخطأ، يؤيد هذا ما ذكرناه آنفا من حديث أنس المتقدم، وما أخرج الترمذي من أن عمر رضي الله عنه، قال قال صلّى الله عليه وسلم خذوا القرآن على أربعة عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وكان هؤلاء الكتاب يكتبون القرآن حسبما يمليه عليهم حضرة الرسول على العسب (جريد النخل) وعلى اللخف (الأحجار الرقيقة) ويضعون ما يكتبونه عند الرسول، ويكتب كل منهم نسخة لنفسه، وكلما ينزل ما يتعلق بالمكتوب، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم يدلهم أين يكتبونه أي في أي سورة، وبعد أي آية، ولم يجمعه من النساء إلا أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث التي كان يزورها حضرة الرسول ويسميها الشهيدة ذكره الجلال السيوطي في إتقانه، وقد قال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم، لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، وهذا زيادة في الثبت به، لئلا يدخل عليه ما ليس منه من أحاديثه صلّى الله عليه وسلم، أو غيرها في تفسير بعض كلماته من لدنه أو من بعض الأصحاب، وتدوينها بهامشه أو بين سطوره خشية من إدخال شيء من ذلك فيه، ولهذا قال من قال، أن فلانا قرأ كذا، وفي مصحف فلان كذا، لأن بعض الأصحاب كان يدون بعض
مطلب توزيع نسخ القرآن وأمر الناس بقراءتها ولما ولي عثمان رضي الله عنه وصار يغازي أهل الشام في فتح أرمينية واذربيجان سنة ٢٥ من الهجرة، طلبها من السيدة حفصة بتكليف من حذيفة اليماني وغيره من الأصحاب الكرام فأعطتها (وبعد الاستشارة بينهم انتصر رأيهم الصائب على نسخها
أخرج أبو داود في المصاحف بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول:
أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. واخرج ابن ابي داود من طريق ابن سيرين قال: قال علي لما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعته. ويراد من جمع علي كرم الله وجهه جمعه على الصورة المارة المتروكة من لون حضرة الرسول على الجريد واللخاف وغيرها، ومن قال إن عليا جمعه قبل عثمان، أراد هذا لا غير لأنه كان مجموعا زمن الرسول كما أشرنا إليه آنفا، ولم يجمعه في الصحف إلا أبو بكر ومن بعده عثمان رضي الله عنهما على الصورة المارة، ثم طلب من الأصحاب أن يضعوا له اسما غير أسماء الكتب المنقدمة عليه، فقال ابن مسعود:
في الحبشة كتاب يدعونه المصحف فسموه به، ثم انه رضي الله عنه حمل الناس سنة ٢٧ من الهجرة على قراءة المصاحف التي نسخت بأمره ومشورة الأصحاب الموجودين في زمنه، بعد أن وزعت في الآفاق على صورة واحدة خشية الفتنة بسبب اختلاف أهل الشام والعراق في أوجه القراءات، كي يقرأ الناس كلهم على نمط واحد هذا وما قيل أنه روي عن عائشة انها قالت: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، لم يثبت، كما أن ما روي عن عثمان ان في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، باطل، لأن الصحابة يسارعون إلى انكار أدنى منكر، فكيف يقرون اللحن في القرآن، ولأن العرب كانت تستقبح اللحن في مطلق الكلام فكيف لا يستقبحونه في القرآن، ولأن القرآن يقف عليه العربي والعجمي الذي لا يفرق غالبا اللحن، فكيف يقرونه لمن لا يعرفه إذا كانواهم عارفين، ولأنه لما بلغ عمر أن ابن مسعود قرأ (عن) بدل (حتى) على لغة هذيل، أنكر عليه وأمره أن يقرأ حتى على لغة قريش لأنه نزل بلغتهم، وهذا من الاختلاف الذي نهى النساخ عنه من حيث كتابة
مطلب وضع السور والآيات توقيفي أما النطق بما تقدم وكتابته في غير القرآن فلا مانع منه، وليعلم ان وضع الآيات في سورها ومحالها على النحو المرسوم في القرآن توقيفي، لأنه بتعليم من حضرة الرسول وإعلام من الأمين جبريل إليه عند نزولها وإشارته بأن يكتب هذه السورة بعد سورة كذا، وهذه الآية بعد آية كذا من سورة كذا كما تقدم بلا خلاف إذ رتبت سوره وآياته كلها وفق ما هو في اللوح المحفوظ، وقد صح من حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يستعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة في رمضان وفي العام الذي توفي فيه مرتين، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، ولهذا كافه أبو بكر وعمر نسخ المصحف أولا، وأمر عثمان النساخ ان يتبعوه عند الاختلاف في شيء منه، وعلى هذه الصورة حفظ الله كتابه المصون تحقيقا لوعده فيه، ومن ثم حرق ما سوى المصاحف الستة أو السبعة على القول الأخير بعد تمام النسخ والتوزيع سنة ٢٦ من الهجرة، ولم يزد او ينقص أو يبدل أو يغير أو يحرف حرف واحد مما أنزله الله، وبقي محفوظا مصونا إلى الآن، وسيبقى إن شاء الله إلى أن يرفعه، انجازا لوعده هذا. ومن قال انه أهمل شيء منه لا برهان له به، وقد كذب وافترى وخالف الإجماع بلا مراء، كيف وهو نور النبوة وبرهان الشريعة، لا سيما وقد تصدر للخلافة بعد نشر هذه المصاحف وحرق ما سواها الإمام الحازم علي عليه السلام باب مدينة العلم وعالم الأرض بعد ابن عمه وهو ذلك الأسد الشديد الرشيد، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم،
المطلب العاشر الناسخ والمنسوخ والقراءات ومعنى انزل القرآن على سبعة أحرف
اعلم حماك الله وبصرك بطرق رضاه ان بحث النسخ لم يقع له صدى بين الأصحاب الذين كانوا زمن نزول القرآن والذين من بعدهم من الذين لم يبلغوا الحلم زمنه، ولو كان لتردد صداه، ولا اختلف فيه المسلمون بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، وان شيئا من ذلك لم يقع، مما يدل على أن القرآن الذي تركه لنا المنزل عليه، هو الذي أمره ربه بتبليغه لنا بلا زيادة ولا نقص، وما قيل بأن شيئا من ذلك كان في حياة الرسول لا نصيب له من الصحة، لأن الأصحاب لم يختلفوا بعده بشيء من أسس الدين، ولم يتمسكوا بناسخ أو منسوخ ولم يقل أحد منهم بذلك، وعلى هذا فاعلم أن النسخ:
ت (٣)
وإما لرفع عموم النص السابق أو تقييده كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) الآية ٢٢٨ من البقرة في ج ٣ ثم قال في سورة الأحزاب النازلة بعدها في الآية ٤٩ (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) في ج ٣ أيضا، وكذلك الأمر في عدة الوفاة فإنها قيدت بأربعة أشهر وعشرة أيام في الآية ١٣٤ من البقرة أيضا، ثم قيدت عدة الحامل بوضع الحمل في الآية ٤ من سورة الطلاق النازلة بعدها، فالأول عام للمدخول بها وغيرها، والثاني أعطى غير المدخول بها حكما خاصا، وكذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الآية ٤ من سورة النور ج ٣، ثم قوله بعدها فيها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فالأول عام في كل قاذف، والثاني خاص بالزوج لجعله الأيمان الخمسة قائمة مقام الشهادات الأربع. هذا مثال التخصيص.
ومثال التقييد قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية ٤ من المائدة في ج ٣ مع قوله في سورة الأنعام النازلة قبلها: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) الآية ١٥ في ج ٢ فالدم الوارد في سورة المائدة مطلق والوارد في سورة الأنعام مقيد بالسفح فحمل المقيد على المطلق، وبهذا نعلم أن العام والمطلق لم ينلهما ابطال لأن التخصيص والتقيد بمثابة الاستثناء في الحكم.
والقاعدة ما من عام إلا وقد خصص، وما من مطلق إلا وقد قيد في بعض الأحوال، فيستوي فيه اللاحق المتصل بسابقه والمتراخي عنه والمقدم والمؤخر، فمن سمى المتقدم أو المتأخر ناسخا (ولا يكون المتقدم ناسخا للمتأخر البتة) كان بمقتضى التقييد والتخصيص ليس إلا كآية الأنعام بالنزول على آية المائدة، فمن يسميه ناسخا كان كمن يسميه مقيدا أو مخصصا.
واما ابطال النص في الحكم السابق أو انتهاء زمن حكمه وبقاؤه بصفة ذكر يتلى فقط فهو على أحد أمرين:
الأول- أن ينص اللاحق بنسخ السابق.
الثاني- أن يناقض أحدهما الآخر بحيث لا يمكن الجمع أو التخصيص أو التقييد، ولا يوجد من الأول شيء في القرآن إلا قول البعض في ثلاثة مواضع:
الأول: في قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الآية ٦٥ من سورة الأنفال في ج ٣، وقوله بعدها فيها: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فهذان خبران أريد منهما الإنشاء، لان الله تعالى قال في الآية ٤٤ من هذه السورة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) وهو أمر بالثبات، ووجوبه في كل الأحوال، فأراد جل جلاله أن يحدد هذا الأمر فحدده في الآية الأولى بعشرة أمثال المؤمنين المجاهدين في عدوهم، إلا أنه تعالت قدرته لم يقل اثبتوا في هذه الحالة لأن المراد بعث الحمية في نفوسهم، والهاب الغيرة في قلوبهم، ولما اظهر لعباده ما هو معلوم في مكنون غيبه قبلا من ضعفهم عن المقاومة بهذه النسبة اقتضت رحمته الكبرى بهم التخفيف عنهم، فأنزل الآية الثانية لئلا يتيقنوا وجوب الأخذ بالأولى حتما فيلقوا بأنفسهم إلى التهلكة أو يمرنوا أنفسهم على المخالفة فيستحقوا عقابه فحدده بهذه الآية بمثلى المجاهدين، ومن سياقها يعلم أن نسبة الآية الثانية للأولى بنسبة النص المخفف لعارض مع بقاء حكم النص الأول عند زوال العارض وهو الضعف، فكان حكم الآيتين حكم العزيمة مع الرخصة فإذا لم يكن بتلك الفئة المجاهدة التي هي بمقدار عشر العدو المحارب ضعف، ورأت في نفسها قدرة على المقاومة إما لقوة إيمانها وشدة جلدها وعزم حزمها، أو لقوة في عددها أو لوهن في عدوها وعدده، فعليها أن تثبت أمام عدوها مهما بلغ عدده أخذا بالعزيمة لأن الله وصفها بالصبر فمتى وجد الصبر ثبت الحكم الأول.
ومن قال إن الثانية عامة في جميع الأحوال، قال بنسخ الأولى بالثانية، وهو بعيد جدا، وقد اتضح لك بعده.
الموضع الثاني: ما يقرب من هاتين الآيتين قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) وقوله بآخر هذه السورة الآتية:
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) فالأولى صريحة الطلب بقيام جزء من الليل قريب من نصفه، والثانية: تدل على أن الرسول كان قائما في هذا التكليف هو وطائفة من الصحابة، إلا أن فيها سببا يقتضي التخفيف وهو علمه جل علمه، بأن يكون في الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية الثانية (مرض أو سفر أو جهاد) فكان التكليف فيها مقصورا على ما تيسر من القرآن المنبئة عن فعل ما تيسر من القيام بقراءة جزء يسير من القرآن، دون صلاة أو في صلاة ما، من النفل لقوله بآخر الآية الثانية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإذا كان كذلك لم يكن نسخا وحكمه باق بالنسبة للرسول وللآخرين المعذورين، وهذا رأي ابن عباس، وقد اخترته لموافقته للواقع، ومن قال إن الأولى عامة والتخفيف عام أراد النسخ وهو بعيد أيضا.
الموضع الثالث: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية ١٢ من سورة المجادلة في ج ٣، وقوله بعدها: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) فالأولى تحتم تقديم الصدقة بين يدي النجوى،
أما الطريق الثاني: وهو الالتجاء إلى نصين متناقضين لا مجال لتأويلهما أو أحدهما، فمن العسر جدا، بل من المحال أن تجد شيئا منه في كتاب الله، وهو المبرأ من كل عيب، ولله در أحمد محرم إذ يقول:
دستور حق في يمين محمد | يحمي الضعيف وبنصف المظلوما |
لولا بلاغته وروعة نظمه | جهل الرجال اللؤلؤ المنظوما |
كنز البيان فمن تطلب للفتى | كنزا سواء قضى الحياة عديما |
فضّت علوم الدهر منه جانبا | وغدا نقضي الجانب المختوما |
متجدد في كل عصر يبتغى | مما تجيء جديدة وفهوما |
مطلب القائلين بعد النسخ:
هذا وقد منع أبو مسلم الأصفهاني المفسر الكبير وجود النسخ في القرآن العظيم، وقد قال الإمام الرازي في تفسيره المشار إليه، وكذلك الشيخ محي الدين العربي في تفسيره، ومن عرف مرامي التشريع الإسلامي، ووقف على لباب التنزيل، وعرف حكمة التدريج في التشريع الذي مر ذكره في المطلب السابع، وأمعن النظر في قوله تعالى: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) الآية ١ من سورة هود، أيقن أن لا نسخ في كلام الله بالمعنى القائلين به، من أبطال المعنى الأول بالكلية، وهذا من جملة ما عناه سيدنا علي كرم الله وجهه، بإرادته ترتيب سوره وآياته على حسب
مرام سطّ مرمى العقل فيه | ودون مداه بيد لا تبيد |
ومن المعلوم أن آياته منها ما وقع تفسيرها زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومنها ما وقع زمن أصحابه من بعده، ومنها ما وقع بعدهم، ومنها لم يقع حتى الآن، والليالي حبالى، وسيلدن الأمر العجيب مما سيظهر فيها من معجزاته الغامضة، ولا تحديد لكلمات الله، وسترى إن شاء الله، ما بشرح صدرك أيها القارئ، وتقر عينك، من تقييد المعاني،
مطلب في القراءات وحيث تقدم أني قلت، إني اتبعت في هذا التفسير قراءة عاصم، ورواية حفص لا طعنا في غيرهما، بل لأنهما أشهر من غيرهما، لأنها المتعارفة في محيطنا، والمنسوخة في القرآن الذي بين أيدينا، وإن القراءات الست الاخرى بأوجهها جائزة لمن أتقنها، وانها تختلف مع بعضها من حيث الترقيق والتفخيم، والجهد والصمت، والمد والقصر، والإمالة والرفع، والإدغام والإظهار، والتثنية والافراد والجمع، والتحريك والإسكان، والقطع والوصل، والنقل والوقف، والتضعيف والفك، وغيرها في الحروف والكلمات، بلا زيادة ولا نقص في أصل الكلمة، وما يزاد في أحد القراءات من الواحد في مثل عليهم، وعليهم و، لا يعد زيادة لأنه عبارة عن إشباع الفتحة لا غير، ولهذا تجد بعض رسم الكلمات فيه متغاير صورة لا معنى مثل (خَسِرَ الدُّنْيا) في الآية ٧ من سورة الحج في ج ٣، تقرأ على أنها فعل ماض، ولا تنافى المعنى المراد منها، عند من بقرأها مصدرا أو اسم فاعل، وهكذا كما ستطلع عليه عند تفسيرها، وما يشاكلها إن شاء الله. وقد ذكرنا في مطلب جمع القرآن المار، أن ما جاء من وجود بعض الكلمات في قرائين بعض الأصحاب، هو كناية عن كلمات تفسيرية كتبوها في مصاحفهم، فظنها من لا مسكة له بالقرآن قرآنا وتمسك بها بعض الجهلة، ومن لا خلاق له في الآخرة يماري بها ويجادل، (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الآية (٤٦) من المائدة، فراجعها وراجع الآية (٨٣) من سورة النساء في ج ٣، ولهذا أشار ﷺ فيما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرأنيها رسول الله فكدت أساوره (أواثبه وأقاتله) في الصلاة فتربصت (تثبت) حتى سلم فلببته بردائه (أخذته مما يلي عنقه منه) فقلت: من أقرأك هذه
ان القرآن نزل على سبعة أحرف لكل آية منه. ويروى: لكل حرف منه. ظهر وبطن، ولكل حد ومطلع وما قيل في معناه، إن الظهر لفظ القرآن أو التلاوة باللسان كما أنزل، والبطن تأويله، أو النور أو الفهم والتذكر فيه.
هذا وليعلم أن ما من حادثه ترسم بقلم القضاء إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها كيف لا وقد قال منزله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام في ج ٢، وقال جل شأنه (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية ١٥٢ من الأنعام أيضا، راجع ما بيناه آخر المطلب السابع في هاتين الآيتين وتفسيرهما في محلهما، ومن يجهل معنى هذا فعليه بالعارفين، قال تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية ٧ من سورة الأنبياء في ج ٢ وقال جل قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) الآية ٥٩ من سورة الفرقان الآتية.
مطلب حكاية واقعة:
ذكر بن خلكان في تاريخه ان السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما فتح حلب أنشد القاضي محي الدين قصيدة بائية من جملتها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر | مبشر بفتوح القدس في رجب |
مطلب في الصوفية ومعنى سبعة أحرف:
أو على المعنى الذي جرى عليه بعض المفسرين بأن الصالحين هم الصالحون لعمارة الدنيا، وفي هذا المعنى يدخل البر والفاجر هذا، ومن الانصاف التسليم الى العارفين من السادة الصوفية الذين هم مركز الدائرة المحمدية واتهام الذهن فيما لم يصل إليه من فهم أقوالهم العالية وأحوالهم السامية بسبب العوائق والعلائق قالوا:
وإذا لم تر الهلال فصدق | لأناس رأوه بالأبصار |
ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم سبعة أحرف أي سبعة وجوه، قال أبو عبيدة وغيره من الصحابة الكرام هي سبع لغات من العرب: ١ تميم، ٢ ومعد، ٣ ومضر، ٤ وقرشي، ٥ وهوازن، ٦ وهذيل، ٧ وحمير أهل اليمن، وقد جاءت متفرقة في القرآن العظيم الذي جاء بأحسن لغات قريش التي ذابت فيها لغات فرق العرب الآخرين، فمن ذلك (انْظُرُونا) في الآية ١٣ من سورة الحديد ج ٣ فهي بمعنى أمهلونا وأخرونا وأرقبونا (ومنه مَشَوْا فِيهِ) في الآية ٢٠ من البقرة ج ٣ فهو بمعنى مرّوا فيه وزادوا وذهبوا وسعرا وغيرها من لغات العرب، لكن ما جاء في القرآن أبلغ معنى وأعظم إعجازا، ومنها ما جاء في القرآن من المدّ والقصر والإمالة والإشمام والإدغام وغيرها أحسن في الأداء واتمّ في النظم من الكلمات العارية عنها في اللغات الاخرى وانظر إلى كلمة (هلّم) التي هي بمعنى أقبل وتعال وإليّ وقصدي ونحوي وقربي، هل لهذه الكلمات التي بمعناها في اللغات الأخرى مكانتها من الحسن في اللفظ والمعنى، كلا، وقس على ذلك.
ويوجد أقوال أخرى في معناها، أعرضت عنها لعدم التثبت من صحتها والصحيح أنها قراءات سبع استفاضت عن حضرة الرسول الأعظم، وضبطها عنه أصحابه
كلام قديم لا يمل سماعه | تنزه عن قول وفعل ونيّة |
به اشتفي من كل داء ونوره | دليل لقلبي عند جهلي وحيرتي |
فيا رب متعني بسر حروفه | ونور به قلبي وسمعي ومهجتي |
المطلب الحادي عشر في خلق القرآن وعدمه ونسبته للكتب الأخرى وصدق النبوة
مطلب القول بخلق القرآن.
اعلم علمك الله ما لم تعلم أن ما قيل أن القرآن مخلوق. عبارة عن اصطلاح كلمة فلسفية وآراء نظرية مبتدعه، ظهرت أيام الخليفة المأمون العباسي الذي تولى الخلافة سنة ١٩٨ بعد قتل أخيه الأمين رحمهما الله وأباهما هارون الرشيد وسامحهم وقد توغل فيها وأفرط حتى أنه هدد بالقتل من يقول أنه غير مخلوق ولما جيء له بالإمام الشافعي رحمه الله وسئل عن ذلك قال أنت تعني الكتب الأربعة الموجودة بأيدينا، وأشار إليه بأصابعه الأربع قائلا هذه مخلوقة، ونجا من التعذيب منه بهذه الوسيلة ولم يتنبه إلى ما أشار وقصد، أو أنه انتبه وتغاضى لمكانة الشافعي رحمه الله.
وليعلم انه لم يرد في هذا البحث كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل هو تعرض للبحث التحليلي في ذات الله تعالى وصفاته ومثار للوساوس الشيطانية فيجب على العاقل أن يجتنب هذا البحث ويستعيذ بالله منه ولا يلجأ إلى ترهات صورت من المشككين ذوي القلوب الصدأة المظلمة البعيدة عن نور المعرفة وأن يوقن بأن الكلام صفة كمال تتعلق بكل ما يتعلق به العلم، إلا أن تعلق العلم عبارة عن انكشاف المعلومات للعالم
لأن قراءتهم له مشتملة على حروف وأصوات وترتيب ولغة وهو صورة حادثة عن كلامه القديم ومظهر من مظاهر التنزيل.
مطلب الطوائف المخالفة ونسبة القرآن للكتب الاخرى:
واتفقت المعتزلة على أن كلام الله مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق وأنه خالق لكلامه ثم اختلفوا في معنى الكلام والحدوث على أقوال كثيرة وكذلك الطوائف الاخرى كالامامية والخوارج والحشوية والكرامية والواقفية اختلفت في كونه قديما أزليا اولا، وفي كونه جوهرا أم عرضا، وكل انتصر لمذهبه، ونظرا لمخالفتها لأقوال أهل السنة والجماعه وعدم جواز الأخذ بشيء منها أعرضت عن نقلها وإذا أردت الوقوف على أحوال هذه الطوائف
أما نسبة القرآن للكتب الاخرى فانه أصح وأجمع وأكمل منها من كل وجه فمن حيث أنه أنزل بلغة عربية وبقي كما هو لم تتطرق إليه التراجم ولم تختلف نسخه عن بعضها بحرف واحد فهو أصدق منها إذ لو جمعت مصاحف أهل الأرض كلها، لا تقدر أن تجد فيها حرفا مغايرا لغيره، أخرج ابن أبي قاسم عن سفيان الثوري انه قال: لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه بلغتهم. قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية ٤ من سورة ابراهيم ج ٢. والكامل لا يأتي إلا بالكامل، وميزة أخرى انك لو قرأته على مر الأيام وكر السنين ما زادك تكراره إلا حلاوة ورغبة فيه واعتقادا بأنه كلام الله حق وصدق لم يغير ولم يبدل كيف لا وقد تحدى الله البشر أجمع على إتيان سورة مثله أو من مثل الذي جاء به. راجع الآية ٢٢ من سورة البقرة في ج، والآية ٢٨ من سورة يونس، والآية ١٣ من سورة هود في ج ٢. تقف على تغيرها وتعرف مدى الفرق بينها وناهيك دليلا على حفظه ما مر لك في الآيتين ٩ من سورة الحجر و ٢٤ من سورة فصلت في ج ٢.
في المطلب السابع المار ذكره وقد أجاد الأبوصيري في قوله بصفته:
الله أكبر إن دين محمد | وكتابه أقوى وأقوم قيلا |
لا تذكروا الكتب السوالف غيره | طلع الصباح فأطفأ القنديلا |
آيات حق من الرحمن محدثة | قديمة صفة الموصوف بالقدم |
فلا تعدّ ولا تحصى عجائبها | ولا تسام على الإكثار بالسأم |
مطلب التحريف والتغيير في الكتب الاخرى:
فمن هنا يقع الغلط وسوء التصرف لأن من اطلع عليها وأنعم النظر فيها لا يطاوعه وجدانه أن يسلم بأنها هي المنزلة حقا بحذافيرها بل لا بد وأن يعترف بوجود التحريف فيها ووقوع التغيير حتما.
واعلم أن ما أصاب التوراة والإنجيل من التغيير بسبب الترجمة لا يقل عما أصابها من التحريف والتبديل إذ بالترجمة قد يصير المجاز حقيقة والمتشابه محكما كلفظ الأب والابن وغيرهما مما سنأتي على بيانه في محله إن شاء الله وهذا مما سبب ضلال الكثيرين من اليهود والنصارى ولا حول ولا قوة إلا بالله، لأن المترجم مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يترجم كل لفظ بمثله بل يحتاج غالبا لأن يفسر بعضه بمعناه لضيق بعض اللغات عن بعضها وعدم تساوي الحروف بالنطق، أما ترجمة النبي فلا مقال فيها لأنها من قبيل المعجزة فلا يقاس غيره عليه، فإذا كان المترجم لم يبلغ حد الكمال فيما يترجمه فلا بد أن يخطىء ومن هنا يظهر لك حقيقة ما قلته على فرض ان المترجم معلوم وموثوق به دينا وأمانة، أما إذا لم يكن معلوما فكيف يوثق به أو لا تخلو ترجمته من الدس وهو ما يوجد فيها من التناقض كوصف الله تعالى في أسفار العهد القديم بما لا يليق بحضرته المقدسة من نسبة الجهل والنوم (تعالى عن ذلك) فقد جاء في سفر الخروج ان موسى عليه السلام تبنته بنت فرعون مع أن القرآن يثبت أن التي تبنته زوجته آسية بنت مزاحم رحمها الله، وجاء فيه أيضا أن هارون هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل مع أن القرآن يعزوه للسامري، ومات نبي الله هارون من ذلك، وجاء في التوراة رمي، بعض الأنبياء في الكبائر المنافية لحسن الأسوة، المجرئة على الشرور والمفاسد، حتى وصموا سيدنا لوطا بزواج ابنتيه مع أن الأنبياء معصومون من كل شيء، ومنها أن التوراة التي بيد اليهود تخالف التي بيد النصارى، وأن الأناجيل الأربعة المعتبرة لدى النصارى
وقال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الآية ١٦٢ من سورة النساء ج ٣. والآيتين بعدها أيضا، إذا أسس الدين لا تختلف لأن الله تعالى لا يتصور أن يرسل نبيا بشريعة ويرسل الآخر بضدها من حيث الأصول الثلاث التي هي ١- الاعتراف بالإله الواحد. ٢- الاعتراف بالنبوة. ٣- الاعتراف باليوم الآخر. أما الفروع فتكون على ما يناسب البشر بأدواره ويصلح لكيانهم ويوافق المجتمع. وليعلم أن الله تعالى كما مدح القرآن مدح التوراة بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) الآية ٤٧ من سورة المائدة ج ٣. وكذلك مدح الإنجيل بقوله: (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الآية ٤٩ منها، والزبور أيضا لأن التنكير في الآية الأولى والتنوين يدلان على التعظيم، وهناك آيات كثيرة في ذلك أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا، إذا فالكتب السماوية كلها مصدقة لبعضها فلا يعقل أن يكون فيها خلاف ما في أصل العقيدة وأصول الدين، أو مما يؤدي إلى التكذيب لبعضها، أو بما يصم الأنبياء لأنه كفر عند سائر الملل.
مطلب مدح الكتب الأربعة وصدق الرسالة:
فما جاء في إنجيل لوقا ص ١٨ آية ١٩ وص ٢ مما يدل على أن العذراء متزوجة وعدم مقابلة المسيح لها عند مجيئها لزيارته، وحاشاها وهي المبرأة المصونة الطاهرة وحاشاه وهو الرسول الكريم على ربه أن يصدر منه ما يهين البتول أمه الزكية، وان القرآن يوصي بالإحسان إلى الوالدين، ويفضل العذراء على نساء العالمين، وما
وما كل مخضوب البنان (بثينة) | ولا كل مصقول الحديد يماني |
أكل امرئ تحسبين امرأ | ونارا توقد بالليل نارا |
وقال (جسيون) القرآن مسلم به من حدود الاوقيانوس الاتلانتيكي إلى نهر الجانج بأنه الدستور الاساسي ليس لأصول الدين فقط بل للأحكام الجنائية والمدنية وللشرائع
هذا وقد لخص خبر نزول الوحي على محمد صلّى الله عليه وسلم من كتب اسلامية مذعنا بصحتها، ونقلها بعده المستشرق الإفرنسي (أميل درمنغام) ويكتب بالصحف المصرية در منجيم) - في كتابه حياة محمد مذعنا بصحة الرواية وبوضوحها شارحا تأثير نبوته في إصلاح البشر متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى، آسفا للشقاق بينهم.
وقال الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي ص ٧٣ في اثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: درس علماء الإفرنج سيرته فأجمعوا على هذه النتيجة (ان محمد كان سليم الفطرة كامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق، غير طموح بالمال ولا جنوح إلى الملك ولم يعن بما كان يعن به قومه من الفخر والمباراة من ارتجال الخطب وقرض الشعر، وكان يمقت ما كان عليه قومه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمية كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت من سيرته وبعثته بعد النبوة، جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد إكمال الأربعين من عمره من رواية ملك الوحي واقرائه إياه هذا القرآن وإثباته بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر البشر).
وقال الدكتور الأميركي كارلو (محمد خير طبيب، ودينه الإسلام يأمر بالوقاية قبل المرض، وقد ظهر ذلك في الصيام وفي صلاة التراويح التي يقوم بها المسلمون بعد الإفطار في كل يوم من رمضان، إذ أن لهذه العملية الرياضية فائدة كبرى في هضم الطعام).
هذا واني لم أذكر هذه الفقرات من أقوال الأجانب التي هي قليل من كثير إلا بمناسبة ذكر الكتب الأخرى، والا فقد ذكرت قبلا أني استغنيت عن ذكر ت (٤)
المطلب الثاني عشر في الوحى وكيفية نزوله ومعناه وأوله والرؤيا الصادقة ومعناها
مطلب الوحي وتفرعاته اعلم فقهك الله ان جمهور المفسرين أجمعوا على أن أول ما نزل من الوحي خمس آيات من أول سورة العلق، ولا عبرة بمن شذ عن هذا الإجماع، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه أنه قال وتعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل به خمسا خمسا، واخرج ابن عساكر من طريق آخر نظيره وما بمعناه، وهذا على الغالب وإلا فقد نزل أقل وأكثر كما سنذكره علاوة عما سبق في المطلب الثامن في موضعه، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: أول ما بدأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. (والرؤيا صور حسية في الخيال تذهب الآراء والأفكار في تعبيرها مذاهب شنى قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك مصر التي عبرها سيدنا يوسف عليه السلام، ورؤيته هو في صغره وقد ظهرت بعد كما قصها الله علينا، وسيأتي بيانها مع بحث مسهب في الرؤيا في تفسير الآية ٥ من سورة يوسف وفي الآية ٣ منها فما بعدها أيضا).
ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتخث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها (أي تلك الليالي) حتى جاءه الوحي، وفي رواية حتى فاجاءه وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني (ضمني وعصرني، والحكمة في ذلك أن لا يشتغل بالالتفات إلى غيره ومبالغة في تصفية قلبه ولهذا كررها ثلاثا) حتي بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني
بمثل ما جئت به إلا عودي، وان يدركني يومك [أي يوم يخرجك قومك عند ادعائك النبوة] أنصرك نصرا مؤزرا [قويا معززا] ثم لم يلبث ورقة أن توفي [أي قبل ظهور الدعوة].
وفتر الوحي، زاد البخاري قال: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى [أي يوقع نفسه] من رؤوس شواهق الجبال، فلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منه تبدّى [أي ظهر عيانا] له جبريل، فقال:
يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه [قلبه وما ثار من فزعه وهاج
مطلب أول ما نزل من القرآن وروى البخاري ومسلم عن يحيى بن كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ) قلت يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قال أبو سلمة: سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل ذلك فقال لي:
لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله قال: جاورت بحراء شهوا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني وصبوا علي ماء باردا [فيه أن من يفزع ينبغي أن يصب عليه الماء البارد ليسكن خوفه] فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وذلك قبل أن تفرض الصلاة، وفي رواية فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه وقال: فإذا هو قاعد على عرش في الهواء (يعني جبريل) فأخذتني رجفة شديدة [والمراد بالعرش هنا السرير والكرسي المبين في الحديث الآتي] ورويا عن جابر في رواية الزهري عن ابن سلمة رضي الله عنهما قال سمعت: رسول الله يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فجئثت [بجيم مضمومة وهمزة مكسورة وتاء ساكنة وتاء مضمومة وروي بتاءين ومعناه رعبت وفزعت] منه رعبا، فقلت زملوني زملوني، فدثروه فأنزل الله عز وجل:
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قال ثم حمى الوحي بعده وتتابع.
واعلم ان هذين الحديثين لا يتعارضان مع حديث عائشة المتقدم ذكره بأن أول ما نزل مبادئ سورة اقرأ، لأن ما جاء في هذين الحديثين من أن أول سورة نزلت هي المدثر لا يصح، لأن قوله في الحديث الأول وهو يحدث عن فترة الوحي
وإنما ابتدئ صلّى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك. بصريح النبوة، فلا تتحملها قواه البشرية، فبدأه بعلامتها. توطنة للوحي، وإرهاصا إلى مقدمات النبوة.
مطلب معنى الإرهاص والوحي ومأخذ الشفرة والإرهاص معناه هنا الإثبات، يقال: ارهص الشيء إذا أثبته وأسسه على طريق المجاز.
فهذه المقدمات التي تأتي الرسل من الرؤيا الصادقة والكشف والفراسة في الأمور، أي التوسم بها- راجع الآية ٧٥ من سورة الحجر في ج ٢ تجد معناها-.
وتخيل المعاني قبل وقوعها، إثبات لنزول الوحي الالهي وأساس للمنزول عليه ليقوى جنانه ويأخذ ما يتلقاه من الوحي بعزم وحزم، وليعرفه حقا انه من الله دون تطرق لشك أو ظن أو وهم. تدبر هذا.
نظرت إليها نظرة فتحيرت | دقائق فكري في بديع صفاتها |
فأوحى إليها الطرف أني أحبها | فأثرّ ذاك الوحي في وجناتها |
أشارت بطرف العين خيفة أهلها | اشارة محزون ولم تتكلم |
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا | وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم |
لو يسمعون كما سمعت كلامها | خرّوا لعزّة ركعا وسجودا |
الله جل جلاله إِلى عَبْدِهِ)
جبريل عليه السلام (ما أَوْحى)
به إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر الآيات فما بعدها من سورة النجم الآتية. روي عن أبي هريرة ان النبي صلّى الله عليه وسلم قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وانما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة متفق عليه- قال الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد إحدى مؤلفاته القيمة بعد تعريف الوحي لغة مانصه: وقد عرفوه شرعا بأنه اعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. وقال الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي: انه (أي الإلهام) عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.
والثاني الإلهام وهو وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلبه من غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور، وهذا الفرق بين الوحي والإلهام فيدخل في هذا التعريف أنواع الوحي الثلاثة الواردة في قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) الآية ٥١ من سورة الشورى ج ٢. لاشتمالها عليها فالوحي هنا إلقاء المعنى في القلب ويعبر عنه بالنفث بالروع (أي النفخ الشديد بالقلب والخلد والخاطر) والكلام من وراء حجاب هو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه كما سمع موسى نداءه من وراء الشجرة والذي يرسل به الرسول جبريل، هو الذي بلغه الملك إلى الرسل فيرونه متمثلا بصورة رجل أو غير متمثل ويسمعه منه أو يعيه بقلبه وهذا قبل التفرقة بين الوحي والإلهام يسميه البعض الوحي النفسي أي الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية اه بتصرف.
ثم قال وقد اشتبه بعض علماء الافرنج بنبينا عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء. فقالوا: ان محمدا يستحيل أن يكون كاذبا فيما دعى الناس إليه من الدين القويم والشرع العادل والأدب السامي وحوّره من لا يؤتى بعالم الغيب منهم أو لا يؤتى باتصال عالم الشهادة أي لا يؤمن ولا يصدق بشيء من ذلك لأنه مادي لا يركن إلى غير المحسوس المشاهد ولا يطمئن إلا بما يعاين لأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيّلته السامية وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلا له فانتقش كلامه بصدره ووقع على سمعه فوعى ما حدثه الملك به، فظهر في هذا أن الخلاف بيننا وبين الافرنج الذين لا يوقنون بعالم الغيب ولا يصدقون باتصال عالم الشهادة في كون الوحي الشرعي من خارج نفس النبي نازلا عليها من السماء كما نعتقد لا من داخلها فائضا منها كما يظنون وفي ملك روحاني مستقل نزل من عند الله عليه صلّى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ
الخاتمة نسأل الله حسنها
اعلم أجارك الله وعصمك من كل مكروه، أن الإنسان دائما معرض لنزغات الشيطان ووسوسته في كل حال من أحواله الدينية والدنيوية ولذلك أمر الله عباده أن يلتجئوا إليه منه وخاصة عند الشروع في عبادته لتكون خالصة لجنابه طيبة لمقامه ولا يقبل إلا الطيب فأوحى لرسوله في جملة ما أوحى إليه (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الآية ٩٨ من سورة النحل في ج ٢. وقال عز قوله (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الآية ٢٦ من سورة فصلت ج ٢، والآية ٥٦ من سورة عاقر (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ... فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في ج ٢. فإذا امتثل الإنسان هذا الأمر أعاذه الله وأدخله في قوله تعالى (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) الآية ٤ من سورة الاسراء الآتية ومثل آية فصلت المارة الآية ١٩٩ من سورة الأعراف الآتية. فيكون المستعيذ في كنف الله ورعايته يسدده إذا مال ويقومه إذا اعوج ويؤمنه إذا خاف ويرشده إذا ضل ويؤازره إذا ذل ويكون معه في كل أحواله فينصرف بكليته إليه ويذكره خاليا عما سواه ليذكره من في السماء وذلك ما يبتغي وفيه قال:
وساعة الذكر فاعلم ثروة وغنى | وساعة اللهو افلاس وفاقات |
وكذا العبادة فهي لهو أو ريا | ما لم تحصل طاعة الخلاق |
مطلب منى يكون الأمر واجبا وتذكير بعدوه الباغي الفاجر لأبينا آدم عليه السلام وتهديده لذريته بالإغراء إلى اليوم الآخر وقطع بأنه لا يقدر على حفظه من إغوائه غير ذلك الرب الذي التجأ اليه من شره لعنه الله، وحكم الاستعاذة شرعا على قول جمهور العلماء أنها سنة مستحبة في الصلاة وغيرها، وقال عطاء بوجوبها للأمر بها في الآيات المارات، ولمواظبة الرسول عليها، ودليل الجمهور على سنيتها عدم تعليمها للأعرابي في جملة أعمال الصلاة، ومواظبة الرسول عليه السلام لا تقتضي الوجوب على لجملة، لأنه واظب على أشياء كثيرة ليست بواجبة على أمته كتكبيرات الزوائد في العيدين والتسبيحات في الركوع والسجود وصلاة الليل وقيامه وغيرها، والأمر في القرآن قد لا يكون واجبا حتى إذا كان معلقا على فعل آخر كما في تلك الآيات لأن المعنى فيها إذا أردتم القراءة فاستعيذوا كما في قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) أي إذا أردتم القيام إليها لا مطلقا وإلا لوجب الوضوء دون إرادة الصلاة وليس كذلك، فالأمر الذي ينصرف للوجوب من كل وجه هو الذي لم يقيد ولم يخصص ولم يعلق على غيره كقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أما إذا وجد الصارف عن الوجوب أو ارتبط الأمر بغيره فلا يكون واجبا في كل حال كما في آيات الاستعاذة والوضوء المارات وسيأتي تفصيله في تفسير آية الوضوء/ ٧/ من المائدة في ج ٣ وما يماثلها من السور الأخرى هذا.
واعلم أن ما روي من انه صلّى الله عليه وسلم، كان يأمر بكتابة باسمك اللهم، إلى أن نزلت (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية/ ٤١/ من سورة هود في ج ٢، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ) واستمر إلى أن نزلت (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ) واستمر حتى نزلت آية النمل المذكورة آنفا، فأمر بكتابة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لا وجه له من الصحة، لأن سورة النمل نزلت قبل سورة هود، وقبل الإسراء، اللتين فيهما (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) وقال (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) وسورة الإسراء نزلت قبل هود، فكيف يصح الاستدلال بهذا الحديث، مع ثبوت عدم نزول الآيات المذكورة على الترتيب المبين فيه (تدبر).
ومن هذا يتضح لك أن البسملة هذه من خصائص الأمة المحمدية فقط، وقد ذكر العلماء أوجها كثيرة، في أن البسملة: هل هي آية مستقلة أو آية من الفاتحة فقط، أو في كل سورة، واستدلوا بأقوال متضاربة وأحاديث متباينة، ضربت عنها صفحا لعدم ثبوت صحتها ثبوتا يصح الاعتماد عليه.
والصحيح الذي اعتمدته هو أن البسملة آية منفردة، قد أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا وللفصل بينها، يؤيد هذا ما رواه الثعلبي عن أبي بردة عن أبيه قال:
(قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد) بعد سليمان بن داود غيري، فقلت: بلى، قال: بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة، فقلت: (ببسم الله الرحمن الرحيم) قال: هي هي، وما روى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبّي بن كعب:
ولأن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدّفتين كلام الله، فلو لم تكن البسملة منه لما أدخلوها فيه، ولم تجمع الصحابة على نسخ المصاحف وتدوينها فيها، كما هي عليه الآن، وحرق ما سواها مما قيل أنه قرآن، ومنع الناس من تلاوة غيرها لتوحيد القراءة، ودفع ما يقع من الاختلاف فيها حسب لغات العرب، إلا لتجريد كلام الله عما سواه خوفا من أن يزاد فيه أو ينقص منه، ألم تر أن لفظة آمين مع كثرة الأحاديث الواردة فيها والمواظبة على قراءتها مع الفاتحة في الصلاة، وغيرها من لدن حضرة الرسول فمن بعده متواترة. لم تكتب في القرآن لأنها ليست منه، ويرد الأقوال والأحاديث الواردة بأن البسملة آية من الفاتحة أو كل سورة ما ثبت بالأدلة القطعية المتقدمة بأن أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ولم تذكر البسملة معها.
وما روي عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم من أن سورة الملك ثلاثون آية والكوثر ثلاث آيات والإخلاص أربع آيات فلو كانت البسملة آية منهنّ لكانت الأولى ٣١ والثانية ٤ والثالثة ٥ لأن القرآن لا يثبت إلا بتوقيف من الشارع أو بالتواتر والاستفاضة أما معناها فالاسم مشتق من السموّ أي الرفعة والعلو، يقال سمّو الأمير، ويريدون علو شأنه ورفعة قدره، والجار متعلق بفعل مقدر تقديره، أبتدئ تبركا باسم (الله) الواجب الوجود المنزه ذاته عن الكيفية والكمية، المتبرك به في جميع الأحوال ولا يطلق هذا اللفظ على غيره تعالى البتة، وتفخّم لامه بعد فتح أو ضم ما قبلها، وقيل مطلقا، ومن صفاته (الرحمن) الذي وسعت رحمته كل شيء، يرحم المؤمن والكافر والبر والفاجر ولا يجوز أن يوصف به غيره، ولا يسمى به معرف، وما قيل في مسيلمة الكذاب: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا...
فمن تعنته وكفره بادعائه النبوة.
وقيل الممنوع المعرف فقط فلا يجوز أن تسمي أحدا أو تصفه بالرحمن، ومن
الحكم الشرعي في البسملة الحكم الشرعي هو انها سنة مؤكدة في الصلاة والقراءة والأكل والشرب واللبس والأخذ والعطاء وغيرها، أما في أجواء ما يخالف الشرع وسائر المنكرات فالأدب الاحتراز عن ذكر الله عند تعاطيها، قال عليه الصلاة والسلام: (كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله فهو أبتر) الحديث، أي ناقص وقليل البركة، وقد أجمع قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها بانها ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها كما قدمناه وبهذا أخذ أبو حنيفة ومالك استدلالا بالحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل) أي الفاتحة لأنها ثناء له ومعونة ودعاء لعباده، وقد بدأ صلّى الله عليه وسلم صلاته بالحمد لله فلو كانت البسملة منها لما تركها وبحديث انس المخرج في الصحيحين وحديث عائشة رضي الله عنهما من أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، فلو كانت البسملة آية منها لبدأ بها، وقال قراء مكة والكوفة أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وأخذ بها الشافعي وأحمد بن حنبل استدلالا بقول ابن عباس عند قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الآية ٨٧ من سورة الحجر في ج ٢ بأنها أي السبع المثاني فاتحة الكتاب، قيل فاين السابعة قال هي (بسم الله الرحمن الرحيم)، أخرجه خزيمة عنه وقوله من ترك البسملة فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن ولعده إياها آية من القرآن حينما سئل عنها، وبما روت أم سلمة ان النبي صلّى الله عليه وسلم قرأها أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية من الفاتحة، وهذا كله لا يؤيد كونها آية في القرآن العظيم في كل سورة أو في الفاتحة وليس بشيء تجاه ما تقدم، لأن عدّ
وأما قول من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن فهو موقوف عليه، بل هو قول مجرد عن الدليل ولم يعرف روايه عنه، وان ما روي عن أم سلمة لم يوجد في المشهور وان حديثها هذا مروي عن أبي مليكه ولم يثبت سماعه عنها وبتقدير سماعه فرضا بسبب المعاصرة فيمكن أنها عنت به قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم المروية بطرق متعددة وألفاظ متقاربة يوجد في بعضها ما لم يوجد في الاخر كما هو مسطور في روح المعاني للآلوسي رحمه الله في ج ١ ص ٣٥- ٣٦ وقد ذكرت بعض منها على طريق التمثيل ولم استوعبها، وما جاء في صدر حديثها لا يعارض ما اخترناه لأن قراءته ﷺ البسملة أول الفاتحة لا يعني أنها آية منها كما أن الحديث الذي أخرجه ابن خزيمة عن ابن عباس والذي رواه الدارقطني عن أبي هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلم إذا قرأتم (الحمد لله) فاقرؤا (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها لم تعارض بما ذكرناه ولم تقابلها من حيث الصحة وقوة الرواية (تدبر) هذا وقد ذكرنا ما به الكفاية في ذلك وأسهبنا البحث في البسملة لكثرة اختلاف العلماء فيها حتى أن الإمام أبا بكر بن خزيمة صاحب الصحيح والحافظ أبا بكر الخطيب وأبا عبد الله وغيرهم أفردوا لها مؤلفا على حده.
مطلب الفرق بين الحمد والشكر وفضلهما ومتى يطلبان
واعلم أنه كما يجوز الابتداء بالبسملة يجوز الابتداء بالحمد له وهي «الحمد لله» فالحمد هو الثناء بالوصف الجميل على الفعل الاختياري وتصحيفه المدح وهو الثناء على الجميل من نعمه أو غيرها اختيارا كقولك حمدت الرجل على أنعامه وعلمه ومدحته على شجاعته
افادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجبا |
إذا كان شكري نعمة الله نعمة | عليّ له في مثلها يجب الشكر |
الحكم الشرعي وجوب الحمد والمدح والشكر بمقابلة النعمة، وسنّة في سائر الأوقات بحق الخلق. أما للخالق فواجب في كل حال، لتمادي نعمه على خلقه، ولأنه المستحق لجميع المحامد، أزلا وابدا، وبما أن هذا البحث من الاستعاذة إلى هنا، قد يأتي مكررا في القرآن العظيم، فلا نتكلم بشأنه فيما بعد اكتفاء بتفسيره هنا.
هذا، وقد آن لنا أن نشرع في المقصود ومن الله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق، فأقول متلبسا بلطف الله وعطفه.
لما كان مراد الله تعالى من خلق خلقه عبادته والاعتراف بوحدانيته ليس إلا لقوله عز قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من الذاريات في ج ٢، وكانت المخلوقات الأرضية بأسرها عدا من اختصه الله شريرة بالطبع، بحيث لو تركت وشأنها، لأكل القوي الضعيف، واسترق الوضيع الشريف، واستخدم الغني الفقير، وذل التقي واعتز الشرير، وطأطأ العاقل، وتطاول الجاهل، ولم يقف عند هذا الحد، بل لساقه بغية لمناوأة بإرثه، ولقضت له أنفته لقتال مرشده كفرعون وهامان ونمرود ومن تقدمهم من أهل إرم وعاد وثمود، ولنهض به طغيانه إلى عبادة غير خالقه من الأصنام والأوثان والملائكة والكواكب والنار والحيوان، وقد جرت عادة الله تعالى في كونه، انه كلما فسد ما فيه من الخلق المكلف بعبادته، أرسل إليه من يرشده ويصلحه رحمة به وإبقاء لبقائه حتى استكمال أجله المقدر له في علمه عند خلقه. وقدّر له الرقي والفوز في ملكوته ليسير في ملكه وليعلم أهم قادرون بقدرته على استخراج ما أودعه فيه، فيرفعه هذا المرشد من مستوى الرذيلة إلى علو مراتب الفضيلة، حتى إذا أصرّ على عناده هبط به إلى حضيض الخسة وأهلكه بعذاب لا مرد له منه، قال تعالى (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا) الآية ٢٤ من سورة يونس ج ٢. وقد اطّردت عادة جل هذا البشر أن لا يتعظ بالآيات ولا يتأثر بالمعجزات وينسى ما أوقعه الله بالكافرين أمثاله من عذاب الاستئصال،
وما سمي الإنسان إلا | لنسيه ولا القلب إلا انه يتقلب |
مطلب ولادة محمد صلّى الله عليه وسلم
ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم عام الفيل ٢٩ أغسطس سنة ٥٧٠ من ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام وقيل في ٢٠ نيسان سنة ٥٧٠ والأول أكثر حجة كما في الصفحة ١١٨ من مقدمة الأستاذ فريد وجدي المسماة صفوة القرآن، وفي ترجيح لقول الأخير نظر إلى ولادته في ربيع ونيسان من أشهره، ولكن هذا غير مطرّد في نكاح صحيح ونسب طاهر. وظهر لولادته خوارق وغرائب وعلامات، منها رسال الأبابيل على أبرهة المذكور وحماية بيته منه، وإخماد نار فارس، وانصداع ديوان كسرى، ونضوب ماء عين ساوة، عدا ما رأته أمه من الكرامات في حمله وولادته، وما رأته مرضعته مدة رضاعه وغيرها، مما لا محل لذكره هنا، وقد نشأ نشأة تبرهن للعالم أجمع بأنه صلّى الله عليه وسلم هو المختار لإصلاح هذا الكون وأهله والمجدد لعصور الأنبياء بالإرشاد، ونشل العالم من كبوته، وقد ترعرع بين قومه فأحبوه وعظموه ونسبوا إليه كل فضل حتى انهم لقبوه بالأمين، وقد أراه الله من الإرهاصات الدالة على نبوّته عيانا، وأراه الرؤيا الصادقة تبيانا، وصار يتعبد بما يلهمه ربه وحبب إليه الخلاء، فاعتزل قومه إلى غار حراء كارها ما هم عليه من عبادة الأوثان وغيرها من العادات القبيحة الجاهلية، ومن هنا نشأت عداوة قومه له ولم يزل حتى شرفه الله بالنبوة والرسالة وأنعم عليه بالقرآن المجيد، وأول ما بدىء به بعد ما رأى من مقدمات الوحي الرؤيا الصادقة مدة ستة أشهر في مطلع سنة ٤٦ من ميلاده الشريف أوائل سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) كما تقدم، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة تقريبا فتكون الستة أشهر جزءا. منها، وكان مبدأ النزول في غار حراء يوم الجمعة في ١٧ رمضان من ميلاده الموافق سنة ٦١٠ من ميلاد عيسى عليهما الصلاة والسلام، ولذلك ابتدأت هذا الكتاب في تفسير سورة العلق التي أولها تلك الآيات الخمس النازلة عليه جريا على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
ت (٥)
والحكم الشرعي أنه يجوز النفخ في الرقى والتعاويذ الشرعية المستحبة بدليل حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات. وأما التفل فهو منكر. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت؟ قال نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك.
وجاء في حديث آخر، جواز أخذ الأجرة على الرقيا. وقالوا إن العين والحاسد يشتركان في أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تريد أذاه إلا أن المعاين تتكيف نفسه عند مقابلة المعيون، والحاسد يحصل حسده في الحضور والغيبة وقد مر بحث إصابة العين آخر سورة القلم وكررت كلمة الحسد في الآية ١٠٩ من البقرة والآية ٥٣ من النساء والآية ١٥ من الفتح فقط. هذا، والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين.
تفسير سورة الناس عدد ٢١- ١١٤
نزلت بمكة بعد الفلق، وهي ست آيات، وعشرون كلمة، وتسعة وسبعون حرفا.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ١» أي كما أمرناك أن تستعيذ برب الفلق فاستعذ برب الناس وحافظهم مما يضرهم مادة ومعنى، وهو «مَلِكِ النَّاسِ ٢» ومالك أمرهم ومدبر أمورهم وقد وصف جل شأنه نفسه بأنه رب الناس، لأن الرب قد يكون ملكا، وقد لا يكون ملكا، فنبه جل شأنه على أنه ربهم. ثم ان الملك قد يكون إلها وقد لا يكون، فنبه على أنه «إِلهِ النَّاسِ ٣» وأن الإلهية الحقيقية خاصة به، وكرر لفظ الناس لشرفهم على غيرهم من خلقه، وكما ينبغي التعوذ من الناس وأقوالهم وأفعالهم، ينبغي التعوذ أيضا «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ» الشيطان ومعنى الوسواس والوسوسة الصوت الخفي والهمز، وقد وصفه بقوله «الْخَنَّاسِ ٤» أي الرجاع
وكان صلّى الله عليه وسلم يحتجم من بين الكتفين ويأمر بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كما مر في الحديث، وقال بعض العارفين أراد برب الناس الأطفال لان معنى الربوبية يدل عليه وبملك الناس الشباب لأنّ لفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه، وبإله الناس من الشيوخ لان لفظ الإلهية المنبئ عن العبادة يدل عليه، وبالذي يوسوس إلخ الصالحين لان الشيطان يطمع بإغوائهم وبمن الجنة والناس المفسدين لعطفه على المعوذ منه فهم أكثر من غيرهم لقرب لحوقهم به. اخرج مسلم والترمذي والنسائي ان رسول الله قال أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وجاء عن عائشة ان رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات (الإخلاص، والفلق والناس) وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيديه رجاء بركتهما، أخرجه مالك في الموطأ وللبخاري ومسلم بمعناه، وروى البخاري ومسلم أن رسول الله كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ المعوذات ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثا.
هذا وما قيل أنه صلّى الله عليه وسلم سحر من قبل اليهود في المدينة وصار يتعوّذ بهما ولم يزل حتى برىء، فبعيد عن الصحة، لأن هاتين السورتين نزلنا بمكة في أوائل البعثة ولا خلطة له ولا مراجعة مع اليهود حتى يغتاظوا منه فيسحروه وكيف يسحر وهو معصوم بعصمة الله، وقد نفى الله عنه وصفه بالسحر وحماه من السحرة وغيرهم، وعليه فكل ما ورد في هذا لا عبرة به ولا قيمة لناقليه البتة، وما قيل أن المعوذتين نزلتا بالمدينة لا صحة له، لأن القول المعتمد أنهما مكيتان وأن تعوذه بهما استدار للأمر به من سحر وعين وحسد وغيرها له ولأمته الى يوم
مطلب في السحر وعدم وقوعه على الأصول:
وكل ما نقل في هذا مطعون فيه. والسحر حق لا ينكر وقوعه ولا يجوز نفيه لوروده في القرآن ووروده أنه مما يتعلم وأنه مما يكفر فيه وأنه مما يفرق بين الناس كما سيأتي في سور كثيرة من القرآن، فلا يمكن القول بعدم حقيقة السحر ومذهب أهل السنة والجماعة على ثبوته وأن له حقيقة كغيره من الأشياء الثابتة، ولا يستنكر عقلا لأن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام مغلق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى لا يعرفها الا الساحر، فإنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله القائل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من سورة الصّافات في ج ٢ فما يقع من الساحر عبارة عن عادة أجراها الله على يد من شاء من عباده، وأن كل ما يقع في الوجود بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالرقي والتعوذ من قضاء الله وقدره، يدل على هذا حديث عائشة المتقدم وحديث اسماء الذي ذكرناه آخر سورة القلم المارة وفيه بحث نفيس فراجعه، وما رواه الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله فقلت يا رسول الله أرأيت رقيا نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟
قال هي من قدر الله. وقال عمر نفر من قدر الله الى قدر الله، وزعم بعض المبتدعة أن ما جاء في حديث عائشة المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلم من أن النبي صلّى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل اليه أنه يضع الشيء ولم يضعه إلخ. يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وتجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهو كذلك فيما يتعلق بالدين فقط لأن الدلائل العقلية والنقلية قامت على صدقه صلّى الله عليه وسلم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة على ذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، أما ما يتعلق بأمور الدنيا مما يعرض للبشر عادة فغير بعيد أنه يخيل اليه حال مرضه من أمور الدنيا مالا حقيقة له، مثل ما يتخيل الإنسان في المنام، إذ أنه ورد في رواية البخاري أنه كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن يبعد أن يتخيل مثل هذا في اليقظة حال المرض من حيث لا حقيقة له ومن قال أنه صلّى الله عليه وسلم سحر أراد هذا المعنى