تفسير سورة مريم

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة مريم من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

الود من إكرام الله لأولياء الله
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ".
سبب النزول. ووعد السابقين :
الهجران بغيض :
كان السابقون الأولون من المؤمنين في أول الإسلام بمكة – مبغوضين من أهل مكة المشركين، مهجورين منهم، مزهودا فيهم.
ومن أشد الآم على النفس وأشقها أن يعيش الإنسان بين قومه مبغوضا مهجورا، مزهودا فيه، خصوصا مثل تلك النفوس الحية الأبية.
فأنزل الله هذه الآية تأنيسا لأولئك السادة، ووعدا لهم بأن تك الحالة لا تدوم، وأنه سيجعل لهم ودا، فيصيرون محبوبين مرغوبا فيهم.
العدل في البلاد المفتوحة :
وقد حقق الله وعده : فكان أولئك النفر بعد، السادة المقدمين من أقوامهم وعشائرهم، لسبقهم وفضلهم. وكانوا – وهم قادة الجيوش في الفتوحات الإسلامية – المحبوبين هم وجيوشهم، المرغوب فيهم من الأمم التي فتحوها ؛ لعدلهم ورحمتهم، ورفعهم لنير الاستعباد الديني والدنيوي، الذي كانت تئن تحته تلك الأمم.
وأثبت التاريخ أن بعض الأمم الأجنبية دعتهم إلى إنقاذها من أيدي رؤسائها.
فكانت هذه الآية من آيات الإعجاز بالإعلام بما يتحقق في الاستقبال مما هو كالمحال في الحال فكان على وفق ما قال.
عموم الوعد لعموم اللفظ :
الإيمان، وهو التصديق الصادق المثمر للأعمال. والأعمال الصالحة، وهي المستقيمة النافعة المبنية على ذلك الإيمان – هما اللذان جعلهما الله سببا في تحقيق جعل هذا الود، لما قال تعالى :" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " فيعم ذلك كل أهل الإيمان والعمل الصالح. وهم أولياء الله و " إن أولياؤه إلا المتقون ".
سبب الود وسبب الجعل :
ود وود :
تكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم منها القرابة، ومنها الصداقة، ومنها صنائع المعروف، ومآثر الإحسان.
أما هذا الود الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فسببه جعل من الله له في قلوب العباد لهم، دون تردد منهم ولا توقف على تلك الأسباب، فبودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة، ولا وصل إليه منهم معروف، فهذا نوع من الود خاص يكرمهم الله به، وينعم عليهم به الرحمن من جملة نعمه التي يحدثها ويجددها لهم، زيادة على ما يقتضيه الإيمان والعمل الصالح – ومنه الإحسان – من مودة القلوب.
أما سبب هذا الجعل والوضع والإيجاد من الله، لهذا الود والإكرام به، فهو الإيمان والعمل الصالح، وهما سبب لإكرامات كثيرة من الله تعالى، هذا الجعل للود منها.
بشارة وتثبيت :
في الآية من سبب نزولها بشارة لدعاة الحق، وأنصار السنة، ومرشدي الأمم، عندما يقومون بدعوة القرآن في عشائرهم، ويلقون منهم النفور والاعراض والبغض والانكار، ويجدون أنفسهم غرباء بينهم يعاديهم من كانوا أحبابهم، ويقاطعهم أقرب الناس قرابة إليهم، ويصبح يؤذيهم من كان يحميهم ويدافع عنهم.
في الآية بشارة لهم بأن تلك الحالة لا تدوم، وأنهم سيكون لهم على كلمة الحق مؤيدون، وفي الله محبون، وسيكون لهم ود في القلوب، ممن يعرفون وممن لا يعرفون.
وفيها أيضا تثبيت لهم في تلك الغربة ووحشة الانفراد بما يكون لهم من أنس الود، وأي ود هو ! ! ود يكون من جعل الرحمن.
دفع إشكال :
الآية منظور فيها إلى مجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وغالبهم. فلا يشكل علينا أن منهم من يموت في غربة الحق، قبل أن يكون له على الحق أنصاره، ومنهم من يموت غير معروف من الناس.
كما أن الود الذي يجعل لهم غير منظور فيه للعموم.
فلا يشكل ببغض من يبغضهم تعصبا لهوى، أو تقليدا لضال، أو حرصا على منفعة، ومحافظة على جاه أو منصب أو مال١.
تفسير نبوي :
قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم :
" إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال : إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل.
ثم ينادي في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.
وإذا أبغض عبدا ؛ دعا جبريل، فيقول : إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل. ثم ينادي ( جبريل ) في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض ".
رواه بهذا اللفظ مسلم ورواه البخاري وغيرهما.
وزاد الطبراني :" ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - :" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا "
فارتبط الحديث بالآية بزيادة الطبراني. وبين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – بقراءة الآية أن هذا القبول الذي يجعل لمن أحبه الله في أهل الأرض – والمراد بهم من يعرفونه منهم هو نوع الود المذكور في الآية، وبين أن أهل القبول في الأرض محبوبون في أهل السماء قبل أهل الأرض، وبين أن سبب ذلك القبول هو محبة الله لهم ؛ فمن أحبهم حببهم لعباده.
ولما كان سبب القبول محبة الله لهم بين - صلى الله عليه وآله وسلم – أن بغض الله سبب في بغض الخلق لهم إذ ما تسبب عن أحد الضدين يتسبب عن الآخر ضده.
ولما كانت محبة الله مسببة عن الإيمان والعمل الصالح، فبغض الله مسبب عن ضدهما إذ ما تسبب عنه أحد الضدين يتسبب عن ضده الضد الآخر.
وكما كان ذلك الود والقبول يكون شيئا زائدا على ما تقتضيه أسباب الود بين الناس، كذلك تكون هذه البغضاء التي يهين الله بها ويعاقب من يشاء، زيادة على ما تقتضيه أسباب البغضاء بينهم ؛ فيكون هذا الذي وضعت له البغضاء – والعياذ بالله – مبغوضا حتى ممن لم يكن منه إليه شيء من أسباب البغض.
تبيين وتعيين :
قد يكون الأتباع والمحبون والراغبون لأهل الحق ولأهل الباطل، لأئمة الهدى ولرؤوس الضلال، لدعاة الاتباع ولدعاة الابتداع.
ولكن أهل المحبة من اله والود والقبول من العباد، هم أهل الحق، وأئمة الهدى، ودعاة الإتباع للكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالحون، لا لأنفسهم والتحزب لهم، وجلب النفع لهم، والذي يعينهم لهذه الكرامة دون غيرهم هو اتباعهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – في سيرته ودعوته، وما كانت دعوته إلا للقرآن وبالقرآن، دون أن يسأل على ذلك من أجر.
وهذا لأن الود والقبول عند العباد مسببان عن محبة الله للعبد، ومحبة الله لا تكون إلا للمتبعين للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، لقوله تعالى :
" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " فكرامة الود والقبول إنما هي للمتبعين له - صلى الله عليه وآله وسلم - فأما غيرهم فما يكون لهم من قبل عند أمثالهم، فهو فتنة وبلاء عليهم.
إرشاد :
أفادت الآية الكريمة والحديث الشريف، أن على المسلم أن يتمسك بالإيمان والعمل الصالح، والاتباع للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – ولو كان في قوم انفرد بينهم بذلك وحده.
ولا يستوحش من انفراده بينهم ؛ فحسبه رضى الله ومحبته، وكفى بها أنسا وليثق بأنه – إن صدق – وأمد الله في عمره يكون له ود وقبول في عباد الله، وأنس بمن يحبهم ويحبونه لله، وتلك المحبة النافعة الدائمة والصلة المتينة الجامعة، التي تجمع بين أهلها في الدنيا والآخرة.
جعلنا الله والمسلمين من العاملين له المتحابين فيه.
١ وفي هذا أنس وإيناس، لألئك الداعين إلى الله في صمت، والعاملين في سبيل رفعة الإسلام في تواضع، لوجه الله تعالى..
Icon