ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة تفسير الراغب الأصفهانيبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله على آلائه، وصلى الله على النبي محمد وأوليائه، ونسأله أن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن أسبل عليه نور عصمة الأنبياء، وحصن قلوبهم بطهارة النقاء، إنه لطيف لما يشاء، قال الشيخ أبو القاسم الراغب رحمه الله تعالى:القصد في هذا الإملاء إن نفَّسَ الله في العُمْر، ووقانا من نُوَبِ الدَّهْرِ، وهو مرجوٌّ أن يُسٌعِفنا بالأمرين أن نبين من تفسير القرآن وتأويله نكتاً بارعاً تنطوي علتى تفصيل ما أشار إليه أعيان الصحابة والتابعين ومنْ دُونَهُمْ من السلف المتقدمين رحمهم الله - إشارة مجملة، نبين من ذلك ما ينكشفُ عنه السر ويُتلّجُ به الصدر، وفقنا الله لمرضاته برحمته وجعل سعينا مسعوداً وفعلنا في الدارين محموداً، فمنه يُستحلاب مبداُ التوفيق ومنتهاهُ.
(فُصُولٌُ لاَبُدً مِنْ بَيَانِهَا فِيِ مبُتْدَاِ الكْتِاَبِ)
" فصل " في بيان ما وقع فيه الاشتباه من الكلام المفرد والمركب "
الكلام ضربان: مفردُ ومركبُ، فالمفرد المسمى بالاسم والفعل والحرف وذلك بالوصع الاصطلاحي سُمي بذلك، فأما بالوضع الأول، فكله يسمى اسماً، ويحق إن صار ثلاثة أقسام، فإن الكلام إما أن يكون مُخْبّراً عنه وهو الملقب بالاسم، وإما خبراً وهو الملقب بالفعل، وإما رابطاً بينهما وهو الملقب بالحرف، والقسمة لا تقتضي غير ذلك، وما كان من الخبر نحو " فَاعل " و " مفُعَلٌ " والبصريون يسمونه إسماً اعتباراً بأحكامٍ لفظية، لأنه يدخله ما يدخل الأسماء من التنوين والجر وحروفه الألف والام، ويُخبِرُ عنه، والكوفيون يسمونه الفعل الدائم.
ويجب أن يُعلم أن للفظ مع المعنى خمس أحوال، الأول: أن يتفقا في اللفظ والمعنى، فيسمى " اللفظ المتواطئ "، نحو " الإنسان " إذا استُعمل في " زيد " و " عمرو ".
الثاني: أن يختلفا في اللفظ والمعنى، ويسمى المتباين نحو " رَجُلُ " و " فَرَسٌ "، والثالث: أن يتفقا في المعنى من دون اللفظ ويسمى: " المترادف "، نحو " الحُسَامِ " و " الصَّمْصَامِ ".
الرابع: أن يتفقا في اللفظ ويختلفا في المعنى، ويسمى: " المشترك " والمتفق، نحو " العيَْنِ " المستعملة في " الجارجة " و " مَنْبَع الماء " و " الدَّيْدَبَان " وغير ذلك..
والخامس أن يتفقا في بعض الألفاظ وبعض المعنى، ويسمى " المشتق "، نحو " ضارب " و " ضرب "، والذي يقع فيه الاشتباه من هذه الخمسة: " الألفاظ المشتركة "، و " الألفاظ المتواطئة ": هل هي عامةٌ أو خاصةٌ، و " المشتقة " مما اشتق! كقولهم: " النبي "، و " البرية " منهم من قال: من " أنبأ، و " بَرَأ "، فترك الهمزة، ومنهم من قال: من النبوة، وهي الرَّبْوة، ومن " البْرَىَ " وهو: الترابُ..
(فصل في أوصاف اللفظ المشترك)
اللفظ إنما يحصل فيه التشارك بأن يستوي اللفظان في ترتيب الحروف وعددها وحركاتها، ويختلفا في المعنى نحو: عينٌ و " كلبٌ " إذا اختلف ترتيب الحروف نحو " حِلم " و " حمَل " أو
(فصل: الاشتراك في اللفظ يقع لأحد وجوه)
إما أن يكون في لغتين نحو " الصقر " للبن إذا بلغ الحموضة في لغة أكثر العرب و " الصقر " للدبس في لغة أكثر أهل المدينة، وإما أن يكون أحدهما منقولاً عن الآخر أو مستعاراً، والفرق بينهما: أن المنقول هو الذي ينقله أهل صناعة ما عن المعنى المصطلح عليه أولاً إلى معنى آخر قد تفردوا بمعرفته، فيبقى من بعد مشتركاً بين المعنيين وعلى ذلك الألفاظ الشرعية نحو الصلاة
والفرق بين حكم المنقول والمستعار أن المنقول شرطه أن يتبع فيه أهل تلك الصناعة والمستعار لكل أحد أن يستعير فيستعمله إذا قصد معنى صحيحاً، فيكون متضمناً لمعنى التشبيه نحو أن تقول: ركبت " برقاً "، فتعني به فرساً كالبرق سرعة، ورأيت بحراً، أي سخياً كالبحر، وأما المشتق: فشرطه أن يشارك المشتق منه في حروفه الأصلية ويوجد فيه ببعض معناه، ويخالفه إما في الحركات نحو " ضَرَبَ " و " ضُرِبَ " أو في الزوائد من الحروف نحو " ضَرَبَ " وضارب و " استضرب " أو في التقدير نحو " المختار " إذا كان فاعلاً أو مفعولاً وسائر ما تقدم.
فقد بان بهذه الجملة أنواع مفردات الألفاظ وما يقع فيه الاشتباه، وأما المركب من اللفظ: فما ركب من هذه الثلاثة، والتركيب على ضربين: تركيب يحصل به جملة مفيدة، وذلك: إما " من " اسمين أو " من " اسم وفعل، أو تقدير ذلك.
وتركيب لا يحصل به ذلك، ويكون إما من اسمين يجعلان اسماً واحداً، نحو خمسة عشر، وبعلبك، أو اسم مضاف إلى اسم نحو عبد الملك، أو اسم وفعل نحو: تأبط شراً، أو اسم وحرف نحو " سيبويه "، أو فعل وحرف نحو " هلم " أو حرفين نحو " إنما " أو من جمل الكلام، وذلك لا يكون إلا بحذف بعضها نحو " بسملة "، و " حيعلة "، و " حوقلة " في قولهم: بسم الله، وحي على الصلاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله - وجميع ما يقع فيه الشبهة من الكلام المركب لا يخلو: إما أن يكون لشيء يرجع إلى مفردات الكلام وذلك على
وَمَا مِثُلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً...
أَبُو أُمَّهِ حَيُّ أًبُوُه يُقَارِبُهْ
وعب ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
وأما من جهة الكمية، وذلك إما من جهة البسط في الكلام، أو من جهة الحذف والإيجاز، فما كان من جهة البسط فكقوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ الآية، وكقوله: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾.
وما كان من جهة الإيجاز والحذف، كقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وأما من جهة الإضافة، وذلك بحسب اعتبار حال المخاطب نحو قولك: أفعل في الطلب والشفاعة والأمر...
(فصل في الآفات المانعة من فهم المخاطب مراد المخاطب)
الآفات المانعة من ذلك ثلاثة: الأولى: راجعة إلى الخطاب، إما من جهة اللفظ، أو من جهة المعنى، وقد تقدم ذلك، والثانية: راجعة إلى المخاطب، وذلك لضعف تصوره لما قصد الانباء عنه، أو قصور عبارته عن تصوير ما قُصدِ الإنبتء عنه، وخطاب الله - عز وجل - منزه عنها.
والثالثة: راجعة إلى المخاطب، وذلك إما لبلاده فهمه عن تصور أمثال ذلك من المخاطبة، وإما لشغل خاطره بغيره، وذلك غن كان موجوداً في بعض المخاطبين بالقرآن، فغير جائزٍ أن يشمل كافة المخاطبين، إذ من المستبعد أن يكون الناس قاطبة لا يفهمونه.
وذلك ثلاثة أشياء حق العالم أن يعني بتهذيبها وسد الثُّلم المنبثقة عنها..
أحدها: وقوع الشبه من الألفاظ المشركة وقد تقدم.
والثاني: اختلاف النظرين من جهة الناظرين، وذلك كنظر فرقتى - أهل الجبر والقدر، حيث أعتبر أهل الجبر السبب الأول فقالوا: الأفعال كلها من جهة الباري - سبحانه " وتعالى " - إذ لولاه لم يوجد شيء منها، وقال أهل القدر: إن الممكنات من جهتنا، حيث اعتبرو السبب الأخير، وهو المباشر للفعل دون السبب الأول، والثالث: اختلاف نظر الناظرين من اللفظ إلى المعنى، أو من المعنى إلى اللفظ، وذلك كنظر الخطابي إلى اللفظ في إثبات ذوات الأشياء، ونظر الحكماء من ذوات الأشياء إلى الألفاظ.
وذلك نحو الكلام في صفات الباري - عز وجل - فإن الناظر من اللفظ وقع عليه الشبهة العظيمة في نحو قوله تعالى:
﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، وقوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾، وما يجري مجراه.
وأهل الحقائق لما بينوا بالبراهن أن الله تعالى واحدُ منَّزُهُ عن التكثر، فكيف عن الجوارح؟ بنوا الألفاظ على لذك، وحملوها على مجاز اللغة ومشاع الألفاظ، فصينوا عما وقع فيه الفرقة الأولى...
وقد تقرر أن أنواع الكلام المركب الخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي والطلب والشافعة، والوارد في كلام الله تعالى من ذلك: الخبر والأمر والنهي، وذاك أن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاستخبار وكل ما ورد من ألفاظ الاستخبار فعلى الحكاية أو على الانكار والتوبيخ، والمولى لا يطلب من عبده ولا يتشفع إليه.
فإذن هذه الثلاثة ساقطة من القرآن، والخبر: ما ينطلق عليه الصدق والكذب، وخاصيته أن يتعلق بالأزمان الثلاث.
والأمر والنهي لا ينطلق عليهما ذلك، ولا يتعلقان إلا بالمستقبل، وفائدة الخبر ضربان: أحدهما: إلقاء ما ليس عند المخاطب إليه ليتصوره نحو أمور الآخرة من الثواب والعقاب.
والثاني: إلقاء ما قد تصوره ليتأكد عنده.
وعلى ذلك جميع ما ورد في القرآن مما قد علم بالعقل مثل " الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ".
وفائدة الأمر والنهي شيئان: أحدهما: حث المخاطب على اكتساب محمود واجتناب مذموم، والثاني: حثه على الوجه الذي به يكتسب المحمود ويجتنب المذموم المقررين عند المخاطب، والغرض الأقصى من الخطاب الخبري: إيصال المخاطب إلى تالفرق بين الحق والباطل ليعتقد الحق دون الباطل.
ومن الأمر والنهي ان يفرق بين الجميل والقبيح، ليتحرى الجميل، ويجتنب القبيح، فكل خبر: فإما أن يكون معرباً عما يلزم اعتقاده، فيسمى " الخبر الاعتقادي " وذلك نحو ما ينطوي عليه قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإما أن يكون مبيناً عما يقتضي الاعتبار به، فيسمى " الخبر الاعتباري "، كأخبار الأنبياء وأممهم والقرون الماضية، والأخبار عن خلق السماوات والأرض.
وكل أمر ونهي: فإما أن يكون أمراً بما يقتضي العقل حسنه، ونهياً عما يقتضي العقل قبحه، فيسمى " الأوامر والنواهي العقلية "، أو أمراً بما تقصر عقولنا عن معرفة حسنه، ونهياً عما تقصر
والشرعي: ما يتسلط عليه النسخ والتبديل، بحسب ما يتعلق به من المنافع.
(فصل في كيفية بيان القرآن)
اعترض " بعض " الناص فقال: كيف وصُفَ القرآن بالبيان، فقال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾، وقال: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ وقال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، وقال ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾، وقد علُم ما فيه من الإشكال والمتشابه وما يجري مجرى الرموز، نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ وقد وصفه تعالى بالمتشابه وبأنه لا يعلم تأويله إلا هو؟ فالجواب أن البيان المشترط فيه إنما هو بالإضافة إلى " أعيان " أرباب أهل الكتاب لا إلى كل من يسمعه ممن دب زدرج، فقد علمنا أن ذلك ليس ببيان لمن ليس من أهل العربية، ثم أحوال أهل العربية مختلفة في معرفته.
ولو كان البيان لا يكون بياناً حتى يعرفه العامه لأدى إلى أن يكون البيان في الكلام السوقي العامي أو إلى أن لا يكون بياناً بوجه، إذ كل كلام بالإضافة إلى قوم بيان، وبالإضافة إلى آخرين ليس ببيان، وقد عُلمّ أن قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
فَاقْطَعْ لُبَانةَ مَنْ تَعرَّضَّ وَصْلُُ...
وقول الآخر:
وَمَا اْلَمرْءُ ماَدَامَتْ حشُاَشَةُ نَفْسه...
بُمْدِركِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ ولاَ أَلِ
من أفصح كلام ولا يعرفه جميع الأنام، ثم إن القرآن وإن كان في الحقيقة هداية للبرية، فإنهم لن يتساووا في معرفته، وإنما يحيطون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم.
فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المختص بفنه، وقد علم ان الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته في العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه، وعلى ذلك أخبار النبي - ﷺ -، ولهذا قال عليه السلام:
" نَضَّرَ الله أمُرءاً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا كَمَا سمَعِهَا حَتَّى يُؤدِيِها إلى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ مُبَلُغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ "..
(فصل في الفرق بين التفسير والتأويل)
الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عنه البول تفسيره، وتسمى بها قارورة الماء.
وجُعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار، فيقل: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح، وسفرت البيت إذا كنسته..
، والتأويل من آل يؤول:
وإما في كلام مُضمنٍ بقصة لا يمكن تصوره " إلا " بمعرفتها نحو قوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾، وقوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ الآية...
وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عاماً ومرة خاصاً، نحو " الكفر " المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة، و " الإيمان " المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفو نحو لفظة " وجد " المستعملة في الجدة والوجد والوجود.
والتأويل نوعان: مستكره ومنقاد: فالمستكره: ما يستبشع إذا سبُرّ بالحُجَّة، ويستقبح بالتدليسات المزخرفة الكزوجة " وذلك على أربعة أضرب:
الأول: أن يكون لفظ عام فيخصص في بعض ما يدخل تحته، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حمله بعض الناس على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقط.
والثاني: أن يلفق بين اثنين نحو قول من زعم أن الجيوانات كلها مكلفة محتجاً بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾، فدل بقوله " أمم أمثالكم " أنهم مكلفون كما نحن مكلفون،
فالأول: أكثر ما يروج على المتفقة الذين لم يقووا في معرفة الخاص والعام.
والثاني على المتكلم الذي لم يقو في معرفة شرائط النظم، والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار، والرابع: على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات والمنقاد من التأويل: ما لا يعرض فيه البشاعة المتقدمة، وقد يقع الخلاف فيه بين الراسخين في العلم إحدى جهات ثلاث: إما لاشتراك في اللفظ: نحو قوله تعالى:
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ هل هو من بصر العين، أو من بصر القلب؟ أو لأمر راجع إلى النظم نحو قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف، أو مردود إليه وإلى المعطوف عليه معاً؟ وإما لغموض المعنى ووجازة اللفظ، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ والوجوه التي يعتبر بها تحقيق أمثالها أن ينظر: فإن كان ما ورد فيه ذلك أمراً أو نهياً عقلياً فزع في كشفه إلى الأدلة العقلية، فقد حث تعالى على ذلك في قوله ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وإن كان أمراً شرعياً فزع في
وإن كان من الأخبار الاعتبارية فزع فيه إلى الأخبار الصحيحة المشروحة في القصص.
(فصل في الوجوه التي بها يعبر عن المعنى وبها يبين)
لما كان المعنى الواحد يقرب من الأفهام بعبارات مختلفة لأغراض متفاوتة، وجب أن يبين الوجوه التي منها " تختلف " العبارات عن المعنى الواحد، فالمعنى الواحد قد يدل عليه بأشياء كثيرة: إما باسمه نحو " إنسان "، أو بنسبه نحو " آدمي " و " ولد حواء "، أو بإحدي خصائصه اللازمة له: نحو " المنتصب القامة " أو " الماشي برجليه " أو " العريض الأظفار "، وإما بفصله اللازم كقوله " الناطق "، " المائت "، وكما يبين الشيء بأوصاف كثيرة، كذلك قد يتبين باسماء كثيرة متضمنة لأوصاف مختلفة، كقولك في الجرم العلوي: " السماء " لما اعتبر ارتفاعها بالإضافة إلى الأرض، و " الجرباء ": لما " اعتبروا نجومها "، وأنها كجرب في الجلد و " الخلقاء " و " الملساء " لما اعتبر بحالها عند فقدان نجومها بالنهار، و " الرقيع " تشبيهاً بالثوب المرقوع لظهور نجومها ظهور الرقاع في المرقع " والخضراء " لما اعتبر لونها، وعلى ذلك قولهم " في المرأة ": " الزوج " لما اعتبرت بازدواجها بالرجل، و " الظعينة " لما اعتبر ظعنها معه، و " القعيدة " لما اعتبرت بقعودها في البيت أو بكونها مطية له
مَطِيَّاتَّ السُّرورٍ فُوَيْقَ عَشْرٍ...
إلى عِشْرِينَ ثُمَّ قِفٍ المطَاَيَا
و" حليلة " إذا أعتبر حلولها معه، أو حل الأزار له، وذلك يُفعل لأحد أمرين: إما لأن الشيء " في نفسه " لا يمكن إبرازه إلا بالعبارات الدالة على أوصافه كمعرفة الله - عز وجل - لما صعبت لم يكن لنا سبيل " إليها " إلا بصفاته، وكأن الله تعالى جعل لنا أن نصفه بهذه الأوصاف لتكون لنا ذريعة إلى معرفته، إذ لا سبيل لنا إليها إلا استدلالاً بأوصافه وأفعاله، ولذلك قال " موسى " - عليه السلام - لما سأله فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟ قال: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، ولما قال له: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾؟ قال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، فلم يجبه عن الماهية، لما كان الباري تعالى منزهاً عنها، وأحاله عن صفاته الكثيرة، وإما لأن الشيء له تركيبات " وأحوال "، فيجعل له بحسب كل واحد منها اسم كما تقدم في أسماء السماء، وبحسب ذلك قال النبي عليه السلام: " سُمَّيتُ محمداً، وأحمد، وخاتماً، وحاشراً، وعاقباً وماحياً " لأنه محمود، وحامد، وخاتم الأنبياء، وحاشر، لأنه بعث مع الساعة نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وعاقب: لأنه عقب الأنبياء، وماحي: لأنه محى به سيئات من اتبعه.
الحقيقة مشتقة من الحق، والحق يستعمل على وجهين: أحدهما: في الموجود الذي وجوده بحسب مقتضى الحكمة بنحو قولنا: الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، والثاني: للاعتقاد المطابق لوجود الشيء نفسه، أو في القول المطابق لمعنى الشيء الذي هو عليه نحو أن يقال: إن اعتقاد فلان في البعث حق، وقوله في الثواب والعقاب حق، ويضاد " الحق "، الباطل، وإذا فهم الحق فهم الباطل، لأن العلم بالمتضادين واحد.
وأما الحقيقة: فإنها تستعمل في المعنى تارة، وفي اللفظ تارة: فأما استعمالها في المعنى: فعبارة عما ينبئ عن الحق ويدل عليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لحارثة: لما قال: " أصبحت مؤمناً حقاً: " قال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ " أي: ما الذي ينبئ عن ذلك؟ ".
ويستعمل في العمل والاعتقاد والخبر، فيقال: هذا فعل وخبرٌ وقول له حقيقة.
ويستعمل ضدها المجاز، والتسمح، والتوسع، فيقال: هذا فعل واعتقاد وخبر فيها تجُّوز وتسمُّح وتوسُّع ولا فرق " بين " أن يكون مثل هذا الخبر بلفظ مجاز أو لفظ حقيقة في أنه يقال هو حقيقة إذا كان مطابقاً لما عليه الشيء في نفسه.
وإذا استعملت في اللفظ، فالمراد به: اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة من غير نقل ولا زيادة ولا نُقصان، والمجاز على العكس من ذلك، كلاهما ضربان: أحدهما في
دَرَسَ المنا بُمتَالِعٍ فَأَبانٍ -، أي: المنازل.
وربما يكون اللفظ الواحد من وجه حقيقة، ومن وجه مجازاً، نحو قولهم: " فلانٌ عظيم الإقدام "، فمن حيث استعمل القدم حقيقة، ومن حيث أتى بلفظ الجمع مجاز، وأما المجاز في الجمل، فمن حيث هي جملة لا يكون إلا بحذف أو زيادة، أما الحذف: فما كان المحذوف منه شيئاً مستغني عنه لدلالة عليها، فذلك من الإيجاز نحو حذف المخبر " عنه " تارةً، والخبر تارةًَ، والمضاف تارة، والمضاف إليه تارة، والمفعول تارة، والفاعل تارة، وأمثلتها مشهورة يُستَغْنَى عن ذكرها.
وأما الزيادة: فلا شبهة أن كل زيادة تقتضي زيادة معنى، أو بسط مختصر، أو شرح مبهم، فإنها مستحسنة متى حصل فيها شرائط البلاغة، نحو ذكر " جبريل " و " ميكائيل " بعد ذكر " الملائكة "، وذكر " النخل " و " الرمان " بعد ذكر " الفاكهة "، وكذلك ما كان من نحو زيادة اللازم في " شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَه "، وأما المستنكر المستكره عند أكثر المحصلين - فكل زيادة ادُّعى فيها أن وجودها وعدمها سواء كما زعم بعضهم أن ذلك " كالكاف " في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ و " الوجه " في قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ أي: الله وقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، أي بالله، وقوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ أي: أن تسجد، وكل ذلك يجيئ الكلام عليه في مواضعه في أنها ليست بزائدة، وأن
قال: " إني سقيمٌ، وهذه أختي ويل فعله كبيرهم " على الحقيقة، وخفي عليه أن المذكور على وجه المثل إذا تُحرَّى به معنى صحيحُ لم يكن كذباً، نحو قولنا لمن نحثه على عمل: " أِطَّري فِإنِك فِاعلَه " كما يقال لمن
وذلك ثلاثة أضرب: عام مطلق: وهو الجنس، نحو قولنا: " الحيوان أوالحبوب، خاص مطلق مثل ": زيد، وعمرو، وهذا الرجل، وعام من وجه خاص من وجه، نجو كالإنسان، فإنه بالإضافة إلى الحيوان خاص، وبالإضافة إلى زيد وعمرو عام، والعام: إذا حمل على الخاص صدق القول، نحو قولنا " زيد ": إنسان وحيوان، والإنسان حيوان.
والخاص: إذا حمل على العام كذب، نحو الحيوان: إنسان.
والإنسان: زيد، إلا إذا قُيد لفظاًَ وتقديراً، فيقال: هذا الإنسان زيد، أو الإنسان زيد، ويجعل الألف واللام للعهد لا للجنس، أو يراد أن معنى الإنسانية كمال موجود في زيد.
فإذا ثبت ذلك فالمفسر إذا فسر العام بالخاص، فقصده أن يبين تخصيصه، " بالذكر " ويذكر مثاله، لأنه لم يرد أنه هو هو لا غير، وكثير ممن لم يتدرب بالقوانين البُرْهَانية إذا رأى عاماً مستعملاً في خاصين قدر أن ذلك حار مجرى الأسماء المشتركة، فيجعله من بابها، وعلى ذلك رأيت كثيراً ممن صنفوا في نظائر القرآن، فقالوا: الإثم: ارتكاب الذنب، والإثم: الكذب، احتاجاً بقوله ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾، والإثم عام في المقال والفعال، وإنما خُص في عذا الموضع لأن السماع ليس إلا في المقال على ذلك قال اللحياني: " الخوف ": القتال، بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ﴾، والقتل لقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾، والعلم، لقوله: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ أي: علم، وذلك من ظهور سوء التصور بحيث لا يحتاج إلى تبين.
وأما الخاص: فتفسيره بالعام فجائز إذا قصد تبيين جنسه، نحو " الْحِرْبِاءُ دوُيَبْةَ.
وَالْحرِبْاَءُ حَيَوَانٌ.
كل فعل من أفعال غير الله تعالى نحو: التجارة، والكتابة يحتاج في حصوله إلى أشياء إلى فاعل يصدر عنه الفعل كالنجار، وإلى عنصر يعمل فيه كالخشب، وإلى عمل كالنجر، وإلى مكان وزمان يعمل فيهما، وإلى آلة يعمل كالمنجر والمنحت، وإلى مثال يعمل عليه ويحتذي نحوه، وإلى غرض يعمل لأجله ما يعمل، ثم الفاعل قد يحتاج إلى من يسدده ويرشده.
والغرض قد يكون على نحوين: قريب وبعيد.
فالقريب: اتخاذ النجار الباب ليحصل به نفعاً، والبعيد: ليحصن " به " البيت، وكل ذلك قد يُنسب إليه الفعل، فيقال: أعطاني زيد إذا باشر العطاء، وأعطاني الله لما كان هو الميسر له.
وربما جمع بين السبب القريب والبعيد، فيقال: أعطاني الله وزيد.
قال الشاعر:
حَبَانَا بِهِ جَدُّنَا وَالْإَلهُ...
وَضَرْبٌ لَناَ جَذْمُ صِائبِ
فنسب إلى المسبب الأول، وهو الله تعالى وإلى السبب الأخير، وهو الضرب، وإلى المتوسط وهو الجد، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، فأسند الفعل الأول إلى الآمر به، وفي الثاني إلى المباشر له، وقال الشاعر في صفة درع: " وألبَسنِيِه الْهَالكُّى " وقال آخر: " كَسَاهُمْ مُحْرقٌ "، (فنسب في الأول إلى عاملها، وفي الثاني إلى مستعملها)، " وقال " في صفة نِبَال: نِبالٌ كَسَتْهَا ريِشَهَا مَضْرحيَّةٌ، فنسب كسوتها إلى
أًعْطَيْتَ مَنْ لَمْ تُعْطه وَلَوْ انْقَضَى...
حُسْنُ الَّلقَاء حَرَمْتَ مَنْ لَمْ تَحْرِمِ
فأثبت له الفعل " مرة " ونفاه عنه معاً بنظرين مختلفين، ويقال " هذا الخشب قطعته أنت لم يقطعه السكين " بمعنى أنه جعل تأثيره لك لا للسكين، ويقال: قطعه السكين لم تقتطعه، وبتصور هذا الفصل تزول الشبهة فيها يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى، منفياً عن العبد، ومنسوباً إلى العبد تارة منفياً عن الله تعالى، نحو قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ وقوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، وبيان ذلك أن الأفعال التي نباشرها تعتبر على وجهين: أحدهما بالإضافة إلى مباشره، فيقال: فعل فلان كذا، ولم يفعل كذا، والثاني: الاعتبار بميسره والمقدر له
فإذا: النظر إلى أفعالنا وإلى من يسرها لنا نظران:
نظر من أفعالنا إلى فعل الباري، فيتوصل بها إلى معرفته.
ونظرٌ من إنعامه علينا بقوانا وتسهيل سبيلنا إلى إيجاد أفعالنا.
وهذا الثاني لا سبيل إلى تصوره لمن لم يتقو في الأول ولم يجعله ذريعة إلى " الوصول " إلى هذا، وبهذا السبيل دعا الناس إلى الإيمان فقال: ﴿آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾.
فلما نبههم عرفهم أن ذلك كله بتوفيقه، فقال تعالى: ﴿قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾، فلما علم تعالى أن قد صار لهم قوة يمكنهم أن ينظر وامن آلائه إلى أفعالهم قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ وقال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، فأضاف أفعالهم إلى نفسه عند تناهي معارفهم بخلاف ما فعل في الأول.
فإذا تقررت هذه الجملة عُلم أنه لا فاعل في الحقيقة منفرداً غير الله تعالى، إذ كل فاعل يحتاجُ إلى معاون على ما تقدم البيان فيها، والله تعالى: كل أفعاله إبداع لا في مادة، ولا من شيء ولا على مثال ولا في زمان ولا في مكان، ولا بآلة ولا بمرشد ومعين.
فهو الفاعل الحقيقي، وما سواه على ضرب من التوسع..
وبهذا النظر ورد الشرع وأجمع الصدر الأول من المؤمنين " على " أن الأفعال كلها بمشيئة الله وإرادته، ومن جهته.
وأطلقوا على " الله " لفظ " الشيء " كما يطلق على غيره بنظرين مختلفين: فإن بعض الناس قد ذكر أن " الشيء " في الأصل مصدر " شاء "، فإذا استعمل فيه تعالى فبمعنى " الشائي "، وإذا استعمل في غيره فبمعنى " الْمُشاءِ "، وذلك في اللغة مستمر، لأن المصدر يُطلق على الفاعل والمفعول جميعاً، قال: وتصور هذه الحقيقة من لفظة " الشيء " مما ينبهنا أن هذه اللغة من جهة الله تعالى:
كثيراً ما تجئ الألفاظ في الظاهر كالمتنافي عند من لم يتدرب بالبراهين العقلية والعلوم الحقيقة، وربما يغالط الملحد بألفاظ من القرآن في نحو ذلك العجزة فيشككهم مثل أن يقول: قد ثبت من بداية العقول أن النفي والإثبات في الخبر الواحد إذا اجتمعا لابد من صدق أحدهما وكذب الآخر، نحو أن يقال: زيدً خارجً، زيدً ليس بخارج، وقد رأينا في القرآن أخباراً متنافية، فلابد من أن يكون أحدهما صدقاً، والآخر كذباً، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾، مع قوله: ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ وقوله إخباراً عن الكفار أنهم يقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ مع قوله تعالى ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾، وقوله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ مع قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾، وقوله تعالى ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ مع قوله تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ﴾، وقوله تعالى: ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾، وقوله: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ وقوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مع قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾
أو تعني بأحدهما بأصبهان وبالآخر ببغداد، أو تعني بأحدهما في زمان، و " بالأخر في زمان " آخر غير الزمان الأول، فكل هذا لا تناقض فيه، فإن المراد بأحد الخبرين غير المراد بالآخر، وعلى ذلك كل ما يوصف بوصفين متضادين على نظرين مختلفين، نحو من يقول: في " الوحي " و " البكرة الدائرة على مركزها ": إنها سائة أو منتقلة لعتبار بعض أجزائها ببعض، ويقول آخر: إنها غير سائرة أو غير منتقلة اعتباراً بجملة أجزائها، وأنها لا تتبدل عن المركز، فإن ذلك لا تضاد بينهما، وكذلك إذا قيل: فلان لين العود - وُيرادُ به في السخاء - وقول آخر: ليس بلين العود - ويراد به في الشجاعة، وعلى ذلك ما يتختلف به الحال في الإضافة إلى حالين أو إلى نفسين، نحو أن يقال: المال صالح - اعتباراً بحال ما أو بذات ما، ويقول الآخر: إن المال ليس بصالح - إعتباراً بحال أخرى أو بذات أخرى، وعلى ذلك الحكم في كل ما له مبدأ وغاية، مثل: الإيمان، والشرك، والتوكي، وذلك أن " الإيمان " لما كان مبدؤه إظهار الشهادتين كما قال عليه الصلاة والسلام في الجارية التي أشارت إلى السماء: " إنَّهَا مُؤْمِنَةّ "، وكان
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الآية صح أن يقال: (لا يزني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وأن يقال " يزني الزاني وهو مؤمن " وعلى ذلك كل ما هو مركب من شيئين، أو كان له مبدأ وغاية كما تقدم صدق فيه أربعة أخبار بأربع نظرات، نحو أن يقال: السكنجبين حلو، السكنجبين حامض، " السكنجبين حلو حامض "، السكنجبين لا حلو ولا حامض، ومتى تصورت هذه المقدمة سهل الجواب عن هذه الآيات إذ كل ذلك راجع إلى أحد الأسباب المذكورات من المخالفات.
(فصل في بيان انطواء كلام الله تعالى على الحكم كلها علميها وعمليها)
كتاب الله تعالى منطو على كل ذلك بدلالة قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ وقوله: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، لكن ليس يظهر ذلك إلا للراسخين في العلم، ولكونه منطوياً على الحكم كلها قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، أنه عنى به تفسير القرآن ثم منازل العلماء تتفاوت في تفهمه ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، وأعظم ما يقصر تفهم الأكثرين عن إدراك حقائقه: أحدهما: راجع إلى اللفظ، والآخر راجع إلى المعنى فالراجع إلى اللفظ شيئان: أحدهما: ما اختص به اللغة العربية من الإيجاز، والحذف، والاستعارات والإشارات اللطيفة، واللمحات الغامصة مما ليس في سوى هذه اللغة والآخر: ما يوجد
فذكر فيه ما قيل إنه ينطوي عليه " من " أوراق وجلود من السفر، ومن عجيب ما فيه أن كل ما علم (بالسامع استغناء عنه) من الألفاظ ترك ذكره وتخطى إلى ما بعده نحو قوله تعالى: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾، فترك ما كان من موسى، ثم ترك ما كان منه ومن أصحابه في دخولهم البحر، وتخطى إلى ذكر ما صنع بهم، وأما الراجع إلى المعنى: فذكره تعالى - أصولاً منطوية على فروع بعضها بينه النبي عليه السلام، وبعضها فوض استنباطه إلى الراسخين في العلم تشريفاً لهم وتعظيماً لمحلهم، لكي يقرب منزلة علماء هذه الأمة " من " منزلة الأنبياء في استنباطهم بعض الأحكام، ولاختصاص هذه الأمة بهذه المنزلة الشريفة قال عليه الصلاة والسلام: " كادت أمتي تكون أنبياء "، وعلى ذلك قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ - الآية - وقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فجعلهم في ذلك بمنزلة الأنبياء...
ما من برهان ولا دلالة وتقسيم وتحديد " ينبئ " عن كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب، دون دقائق طرق الحكماء والمتكلمين - لأمرين: أحدهما: بسبب ما قاله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ الآية.
والثاني: إن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجلي من الكلام.
فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح.
الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه " إلا " الأقلون ما لم يكن ملغزاً.
فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجل صورة تشتمل على أدق دقيق لتفهم العامة من جليها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الحكماء.
وعلى هذا النحو قال " عليه الصلاة والسلام ": " إن لكل آية ظهراً وبطناً " ولكل حرف حداً ومطلعاً " لا على ما ذهب إليه الباطنية.
ومن هذا الوجه كلهُّ مَنْ كان حظه في العلوم أوفر، كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك، إذا ذكر " تعالى " حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافتها إلى أولي العقل، ومرة إلى أولي العلم، ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المفكرين، ومرة إلى المتذكرين - تنبيهاً " على " أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، وغيرها من الآيات...
الأحكام التي تشتمل عليها الشرائع ستة: الاعتقادات، والعبادات، والمشتهيات والمعاملات، والزاجرات، والآداب الخلقية...
فالاعتقادات خمسة: إثبات وجود البارئ - جل ثناؤه - بصفاته، وإثبات الملائكة الذين هم السفراء بين الله وبين خلقه، والكتاب والرسل، والمعاد، وقد انطوى على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية، وأما العبادات فثمانية: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف والقرابين والكفارات.
والمشتهيات أربع: المأكولات والمشروبات والمنكوحات والملبوسات والمعاملات أربع: المعاوضات كالبيع والإجازة وما يجري مجراهما، المخاصمات - كالدعوى والبيات والأمانات كالودائع والعواري، - والتركات - كالوصايا والمواريث، والمزاجر خمس: مزجرة عن فوات الأرواح حفظاً للنفوس - كالقصاص والدية، ومزجرة لحفظ الأعراض - كحد القذف والفسق.
ومزجرة لحفظ الأنساب - كالجلد والرجم -، ومزجرة لحفظ الأموال - كالقطع والصلب - ومزجرة لحماية البيضة - كالقتل للمرتد، وقتال البغاة، وأما الآداب الخلقية فثلاثة: ما يختص به الإنسان في نفسه وإصلاح أخلاقه كالعلم، والحلم، والسخاء، والعفة، والشجاعة، والوفاء، والتواضع.
وما يختص به في معاشرة ذويه ومختصيه: كبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحفظ الجار، ورعاية الحقوق، ومواساة أهل الفقر، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وما يختص به أولو الأمر من سياسة الرعية.
والفرق بين الشرعيات والآداب الخلقية: أن الشرعيات: محدودة الكميات والكيفيات، وليس لتاركها عقوبة، بل هي موكولة إلى ذوي الأنفس الزكية، ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، وعلى جمهور ذلك ذل قوله تعالى:
وأشرف هذه الأنواع الستة: الاعتقادات، لأنه في حيز العلم، والباقيات في حيز العمل، والعلم: هو المبدأ.
والعمل تمامه، ولا يكون تمام بلا مبدأ.
وقد يكون مبدأ بلا تمام، ولأن العلم أصل، والعمل فرع، ولإثبات للفرع إلا بالأصل كما لا " كمال " للأصل إلا بالفرع، ومتفق عند كل أحد أن الاعتقاد مقدم على العمل، حتى إنهم يتباينون بما ينفع من الاختلاف في الاعتقادات دون الأعمال، " وتصير " بفساد الاعتقاد المحاسن كلها مقابح، ثم يتبعه أمر العبادة، فإن المخل بالصلاة والصيام والاغتسال من الجنابة عند المسلمين أعظم من مرتكب الظلم، وكذا ترك السبت عند اليهود، وترك العبادة عند النصارى، وترك الزمزمة عند المجوس أعظم عن ظلم العباد، فإن العبادة هي المحافظة على حق الله، والورع عن ظلم الناس بالمحافظة على أحكامه، والعابد أعلى من الورع.
وأما العبادات والمعاملات والمزاجر فلا يصح، في أصولها النسخ، وإنما يصح في فروعها، وذاك أنه محال أن تنفك شريعة من الشرائع عن عبادة الله تعالى واقعة في حيز البدن، وهي مثل الصلاة، وعبادة في حيز المال، وهي كالزكاة، وعبادة في إمساك الشهوة كالصوم.
وأن تنفك عن معاملات تحثهم على العدالة وتمنعهم عن التهارج، وعن مزاجر تزجرهم عن استباحة نفوس الغير وأعراضهم وأموالهم وأنسابهم، وأما هيآتها وأشكالها وأمكنتها وأزمنتها وأعدادها، فهي فروعها التي لم تزل تعرض النسخ على حسب ما عرف الله تعالى من مصلحة كل قوم، ومما يدل على أنه لا نسخ في عامة أصول هذه الأشياء ما ورد من النصوص على ذلك في القرآن نحو قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، وقوله ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ الآية، وقال حكاية عن عيسى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾
وقال في الزكاة: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، وقال في القبلة: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾..
، وقال في الصوم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وقال
إلى غير ذلك من الآيات، وآكد من ذلك كله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾، وقال في الفروع: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾،
فإن قيل: إن المزاجر ليست في كل شريعة، ألا ترى أنه قيل: لم تكن في النصرانية، لما روى عن عيسى عليه السلام: " إذا لطم أحدكم على احد جانبيه فليعرض عليه الجانب الآخر "، وقال: " أدع الناس إلى الدين بالمقال دون القتال "، قيل: إن المزاجر كما تكون بالقتال قد تكون بالمقال، فلابد أن يكون لهم مزاجر، ثم إن مزاجرهم قد وردت بها التوراة، فاستغنى بها عيسى عليه السلام عن تبيينها وما ذكر من تمكين الجانب الآخر من اللطم، فحثُّ منه على العفو واحتمال المكروه.
النسخ والمسخ يتقاربان، كذا قال الخليل، إلا أن " المسخ " في نقل الأعيان، والنسخ في نقل الصور، نحو نسخ الكتاب، وهو نقل صورة الكتابة إلى غيره من غير إبطال لرسمه الأول، ونَسَخَ الظَّلُّ الشمْسَ إذا أزَالَها، وحقيقة النسخ: إزالة مثل الحكم الثابت بالشرع بشرع آخر مع التراخي..
، والفرق بينه وبين التخصيص أن التخصيص قد يكون في الخبر، والنسخ لا يكون فيه، والتخصيص إخراج ما لم يرد بالخطاب من الأعيان والمعاني والأمكنة، والنسخ إخراج ما لم يرد به من الحكم في بعض الأزمنة، والتخصيص في الأكثر مقرون بالمخصوص لفظاً أو تقديراً، والنسخ لا يكون إلا متأخراً عن المنسوخ، ومتى اقترن به سمي تخصيصاً، " وكأن النسخ في الحقيقة ضرب " من التخصيص إلا أنهما في المتعارف مختلفان.
وقد تصور عدة ممن صنفوا في النسخ بعض ما هو بيان للمجمل أو تخصيص للعام بصورة لناسخ، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ وقال بعضهم: نُسِخَ ذلك بقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهذا بيان ما ليس بظلم من أكل مالهم، ونحو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ قال: فلم تحرم، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ﴾ - الآية - وهذا أيضاً بيان الأول، وذاك أن ما كان حضرته أكثر من منفعته.
(فصل في أنه هل في القرآن ما لا تعلم الأمة تأويله)
اختلفوا في ذلك، فذهب عامة المتكلمين إلى أن كل القرآن يجب أن يكون معلوماً، وإلا أدى إلى بطلان فائدة الانتفاع به وأن لا معنى لإنزاله، وحملوا قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ على أنه عطف على قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وجعلوا قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ في موضع الحال كما قال:
الرَّيحُ يَبْكِي شَجْوَهَا...
وَاْلبرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامِهِ
قال ابن عباس: " أنزل القرآن على أربعة أوجه: وجه حلال وحرام لا يسع أحداً جهالته.
ووجه يعرفه العرب، ووجه تأويله يعلمه العالمون، ووجه لا يعلم تأويله إلا الله، ومن انتحل فيها علماً فقد كذب ".
وحمل الآية على أحد وجوه ثلاثة:
- أحدهما: أنه جعل التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقائق الأشياء من كيفياتها وأزماتها وكثير من أحوالها..
وقد علمنا أن كثيراً من العبادات والأخبار الاعتقادية كالقيامة والبعث ودابة الأرض لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقائقها وأزمانها، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ الآية..
، والثاني: أن من ألفاظه ما أمرنا بأن نتلوها تلاوة، وبها نتعبد دون معرفة تأويلها، كما تعبدنا بحركات تحصل في كثير من العبادات في الصلاة والحج، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي أنهم أمروا بالتفوه بهذه اللفظة، والثالث: أن كثيراً من الآيات مما اختلف المفسرون فيه، ففسروه على أوجه كثيرة تحتملها الآية، ولا يقطع على واحد من الأقوال، فإن مراد الله تعالى منها غير معلوم لنا مفصلاً، بحيث يقطع به، والذين ذهبوا المذهب الثاني قالوا: قد علم أن الآية نزلت إنكاراً على قوم طمعوا في الهجوم على ما لا سبيل لهم إليه، فأراد تعالى حسم أسباب الخوض، ومتى كان فيه تشارك لم ينقطع الشغب إذ كل يدعي معرفته،
فإن قيل: إن هذا لأقوام معينين، فرجع القول إلى ما يقوله الإمامية أن آيات من القرآن لا يعرف تأويلها إلا الإمام، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾
سُئل بعض العابدين، فقيل له: ما بال القرآن جعل بعضه محكماً وبعضه متشابهاً؟ وهلاَّ جعل كله على نمط المحكم حتى كان يكفي الإنسان مؤونة النظر الذي قل ما سلم متعاطيه من زلة؟ وهذه مسئلة نسأل عنها في الأحكام أيضاً فنقول: هلاَّ بينها كلها حتى يستغنى عن جهد الرأي الي لا يؤمن خطؤه؟ بل سئل عنها أيضاً في أصل التكليف، فيقال: هلاَّ خوّلنا الله إنعامه بلا مشقة ولا مؤنة حتى كان عطاؤه أهنأ منالاً؟ فقال: (الجواب) عن جميع ذلك واحد، وهو أن الله تعالى خص الإنسان بالفكر والتميز، وشرفَهُ بهما، حتى قال تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، وجعله بذلك خليفة في الأرض فقال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وقال تعالى: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، وكفاه شرفاً بما أعطاه من هذه المنزلة أنه قد يصير لأجلها شريفاً موصوفاً بالعلم والحلم والحكمة، وكثير من الصفات التي هي من صفاته تعالى، وإن لم تكن على حَدَّها وحقيقتها.
ولما خصه الله تعالى بهذه الفضيلة - أعني بالفكر والروية - أعطاه كل ما أعطاه من المعارف قاصرة عن درجة الكمال، ليكمله الإنسان بفكرته، لئلا تتعطل فائدتها، وإلا كانت موجداً لما لا فائدة فيه، وذلك شنيع يُنزه عنه الباري سبحانه، وعلى ذلك أحوال كل ما أوجده لنا من المأكولات والمشروبات، لأنه أوجد لنا أصول الأغذية، ثم هدانا بما خولنا من التميز إلى تركيبها، وتناول ما يحتاج إليه على الوجه الذي يحتاج وفي الوقت الذي يحتاج.
فإذا ثبت ذلك فتأويل كتاب الله تعالى وأحكام شرائعه وسائر معانيه قسمان:
والخفي: ما يتوصل إليه بوساطة أحد هذين، فسبحان الذي شرف الإنسان بهذه المنزلة السنية لتكون ذريعة لهَ إلى إدراك الحياة الأبدية وتحصيل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾.
(فصل في شرف علم التفسير)
أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله، وذلك أن الصناعات الحقيقة إنما تشرف بأحد ثلاثة أشياء: " إما بشرف موضوعاتها، وهي المعمول فيها، نحو أن يقال: الصياغة أشرف من الدباغة لأن موضوعها - وهو الذهب والفضة - أشرف من جلد الميتة - الذي هو موضوع الدباغة وإما بشرف صورها: نحو أن يقال: طبع السيوف اشرف من طبع القيود..
وإما بشرف أغراضها وكمالها، كصناعة الطب - التي غرضها إفادة الصحة - فإنها أشرف من الكناسة - التي غرضها تنظيف المستراح، فإذا ثبت ذلك، فصناعة التفسير قد حصل لها الشرف من الجهات الثلاث، وهو أن موضوع المفسر كلام الله تعالى: الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضله.
وصورة فعله: إظهار خفيات ما أودعه مُنْزِلُهُ من أسراره ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وغرضه: التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقة التي لافناء لها.
ولهذا عظمَ الله محله بقوله: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
" قيل: هو تفسير القرآن ".
اختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل ذي علم الخوض فيه؟ فبعض يشدد في ذلك وقال: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالماً أدبياً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روى عن النبي - ﷺ - وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين، واحتجوا في ذلك بما روي عنه عليه السلام: " من فسر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار "، وقوله عليه السلام: " من فسر القرآن برأية فأصاب فقد أخطأ "، وفي خبر " من قال في القرآن برأية فقد كفر "، وبما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي ".
وذكر آخرون أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسره فالعقلاء والأدباء " فوضى فضاً " في معرفة الأغراض، واحتجوا في ذلك بقوله تعالى:
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وذكر بعذ المحققين " أن المذهبين " هما الغلو والتقصير، فمن اقتصر على المنقول إليه فقد " ترك كثيراً مما يحتاج إليه "، ومن أجاز لكل أحد الخوض فيه، فقد عرضه للتخليط، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾..
والواجب: أن يبين أولاً ما ينطوي عليه
والعلم مبدأ والعمل تمام، ولا يتم العلم من دون العمل، ولا يخلص العمل من دون العلم، ولذلك لم يفرد - تعالى - أحدهما من الآخر في عامة القرآن، نحو قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾، وقوله ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾، ولا يمكن تحصيل هذين إلا بعلوم لفظية وعقلية وموهبية، فالأول: معرفة الألفاظ: وهو علم اللغة، والثاني: مناسبة بعض الألفاظ إلى بعض وهو الاشتقاق.
والثالث: معرفة أحكام ما يعرض للألفاظ من الأبنية والتصاريف والإعراب وهو النحوي والرابع بما يتعلق بذات التنزيل، وهو معرفة القراءات، والخامس: ما يتعلق بالأسباب التي نزلت عندها هذه الآيات وشرح الأقاصيص التي تنطوي عليها السور من ذكر الأنبياء عليهم السلام والقرون الماضية، وهو علم الآثار والأخبار.
والسادس: ذكر السنن المنقولة عن النبي - ﷺ - وعمن شهد الوحي مما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، مما هو بيان لمجمل، أو تفسير لمبهم المنبأ عنه بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وبقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ وذلك علم السنن.
والسابع: معرفة الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والإجماع والاختلاف والمجمل والمفسر، والقياسات الشرعية، والمواضع التي يصح فيها القياس، والتي لا يصح، وهو علم أصول الفقه.
والتاسع: معرفة الأدلة العقلية والبراهين الحقيقة، والتقسيم والتحديد، والفرق بين المعقولات والمظنونات، وغير ذلك، وهو علم الكلام.
والعاشر: علم الموهبة، وذلك علم يورثه الله من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وقال أمير المؤمنين (علي) - رضي الله عنه -:
قال الحكمة: من أرادني فليعمل بأحسن ما علم، ثم تلا: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ وما روي عنه حيث سئل: " هل عندك علمُ عن النبي - ﷺ - لم يقع إلى غيرك؟ قال: لا، إلا كتاب الله وما في صحيفتي، وغهم يؤتيه الله من يشاء، وهذا هو التذكر الذي رجانا تعالى - إدراكه بفعل الصالحات، حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
وهو الهداية المزيدة للمهتدي في قوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ الآية، وهو الطيب من القول المذكور في قوله: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ فجملة العلوم التي هي كالآلة للمفسر، ولا يتم صناعة إلا بها هذ هذه العشرة: علم اللغة، والاشتقاق والنحو، والقراءات والسير، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة، فمن تكاملت فيه هذه العشرة واستعملها خرج عن كونه مفسراً للقرآن برآية، ومن نقص عن بعض ذلك مما ليس بواجب معرفته في تفسير القرآن وأحس من نفسه في ذلك بنقصه واستعان بأربابه واقتبس منهم واستضاء بأقوالهم لم يكن - إن شاء من المفسرين برأيهم، فإن القائل بالرأي - ها هنا - من لم
وإنما جعله النبي - ﷺ - مخطئاً وإن أصاب، فإنه مخبر بما لم يعلمه، وإن كان قوله مطابقاً لما عليه الأمر في نفسه.
ألا ترى أن الله تعالى قال: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فشرط مع الشهادة العلم وكذب المنافقين في قولهم: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ﴾، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ من حق من تصدى للتفسير أن يكون مستشعراً لتقوى الله مستعيذاً من شرور نفسه والإعجاب بها، فالإعجاب بالنفس أسُّ كل فساد وأن يكون اتهامه لفهمه أكثر من اتهامه لفهم أسلافه الذين عاشروا الرسول وشاهدوا التنزيل، وبالله التوفيق..
(فصل في جواز إرادة المعنيين المختلفين بعبارة واحدة)
العبارة الموضوعة لمعنيين على سبيل الاشتراك حقيقة فيهما أو مجازاً في أحدهما؟ متى تنافي معناهما في المراد لم يصح أن يرادا معاً بعبارة واحدة، نحو أن يقال: صل صلاة واحدة على سبيل الوجوب والندب.
وإذا لم يتنافيا صح ذلك، نحو اللمس - المراد به المسيس - والمس.
وإلى ذلك ذهب الشافعي - رحمه الله - وهو مقتضى مذهب سيبويه، لأنه قال في قولهم: " الويل له ": إنه دعاء عليه وإخبار عن حاله، فجعله للأمرين في حالة واحدة، إلى غير ذلك مما دل من كلامه عليه.
والدلالة على جواز ذلك قولهم: " أفعلوا كذا " - في مخاطبة الرجال والنساء - وقولهم: " الرجال والنساء فعلوا "، وهذه العبارة للمذكر حقيقة، وللمؤنث مجاز.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، وعناه والمؤمنين، فهو حقيقة فيه ومجاز فيهم.
ثِقَالُ الْجِفَانِ والُحُلُوِم رَحَاهُمْ...
رَحَى الْمَاءِ يَكْتَالُونَ كَيْلاً عُذَمْذَمَا
فوصف الجفان بالثقل حقيقة، ووصف " الحُلوم " به مجاز، وقد نظمها بلفظ واحد، وقال آخر: وماءٍ آجِنِ اْلَجمَّاتِ قَفْرٍ،.
فذكر الماء " وأراده به " ومكانه، فقد يسمى مكان الماء ماء، والدلالة على أنه أرادهما أنه قد وصفه " بآجن الجمات " وذلك من صفة الماء نفسه، و " بقفر " وهو من صفة المكان، وقال ابن هرمة:
وَاْحُوتُ يَسْبَحُ في السَّمَا...
ءِ كَسَبْحِهِ في ألمَاءِ
وهو بكل سبح عن معنى الحوت، والحوت السابح في السماء غير السابح في الماء.
وقالوا: القمران، للشمس والقمر، وذلك في الشمس مجازاً لا محالة،
فإن قيل: لإن ذلك لا يصح من حيث أن المتكلم به يكون مريداً استعمال اللفظ فيما وضع له، والعدول به عن الموضوع له في حالة واحدة، وذانك أمران متنافيان في المراد، وهذه عمدة من منع من جواز ذلك، قيل: إن ذلك إنما ينافي إذا وضع لفظ فاستعمل في معنى واحد على أنه منقول إليه عن غيره، ومستعمل في موضعه.
" أما إذا استعمل في أحد معنييه " لأعلى النقل بل على الوضع له، وفي الآخر على النقل إليه صح إرادتهما معاًَ.
ومما يحمل من القرآن على ذلك قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾، وذلك عام في الإنسان وغيره، وقد علم أن الإنسان يسبح بلسانه وفعاله، والجمادات ليست تسبح كذلك وقد قرئهما بلفظ واحد، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ قيل: عنى بذلك الغني بالكفاية والغني بالقناعة معاً، وأمثال ذلك في القرآن أكثر من أن تحصى ههنا.
ولمثل هذه المعاني المجتزعة فيه قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾، وعلى ذلك روي في الخبر " لكل حرف " ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع تنبيهاً على كثرة معلنيه المجتمعة تحت اللفظة بعد اللفظة...
(فصل في إعجاز القرآن)
المعجزات التي أتى بها الأنبياء - عليهم السلام - ضربان: حسي وعقلي: فالحسي: ما يدرك بالبصر، كناقة صالح، وكوفان نوح، ونار إبراهيم وعصى موسى - عليهم السلام - والعقلي: ما يدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضاً وتصريحاً، والإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلم، فأما الحسي: فيشترك في إدراكه العامة والخاصة، وهو أوقع عند طبقات العامة، وأخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلا أنه لا يكاد يفرق - بين ما يكون معجزة في الحقيقة، وبين ما يكون كهانة أو شعبذة أو سحراً، أو سبباً اتفاقياً، أو مواطأة، أو احتيالاً هندسياً، أو تمويهاً وافتعالاً - إلا
وجعل تعالى أكثر معجزات بني إسرائيل حسياً لبلادتهم، وقلة بصيرتهم.
وأكثر معجزات هذه الأمة عقلياً لذكائهم وكمال افهمامهم التي صاروا بها كالأنبياء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " كَاَدتْ أُمَّتِي أن تَكُونَ أَنْبِيَاءَ ".
ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على وجه الدهر غير معرضة للنسخ، وكانت العقليات باقية غير مبتذلة، جعل أكثر معجزاتها مثلها باقية.
وما أتى به النبي - ﷺ - من معجزاته الحسية، كتسبيح الحصا في يده، ومكالمة الذئب له، ومجئ الشجرة إليه، فقد حواها وأحصاها أصحابه، وأما العقليات: فمن تفكر فيما أورده - ﷺ - من الحكم التي قصرت عن بعضها أفهام حكماء الأمم بأوجز عبارة، اطلع على أشياء عجيبة، ومما خصه الله تعالى به من المعجزات القرآن: وهو آية حسية عقلية صامتة ناطقة باقية على الدهر مبثوثة في الأرض، ولذلك قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾، ودعاهم ليلاً ونهاراً مع كونهم أولى بسطه في البيان إلى معارضته بنحو قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وفي موضع آخر: ﴿ادعوا من استطعتم﴾ وقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.
فجعل عجزهم علماً للرسالة، فلو قدروا ما أقصروا، وبذلوا أرواحهم في إطفاء نوره وتوهين أمره، فلما رأيناهم تارة يقولون ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾، وتارة يقولون: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾، وترة يصفونه بأنه ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، وتارة يقولون: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
وهذه الجملة المذكورة، وإن كانت دالة على كون القرآن معجزاً، فليس بمقنع إلا بتبيين فصلين: أحدهما: أن يبين ما الذي هو معجز: أهو اللفظ، أم المعنى، أم النظم؟ أم ثلاثتها؟ فإن كل كلام منظوم مشتمل على هذه الثلاثة.
والثاني: أن المعجز: هو ما كان نوعه غير داخل تحت الإمكان، كإحياء الموتى وإبداع الأجسام.
فأما ما كان نوعه مقدوراً، فمحله محل الأفضل، " وما كان من باب الأفضل " في النوع، فإنه لا يحسم نسبة ما دونه إليه.
وإن تباعدت النسبة حتى صارت جزءاً من ألف، فإن النجار الحاذق وإن لم يبلغ شأوه لا يكون معجزاً.
إذا استطاع غيره جنس فعله، فنقول وبالله التوفيق: إن الإعجاز " قد ذكر " في القرآن " على وجهين: أحدهما: إعجاز متعلق بفصاحة، والثاني: بصرف الناس عن معارضته: فأما الإعجاز المتعلق بالفصاحة: فليس يتعلق ذلك بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، وذلك أن الفاظه ألفاظهم، ولذلك قال تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، وقال: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ تنبيهاً على أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام.
ولا يتعلق أيضاً بمعانيه، فإن كثيراًَ منها موجود في " الكتب المتقدمة " ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾، وقال ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ وما هو معجز فيه من جهة المعنى، كالإخبار بالغيب فإعجازه ليس برجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبراً بالغيب، وذلك سواء كونه النظم أو بغيره.
وسواء كان مورداً بالفارسية أو بالعربية أو بلغة أخرى أو بإشارة أو بعبارة.
فإذا بالنظم المخصوص صار القرآن قرآنا.
كما أنه بالنظم المخصوص صار الشعر شعراً، أو الخطبة خطبة.
وبيان كونه معجزاًَ هو أن نبين نظم الكلام، ثم نبين أن هذا النظم مخالف لنظم سائره، فنقول: لتأليف الكلام خمس مراتب: الأولى: ضم حروف التهجي بعضها إلى بعض، حتى يتركب منها الكلمات الثلاث: الاسم والفعل والحرف.
والثانية: أن يؤلف بعض ذلك مع بعض حتى يتركب منها لجمل المفيدة، وهي النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم، وقضاء حوائجهم، ويقال له: المنثور من الكلام، والثالثة: أن يضم بعض ذلك إلى بعض ضماً له مبادئ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم، والرابعة: أن يجعل له في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له: المسجع.
الخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن مخصوص، ويقال له الشعر.
وقد انتهى.
وبالحق صار كذلك: فإن الكلام إما منثور فقط، أو مع النثر نظم، أو مع النظم سجع، أو مع السجع وزن، والمنظوم: إما محاورة، ويقال لها: الخطابة، وإما مكاتبة، ويقال لها: الرسالة، وأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الجملة.
ولكن من ذلك نظم مخصوص.
والقرآن حاو لمحاسن جميعه بنظم ليس هو نظم شيء منها بدلالة أنه لا يصح أن يقال: القرآن رسالة، أو خطابة، أو شعر، كما يصح أن يقال: هو كلام، ومن قرع سمعه فصل بينه وبين سائر النظم.
ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ تنبيهاً على أن تأليفه ليس [على] هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يزاد فيه كحال الكتب الأخر،
فإن قيل: ولمَ لمْ يتبع نظم القرآن الوزن الذي هو الشعر، وقد علم أن للموزون من الكلام مرتبة أعلى من مرتبة المنظوم غير الموزون، إذ كل موزون منظوم وليس كل منظوم موزوناً؟ قيل: إنما جنب القرآن نظم الشعر ووزنه لخاصية في
وقصوى الشاعر تصوير الباطل في صورة الحق، وتجاوز الحد في المدح والذم دون استعمال الحق في تحري الصادق، حتى إن الشاعر لا يقول الصدق ولا يتحرى الحق إلا بالعرض.
ولهذا يقال: من كانت قوته الخيالية فيه أكثر كان على قرض الشعر أقدر، ومن كانت قوته العاقلة فيه أكثر فيه كان في قرضه أقصر.
ولأجل كون الشعر مقر الكذب، نزه الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - عنه لما كان مرشحاً لصدق المقال، وواسطة بين الله وبين العباد، فقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾، فنفى ابتغاءه له.
وقال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ أي: ليس بقول كاذب.
ولم يعن أن ذلك ليس بشعر، فإن وزن الشعر أهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه.
ولأجل شهرة الشعر بالكذب، سمي أصحاب البراهين الأقسية المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعري، وما وقع في القرآن من الألفاظ متزنة، فذلك بحسب ما يقع في الكلام على سبيل العرض بالانفاق، وقد تكلم الناس فيه.
وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته، فظاهر أيضاً إذا اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة ولا فعله من الأفعال محمودة كانت أو مذمومة، إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية، واتفاقات الإهية بدلالة أن الواحد فالواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مزاولتها فيقبلها باتساع قلب، ويتعاطاها بانشراح صدر.
وقد تضمن ذلك قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وقول النبي - ﷺ -: " أعْملُوا فَكُلَّ مَّيَسًّر لما خلُقِ لَهُ "، فلما رؤي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن وأعجزهم عن الإتيان بمثله، وليس تهتز غرائزهم البتة للتصدي لمعارضته لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهياً يصرفهم عن ذلك وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مُخيرةً في الظاهر أن يعارضوه، ومُجْبَرةً في الباطن عن ذلك.
وما أليقهم بإنشاد ما قال أبو تمام:
فَإِنْ نَكُ أَهّمَلْنَا فَأَضْعِفْ بِسَعْينَا...
وإَن نَكُ أُجْبِرنْاَ فَفيِم نُتَعْتِعُ
والله ولي التوفيق [والعصمة]