تفسير سورة البقرة

تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام المعروف بـتفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

٢ - سورة البقرة
[ ١ ] موقف الشريعة من السحر
التحليل اللفظي
﴿ نَبَذَ ﴾ : النبذ : الطرح والإلقاء قال تعالى :﴿ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم ﴾ [ القصص : ٤٠ ] ومنه النبيذ للشيء المسكر، وسميَ نبيذاً، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً فينبذه في وعاء أو سقاء، ويتركه حتى يصير مسكراً، والمنبوذُ : ولد الزنى، لأنهُ يُنْبذُ على الطريق، قال أبو الأسود.
وخبّرني من كنتُ أرسلتُ أنما أخذتَ كتابي معرضاً بشمالكا
نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه كنبذكَ نعلاً أخْلقتْ من نعالكا
وقال آخر :
أنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرما
﴿ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾ : هذا مثل يضرب لمن استخفّ بالشيء وأعرض عنه جملة، تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه، قال تعالى :﴿ واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً ﴾ [ هود : ٩٢ ] وأنشد الفرّاء :
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي بظهرٍ ولا يعيا عليك جوابها
﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ : تشبيه لهم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يهتم، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة.
والمعنى : نبذوا كتاب الله وتركوا العمل به، على سبيل العناد والمابرة، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزّل على رسوله الكريم ﷺ.
﴿ واتبعوا ﴾ الضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود.
قال الزمخشري : أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين.
والمراد بالاتباع : التوغّلُ والإقبال على الشيء بالكليّة، وقيل : الاقتداء.
﴿ تَتْلُواْ ﴾ : بمعنى تلت مضارع بمعنى الماضي، فهو حكاية لحال ماضية، قال الشاعر :
وانضحْ جوانبَ قبره بدمائها فلقد يكونُ أخا دمٍ وذبائحِ
أي فلقد كان.
وتتلو يعني : تُحدّث، وتروي، وتتكلم به من التلاوة بمعنى القراءة.
قال الطبري : ولقول القائل « هو يتلو كذا » في كلام العرب معنيان :
أحدهما : الاتباع كما تقول :« تلوت فلاناً » إذا مشيت خلقه وتبعت أثره.
والآخر : القراءة والدراسة كما تقول : فلان يتلو القرآن بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال ( حسان بن ثابت ) :
نبيّ يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد
والمعنى : طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتّبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين وتحدّث وتروي بها في عهد سليمان.
﴿ الشياطين ﴾ : المتبادر من لفظ ( الشياطين ) أن المراد بهم مردة الجن، وبه قال بعض المفسرين وقال بعضهم : المراد بهم شياطين الإنس، والأرجح أن المراد بهم شياطين ( الإنس والجن ) كما قال تعالى :﴿ شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ].
﴿ على مُلْكِ سليمان ﴾ : أي على عهد مكله وفي زمانه، فهو على حذف مضاف.
قال المبرّد :« على » بمعنى « في » أي في عهد ملكه، كما أنّ « في » بمعنى « على » كما في قوله تعالى :﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل ﴾ [ طه : ٧١ ] أي على جذوع النخل. ( سليمان ) اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، واستعمله الحطيئة، اضطراراً فجعله بلفظ ( سلاّم ) حين قال :
21
فيه الرماح وفيه كل سابغة جدلاء محكمة من نسج سلاّم
قال الألوسي : وسليمان اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره ( هامان ) و ( ماهان ) و ( شامان ) وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون.
﴿ السحر ﴾ : في اللغة : كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، قال الأزهري : وأصل السّحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في سورة الحقّ، وخيّل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه اي صرفه.
وقال الجوهري : والسّحر : الأُخْذةُ، وكلّ ما لُطف مأخذه، ودقّ فهو سحرٌ وسَحَره أيضاً بمعنى خدعه.
وقال القرطبي : السّحر أصلُه التمويهُ بالحيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السّراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء، وهو مشتق من سحرتُ الصبي إذا خدعته، قال لبيد :
فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإنّنا عصافيرُ من هذا الأنام المسحّر
وقال امرؤ القيس :
أُرانا مُوضعين لأمر غيبٍ ونُسحَرُ بالطعام وبالشراب
عصافيرٌ وذبّانٌ ودودٌ وأجراً من مجلّحة الذئاب
وقال الألوسي : السّحر في الأصل مصدر سَحَر يسَحْر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدّق ويخفى، وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق. وفي الحديث « إنّ من البيان لسحراً ».
﴿ فِتْنَةٌ ﴾ : الفتنةُ الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم : فتنتُ الذهب في النار، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته.
قال الأزهري : جِماعُ معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان، والاختبار، قال تعالى :﴿ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [ الأنفال : ٢٨ ] وقال تعالى ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٣ ] أي اختبرنا وابتلينا.
قال الجصّاص : الفتنةُ : ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر، تقول العرب : فتنتُ الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشّه، والاختبار كذلك أيضاً لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن حالها.
﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ : أي بتعلم السّحر واستعماله، وفي الآية إشارة إلى أنّ تعلم السّحر كفرٌ.
قال الزمخشري :﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ أي فلا تتعلم السّحر معتقداً أنه حق فتكفر.
﴿ بِإِذْنِ الله ﴾ : أي بإرادته ومشيئته، وفيه دليل على أن في السحر ضرراً مودعاً، إذا شاء الله تعالى حال بينه وبين المسحور، وإذا شاء خلاّه حتى يصيبه ما قدّره الله تعالى له، وهذا مذهب السلف في الأسباب والمسببات.
﴿ لَمَنِ اشتراه ﴾ : قال الألوسي : أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع، ودخولها على الماضي مع ( قد ) كثير، كقوله تعالى :﴿ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ].
﴿ خلاق ﴾ : الخلاقُ في اللغة بمعنى النصيب قال تعالى :﴿ أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ] ويأتي بمعنى القدر قال الشاعر :
فما لكَ بيتٌ لدى الشامخات وما لك في غالب من خلاق
قال الزّجاج : هو النصيب الوافر من الخير، وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلّة.
22
﴿ شَرَوْاْ ﴾ : أي باعوا أنفسهم به، يقال : شرى بمعنى اشترى، وشرى بمعنى باع من الأضداد، قال الشاعر :
وشربتُ بُرْداً ليتني من بعد بُرْدٍ كنتُ هامة
﴿ لَمَثُوبَةٌ ﴾ : المثوبة : الثواب والجزاء، أي لثواب وجزاء عظيم من الله تعالى على إيمانهم وتقواهم.
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ ثناؤه أنّ أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله ( موسى ) عليه السلام وهو التوراة، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد ﷺ وهو القرآن، مع أنّ الرسول جاء مصدّقاً لما بين أيديهم من التوراة، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد، في الاستكبار والعناد، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي، والإفساد، والعناد.
لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه ﷺ واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدّثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان، وما كان ( سليمان ) عليه السلام ساحراً، ولا كفر بتعلمه السحر، ولكنّ الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب، وعَلَّموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس.
وكما اتبّع رؤساء اليهود ( السحر ) و ( الشعوذة ) كذلك اتّبعوا ما أُنزل على الرجلين الصالحين، أو الملكَيْن :( هاروت ) و ( ماروت ) بمملكة بابل، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض، لتعليم السحر، ابتلاءً من الله للناس، وما يعلّمان السّحر من أجل السّحر، وإنّما من أجل إبطاله، ليُظْهرا للناس الفرق بين ( المعجزة ) و ( السّحر )، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وقد كثر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السّحَرة أموراً غريبة وقع بسببها الشكّ في ( النبوّة )، فبعث الله تعالى المكلَين لتعليم أبواب السحر، حتى يزيلا الشّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق.. ومع ذلك فقد كانا يحذّران الناس من تعلّم السحر واستخدامه في الأذى والضرر، وكانا إذا علَّما أحداً قالا له : إنما هذا امتحان من الله وابتلاء فلا تكفر بسببه واتّق الله فلا تستعمله في الإضرار، فمن تعلّمه ليتوقّى ضرره ويدفع أذاه عن الناس فقد نجا وثبت على الإيمان، ومن تعلّمه معتقداً صحته ليُلحق الأذى بالناس فقد ضلّ وكفر، فكان الناس فريقين : فريق تعلّمه عن نيّة صالحة ليدفع ضرره عن الناس، وفريق تعلّمه عن نيّة خبيثة ليفرّق به بين الرجل وأهله، وبين الصديق وصديقه، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم، لأنهم عرفوا أنّ من تجرّد لهذه الأمور المؤذية، ما له في الآخرة من نصيب ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك.
ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله، وخافوا عذابه، لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم، من هذه الأمور الضارّة التي لا تعود عليهم إلاّ بالويل والخسار والدمار.
23
سبب النزول
قال ابن الجوزي رحمه الله : في سبب نزول هذه الآية قولان :
أحدهما : أن اليهود كانوا لا يسألون النبي ﷺ عن شيء من التوراة إلاّ أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
والثاني : أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة : ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ( ابن داود ) كان نبيّاً؟ والله ما كان إلا ساحراً فنزلت هذه الآية ﴿ وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ... ﴾ ذكره ابن إسحاق.
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى :﴿ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ﴾.
قرأ الجمهور :( ولكنّ الشياطينَ ) بتشديد نون ( لكنّ ) ونصب نون ( الشياطين ) وقرأ حمزة والكسائي :( ولكن الشياطينُ ) بتخفيف النون من ( لكن ) ورفع نون ( الشياطين ).
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين ﴾.
قرأ الجمهور :( المَلَكَيْن ) بفتح اللام والكاف مثنّى ( مَلَك ) وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير ( الملِكَيْن ) بكسر اللام مثنىّ ( ملِك ) قال ابن الجوزي : وقراءة الجمهور أصح.
قال القرطبي : وحُكي عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ :﴿ وما أُنْزل على الملِكَيْن ﴾ يعني به رجلين من بني آدم.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ هاروت وماروت ﴾ قرأ الجمهور بفتح التاء قرأ الحسن والزهري برفعهما على تقدير ( هما هاروتُ وماروتُ ).
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين ﴾ الواو للعطف، و ﴿ واتبعوا ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ ﴾ من عطف الجملة على الجملة، والضمير في ﴿ واتبعوا ﴾ لليهود، و ﴿ مَا ﴾ اسم موصول مفعول به و ﴿ تَتْلُواْ ﴾ صلة الموصول و ﴿ الشياطين ﴾ فاعل مرفوع وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبّع، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله فإنه مترتب على مجيء الرسول.
ثانياً - قوله تعالى :﴿ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين.... ﴾ جملة ﴿ يُعَلِّمُونَ الناس السحر ﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في ﴿ كَفَرُواْ ﴾ أي كفروا معلميّن الناس السحر، وقيل : هو بدل من ﴿ كَفَرُواْ ﴾ لأن تعليم السحر كفر في المعنى و ﴿ مَآ أُنْزِلَ ﴾ اسم الموصول ﴿ مَا ﴾ معطوف على ﴿ مَا تَتْلُواْ ﴾ فهو في موضع نصب، والمعنى : اتبعوا ما تتلوه الشياطين، واتبعوا ما أُنزل على الملكين، وقيل :﴿ مَآ أُنْزِلَ ﴾ ما : نافية أي لم ينزل على الملكين، قال ابن الأنباري : وهذا الوجه ضعيف جداً، لأنه خلاف الظاهر والمعنى، فكان غيره أولى.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق ﴾.
اللام في ﴿ لَمَنِ اشتراه ﴾ لام الابتداء، و ( مَنْ ) بمعنى الذي في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره جملة ﴿ مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق ﴾ و ﴿ مِنْ ﴾ في قوله :﴿ مِنْ خلاق ﴾ زائدة لتأكيد النفي، وتقديره : ما له في الآخرة خلاق.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : تضمنت هذه الآيات الكريمة ما كان عليه اليهود من الخبث وفساد النيّة، والسعي للإضرار بعباد الله، فالسّحر لم يُعرف إلاّ عند اليهود، فتاريخه مشتهر بظهورهم، فهم الذين نبذوا كتاب الله وسلكوا طريق السحر، وعملوا على إفساد عقول الناس وعقائدهم بطريق السحر، والشعوذة، والتضليل، وهذا يدل على أنّ اليهود أصل كل شرّ، ومصدر كلّ فتنة وقد صوّر القرآن الكريم نفسيّة اليهود بهذا التصوير الدقيق
24
﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾ [ المائدة : ٦٤ ].
اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : كما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمّن الوعيد في قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله :﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون ﴾ [ البقرة : ٩٩ ] وذكر نبذ العهود من اليهود، ونبذ كتاب الله، واتباع الشاطين، وتعلم ما يضر ولا ينفع، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى. فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد، والترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء، وإخبار بمغيّب يعد مغيّب، متناسقةٌ تناسق اللآلئ في عقودها، متضمنة اتضاح الدّراري في مطالع سعودها، معلمة صدق من أتى بها، وهو ما قرأ الكتب ولا دارس، ولا رحل، ولا عاشر الأحبار ولا مارس ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ﴾ [ النجم : ٣-٤ ] صلى الله وسلّم عليه، وأوصل أزكى تحية إليه.
اللطيفة الثالثة : قَوله تعالى :﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾ التعبيرُ بالنبذ وراء الظهور، فيه زيادة تشنيع وتقبيح على اليهود، حيث تركوا العمل بكتاب الله، وأعرضوا عنه بالكلّية، شأن المستخف بالشيء، المستهزئ به، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة.
يقول سيّد قطب رحمه الله :« والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والمقصودُ طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به، ولكنّ التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن، إلى دائرة الحسن، ويمثّل عملهم بحركةٍ مادية متخيّلة، تصوّر هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً، ينضح بالكنود والجحود، ويتسّم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة، ويدع الخيال يتملّى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور ».
اللطيفة الرابعة : وجه المقارنة بين ذكر ﴿ الشياطين ﴾ و ﴿ السحر ﴾ في الآية الكريمة، هو أنّ السحر فيه استعانة بأرواح خبيثةٍ شرّيرة من الجن، والشياطينُ تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك، وقد كان بعض الناس يصدّقونهم فيما يزعمون، ويلجأون إليهم عند الكرب كما قال تعالى :﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ﴾ [ الجن : ٦ ] ولهذا اشتهر السّحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة.
أخرج ابن جرير والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
« إنّ الشياطين كانوا يسترقون السّمع من السّماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة، كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك » سليمان بن داود « فأخذها وقذفها تحت الكرسي، فلمّا مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحدٍ مثل كنزه الممنّع؟ قالوا : نعم فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر ».
25
اللطيفة الخامسة : عبّر القرآن الكريم عن ( السحر ) ب ( الكفر ) في قوله تعالى :﴿ وَمَا كَفَرَ سليمان ﴾ وسياقُ اللفظ يدل على أن المراد منه السحر أي : وما سحر سليمان وإنما عبّر عنه بالكفر تقبيحاً وتشنيعاً، كما قال تعالى فيمن ترك الحجّ مع القدرة عليه ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر، ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله، وقد دلّ عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾.
اللطيفة السادسة : روي أنّ رجلاً تكلّم بكلام بليغ عند ( عمر بن عبد العزيز ) فقال عمر : هذا والله السّحر الحلال. ورُوي « أنّ ( الزبرقان بن بدر ) و ( عَمْر بن الأهتم ) و ( قيس بن عاصم ) قدموا على رسول الله ﷺ فقال لعَمْرو : خبّرني عن الزبرقان؟ فقال : مُطاع في ناديه، شديد العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره.. فقال الزبرقان : هو والله يعلمُ أني أفضلُ منه، فقال عمرو : إنه زمر المروءة، ضيّق العَطَن، أحمقُ الأب، لئيم الخال.. ثم قال : يا رسول الله، صدقتُ فيهما، أرضاني أحسن ما علمتُ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال عليه السلام :» إن من البيان لسحراً « ».
ورُوي أن رجلين قدما على رسول الله ﷺ فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال رسول الله ﷺ :« إنّ من البيان لسحراً » فإن قيل : كيف سمّى عليه السلام روحة البيان سحراً مع أنّ السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟!
فالجواب : أنّ هذا على ( المجاز ) لا على ( الحقيقة ) فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه، وجمال تعبيره، كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين، فمن هذا الوجه سمّي البيان سحراً.
اللطيفة السابعة : فإن قيل : كيف كان الملكان يعلّمان الناس السحر مع أنه حرام، ومعتقده كافر؟!
فالجواب : أنهما ما كانا يعلمان الناس السّحر للعمل به، وإنما للتخلُّص من ضرره، والاحتراز منه، لأن تعريف الشر للزجر عنه حسن وقد قيل :
عرفتُ الشرّ لا للشرّ... لكن لتوقّيه
ومن لا يعرف الشرّ... من الناس يقع فيه
وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ فلاناً لا يعرف الشر، قال : أجدر أن يقع فيه. والصحيح كما قال الألوسي : أن ذلك كان للابتلاء والتمييز بين ( المعجزة ) و ( السحر ) والله أعلم.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل للسّحر حقيقة وتأثير في الواقع؟
اختلف العلماء في أمر ( السحر ) هل له حقيقة أم هو شعوذة وتخييل؟
فذهب جمهور العلماء : من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير.
26
وذهب المعتزلة وبعض أهل السُنّة : إلى أنّ السحر ليس له حقيقة في الواقع وإنما هو خداع، وتمويه، وتضليل، وأنه باب من أبواب الشعوذة، وهو عندهم على ضروب.
ضروب السحر
أولاً : التخييل والخداع : وذلك كما يفعله بعض المشعوذين، حيث يريك أنه ذبح عصفوراً، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار، وذلك لخفة حركته، والمذبوحُ غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر. قالوا : وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد كانت العصيّ مجوَّفة، قد ملئت زئبقاً، وكذلك الحبال كانت من أدم ( جلد ) محشوّة زئبقاً، وقد حفروا تحت المواضع أسراباً وملؤها ناراً، فلمّا طرحت عليها الحبال والعصيّ وحمى الزئبق تحركت، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدّد، فتخيّل الناس أنّ هذه الحبال والعصي تتحرك وتسير.
ثانياً : الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ وذلك كما يفعله بعض العَرّافين والكُهان حيث يوكلون أناساً بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، ويزعمون أنها من حديث الجنّ والشياطين لهم، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرّقي، والعزائم، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات فيصدقهم الناس، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أعدّوهم لذلك.
قال الجصاص : كانت أكثر مخاريق الحلاّج بالمواطأة، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزاً ولحماً وفاكهة في مواضع يعيّنها لهم، ثمّ يمشي مع أصحابه في البرية، ثم يأمر بحفر هذه المواضع، فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدّونها من الكرامات.
ثالثاً : وضربٌ آخر من السّحر عن طريق النميمة، والوشاية، والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة، وذلك عام شائع في كثير من الناس.. وقد حُكي أنّ امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها : إنّ زوجك معرضٌ عنك، وهو يريد أن يتزوج عليك، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك، ولا يريد سواك، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها حتّى يتم سحره، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها، ثمّ ذهبت إلى الرجل وقالت له : إن امرأتك قد أحبّت رجلاً وقد عزمت على أن تذبحك بالموسى عند النوم لتتخلص منك، وقد أشفقت عليك ولزمني نصحك، فتيقّظ لها هذه الليلة وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته فجاءت زوجته بالموسى لتحلق بعض شعرات من حلقه، ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه، فلم يشكّ في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة.
27
رابعاً : وضرب آخر من السحر وهو الاحتيال وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الفكر والذكاء، كإطعامه ( دماغ الحمار ) الذي إذا أطعمه إنسان تبلّد عقله، وقلّت فطنته مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب، فإذا أكله الإنسان تصرّف تصرفاً غير سليم فيقول الناس : به مسّ أو أنه مسحور.
فأنت ترى أنهم يُرجعون السحر إمّا إلى تمويه وتخييل، وإمّا إلى مواطأة، وإمّا إلى سعي ونميمة، وإمّا إلى احتيال، ولا يرون الساحر يقدر على شيء ممّا يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام، ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن اليسير.
قال أبو بكر الجصاص : وحكمةٌ كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل، لا حقيقة لما يدّعون لها أنّ الساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر، وأمكنهما الطيران، والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية، والخبيثات والسّرَق، والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا ينالهم مكروه، ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس.
فإذا لم يكن كذلك، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالاً، وأكثرهم طمعاً واحتيالاً، وتوصلاً لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقراً وإملاقاً علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك «.
أدلة المعزلة :
استدل المعتزلة على أن السحر ليس له حقيقة بعدة أدلة نوجزها :
أ - قوله تعالى :﴿ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ].
ب - قوله تعالى :﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾ [ طه : ٦٦ ].
ج - قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى ﴾ [ طه : ٦٩ ].
فالآية الأولى : تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب، والثانية : تؤكد أنَّ هذا السحر كان تخييلاً لا حقيقة، والثالثة : تثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه.
د - وقالوا : لو قدر الساحر أن يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، أو يقلب التراب إلى ذهب على الحقيقة، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء، والتبس الحق بالباطل، فلم يعد يعرف ( النبي ) من ( الساحر ) لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء، وفعل السحرة، وأنه جميعه من نوع واحد.
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور من العلماء على أنّ السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ - قوله تعالى :﴿ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الأعراف : ١٦٦ ].
ب - قوله تعالى :﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
ج - قوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
د - قوله تعالى :﴿ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد ﴾ [ الفلق : ٤ ].
فالآية الأولى دلّت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الأعراف : ١٦٦ ] والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقياً حيث أمكنهم بواسطته أن يفرّقوا بين الرجل وزوجه، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين فدلت على أثره وحقيقته، والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر، ولكنّه متعلق بمشيئة الله، والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شرّ السّحرة الذين ينفثون في العقد.
28
ه - واستدلوا بما روي « أن يهودياً سحر النبي ﷺ فاشتكى لذلك أياماً، فأتاه جبريل فقال : إنّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل ﷺ فاستخرجها فحلّها، فقام كأنّما نَشِطَ من عقال ».
الترجيح : ومن استعراض الأدلة نرى أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس، فإن إلقاء البغضاء بين الزوجين، والتفريق بين المرء وأهله الذي أثبته القرآن الكريم ليس إلا أثراً من آثار السحر، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شرّ النفاثات في العقد، ولكنْ كثيراً ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية فنحن نقر بأنّ له أثراً وضرراً ولكنّ أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلاّ بإذن الله، فهو سبب من الأسباب الظاهرة، التي تتوقف على مشيئة مسبّب الأسباب، ربّ العالمين جل وعلا.
وأما استدلالهم : بأنه يلتبس الأمر بين ( المعجزة ) و ( السحر ) إذا أثبتنا للسّحر حقيقة فنقول : إنّ الفرق بينهما واضح فإنّ معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وظاهرُها كباطنها، وكّلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، وأما السّحر فظاهره غير باطنه، وصورته غير حقيقته، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحرٍ عظيم، مع إثباته أَنّ ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل.
قال العلامة القرطبي :« لا ينكر أحدٌ أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، بما ليس في مقدور البشر، من مرضٍ، وتفريق، وزوال عقل، وتعويج عضو، إلى غير ذلك ممّا قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر.
قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدقّ جسم الساحر حتى يلج في الكُوّات، والخوخات، والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب وغير ذلك، ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك، ولا علةً لوقوعه، ولا سبباً مولوداً، ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرّيّ عند شرب الماء.
ثم قال : قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده من إنزال الجراد، والقمل، والضفادع وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.
29
وقال أبو حيان : واختلف في حقيقة السحر على أقوال :
الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات كالطيران، وقطع المسافات في ليلة.
الثاني : أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها وهو قول المعتزلة.
الثالث : أنه أمرٌ يأخذ بالعين على جهة الحيلة، كما كان فعل سحرة فرعون حيث كانت حبالهم وعصيّهم مملوءة زئبقاً، فجّروا تحتها ناراً فحميت الحبال والعصي فتحرّكت وسعت.
الرابع : أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي.
الخامس : أنه مركب من أجسام تُجمع وتحرق، ويتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل في أمور السحر.
السادس : أن أصله طلسمات تبنى على تأثير خصائص الكواكب، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسُر.
السابع : أنه مركّب من كلمات ممزوجة بكفر، وقد ضمّ إليها أنواع من الشعبذة، والنازنجيات، والعزائم، وما يجري مجرى ذلك.
ثم قال : وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء، ولا يترتب عليه شيء، ولا يصح منه شيء البتة، وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها.
الحكم الثاني : هل يباح تعلّم السحر وتعليمه؟
ذهب بعض العلماء : إلى أن تعلُّم السحر مباح، بدليل تعليم الملائكة السحر للناس كما حكاه القرآن الكريم عنهم، وإلى هذا الرأي ذهب ( الفخر الرازي ) من علماء أهل السنة.
وذهب الجمهور : إلى حرمة تعلم السحر، أو تعليمه، لأنّ القرآن الكريم قد ذكره في معرض الذمّ، وبيّن أنه كفر فكيف يكون حلالاً؟
كما أن الرسول ﷺ عدّه من الكبائر الموبقات كما في الحديث الصحيح وهو قوله صلوات الله عليه :
« اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا وما هنّ يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ».
قال الألوسي :« وقيل إنّ تعلمه مباح، وإليه مال الإمام الرازي قائلاً : اتفق المحقّقون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى :﴿ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٩ ] ولو لم يُعْرف السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، فكيف يكون تعلمه حراماً وقبيحاً؟
ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص »
. انتهى.
ثم قال الألوسي :« والحق عندي الحرمة تبعاً للجمهور، إلاّ لداعٍ شرعي، وفيما قاله الإمام الرازي رحمه الله نظر :
أمّا أولاً : فلأنا لا ندّعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه من باب ( سد الذرائع ) وكم من أمرٍ حَرُم لذلك.
وأمّا ثانياً : فلأنّ توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوعٌ، ألا ترى أن أكثر العلماء - أو كلّهم - عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر، ولو كان تعلمه واجباً لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول.
30
وأما ثالثاً : فلأن ما نُقل عن بعضهم غير صحيح، لأنّ إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر، لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إنْ شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالباً قُتل الساحر، وإلاّ لم يُقتل.
وقال أبو حيان : وأما حكم السحر، فما كان منه يُعظّم به غير الله من الكواكب، والشياطين، وإضافة ما يُحدثه الله إليها فهو كفر إجماعاً، لا يحلّ تعلمه ولا العمل به، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء.
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه، ولا العمل به، وما كان من نوع التخييل، والدّجل، والشعبذة فلا ينبغي تعلمه لأنه من باب الباطل، وإن قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره.
الحكم الثالث : هل يُقتل الساحر؟
قال أبو بكر الجصاص : اتفق السلف على وجوب قتل الساحر، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله ﷺ :« من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد ».
واختلف فقهاء الأمصار في حكمه :
فروي عن أبي حنيفة أنه قال : الساحرُ يُقتل إذا عُلم أنه ساحر ولا يستتاب، ولا يقبل قوله إني أترك السحر منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وكذلك العبد المسلم، والحر الذميّ من أقر منهم أنه ساحر فقد حلّ دمه، وهذا كله قول أبي حنيفة.
قال ابن شجاع : فحَكَمَ في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة، وقال - نقلاً عن أبي حنيفة - إنّ الساحر قد جمع مع كفره السعيَ في الأرض بالفساد، والساعي بالفساد إذا قتَلَ قُتل.
وروي عن مالك في المسلم إذا تولّى عمل السحر قتل ولا يستتاب، لأنّ المسلم إذا ارتد باطناً لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلاّ أن يضر المسلمين فيقتل.
وقال الشافعي : لا يكفر بسحره، فإن قتَل بسحره وقال : سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قوداً، وإن قال : قد يقتل، وقد يخطئ لم يُقتل وفيه الدية.
وقال الإمام أحمد : يكفر بسحره قتل به أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يُقتل إلا أن يضر بالمسلمين.
والخلاصة : فإنّ أبا حنيفة يذهب إلى كفر الساحر، ويبيح قتله ولا يستتاب عنده، والساحر الكتابي حكمه كالساحر المسلم. والشافعي يقول : بعدم كفره ولا يقتل عنده إلا إذا تعمّد القتل.
31
ومالك يرى قتل الساحر المسلم لا ساحر أهل الكتاب ويحكم بكفر الساحر ولكلٍ وجهه هو مولّيها..
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - التوراة كتاب الله الذي أنزله على موسى عليه السلام والقرآن مصدّق للتوراة.
٢ - نبذ اليهود ( التوراة ) ولم يعملوا بما فيها كما نبذ أخلافهم القرآن الكريم.
٣ - سليمان عليه السلام كان نبياً ملكاً. ولم يكن ساحراً محترفاً للسحر.
٤ - الشياطين زينوا للناس السحر، وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب.
٥ - السحر له حقيقة وتأثير على النفس، حتى يستطيع الشخص بواسطته أن يفرق بين الرجل وأهله.
٦ - الله جل ثناؤه يختبر عباده بما شاء من الأمور ابتلاءً وتمحيصاً.
٧ - من تبدل السحر بكتاب الله فليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله.
٨ - مدار الثواب والجزاء في الآخرة هو الإيمان بالله تعالى وإخلاص العمل له.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
لقد حرص الإسلام في كل تشريعاته على سلامة العقيدة في قلب المسلم. ليكون دائماً وأبداً متصلاً بالله، معتمداً عليه، مقراً له بالربوبية، مستعيناً به على شدائد هذه الحياة، لا يتوجه لغيره في دعاء، ولا يقر لسواه بأي تأثير، أو تحكم في قانون من قوانين الطبيعة التي خلقها الله تعالى، وسيَّرها بعلمه، وقدرته، وإرادته.
فالنجوم، والكواكب مسخرات بأمره - كغيرها من خلق الله - تسير وفق الخط المرسوم لها من الأزل، لا تؤثر حركتها على الإنسان الذي خلقه الله تعالى على هذه الأرض وقدّر له أرزاقه، وأعماره، فلا ينتهي عمر إنسان ما بظهور كوكب، أو اختفائه، ولا يزيد رزق امرئ، ولا ينقص عما قدره الله تعالى له، فكل شأن من شؤون الحياة مدبر بأمر الله.
فإن زعم إنسان أنه يعلم الغيب باتصاله بالكواكب، وتعظيمه لها. أو اتصاله بالجن والشياطين، ويستطيع بذلك أن يؤثر في قوانين هذه الحياة ويحكم في مسيرتها الطبيعية بما يخرجها عمّا رسم لها، يكون بذلك قد خالف شرعة الله التي أوضحها في كتابه، وتجاوز الحدود التي وضعت له، وخرج عن قانون الحنيفية السمحة، فلا جرم أن يحكم عليه بالكفر لتعظيمه غير الله، واستعانته بغير الخالق وإثباته التأثير في خلق الله لغير البارئ - والأذى بالناس، وقد يصل بذلك إلى التفريق بين المرء وزوجه، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله تعالى.
وإذا كان السحر كفراً، وخروجاً عن شرعة الإسلام، فلا يمكن أن يوصف أحد من رسل الله تعالى بأنه ساحر، أو أنه كان يحكم بالسحر، ويأتي بالخوارق والمعجزات بهذا الأمر، ولهذا جاء القرآن كتاب الله المبين منزهاً سليمان بن داود عليه السلام عن أن يكون ساحراً، أو حاكماً بالسحر، أو آمراً به، فما زعمته بنو إسرائيل عن النبي الكريم - سليمان عليه السلام - زعم كاذب، وقول باطل، يدل على جهلهم، بل على ضلالهم عن سواء السبيل، وبعدهم عن الصراط المستقيم، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته، ولم يعلموا ما يجب في حق الرسل - عليهم السلام - وما يستحيل، فالرسل الكرام منزهون عن الاستعانة بالشياطين، وإنما كان الجن مسخرين لسليمان عليه السلام بأمر الله تعالى لا بالسحر.
هذا هو شرع الله المتين، تنزيهٌ لله عن أن يشركه أحد من خلقه في التأثير، وتنزيهٌ لرسله الكرام عما يبعدهم عن سواء السبيل، وبيانٌ للمسلم عما يجب أن يعتقده.
32
[ ٢ ] النسخ في القرآن
التحليل اللفظي
﴿ نَنسَخْ ﴾ : النسخُ يأتي بمعنى ( الإزالة ) تقول العرب : نسخت الشمسُ الظلّ أي أزالته، ومنه قوله تعالى :﴿ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ﴾ [ الحج : ٥٢ ] أي يزيل ما يلقيه الشيطان.
ويأتي بمعنى ( النقل ) من موضع، ومنه قولهم : نسختُ الكتاب أي نقلت ما فيه من مكان إلى مكان أي نقلته إلى كتاب آخر، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ].
ويأتي بمعنى ( التبديل ) تقول : نسخَ القاضي الحكم أي بدّله وغيّره، ونسخ الشارع السورة أو الآية أي بدّلها بآية أخرى، وإليه يشير قوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ [ النحل : ١٠١ ]
ويأتي بمعنى ( التحويل ) كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد، هذا من حيث اللغة.
وأما في الشرع : فهو انتهاء الحكم المستنبط من الآية وتبديله بحكم آخر، وقد عرّفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات كثيرة نختار منها أجمعها وأخصرها، وهو ما اختاره ابن الحاجب حيث قال رحمه الله.
« النسخ : هو رفع الحكم الشرعي، بدليل شرعيّ متأخر ».
﴿ نُنسِهَا ﴾ : نُنسها من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب، فالنسيان بمعنى الذهاب من الذاكرة وهو مروي عن قتادة.
وقيل : من النسيان بمعنى الترك على حدّ قوله تعالى :﴿ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] أي تركوا أمره فتركهم في العذاب. ومنه قوله تعالى :﴿ قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى ﴾ [ طه : ١٢٦ ] وهو مروي عن ابن عباس.
قال ابن عباس : أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها.
وحكى الأزهري : نُنْسها : أي نأمرُ بتركها، يقال : أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه، ونسيتُه تركته، قال الشاعر :
إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها
وأما قراءة ( نَنْسَأها ) بالهمز، فهو من النسأ بمعنى التأخير، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر ﴾ [ التوبة : ٣٧ ] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة.
وقال أهل اللغة : أنسأ الله أجله، ونسأ في أجله، أي أخرّ وزاد.
قال الألوسي :« وقرئ ( ننسأها ) وأصلها من نسأ بمعنى أخّر، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها، أو نُبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى ( نُنْسها ) فتتحّد القراءتان ».
﴿ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ : أي بأفضل منها، ومعنى فضلها : سهولتها وخفتها.
والمعنى : نأت بشيء هو خير للعباد منها، أو أنفع لهم في العاجل والآجل.
قال القرطبي : لفظة « خير » هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية.
﴿ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ : الوليّ معناه القريب والصديق، مأخوذ من قولهم : وليتُ أمر فلان أي قمتُ به، ومنه وليّ العهد : أي القيّم بما عهد إليه من أمر المسلمين.
والنصيرُ : المعين مأخوذ من قولهم : نصره إذا أعانه.
33
قال الإمام الفخر : وأمّا الولي والنصير فكلاهما ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) على وجه المبالغة.
والمعنى : ليس لكم ناصر يمنعكم من العذاب.
﴿ أَمْ تُرِيدُونَ ﴾ :« أم » تأتي : متصلة، ومنقطعة، فالمتصلة هي التي تقدمها همزة استفهام كقوله تعالى :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ﴾ [ البقرة : ٦ ] وأما المنقطعة فهي بمعنى ( بل ) كقول العرب ( إنها الإبل أم شاء ) كأنه قال : بل هي شاء، ومنه قوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ [ السجدة : ٣ ] أي بل يقولون.
ومثله قول الأخطل :
كذبتكَ عينكَ أم رأيت بواسطٍ غلسَ الظَّلام من الربَابِ خيَالاً
قال القرطبي :« هذه ( أم ) المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل أتريدون ومعنى الكلام التوبيخ ».
﴿ يَتَبَدَّلِ الكفر ﴾ : يقال : بدّل، تبدّل، واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر، والمراد اختيار الكفر بدل الإيمان كما قال تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار ﴾ [ البقرة : ١٧٥ ].
﴿ سَوَآءَ السبيل ﴾ : السواءُ من كل شيء : الوسطُ، ومنه قوله تعالى :﴿ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم ﴾ [ الصافات : ٥٥ ] أي وسط الجحيم.
والسبيلُ في اللغة : الطريقُ، والمراد به طريق الاستقامة.
ومعنى الآية : من يختر الكفر والجحود بالله ويفضله على الإيمان، فقد حاد عن الحق، وعدل عن طريق الاستقامة، ووقع في مهاوي الردي.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بعد أن بيّن سبحانه وتعالى حقيقة الوحي، ورق على المكذّبين به والكارهين له جملةً وتفصيلاً، ذكر هنا سرَّ النسخ، وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يكون فيه من المصلحة للعباد، ثمّ ينهى عنه لما يرى فيه من الخير لهم، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبّدهم بها، وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة والأشخاص، فينبغي تسليم الأمر لله، وعدم الاعتراض عليه، لأنه هو الحكيم العليم.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه :
﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ : أي ما نبدّل من حكم آية فنغيّره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير لكم منها - أيها المؤمنون - في العاجل أو الآجل إمّا برفع مشقة عنكم، أو بزيادة الأجر لكم والثواب، أو بمثلها في الفائدة للعباد، ألم تعلموا أيها الناس أن الله عليم، حكيم، قدير، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان، وأنه - جل وعلا - شرع هذه الملة الحنيفية السمحة، ليرفع عن عباده الأغلال والآصار؟!
فلا تظنّوا أنّ تبديله للأحكام لعجزٍ في القدرة، أو جهل في المصلحة، وإنما تغييرها يرجع إلى منفعة العباد، فهو المالك المتصرف في شؤون الخلق، يحكم بما شاء، ويأمر بما شاء، ويبدّل وينسخ الأحكام حسب ما يريد، وما لكم أيها الناس سوى وليّ يرعى شؤونكم، أو ناصر ينصركم، فلا تثقوا بغيره، ولا تعتمدوا إلا عليه، فهو نعم الناصر والمعين.
أتريدون - أيها المؤمنون - أن تسألوا رسولكم، نظير ما سأل قوم موسى من قبل؟! فتضلّوا كما ضلّوا، ويكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا نبيّهم تعنتاً واستكباراً فقالوا :
34
﴿ أَرِنَا الله جَهْرَةً ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] وطلبوا منه ما لا يسوغ طلبه حيث قالوا :﴿ اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ] فهل يليق بكم أن تتعنتوا مع نبيكم، وتقترحوا عليه ما تشتهون، فتصبحوا كاليهود الضالين؟!
ومن يستبدل الكفر بالإيمان، والضلالة بالهدى، فقد حاد عن الجادة، وعدل عن طريق الاستقامة، وتردّى في مهاوي الهلاك، وخسر نفسه حيث عرّضها لعذاب الله الأليم.
سبب النزول
أ - روي أن اليهود قالوا : ألا تعجبون لأمر محمداً؟ يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضاً فنزلت ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا... ﴾ الآية.
ب - روي الفخر الرازي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
« إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ﷺ في رهط من قريش فقالوا يا محمد : والله لا نؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً من الله أنك رسوله فأنزل الله تعالى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ... ﴾ [ البقرة : ١٠٨ ].
ج - وروي عن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقال : نعم، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا فأنزل الله ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ... ﴾.
وجوه القراءات
١- قرأ الجمهور ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ بفتح النون من نسخ الثلاثي، وقرأ ابن عامر ( نُنْسخ ) بضم النون وكسر السين من أنسخ الرباعي.
قال الطبرسي :»
لا يخلو من أن يكون ( أَفْعل ) لغة في ( فَعَل ) نحو بدأ وأبدأ، وحلّ من إحرامه وأحلّ، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته، والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ، وقول من فتح النون ( نَنْسخ ) أبينُ وأوضح.
٢ - قرأ الجمهور ( نُنْسِها ) بضم النون الأولى وكسر السين من النسيان الذي هو ضد الذكر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( نَنْسأها ) بفتح النون والسين وإثبات الهمزة من النسأ وهو التأخير من قولهم : نسأتُ الإبل عن الحوض إذا أخرتها، ومنه قولهم : أنسأ الله أجلك.
وجوه الأعراب
١ - قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾.
قال ابن قتيبة : أراد أو ( نُنْسكها ) من النسيان. ( ما ) شرطية جازمة و ( ننسخ ) مجزوم لأنه فعل الشرط، و ( مِنْ ) صلة تأدباً، و ( آية ) مفعول ل ( ننسخ ) والمعنى : ما ننسخ آية قال ابن مالك :
35
وزيدَ في نفي وشبهِهِ فجَرّ نكرةً كما لباغٍ من مفر
و ( نُنسها ) معطوف على ( ننسخ ) والمعطوف على المجزوم مجزوم، و ( نأت ) جواب الشرط حذف منه حرف العلة، و ( بخيرٍ ) جار مجرور متعلق بنأت.
قال العكبري : ومن قرأ بضم النون ( نُنْسها ) حمله على معنى نأمرك بتركها وفيه مفعول محذوف والتقدير : نُنْسكها.
٢ - قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [ الشرح : ١ ] والخطابُ للنبي ﷺ، وقوله تعالى :﴿ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ سادّ مسدّ مفعولي ( تعلم ) عند الجمهور، ومحل المفعول الأول عند الأخفش، والمفعول الثاني محذوف.
٣ - قوله تعالى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ ﴾ أم منقطعة للإضراب ومعناها ( بل ) والتقدير : بل أتريدون، ﴿ كَمَا سُئِلَ ﴾ الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي سؤالاً كسؤال، و ( ما ) مصدرية.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكر الله تعالى النسخ في القرآن، وبيّن حكمته، وهو الإتيان بما هو خير للعباد، والخيرية تحتمل وجهين :
الأول : ما هو أخف على البشر من الأحكام.
الثاني : ما هو أصلح للناس من أمور الدنيا والدين.
قال القرطبي : والثاني أولى لأنه سبحانه يصرّف المكلّف على مصالحه، لا على ما هو أخف على طباعه، فقد ينسخ الحكم إلى ما هو أشد وأثقل، كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وذلك لخير العباد، لأنه يكون أكثر ثواباً، وأعظم جزاءً، فتبيّن أنّ المراد بالخيرية ما هو أصلح للعبد.
اللطيفة الثانية : أنكر بعض العلماء أن تحمل الآية ( أو نُنْسها ) على النسيان ضد الذكر، لأنّ لم يكن للنبي ﷺ حيث تكفّل الله جلت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ]، فهذه الآية تعارض التفسير السابق الذي ذهب إليه المفسّرون.
والجواب كما قال ابن عطية : أن هذا النسيان من النبي ﷺ لما أراد الله أن ينساه جائز شرعاً وعقلاً، وأمّا النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده حتى يحفظه بعض الصحابة، ومن هذا ما روي « أن النبي ﷺ أسقط آية في الصلاة، فلما فرغ منها قال : أفي القوم أُبيّ؟ قال : نعم يا رسول الله، قال : فلِمَ لم تذكرني؟ قال : خشيت أن تكون قد رفعت، فقال النبي ﷺ : لم ترفع ولكني نسيتها ».
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ المراد بالخيرية هنا الأفضلية يعني في ( السهولة والخفة ) وليس المراد الأفضلية في ( التلاوة والنظم ) لأن كلام الله تعالى لا يتفاضل بعضه عن بعض، إذ كلّه معجز وهو كلام ربّ العالمين.
قال القرطبي :« لفظة ( خير ) هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كان مستوية، وليس المراد ب ( أخير ) التفضيل، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله :
36
﴿ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ [ النمل : ٨٩ ] أي فله منها خير أي نفع وأجر «.
وقال أبو بكر الجصاص :»
( بخيرٍ منها ) في التسهيل والتيسير كما روي عن ابن عباس وقتادة، ولم يقل أحد من العلماء خير منها في التلاوة، إذ غير جائز أن يقال : إنّ بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم، إذ جميعه معجز كلام الله «.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؟ الخطاب للنبي ﷺ والمراد أمته بدليل قوله تعالى :﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أو المراد هو وأمته وإنمّا أفرد عليه السلام لكونه إمامهم، وقدوتهم، كقوله تعالى :﴿ ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] فتخاطب الأمة في شخص نبيّها الكريم باعتباره الإمام والقائد. ووضعُ الاسم الجليل موضع الضمير ( أنّ الله ) و ( من دون الله ) لتربية الروعة والمهابة في نفوس المؤمنين، والإشعار بأن شمول القدرة من مظاهر الألوهية والعظمة الربانية، وكذا الحال في قوله جل وعلا ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾.
قال العلامة أبو السعود : والمعنى : ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً، وأمراً ونهياً، حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقّب لحكمه.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ معنى ﴿ دُونِ الله ﴾ أي سوى الله كما قال أمية بن أبي الصلت :
يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واق وما على حدثان الدهر من باق
قال في »
الفتوحات الإلهية « :» وقوله :﴿ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أتى بصيغة فعيل في ﴿ وَلِيٍّ ﴾ و ﴿ نَصِيرٍ ﴾ لأنها أبلغ من فاعل والفرقُ بين الولي والنصير، أن الوليّ قد يضعف عن النّصرة، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجه «.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾ السّواء : هو الوسط من كل شيء، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الطريق المستوي يعني المعتدل، ومعنى ( ضل ) أي أخطأ، وفي هذا التعبير نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل النسخ جائز في الشرائع السماوية؟
قال الإمام الفخر : النسخ عندنا جائز عقلاً، واقع سمعاً، خلافاً لليهود، فإنّ منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوّزه عقلاً، لكنْ منع منه سمعاً، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ.
37
واحتج الجمهور : من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه، أنّ الدلائل دلت على نبوة محمد ﷺ ونبوّتُه لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القطع بالنسخ.
وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة، وفي نفس شريعة اليهود، فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه، وقد حرم ذلك باتفاق.
قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » :( زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقة، أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد ﷺ، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين، كالسبت، والصلاة إلى المشرق والمغرب، قال لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء، وشريعته باقية البتة إلى أن تقوم الساعة، وقد بعد هذا القائل من التوفيق بإظهار هذه المقالة، إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفُها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه، ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به، ولا يجيزون فيه التأويل، وقد ارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة، مع تعسف المعاني واستكراهها، وأكثر ظني فيه أنه إنما أُتي به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه، ونقلته الأمة.. ).
دليل أبي مسلم :
أ - احتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] فلو جاز النسخ لكان قد أتاه الباطل.
ب - كما تأول الآية الكريمة ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ على أن المراد بها نسخ الشرائع التي في الكتب القديمة من التوارة والإنجيل، أو المراد بالنسخ النقلُ من اللوح المحفوظ وتحويله إلى سائر الكتب.
ج - وقال : إن الآية السابقة لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خيرٍ منه.
والجوال عن الأول : أن المراد أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريف والتبديل، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ].
وأما الثاني والثالث : فإنه تأويل ضعيف لا تقوم به حجة، ويناقض الواقع فقد نسخت كثيراً من الأحكام الشرعية بالفعل كنسخ القبلة، ونسخ عدة المتوفى عنها زوجها إلى آخر ما هنالك مما سنبينه إن شاء الله من التفضيل.
أدلة الجمهور :
واستدل الجمهور على وقوع النسخ بحجج كثيرة نوجزها فيما يلي :
الحجة الأولى : قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ.
الحجة الثانية : قوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ... ﴾
38
[ النحل : ١٠١ ] قالوا : إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام، والتبديلُ يشتمل على رفعٍ وإثبات، والمرفوع إمّا التلاوة، وإمّا الحكم، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ.
الحجة الثالثة : قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا... ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] ثم قال تعالى :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ثمّ نسخ ذلك وأُمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام.
الحجة الرابعة : أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً في قوله جلّ ذكره ﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول... ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ].
الحجة الخامسة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحالٍ من الأحوال، ولهذا أجمع العلماء على القول بالنسخ، حتى روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لرجلٍ : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا، قال : هلكتَ وأهلكت الناس.
قال العلامة القرطبي :( معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام، وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوبون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة ).
ثم قال :« لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء، قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمآل الأمور، وأمّا العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغيّر، فإنّ ذلك محال في جهة الله تعالى ».
الحكم الثاني : ما هي أقسام النسخ في القرآن الكريم؟
ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام :
الأول : نسخ التلاوة والحكم معاً.
الثاني : نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
الثالث : نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
أما الأول : وهو ( نسخ التلاوة والحكم ) فلا تجوز قراءته، ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية فهو كآية التحريم بعشر رضعات.. روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( كان فيما نزل من القرآن « عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن » فنسخن بخمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ وهي مما يقرأ من القرآن ).
39
قال الفخر الرازي : فالجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والجزء الثاني، وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
وأما الثاني :( نسخ التلاوة وبقاء الحكم ) فهو كما قال الزركشي في « البرهان » : يُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول، كما روي أنه كان في سورة النور ( الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ). ولهذا قال عمر :( لولا أن يقال الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي ).
وأخرج ابن حيان : في « صحيحه » عن ( أُبيّ بن كعب ) رضي الله عنه أنه قال :« كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور - أي في الطول - ثمّ نسخت آيات منها ».
وأما الثالث :( نسخ الحكم وبقاء التلاوة ) فهو كثير في القرآن الكريم، وهو كما قال ( الزركشي ) في ثلاث وستين سورة.. ومن أمثلة هذا النوع آية الوصية، وآية العدة، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول ﷺ، والكف عن قتال المشركين.. الخ.
وقد ألّف الشيخ هبة الله بن سلامة « رسالة في الناسخ والمنسوخ » جاء فيها ما نصه :
« اعلم أن أول النسخ في الشريعة أمرُ الصلاة، ثم أمرُ القبلة، ثم الصيام الأول، ثم الإعراض عن المشركين، ثم الأمر بجهادهم، ثم أمره بقتل المشركين، ثم أمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ثم ما كان أهل العقود عليه من المواريث، ثم هدر منار الجاهلية لئلا يخالطوا المسلمين في حجّهم » الخ.
فائدة هامة : ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة؟
قال العلامة الزركشي :« وهنا سؤال وهو أن يسأل : ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
وثانيها : أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة، ورفع المشقة حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.
الحكم الثالث : هل ينسخ القرآن بالسنّة؟
اتفق العلماء على أنّ القرآن ينسخ بالقرآن، وأن السنة تنسخ بالسنة، والخبر المتواتر بغير المتواتر؟
فذهب الشافعي : إلى أن الناسخ للقرآن لا بدّ أن يكون قرآناً مثله، فلا يجوز نسخ القرآن بالسنة عنده.
وذهب الجمهور : إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن، وبالسنّة المطهرّة أيضاً، لأن الكل حكم الله تعالى ومن عنده.
دليل الشافعي :
استدل الإمام الشافعي على منع نسخ القرآن بالسنة بقوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ ووجه الاستدلال عنده من وجوه :
الأول : أنه قال :﴿ نَأْتِ ﴾ وأسند الإتيان إلى نفسه، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآناً.
الثاني : أنه قال :﴿ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ ولا يكون الناسخ خيراً إلاّ إذا كان قرآناً لأن السنة لا تكون خيراً من القرآن.
40
الثالث : أنه قال في الآية :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؟ فقد دلت على أن الآتي بذلك الخير، هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات، وذلك هو الله ربّ العالمين.
الرابع : قوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ [ النحل : ١٠١ ] حيث أسند التبديل إلى نفسه، وجعله في الآيات وهذا أقوى أدلته.
أدلة الجمهور :
احتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ - نسخ آية الوصية وهي قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض وهو قوله ﷺ « ألا لا وصية لوارث » ولا ناسخ إلا السنّة.
ب - نسخُ الجلد عن الثيب المحصن في قوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [ النور : ٢ ] ولا مسقط لذلك إلا فعلُه ﷺ حيث أمر بالرجم فقط.
ج - وقالوا إنّ ما ورد في الكتاب أو السنة، كلّه حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء، لأن الله تعالى يقول :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ﴾ [ النجم : ٣-٤ ].
د - وأجابوا عمّا استدل به الشافعي رحمه الله بأنه استدلال غير واضح. لأن الخيريّة إنما تكون بين الأحكام، فيكون الحكم الناسخ خيراً من الحكم المنسوخ، بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها، ولا معنى لأن يكون لفظ الآية خيراً من لفظ آية أخرى، وإذا كان الأمر كذلك، فالمدارُ على أن يكون الحكم الناسخ خيراً من المنسوخ، أيّاً كان الناسخ قرآناً، أو سنة، لأنّ الكل تشريع الحكيم العليم.
الترجيح : ومن هنا يترجح رأي الجمهور، لأن الخيرية والأفضلية إنما هي بحسب اختلاف الأحكام شدة وتيسيراً وتمام الأبحاث مستوفى في علم الأصول.
الحكم الرابع : هل يجوز النسخ إلى ما هو أشقّ وأثقل؟
قال الإمام الفخر : قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقلُ منه، واحتجوا بأن قوله تعالى :﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ ينافي كونه أثقل، لأنّ الثقل لا يكون خيراً منه، ولا مثله.
والجواب : لمَ لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة؟
ثم إنَّ الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت، إلى ( الجلد والرجم ) ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر.
إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الأمثلة المذكورة، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها، وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة.
41
الحكم الخامس : هل يقع النسخ في الأخبار؟
جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ﴾ [ النحل : ٦٧ ].
قال ابن جرير الطبري :« يعني جل ثناؤه بقوله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً.. ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي، والحضر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ».
وقال القرطبي : والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي ﷺ وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فتأمل هذا فإنه نفيس.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة.
٢ - راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام.
٣ - النسخ لا يكون في الأخبار والقصص، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام.
٤ - الأحكام مرجعها إلى الله تعالى، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم.
٥ - الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان.
٦ - ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم.
٧ - الانحراف عن طريق الاستقامة، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس، متمشية مع تطور الزمن، صالحة لكل زمان ومكان.. وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم « سنة التدرج » في الأحكام، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية، فلا تشعر بملل أو ضجر، ولا تحسّ بمشقة أو شدة.. ولتظلّ الشريعة الغراء - كما أرادها الله - شريعة سمحة، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد، ولا شطط فيها ولا إرهاق.
ومن المعلوم : أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه، ثم زالت تلك الحاجة، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة، وأنفع للعباد.. وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض، باختلاف الأمزجة، والقابلية، والاستعداد.
والأنبياء صلوات الله عليهم هم ( أطباء القلوب ) ومصلحوا النفوس، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة، وجاءت بسنة « التدرج » في الأحكام، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان، فما يكون منها في وقت مصلحة، قد يكون في وقت آخر مفسدة، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى، ذلك حكم العليم الحكيم.
42
جاء في تفسير « محاسن التأويل » ما نصه :« إن الخالق تبارك وتعالى ربّى الأمة العربية، في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريجية، لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلاّ في قرون عديدة.. لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره، وهذه سنة الخالق في الأفراد، والأمم، على حد سواء.
فإنك لو نظرتَ : في الكائنات الحية، لرأيت أن النسخ ناموسٌ طبيعي محسوس، في الأمور المادية والأدبية معاً، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل، فيافع، فشاب، فكهل، فشيخ، وما يتبع كل دورٍ من هذه الأدوار يريك بأجلى دليل، أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق.
وإذا كان هذا النسخ : ليس بمستنكر في الكائنات، فكيف يُستنكر نسخُ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرّج من أدنى إلى أرقى؟
هل يرى إنسان له مُسْكةٌ من عقل، أنّ من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني، وغاية الكمال البشري؟!
وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلّف الأمة وهي في دور ( طفوليتها ) بما لا تتحمله إلا في دور ( شبوبيتها ) وكهولتها.. ؟
وأيّ الأمرين أفضل : أشرعُنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمّه بحيث لا يستطيع الإنسُ والجن أن يُنقصوا حرفاً منه، لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لآية حالةٍ من حالات الإنسان؟ أم شرائع دينية أخرى، حرّفها كهّانها، ونسخ الوجود أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه.. ؟! »
43
[ ٣ ] التوجه إلى الكعبة في الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم

التحليل اللفظي
﴿ السفهآء ﴾ : أصل السفه في كلام العرب : الخفة والرقة، يقال : ثوب سفيه إذا كان رديء النسخ خفيفه، أو كان بالياً رقيقاً، وسفّهته الرياح أي أمالته قال ذو الرمّة :
مشيْنَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهتْ أعاليَها مرّ الرياح النّواسِمِ
والسّفه : ضد الحلم وهو خفة وسخافة يقتضيها نقصان العقل، ولهذا سمّى الله الصبيان سفهاء ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما ﴾ [ النساء : ٥ ].
﴿ ولاهم ﴾ : يعني صرفهم، يقال : ولىّ عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف، وهو استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب.
﴿ قِبْلَتِهِ ﴾ : القبلة من المقابلة وهي المواجهة، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصّت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة.
﴿ وَسَطاً ﴾ : أي عدولاً خياراً، ومنه قوله تعالى :﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ [ القلم : ٢٨ ] أي خيرهم أو عدلهم، قال الشاعر :
هم وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمِهم إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظَم
وأصل هذا أنّ خير الأشياء أوساطها، وأن الغلوّ والتقصير مذمومان.
قال الجوهري في « الصحاح » :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ أي عدلاً، وكذلك روي عن الأخفش، والخليل.
وقال الزمخشري : وقيل للخيار وسطٌ؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأوساط محميةٌ محوّطة ومنه قول أبي تمام.
كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت بها الحوادثُ حتّى أصبحتْ طرفاً
﴿ عَقِبَيْهِ ﴾ : العقبان : تثنية عقب، وهو مؤخر القدم، والانقلابُ عليهما بمعنى الانصراف والرجوع، يُقال : انقلب على عقبيه إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء.
والمعنى : لنعلم من يثبت على الإيمان، ممّن يرتد عن دين الإسلام، ويرجع إلى ما كان عليه من ضلال، والكلام فيه استعارة كما سيأتي.
﴿ لَكَبِيرَةً ﴾ : أي شاقة ثقيلة تقول : كبر عليه الأمر أي اشتد وثقل.
﴿ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ : الرأفة هي الرحمة، إلاّ أن الرأفة في دفع المكروه، والرحمة أعم تشمل المكروه والمحبوب.
﴿ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ﴾ : تقلّبُ الوجه في السماء : ترّدده المرة بعد المرة فيها، والسماءُ مصدر الوحي، وقبلة الدعاء.
قال الزجاج : المراد تقلب عينيك في النظر إلى السماء.
وقال قطرب : تحول وجهك إلى السماء وهما متقاربان.
ومعنى الآية : كثيراً ما نرى تردّد وجهك، وتصرّف نظرك في جهة السماء متشوقاً لنزول الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً ﴾ : أي لنمكننّك من استقبالها، من قولك : وليّتُه كذا إذا جعلته والياً له، فيكون من الولاية، أو من التولي، والمعنى : فلنجعلنّك متولياً جهتها، وهذه بشارة من الله تعالى لرسوله الكريم بتوجيهه إلى القبلة التي يحب.
﴿ شَطْرَ المسجد ﴾ : والشطرُ في اللغة يكون بمعنى الجهة والناحية كما في هذه الآية ومنه قول الشاعر :
أقول لأمّ زِنبْاعٍ أقيمي صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
ويكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ومنه قوله ﷺ :« الطهور شطر الإيمان »
44
والشاطر : الشاب البعيد عن أهله ومنزله، وهو من أعيا أهله خُبْثاً، وسئل بعضهم عن الشاطر فقال : هو من أخذ في البعد عمّا نهى الله عنه.
ومعنى الآية : فولّ وجهك جهة المسجد الحرام أي جهة الكعبة.
﴿ أُوتُواْ الكتاب ﴾ : المراد بهم أحبار اليهود، وعلماء النصارى، والكتابُ : التوراةُ والإنجيل.
وجه المناسبة بين الآيات
كان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته، وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، وقد كان اليهود يقولون : يخالفنا محمد في ديننا، ويتّبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته، فكره النبي ﷺ البقاء على قبلتهم، حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله ﷺ يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
وقد أخبر الله جل ثناؤه رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء الجهال، من اليهود المنافقين، قبل تحويل القبلة، ولقنّه الحجة البالغة ليردّ عليهم، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه، ويعدّ الجواب القاطع لحجة الخصم، وقد قيل في الأمثال « مثل الرمي يراشُ السهم » وليكون الوقوع بعد الإخبار معجزة له عليه السلام.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : سيقول السفهاء من الناس - وهم أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين - ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يتوجهون إليها جهة بيت المقدس وهي قبلة النبيّين والمرسلين من قبلهم؟ قل لهم يا محمد : لله المشرق والمغرب، الجهات كلّها لله، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف شاء على ما تقتضيه حكمته البالغة، يهدي من شاء من عباده، إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين.
وكما هديناكم - أيها المؤمنون - فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، كذلك فضّلناكم على من سواكم من أهل الملل، فجعلناكم أمة عدولاً خياراً، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة على أممهم أنّهم قد بلّغوهم رسالة الله، ويشهد لكم الرسول بالإيمان والاتباع لما جاء به من الدين الحنيف، وما أمرناك بالتحول عن القبلة التي كنت عليها إلى الكعبة، إلا ليتبيّن للناس الثابت على إيمانه من المتشكك في دينه، الذي هو عرضة لرياح الشبهات التي يثيرها أعداء الدين، فينافق أو يكفر، ويرتد عن دينه لأبسط الشبهات، وما كان الله ليضيع صلاتكم، إن الله رحيم بعباده، لا يبتليهم ليضيع عليهم أعمالهم، ولكنْ ليجزيهم أحسن الجزاء.
كثيراً ما رأينا تردّد بصرك - يا محمد - جهة السماء، تطلعاً للوحي وتشوقاً لتحويل القبلة، فلنوجهنّك إلى قبلة تحبها، فتوجه في صلاتك نحو المسجد الحرام، وأنتم - أيها المؤمنون - استقبلوا بصلاتكم جهته أيضاً، فهي قبلتكم وقبلة أبيكم إبراهيم، وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل على نبيه ﷺ ولكنّهم يفتنون ضعاف المؤمنين، ليشككوهم في دينهم، بإلقاء الشبهات والأباطيل في نفوسهم، وما الله بغافل عما يعملون فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن، المحاسب على ما في السرائر.
45
سبب النزول
أ - أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أن النبي ﷺ كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها ( صلاة العصر ) وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾.
ب - وعن البراء أن رسول الله ﷺ كان يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء ﴾ فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾.
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور ﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ بالمد في ﴿ رؤوف ﴾ مع الهمز على وزن فعول، وقرأ الكسائي وحمزة ﴿ لَرَءُوفٌ ﴾ على وزن رَعُف، ويقال : هو الغالب على أهل الحجاز، قال جرير :
ترى للمسلمين عليكَ حقاً كفعل الوالد الرّؤفِ الرحيم
ثانياً : قرأ الجمهور ﴿ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ بالياء في ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ فيكون وعيداً لأهل الكتاب، وقرأ الحمزة والكسائي ﴿ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ بالتاء فيكون وعيداًَ للفريقين : المؤمنين والكافرين.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ الكاف للتشبيه وهي في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : كما هديناكم جعلناكم أمة وسطاً، أي مثل هدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطاً، و ( أمة ) مفعول ثانٍ لجعلنا، و ( وسطاً ) صفة لها.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله ﴾ ( إنْ ) مخففة من ( إنّ ) الثقيلة واسمها ضمير الشأن، واللام في قوله ( الكبيرة ) للفرق بين المخففة والنافية، كما في قوله تعالى :﴿ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٨ ] وزعم الكوفيون أنها نافية، واللام بمعنى إلاّ، أي ما كانت إلا كبيرة، قال العكبري : وهو ضعيف جداً من جهة أن وقوع اللام بمعنى إلا لا يشهد له سماع ولا قياس.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أخبر المولى جلّ وعلا عمّا سيقوله السفهاء من اليهود قبل تحويل القبلة، والإخبار فيه معجزة لرسول الله ﷺ تدل على صدق ما جاء به، لأنه إخبار عن أمر مغيّب، كما فيه الجواب القاطع لحجة الخصم العنيد.
46
قال الزمخشري في « الكشاف » :« فإن قلت : أيّ فائدةٍ في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردّ لشَغَبه، وقبل الرمي يُراش السهم ».
اللطيفة الثانية : ردّ القرآن بالحجة الدامغة على السفهاء ( اليهود، والمشركين، والمنافقين ) في قوله جل وعلا :﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ وتقريره أنّ الجهات كلها لله تعالى، لا فضل لجهةٍ منها بذاته على جهة، ولا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى خصّها بذلك، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة، وأن العبرة بالتوجه إليه سبحانه بالقلوب، واتباع أمره في توجه الوجوه.
فكيف يعترضون عليك يا محمد؟ لا شك أنهم أغبياء الأفهام، سفهاء الأحلام.
اللطيفة الثالثة : التعبير بقوله تعالى :﴿ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ فيه لطيفة، وهي أن خير الأمور أوساطها، فالزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقصُ عنه تفريط وتقصير، وكلٌ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي التوسط بينهما.
وذكر ابن جرير الطبري :« أنه من التوسط في الدين، فإن المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود، الذين قتلوا الأنبياء، وبدّلوا كتاب الله، ولم يضلوا كالنصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله، وغلوا في الترهيب غلواً كبيراً، ولكنّهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ».
اللطيفة الرابعة : في شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة أكبر دليل على فضل هذه الأمة المحمدية، وقد روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون، فتقول الأمم : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ فيقولون : نشهد بإخبار الله تعالى الناطق، على لسان نبيه الصادق بأنه قد بلغكم، فيؤتى بمحمد ﷺ فيزكيهم ويشهد بعدالتهم.
أخرج البخاري في « صحيحه » : عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال :« » يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب، فيقول : هل بلغت فيقول : نعم، فيقال لأمته : هل بلّغكم؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير، فيقول : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ «
47
، فذلك قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول ﴾ أوّل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى ( لنعلم ) لنرى. والعرب تضع العلم ماكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل ﴾ [ الفيل : ١ ] بمعنى : ألم تعلم.
قال الطبري :« الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وقوعها، وإنما تأويل الآية ﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ أي ليعلم رسولي وأوليائي، إذا كان من شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس، نحو فتح عمر سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه ».
وقال ابن عباس : المعنى : لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة، ففسّر العلم ب ( التمييز ) لأن بالعلم يقع التمييز.
وقال الزمخشري في « الكشاف » : المراد بالعلم ( علم المعاينة ) الذي يتعلق به الثواب والجزاء كقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ].
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى :﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ ﴾ استعارة تمثيلية حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلمّا تركوا الإيمان والدلائل، صاروا بمنزلة المدبر عمّا بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر ﴾ [ المدثر : ٢٣ ].
اللطيفة السابعة : سمّى الله تعالى الصلاة ( إيماناً ) في قوله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلاّ بها، ولأنها تشتمل على نيّة، وقول، وعمل.
قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، لما روي عن ابن عباس أنه قال : لمّا وُجه النبي ﷺ إلى الكعبة، قالوا يا رسول الله : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾.
ثمّ قال : فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل.
قال مالك : وفيه رد على من قال : إن الصلاة ليست من الإيمان.
اللطيفة الثامنة : قال الزمخشري : إنّ ( قد ) هنا بمعنى ( ربما ) وهي للتكثير، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر :
قد أتركُ القِرْنَ مصفَرّاً أناملُه كأنّ أثوابَه مُجّتْ بفرصاد
قال أبو حيان : التكثير مستفاد من لفظ التقلب لأنه مطاوع التقليب، ومن نظر مرة أو ردّد بصره مرتين أو ثلاثاً لا يقال : إنه قلّب، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير.
والتعبير بقوله تعالى :﴿ قَدْ نرى ﴾ بمعنى قد رأينا، لأن ﴿ قَدْ ﴾ تقلب المضارع ماضياً كما يقول النحاة ومنه قوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين ﴾ [ الأحزاب : ١٨ ] وقوله :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ﴾ [ الحجر : ٩٧ ] أي قد علمنا.
اللطيفة التاسعة : قال المحققون من أهل التفسير : في قوله تعالى :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ في هذه الآية تنبيه لطيف على حسن أدبه عليه السلام حيث انتظر الوحي ولم يسأل ربه، وقد أكرمه الله تعالى على هذا الأدب بقبلة يحبها ويهواها فقال تعالى :﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ وفي سبب محبته ﷺ التوجه إلى المسجد الحرام وترك التوجه إلى بيت المقدس وجوه :
الأول : مخالفةً لليهود حيث كانوا يقولون : يخالفنا محمد ثم يتّبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل.
48
الثاني : أن الكعبة المشرّفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرحمن.
الثالث : أنه ﷺ كان يرغب في تحويل القبلة استمالة للعرب لدخولهم في الإسلام.
الرابع : منشأ الرسول ﷺ في البلد الأمين وفيه المسجد الحرام الذي هو قبلة المساجد فأحب أن يكون هذا الشرف للمسجد الذي في بلتده ومنشئه.
اللطيفة العاشرة : في التعبير عن ( الكعبة ) بالمسجد الحرام إشارة لطيفة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، والسرّ في الأمر بالتولية خاصاً وعاماً ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ ثم قال :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ مع أن خطاب النبي ﷺ خطاب لأمته هو الاهتمام لشأن القبلة، ودفع توهم أن الكعبة قبلة أهل المدينة وحدهم، لأن الأمر بالصرف كان فيها، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية.
قال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته ﷺ، وأما خطابه العام بعده فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا قد خُصّ ﷺ به، كما خُصّ في قوله ﴿ قُمِ اليل ﴾ [ المزمل : ٢ ]، ولما كان تحويل القبلة له خطر خصّهم بخطاب مفرد.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم؟
ورد ذكر ﴿ المسجد الحرام ﴾ في آيات متفرقة من القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة أيضاً، وقصد به عدة معان :
الأول : الكعبة، ومنه قوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ أي جهة الكعبة.
الثاني : المسجد كلّه، ومنه قوله ﷺ :« صلاةٌ في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » وقوله ﷺ :« لا تُشدّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ».
الثالث : مكة المكرمة كما في قوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ﴾ [ الإسراء : ١ ] وكان الإسراء من مكة المكرمة، وقوله تعالى :﴿ هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] وقد صدورهم عن دخول مكة.
الرابع : الحرم كله ( مكة وما حولها من الحرم ) كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] والمراد منعهم من دخول الحرم.
والمراد بالمسجد الحرام هنا هو المعنى الأول ( الكعبة ) والمعنى : فولّ وجهك شطر الكعبة.
49
الحكم الثاني : هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟
استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة، لا تصح الصلاة بدونه، إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة، فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي : أن النبي ﷺ كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، وفيه نزلت ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ].
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إنما الخلاف هل الواجب استقبال عين الكعبة أم استقبال الجهة؟
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب استقبال عين الكعبة.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ الواجب استقبال جهة الكعبة، هذا إذا لم يكن المصلي مشاهداً لها، أمّا إذا كان مشاهداً لها فقد أجمعوا أنه لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة، والفريق الأول يقولون : لا بدّ للمشاهد من إصابة العين، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة، والفريق الثاني يقولون : يكفي للغائب التوجه إلى جهة الكعبة.
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والقياس.
أ - أما الكتاب، فهو ظاهر هذه الآية ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ ووجه الاستدلال : أن المراد من الشطر الجهة المحاذية للمصلي والواقعة في سمته، فثبت أن استقبال عين الكعبة واجب.
وأما السنة : فما روي في « الصحيحين » عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال :« لمّا دخل النبي ﷺ البيت دعا في نواحيه كلّها، ولم يصلّ حتى خرج منه، فلمّا خرج صلى ركعتين من قِبَل الكعبة، وقال : هذه القبلة ».
قالوا : فهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة.
ج - وأما القياس : فهو أنّ مبالغة الرسول ﷺ في تعظيم الكعبة، أمر بلغ مبلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيفُ صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف، فوجب أن يكون مشروعاً.
وقالوا أيضاً : كونُ الكعبة قبلة أمر مقطوع به، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك فيه، ورعايةُ الاحتياط في الصلاة أمر واجب، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال عين الكعبة.
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل المالكية والحنفية على مذهبهم بالكتاب، والسنة وعمل الصحابة، والمعقول.
أ - أما الكتاب : فظاهر قوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ ولم يقل : شطر الكعبة، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام، فقد أتى بما أمر به سواء أصابَ عين الكعبة أم لا.
ب - وأما السنة : فقوله ﷺ :« ما بين المشرق والمغرب قِبْلةٌ ».
وحديث :« البيتُ قبلةٌ لأهل المسجد والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم، والحرامُ قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ».
50
ج - وأما عمل الصحابة : فهو أنّ أهل ( مسجد قباء ) كانوا في صلاة الصبح بالمدينة، مستقبلين لبيت المقدس، مستدبرين الكعبة، فقيل لهم : إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة، ولم ينكر النبي ﷺ عليهم، وسُمّي مسجدهم ( بذي القبلتين ). ومعرفةُ عين الكعبة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة، وفي ظلمة الليل؟
د - وأما المعقول : فإنه يتعذر ضبط ( عين الكعبة ) على القريب من مكة، فكيف بالذي هو في أقاصي الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها؟ ولو كان استقبال عين الكعبة واجباً، لوجب ألا تصحّ صلاة أحدٍ قط، لأن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة نيّف وعشرين ذراعاً من الكعبة، ولا بدّ أن يكون بعضهم قد توجّه إلى جهة الكعبة ولم يصب عينها، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أنّ إصابة عينها على البعيد غير واجبة ﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ].
ومن جهة أخرى : فإن الناس من عهد النبي ﷺ بنوا المساجد، ولم يحضروا مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلةُ العين لا تُدرك إلا بدقيق نظر الهندسة، ولم يقل أحد من العلماء إنّ تعلم الدلائل الهندسية واجب، فعلمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
الترجيح : هذه خلاصة أدلة الفريقين سقناها لك، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن أدلة الفريق الثاني ( المالكية والأحناف ) أقوى برهاناً، وأنصع بياناً، لا سيما للبعيد الذي في أقاصي الدنيا، وأصول الشريعة السمحة تأبى التكليف بما لا يطاق، وكأنّ الفريق الأول حين أحسوا صعوبة مذهبهم، خصوصاً من غير المشاهد لها قالوا :« إن فرض المشاهد للكعبة إصابةُ عينها حسّاً، وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً » وبعد هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكلياً، لأنهم صرحوا بأنّ غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة، بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها، وفي هذا الرأي جنوح إلى الاعتدال، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال العلامة القرطبي : في تفسيره « الجامع لأحكام القرآن » ما نصّه :
« واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين، أو الجهة، فمنهم من قال بالأول، قال ابن العربي : وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه، ومنهم من قال بالجهة وهو الصحيح لثلاثة أوجه :
الأول : أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني : أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾.
الثالث :»
أنّ العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنه أضعاف عرض البيت «.
الحكم الثالث : هل تصح الصلاة فوق ظهر الكعبة؟
وبناءً على الخلاف السابق : هل القبلة عين الكعبة أم جهتها؟ انبنى خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة، هل تصح أم لا؟
فذهب الشافعية والحنابلة : إلى عدم صحة الصلاة فوقها، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها إنما يستقبل شيئاً آخر.
51
وأجاز الحنفية : الصلاة فوقها مع الكراهية، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، إلا أنّ الصلاة تصحّ بناء على مذهبهم من أن القبلة هي الجهة : من قرار الأرض إلى عنان السماء، والله تعالى أعلم.
الحكم الرابع : أين ينظر المصلي وقت الصلاة؟
ذهب المالكية : إلى أن المصلي ينظر في الصلاة أمامه.
وقال الجمهور : يستحبُ أن يكون نظره إلى موضع سجوده، وقال شريك القاضي : ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجْره.
قال القرطبي : في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه، في أنّ المصلي حكمُه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده لقوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾.
قال ابن العربي :« إنما ينظر أمامه، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلّف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، وما جعل علينا في الدين من حرج ».
الترجيح :
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، فإن المصلي إذا نظر إلى مكان السجود لا يخرج عن كونه متوجهاً إلى الكعبة، وإنما استحبوا ذلك حتى لا يتشاغل في الصلاة بغيرها وليكون أخشع لقلبه والله أعلم.
وهناك أحكام أخرى جزئية تطلب من كتب الفروع.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : إعتراض اليهود على تحويل القبلة سفه وجهالة لأنه لا يعتمد على منطق سليم.
ثانياً : الجهات كلّها لله تعالى خَلْقاً وملكاً فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى.
ثالثاً : الأمة المحمدية أفضل الأمم لذلك اختارها الله للشهادة على الخلائق يوم القيامة.
رابعاً : تحويل القبلة امتحانٌ لإيمان الناس ليتميّز المؤمن الصادق عن الفاجر المنافق.
خامساً : أدب لرسول الله ﷺ كان يمنعه من سؤال تحويل القبلة ولذلك أكرمه الله بما يرضى.
سادساً : الكعبة المشرفة قبلة أبي الأنبياء وقد جمع الله بها قلوب العباد.
سابعاً : أهل الكتاب يعلمون أن تحويل القبلة حق ولكنهم أرادوا فتنة المؤمنين.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، هو قبلة أهل الأرض، كما أنّ البيت المعمور قبلة أهل السماء يطوفون حوله يسبّحون بحمد الله.
وقد اقتضت حكمة الله أن يجمع ( أمة التوحيد ) على قبلةٍ واحدة، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا البيت العتيق، ليكون مثابة للناس وأمناً، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني، ومكاناً لحج بيته المعظم، يأتيه الناس من كل فج عميق
52
﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ﴾ [ الحج : ٢٨ ]. وقد أمر الله رسوله الكريم بالتوجه إليه في الصلاة، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس، واختبار صدق يقينهم، ليظهر المؤمن الصادق، من الكاذب المنافق، وليعيد لهذه الأمة التي اختارها الله، قيادة ركب الإنسانية، بعد أن تخلت عنها ردحاً من الزمان كما قال تعالى :﴿ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس... ﴾ [ الحج : ٧٨ ].
فالكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - هي رمز التوحيد - ومظهر الإيمان، وقبلة أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن وحولها تلتقي أفئدة الملايين من المؤمنين لأنها مظهر وحدتهم، وسرّ اجتماع كلمتهم، فلا عجب أن يأمرهم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتهم، أينما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ... ﴾.
قال الإمام الفخر :( وقد ذكروا في تعيين القبلة في الصلاة حِكماً :
أحدها : أن العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه، وألا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقلاً للملك لا معرضاً عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة.
وثانيها : أن المقصود من الصلاة حضور القلب، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الإلتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى.
وثالثها : أن الله تعالى يحب الألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال :﴿ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً... ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك.
ورابعها : أن الله تعالى خصْ الكعبة بإضافتها إليه في قوله :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ [ الحج : ٢٦ ] وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه ﴿ ياعبادي ﴾ [ العنكبوت : ٥٦ ]، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم، فكأنه تعالى قال : يا مؤمن أنتَ عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إليّ.. ).
53
[ ٤ ] السعي بين الصفا والمروة
التحليل اللفظي
﴿ الصفا والمروة ﴾ : الصفا في أصل اللغة : الحجرُ الأملس، واشتقاقه من صفا إذا خلص، ومنه الصفوان وهو الحجر الأملس الصلب قال تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ]، والصفا جمعٌ مفردة ( صفاة ) قال جرير :
إنّا إذا قرع العدو صفاتنا لاقوالنا حجراً أصمّ صلودا
قال المبرّد : الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من تراب أو طين.
وأما المروة : فقال الخليل : هي من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة، وجمعها ( مرو ) مثل تمرة وتمرٌ قال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مَرْوةٌ بصفا المشاعر كلّ يوم يُقرع
قال الألوسي : وقد صار في العُرف علمين لموضعين ( جبلين ) معروفين بمكة
﴿ شَعَآئِرِ الله ﴾ : جمع شعيرة وهي في اللغة العلامة، ومنه الشعار للعلامة، وأشعر الهدي أي جعل له علامة ليعرف أنه هديٌ قال الشاعر :
نقتّلهمْ جيلاً فجيلاً تراهُمُ شعائر قُربانَ بهمُ يتقرب
والمراد أن هذين الموضعين من علامات دين الله، ومن معالمه ومواضع عباداته.
والشعائر تطلق على كل معالم الدين التي تعبدنا الله تعالى بها كالطواف، والسعي والأذان الخ.
﴿ حَجَّ ﴾ : الحجّ في اللغة : القصدُ وإكثار التردّد إلى الشيء، قال الشاعر :
ألم تعلمي يا أمّ عمرةَ أنني تخاطأني ريبُ الزمان لأكبرا
وأشهد من عوفٍ حلولاً كثيرة يحجّون بيتَ الزّبرقان المزغفرا
يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته.
وفي الشرع : هو قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة وسائر الأعمال.
﴿ اعتمر ﴾ : العمرة في اللغة : الزيارة، والمعتمر : الزائر لأنه يعمر المكان بزيارته له قال الشاعر :
« لقد سَمَا ابنُ مَعْمرٍ حين اعتمر »... وفي الشرع : زيارة البيت لأداء نُسك معين من الطواف، والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير. وليس في العمرة وقوف بعرفة، ولا مبيت بمزدلفة، ولا رمي جمار إلى آخر ما هو معروف في الفقه.
﴿ جُنَاحَ ﴾ : الجناح بالضم : الميلُ إلى الإثم، وقيل : هو الإثم نفسه، سمي جناحاً لأنه ميل إلى الباطل.
قال في « لسان العرب » : جنح : مال. وجنحت الناقة : إذا مالت على أحد شقيها، وجنحت السفينة إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض.
قال ابن الأثير : وقد تكرر الجناح في الحديث فأين ورد فمعناه الإثم والميل.
والمعنى : لا إثم عليكم ولا حرج ولا تضييق في السعي بين الصفا والمروة.
﴿ يَطَّوَّفَ ﴾ : أي يتطوّف أدغمت التاء في الطاء، مثل ( المزمّل ) و ( المدّثر ) أصله المتزمل والمتدثر، وطاف وأطاف بمعنى واحد.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : إن الصفا والمروة - أيها المؤمنون - من علامات دين الله، التي جعلها الله لعباده معلماً ومشعراً، يعبدونه عندها بالدعاء، والذكر، وسائر أنواع القربات.
والسعيُ بين هذين الجبلين شعيرة من شعائر الدين، ومنسك من مناسك الحج لا يصح التفريط فيه، لأنه تشريع الحكيم العليم، الذي أمر به خليله إبراهيم عليه السلام، حين سأل ربه أن يريه مناسك الحج
54
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ].
فمن قصد منكم - أيها المؤمنون - بيت الله العتيق للحج، أو قصده للزيارة، فلا يتحرجنّ من الطواف بينهما، إذ لا إثم عليه ولا حرج لأنه إنما يسعى لله، امتثالاً لأمره، وطلباً لرضاه، والمشركون يطوفون للأصنام، وأنتم تطوفون لله ربّ العالمين. فلا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين، فهم يطوفون بهما كفراً، وأنتم تطوفون بهما إيماناً وتصديقاً لرسولي، وطاعة لأمري، فلا إثم ولا جناح عليكم في الطواف بهما، ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكر له طاعته، ومجازيه عليها خير الجزاء يوم الدين.
سبب النزول
أ - عن عائشة رضي الله عنها أن عُروة بن الزبير قال لها : أرأيتِ قول الله تعالى :﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ فما أرى على أحدٍ جُناحاً ألاّ يطّوف بهما، فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت « فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما » ولكنها إنما نزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فقالوا يا رسول الله : إنّا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله :﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله... ﴾ قالت عائشة ثمّ قد سنّ رسول الله ﷺ الطواف بهما فليس لأحدٍ أن يدع الطواف بهما.
ب - وأخرج البخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال :« كنّا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله :﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله.. ﴾.
وجوه القراءات
قرأ الجمهور :( ومن تَطوّعَ ) بالتاء وفتح العين على أنه ماضٍ من التطوع، وقرأ حمزة والكسائي ( ومن يَطوّعْ ) بالياء مجزوم على أنه فعل مضارع إلا أنّ التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما.
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ﴾.
قال العكبري : في الكام حذف مضاف تقديره : إن سعي الصفا، وألف الصفا مبدلة عن ( واو ) لقولهم في تثنيته صفوان و ( من شعائر الله ) خبر إنّ.
٢ - قوله تعالى :﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ مَنْ : اسم موصول بمعنى الذي مبتدأ، وجملة ﴿ فَإِنَّ الله شَاكِرٌ ﴾ خبر المبتدأ، وأجاز بعضهم أن تكون ( من ) شرطية والله أعلم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قال الإمام الفخر :»
اعلم أن تعلّق هذه الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى بيّن أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة، ليتم إنعامه على محمد ﷺ وأمته، بإحياء شرائع إبراهيم ودينه، وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم كما في قصة بناء الكعبة، وسعي هاجر بين الجبلين، فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية «.
55
اللطيفة الثانية : السعيُ بين الصفا والمروة إمّا فرض أو واجب، أو مسنون، فكيف نفى الله تعالى الجناح ( الإثم ) عمن سعى بينهما؟
والجواب : إنه كان على الصفا صنم يقال له :( إساف ) وعلى المروة صنم يقال له :( نائلة ) كما قال ابن عباس وكان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما، فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية، وتحرجوا من الطواف لهذا السبب، فنزلت الآية تدفع الحرج عنهم، لأنهم إنما يسعون لله لا للأصنام.
اللطيفة الثالثة : الشكر معناه مقابلة النعمة والإحسان، بالثناء والعرفان، وهذا المعنى محال على الله، إذ ليس لأحد عنده يد ونعمة حتى يشكره عليها، فقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ محمول على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين.
قال العلامة أبو السعود :« المعنى أنه تعالى مجازٍ له على الطاعة، عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإحسان على العباد » فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكراً، وسمى الله تعالى نفسه شاكراً، على سبيل المجاز.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل السعي بين الصفا والمروة فرض أو تطوع؟
اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال :
١ - القول الأول : أنه ركن من أركان الحج، من تركه يبطل حجه وهو مذهب ( الشافعية والمالكية ) وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو مروي عن ابن عمر، وجابر، وعائشة من الصحابة.
٢- القول الثاني : أنه واجب وليس بركن، وإذا تركه وجب عليه دم، وهو مذهب ( أبي حنيفة والثوري ).
٣ - القول الثالث : أنه تطوع ( سنّة ) لا يجب بتركه شيء، وهو مذهب ابن عباس، وأنس، ورواية عن الإمام أحمد.
دليل المذهب الأول :
استدل القائلين بأن السعي ركن وهم ( الجمهور ) بما يلي :
أ - قوله ﷺ :« اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي ».
ب - ما ثبت أنه ﷺ سعي في حجة الوداع، فلما دنا من الصفا قرأ ﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ﴾ فبدأ بالصفا وقال :« أبدؤوا بما بدأ الله به » ثم أتمّ السعي سبعة أشواط وأمر الصحابة أن يقتدروا به فقال :« خذوا عني مناسككم » والأمر للوجوب فدل على أنه ركن.
ج - حديث عائشة :( لعمري ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة ).
د - وقالوا : إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، وهو نسك في الحج والعمرة، فكان ركناً فيهما كالطواف بالبيت.
56
دليل المذهب الثاني :
واستدلّ ( أبو حنيفة والثوري ) على أنه واجب وليس بركن بما يلي :
أ - إن الآية الكريمة رفعت الإثم عمّن تطّوف بهما ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ ورفعُ الجناح يدل على الإباحة لا على أنه ركن، ولكنّ فعل النبي ﷺ جعله واجباً فصار كالوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، وطواف الصدر، يجزئ عنه دم إذا تركه.
ب - واستدل بما روى الشعبي عن ( عروة بن مضرس الطائي ) قال :« أتيت رسول الله ﷺ بالمزدلفة فقلت يا رسول الله : جئت من جبل طي، ما تركتُ جبلاً إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال ﷺ : من صلى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه ».
ووجه الاستدلال في الحديث من وجهين :
أحدهما : إخباره بتمام الحج وليس فيه السعي بين الصفا والمروة.
والثاني : أنه لو كان من فروضه وأركانه لبيّنه للسائل لعلمه بجهله بالحكم.
دليل المذهب الثالث :
واستدل من قال بأنه تطوع وليس بركنٍ ولا واجب بما يلي :
أ - قوله تعالى :﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ فبيّن أنه تطوع وليس بواجب، فمن تركه لا شيء عليه عملاً بظاهر الآية.
ب - حديث ( الحج عرفة ) قالوا : فهذا الحديث يدل على أنّ من أدرك عرفة فقد تمّ حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، العمل ترك به في بعض الأشياء، فبقي العمل معمولاً به في السعي.
قال ابن الجوزي :« واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أنّ من ترك السعي لم يجزه حجه، ونقل أبو طالب : لا شيء في تركه عمداً أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه، ونقل الميموني أنه تطوع ».
الترجيح : ورجّح صاحب « المغني » المذهب الثاني وقال : هو أولى لأن دليل من أوجبه دلّ على مطلق الوجوب، لا على كونه لا يتم الواجب إلا به، وقول عائشة مُعَارَضٌ بقول من خالفها من الصحابة.
أقول : الصحيح قول الجمهور لأن النبي ﷺ سعى بين الصفا والمروة وقال :« خذوا عني مناسككم » والاقتداء بالرسول ﷺ واجب ودعوى من قال : إنه تطوع أخذاً بالآية غير ظاهر لأن معناها كما قال الطبري : أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - الصفا والمروة من شعائر دين الله وأعلام طاعته التي تعبدنا الله بها.
٢ - السعي بين الصفا والمروة إحياء لحادثة تاريخية وقعت لأم إسماعيل عليها السلام.
57
٣ - تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما.
٤ - السعي واجب على من حج بيت الله العتيق أو زاره للعمرة.
٥ - التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان.
٦ - الله شاكر لعباده يثيب الطائع على طاعته ويجزيه عليها خير الجزاء.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أمر جل ثناؤه المؤمنين بالسعي بين الصفا والمروة، عند الحج أو العمرة، وجعل السعي من شعائر دين الله، ومن معالم طاعته، وذلك إحياء لحادثة تاريخية من أروع الذكريات في تاريخ الإنسانية، تلك هي حادثة إسماعيل عليه السلام مع أمه ( هاجر ) المؤمنة الصابرة، بعد أن تركهما الخليل إبراهيم عليه السلام في مكان قفر ليس فيه أنيس، ولا سمير، ولا ساكن.. تركهما امتثالاً لأمر الله سبحانه في هذه الصحراء الشاسعة الواسعة، التي لا يسكنها أحد، لأن الله تعالى يريد أن يعمرها بالسكان، ويجعل هذه البقعة المباركة مكاناً لبناء بيته العتيق، ومهوى لأفئدة الملايين من البشر.
وكان إسماعيل طفلاً رضيعاً، فلما أراد إبراهيم عليه السلام الرجوع، تبعته ( أم إسماعيل ) فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا المكان الفقير، الذي لا أنيس فيه ولا سمير!؟ فجعل لا يلتفت إليها مخافة أن تصرفه عن تنفيذ أمر الله، ثم قالت يا إبراهيم : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم، قالت : إذاً لا يضيّعنا الله.
ثم رجعت وانطلق إبراهيم عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنيّة بحيث يراهم ولا يرونه، استقبل بوجهه جهة البيت ثم دعا بهذه الدعوات المباركات، التي ذكرها القرآن الكريم ﴿ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ].
ثم انطلق يقطع الصحارى والقفار، حتى عاد إلى وطنه الأول في أرض فلسطين، بعد أن ترك زوجه وولده في رعاية الله وحفظه.
بقيت ( أم إسماعيل ) وحيدة مع طفلها ترضعه، وتشرب من ذلك السقاء الذي معها، وتأكل من الثمر الذي تركه لها إبراهيم عليه السلام، حتى إذا نفذ ما في السقاء، ولم يبق عندها ماء، عطشت عطشاً شديداً، وعطش ولدها ( إسماعيل ) فجعلت تنظر إليه يتلوّى من شدة العطش، يكاد يهلكه الظمأ، فانطلقت تفتش له عن ماء، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ ولكنها لم تر أحداً، فهبطت من الصفا ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى وصلت إلى المروة فلم تر أحداً، فأخذت تهرول وتسعى بين ( الصفا والمروة ) سبع مرات.
قال ابن عباس :« فذلك سعي الناس بينهما » حتى إذا أشرفت على الهلاك، وتلاشت قواها سمعت صوتاً من بعيد، فقالت : قد أسمعتَ فأغثْ إن كان عندك غواث، ثمّ نظرت فإذا هي برجلٍ جميل الطلعة عند مكان زمزم، فهرولت نحوه تظنه بشراً، فإذا هو ملك من ملائكة الله، فضرب بجناحه الأرض فإذا بالماء يفور كأنه نبع دافق، وكانت ( زمزم ) التي هي آية من آيات الله، ثم قال لها الملك : لا تخافي الضياع فإن لله هاهنا بيتاً سوف يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ الله لن يضيّع أهله «.
هذه خلاصة تلك الحادثة التاريخية، والذكرى الخالدة، التي أراد الله أن يعمر بها بيته العتيق، ويجعل منها مناسك للحج وشعائر لدينه الإسلامي المجيد.
58
[ ٥ ] كتمان العلم الشرعي
التحليل اللفظي
﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ : الكتمان : الإخفاء والستر، قال الراغب : الكتمان ستر الحديث يقال كتمته كتماً وكتماناً.
قال الألوسي :« الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه، وتحقيق الداعي إلى إظهاره، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه، واليهود - قاتلهم الله - ارتكبوا كلا الأمرين ».
﴿ البينات ﴾ : الآيات الواضحات الدالة على الحق، جمع بينة وهي في اللغة الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو حسيّة، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود.
والمراد بالبينات في الآية : ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد ﷺ.
﴿ والهدى ﴾ : الهدى كلّ ما يدل على الخير، ويهدي إلى الرشد، من الهداية وهي الدلالة على الشيء.
قال أبو السعود : المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالرسول ﷺ ووجوب اتباعه، عبّر عنها بالمصدر مبالغة.
﴿ يَلعَنُهُمُ الله ﴾ : أي يطردهم ويبعدهم من رحمته، وأصل اللعن : الإبعاد والطرد قال الشماخ :
مقام الذئب كالرجل اللعين... أي الطريد.
﴿ اللاعنون ﴾ : قال ابن عباس : اللاعنون كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين.
وقال مجاهد : هم دواب الأرض وهوامّها، تقول : مُنِعنا القطر بمعاصي بني آدم.
والصحيح أنهم :( الملائكة، والأنبياء، وجميع الناس ) لقوله تعالى : بعد هذه الآية :﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ البقرة : ١٦١ ] والقرآن يفسّر بعضه بعضاً.
﴿ تَابُواْ ﴾ : أي رجعوا عن الكتمان. وأصل التوبة الرجوعُ والندم على ما صدر من الإنسان.
﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ : أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرّف، أو أصلحوا سيرتهم وأعمالهم.
﴿ وَبَيَّنُواْ ﴾ : أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد ﷺ أو ما كتموه من دين الله.
﴿ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ : أي المبالغ في قبول التوبة، الرحيم بالعباد، وهما من صيغ المبالغة.
وجه المناسبة
كان أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه، أو السؤال عنه، ويتعمدون إخفاء ما ورد من البشارات ببعثة خاتم النبيين محمد ﷺ حتى لا يؤمن به الناس، كما يخفون بعض الأحكام الشرعية كحكم رجم الزاني، ويكتمون بعضها بتحريف الكلم عن مواضعه، والتأويل للآيات على غير معانيها إتباعاً للأهواء، ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات، التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة.
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : إن الذين يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد ﷺ وعلى أنه رسول الله، ويتعمدون أن يكتموا أمر البشارية به عليه السلام مع أنهم يعلمون حق العلم أوصافه. لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل
59
﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول، المتلاعبون بأحكام الدين، المحرفون للتوراة والإنجيل، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين، إلاّ من تاب عن كتمانه، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله ﷺ، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه، فلم يكتمه ولم يُخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد، يتغمدهم برحمته، ويشملهم بعفوه، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات.
سبب النزول
١ - نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي ﷺ فكتموه، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً.. روي السيوطي في « الدر المنثور » عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ( معاذ بن جبل ) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبرونهم، فأنزل الله فيهم ﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى ﴿ فِي الكتاب ﴾ المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية، ف ( أل ) تكون ( للجنس ) مثلها في قوله تعالى :﴿ والعصر* إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْر ﴾ [ العصر : ١-٢ ] وقيل : المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل، فتكون ( أل ) للعهد الذهني.
اللطيفة الثانية : عبّر باسم الإشارة البعيد ﴿ أولئك يَلعَنُهُمُ الله ﴾ تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام، والإفساد، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه، وأبرز اسم الجلالة ﴿ يَلعَنُهُمُ الله ﴾ على سبيل الإلتفات لتربية المهابة، وإدخال الروعة، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال ( أولئك نلعنهم ).
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون ﴾ ضربٌ من البديع يسمى ( الجناس المغاير ) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ جاء اللفظان بصيغة المبالغة، لأن ( فعّال ) و ( فعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك :
فعّال أو مفعال أو فعول في كثرةٍ عن فاعل بديل
والمعنى : كثير التوبة، واسع المغفرة والرحمة.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى؟
الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود، وعلماء النصارى، الذين كتموا صفات النبي ﷺ كما دلّ على ذلك سبب النزول، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله، مخفٍ لأحكام الشريعة، لأن العبرة - كما يقول علماء الأصول - بعموم اللفظ لا ( بخصوص السبب )، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول ﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ﴾ لذلك تعم.
قال أبو حيان :« والأظهر عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب، وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله، يُحتاج إلى بثه ونشره.
60
وذلك مفسر في قوله ﷺ :« من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار » وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفُصح، المرجوع إليهم في فهم القرآن، كما روي عن أبي هريرة :« لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى ﴾ » الآية.
الحكم الثاني : هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين؟
استدل العلماء من قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات... ﴾ الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن، أو تعليم العلوم الدينية، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه، ولا يستحق الإنسان أجراً على عملٍ يلزمه أداؤه، كما لا يستحق الأجر على الصلاة، لأنها قربة وعبادة، لذلك يحرم أخذ الأجرة على تعليمها.
غير أن المتأخرين من العلماء لما رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم كتاب الله، وسائر العلوم الدينية، فينعدم حفظة القرآن، وتضيع العلوم، لذلك أباحوا أخذ الأجور، بل زعم بعضهم أنه واجب للحفاظ على علوم الدين، وما هذه الأوقاف والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لغرض صيانة القرآن وعلوم الشريعة، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ] غير أننا نجد المتقدمين من الفقهاء متفقين على حرمة أخذ الأجرة على علوم الدين. لأن العلم عبادة وأخذ الأجرة على العبادة غير جائز.
قال أبو بكر الجصاص :« وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام؟!
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً، لأن قوله تعالى :﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل، قال عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن، وسائر علوم الدين »
.
وقال الفخر الرازي :« احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم، كان أخذ الأجرة أخذاً على أداء الواجب، وأنه غير جائز، وقوله تعالى :﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾
61
[ البقرة : ١٧٤ ] مانعٌ أخذ البدل عليه من جميع الوجوه «.
أقول : هذه النظرة الفقهية الدقيقة تسمو بالعلم إلى درجة العبادة، وهي نظرة جديرة بالتقدير، ولكنّ علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين، من إباحة أخذ الأجرة على التعليم، فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين ومنعنا أخذ الرواتب والأجور؟ إذن لم يبق من يعلّم أو يتعلم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به.
٢ - كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء.
٣ - يجب نشر العلم وتبليغه إلى الناس لتعمّ الهداية جميع البشر.
٤ - من كتم شيئاً من أحكام الشرع الحنيف استحق اللعنة المؤبدة.
٥ - لا تكفي التوبة وحدها بل لا بدّ من إصلاح السيرة، وإخلاص العمل.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشرائع السماوية، لهداية البشرية، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وقد أمرنا الإسلام بتعليم الجاهل، وهداية الضال، ودعوة الناس إلى الله، حتى تقوم الحجة على الناس، ولا يبقى لأحدٍ عذر عند الله يوم القيامة.
ولمّا كان ما أنزله الله من البينات والهدى، لم ينزل إلاّ لخير الناس، وهداية البشرية إلى الطريق المستقيم، وكان كتم العلم وعدم تبليغه إلى الناس فيه تعطيل لوظيفة الرسالة، التي بعث الله بها رسله وأنبياءه، وفيه خيانة للأمانة التي ائتمن الله عليها العلماء ﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ... ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] لذلك فقد شدّد الله النكير على من كتم شيئاً ممّا يحتاج الناس إليه، وخاصة من أمور الدين، وأوعد بالعذاب الأليم لكل من كتم آيات الله، أو أخفى أحكام الشريعة، لأن الكتمان جرم عظيم، يستحق مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله تعالى.
وفي هذا دلالة واضحة، على عناية الإسلام العظيمة، بنشر العلم والثقافة، لتبليغ دعوة الله إلى الناس وانتشال الأمة من براثن الجهل والضلالة، فنشر العلم عبادة، وكتمه جناية، وقد قال ﷺ :»
بلّغوا عين ولو آية « وقال صلوات الله وسلامه عليه :» من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار «.
62
[ ٦ ] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
التحليل اللفظي
﴿ واشكروا للَّهِ ﴾ : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين :
أحدهما : الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٧ ].
والثاني : صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له.
﴿ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله ﴾ : الإهلال رفع الصوت، يقال : أهلّ بكذا أي رفع صوته، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر :
يُهلّ بالفرقد ركبانُها كما يُهلْ الراكبُ المعتمر
وأصل الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقاً، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم.
والمعنى : حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت، وذكر عليه اسم غير الله. قال الزمخشري : وذلك قول أهل الجاهلية : باسم اللات والعزّى.
﴿ اضطر ﴾ : أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله.
قال القرطبي : فيه إضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو ( افتعل ) من الضرورة وأصله ( اضطرر ).
﴿ بَاغٍ ﴾ : الباغي في اللغة : الطالب لخير أو لشر ومنه حديث « يا باغي الخير أقبل » وخُصّ هنا بطالب الشر.
قال الزجاج : البغي قصدُ الفساد، يقال : بغى الجرح إذا ترامى للفساد. وبغت المرأة إذا فجرت.
﴿ عَادٍ ﴾ : اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد.
والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها.
قال الطبري :« وأولى هذه الأقوال قول من قال :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ ﴾ بأكله ما حرم عليه من أكله ﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾ في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى ».
المعنى الإجمالي
يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال، والرزق الطيب، والمتاع النافع، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم، إن كانوا حقاً صادقين في دعوى الإيمان، عابدين الله منقادين لحكمه، مطيعين لأمره، لا يعبدون الأهواء والشهوات.
ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة، التي تنفر منها الطباع السليمة، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر الخبائث، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله، لكنّ إذا اضطر الإنسان، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات، غير باعٍ بأكله ما حرم الله عليه، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة، لأن الله غفور رحيم، يغفر للمضطر ما صدر عن غير إرادة، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج.
63
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بيّن تعالى في الآيات السابقة حال الذين يتخذون الأنداد من دون الله يحبونهم كمحبة الله، وأشار إلى أن سبب ذلك هو حب حطام الدنيا، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض، إذْ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها، بشرط أن تكون حلالاً طيباً، ﴿ ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ [ البقرة : ١٦٨ ] وبيّن سوء حال الكافرين المقلدين، الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم، ثمّ وجه الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالاهتداء.
وجوه القراءات
١- قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾ قرأ الجمهور بالبناء للفاعل ﴿ حَرَّمَ ﴾ أي حرّم الله و ﴿ الميتة ﴾ بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالبناء للمفعول والتشديد ( إنما حرّم عليكم الميّتَة ).
قال القرطبي : التشديدُ والتخفيف في ( ميّت ) و ( مَيْت ) لغتان، وقد جمعا في قول الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميْتٍ إنما المْيتُ ميّتُ الأحياء
والمشهور عند أهل اللغة :( الميْت ) بالتخفيف من مات فعلاً، وبالتشديد ( ميّت ) من سيموت كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] إنك ستموت وإنهم سيموتون.
٢ - قرأ الجمهور ( فمن اضطُرّ ) بضم الطاء، وقرأ أبو جعفر ( فمن اضطِرّ ) بكسر الطاء، وأدغم ابن محيص الضاد في الطاء ( فمن اطرّ ).
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله.
٢ - قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ ﴾ إنمّا مكفوفة عن العمل وهي حرف واحد تفيد الحصر و ( الميتة ) مفعول ل ( حرّم ) والمعنى : ما حرّم عليكم إلا الميتة... الخ.
٣ - قوله تعالى :﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ غيرَ منصوب على الحال ( ولا عاد ) معطوف على باغٍ وتقديره لا باغياً ولا عادياً.
قال القرطبي :( غيرَ ) نصبٌ على الحال، وقيل : على الاستثناء، وإذا رأيت ( غير ) يصلح في موضعها ( في ) فهي حال، وإذا صلح موضعها ( إلاّ ) فهي استثناء، فقس عليه، و ( باغ ) أصله ( باغيٌ ) ثقلت الضمة على الياء فسكنّت، والتنوين ساكن، فحذفت الياء، والكسرةُ دالة عليها «.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المرادُ من الطيبات الرزقُ الحلال، فكل ما أحلّه الله فهو طيّب، وكلّ ما حرّمه فهو خبيث، قال عمر بن عبد العزيز : المراد ( طيبُ الكسب لا طيبُ الطعام ). ويؤيده الحديث الشريف :»
إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيباً، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :﴿ ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ] وقال :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبر، يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يُستجابُ له؟ «
64
فهذا هو بيان الطيّب من الرزق ببيان الرسول ﷺ ولا عطر بعد عروس.
اللطيفة الثانية : قال أبو حيان : لمّا أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيّب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بيّن لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل، فلما بيّن ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر، وهذا مثل قوله ﷺ لمّا سئل عما يلبس المحرم فقال :« لا يلبس القميص ولا السروال » فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ «.
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ واشكروا للَّهِ ﴾ إلتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة، إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال :»
واشكرونا « وفائدة هذا الالتفات تربية المهابة والروعة في القلوب.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير ﴾ هو على حذف مضاف أي أكل الميتة وأكل لحم الخنزير مثل قوله تعالى :﴿ وَسْئَلِ القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] أي أهل القرية.
قال الألوسي :»
وإضافة الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق - وأوكده «.
وقال أبو السعود :»
وإنما خصَّ لحم الخنزير مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له «.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل المحرّم في آية الميتة الأكلُ أم الانتفاع؟
ورد التحريم في هذه الآية مسنداً إلى أعيان الميتة والدم، وقد اختلف الفقهاء هل المحرّم الأكل فقط، أم يحرم سائر وجوه الانتفاع، لأنه لما حرم الأكل حرم البيع والانتفاع بشيء منها لأنها ميتة، إلا ما استثناه الدليل، وذهب بعض العلماء إلى أن المحرم إنما هو الأكل فقط بدليل قوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ وبدليل ما بعده في قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ ﴾ أي اضطر إلى الأكل.
قال الجصاص :»
والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع، فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها الكلاب والجوارح، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها، وقد حرّم الله الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص بدليل يجب التسليم له «.
الحكم الثاني : ما هو حكم الميتة من السمك والجراد؟
تضمنت الآية تحريم ( الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهّل لغير الله ).
فأمّا الميتة فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل، أو مقتولاً بغير ذكاة شرعية، وكان العرب في الجاهلية يستبيحون الميتة، فلما حرمها الله تعالى جادلوا في فلك المؤمنين وقالوا : لا تأكلون مما قتله الله، وتأكلون مما تذبحون بأيديكم!! فأنزل الله في سورة الأنعام :[ ١٢١ ]
65
﴿ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ فالميتة حرام بالنص القاطع، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة منها الأحاديث التالية :
أ - قوله ﷺ :« أُحِلّ لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد، والكبد والطحال ».
ب - وقوله ﷺ في البحر :« هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته ».
ج - وفي « الصحيحين » عن جابر بن عبد الله أنه خرج مع ( أبي عبيدة بن الجراح ) يتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر، فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى ( العنبر ) قال أبو عبيدة : ميتةٌ، ثم قال : بل نحن رُسُل رسول الله ﷺ وقد اضطررتم فكلوا، قال : فأقمنا عليه شهراً حتى سمنّا.. وذكر الحديث قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله ﷺ فذكرنا ذلك له، فقال : هو رزقٌ أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ منه فأكله.
د - وحديث ابن أبي أوفى « غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل الجراد ».
فقد خصَّص جمهور الفقهاء من الآية ميتة البحر للأحاديث السابقة الذكر، كما أباحوا أكل الجراد، إلاّ أن الحنفية حرموا الطافي من السمك وأحلّوا ما جزر عنه البحر لحديث « ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه ».
إلاّ أن المالكية أباحوا أكل ميتة السمك، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة : لأنه لم يصح فيه عندهم شيء.
قال القرطبي :« وأكثر الفقهاء يجيزون أكل جميع دوابّ البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك، وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزيراً. قال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراماً ».
الحكم الثالث : ما هي ذكاة الجنين بعد ذبح أمه؟
اختلف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً هل يؤكل أم لا؟
ذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح، لأنه ميتة وقد قال تعالى :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾.
وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد إلى أنه يؤكل، لأنه مذكى بذكاة أمه، واستدلوا بحديث « ذكاة الجنين ذكاة أمه ».
وقال مالك رحمه الله : إنْ تمّ خلقُه ونبت شعره أُكل وإلاّ فلا.
قال القرطبي :« إن الجنين إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل لأنه جرى مجرى العضو من أعضائها ».
66
وقال من ينتصر لأبي حنيفة : إن الحديث يحتمل معنى آخر هو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه على حد قول القائل قولي قولُك، ومذهبي مذهبك أي كقولك وكمذهبك وعلى حد قول الشاعر :
فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدُها سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
الحكم الرابع : هل يباح الانتفاع بالميتة في غير الأكل؟
ذهب عطاء إلى أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة وجلدها، كطلاء السفن ودبغ الجلود، وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل خاصة، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ].
وذهب الجمهور : إلى تحريمه واستدلوا بالآية الكريمة ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] أي الانتفاع بها بأكلٍ أو غيره، فجعلوا الفعل المقدر هو الانتفاع، واستدلوا كذلك بقوله عليه السلام :« لعن الله اليهود، حُرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها » فهذا الحديث يدل على أن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه، فلا يجوز البيع ولا الانتفاع بشيء من الميتة إلا ما ورد به النص.
الحكم الخامس : ما هو حكم الدم الذي يبقى في العروق واللحم؟
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد ذكر تعالى الدم هاهنا مطلقاً وقيّده في الأنعام بقوله :﴿ أَو دَماً مَّسْفُوحاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] وحمل العلماء المطلق على المقيد، ولم يحرموا إلا ما كان مسفوحاً، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( لولا أنّ الله قال أو دماً مسفوحاً لتتبّع الناس ما في العروق ) فما خالط اللحم غير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل دماً.
قال القرطبي :« وأمّا الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق، وروي عن عائشة أنها قالت :» كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله ﷺ تعلوها الصفرة من الدم، فنأكل ولا ننكره «.
الحكم السادس : ماذا يحرم من الخنزير؟
نصت الآية على تحريم لحم الخنزير، وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه لا شحمه، لأن الله قال :﴿ وَلَحْمَ الخنزير ﴾ وذهب الجمهور إلى أنّ شحمه حرام أيضاً، لأن اللحم يشمل الشحم، وهو الصحيح، وإنما خصّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه، سواء ذُكّى ذكاةً شرعية أو لم يُذكّ.
وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير.
فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز الخرازة به.
وقال الشافعي : لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير.
وقال أبو يوسف : أكره الخرز به.
قال القرطبي :»
لا خلاف أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به، لأن الخرازة كانت على عهد رسول الله ﷺ وبعده، لا نعلم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده، وما أجازه الرسول ﷺ فهو كابتداء الشرع منه «.
67
وقد اختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أبو حنيفة : لا يؤكل لعموم الآية.
وقال مالك والشافعي والأوزاعي : لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر، وتفصيل الأدلة ينظر في كتب الفروع.
الحكم السابع : ما الذي يباح للمضطر من الميتة؟
اختلف العلماء في المضطر، أيأكل من الميتة حتى يشبع، أم يأكل على قدر سدّ الرمق؟
ذهب مالك إلى الأول، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة.
وذهب الجمهور : إلى الثاني، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها، وسبب الخلاف يرجع إلى مفهوم قوله تعالى ﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ فالجمهور فسروا البغي بالأكل من الميتة لغير حاجة، والعاد هو المعتدي حد الضرورة.
ومالك فسره بالبغي والعدوان على الإمام، ولكل وجهة والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - إباحة الأكل من الطيبات للمؤمنين بشرط أن يكون من الكسب الحلال.
٢ - شكر الله واجب على المؤمنين لنعم الله التي لا تُعد ولا تحصى.
٣ - الإخلاص في العبادة لله من صفات المؤمنين الصادقين.
٤ - الله جل وعلا حرّم على عباده ( الخبائث ) دون ( الطيبات ).
٥ - حالة الاضطرار تبيح للإنسان الأكل ممّا حرمه الله كالميتة وغيرها.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أباح الباري جل وعلا لعباده المؤمنين تناول الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ونهاهم عن تعذيب النفس وحرمانها من اللذائذ الدنيوية، فإن المشركين وأهل الكتاب حرَّموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله تعالى كالبحيرة والسائبة.
وكان المذهب الشائع عند النصارى أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، تعذيب النفس واحتقارها، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة، واعتقاد أنه لا حياة ( للروح ) إلا بتعذيب الجسد، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء، وليس لها أثر في شريعة الله. وقد تفضل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً، تعطي الجسد حقه، والروح حقها، فأحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث، وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا ( جثمانيين ) خلّصاً كالأنعام، ولا ( روحانيين ) خلصاً كالملائكة، بل جعلنا أناسيّ كملة بهذه الشيعة المعتدلة.
وأما الحكمة من تحريم الميتة فلما فيها من الضرر، لأنها إمّا أن تكون ماتت لمرض وعلة، قد أفسد بدنها وجعلها غير صالحة للبقاء والحياة، وإما أن يكون الموت لسببٍ طارئ.
فأما الأول فقد خبث لحمها، وتلوث بجراثيم المرض، فيخشى من عدواها، ونقل مرضها إلى الآكلين.
وأما الثانية : فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارة في جسمها.
وأما الدم المسفوح : فلقذارته وضرره أيضاً، وقد أثبت الطب الحديث أنّ الدم ضار كالميتة وأنه تتجمع فيه ( الميكروبات ) والمواد الضارة.
وأما لحم الخنزير : فلأن غذاءه من القاذورات، والنجاسات فيقذر لذلك، ولأن فيه ضرراً فقد اكتشف الأطباء أن لحم الخزير يحمل جراثيم شديدة الفتك، كما أن المتغذي من لحم الخنزير يكتسب من طباع ما يأكله، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة، وأشهرها عدم الغيرة والعفة.
68
يقول شهيد الإسلام سيد قطب عليه رحمة الله في تفسيره « الظلال » ما نصه :« والخنزير بذاته منفرّ للطبع النظيف القويم، ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل، ليكتشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيّسة ).
ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت، فلم تعد هذه الديدان بويضاتها مصدر خطر، لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توفرها وسائل الطهو الحديثة، وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها، وندع كلمة الفصل لها، ونحرم ما حرمت، ونحلل ما حلّلت، وهي من لدن حكيم خبير؟!
أمّا ما أهل به لغير الله، فهو محرم لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله، محرم لعلة روحية، لسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك »
.
69
[ ٧ ] في القصاص حياة النفوس
التحليل اللفظي
﴿ كُتِبَ ﴾ : قال الفراء ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾ معناه في كل القرآن : فرض عليكم قال الشاعر :
كُتب القتلُ والقتال علينا وعلى الغانياتِ جرّ الذيول
قال الطبري :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ﴾ بمعنى فُرض عليكم القصاصُ، وهو في أشعارهم مستفيض، وفي كلامهم موجود، وهو أكثر من أن يحصى.
﴿ القصاص ﴾ : أن يفعل به مثل فعله من قولهم : اقتصّ أثر فلان إذا فعل مثل فعله.
قال الراغب : القصاص مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر قال تعالى :﴿ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ [ الكهف : ٦٤ ] والقصاصُ : تتبعُ الدم بالقَوَد قال تعالى :﴿ والجروح قِصَاصٌ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ].
قال في اللسان : قصصتُ الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ [ القصص : ١١ ] أي اتبعي أثره، والقصاصُ : القَوَد وهو القتل بالقتل قال الشاعر :
فرمنا القصاصَ وكان القصا صُ حكماً وعدلاً على المسلمينا
﴿ القتلى ﴾ : جمع قتيل ويستوي فيه المذكر والمؤنث، كصرعى جمع صريع، وجرحى جمع جريح.
قال في « اللسان » : ورجلٌ قتيل أي مقتول، وامرأة قتيل أي مقتولة، فإذا قلت :( قتيلة بني فلان ) قلت بالهاء.
وقال الطبري : وإنما يجمع ( فعيل ) على ( فَعْلى ) إذا كان وصفاً دالاً على الزمانة بحيث لا يقدر معه صاحبه على البُراح من موضعه وأصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، ولكن إذا اعتبر بفعل الشخص يقال : قتلٌ، وإذا عتبر بفوت الحياة يقال : موتٌ، قال تعالى :﴿ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٤ ].
﴿ عُفِيَ ﴾ : العفو معناه الصفح، والإسقاط، تقول : عفوت عنه أي صفحتُ عنه ومنه قوله تعالى :﴿ عَفَا الله عَمَّا سَلَف ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] وقوله :﴿ واعف عَنَّا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وعفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق أي أسقطتها عنكم.
والمعنى : فمن تُرِك له من جهة أخيه شيءٌ أي ترك له القتل، ورُضي منه بالدية.
﴿ فاتباع بالمعروف ﴾ : مطالبته بالمعروف، أي يطالبه وليّ القتيل بالرفق والمعروف، ويؤدي إليه القاتل الدية بإحسان، بدون مماطلة أو بخس أو إساءة في الأداء.
﴿ فَمَنِ اعتدى ﴾ : أي ظلم فقتل القاتل بعد أخذ الدية فله عند الله عذاب أليم.
﴿ الألباب ﴾ : العقول جمع لب، مأخوذ من لب النخلة.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله، ولا يبغيّن بعضكم على بعض، فإذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوا فقط، وإذا قتل العبدُ العبدَ فاقتلوه به، وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوها بها مثلاً بمثل بالعدل والمساواة، ودعوا الظلم الذي كان بينكم فلا تقتلوا أحراراً، ولا بالعبد حراً، ولا بالأنثى رجلاً، فإن ذلك ظلم وعدوان، واستعلاء وطغيان، فمن تُرك له شيء من القصاص إلى الدية، وعفا عنه وليّ القتيل فلم يقتص منه وقبل منه الدية، فليحسن الطالب في الطلب من غير إرهاقٍ ولا تعنيف، ولْيحسن الدافع في الأداء من غير مماطلة ولا تسويف، ذلك الذي شرعته لكم - أيها المؤمنون - من العفو إلى الدية، تخفيف من ربكم ورحمة، خفَّف به عنكم ليظهر فضله عليكم، على عكس من سبقكم من اليهود حيث لم يكن في شرعهم إلا القصاص، فمن تجاوز منكم بعد أخذ الدية وقتل القاتل، فله عذاب أليم عند الله، لأنه ارتكب جريمة بنقضه العهد وغدره بالقاتل بعد أن أعطاه الأمان، وأخذ منه المال.
70
ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت لكم من القصاص حياة وأي حياة، لأنه من علم أن من قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله، وبذلك تصان الدماء، وتحفظ النفوس، ويأمن الناس على أرواحهم، ذلك هو شرع الله الحكيم، ودينه القويم، الذي به حياة الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
سبب النزول
أ - روي في سبب نزول هذه الآية عن قتادة أنَّ أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعة للشيطان، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدُهم عبدَ آخرين، قالوا : لن نقتل به إلا حراً، تعزّزاً لفضلهم على غيرهم، وإذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا : لن نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله ﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾.
ب - وروي عن ( سعيد بن جبير ) أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتلٌ وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى... ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أكرم الله هذه الأمة المحمدية فشرع لهم قبول الدية في القصاص، ولم يكن هذا في شريعة التوراة، روي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :« كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ إلى قوله :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ فالعفو أن تقبل الدية في العمد ﴿ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ﴿ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ ممّا كتب على من كان قبلكم ﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك ﴾ قتل بعد قبول الدية ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾ الآية.
قال الزجاج :»
إذا علم الرجل أنه إن قَتَل، أمسك عن القتل، فكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال :
71
يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح العتاب ما بينهم «.
اللطيفة الثالثة : بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص، بأسلوب لا يُسامى، وعبارةٍ لا تُحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن.
ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده، وهو ( الحياة ) في ( الإماتة ) التي هي القصاص، وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية. ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم :( القتل أنفى للقتل ) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم :( قتل البعض إحياء للجميع ) وقولهم :( أكثروا القتل ليقلّ القتل ) وأجمعوا على أن كلمة ( القتل أنفى للقتل ) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق.
قال الإمام الفخر :»
وبيان التفاوت بين النظم الكريم وبين كلام العرب من وجوه عدة :
الأول : أن النظم الكريم ( في القصاص حياة ) أشد اختصاراً من قولهم ( القتلُ أنفى للقتل ) لأن حروفها أقل.
الثاني : أن قولهم ( القتل أنفى للقتل ) ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال.
الثالث : أنّ كلامهم فيه تكرار للفظ القتل، وليس في الآية الكريمة هذا التكرار.
الرابع : أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل، والآية أجمع لأنها تفيد الردع عن القتل والجراح.
الخامس : أن القتل ظلماً قتلٌ وليس نافياً للقتل، بل هو سبب لزيادة القتل، فظاهر قولهم باطل، وبذلك يظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي؟
اختلف الفقهاء في الحر إذا قتل عبداً، والمسلم إذا قتل ذمياً هل يقتلان بهما أم لا؟
فذهب الجمهور :( المالكية والشافعية والحنابلة ) إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، ولا المسلم بالذمي.
وذهب الحنفية : إلى أن الحر يقتل بالعبد، وكذلك المسلم يقتل بالذمي.
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والمعقول.
أ - أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ فقد أوجب الله المساواة، ثمّ بيّن هذه المساواة بقوله :﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾.
فالحرّ يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، فكأنه تعالى يقول : اقتلوا القاتل إذا كان مساوياً للمقتول، قالوا : ولا مساواة بين الحر والعبد فلا يقتل به، وكذلك لا مساواة بين المسلم والكافر فلا يقتل به.
ب - وأما السنة : فما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله ﷺ قال :« لا يُقتل مسلم بكافر ».
72
ج - وأما المعقول : فقالوا : إن العبد كالسِّلعة والمتاع بسبب الرق الذي هو من آثار الكفر، والكافر كالدابة بسبب الكفر الذي طغى عليه، وقد قال تعالى :﴿ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنفال : ٥٥ ] فكيف يُساوى المؤمن بالكافر، وكيف يقتل به؟.
أدلة الحنفية :
واستدل الحنفية على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً : قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى... ﴾ إنّ الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية، وهي عامة تعم كل قاتل سواءً كان حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً، وأما قوله تعالى :﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد... ﴾ إلخ فإنما هو لإبطال الظلم الذي كان عليه أهل الجاهلية، حيث كانوا يقتلون بالحر أحراراً، وبالعبد حراً، وبالأنثى يقتلون الرجل تعدياً وطغياناً، فأبطل الله ما كان من الظلم، وأكد القصاص على القاتل دون غيره كما فهم ذلك من سبب النزول وقد تقدم.
ثانياً : واستدلوا بقوله تعالى في سورة [ المائدة : ٤٥ ] :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس... ﴾ قالوا : وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين، وشرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد ناسخ، ولم نجد ناسخاً.
ثالثاً : واستدلوا كذلك بقوله تعالى :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] فإن هذه الآية انتظمت جميع المقتولين ظلماً، عبيداً كانوا أو أحراراً، مسلمين أو ذمّيين، وجُعل لوليهم سلطان وهو ( القود ) أي القصاص.
رابعاً : واستدلوا بقوله ﷺ :« المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم » فيكن العبد مساوياً للحر.
خامساً : واستدلوا بحديث :« من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن خصاه خصيناه ».
قالوا : فهذا نص على أن الحر يقتل بالعبد، لأن الإسلام لم يفرّق بين حر وعبد.
سادساً : واستدلوا بما رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني « أن رسول الله ﷺ قتل مسلماً بمعاهد وقال :» أنا أكرم مَن وفّى بذمته « ».
سابعاً : قالوا : ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه، فوجب أن يقاد منه، لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله.
هذه هي خلاصة أدلة الفريقين : عرضناها باختصار، وسبب الخلاف في الحقيقة يرجع إلى اختلاف العلماء في فهم الآية، فالحنفية يقولون : إن صدر الآية مكتف بنفسه، وقد تم الكلام عند قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ وسائر الأئمة يقولون : لا يتم الكلام هاهنا، وإنما يتم عند قوله :﴿ والأنثى بالأنثى ﴾ فهو تفسير له وتتميم لمعناه، والآية وردت لبيان التنويع والتقسيم.
وقد اعترض الحنفية على الجمهور بأنه ينبغي ألا يُقتل الرجل إذا قتل أنثى؟ وكذلك العبد إذا قتل حراً؟ مع أنهم يقولون أنه يقتل العبد بالحر، والرجل بالمرأة!!
أجاب الجمهور : بأن ظاهر الآية يفيد ألا يقتل العبد بالحر، ولكننا نظرنا إلى المعنى فرأينا أن العبد يُقتل بالعبد، فأولى أن يقتل بالحر، وأما قتل الرجل بالمرأة فذلك ثابت بالإجماع، وهو دليل آخر خصّص الآية الكريمة ولولا الإجماع لقلنا لا يقتل الذكر بالأنثى.
73
يقول فضيلة الشيخ السايس في كتابة « تفسير آيات الأحكام » ما نصه :
« والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة، لأن هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان ( المساواة ) المعتبرة، قد أخرجوا منه طردا وعكساً الأنثى بالرجل، فذهبوا إلى أن الرجلُ يقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالرجل، وذهبوا إلى أنّ الحر لا يقتل بالعبد، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر، فهذا كله يُضعف مسلكهم في الآية. أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف، وحينئذٍ يكون العبد مساوياً للحر، ويكون المسلم مساوياً للذمي في الحرمة، محقون الدم على التأييد ».
الترجيح :
أقول : مذهب أبي حنيفة في قتل الحر بالعبد معقول المعنى، مؤيد « من قتل عبده قتلناه... » فالإسلام قد ساوى بين الأحرار والعبيد في الدماء، فحرمة العبد كحرمة الحر، ونفس العبد كنفس الحر، ولهذا يقتل به.
أما قتل المؤمن بالكافر : ففي النفس من قول أبي حنيفة شيء، والراجح فيه رأي الجمهور لا سيما بعد أن تأكد بالدليل الثابت « لا يُقتل مسلم بكافر » أخرجه البخاري.
وكما يقول ابن كثير رحمه الله : لا يصح حديث ولا تأويلٌ يخالف هذا.
ثمّ كيف يتساوى المؤمن مع الكافر، مع أن الكافر شرّ عند الله من الدابة؟ والمؤمن طيّب طاهر والله تعالى يقول :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] ويقول :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ]، فكيف نقتل مؤمناً طاهراً بمشرك نجس؟! فالراجح إن شاء الله في هذه المسألة قول الجمهور. وقد رأيت في بعض مراجعاتي قصة لطيفة وهي أن ( أبا يوسف ) القاضي من تلامذة الإمام أبي حنيفة، رفعت إليه قضية، تتلخص في أن مسلماً قتل ذمياً كافراً، فحكم عليه أبو يوسف بالقصاص، فبينما هو جالس ذات يوم، إذ جاءه رجل برقعةٍ فألقاها إليه ثم خرج، فإذا فيها هذه الأبيات :
أبلغ أبا مالك عني مغلغلةً وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
يا قاتلَ المسلم بالكافرِ جرتَ وما العادلُ كالجائر
يا مَنْ ببغدادَ وأطرافِها من علماء الناسِ أو شاعرِ
استرجُعوا وابكُوا على دينكم واصطبروا فالأجرُ للصابر
جار على الدين أبو يوسف بقتله المؤمن بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد : تدارك هذا الأمر لئلا تكون فتنة.. فدعا أبو يوسف أولياء القتيل وطالبهم بالبينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يستطيعوا أن يثبتوا فأسقط القود وأمر بدفع الدية.
مناظرة لطيفة
ذكر العلامة أبو بكر ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » هذه المناظرة اللطيفة فقال :
« ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فقيهٌ من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف ب ( الزوزني ) زائراً للخليل صلوات الله عليه، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة - طهّرها الله - معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر فقال : يُقتل به قصاصاً، فطولب بالدليل فقال : الدليل عليه قوله تعالى ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ وهذا عامٌ في كل قتيل.
74
فانتدب معه في الكلام فقيه الشافعية وإمامهم بها ( عطاء المقدسي ) وقال : ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الله سبحانه قال :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ﴾ فشرط المساواة في المجازاة، ولا مساواة بين المسلم والكافر، فإنّ الكفر حطّ منزلته، ووضع مرتبته.
الثاني : أنّ الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها، وجعل بيانها عند تمامها فقال :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾ فإذا نقص العبد عن الحر بالرق - وهو من آثار الكفر - فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر.
الثالث : أن الله سبحانه وتعالى قال :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدل على عدم دخوله في هذا القول.
فقال الزوزني : دليل صحيح، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء.
أما قولك : إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول، وأمّا دعواك أنّ المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص معدومة فغير صحيح، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإنّ الذمي محقون الدم، والمسلم محقون الدم، وكلاهما في دار الإسلام، والذي يحقّق ذلك أن المسلم يُقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدلّ على مساواته لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه.
وأما قولك : إنّ الله ربط آخر الآية بأولها فغير مسلّم، فإنّ أول الآية عامٌ، وآخرها خاصٌ، وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها، بل يجري كلٌ حكمه من عموم أو خصوص.
وأما قولك : إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلّم، بل يقتل به قصاصاً، فتعلقت بدعوى لا تصح لك.
وأما قولك :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ يعني المسلم فكذلك أقول، ولكن هذا خصوص في العفو فلا يمنع من عموم القصاص.. الخ.
قال ابن العربي : وجرت مناظرة عظيمة، حصلنا منها فوائد جمة، أثبتناها في « نزهة الناظر ».
الحكم الثاني : هل يقتل الوالد إذا قتل ولده؟
قال الجمهور : لا يقتل الوالد إذا قتل ولده، لما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« لا يُقتل وِالدٌ بولده ».
قال الجصاص :« وهذا خبرٌ مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه، فكان في حيّز المتواتر ».
75
وقال مالك : يُقتل إذا تعمّد قتله بأن أضجعه وذبحه.
قال القرطبي :« لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمداً، مثل أن يضجعه ويذبحه، أو يصبره، أنه يُقتل به قولاً واحداً، فأمّا إن رماه بالسلاح أدباً وحنقاً لم يقتل به وتغلّظ الدية ».
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح للنصّ الوارد الذي أسلفناه، ولأنّ الشفقة تمنعه من الإقدام على قتل ولده متعمداً، بخلاف الابن إذا قتل أباه فإنه يقتل به من غير خلاف، قال فخر الإسلام الشاشي : إن الأب كان سبب وجود الابن، فكيف يكون هو سبب عدمه؟!
الحكم الثالث : هل يقتل الجماعة بالواحد؟
اختلف الفقهاء في الجماعة إذا اشتركوا في قتل إنسان هل يقتلون به؟ على مذهبين :
مذهب الجمهور والأئمة الأربعة : أن الجماعة يقتلون بالواحد.
مذهب الظاهرية : ورواية عن الإمام أحمد : أن الجماعة لا تقتل بالواحد.
دليل الظاهرية :
أ - استدل أهل الظاهر بآية القصاص ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ فقد شرطت المساواة والمماثلة، قالوا : ولا مساواة بين الواحد والجماعة.
ب - واستدلوا بقوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] فالنفس تقابلها النفس، ولا تقتل الأنفس بالنفس الواحدة لأنه مخالف لنص الآية.
دليل الجمهور :
أولاً ما روي أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة في غلام قتل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم.
قال ابن كثير : ولا يُعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع.
ثانياً : ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :« لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبّهم الله في النار » قالوا : فإذا اشتركوا في العقوبة الأخروية، فإنهم يشتركون في العقوبة الدنيوية أيضاً.
ثالثاً : قالوا إن الشارع شرع القصاص لحفظ الأنفس ﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾ ولو علم الناس أن الجماعة لا تقتل بالواحد، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم، ثم لم يقتلوا فتضيع دماء الناس، وينتشر البغي والفساد في الأرض.
قال ابن العربي :« احتج علماؤنا بهذه الآية ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ﴾ على أحمد بن حنبل في قوله : لا تُقتل الجماعة بالواحد، لأن الله شرط في القصاص المساواة، ولا مساواة بين الواحد والجماعة.
والجواب : أن مراعاة القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ، ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا واحداً لم يقتلوا به، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم، وبلغوا الأمل من التشفي منهم.
وجواب آخر : أن المراد بالقصاص قَتْلُ من قَتَل، كائناً من كان، رداً على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قُتل من لم يَقْتُل في مقابله الواحد بمائة افتخاراً واستظهاراً بالجاه والمقدرة، فأمر الله بالمساواة والعدل، وذلك بقتل من قتل »
.
الحكم الرابع : كيف يُقتل الجاني عند القصاص؟
اختلف الفقهاء في كيفية القتل على مذهبين :
فذهب مالك والشافعي : ورواية عن أحمد، أن القصاص يكون على الصفة التي قَتَل بها، فمن قتل تغريقاً قُتل تغريقاً، ومن رضخ رأس إنسان بحجر، قُتل برضخ رأسه بالحجر، واحتجوا بالآية الكريمة ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ﴾ حيث أوجبت المماثلة فيقتص منه كما فعل.
76
واحتجوا بحديث أنس :« أن يهودياً رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي ﷺ رأسه بحجر ».
وذهب أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه : إلى أن القتل لا يكون إلا بالسيف، لأن المطلوب بالقصاص إتلاف نفسٍ بنفس، واستدلوا بحديث :« لا قود إلاَّ بالسيف » وحديث « النهي عن المُثْلة » وحديث « إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة » وقالوا : إذا ثبت حديث أنس كان منسوخاً بالنهي عن المُثْلة.
وقالوا : إن القتل بغير السيف من التحريق، والتفريق، والرشخ بالحجارة، والحبس حتى الموت ربما زاد على المثل فكان اعتداءً والله تعالى يقول :﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ وقد حكي أن ( القاسم بن معن ) حضر مع ( شريك بن عبد الله ) عند بعض السلاطين، فسأله ما تقول : فيمن رمى رجلاً بسهمٍ فقتله؟ قال : يُرمى فيقتل، قال : فإن لم يمت بالرمية الأولى؟ قال : يُرمى ثانياً، قال : أفتتخذونه غرضاً وقد نهى رسول الله ﷺ أن يُتخذ شيء من الحيوان غراً؟ ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة يكون أرجح والله أعلم.
الحكم الخامس : من الذي يتولى أمر القصاص؟
قال القرطبي :« اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتصَ من أحدٍ حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقيض أيدي الناس بعضهم عن بعض ».
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - تشريع القصاص فريضة من الله على عباده المؤمنين لصلاحهم وسعادتهم.
٢ - القصاص يقلّل الجرائم، ويقضي على الضغائن ويربي النجاة.
٣ - في القصاص حياة النفوس، وحماية الأفراد والمجتمعات البشرية.
٤ - الاعتداء على غير القاتل من العصبية الجاهلية التي حاربها الإسلام.
٥ - تجب المماثلة في القصاص حتى لا ينتشر البغي والظلم والعدوان.
٦ - إذا عفا أولياء القتيل وقبلوا الدية فيجب دفعها لهم بدون مماطلة ولا تسويف.
٧ - تخفيف العقوبة رحمة من الله على عباده المؤمنين يجب عليهم شكرها.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع المولى الحكيم العليم القصاص، وأوجب تنفيذه على الحكام، صيانة لدماء الناس، ومحافظة على أرواح الأبرياء، وقضاء على الفتنة في مهدها، ذلك لأن أخذ الجاني بجنايته يكون زاجراً له ولغيره، ورادعاً لأهل البغي والعدوان، فإذا همّ أحدٌ بقتل أخيه، أو تهيب خيفةً من القصاص، فكفّ عن القتل، فكان في ذلك حياةً له، وحياة لمن أراد قتله، وحياة لأفراد المجتمع، وإذا بقي المعتدي يرتع، دون جزاءٍ أو عقاب، أدّى ذلك إلى إثارة الفتن، واضطراب الأمن، وتعريض المجتمع إلى سفك الدماء البريئة أخذاً بالثأر، فإنّ الغضب للدم المراق فطرة في الإنسان، والإسلام راعى ذلك فقرّر شريعة القصاص، حتى يستلّ لأحقاد من القلوب، ويقضي على أسباب البغي والخصام، والعدوان.
77
ولكن الإسلام في الوقت الذي يفرض فيه القصاص، يحبّب في العفو، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص العدل، دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا إلزاماً يكبت فطرة الإنسان، ويحملها مالا تطيق ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾.
وقد نقل المولى - جل وعلا - بهذا التشريع الحكيم العقوبات، من معنى انتقامي إلى معنى سام جليل، فقد كانت العقوبات السالفة، انتقاماً ينتقم بها المجتمع من المجرمين، أو ينتقم بها أهل القتيل من أهل المقتول، فلا يقبلون حتى يسفكوا مقابل الدم الواحد الدماء البريئة ويزهقوا الأرواح. وربما قتلوا بالرجل مائة رجل، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح ﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب ﴾ ولم قل لكم فيه انتقام. ولقد رقت قلوب قوم من رجال ( التشريع الوضعي ) فاستفظعوا قتل القاتل، ورحموه من القتل، ولقد كان ( المقتول ظلماً ) أولى بالرحمة والشفقة والعطف، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع من سطوة المجرمين من أهل الفساد!! وماذا نصنع مع العصابات التي كثرت في هذه الأيام واتخذت لها طريقاً إلى ترويع المجتمع بالسلب والنهب وسفك الدماء؟ لقد نظروا نظرة ضيقة بفكر غير سليم، ولو نظروا عامة شاملة بفكر وعقل مستنير لرحموا الأمة من المجرمين، بالأخذ بشدة على أيدي العابثين، فإن من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم، وكف عادية المعتدين.
78
[ ٨ ] فريضة الصيام على المسلمين
التحليل اللفظي
﴿ الصيام ﴾ : الصم في اللغة : الإمساكُ عن الشيء والتركُ له، يقال : صامت الخيل إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب.
قال الراغب : الصوم : الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف صائمٌ، قال الشاعر :
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحت العَجاج وأخرى تعلك الُّلجما
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري، أو ممسكة عن الطعام، وقال آخر :
حتّى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعابٌ فنزل
قال أبو عبيدة : كل ممسكٍ عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم.
وفي الشرع : هو الإمساك عن الطعام، والشراب، والجماع، مع النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وكمالُه باجتناب المحظورات، وعدم الوقوع في المحرمات.
﴿ فَعِدَّةٌ ﴾ : قال الراغب : العدّةُ هي الشيء المعدود، ومنه قوله تعالى ﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ ﴾ [ المدثر : ٣١ ] أي عددهم. والمعنى : عليه أيام عدد ما قد فاته من رمضان.
قال القرطبي :« والعِدّةُ فِعْلةٍ من العدّ وهي بمعنى المعدود، كالطِحن بمعنى المطحون، تقول : أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً، ومنه عدة المرأة ».
﴿ أُخَرَ ﴾ : جمع أخرى، أي أياماً أخرى، وهي ممنوعة من الصرف لأنها معدولة عن آخر على رأي الكسائي، وعن الألف واللام على رأي سيبويه، مثل : الصُغَر، والكُبَر. وإنما أوثر هنا الجمع لأنه لو جيء به مفرداً فقيل : عدة من أيامٍ أخرى لأوهم أنه وصفٌ لعدة فيفوت المقصود.
﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ : أي يصومونه بمشقة وعسر.
قال في « اللسان » : والإطاقة القدرة على الشيء، وهو في طوقي أي وسعي، وأطاق وإطاقة إذا قوي عليه.
وقال الراغب : والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وشبّه بالطوق المحيط بالشيء.
﴿ فِدْيَةٌ ﴾ : الفدية ما يفدي به الإنسان نفسه من مال وغيره، بسبب تقصير وقع منه في عبادة من العبادات، وهي تشبه الكفّارة من بعض الوجوه.
﴿ شَهْرُ ﴾ : الشهرُ معروف، وأصله من الاشتهار وهو الظهور، يقال : شهر الأمر أظهره، وشهرالسيف استلّه، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره، لكونه ميقاتاً للعبادات والمعاملات، فصار مشتهراً بين الناس.
﴿ رَمَضَانَ ﴾ : قال الراغب : رمضان هو الرّمض أي شدة وقع الشمس، والرمضاء شدة حر الشمس، ورمضت الغنم : رعت في الرمضاء فقرحت أكبادنا. وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها.
قال الزمخشري :« لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموّها بالأزموة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ فسمي رمضان ».
وقيل : إنما سمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة.
﴿ الرفث ﴾ : الجماع ودواعيه، قال الراغب : الرفث : كلامٌ متضمنٌ لما يُستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وقد جعل كناية عن الجماع في قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ تنبيهاً إلى جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه.
79
وأصل الرفث : قول الفحش ثم كنّي به عن الجماع قال الشاعر :
ويُرَيْن من أُنْس الحديث زوانياً وبهنّ عن رفث الرجال نِفَار
قال ابن عباس : الرفث هو الجماع، إن الله تعالى كريم حليم يكني.
﴿ تَخْتانُونَ ﴾ : الاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، ومعناه : مراودة الخيانة.
قال في « اللسان » : خانه واختانه، والمخانة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة قال الشاعر :
يتحدثون مَخَانةً وملاذَةً ويُعاب قائلهم وإن لم يشْغب
وسئل بعضهم عن السيف فقال : أخوك وإن خانك، وكل ما غيّرك عن حالك فقد تخوّنك.
قال الراغب : الخيانة مقابل الأمانة، والاختيان : مراودة الخيانة، ولم يقل :( تخونون أنفسكم ) لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان، وهو تحرك شهوة الإنسان للوقوع في الخيانة.
﴿ عاكفون ﴾ : العكوف والاعتكاف أصله اللزوم، يقال : عكفت بالمكان أي أقمت به ملازماً قال تعالى :﴿ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى ﴾ [ طه : ٩١ ] وقال الشاعر :
فبات بنات الليل حولي عُكّفاً عكوف البواكي بينهن صريع
وفي الشرع هو المكث في المسجد للعبادة بنيّة القربة لله تعالى.
﴿ حُدُودُ الله ﴾ : الحدود جمع حدّ، والحدّ في اللغة : المنع، ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء، وسمي البوّاب حدّاداً لأنه يمنع من الدخول أو الخروج إلا بإذن، وأحدّث المرأة على زوجها إذا تركت الزينة وامتنعت منها.
قال الزجاج :« الحدودُ ما منع الله تعالى من مخالفتها، فلا يجوز مجازوتها ».
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ وعلا أنه قد فرض الصيام على عباده المؤمنين، كما فرضه على من سبقهم من أهل الملل، وقد علّل فرضيته ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهي أن يُعدّ نفس الصائم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة امتثالاً لأمره تعالى، واحتساباً للأجر عنده، ليكون المؤمن من المتقين لله المجتنبين لمحارمه.
وهذا الصيام الذي فرضه الله على عباده، إنما هو أيام معينات بالعدد، وهي أيام رمضان، ولم يفرض الله عليكم الدهر كله، تخفيفاً ورحمة بهم، ومع هذه الرحمة في الصيام فقد شرع للمريض الذي يضره الصوم، والمسافر الذي يشق عليه أن يفطرا ويقضيا أياماً بقدر الأيام التي أفطرا فيها وذلك من التيسير على العباد والرحمة بهم، ثم أخبر تعالى أن هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه هو شهر رمضان، شهر ابتداء نزول القرآن، الكتاب العظيم الذي أكرم الله به الأمة المحمدية، فجعله دستوراً لهم، ونظاماً يتمسكون به في حياتهم، فيه النور، والهدى، والضياء، وهو سبيل السعادة لمن أراد أن يسلك طريقها، وقد أكدّ الباري صيام هذا الشهر، لأنه شهر تنزّل الرحمة الإلهية على العباد، وأنه تعالى لا يريد بعباده إلا اليُسر والسهولة، ولذلك فقد أباح للمريض والمسافر الإفطار في أيام رمضان.
ثم بيّن تعالى أنه قريب، يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين، وليس بينه وبين أحدٍ من العباد حجاب، فعليهم أن يتوجهوا إليه وحده بالدعاء والتضرع، حنفاء مخلصين له الدين.
80
وقد يسّر تعالى على عباده وأباح لهم التمتع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبل محرماً عليهم، ولكنّه تعالى أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء، ليظهر فضله عليهم، ورحمته بهم، وقد شبّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها، قال ابن عباس معناه « هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكن لهنّ » وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة، مباشرتهن وقت الاعتكاف لأنه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثمّ ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله ليكونوا من المتقين.
سبب النزول
١ - روى ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال :« إنّ رسول الله ﷺ قدم المدينة فصام يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر »، ثم إن الله تعالى فرض شهر رمضان، فأنزل الله تعالى ذكره ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ﴾ حتى بلغ ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، ثم إن الله تعالى أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله تعالى ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ... ﴾.
٢ - وروُي عن سلمة بن الأكوع أنه قال « لما نزلت هذه الآية ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من شاء منا صام، ومن شاء أن يفطلر ويفتدي فعل ذلك، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾.
٣ - وروي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي ﷺ فقالوا : يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه؟ أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... ﴾ الآية.
٤ - وروي البخاري عن ( البراء بن عازب ) أنه قال :»
كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً، وكان يعمل بالنخيل في النهار، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندكِ طعامٌ؟ قالت : لا، ولكن أنطلقُ فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ ففرحوا فرحاً شديداً، فنزلت ﴿ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود ﴾.
81
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ( وعلى الذين يُطيقونه ) وقرأ ابن عباس ( يُطَوّقونه ) بمعنى يكلّفونه.
٢ - قرأ الجمهور ( فديةٌ طعامُ مسكينٍ ) وقرأ نافع وابن عامر ( فديةُ طعامِ مساكين ) بجمع مساكين، وإضافة ( فدية ) إلى ( طعام ).
٣ - قرأ الجمهور ( فمن تطوّع ) على الماضي وقرأ حمزة والكسائي ( فمن تطوّعُ ) بالجزم على معنى يتطوّع، وقرئ ( فمنّ يطّوع ) على أنه مضارع.
٤ - قرأ الجمهور ( ولتُكْملوا العدّة ) بالتخفيف، وقرأ أبو بكر عن عاصم ( ولتُكَمّلوا ) بالتشديد.
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾ الكاف للتشبيه وهي صفة لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية، والتقدير : كُتب عليكم الصيامُ كتابةً مثل كتابته على من قبلكم.
٢ - قوله تعالى :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ قال الزجاج : منصوب على الظرف كأنه قال : كتب عليكم في هذه الأيام والعامل فيه الصيام. قال العكبري : لا يجوز أن ينتصب على الظرف، ولا على أنه مفعول به على السّعة لأن المصدر إذا وصف لا يعمل، والوجه أن يكون العامل محذوفاً تقديره : صوموا أياماً.
٣ - قوله تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ تقديره : فعليه عدّةٌ فيكون ارتفاع ( عدة ) على الابتداء والخير محذوف، وأخر صفة لعدة لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام.
٤ - قوله تعالى :﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أن تصوموا في موضع مبتدأ و ( خير ) خبره والتقدير صيامكم خير لكم، و ﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ شرط حذف منه الجواب لدلالة ما قبله.
٥ - قوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ الشهرَ منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في ( فليصمْه ) ولا يكون مفعولاً به، لأنه يلزم حينئذٍ المسافر لأنه شهد الشهر، قال الزمخشري :« المعنى فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر فليصم في الشهر ولا يفطر ».
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أشارت الآية الكريمة إلى أن الصوم عبادة قديمة، فرضها الله على الأمم قبلنا، ولكنّ أهل الكتاب غيّروا وبدّلوا في هذه الفريضة، وقد كان يتفق في الحر الشديد أو البرد الشديد، فحوّلوه إلى الربيع وزادوا في عده حتى جعلوه خمسين يوماً كفارة لذلك.
روى الطبري بسنده عن الدُّي أنه قال :« كُتب على النصارى شهرُ - رمضان، وكُتب عليهم ألاّ يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا أن ينكحوا النساء في شهر رمضان، فاشتد على النصارى صيام رمضان، وجعل يُقلّب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف ( يعني الربيع ) وقالوا : نزيد عشرين يوماً نكفّر بهما ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين ».
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ قال ابن العربي : هذا القول من لطيف الفصاحة لأن تقديره : فأفطر فعدةٌ من أيام أخر، فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور.
82
اللطيفة الثالثة : بيّن المولى جل ثناؤه أن الصوم يورث التقوى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ وهذا تقليل لفريضة الصيام ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة التقوى بترك الشهوات المحرمة، فالصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر :( المرء يسعى لغاريه : بطنه، وفرجه ).
اللطيفة الرابعة : قال القفال رحمه الله :« انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، فقد نبّه إلى ما يلي :
أولاً : أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة.
ثانياً : أن الصوم سبب لحصول التقوى، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف.
ثالثاً : أنه مختص بأيام معدودات، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة.
رابعاً : أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أًنزل فيه القرآن، لكونه أشرف الشهور.
خامساً : إزالة المشقة في إلزامه - فقد أباح تأخيره لمن يشق عله من المسافرين والمرضى، فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى.
اللطيفة الخامسة : أفاد قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز يجوز لهما الإفطار مع الفدية، والعرب تقول : أطاق الشيء إذا كانت قدرته في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة عظيمة، وهو مشتق من الطوق وعليه قول الراغب : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] أي ما يصعب علينا مزاولته.
والطاقة : اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة، والوُسْعُ : اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة، فتنبه له فإنه دقيق.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ المراد شهود الوقت لا شهود رؤية الهلال، إذ قد لا يراه إلا واحد أو اثنان ويجب صيامه على جميع المسلمين، و ( شهد ) بمعنى حضر، وفيه إضمارٌ أي من شهد منكم الشهر مقيماً غير مسافر ولا مريض فليصمه، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان، أفاده أبو السعود.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى :﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾ هذه الآية فيها من المحسّنات البديعية ما يسمى ( طباق السلب ) وهي أصل في الدين ومنها أخذ الفقهاء القاعدة الأصولية ( المشقّة تجلب التيسير ) فالله تبارك وتعالى لا يريد بتشريعه إعنات الناس، وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم.
اللطيفة الثامنة : قال العلامة الزمخشري قوله تعالى :﴿ وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي شرع ذلك يعني جملة ما ذكر، من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأم المريض والمسافر بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله :﴿ وَلِتُكْمِلُواْ ﴾ علة الأمر بمراعاة العدة، ( ولتكبّروا ) علة ما عُلم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللّف والنشر، لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان.
83
اللطيفة التاسعة : عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سامٍ لطيف، لتعليمنا الأدب في الأمور التي تتعلق بالنساء ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ فالتعبير على طريقة الاستعارة والمراد اشتمال بعضهم على بعض لما تشتمل الملابس على الأجسام.
قال الإمام الفخر :« لمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سُمّي كل واحد منهما لباساً ».
اللطيفة العاشرة : قوله تعالى :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ﴾.
قال الشريف الرضي :« هذه استعارةٌ عجيبة، والمراد بها حتى يتبيّن بياضُ الصبحُ من سواد الليل، والخيطان هاهنا مجاز، وإنما شبّهها بذلك لأنّ بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً، ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً، فهما جميعاً ضعيفان، إلاّ أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً ».
روي أنه لما نزلت الآية « قال ( عدي بن حاتم ) أخذتُ عقالين : أبيض، وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليها، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله ﷺ فأخبرته فضحك وقال :» إنك لعريض القفا، إنما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل «.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل فرض على المسلمين صيامٌ قبل رمضان؟
يدل ظاهر قوله تعالى :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ على أن المفروض على المسلمين من الصيام إنما هو هذه الأيام ( أيام رمضان ) وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين، وهو مروي عن ابن عباس والحسن، واختاره ابن جرير الطبري.
وروي عن قتادة وعطاء أن المفروض على المسلمين كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض عليهم صوم رمضان، وحجتهم أن قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ يدل على أنه واجب على التخيير، وأمّا صوم رمضان فإنه واجب على التعيين، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
واستدل الجمهور بأن قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ﴾ مجمل يحتمل أن يكون يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك فبينه بعض البيان بقوله :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ وهذا أيضاً يحتمل أن يكون أسبوعاً أو شهراً، فبيّنه تعالى بقوله :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ فكان ذلك حجة واضحة على أنّ الذي فرضه على المسلمين هو شهر رمضان.
84
قال ابن جرير الطبري :« وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال : عنى جل ثناؤه بقوله :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾ فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون، أياماً معدودات هي شهر رمضان ».
الحكم الثاني : ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار؟
أباح الله تعالى للمريض والمسافر الفطر في رمضان، رحمة بالعباد وتيسيراً عليهم، وقد اختلف الفقهاء في المرض المبيح للفطر على أقوال :
أولاً - قال أهل الظاهر : مطلق المرض والسفر يبيح للإنسان الإفطار حتى ولو كان السفر قصيراً والمرض يسيراً حتى من وجع الإصبع والضرس، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين.
ثانياً - وقال بعض العلماء إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجُهد، وكذلك المسافر الذي يُضينه السفر ويُجهده، وهو قول الأصم.
ثالثاً - وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر، هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادةٍ في العلة، أو يُخشى معه تأخر البرء، والسفر الطويل الذي يؤدي إلى مشقةً في الغالب، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
دليل الظاهرية :
استدل أهل الظاهر بعموم الآية الكريمة ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ ﴾ حيث أُطلق اللفظ ولم يُقيّد المرض بالشديد، ولا السفر بالبعيد، فمطلق المرض والسفر يبيح الإفطار، حكي أنهم دخلوا على ( ابن سيرين ) في رمضان وهو يأكل، فاعتلّ بوجع أصبعه.
وقال داود : الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان السفر فرسخاً لأنه يقال له : مسافر، وهذا ما دل عليه ظاهر القرآن.
دليل الجمهور :
استدل جمهور الفقهاء على أن المرض اليسير الذي لا كلفة معه لا يبيح الإفطار بقوله تعالى في آية الصيام ﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾ فالآية قد دلت على أن الفرض من الترخيص.
المرض خفيفاً والسفر قريباً فلا يقال إن هناك مشقة رفعت عن الصائم، فأي مشقة من وجع الأصبع والضرس؟
الترجيح : أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رُخّص للمريض في الإفطار هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلاّ عند وجود المشقة، فأي مشقةٍ في وجع الأصبع، أو الصداع الخفيف والمرض اليسير، الذي لا كلفة معه في الصيام؟ ثمّ إن من الأمراض ما لا يكون شفاؤه إلا بالصيام، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك؟ ولم يكلفنا الله جلّ وعلا إلاّ على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سبباً للمرض، أو زيادة العّلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمرٌ يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين.
85
قال القرطبي :« للمريض حالتان : إحداهما - ألاّ يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً.
الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل وقال جمهور العلماء : إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف زيادته صحّ له الفطر، واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة : هو خوف التلف من الصيام، وقال مرة : هو شدة المرض، والزيادة فيه، والمشقة الفادحة، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر »
.
الحكم الثالث : ما هو السفر المبيح للإفطار؟
وأما السفر المبيح للإفطار فقد اختلف الفقهاء فيه بعد اتفاقهم على أنه لا بدّ أن يكون سفراً طويلاً على أقوال :
أ - قال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسافة يوم.
ب - وقال الشافعي وأحمد : هو مسيرة يومين وليلتين، ويقدر بستة عشر فرسخاً.
ج - وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخاً.
حجة الأوزاعي :
أنّ السفر أقل من يوم سفرٌ قصير قد يتفق للمقيم، والغالب أن المسافر هو الذي لا يتمكن من الرجوع إلى أهله في ذلك اليوم، فلا بدّ أن يكون أقل مدة للسفر يومٌ واحد حتى يباح له الفطر.
حجة الشافعي وأحمد :
أولاً : أن السفر الشرعي هو الذي تُقصر فيه الصلاة، وتعبُ اليوم الواحد يسهل تحمله، أمّا إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة.
ثانياً : ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان ».
قال أهل اللغة : وكل بريد أربعة فراسخ، فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً.
ثالثاً : ما روي عن عطاء أنه قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا، فقال : إلى مرّ الظهران؟ فقال : لا، ولكن أقصر إلى جدة، وعسفان، والطائف.
قال القرطبي : والذي في « البخاري » :« وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً ».
وهذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله، وقد روي عنه أنه قال : أقله يوم وليلة، واستدل بحديث « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يومٍ وليلة إلا ومعها ذو محرم » رواه البخاري.
حجة أبي حنيفة والثوري :
أولاً : واحتج أبو حنيفة بأن قوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ يوجب الصوم، ولكنّا تركناه في ثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها، أما فيما دونها فمختلف فيه فوجب الصوم احتياطياً.
86
ثانياً : واحتج بقوله عليه السلام :« يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها » فقد جعل الشارع علة المسح ثلاثة أيام السفرُ، والرخص لا تعلم إلاّ من الشرع، فوجب اعتبار الثلاث سفراً شرعياً.
ثالثاً : وبقوله ﷺ :« لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم » فتبيّن أن الثلاثة قد تعلق بها حكم شرعي، وغيرها لم يتعلق فوجب تقديرها في إباحة الفطر.
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » :« وثبت عن النبي ﷺ أنه قال :» لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ ومعها ذو محرم « وفي حديث ( سفر ثلاثة أيام ) فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في أيام : يوم يتحمل فيه عن أهله، ويوم ينزل فيه في مستقره، واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد، فرجل احتاط وزاد، ورجل ترخّص، ورجل تقصّر ».
أقول : أمور العبادة ينبغي فيها الاحتياط، ولما ثبت عنه ﷺ منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة أيام، وثبت يوم وليلة وكلاهما في الصحيح، لذا كان العمل بالثلاث أحوط، فلعل ما ذهب إليه أبو حنيفة يكون أرجح والله أعلم.
الحكم الرابع : هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أم عزيمة؟
ذهب أهل الظاهر إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا، ويصوما عدة من أيام أخرى، وأنهما لو صاما لا يجزئ صومهما لقوله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ والمعنى : فعليه عدة من أيام أخر، وهذا يقتضي الوجوب. وبقوله عليه السلام :« ليس من البر الصيام في السفر » وقد روي هذا عن بعض علماء السلف.
وذهب الجمهور وفقهاء الأمصار إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء أفطر وإن شاء صام واستدلوا بما يلي :
١ - قالوا : إن في الآية إضماراً تقديره : فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، وهو نظير قوله تعالى :﴿ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت ﴾ [ البقرة : ٦٠ ] والتقدير : فضرب فانفجرت، وكذلك قوله تعالى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] أي فحلق فعليه فدية والإضمار في القرآن كثير لا ينكره إلا جاهل.
ب - واستدلوا بما ثبت عن النبي ﷺ بالخبر المستفيض أنه صام في السفر.
ج - وبما ثبت عن أنس قال :« سافرنا مع رسول الله ﷺ في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم ».
د - وقالوا : إن المرض والسفر من موجبات اليسر شرعاً وعقلاً، فلا يصح أن يكونا سبباً للعسر.
87
وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام « ليس من البر الصيام في السفر » فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي ﷺ رأى رجلاً يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا : صائم أجهده العطش فذكر الحديث.
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » :« وقد عُزي إلى قوم : إن سافر في رمضان قضاه، صامه أو أفطره، وهذا لا يقول به إلا الضعاء الأعاجم، فإن جزالة القول، وقوة الفصاحة، تقتضي تقدير ( فأفطر ) وقد ثبت عن النبي ﷺ الصوم في السفر قولاً وفعلاً، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره ».
الحكم الخامس : هل الصيام أفضل أم الإفطار؟
وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل؟
فذهب أبو حنيفة، والشافعي، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل، أما الأول فلقوله تعالى :﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ وأما الثاني فلقوله تعالى :﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾.
وذهب أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل أخذاً بالرخصة، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء.
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم.
الحكم السادس : هل يجب قضاء الصيام متتابعاً؟
ذهب علي، وابن عمر، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعاً، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء، فلما كان الأداء متتابعاً، فكذلك القضاء.
وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان، متفرقاً أو متتابعاً، وحجتهم قوله تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ فالآية لم تشترط إلاّ صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه.
واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال :« إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق ».
الترجيح : والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم.
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ ؟
يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن ( سلمة بن الأكوع ) أنه قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ﴾ كان من شاء منّا صام، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وهذا مروي عن ابن مسعود، ومعاذ، وابن عمر وغيرهم.
88
ويرى آخرنن أن الآية غير منسوخة، وأنها نزلت في الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي يُجهده الصوم، وهذا مروي عن ابن عباس.
قال ابن عباس :( رخّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه ).
وروى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ قال ابن عباس : ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.
وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة، ويكون معنى قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ﴾ أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة، ويؤيده قراءة ﴿ يطوّقونه ﴾ أي يكلّفونه مع المشقة.
الحكم الثامن : ما هو حكم الحامل والمرضع؟
الحبلى والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أفطرتا، لأن حكمهما حكم المريض، وقد سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما فقال : أيّ مرضٍ أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي.
وهذا باتفاق الفقهاء، ولكنهم اختلفوا هل يجب عليهما القضاء مع الفدية، أم يجب القضاء فقط؟
ذهب أبو حنيفة إلى أن الواجب عليهما هو القضاء فقط، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن عليهما القضاء مع الفدية.
حجة الشافعي وأحمد :
أن الحامل والمرضع داخلتان في منطوق الآية الكريمة ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ لأنها تشمل الشيخ الكبير، والمرأة الفانية، وكل من يُجهده الصوم فعليهما الفدية كما تجب على الشيخ الكبير.
حجة أبي حنيفة :
أولاً : أن الحامل والمرضع في حكم المريض، ألا ترى إلى قول الحسن البصري : أي مرضٍ أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان، فلم يوجب عليهما غير القضاء.
ثانياً : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته ومانته، فلن يأتيه يوم يستطيع فيه الصيام، أما الحامل والمرضع فإنهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة للزوال، فالقضاء واجب عليهما، فلو أجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز، لأن القضاء بدل، والفدية بدل، ولا يمكن الجمع بينهما لأن الواجب أحدهما.
وقد روي عن الإمام أحمد والشافعي أنهما إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا فعليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما فقط، أو على أنفسهما وعلى ولدهما، فعليهما القضاء لا غير.
الحكم التاسع : بم يثبت شهر رمضان؟
يثبت شهر رمضان برؤية الهلال، ولو من واحد عدل أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم، لقوله ﷺ :« صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ».
89
فبواسطة الهلال تعرف أوقات الصيام والحج كما قال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] فلا بدّ من الاعتماد على الرؤية، ويكفي لإثبات رمضان شهادة واحدٍ عدل عند الجمهور، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :« تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله ﷺ أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه » وأما هلال شوال فيثبت بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، ولا تقبل فيه شهادة العدل الواحد عند عامة الفقهاء.
وقال مالك : لا بدّ من شهادة رجلين عدلين، لأنه شهادة وهو يشبه إثبات هلال شوال، لا بدّ فيه من اثنين على الأقل.
قال الترمذي : والعمل عند أكثر أهل العلم على أنه تقبل شهادة واحدٍ في الصيام.
روى الدارقطني : أنّ رجلاً شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام وأمر الناس أن يصوموا، وقال : أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان.
الحكم العاشر : هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام؟
ذهب الحنيفة والمالكية والحنابلة : إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على بقية البلاد لقوله ﷺ :« صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وهو خطاب عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعاً.
وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا تكفي رؤية البلد الآخر، والأدلة تطلب من كتب الفروع فارجع إليها هناك.
الحكم الحادي عشر : حكم الخطأ في الإفطار.
اختلف العلماء فيمن أكل أو شرب ظاناً غروب الشمس، أو تسحرّ يظن عدم طلوع الفجر، فظهر خلاف ذلك، هل عليه القضاء أم لا؟
فذهب الجمهور وهو مذهب ( الأئمة الأربعة ) إلى أنّ صيامه غير صحيح ويجب عليه القضاء، لأن المطلوب من الصائم التثبت، لقوله تعالى :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود ﴾ فأمر بإتمام الصيام إلى غروب الشمس، فإذا ظهر خلافه وجب القضاء.
وذهب أهل الظاهر والحسن البصري إلى أن صومه صحيح ولا قضاء عليه لقوله تعالى :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ [ الأحزاب : ٥ ] وقوله ﷺ :« رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » وقالوا : هو كالناسي لا يفسد صومه.
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح لأن المقصود من رفع الجناح رفع الإثم لا رفع الحكم، فلا كفارة عليه لعدم قصد الإفطار، ولكن يلزمه القضاء للتقصير، ألا ترى أن القتل الخطأ فيه الكفارة والدية مع أنه ليس بعمد، وقياسه على الناسي غير سليم، لأن الناسي قد ورد فيه النص الصريح فلا يقاس عليه والله أعلم.
90
الحكم الثاني عشر : هل الجنابة تنافي الصوم؟
دلت الآية الكريمة وهي ﴿ فالآن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ... ﴾ الآية على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لما فيه من إباحة الأكل والشرب والجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم أن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر يصبح جنباً، وقد أمر الله بإتمام صومه إلى الليل ﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ فدلّ على صحة صومه، ولو لم يكن الصوم صحيحاً لما أمره بإتمامه.
وفي « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها :« أن النبي ﷺ كان يصبح جنباً وهو صائم ثمّ يغتسل » فالجنابة لا تأثير لها على الصوم، ويجب الاغتسال من أجل الصلاة.
الحكم الثالث عشر : هل يجب قضاء صوم النفل إذا أفسده؟
اختلف الفقهاء في حكم صوم النفل إذا أفسده هل يجب فيه القضاء أم لا؟ على مذاهب.
مذهب الحنفية : يجب عليه القضاء لأنه بالشروع يلزمه الإتمام.
مذهب الشافعية والحنابلة : لا يجب عليه القضاء لأن المتطوّع أمير نفسه.
وذهب المالكية : أنه إن أبطله فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه.
دليل الحنفية :
أ - قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ قالوا : فهذه الآية عامة في كل صوم، فكل صومٍ شرع فيه لزمه إتمامه.
ب - قوله تعالى :﴿ وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [ محمد : ٣٣ ] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فإذا أبطله فقد ترك واجباً، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته.
ج - حديث عائشة أنها قالت :« أصبحتُ أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي إلينا طعام فأعجبنا فأفطرنا، فلما جاء النبي ﷺ بدرتني حفصة فسألته - وهي ابنة أبيها - فقال عليه السلام : صوما يوماً مكانه ».
دليل الشافعية والحنابلة :
أ - قوله تعالى :﴿ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ ﴾ [ التوبة : ٩١ ] والمتطوّع محسن فليس عليه حرج في الإفطار.
ب - حديث « الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر ».
الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح لأن النبي ﷺ أمر عائشة وحفصة بصيام يوم مكانه وهو نص في وجوب القضاء والله أعلم.
الحكم الرابع عشر : ما هو الاعتكاف وفي أي المساجد يعتكف؟
قال الشافعي رحمه الله : الاعتكاف اللغوي : ملازمةُ المرء للشيء وحبسُ نفسه عليه، براً كان أو إثماً قال تعالى :﴿ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ].
والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله بنيّة العبادة، وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين ﴾ [ الحج : ٢٦ ] وقال تعالى :﴿ وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد ﴾ ويشترط في الاعتكاف أن يكون في المسجد لقوله تعالى :﴿ وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد ﴾ وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف على أقوال :
91
أ - فقال بعضهم : الاعتكاف خاصٌ بالمساجد الثلاثة ( المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى ) وهي مساجد الأنبياء عليهم السلام، واستدلوا بحديث :« لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد.. » الحديث وهذا قول سعيد بن المسيّب.
٢ - وقال بعضهم : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة، وهو قول ابن مسعود وبه أخذ الإمام مالك رحمه الله في أحد قوليه.
٣ - وقال الجمهور : يجوز الاعتكاف في كل مسجد من المساجد لعموم قوله تعالى :﴿ وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد ﴾ وهو الصحيح لأن الآية لم تعيّن مسجداً مخصوصاً فيبقى اللفظ على عمومه.
قال أبو بكر الجصاص :« حصل اتفاق جميع السلف أنّ من شرط الاعتكاف أن يكون في المسجد، على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها، وظاهر قوله تعالى :﴿ وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد ﴾ يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ، ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدليل، وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه، كما أن تخصيص من خصّه بمساجد الأنبياء لمّا لم يكن عليه دليل سقط اعتباره ».
وأما المرأة فيجوز لها أن تعتكف في بيتها لعدم دخولها في النص السابق :
الحكم الخامس عشر : ما هي مدة الاعتكاف وهل يشترط فيه الصيام؟
اختلف الفقهاء في المدة التي تلزم في الاعتكاف على أقوال :
أ - قلة يوم وليلة، وهو مذهب الأحناف.
ب - أقله عشرة أيام، وهو أحد قولي الإمام مالك.
ج - أقله لحظة ولا حدّ لأكثره وهو مذهب الشافعي.
ويجوز عند الشافعي وأحمد ( في أحد قوليه ) الاعتكاف بغير صوم.
وقال الجمهور ( أبو حنيفة ومالك وأحمد ) في القول الآخر : لا يصح الاعتكاف إلا بصوم. واحتجوا بما روته عائشة أن النبي ﷺ قال :« لا اعتكاف إلا بصيام ».
وحديث « اعتكف وصم » وقالوا : إن الله ذكر الاعتكاف مع الصيام في قوله :﴿ وَكُلُواْ واشربوا ﴾ إلى قوله :﴿ وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد ﴾ فدل على أنه لا اعتكاف إلا بصيام.
قال الإمام الفخر :« يجوز الاعتكاف بغير صوم، والأفضل أن يصوم معه وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا بالصوم.
حجةُ الشافعي رضي الله عنه هذه الآية، لأنه بغير الصوم عاكف، والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة »
.
أقول : المشهور عند فقهاء الأحناف أنهم قسموا الاعتكاف إلى ثلاثة أقسام :
١- مندوب : وهو يتحقق بمجرد النيّة ويكفي فيه ولو ساعة.
٢ - وسنة وهو في العشر الأواخر في رمضان.
٣ - وواجب : وهو المنذور ولا بدّ فيه من الصوم.
والأدلة بالتفصيل تطلب من كتب الفروع.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - الصيام شريعة الله لجميع الأمم فرضه الله على جميع المسلمين.
92
٢ - الصوم مدرسة روحية لتهذيب النفس وتعويدها على الصبر.
٣ - إختار الله شهر رمضان لفريضة الصيام لأنه شهر القرآن.
٤ - أهل الأعذار رخص الله لهم في الإفطار رحمة من الله وتيسيراً.
٥ - لا يجوز تعدي حدود الله ولا تجاوز أوامره ونواهيه لأنها الخير البشرية.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
مما لا شك فيه أن الصوم له فوائد جليلة، غفل عنها الجاهلون فرأوا فيه تجويعاً للنفس، وإرهاقاً للجسد، وكبتاً للحرية، لا دايع له ولا مبرر، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى.. وعرف سرّ حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائد وأسراره، وأيّدهم في ذلك الأطباء، فرأوا في الصيام أعظم علاج، وخير وقاية، وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية، التي لا ينفع فيها إلا الحمية الكاملة، والانقطاع عن الطعام والشراب مدة من الزمان. ولسنا الآن بصدد معرفة ( الفوائد الصحية ) للصيام، فإنّ ذلك مرجعه لأهل الاختصاص من الأطباء، ولكننا بصدد التعرف على بعض الحكم الروحية التي هي الأساس لتشريع الصيام - فإن الله تعالى ما شرع العبادات إلا ليربي في الإنسان ( ملكة التقوى ) وليعوده على الخضوع، والعبودية، والإذعان لأوامر الله العلي القدير.
الأمر الأول : فالصيام عبودية لله، وامتثال لأوامره، واتقاء لحرماته، ولهذا جاء في الحديث القدسي :« كل عمل آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي » فشعور الإنسان بالعبودية لله تعالى، والاستسلام لأمره وحكمه، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين ﴾ [ الأنعام : ٧١ ].
الأمر الثاني : الأمر الثاني من حكمة مشروعية الصيام، هي تربية النفس، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالصيام يربي قوة العزيمة وقوة الإرادة، ويجعل الإنسان متحكماً في أهوائه ورغباته، فلا يكون عبداً للجسد، ولا أسيراً للشهوة، وإنما يسير على هدي الشرع، ونور البصيرة والعقل، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته، فهو ملاك من الملائكة ﴿ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ [ محمد : ١٢ ].
الأمر الثالث : أن الصوم يربي في الإنسان، ملكة الحب والعطف والحنان، ويجعل منه إنساناً رقيق القلب، طيّب النفس، ويحرّك فيه كامن الإيمان، فليس الصيام حرماناً للإنسان عن الطعام والشراب، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان، ليشعر بشعور إخوانه، ويُحسّ بإحساسهم، فيمدّ إليهم يد المساعدة والعون، ويمسح دموع البائسين، ويزيل أحزان المنكوبين، بما تجود به نفسه الخيّرة الكريمة التي هذّبها شهر الصيام، ولقد قيل ليوسف الصدّيق عليه السلام :« لم تجوع وأنتَ على خزائن الأرض فقال : أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع ».
الأمر الرابع : أن الصوم يهذّب النفس البشرية، بما يغرسه فيها من خوف الله جل وعلا، ومراقبته في السر والعلن، ويجعل المرء تقياً نقياً يبتعد عن كل ما حرّم الله، فالسر في الصوم هو الحصول على ( مرتبة التقوى ) والله تبارك وتعالى حين ذكر الحكمة من مشروعية الصيام قال :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ ولم يقل ( لعلكم تتألمون ) أو ( لعلكم تجوعون ) أو ( لعلكم تصحّون ) والتقوى هي ثمرة الصيام التي يجنيها الصائم من هذه العبادة، وهي إعداد نفس الصائم للوقوف عند حدود الله، بترك شهواته الطبيعية المباحة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، وهذا هو سرّ الصيام وروحه ومقصده الأسمى، الذي شرعه الله من أجله، كما بينه في كتابه العزيز، فللَّه ما أسمى الصيام، وما أروع حكمة الله في شرعه العادل الحكيم!!
93
[ ٩ ] مشروعية القتال في الإسلام
﴿ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ : الثّقْفُ : الأخذ، والإدراك، والظفر يقال : ثقفه وجده أو ظفر به.
قال في اللسان : ثَقِف الرجلَ : ظفر به قال تعالى :﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب ﴾ [ الأنفال : ٥٧ ] ورجل ثقيف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور.
قال الراغب : الثقفُ : الحِذقُ في إدراك الشيء وفعله، ومنه استعير المثاقفة ويقال : ثقفتُ كذا إذا أدركته ببصرك لحذقٍ في النظر.
وفي « الكشاف » : الثقفُ وجودٌ على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجلٌ ثقف، سريع الأخذ لأقرانه، قال الشاعر :
فإمّا تثقفوني فاقتلوني فمن أثقفْ فليس إلى خلود
والمعنى : اقتلوا الكفار حيث وجدتموهم وظفرتم بهم في حِلّ أو حرم.
﴿ والفتنة ﴾ : الفتنة : الابتلاء والاختبار، وأصلها من الفتن وهو إدخالُ الذهب النارَ لتظهر جودته من رداءته.
قال الأزهري : جماع معنى الفتنة : الابتلاء والامتحان، والاختبار، مأخوذ من قولك : فتنتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميزّ الرديء من الجيد.
والمعنى : إيذاء المؤمن بالتعذيب والتشريد، بقصد أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً، أعظم جرماً عند الله من القتل. وقال ابن عباس : الشرك أعظم من القتل في الحرم.
﴿ والحرمات قِصَاصٌ ﴾ : الحُرُمات جمع حُرْمة، كالظُلمات جمع ظلمة، والحُرْمة كل ما منع الشرع من انتهاكه، وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام، والقصاصُ : المساواة والمماثلة وقد تقدم.
والمعنى : إذا انتهكوا حرمة الشهر فقاتلوكم فيه فقاتلوهم أنتم أيضاًَ ولا تتحرجوا. قال الزجاج : أعلم الله المسلمين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص.
﴿ التهلكة ﴾ : التهلُكة بضم اللام بمعنى الهلاك، يقال : هلكَ يهلك هلاكاً وتهلُكةً.
قال أبو عبيدة : التهلكةُ، والهَلاَك، والهُلْك واحد، مصدر هلك.
وفي اللسان : التهلكةُ : الهلاكُ، وقيل : كلّ شيء تصير عاقبته إلى الهلاك.
﴿ المحسنين ﴾ : جمع محسن وهو الذي ينفع غيره بنفعٍ حسنٍ، أو يحسن عمله بفعل ما يرضي الله تعالى.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : قاتلوا - أيها المؤمنون - في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه الذين يقاتلونكم من الكفار، ولا تعتدوا بقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، ممن لا قدرة لهم على القتال، فإن الله يكره البغي والعدوان أيّاً كان مصدره.
واقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدّنكم عنهم أنكم في أرض الحرم، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة بلدكم الأصلي، الذي أخرجوكم منه ظلماً وعدواناً، والفتنة للمؤمنين وإيذاؤهم بالتعذيب والتشريد، والإخراج من الوطن، والمصادرة للمال، أشد قبحاً من القتل ولا تقاتلوهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوكم بالقتال، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا عن عدوانهم فإن الله غفور رحيم.
94
ثمّ أكد تعالى الأمر بقتال الكفار، وبيّن الغاية منه وهي ألاّ يوجد شيء من الفتنة في الدين، فقال : قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم، ويكون الدين خالصاً لله، فلا يعبدون دونه أحد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، فإذا انتهوا عن قتالكم، ودخلوا في دينكم فاتركوا قتالهم لأنه لا ينبغي أن يعتدي إلا على الظالمين. ثم أخبر تعالى أنّ المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين، فعلوا ما هو أشد قبحاً من القتل، فقال مخاطباً المؤمنين : الشهر الحرام يقابل بالشهر الحرام، وهتك حرمته تقابل بهتك حرمته، فلا تبالوا - أيها المؤمنون - بالقتال فيه إذا اضررتم للدفاع عن دينكم، وإعلاء كلمة الله، فمن تعرّض لقتالكم واعتدى عليكم فقاتلوه، وردّوا عدوانه بلا ضعفٍ ولا تقصير، بمثل ما يعتدي عليكم، واتقوا لاله فلا تبغوا وتظلموا في القصاص، إن الله يحب المتقين.
ثم أمر تعالى بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال : وأنفقوا في سبيل الله أي ابذلوا المال في سبيل الله لنصرة دينه، والدفاع عن الحق، ولا تبخلوا فتشحوا بالمال، فإن ذلك يضعفكم، ويمكّن الأعداء من نواصيكم فتهلكون، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين.
سبب النزول
أولاً : روي أن رسول الله ﷺ لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على ان يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ قاله ابن عباس.
ثانياً : وروي أن المشركين قالوا للنبي عليه السلام : أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال : نعم، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فيه فنزلت هذه الآية ﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام ﴾ قاله الحسن.
ثالثاً : وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصدّه كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه فنزلت هذه الآية ﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام ﴾.
رابعاً : وروى ابن جرير الطبري : عن ( أسلم أبي عمران ) قال :« كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر ( عقبة بن عامر ) وعلى أهل الشام ( فضالة بن عُبيد ) فخرج صفٌ عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة، فقام ( أبو أيوب الأنصاري ) صاحب رسول الله ﷺ فقال : أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنّا لما أعزّ الله دينه، وكثّر ناصريه، قال بعضنا لبعضٍ سراً دون رسول الله ﷺ : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به ﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾ فكانت التهلكة الإقامة في الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو » فما زال ( أبو أيوب ) غازياً في سبيل الله، حتى قبضه الله ودفن بالقسطنطينية.
95
وجوه القراءات
قرأ الجمهور ( ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم ) بالألف في ( تقاتلوهم ) و ( يقاتلوكم ) و ( قاتلوكم ) وقرأ حمزة والكسائي، وخلف بحذف الألف فيهن ( ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكمفيه، فإن قتلوكم ).
قال الطبري :« وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ( ولا تقاتلوهم ) لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه ﷺ وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم ».
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين ﴾.
قال العكبري :( كذلك ) مبتدأ، و ( جزاء ) خبره، والجزاء مصدر مضاف إلى المفعول، ويجوز أن يكون في معنى المنصوب ويكون التقدير : كذلك جزاء الله الكافرين.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ حتّى بمعنى ( كي ) ويجوز أن تكون بمعنى إلى أن، وكان تامة، والمعنى : وقاتلوهم إلى أن لا توجد فتنة.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾ عدوان : اسم ( لا ) والجملة ( إلا على الظالمين ) في موضع رفع خبر ( لا ) قال العكبري : ففي الإثبات يقول : العدوان على الظالمين، فإذا جئت بالنفي وإلاّ بقي الإعراب على ما كان عليه.
لطائف التفسير
الطيفة الأولى : لا يذكر في القرآن الكريم لفظ ( القتال ) أو ( الجهاد ) إلا وهو مقرون بعبارة ( سبيل الله ) وذلك يدل على أن الغاية من القتال غاية مقدسة نبيلة هي ( إعلاء كلمة الله ) لا السيطرة أو المغنم، أو إظهار الشجاعة، أو الاستعلاء في الأرض، وقد وضّح هذه الغاية النبيلة قوله عليه السلام :« من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
اللطيفة الثانية : قال الزمخشري عند قول الله تعالى :﴿ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل ﴾ أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل، وقيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت.. جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت، ومنه قول القائل :
لقتلٌ بحدّ السيف أهون موقعاً على النفس من قتلٍ بحد فِراق
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين ﴾.
قال الإمام الفخر : فإن قيل : لم سمّى ذلك القتل عدواناً مع أنه حقٌ وصواب؟
قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان، فصحّ إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
قال الزجاج : والعرب تقول : ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه.
96
وجهل فلان عليّ فجهلت عليه. وعليه قول الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ.. ﴾ الآية.
الدفاع عن النفس مشروع ولا يعدّ اعتداءً، وإنما سمي في الآية اعتداءً ( فاعتدوا عليه ) من باب ( المشاكلة ) وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقول القائل :
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
والأصل فيها ( فمن اعتدى عليكم ) فقابلوه وجازوه بمثل ما اعتدى عليكم، وباب المشاكلة وردت فيه آيات عديدة كقوله تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] وقوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] وقوله :﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ ﴾ [ التوبة : ٧٩ ].
اللطيفة الخامسة : قال بعض العلماء :( لا أعلم مصدراً جاء في لغة العرب على وزن ( تفعُلة ) بضم العين إلا في هذه الآية ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾، وقال صاحب « الكشاف » : ويجوز أن يقال : أصله التهلِكة، كالتجربة، والتبصرة على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار.
قال الإمام الفخر :« إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به، واتخذوه حجة قوية، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها ».
أقول : ما ذكره الإمام الفخر هو الحق والصواب، فالقرآن الكريم حجة على اللغة، وليست اللغة حجة على القرآن، وB الإمام الفخر فقد أجاد في هذا وأفاد.
اللطيفة السادسة : الجهاد في سبيل الله أفضل القربات عند الله، ولا يعدله شيء من العبادات لقوله عليه السلام :« مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ».
كتب ( عبد الله بن المبارك ) إلى ( الفُضيل بن عياض ) بهذه الأبيات :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمتَ أنك في العبادة تلعب
من كان يخضُب خدّه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضّب
أو كان يتُعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهجُ السنابل والغبار الأطيب
فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : متى فرض الجهاد على المسلمين؟
لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة كان محظوراً على المسلمين، بنصوص كثيرة في كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى :﴿ فاعف عَنْهُمْ واصفح ﴾ [ المائدة : ١٣ ] وقوله :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ] وقوله :﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ] وقوله :﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله ﴾ [ الجاثية : ١٤ ] وقوله :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] وأمثال هذه الآيات كثير تدل على أن المؤمنين كانوا منهيّين ن قتال أعدائهم، وهناك نص صريح بالكف عن القتال وهو قوله تعالى :
97
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس.. ﴾ [ النساء : ٧٧ ] الآية.
والحكمة في الكف عن القتال : في بدء الدعوة يمكن أن نلخِّص أسبابها فيما يلي :
أ - إن المسلمين كانوا في مكة قلة، وهم محصورون فيها لا حول لهم ولا طول، ولو وقع بينهم وبين المشركين حرب أو قتال لأبادوهم عن بكرة أبيهم، فشاء الله أن يكثروا وأن يكون لهم أنصار وأعوان، وأن يرتكزوا قاعدة آمنه تحميها الدولة، فلمّا هاجروا إلى المدينة المنورة أذن لهم بالقتال بعد أن قويت شوكتهم وكثر عددهم.
ب - كانت الغاية تدريب نفوس المؤمنين على الصبر امتثالاً للأمر، وخضوعاً للقيادة، وانتظاراً للإذن، وقد كان العرب في الجاهلية شديدي الحماسة، لا يصبرون على الضيم، وقد تعودوا الاندفاع والحماسة، والخفة للقتال عند أول داع، فكان لا بدّ من تمرينهم على تحمل الأذى، والصبر على المكاره والخضوع لأمر القيادة العليا، حتى يقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحميّة والطاعة، في جماعةٍ هيأتهم إرادة الله لأمر عظيم.
ج - البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة، وكان صبر المسلمين على الأذى - وفيهم الأبطال والشجعان الذين يستطيعون أن يردوا الصاع صاعين - مما يثير النخوة، ويحرك القلوب نحو الإسلام، حصل هذا بالفعل في ( المحاصرة في الشعب ) عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم، كي يتخلوا عن حماية الرسول ﷺ واشتد الاضطهاد على بني هاشم، ثارت نفوس لم تؤمن بالإسلام، أخذتها النخوة والنجدة حتى مزّقوا الصحيفة التي تعاهد فيها المشركون على المقاطعة، وانتهى ذلك الحصار المشؤوم.
د - كان المسلمون في مكة يعيشون مع آبائهم وأهليهم في بيوت، وكان أهلوهم المشركون يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى الشرك والضلال، فلو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة، وليس من مصلحة الدعوة أن تثار حرب دموية داخل البيوت، فلما أحدثت الهجرة وانعزلت الجماعة أبيح لهم القتال.
الحكم الثاني : ما هي أول الآيات في تشريع القتال؟
اختلف السلف : في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن أول آية نزلت هي قوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ] نزلت بالمدينة، فكان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله ويكف عمن كفّ عنه.
وروي عن جماعة من الصحابة : منهم أبو بكر الصديق وابن عباس وسعيد بن جبير أن أول آيةٍ نزلت في القتال هي قوله تعالى :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [ الحج : ٣٩ ].
قال أبو بكر بن العربي :« والصحيح أن أول آية نزلت آية الحج
98
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾ [ الحج : ٣٩ ] ثم نزل ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ فكان القتال إذناً ثم أصبح بعد ذلك فرضاً، لأن آية الإذن في القتال مكية، وهذه الآية مدنية متأخرة «.
الحكم الثالث : هل يباح القتال في الحرم؟
دل قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ على حرمة القتال في الحرم، إلا إذا بدأ المشركون بالعدوان، فيباح لنا قتالهم دفعاً لشرهم وإجرامهم، ولا يجوز لنا أن نبدأهم بالقتال عملاً بالآية الكريمة وعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.
وقد روي عن مجاهد : في قوله تعالى :﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم ﴾ أنه قال :»
لا تقاتل في الحرم أحداً أبداً، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك «.
وروي عن قتادة أنه قال : الآية منسوخة نسختها آية براءة ﴿ فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ].
قال العلامة القرطبي : وللعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما أنها منسوخة، والثاني أنها محكمة.
قال مجاهد : الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام بعد أن يقاتل، وبه قال طاووس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
ويدل عليه ما روي في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه ولسم خطب يوم فتح مكة فقال :»
يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ولم تحلّ لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة «.
مناظرة لطيفة
قال القاضي أبو بكر ابن العربي :»
حضرتُ في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة ( أبي عقبة ) الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهيّ المنظر على ظهره أطمار، فسلّم سلام العلماء وتصدّر في صدر المجلس، فقال له الزنجاني : من السيد؟ فقال : رجل سلبة الشُطّار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجلٌ من صاغان من طلبة العلم، فقال القاضي مبادراً : سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة « الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل فيه أم لا؟ » فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ وقرئ :( ولا تقتلوهم ) وقرئ ( ولا تقاتلوهم ) فإن قرئ : ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا أُنهي عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً ظاهراً على النهي عن القتل.
فاعترض عليه القاضي الزنجاني منتصراً للشافعي ومالك - وإن لم ير مذهبهما على العادة - فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :
99
﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عليّ ( عامة ) في الأماكن، والآي التي احتججتُ بها ( خاصة )، ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص، فأبْهَتَ القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام «.
قال ابن العربي :»
فثبت النهي عن القتال فيها قرآناً وسنة، فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه، وأما الزاني والقاتل فلا بدّ من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيُقْتل بنصّ القرآن «.
الحكم الرابع : ما المراد بالعدون في الآية الكريمة؟
حرّم الباري جل وعلا الاعتداء في قوله :﴿ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾.
١ - ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المُثْلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ، الذين لا قدرة لهم على القتال، ويدخل فيها قتل الرهبان، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة. فكل هذا داخل في النهي ﴿ وَلاَ تعتدوا ﴾.
ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة أن رسول الله ﷺ قال :»
اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع «.
وفي »
الصحيحين « عن ابن عمر أنه قال :» وُجدت امرأةٌ في بعض مغازي النبي ﷺ مقتولةً فأنكر رسول الله ﷺ قتل النساء والصبيان «.
ب - وقيل المراد بقوله ﴿ وَلاَ تعتدوا ﴾ النهيُ عن البدء بالقتال، وهو مروي عن مقاتل.
ج - وقيل المراد به النهي عن قتال من لم يقاتل، وهو قول سعيد بن جبير، وأبي العالية.
قال القرطبي :»
ويدل عليه من النظر أن قاتل ( فَاعَلَ ) لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة، والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان، والزّمْنَى، والشيوخ فلا يقتلون، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( يزيد ابن أبي سفيان ) حين أرسله إلى الشام، إلاّ أن يكون لهؤلاء إذاية، وللعلماء فيهم صور ست :
الأولى - النساء إن قاتلن قُتلن لعموم قوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾.
الثانية - الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم.
الثالثة - الرهبان لا يُقتلون ولا يُسترقون لقول أبي بكر ( فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ).
الرابعة - الزّمني إن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة.
الخامسة - الشيوخ قال مالك : لا يقتلون وهو قول جمهور الفقهاء إذا كان لا ينتفع بهم في رأي ولا مدافعة.
100
السادسة - العسفاء وهم الأجراء والفلاحون لقول عمر ( اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب ).
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - القتال ينبغي أن يكون لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه.
٢ - الله جل وعلا يكره العدوان والظلم والطغيان أياً كان مصدره.
٣ - فتنة المؤمنين بالاضطهاد والتعذيب والتشريد مثل القتل.
٤ - لا يعتدى على النساء والضعفاء والصبيان ممن لا قدرة لهم على القتال.
٥ - الجهاد لدفع أذى المشركين، وقبر الفتنة، وتأمين سير الدعوة.
٦ - ترك الانفاق والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس سبب للهلاك.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
الصراع بين الحق والباطل قديم قدم هذه الحياة، لا يهدأ ولا ينتهي ولا يزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون!!
ولا بد لكل أمة من أمم الأرض، تريد أن تحيا حياة العزة والكرامة، من أن تستعد الاستعداد الكامل لمجابهة عدوها بكل ما تملك من قوة، وأن تأخذ بأسباب النصر، فتهيئ شبابها للجهاد والقتال، لأنه لا عيش في هذه الدنيا إلا للأقوياء، ولا منطق إلا للقوة، وقديماً قال شاعرنا العربي :
ومن لم يذُدْ عن حوصَه بسلاحة يُهدّمْ ومن لا يظلم الناس يظلم
والإسلام دين الله إلى الإنسانية، يهتم بدعوة الناس إلى الدخول في هدايته، والانضواء تحت رايته، لينعموا بحياة الأمن والاستقرار، ويعيشوا العيشة الكريمة التي أرادها الله لنبي الإنسان وإن الأمة الإسلامية. هي الأمة التي اختارها الله لإعلاء دينه، وتبليغ وحيه، وايصال هذا الهدى والنور إلى أمم الأرض.
فإذا وقف أحد في طريق الدعوة، وأراد أن يصدها عن المضي في طريقها، فلا بدّ من دحره، وتطهير الأرض من شره، لتصل هداية الله إلى النفوس، وتعلو كلمة الحق، ويأمن الناس على حريتهم الدينية، في الإيمان بالله الواحد القهار. ولذلك شرع القتال لدفع عدوان الظالمين، ولتحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة، وإيصالها للناس في حرية واطمئنان. وصدق الله ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ].
ولا يُقاتل إلا الباغي المعتدي، الذي يريد أن يفرض إرادته على الأمة بالقهر والسلطان، وأن يصد عن دين الله بقوة الحديد والنار، ويفتن المؤمن بوسائل الفنة والإغراء. ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ﴾.
101
[ ١٠ ] إتمام الحج والعمرة
التحليل اللفظي
﴿ أُحْصِرْتُمْ ﴾ : الإحصار في اللغة معناه : المنع والحبس، يقال : حَصَره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه قال الشاعر :
وما هجرُ ليلى أن تكون تَباعدت عليك ولا أن أحصرتْكَ شُغُول
قال في « اللسان » : الإحصار أن يُحضر الحاج عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه.
قال الفراء : العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته : قد أُحْصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان، أو قاهر مانع : قد حُصِر.
وقال الأزهري وأبو عبيدة : حًصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاع به.
﴿ الهدي ﴾ : الهديُ ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها، وأصله هديٌّ مشدد فخفّف، جمع هديّة قاله ابن قتيبة، وقال القرطبي : وسميت هدياً لأن منها ما يهدى إلى بيت الله.
﴿ مَحِلَّهُ ﴾ : المحلّ بكسر الحاء الموضع الذي يحل به نحر الهدي وهو الحرم، أو مكان الإحصار.
﴿ نُسُكٍ ﴾ : النّسك : جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى وأصل النسك العبادة ومنه قوله تعالى :﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ] أي متعبداتنا.
﴿ رَفَثَ ﴾ : الرفث : الإفحاش للمرأة بالكلام. وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه، وأنشد أبو عبيدة :
وربّ أسراب حجيجٍ كظّم عن اللغا ورفث التكلم
﴿ فُسُوقَ ﴾ : الفسوق في اللغة : الخروج عن الشيء يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله تعالى، ومنه قوله تعالى في حق إبليس ﴿ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] والمراد في الآية جميع المعاصي.
﴿ جِدَالَ ﴾ : الجدال : الخصام والمراء، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر.
﴿ الزاد ﴾ : ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة قال الأعشى : وأنك لم ترصد كما كان أرصدا... ﴿ جُنَاحٌ ﴾ : الجناحُ : الحرج والإثم من الجنوح وهو الميل عن القصد وقد تقدم.
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزودّا ندمتَ على ألاّ تكون كمثله
﴿ أَفَضْتُم ﴾ : أي اندفعتم يقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصبّ على نواحيه.
قال الراغب : فاض الماء إذا سال منصباً، والفيضُ : الماء الكثير، ويقال غيضٌ من فيض، أي قليل من كثير، وقوله تعالى :﴿ أَفَضْتُم مِّنْ عرفات ﴾ أي دفعتم منها بكثرة تشبيهاً بفيض الماء.
وقال الزمخشري : أفضتم : دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فتُرك ذكرُ المفعول.
﴿ عرفات ﴾ : اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها، وهي اسم في لفظ الجمع ( كأذرعات ) فلا تجمع.
قال الفراء : عرفات جمع لا واحد له، وقول الناس : نزلنا عرفة شبيهٌ بمولّد. وليس بعربي محض. وقوله ﷺ :« الحج عرفة »
102
هو اسم لليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقوف بعرفات، وليس اسماً للمكان كما صرح به الراغب.
﴿ المشعر الحرام ﴾ : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي ( مَشْعراً ) لأنه مَعْلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته.
﴿ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ : المناسك جمع ( مَنْسَك ) الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلتها جمع ( مَنْسَك ) الذي هو موضع العبادة كان التقدير : فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف أفاده الفخر.
﴿ خَلاَقٍ ﴾ : أي نصيب وقد تقدم، ومعنى الآية : ليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله.
المعنى الإجمالي
أمر الله المؤمنين بإتمام الحج والعمرة، وأداء المناسك على الوجه الأكمل ابتغاء وجه الله، فإذا مُنع المحرم من إتمام النسك بسبب عدوٍ أو مرض، وأراد أن يتحلل فعليه أن يذبح ما تيسّر له من بدنة، أو بقرة، أو شاة، ونهى تعالى عن الحلق والتحلل قبل بلوغ الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه، أمّا من كان مريضاً أو به أذى في رأسه فإنه يحلق وعليه فدية، إمّا صيام ثلاثة أيام، أو يذبح شاة، أو يتصدق على ستة مساكين، لكن مسكين فدية، صاعٍ من طعام فمن اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها فعليه ما استيسر من الهدي شكر الله تعالى، فمن لم يجد الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه. ذلك التمتع خاص بغير أهل الحرم، أما أهل الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي.
ثم بيّن تعالى أشهر الحج وهي ( شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة ) وأمر من ألزم نفسه الحج بالتجرد عن عاداته، وعن التمتع بنعيم الدنيا، لأنه مقبل على الله، قاصد لرضاه، فعليه أن يترك النساء والاستمتاع بهن، وأن يترك المعاصي والنزاع والجدال مع الناس، وأن يتزود من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله.
ثم أبان تعالى أن الكسب في أيام الحج غير محظور، وأن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كان الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ثم أمر تعالى الناس بعد الدفع من عرفات، أن يذكروا الله عند المشعر الحرام، بالدعاء والتكبير والتلبية، ون يشكروه على نعمة الإيمان، فإذا فرغوا من مناسك الحج، فليكثروا ذكر الله وليبالغوا فيه كما كانوا يفعلون بذكر آبائهم ومفاخرهم.
روي عن ابن عباس أنه قال :« كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، يقول الرجل منهم : كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم فأنزل الله ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾.
103
وجه الارتباط بالآيات السابقة
ذكرت أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأما آيات القتال السابقة فقد نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم، والإحرام، والمسجد الحرام، ولما كان عليه السلام قد أراد العمرة وصدّه المشركون أول مرة بالحديبية، وأراد القضاء في العام القابل، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم أنزل الله أحكام القتال، ثم عاد الكلام إلى إتمام أحكام الحج فهذا هو وجه الارتباط والله تعالى أعلم.
سبب النزول
أولاً : عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال :« حُملتُ إلى النبي ﷺ والقمل يتناثر على وجهي، فقال : ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا!! أما تجد شاة؟ قلت : لا، قال : صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مساكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك » فنزلت ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ﴾ قال فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة.
ثانياً : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودن، ويقولون : نحو المتوكلون فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾.
ثالثاً : عن عائشة رضي الله عنها قالت :« كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحس، وسائر العرب يقفون بعرفات، » فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها يفيض منها فذلك قوله :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس ﴾.
وفي رواية كانوا يقولون :« نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ولا نفيض إلا من الحرم ».
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ( أو نُسُكٍ ) بضم النون والسين، وقرأ الحسن ( أو نُسْكٍ ) بسكون السين.
٢ - قرأ الجمهور ( فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج ) بالفتح في الجميع، وقرأ أبو جعفر وابن كثير بالرفع في الجميع ( فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج ).
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ قال الزمخشري : رفع بالابتداء أي فعليه ما استيسر، أو نصب على تقدير : فاهدوا ما استيسر.
٢ - قوله تعالى :﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ ( الحج ) مبتدأ و ( أشهرٌ ) الخبر، والتقدير : أشهر الحج أشهر معلومات كقولهم : البرد شهران أي وقت البرد شهران.
أقول : إنما قدّر العلماء ذلك لأنه من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر.
٣ - قوله تعالى :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ ( لا ) نافية للجنس ( رفث ) اسمها و ( في الحج ) الخبر و ( لا ) مكررة للتوكيد في المعنى وهو خبر يفيد النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
٤ - قوله تعالى :﴿ واذكروه كَمَا هداكم ﴾ الكاف نعت لمصدر محذوف و ( ما ) مصدرية والتقدير اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة، ويجوز أن تكون الكاف بمعنى ( على ) والتقدير : اذكروا الله على ما هداكم، وقوله تعالى ﴿ وَإِن كُنْتُمْ ﴾ إنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.
104
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب، وهذا ليس مراداً هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظوراً، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة.
اللطيفة الثانية : المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر :
إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ فما حججتَ ولكنْ حجّت العير
لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ما كلّ من حج بيت الله مبرور
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ﴾ فيه مجاز بالحذف تقديره : فحلق ففدية من صيام، فحذف « فحلق » اختصاراً، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام ﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] حذف كلمة ( فأفطر ) اختصاراً لدلالة اللفظ عليه.
اللطيفة الرابعة : التوكيد طريقة مشهورة في كل العرب فقوله تعالى :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ جاء على طريقهم في التوكيد، مثل قوله :﴿ ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ] وقوله :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وقوله :﴿ ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٤ ] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال ( عشرة كاملة ) فتنبه له.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس ﴾ كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول : لسنا كسائر الناس، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس، أفاده ابن قتيبة.
اللطيفة السادسة : من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى :﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ فالمراد بالأول زمان الحج، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو ( الحرم ) ولو قال : فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، لم يؤدّ هذه المعاني كلها، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي.
قال أبو السعود :« وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل العمرة واجبة كالحج؟
اختلف الفقهاء في حكم العمرة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج، وهو مروي عن ( علي ) و ( ابن عمر ) و ( ابن عباس ).
وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة، وهو مروي عن ( ابن مسعود ) و ( جابر بن عبد الله ).
105
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببعضة أدلة نوجزها فيما يلي :
أولاً - قوله تعالى :﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾ فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملاً تاماً فدل على الوجوب.
ثانياً - ما ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال لأصحابه « مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة ».
ثالثاً - ما روي عنه ﷺ أنه قال :« دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ».
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي :
أولاً : عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقوله جل ثناؤه :﴿ وَأَذِّن فِي الناس بالحج... ﴾ [ الحج : ٢٧ ] الآية.
ثانياً : قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة، وأنها تختلف في الحكم عن الحج.
ثالثاً : ما روي عن النبي ﷺ أنه قال :« الحج جهادٌ والعمرة تطوع ».
رابعاً : ما روي عن جابر بن عبد الله « أنّ رجلاً سأل رسول الله ﷺ عن العمرة أواجبة هي؟ قال : لا، وأن تعتمروا خير لكم ».
خامساً : وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا : إنها محمولة على ما كان بعد الشروع، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه، وهذا يجب بالاتفاق.
قال العلامة الشوكاني :« وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه ﷺ بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها ».
أقول : لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني : هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟
اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام.
فذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، لأن الآية نزلت في إحصار النبي ﷺ عام الحديبية، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة.
وقال ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو.
وذهب أبو حنيفة : إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقة، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الأعذار المانعة.
وحجته : ظاهر الآية ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ فإن الإحصار - كما يقول أهل اللغة - يكون بالمرض، وأما الحصر ( المنع والحبس ) فيكون العدو، فلما قال تعالى :﴿ أُحْصِرْتُمْ ﴾ ولم يقل ( حصرتم ) دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو.
106
واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل.
وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض، ولو كان من المرض لقال :( فإذا برأتم ) ولقول ابن عباس : لا حضر إلا حصر العدو، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل.
الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة، والموافق ليسر الإسلام وسماحته، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة، فإنهم جميعاً متفقون على أن ( الإحصار ) يكون بالمرض، و ( الحصر ) يكون بالعدو، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك! والشخص الذي تضل راحلته، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟!
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله حيث قال ما نصه :« وأولى التأويلين بالصواب في قوله :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحصركم خوف عدو، أو مرض، أو علة من الوصول إلى البيت، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم. ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون : فإن حصرتم ».
أقول ويؤيده ما روي في « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قالت :« دخل النبي ﷺ على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي ﷺ حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني » فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه.
الحكم الثالث : ماذا يجب على المحصر، وأين موضع ذبح الهدي؟
الآية الكريمة صريحة في أن على ( المحصر ) أن يذبح الهدي لقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ وأقله شاة، والأفضل بقرة أو بدنة، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى :﴿ فَمَا استيسر ﴾ وهذا رأي جمهور الفقهاء، وروي عن ابن عمر أنه قال : بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة، والصحيح رأي الجمهور.
وأما المكان : الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال :
فقال الجمهور ( الشافعي ومالك وأحمد ) : هو موضع الحصر، سواءً كان حلاً أو حرماً.
وقال أبو حنيفة : لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق ﴾ [ الحج : ٣٣ ].
وقال ابن عباس : إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، وإلاّ ينحره في محل إحصاره.
107
قال الإمام الفخر :« ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي : المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان ».
الترجيح : والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله ﷺ حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل، وأما قوله تعالى :﴿ هَدْياً بَالِغَ الكعبة ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] وقوله :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق ﴾ [ الحج : ٣٣ ] فذلك - كما يقول الشوكاني - في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، والله تعالى أعلم.
الحكم الرابع : ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي؟
دل قوله تعالى :﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ على وجوب دم الهدي على المتمتع، فإذا لم يجد الدم - إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان - صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى :﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج... ﴾ الآية.
فقال أبو حنيفة : المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين ( إحرام العمرة ) و ( إحرام الحج ) فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج، والأفضل أن يصوم يوم التروية، ويوم عرفة، ويوماً قبلهما يعني ( السابع، والثامن، والتاسع ) من ذي الحجة.
وقال الشافعي : لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى :﴿ فِي الحج ﴾ وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر، ولا أيام التشريق، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة.
ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما « لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي ».
ومنشأ الخلاف بين ( الحنفية ) و ( الشافعية ) هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى :﴿ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج ﴾ فالحنفية قالوا في أشهر الحج، والشافعية قالوا : في إحرام الحج، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين.
وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها.
فقال الشافعية : وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى :﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾.
وقال أحمد بن حنبل : يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه.
وقال أبو حنيفة : المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رحمه الله.
قال الشوكاني : والأول أرجح فقد ثبت في « الصحيح » من حديث ابن عمر أنه ﷺ قال :« فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله ».
108
وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ ( وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم ).
الحكم الخامس : ما هي شروط وجوب دم التمتع؟
قال العلماء : يشترط لوجوب دم التمتع خمسة شروط :
الأول : تقديم العمرة على الحج، فلو حج ثم اعتمر لا يكون متمتعاً.
الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الثالث : أن يحج في تلك السنة لقوله تعالى :﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج ﴾.
الرابع : ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى :﴿ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾.
الخامس : أن يحرم بالحج من مكة، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع.
وقال المالكية : شروطه ثمانية وهي كالتالي ( ١ - أن يجمع بين الحج والعمر ٢ - في سفر واحد ٣ - في عام واحد ٤ - في أشهر الحج ٥ - وأن تقدم العمرة على الحج ٦ - وأن يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة ٧ - وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد ٨- وألاَّ يكون من أهل مكة ).
الحكم السادس : من هم حاضرو المسجد الحرام؟
دل قوله تعالى :﴿ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾ على أنّ أهل الحرم لا متعة لهم، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، وقال ( مالك، والشافعي، وأحمد ) إن للمكي أن يتمتع بدون كراهة وليس عليه هدي ولا صيام، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب المذكور، وأقرب المذكور هنا وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع، وأما أبو حنيفة فقد أعاد الإشارة إلى التمتع، والتقدير : ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقد اختلفوا في المراد من قوله تعالى :﴿ حَاضِرِي المسجد الحرام ﴾.
فقال مالك : هم أهل مكة بعينها، واختاره الطحاوي ورجحه.
وقال ابن عباس : هم أهل الحرم، قال الحافظ : وهو الظاهر.
وقال الشافعي : من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة، واختاره ابن جرير.
وقال أبو حنيفة : هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية.
أقول : لعل ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح والله تعالى أعلم.
الحكم السابع : ما هي أشهر الحج؟
واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى :﴿ الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ ما هي هذه الأشهر؟
فذهب مالك : إلى أن أشهر الحج ( شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كلّه ) وهو قول ( ابن عمر ) و ( ابن مسعود ) و ( عطاء ) و ( مجاهد ).
وذهب الجمهور ( مالك، والشافعي، وأحمد ) : إلى أن أشهر الحج ( شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة ) وهو قول ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأما وقت العمرة فجميع السنة.
قال الشوكاني :« وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال : إنّ ذا الحجة كله من الوقت لم يُلْزمه دم التأخير، ومن قال : ليس إلا العشر منه قال : يلزم دم التأخير ».
109
الحكم الثامن : هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟
اختلف الفقهاء فيم أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل يصح إحرامه؟ على أقوال :
الأول : روي عن ابن عباس أنه قال : من سُنّة الحج أن يحرم به في أشهر الحج.
الثاني : فذهب الشافعي أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجرُّه ذلك ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة.
الثالث : مذهب أحمد بن حنبل أنه مكروه فقط ويجوز الإحرام قبل دخول أشهر الحج.
الرابع : مذهب أبي حنيفة جواز الإحرام في الحج في جميع السنة كلها وهو مشهور مذهب مالك، واستدلوا بقوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] وقالوا : كما صح الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج.
قال العلامة القرطبي :« وما ذهب إليه الشافعي أصح لأن هذه عامة وتلك الآية خاصة والخاص يقدم على العام » وقد مال إلى هذا المذهب الشوكاني ورجحه لأنه موافق لظاهر النص الكريم.
الحكم التاسع : ما هي محرمات الإحرام؟
حظر الشارع على المحرم أشياء كثيرة، منها ما ثبت بالكتاب، ومنها ما ثبت بالسنة، ونحن نذكرها بالإجمال فيما يلي :
أولاً : الجماع ودواعيه، كالتقبيل، واللمس بشهوة، والإفحاش بالكلام، والحديث مع المرأة الذي يتعلق بالوطء أو مقدماته.
ثانياً : اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي، التي تخرج الإنسان عن طاعة الله تعالى.
ثالثاً : المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.
والأصل في تحريم هذه الأشياء قوله تعالى :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ وهذه كلها بنص الآية الكريمة.
روى البخاري في « صحيحه » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :« من حجّ فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ».
وقد ثبت بالسنة بعض المحرمات كالتطيب، ولبس المخيط، وتقليم الأظافر، وقص الشعر أو حلقه، وانتقاب المرأة، ولبسها القفازين.. إلى أخر ما هنالك من محرمات وهذه تعرف من كتب الفروع.
الحكم العاشر : ما هو حكم الوقوف بعرفة، ومتى يبتدئ وقته؟
أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لقوله ﷺ :« الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ».
ويرى جمهور العلماء أن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع، إلى طلوع فجر اليوم العاشر، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً، إلا أنه إذا وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب، أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شيء.
وقد روي عن الإمام ( مالك ) رحمه الله أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس لم يصح حجه وعليه حج قابل، قال القرطبي :« واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه؟
فقال ( الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ) عليه دم، وقال ( مالك ) عليه حج قابل، والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج »
.
110
[ ١١ ] القتال في الأشهر الحرام
التحليل اللفظي
﴿ كُرْهٌ ﴾ : بضم الكاف أي مكروه لكم تكرهه نفوسكم لما فيه من المشقة، وُضع المصدر موضع الوصف مبالغةً، كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] وكقول الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
قال ابن قتيبة : الكَره بالفتح معناه الإكراه والقهر، وبالضم معناه المشقة.
﴿ الشهر الحرام ﴾ : الشهر الذي يحرم فيه القتال، والمراد به هنا شهر رجب، وكان يدعى ﴿ الأصم ) لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له.
{ وَصَدٌّ ﴾
: الصدّ : الصرف والمنع يقال : صدّه عن الشيء أي منعه عنه.
﴿ والفتنة ﴾ : أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم.
﴿ يَرْتَدِدْ ﴾ : أي يرجع، والردّة : الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ويُسمى فاعل ذلك مرتداً.
قال الراغب : الارتداد والردة : الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى :﴿ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] وهو الرجوع من الإسلام إلى الكفر، وقال تعالى :﴿ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ [ الكهف : ٦٤ ].
﴿ حَبِطَ ﴾ : أي فسد وبطل عمله، قال في « اللسان » : حبَط حبْطاً وحبوطاً : عمل عملاً ثم أفسده، وفي التنزيل؟ ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد : ٢٨ ] أي أبطل ثوابهم.
قال أهل اللغة : أصل الحَبْط مأخوذ من ( الحَبَط ) وهو أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها وفي الحديث « وإنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلمّ » فسمي بطلان العمل بهذا لما فيه من الفساد.
﴿ هَاجَرُواْ ﴾ : الهجرة مفارقة الأهل والوطن في سبيل الله لنصرة دينه.
قال الراغب : الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان وأصلها من الهَجْر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح ( هُجْر ) لأنه مما ينبغي أن يُهجر، والهاجرة : وقت الظهيرة لأنه وقت يهجر فيه العمل.
﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ : الجهاد بذل الوسع والمجهود وأصله من الجهد الذي هو المشقة، وسمي قتال الأعداء ( جهاداً ) لأن فيه بذل الروح والمال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه.
﴿ يَرْجُونَ ﴾ : الرجاء هو الأمل والطمع في حوصل ما فيه نفع.
قال الراغب : الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة.
وفي « اللسان » : الرجاء من الأمل نقيض اليأس، وهو بمعنى التوقع والأمل، قال بشر يخاطب بنته :
فرجّي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزيّ آبا
﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ : أي واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بعبادة المؤمنين.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه :« فُرض عليكم - أيها المؤمنون - قتال الكفار، وهو شاق عليكم، تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلال النفس، ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير، وقد تحب شيئاً وفيه كل الخطر والضرر، والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما فرض عليكم من جهاد عدوكم، فإنه فيه الخير لكم في العاجل والآجل.
111
يسألك أصحابك - يا محمد - عن القتال في الشهر الحرام، أيحل لهم القتال فيه؟ قل لهم : القتال في نفسه أمر كبير، ولكن صدّ المشركين عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وكفرهم بالله، وإخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته، كلُّ ذلك أكبرُ جرماً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين، وقد كانوا يفتنونكم عن دينكم فذلك أكبر عند الله من القتل، فإن كنتم قتلتموهم في الشهر الحرام، فقد ارتكبوا ما هو أشنع وأقبح من ذلك، حيث فتنوكم عن دينكم، والفتنة أكبر من القتل.
ثمّ أخبر تعالى بأن المشركين لا يزالون جاهدين في فتنة المؤمنين، حتى يردوهم عن دينهم إن قدروا على ذلك، فهم غير نازعين عن كفرهم وإجرامهم، ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه، فقد بطل عمله وذهب ثوابه، وأصبح من المخلدين في نار جهنم، لأنه استجاب لداعي الضلال.
ثم أخبر تعالى أن المؤمنين الذين هاجروا مع رسول الله، وبذلوا جهدهم في مقاومة الكفار أعداء الله هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بهذا الفضل والعطاء لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم في مرضاة الله، فحُقَّ لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
روى ابن عباس أن النبي ﷺ بعث ( عبد الله بن جحش ) على سرية في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، ليترصدوا عيراً لقريش فيها ( عمرو بن عبد الله الحضرمي ) وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش : قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف، ويتفرق فيه الناس إلى معايشهم، فوقف رسول الله ﷺ العير، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزل قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ ﴾ قال ابن عباس : لما نزلت أخذ رسول الله ﷺ الغنيمة.
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ ﴾ قتالٍ : بدل من الشهر الحرام بدل اشتمال والمعنى : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه.
٢ - قوله تعالى :﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ صدّ : مبتدأ و ( عن سبيل الله ) متعلق به ( وكفر ) معطوف عن صدّ ( وإخراج أهله ) معطوف أيضاً، وخبر الأسماء الثلاثة ( أكبر ).
قال الزمخشري :( والمسجد الحرامِ ) عطف على ( سبيل الله ) ولا يجوز أن يعطف على الهاء في ( به ).
٣ - قوله تعالى :﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ مَنْ : شرطية مبتدأ والخبر هو جملة ﴿ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾.
112
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : كلمة ( عسى ) توهم الشك في أصلها مثل ( لعلّ ) وهي من الله يقين، قال الخليل :« عسى » من الله واجب في القرآن قال :﴿ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح ﴾ [ المائدة : ٥٢ ] وقد وُجد، و ﴿ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ﴾ [ يوسف : ٨٣ ] وقد حصل.
اللطيفة الثانية : قال الحسن : لا تكرهوا الشدائد والملمات، فربّ أمر تكرهه فيه نجاتك، وربّ أمرٍ تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير :
ربّ أمرٍ تتّقيه... جرّ أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه... وبدا المكروه فيه
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ أي مكروه لكم بالطبع، لأنه شاق وثقيل على النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بحكم الله وقضائه كالمريض يشرب الدواء المر البشع الذي تعافه نفسه، لاعتقاده بما فيه من النفع في العاقبة، وإنما وضع المصدر في الآية موضع الوصف مبالغة كقوله الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
اللطيفة الرابعة : استعظم المشركون القتل في الشهر الحرام، مع أنهم فعلوا ما هو أفظع وأشنع، من الصد عن دين الله، والفتنة للمؤمنين، وفيهم يقول بعض الشعراء :
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة... وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ
صدودكُمُ عمّا يقولُ محمدٌ... وكفرٌ به واللهُ راءٍ وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهلَه... لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ
فإنّا وإن عيرتمونا بقتله... وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا... بنخلةَ لمّا أوقد الحربَ واقد
اللطيفة الخامسة : قال الزمخشري : في قوله تعالى :﴿ إِن اسْتَطَاعُواْ ﴾ استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه : إن ظفرتَ بي فلا تبق عليّ، وهو واثق لا يظفر به.
اللطيفة السادسة : التعبير بقوله تعالى :﴿ أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ﴾ فيه لطيفة وهي ألا يتكل الإنسان على عمله، بل يعتمد على فضل الله كما جاء في الحديث الشريف :« لن يُدخلَ أحدَكُم عملُه الجنة، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ».
وعن قتادة رضي الله عنه :« هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يباح القتال في الأشهر الحرم؟
دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد اختلف المفسرون هل بقيت الحرمة أم نسخت؟
فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، وكان يحلف على ذلك، كما قال ابن جرير : حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع.
وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة، نسختها آية براءة ﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] سئل ( سعيد بن المسيب ) هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال : نعم.
113
حجة الجمهور أن النبي ﷺ غزا ( هوازن ) بحنين، و ( ثقيفاً ) بالطائف، وأرسل ( أبا عامر ) إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراماً لما فعله النبي عليه السلام.
قال ابن العربي :« والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النبي ﷺ القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى :﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ.. ﴾ فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه ».
الحكم الثاني : هل الردة تحبط العمل وتذهب بحسنات الإنسان؟
دل قوله تعالى :﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ على أن الردة تُحبط العملَ، وتُضيع ثواب الأعمال الصالحة، وقد اختلف العلماء في المرتد هل يحبط عمله بنفس الردة، أم بالوفاة على الكفر؟
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن العمل يحبط بنفس الردّة.
وقال الشافعي رحمه الله : لا يبطل العمل إلا بالموت على الكفر.
حجة الشافعي قوله تعالى :﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾ فقد قيّده بالموت على الكفر، فإذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من الأحكام، لا حبوط العمل، ولا الخلود في النار.
وحجة مالك وأبي حنيفة قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] وقوله ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [ المائدة : ٥ ] فقد دلت الآيتان على أن الكفر محبط للعمل بدون تقييد بالوفاة على الكفر.
وقد انبنى على ذلك خلافهم في المسلم إذا حجّ ثم ارتد ثم أسلم.
فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه إعادة الحج، لأن ردته أحبطت حجه.
وقال الشافعي : لا حج عليه لأن حجة قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » :« واستظهر علماؤنا بقول الله تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] وقالوا : هو خطاب للنبي ﷺ والمراد به أمته، لأنه ﷺ يستحيل منه الردة، وإنما ذكر الموافاة، شرطاً هاهنا لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاءً ممن وافى كافراً خلّده في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين، وحكمين متغايرين ».
أقول : ظواهر النصوص تشير إلى إحباط العمل بالردّة مطلقاً، فالراجح قول المالكية والحنفية والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - القتال مكروه للنفوس ولكنه سبيل لنصرة الحق وإعزاز الدين.
٢ - لا ينبغي للمؤمن أن يتقاعس عن الجهاد لأن فيه النصر أو الشهادة.
٣ - الصد عن دين الله، والكفر بآيات الله أعظم إثماً من القتال في الشهر الحرام.
٤ - الهدف من قتال المشركين للمسلمين ردهم إلى الكفر بشتى الطرق والوسائل.
٥ - الردة عن الإسلام تحبط العمل وتخلد الإنسان في نار جهنم.
114
[ ١٢ ] تحريم الخمر والميسر
التحليل اللفظي
﴿ الخمر ﴾ : المسكر من عصير العنب وغيره، وهي مأخوذة من خَمَر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه، ومنه قولهم : خمّرتُ الإناء أي غطيته.
قال الزجاج : الخمر في اللغة : ما ستر على العقل، يقال : دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة قناعها، سمي خماراً لأنه يغطي رأسها.
وقال ابن الأنباري :« سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه، يقال خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير :
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر »
... ﴿ والميسر ﴾ : القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب، أو من اليسار ( الغنى ) لأنه سبب يساره.
قال الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاءً، وكل شيء جزّأته فقد يَسَرْته.
وفي « الصحاح » : ويَسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها.
والياسر : الذي يلي قسمة الجزور.
﴿ إِثْمٌ ﴾ : الإثم : الذنب وجمعه آثام، يقال : آثم وأثِم، والآثم المتحمل الإثم قال تعالى :﴿ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ] أفاده الراغب.
وتسمى الخمر ب ( لإثم ) لأنّ شربها سبب في الإثم قال الشاعر :
شربتُ الإثم حتى ضلّ عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
﴿ العفو ﴾ : الفضل والزيادة على الحاجة.
قال القفال : العفو سهُل وتيسُر مما يكون فاضلاً عن الكفاية، يقال : خذ ما عفا لك أي ما تيسّر.
والمعنى : انفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تُجهدوا فيه أنفسكم.
﴿ لأَعْنَتَكُمْ ﴾ : أي أوقعكم في الحرج والمشقة، وأصل العنت : المشقة، يقال : أعنت فلانٌ فلاناً إذا أوقعة فيما لا يستطيع الخروج منه، وعَنت العظم : إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوت : إذا كانت شاقة كدوداً، ومنه قوله تعالى :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] أي شديد عليه ما شق عليكم.
قال الزجاج : ومعنى قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ ﴾ أي لو شاء لكلفكم ما يشتد عليكم.
﴿ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ :﴿ عَزِيزٌ ﴾ أي لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي يتصرف في ملكه كيف يشاء حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، وعن حكم الميسر ( القمار ) قل لهم : إن في مقارفة الخمر والميسر إثماً كبيراً، وضرراً عظيماً، وفيهما نفع مادي ضئيل، وضررهما أعظم وأكبر من نفعهما، فإن ضياع العقل، وذهاب المال، وتعريض الجسد للتلف في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت، ودمار الأسر، والصدّ عن عبادة الله وطاعته، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كل ذلك إذا قيس إلى النفع المادي التافه، ظهر الضرر الكبير الفادح في هاتين الموبقتين الخبيثتين. ويسألونك ماذا ينفقون من أموالهم، وماذا يتركون؟ قل لهم : أنفقوا الفضل والزيادة بقدر ما يسهل ويتيسر عليكم، مما يكون فاضلاً عن حاجتكم، وحاجة من تعولون، كذلك قضت حكمة الله أن يبيّن لكم المنافع والمضار، وأن يرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، فتعلموا أن الأولى فانية، وأن الآخرة باقية، فتعملوا لها، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى.
115
ويسألونك - يا محمد - عن معاملة اليتامى، أيخاطونهم أم يعتزلونهم، قل لهم : قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن خالطتموهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والله رقيب مطّلع عليكم يعلم المفسد منكم من المصلح، فلا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم، ولو شاء الله لأوقعكم في الحرج والمشقة، ولكنه يسّر عليكم وسهّل الدين رحمة ورأفة بكم، وهو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام.
سبب النزول
أولاً : روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت هذه الآية ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ﴾ فُدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في سورة النساء [ ٤٣ ] ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى ﴾ فكان منادي رسول الله ﷺ إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩١ ] قال عمر : انتهينا، انتهينا.
ثانياً : وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] ونزل ﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فيُحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم.
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ( قل فيهما إثم كبير ) بالباء، وقرأ حمزة والكسائي ( كثير ) بالثاء.
قال الطبري : ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة لقيل : وإثمهما أكثر من نفعهما.
٢ - قرأ الجمهور ( قل العفوَ ) بالنصب، وقرأ أبو عمرو ( قل العفوُ ) بالرفع. ويكون معنى الكلام حينئذٍ : ما الذي؟ ينفقون قل : المنفقُ العفوُ.
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ كذلك يُبيِّنُ الله ﴾ قال ابن الأنباري : الكاف في ( كذلك ) إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق، فكأنه قال : مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات، ويجوز أن يكون « كذلك » ليس إشارة إلى ما قبله بل بمعنى « هكذا » قاله ابن عباس.
116
وقال العكبري : الكاف في ( كذلك ) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين يبيّن الله لكم، وقوله ( في الدنيا والآخرة ) متعلقة ب ( تتفكرون ) ويجوز أن تتعلق ب ( تبيّن ) والمعنى : يبيّن لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة.
٢ - قوله تعالى :﴿ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ ( إصلاح ) مبتدأ، و ( خير ) خبره، وجاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معنى الفعل تقديره : أصلحوهم.
٣ - قوله تعالى :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم إخوانكم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى :« أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾ [ النحل : ٦٧ ] فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ ﴾ فتركها قوم لقوله :﴿ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ وشربها قوم لقوله :﴿ ومنافع لِلنَّاسِ ﴾ ثم إن ( عبد الرحمن بن عوف ) صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ فأطعمهم وسقاهم الخمر، وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ ( قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون ) بحذف ( لا ) فنزل قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره، ثم إن ( عتبان بن مالك ) صنع طعاماً ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم ( سعد بن أبي وقاص ) وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار، فأنشد بعضهم قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس ( سعد ) فشجه، فانطلق سعد إلى رسول الله ﷺ وشكا إليه الأنصاري فأنزل الله ﴿ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ... ﴾ إلى قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٠-٩١ ] ؟ فقال عمر : انتهينا ربنا انتهينا ».
اللطيفة الثانية : في تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر، وأصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم وربما لم يستجيبوا لذلك النهي، كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها « أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول ما نزل : لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمرة أبداً ».
117
وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق ( التدريج في تشريع الأحكام ) فبدأ بالتنفير مه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين : شيء فيه نفع ضئيل، وشيء فيه ضرر وخطر جسيم، كما في الآية الثانية، ثم بالتحريم الجزئي في أوقات الصلاة كما في الآية الثالثة، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة، فللَّه ما أدق هذا التشريع وما أحكمه؟!
اللطيفة الثالثة : فإن قيل : كيف يكون في الخمر منافع، مع أنها تذهب بالمال والعقل؟
فالجواب أن المراد بالمنافع في الآية ( المنافع المادية ) التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر، يربحون منها الربح الفاحش، كما يربحون من وراء الميسر، ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ﴾ ولا شك أن النفع في الميسر ( مادي ) بحت حيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك في الخمر.
قال العلامة القرطبي :« أمّا المنافع في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي، هذا أصح ما قيل في منافعها ».
ويحتمل أن يراد النفع في الخمر تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبرّ عنها الشاعر بقوله :
ونشربها فتتركنا ملوكاً... وأُسْداً ما ينهنها اللقاء
لا يلذ السّكْر حتّى... يأكل السكرانُ نعلَه
ويرى القصعة فيلاً... ويظنَّ الفيل نملة
اللطيفة الرابعة : أثمن وأغلى شيء في الإنسان عقله، فإذا فقد الإنسان العقل أصبح كالحيوان، ولهذا حرم الله الخمر وسميت ب ( أم الخبائث ) لأنها سبب في كل قبيح.
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال :« اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم متعبّد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنّا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيةُ خمر، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأساً، فسقته كأساً قال : زيدوني فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا يوشك أن يُخْرج أحدُهما صاحبه ».
اللطيفة الخامسة : قال ( قيس بن عاصم المِنْقري ) في ذم الخمر بعد أن حرّمها على نفسه :
رأيت الخمر صالحة وفيها... خصالٌ تُفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً... ولا أشفي بها أبداً سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتي... ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها... وتجنيهم بها الأمر العظيما
قال القرطبي :« وإن الشارب يصير ضُحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له : أكرمك الله كما أكرمتني ».
118
اللطيفة السادسة : قال صاحب « الكشاف » : في صفة الميسر الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية « كانت لهم عشرة أقداح وهي ( الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحِلْس، والنافس، والمسبل، والمعلَّى، والمنيح، والسفيح، والوغد ) لكلّ واحد منه نصيب معلوم من جزور ينحرونها إلا لثلاثة وهي ( المنيح، والسفيح، والوغد ) فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في خريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يدخ فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه؟
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل الآية الكريمة دالة على تحريم الخمر؟
ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ﴾ دالة على تحريم الخمر، لأن الله تعالى ذكر فيها قوله :﴿ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ وقد حرم الله الإثم بقوله :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم... ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ] الآية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى.
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية تقتضي ذم الخمر دون تحريمها، بدليل أن بعض الصحابة شربوا الخمر بعد نزولها - كما مرّ في أسباب النزول - ولو فهموا التحريم لما شربها أحد منهم، وهذه الآية منسوخة بآية المائدة وهذا قول مجاهد، وقتادة، ومقاتل.
قال القرطبي :»
في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى هي آية المائدة [ ٩٠ ] ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ وعلى هذا أكثر المفسدين «.
الحكم الثاني : ما هي الخمر وهل هي اسم لكل مسكر؟
اختلف العلماء في تعريف الخمر ما هي؟
فقال أبو حنيفة : الخمر الشراب المسكر من عصير العنب فقط، وأما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير، فلا يسمى خمراً بل يُسمى نبيذاً. وهذا مذهب الكوفيين والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى.
وذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الخمر اسم لكلّ شراب مسكر، سواءً كان من عصير العنب، أو التمر، أو الشعير أو غيره، وهو مذهب جمهور المحدثين وأهل الحجاز.
حجة الكوفيين وأبي حنيفة :
احتج الكوفيون وأبو حنيفة بأن الأنبذة لا تسمى خمراً، ولا يسمى خمراً إلا لشيء المشتد من عصير العنب باللغة، والسنة :
أما اللغة : فقول ( أبي الأسود الدؤلي ) وهو حجة في اللغة :
119
دع الخمر تشربْها الغواة فإنني رأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإن لا تكنْه أو يكنْها فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
وأما السنة : فما روي عن أبي سعيد الخدري قال :« أُتي النبي ﷺ بنشوان فقال له : أشربت خمراً؟ قال : ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله، قال : فماذا شربت؟ قال : الخليطين، قال : فحرّم رسول الله ﷺ الخليطين ».
فنفى الشارب اسم الخمر عن ( الخليطين ) بحضرة النبي ﷺ ولم ينكره عليه.
حجة الجمهور :
واستدل الحجازيون وجمهور الفقهاء على أن كل مسكر خمر بما يلي :
أولاً : حديث ابن عمر « كلّ مسكر خمرٌ، وكل مسكر حرامٌ ».
ثانياً : حديث أبي هريرة :« الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة ».
ثالثاً : حديث أنس « حرمت الخمر حين حرّمت، وما يُتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر ».
رابعاً : حديث ابن عمر ( نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمرُ ما خامر العقل ).
خامساً : حديث أم سلمة « نهى رسول الله ﷺ عن كل مسكر ومفتّر »
واستدلوا لمذهبهم على أن المسكر يسمى خمراً باللغة أيضاً وهو أن الخمر سميت خمراً لمخامرتها للعقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل أي تستره وتغيبه فلذلك تسمى خمراً، فالخمرُ هو السكر من أي شرابٍ كان، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء.
قال الفخر الرازي :« فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمّى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه؟ لا يقال : إن هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز، لأنا نقول : ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات.
والترجيح : ونحن إذا تأملنا أدلة الفريقين - ما ذكر منها وما لم يذكر - ترجح عندنا قول الجمهور وأهل الحجاز، فالخمر حرام، وكمل مسكر خمر كما قال عمر رضي الله عنه، وذلك لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت بالسنة المطهّرة تحريم كل مسكر ومفتّر، وثبت عن أنسٍ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة حين حرمت الخمر، وما كان خمرهم يومئذٍ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الشراب وكسروا الأواني، وما كان الفضيخ إلا من نقيع البسر، فما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح المعوّل عليه، لا سيّما وأن المتأخرين من الأحناف أفتوا بقول محمد في سائر الأشربة وهو الحق الذي لا محيد عنه.
قال العلامة الألوسي :»
وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان، وبأي اسم سمي، متى كان بحيث يُسكر حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه، ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة «.
120
الحكم الثالث : ما هي أنواع الميسر المحرّم؟
اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار، وأنها من الميسر المحرّم لقوله تعالى :﴿ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ فكل لعب يكون فيه ربح لفريق وخسارة لآخر هو من الميسر المحرم، سواءً كان اللعب بالنرد، أو الشطرنج أو غيرهما، ويدخل فيه في زماننا مثل ( اليانصيب ) سواء منه ما كان بقصد الخير ( اليانصيب الخيري ) أو بقصد الربح المجرد فكله ربح خبيث « وإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ».
قال صاحب « الكشاف » :« وفي حكم الميسر أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما، وعن النبي ﷺ :» إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم «.
وعن علي رضي الله عنه :»
أن النرد والشطرنج من الميسر «.
وعن ابن سيرين :»
كل شيء فيه خطر فهو من الميسر «.
قال صاحب »
روح المعاني « :» وفي حكم الميسر جميع أنواع القمار من النرد، والشطرنج، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب، والقرعة في غير القسمة، وجميع أنواع المخاطرة والرهان «.
أما النرد فمحرم بالاتفاق لقوله عليه السلام :»
من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله «.
وأما الشطرنج : فقد أباحه الإمام الشافعي بشروط ذكرها الإمام الفخر حيث قال :»
وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً «.
وأما السبق في الخيل والدواب، والرميُ بالنصَال والسهام فقد رخص فيه بشروط تعرف من كتب الفقه وليس هنا محل تفصيلها والله تعالى أعلم.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرم الله الخمر والميسر، لما فيهما من الأضرار الفادحة، والمفاسد الكثيرة، والآثام التي تتولد من هاتين الرذيلتين سواءً في النفس أو البدن أو العقل أو المال.
فمن مضار الخمر أنه يذهب العقل حتى يهذي الشارب كالمجنون، ويفقد الإنسان صحته ويخرّب عليه جهازه الهضمي، فيحدث التهابات في الحلق، وتقرحات في المعدة والأمعاء، وتمدداً في الكبد، ويعيق دورة الدم، وقد يوفقها فيموت السكّير فجأة، وقد أثبت الطب الحديث ضرر الخمر الفادح في الجسم والعقل حتى قال بعض أطباء ألمانيا :»
اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، والبيمارستانات ( مستشفى الأمراض العقلية ) والسجون «.
ويكفي الخمر شراً أنها ( أم الخبائث ) كما ورد في الحديث الشريف.
وأما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فهو يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويفسد المجتمع بتعويد الناس على البطالة والكسل، بانتظار الربح بدون كد ولا تعب، ويهدّم الأسر ويخرّب البيوت، فكم من أسرة تشرّدت وتحطمت وافتقرت بعد أن كانت تعيش بين أحضان الثروة والغنى بسبب مقامرة أربابها، فكان في ذلك الدمار والهلاك لتلك الأسر المنكوبة، كما انتهى الأمر بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم بالانتحار، أو الرضا بعيشة الذل والمهانة.
121
ولا تزال الأيام تظهر من مضار الخمر والميسر ما لم يكن معروفاً من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩١ ].
122
[ ١٣ ] نكاح المشركات
التحليل اللفظي
﴿ تَنْكِحُواْ المشركات ﴾ : أي لا تتزوجوا الوثنيات، والمشركة هي التي تعبد الأوثان، وليس لها دين سماوي ومثلها المشرك، وقيل : إنها تعم الكتابيات أيضاً لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ﴾ إلى قوله :﴿ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ التوبة : ٣٠ - ٣١ ].
﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ ﴾ : الأمة : المملوكة بملك اليمين وهي تقابل الحرة، وأصلها ( أمو ) حذفت على غير قياس وعوّض عنها هاء التأنيث، وتجمع على إماء قال تعالى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ﴾ [ النور : ٣٢ ] وقال الشاعر :
أمّا الإماء فلا يدعونني ولداً إذا تداعى بنو الأَمَوات بالعار
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : لا تتزوجوا - أيها المؤمنون - المشركات حتى يؤمن بالله واليوم الآخر، ولأمة مؤمنة بالله ورسوله أفضل من حرة مشركة، وإن أعجبتكم المشركة بجمالها، ومالها، وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب، أو جاه، أو سلطان.
ولا تَزوِّجُوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن خيرٌ لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، مهما أعجبكم في الحسب، والنسب، والشرف، فإن هؤلاء - المشركين والمشركات - الذين حرمت عليكم مناكحتهم ومصاهرتهم، يدعونكم إلى ما يؤدي بكم إلى النار، والله يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة، ويوضح حججه وأدلته للناس ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر، والخبيث والطيب.
سبب النزول
أولاً : روي أن هذه الآية نزلت في مرثد من أبي مرثد الغنوي الذي كان يحمل الأسرى من مكة إلى المدينة، وكانت له في الجاهلية صلة بامرأة تسمى ( عَناقاً ) فأتته وقالت : ألا تخلوا؟ فقال : ويحك إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت : فهل لك أن تتزوج بي؟ قال : نعم ولكن أرجع إلى رسول الله ﷺ فاستأمره فنزلت الآية.
وتعقّب السيوطي هذه الرواية وذكر أنها ليست سبباً في نزول هذه الآية، وإنما هي سبب في نزول آية النور ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً... ﴾ [ النور : ٣ ]. الآية.
ثانياً : وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ( عبد الله بن رواحة ) كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي ﷺ فأخبره خبرها فقال له النبي ﷺ : ما هي يا عبد الله؟ فقال : يا رسول الله : هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال يا عبد الله : هذه مؤمنة، فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ حتى يُؤْمِنَّ ﴾ حتى بمعنى ( إلى أن ) و ( يؤمن ) مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل نصب ب ( حتى ) وأصله ( يؤمنْنَ ).
123
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ الواو للحالو ( لو ) هنا بمعنى ( إن ) وكذا كل موضع وليها الفعل الماضي كقوله :﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] أي وإن أعجبك والتقدير : لأمة مؤمنة خيرٌ من مشركة وإن أعجبتك.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين ﴾ بضم التاء هنا لأنه من الرباعي ( أنكح ) وهو يتعدى إلى مفعولين الأول ( المشركين ) والثاني محذوف وهو ( المؤمنات ) أي ولا تزوجوا المشركين المؤمنات.
وأما قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات ﴾ فهو من الثلاثي ( نكح ) أي لا تتزوجوا المشركات وهو يتعدى إلى مفعول واحد فقط.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المراد بالنكاح هنا العقد بالإجماع أي لا تتزوجوا بالمشركات.
قال الكرخي : المراد بالنكاح العقد لا الوطء حتى قيل : إنه لم يرد في القرآن بمعنى الوطء أصلاً، لأن القرآن يكني وهذا من لطيف ألفاظه.
قال ابن جني :« سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة فقال : فرّقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس، فإذا قالوا : نكح فلانٌ فلانةً : أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا غير المجامعة، لأنه إذا ذكر امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة ».
اللطيفة الثانية : في قوله تعالى :﴿ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ إشارة لطيفة إلى أن الذي ينبغي أن يراعي في الزواج ( الخلق والدين ) لا الجمال والحسب، والمال، كما قال ﷺ :« لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنُهنّ أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهنّ على الدين ولأَمةٌ سوداء خرقاء ذات دين أفضل ».
اللطيفة الثالثة : من المعلوم أن المغفرة قبل دخول الجنة، ولذلك قدمت في غير هذه الآية ﴿ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] وإنما قدمت الجنة هنا لرعاية مقابلة النار لتكمل وتظهر المقابلة ﴿ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ ﴾.
اللطيفة الرابعة : في الآية الكريمة من المحسنّات البديعة ما يسمى ب ( المقابلة ) فقد جاء بلفظ ( أمة ) ويقابلها ( العبد ) وبلفظ ( مؤمنة ) ويقابلها ( المشركة ) وبلفظ ( الجنة ) ويقابلها ( النار ) فهي مقابلة لطيفة بديعة تزيد الكلام رونقاً وجمالاً، والفرق بين ( المقابلة ) و ( الطباق ) أن المقابلة تكون بين معنيين أو أكثر متوافقة، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، أما الطباق فيكون بين لفظين مثل ( الأول والآخر ) ومثل ( أضحك وأبكى ).
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يحرم نكاح الكتابيات؟
دل قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ﴾ على حرمة نكاح المجوسيات والوثنيات.
وأما الكتابيات فيجوز نكاحهن لقوله تعالى في سورة المائدة [ ٥ ] :﴿ وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب.. ﴾
124
الآية أي العفيفات من أهل الكتاب، وهذا قول جمهور العلماء، وبه قال الأئمة الأربعة.
وذهب ابن عمر رضي الله عنهما إلى تحريم نكاح الكتابيات، وكان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال :« حرّم الله تعالى المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن يقول المرأة : ربّها عيسى، أو عبدٌ من عباد الله تعالى ».
وإلى هذا ذهب الإمامية، وبعض الزيدية وجعلوا آية المائدة منسوخة بهذه الآية نخس الخاص بالعام.
حجة الجمهور :
أ - احتج الجمهور بأن لفظ ( المشركات ) لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى :﴿ مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين ﴾ [ البقرة : ١٠٥ ] وقوله :﴿ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين ﴾ [ البينة : ١ ] قد عطف المشركين على أهل الكتاب، والعطفُ يقتضي المغايرة، فظاهر لفظ ( المشركات ) لا يتناول الكتابيات.
ب - واستدلوا بما روي عن السلف من إباحة الزواج بالكتابيات، فقد قال قتادة في تفسير الآية إن المراد بالمشركات ( مشركات العرب ) اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه.
وعن حماد قال : سألت إبراهيم عن تزوج اليهودية والنصرانية فقال : لا بأس به، فقلت : أليس الله تعالى يقول :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات ﴾ ؟ فقال : إنما تلك المجوسيات وأهل الأوثان.
ج - وقالوا : لا يجوز أن تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة، والمائدة من آخر ما نزل، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم لا العكس.
د - واستدلوا بما روي أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر خلّ سبيلها، فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.
فدل على أن عمر فعل هذا من باب الحيطة والحذر، لا أنه حرم نكاح الكتابيات.
ه - واستدلوا بالحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله ﷺ أنه قال في المجوس :« سنوا بهم سنّة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم ».
فلو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لم يكن لذكره فائدة.
قال الطبري بعد سرده للأقوال :« وأولى الأقوال بتأويل الآية ام قاله ( قتادة ) من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات ﴾ من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات، وأن الآية عام ظاهرها، خاص باطنها، لم يُنسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها، وذلك أن الله تعالى أحل بقوله :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ المائدة : ٥ ] للمؤمنين من نكاح محصناتهن مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات، وقد روي عن عمر أنه قال :( المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة ) وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة نكاح اليهودية والنصرانية، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك فزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني فأمرهما بتخليتهما ».
125
أقول : رحم الله عمر فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة الحكيمة!!
الحكم الثاني : من هم المشركون الذين يحرم تزويجهم؟
دلّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ ﴾ على حرمة تزويج المشرك بالمسلمة، والمراد بالمشرك هنا كل كافر لا يدين بدين الإسلام، فيشمل الوثني، والمجوسي، واليهودي، والنصراني، والمرتد عن الإسلام فكل هؤلاء يحرم تزويجهم بالمسلمة، والعلة في ذلك أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. فللمسلم أن يتزوج باليهودية أو النصرانية وليس لليهودي أو النصراني أن يتزوج بالمسلمة، وقد بيَّن الباري جل وعلا السبب بقوله :﴿ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار ﴾ أي يدعون إلى الكفر الذي هو سبب دخول نار جهنم، فالرجل له سلطة وولاية على المرأة، فربما أجبرها على ترك دينها وحملها على أن تكفر بالإسلام، والأولاد يتبعون الأب فإذا كان الأب نصرانياً أو يهودياً. ربّاهم على اليهودية أو النصرانية فيصير الولد من أهل النار.
ومن ناحية أخرى فإن المسلم يعظّم موسى وعيسى عليهما السلام. ويؤمن برسالتهما ويعتقد بالتوارة والإنجيل التي أنزلها الله ولا يحمله إيمانه على إيذاء زوجته ( اليهودية ) أو ( النصرانية ) مثلاً بسبب العقيدة، لأنه يلتقي معها على الإيمان بالله، وتعظيم رسله، فلا يكون اختلاف الدين سبباً للأذى أو الاعتداء، بخلاف غير المسلم الذي لا يؤمن بالقرآن ولا برسالة نبينا محمد ﷺ، فإن عدم إيمانه يدعوه إلى إيذاء المسلمة والاستخفاف بدينها.
سألني طالب غير مسلم كان قد حضر عندي درس الدين في مدينة حلب : لماذا يتزوج المسلم بالنصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة؟ يقصد التعريض والغمز بالمسلمين بأنهم متعصبون، فقلت له : نحن المسلمين نؤمن بنبيكم ( عيسى ) وكتابكم ( الإنجيل ) فإذا آمنتم بنبينا وكتابنا نزوجكم من بناتنا.. فمن منا المتعصب؟ فبهت الذي كفر.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - حرمة الزواج بالمشركة الوثنية التي ليس لها كتاب سماوي.
ثانياً - حرمة تزويج الكفار ( وثنيين أو أهل كتاب ) من النساء المسلمات.
ثالثاً - إباحة الزواج من الكتابية ( اليهودية أو النصرانية ) إذا لم يخش الضرر على الأولاد.
رابعاً - التفاوت بين الناس بالعمل الصالح، فالأَمَةُ المؤمنة أفضل من الحرة المشركة.
خامساً - المشرك يجهد نفسه لحمل المؤمنة على الكفر بالله فلا يليق أن يقترن بها.
126
[ ١٤ ] اعتزال النساء في الحيض
التحليل اللفظي
﴿ المحيض ﴾ : مصدر ميمي بمعنى الحيض، كالمعيش بمعنى العيش، قال رؤبة :
إليك أشكو شدة المعيش ومُرّ أعوام نتفن ريشي
أي أشكو شدة العيش، ويطلق المحيض على الزمان والمكان ويطلق على الحيض مجازاً، أفاده القرطبي.
وأصل الحيض : السيلان، يقال : حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت.
قال الأزهري : ومنه قيل للحوض حوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل. ويقال للمرأة : حائض، وحائضة كذا قال الفراء وأنشد :
كحائضةٍ يُزْنى بها غير طاهر... ﴿ أَذًى ﴾ : قال عطاء : أذى : أي قذر، والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء ومنه قوله تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ].
قال في « المصباح » : أذى الشي أذى من باب تعب بمعنى قذر، وقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ أي مستقذر.
وقال الطبري : وسمي الحيض أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته.
﴿ فاعتزلوا ﴾ : الاعتزال التنحي عن الشيء والاجتناب له، ومنه قوله تعالى :﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ مريم : ٤٨ ] والمرادُ باعتزال النساء اجتناب مجامعتهن، لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز.
﴿ يَطْهُرْنَ ﴾ : بالتخفيف أي ينقطع عنهم دم الحيض، وبالتشديد ( يَطّهَرْن ) بمعنى يغتسلن.
﴿ حَرْثٌ ﴾ : قال الراغب : الحرث إلقاء البذر في الأرض وتهيؤها للزرع، ويسمى المحروث حرثاً قال تعالى :﴿ أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴾ [ القلم : ٢٢ ].
وقال الجوهري : الحرث : الزرع، والحارث الزارع، ومعنى ( حرثٌ ) أي مزرع ومنبت للولد، والآية على حذف مضاف أي موضع حرثكم، أو على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، فالحرث بمعنى المحترث، سمي موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة.
﴿ أنى شِئْتُمْ ﴾ : أي كيف شئتم أو على أي وجهٍ شئتم مقبلة، أو مدبرة، أو قائمة، أو مضجعة بعد أن يكون المأتي في موضع الحرث.
قال الطبري : وقال ابن عباس :( فاتوا حرثكم أنَّى شئتم ) أي ائتها أنَّى شئت مقبلة ومدبرة، ما لم تأتها في الدبر والمحيض.
وعن عكرمة : يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط.
﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ : أي قدموا الخير والصالح من الأعمال، لتكون زاداً لكم إلى الآخرة.
﴿ واتقوا الله ﴾ : أي خافوا عذابه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾ : بالثواب والكرامة والفوز بالدرجات العلى في دار النعيم.
المعنى الإجمالي
يسألونك - يا محمد - عن إتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ قل لهم : إن دم الحيض دم مستقذر، ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى لكم ولهن، فاجتنبوا معاشرة النساء، ونكاحهن في حالة الحيض، ولا تقربوهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطْهُرن، فإذا تطهّرْن بالماء فاغتسلن، فأتوهن من حيث أمركم الله، في المكان الذي أحلّه لكم وهو ( القُبُل* مكان النسل والولد، ولا تأتوهنّ في المكان المحرم ( الدبر ) فإن الله يحب عبده التائب المتنزه عن الفواحش والأقذار.
127
ثم أكد تعالى النهي عن إتيان النساء في غير المحل المعهود الذي أباحه للرجال فقال ما معناه : نساؤكم - أيها الناس - مكان زرعكم وموضع نسلكم، وفي أرحامهن يتكوّن الجنين والولد، فأتوا نساءكم كيف شئتم ومن أي وجهٍ أحببتم بعد أن يكون في موضع النسل والذرية، قال ابن عباس :( اسق نباتك من حيث ينبت ) وقدموا - أيها الناس المؤمنون - لأنفسكم صالح الأعمال وراقبوا الله وخافوه في تصرفاتكم، واخشوا يوماً تلقون فيه ربكم فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته وبشر المؤمنين بالكرامة والسيادة والنعيم المقيم في دار الكرامة.
سبب النزول
أولاً : عن أنس رضي الله عنه قال :« » كانت اليهود إذا حاضت امرأة منهن لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي ﷺ عن ذلك فأنزل الله ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض ﴾ فأمرهم النبي ﷺ أن يؤاكلوهن ويشاربوهن وأن يكونوا معهن في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء إلا النكاح، فقالت اليهود : ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء ( عبّاد بن بشر ) و ( أُسَيْد بن خصير ) إلى رسول الله ﷺ فأخبراه بذلك وقالا يا رسول الله : أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعّر وجه رسول الله ﷺ حتى ظنّنا أنه غضب عليهما، فاستقبلتهما هدية من لبن فأرسل لهما رسول الله ﷺ فسقاهما فعلما أنه لم يغضب «.
ثانياً : وعن جابر رضي الله عنه قال :»
كانت اليهود تقول : من أتى امرأته في قُبُلها من دُبُرها كان الولد أحول، فنزلت ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾.
وجوه القراءات
قرأ الجمهور ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي ( يَطّهّرْن ) بتشديد الهاء والطاء وفتحهما، ورجّح الطبراني قراءة تشديد الطاء وقال : هي بمعنى يغتسلن.
قال الفخر :« فمن خفّف فهو زوال الدم من طهرت المرأة من حيضها إذا انقطع الحيض، والمعنى : لا تقربوهنّ حتى يزول عنهن الدم، ومن قرأ بالتشديد فهو على معنى يتطهّرن ».
وجوه الإعراب
قوله تعالى :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ مبتدأ أو خبر، وقوله :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ كلمة ( أنّى ) تأتي في اللغة العربية بمعنى ( من أين ) ومنه قوله تعالى :﴿ قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا ﴾ [ آل عمران : ٣٧ ] ؟ أي من أين، وتأتي بمعنى ( متى ) و ( كيف ) تقول : سافر أنّى شئت، واجلس أنّى أردت أي سافر متى شئت، واجلس كيف أردت، والمعنى المراد في الآية ( كيف ) أي أتوا حرثكم كيف شئتم قائمة أو قاعدة أو مضجعة ولا يجوز أن يكون المراد ( من أين شئتم ) كما فهم بعض الجهال فأباحوا إتيان المرأة في دبرها.
128
قال القرطبي :« أنّى شئتم » معناه عند الجمهور من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة و ( أنّى ) تجيء سؤالاً وإخباراً عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من ( كيف ) ومن ( أين ) ومن ( متى ) هذا هو الاستعمال العربي في أنّى.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : كان اليهود يبالغون في التباعد عن المرأة حالة الحيض، فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في بيت واحد، ويعتبرونها كأنها داءٌ أو رجس وقذر، وكان النصارى يفرطون في التساهل فيجامعونهن ولا يبالون بالحيض، فجاء الإسلام بالحدّ الوسط ( افعلوا كلّ شيء إلا النكاح ) وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية الغراء حيث أمر المسلمين بالاقتصاد بين الأمرين.
اللطيفة الثانية : لفظ ( المحيض ) قد يكون اسماً للحيض نفسه، وقد يكون اسماً لموضع الحيض كالمبيت والمقيل موضع البيتوتة وموضع القيلولة، ولكن في الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالمحيض هو ( الحيض ) لأن الجواب ورد بقوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه. أفاده العلامة الجصاص.
اللطيفة الثالثة : قال ابن العربي :« سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل : لا تَقْرَب ( بفتح الراء كان معناه : لا تَلْبَس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه : لا تدن منه » فلما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ دلّ على أن المراد النهي عن ملابسة الفعل وهو إتيانهن في حالة الحيض.
اللطيفة الرابعة : روى الطبري عن مجاهد أنه قال :« عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات، من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ فقال ابن عباس : إن هذا الحيّ من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات، فلمّا قدموا المدينة تزوجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى ذكره ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ﴾ إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركه، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث ».
اللطيفة الخامسة : شبّه الله المرأة بالحرث، أي أنها مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات، وهذا التشبيه يبيّن أن الإباحة لا تكون إلا في الفرج خاصة، إذ هو مزرع الولد، وقد أنشد ثعلب.
إنما الأرحام أرضو... ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها... وعلى الله النبات
فجعل رحم المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما الذي يجب اعتزاله من المرأة حالة الحيض؟
اختلف أهل العلم فيما يجب اعتزاله من المرأة في حالة الحيض على أقوال :
أ - الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وهو مروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني.
129
ب - الذي يجب اعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.
ج - الذي يجب اعتزاله موضع الأذى وهو الفرج فقط، وهذا مذهب الشافعي.
حجة المذهب الأول : أن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصص من ذلك شيئاً دون شيء، فوجب اعتزال جميع بدن المرأة لعموم الآية ﴿ فاعتزلوا النسآء فِي المحيض ﴾.
قال القرطبي :« وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافة ».
ب - حجة المذهب الثاني : واحتج أبو حنيفة ومالك بما روي عن عائشة قالت :« كنتُ أغتسل أغتسل أنا والنبي ﷺ من إناء واحد كلانا جنبٌ، وكان يأمرني فأتّزر فيباشرني وأنا حائض » وما روي عن عن ميمونة أنها قالت :« كان رسول الله ﷺ يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيّض »
ج - حجة المذهب الثالث : واحتج الإمام الشافعي بقوله ﷺ « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » وما روي عن مسروق قال :( سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت : كلّ شيء إلاّ الجماع ).
وفي رواية أخرى :( إن مسروقاً ركب إلى عائشة فقال : السلام على النبي وعلى أهل بيته، فقالت عائشة : أبو عائشة مرحباً فأذنوا له، فقال : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا استحي، فقالت : إنما أنا أمك وأنت ابني، فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت : له كل شيء إلا فرجها ).
الترجيح : ومن استعراض الأدلة يترجح لدينا المذهب الثاني، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري حيث قال :« وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه ». والعلة أن السماح بالمباشرة فيما بين السرة إلى الركبة قد تؤدي إلى المحظور، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالاحتياط أن نبعده عن منطقة الحظر وقد قالت عائشة رضي الله عنها بعد أن روت حديث المباشرة : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملك إربه؟ ومن جهةٍ أخرى إذا اجتمع حديثان أحدهما فيه الإباحة والثاني فيه الحظر، قدّم ما فيه الحظر، كما قال علماء الأصول والله أعلم.
الحكم الثاني : ما هي كفارة من أتى امرأة وهي حائض؟
أجمع العلماء على حرمة إتيان المرأة في حالة الحيض، واختلفوا فيمن فعل ذلك ماذا يجب عليه؟
فقال الجمهور :( مالك والشافعي وأبو حنيفة ) : يستغفر الله ولا شيء عليه سوى التوبة والاستغفار.
وقال أحمد : يتصدق بدينار أو نصف دينار، لحديث ابن عباس
130
« عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال : يتصدق بدينار أو بنصف دينار ».
وقال بعض أهل الحديث : إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار.
قال القرطبي :« حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة ».
الحكم الثالث : ما هي مدة الحيض، وما هو أقله وأكثره؟
اختلف الفقهاء في مدة الحيض، ومقدار أقله وأكثره على أقوال :
الأول : قال أبو حنيفة والثوري : أٌله ثلاثة أيام، وأكثره عشرة.
الثاني : وقال الشافعي وأحمد : أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشرة يوماً.
الثالث : وقال مالك في المشهور عنه : لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره والعبرة بعادة النساء.
حجة أبو حنيفة : حديث أبي أمامة ( أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام ) قال الجصاص :« فإن صحّ هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد ».
واحتج الشافعي بحديث :« تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي ) والشطر في اللغة النصف، فهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً.
أقول : ليس في الآية ما يدل على أقل مدة الحيض ولا أكثره، وإنما هو أمر اجتهادي يرجع فيه إلى كتب الفروع، وتعرف الأدلة من الأخبار والآثار فارجع إليها هناك والله يتولاك.
الحكم الرابع : متى يحل قربان المرأة؟
دلّ قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ على أنه لا يحل للرجل قربان المرأة في حالة الحيض حتى تطهر، وقد اختلف الفقهاء في الطهر ما هو؟
أ - فذهب أبو حنيفة : إلى أن المراد بالطهر انقطاع الدم، فإذا انقطع دم الحيض جاز للرجل أن يطأها قبل الغسل، إلاّ أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو ( عشرة أيام ) جاز وطؤها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة.
ب - وذهب الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الطهر الذي يحل به الجماع، هو تطهرها بالماء كطهور الجنب، وأنها لا تحل حتى ينقطع الحيض وتغتسل بالماء.
ج - وذهب طاووس ومجاهد إلى أنه يكفي في حلّها أن تغسل فرجها وتتوضأ للصلاة.
وسبب الخلاف : أن الله تعالى قال :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله ﴾ الأولى بالتخفيف، والثانية بالتشديد، وكلمة ( طَهُر ) يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض، وأمّا ( تطهّر ) فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله وهو الاغتسال بالماء.
فحمل أبو حنيفة :( حتى يَطْهُرن ) على انقطاع دم الحيض، وقوله :﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾ على معنى فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفّف.
وقال الجمهور معنى الآية :»
ولا تقربوهنّ حتّى يغتسلن، فإذا اغتسلن فأتوهن « فاستعملوا المخفّف بمعنى المشدّد، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي ( حتّى يطهّرَن ) بالتشديد في الموضعين.
131
وقالوا : مما يدلّ على صحة قولنا أن الله تعالى علّق الحكم فيها على شرطين :
أحدهما : انقطاع الدم وهو قوله تعالى :( حتى يطهُرْن ) أي ينقطع عنهن الدم.
والثاني : الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى :( فإذا تطهّرن ) أي اغتسلن.
فصار المجموع هو الغاية، وهذا مثل قوله تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾ [ النساء : ٦ ] فعلّق الحكم وهو جاز دفع الماء على شرطين : أحدهما : بلوغ النكاح، والثاني : إيناس الرشد، فلا بدّ من توفرهما معاً.
الترجيح : أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لأن الله تعالى قد علّل ذلك بقوله :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين ﴾ وظاهر اللفظ يدل على أن المراد به الطهارة الحسية وهي الاغتسال بالماء. وهذا الذي رجحناه هو اختيار شيخ المفسّرين الطبري، والعلاّمة ابن العربي والشوكاني والله تعالى أعلم.
الحكم الخامس : ماذا يحرم على المرأة الحيض؟
اتفق العلماء على أن المرأة الحائض يحمر عليها الصلاة، والصيام، والطواف، ودخول المسجد، ومسّ المصحف، وقراءة القرآن، ولا يحل لزوجها أن يقربها حتى تطهر، وهذه الأحكام تعرف بالتفصيل من كتب الفقه، والأدلة عليها معروفة وهناك أحكام أخرى ضربنا صفحاً عنها لأنها لا تستنبط ن الآية والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - وجوب اعتزال المرأة في حالة المحيض حتى تطه من حيضها.
٢ - إباحة إتيان المرأة بعد انقطاع الدم والاغتسال بالماء.
٣ - حرمة إتيان المرأة في الدبر لأنه ليس مكاناً للحرث.
٤ - جواز الاستمتاع بشتى الصور بعد أن يكون في محل نبات الولد.
٥ - التحذير من مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه تعالى وحذّر.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جعل الله تبارك وتعالى مكاناً لنسل الرجل، وأحلّ له إتيانها في جميع الأوقات إلا في بعض حالات تكون فيها المرأة متلبّسة بالعبادة كحالة الإحرام، والاعتكاف، والصيام، أو في حالة الطمث ( الحيض )، وهي حالة تشبه المرض الحسيّ، لأنها حالة إلقاء ( البويضة الأنثوية ) التي لم تلقّح من رحم المرأة، وغالباً ما تصحبها الآلام وتكون المرأة غير مستعدة نفسياً لهذه المباشرة الجنسية، التي يقصد بها استمتاع كلٍ من الزوجين بالآخر.
ودم الحيض له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء، وذلك لأأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة، وهو دم فاسد، أسود، ثخين، محتدم شديد الحمرة - كما يعرّفه الفقهاء - ورؤية الدم تنفر الطبع، وتشمئز منها النفس، فكيف إذا اجتمعت معه هذه الأوصاف الخبيثة؟! فإتيان المرأة في مثل هذه الحالة، فيه ضرر عظيم يلحق بالمرأة، كما أن فيه ضررا على الرجل أيضاً، عبّر عنه القرآن الكريم الدقيق ﴿ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ وأيّ تعبير أبلغ من هذا التعبير المعجز؟!
وقد أثبت ( الطب الحديث ) الضرر الفادح الذي يلحق بالمرأة من جراء معاشرتها وإتيانهاه في حالة الطمث، فكثيراً ما يختلط المني المقذوف من الرجل بهذه الدماء، ويتولد عن ذلك إلتهابات في عنق الرحم، أو في الرحم نفسه، أو يتعرض الجنين إلى التشوه إن قدّر هناك حمل، كما أن الرجل يتعرض لبعض الأضرار الجسمية، ولهذا ينصح الأطباء بالابتعاد عن المرأة في حالة ( العادة الشهرية ) حتى تطهر من طمثها، وفي ذلك أكبر برهان على حكمة الشريعة الغراء.
132
[ ١٥ ] النهي عن كثرة الحلف
التحليل اللفظي
﴿ عُرْضَةً ﴾ : بضم العين أي مانعاً، وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء فهو ( عُرْضة ) ولهذا يقال للسحاب : عارضٌ، لأنه يمنع رؤية السماء والشمس، واعترض فلانٌ فلاناً أي منعه من فعل ما يريد.
والمعنى : لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً لكم من البر والتقوى، إذا دعي أحدكم لبرٍ أو إصلاح يقول : قد حلفت أن لا أفعله فيتعلّل باليمين.
قال الرازي : المراد النهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر من ذكر شيء فقد جعله عُرْضة له، يقول الرجل : قد جعلتني عُرْضة للومك، وقال الشاعر :
فلا تجعلني عُرْضة للَّوائم... قال الجصاص : المعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء حقاً كان أو باطلاً، فالله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى، وكذلك لا تجعلوا اليمين بالله عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح.
﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو ﴾ : قال الراغب : اللغو في الكلام ما لا يُعتد به، وهو الذي يُورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى ( لّلغاً ) وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور، وأنشد أبو عبيدة :
عن الّلغا ورفث التكلم... قال الإمام الفخر :« اللغو، الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاماً أو غيره، ولغو الطائر : تصويته، ويقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل : لغو ».
﴿ يُؤْلُونَ ﴾ : أي يحلفون، والمصدر ( إيلاء ) والاسم منه ( أليّة ) والأليّة، والقسم واليمين، والحلف، كلها عبارات عن معنى واحد، قال الشاعر :
فآليتُ لا أنفكّ أحْدو قصيدةً تكون وإيّاها بها مثلاً بعدي
هذا هو المعنى اللغوي، وأما في عرف الشرع فهو اليمين على ترك وطء الزوجة.
﴿ تَرَبُّصُ ﴾ : التربص في اللغة الانتظار ومنه قوله تعالى :﴿ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين ﴾ [ الطور : ٣١ ] أي انتظروا فأنا من المنتظرين معكم قال الشاعر :
تربّصْ بها ريب المنون لعلّها تُطلّقُ يوماً أويموت حليلها
وإضافة التربص إلى الأشهر من إضافة المصدر إلى الظرف.
﴿ فَآءُو ﴾ : أي رجعوا ومنه قوله تعالى :﴿ حتى تفياء إلى أَمْرِ ﴾ [ الحجرات : ٩ ] أي ترجع، ومنه قيل للظل بعد الزوال ( فيء ) لأنه رجع بعد أن تقلص.
قال الفراء : العرب تقول : فلان سريع الفيء والفيئة أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة. قال الشاعر :
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضياً
ومعنى الآية : فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك معاشرة نسائهم فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم.
المعنى الإجمالي
لا تجعلوا - أيها المؤمنون - الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير، فإذا سئل أحدكم عن أمرٍ فيه برٌّ، وإصلاح، قال : قد حلفت بالله ألاّ أفعله، وأريد أن أبرّ بيميني، فلا تتعللوا باليمين بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم، ولا تكثروا الحلف فتجعلوا الله هدفاً لأيمانكم تبتذلون اسمه المعظم في أمور دنياكم، فإن الحلاّف مجترئ على ربه فلا يكون براً ولا تقياً.
133
لا يؤاخذكم الله بما يجري على ألسنتكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان، والله واسع المغفرة، حليم لا يعاجل عباده بالعقوبة.
للذين يحلفون منكم على اعتزال نسائهم، ويقسمون على ألاّ يقربوهن للإضرار بهن، على نسوة هؤلاء الحالفين انتظار مدة أقصاها أربعة أشهر، فإن رجعوا إلى عشرة أزواجهن بالمعروف كما أمر الله، فالله يغفر لهم ما صدر منهم من إساءة، وإن صمّموا على الإيلاء من الأزواج، فقد وقعت الفرقة والطلاق بمقضي تلك المدة، والله سميع لأقوالكم، عليم بنواياكم وأعمالكم.
سبب النزول
روي أنها نزلت في ( عبد الله بن رواحة ) كان بينه وبين ختنه ( بشير بن النعمان ) شيء فحلف عبد الله لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصم له، فكان إذا قيل له فيه يقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي أن لا أبر بيميني، فأنزل الله ﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذمّ الله تعالى من أكثر الحلف بقوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ [ القلم : ١٠ ] وكان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير :
قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه وإن سبقتْ منه الأليّةُ برّت
قال الإمام الفخر :« والحكمة في الأمر بتقليل الإيمان، أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يُؤمنُ إقدامه على اليمين الكاذبة، ومن كمال التعظيم لله أن يكون ذكر الله أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية ».
اللطيفة الثانية : ذكر الله العلة في هذا النهي بقوله :﴿ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ أي إرادة أن تبروا وتتقوا، فإن قيل : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى؟
فالجواب : أن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا، والخسائس من أمور الحياة، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر والتقوى.
اللطيفة الثالثة : قال الإمام الجصاص :« قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع من كتابه العزيز، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى :﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾ [ الغاشية : ١١ ] يعني كلمة فاحشة قبيحة وقال :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ] على هذا المعنى، وقال :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ] يعني الكفر والكلام القبيح، وقال ﴿ والغوا فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] يعني الكلام الذي لا يفيد شيئاً، وقال :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] يعني الباطل، ويقال : لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه ».
134
اللطيفة الرابعة : الحكمة في تحديد مدة الإيلاء بأربعة أشهر، هي أن التأديب بالهجر ينبغي ألا يتجاوز هذه المدة، فالمرأة ينفد صبرها عن غياب بعلها هذه المدة، ولا تستطيع أن تصبر أكثر منها.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد هذه الأبيات :
تطاول هذه الليلُ واسودّ جانبُه وأرّقني ألاّ حبيب ألاعبُه
فوا اللهِ لولا الله لا شيء غيرهُ لزُعْزع من هذا السرير جوانبُه
مخافة ربي والحياءُ يكفّّني وإكرام بعلي أن تُنال مراكبُه
فلما كان من الغد سأل عن المرأة أين زوجها؟ فقالوا يا أمير المؤمنين : بعثت به إلى العراق، فاستدعى نساءً فسألهن عن المرأة كم تصبر عن زوجها؟ فقلن شهراً، وشهرين، ويقلّ صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت المدة استردّ الغازين ووجّه بقومٍ آخرين.
قال القرطبي :« هذا يقوّي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر والله أعلم ».
اللطيفة الخامسة : روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً، قال سعيد بن المسيب :« كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها فكان يتركها لا أيّما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، فأزال الله تعالى ذلك الظلم، وأمهل الزوج مدة حتى يتروّى ويتأمل، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد باليمين اللغو، وهل فيه كفارة؟
دل قوله تعالى :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾ على أن اليمين اللغو لا إثم فيه ولا كفارة، وقد اختلف الفقهاء في تعريف هذه اليمين على أقوال :
أ - قال الشافعي وأحمد : اللغو في اليمين هو : ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف، كقول الرجل في كلامه : لا والله، وبلى والله دون قصد لليمين، وهذا التأويل منقول عن بعض السلف كعائشة، والشعبي، وعكرمة.
ب - وقال أبو حنيفة ومالك : اللغو في اليمين هو : أن يحلف على شيء يظنه كما يعتقد فيكون بخلافه، وهذا التأويل منقول عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد.
قال مالك رحمه الله في « الموطأ » :« أحسنُ ما سمعت في هذه أنّ اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد الأمر بخلافه فلا كفارة فيه ».
وفي البخاري : عن عائشة رضي الله عنها قالت :« نزل قوله تعالى :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾ في قول الرجل : لا والله، وبلى والله ».
والصحيح أن اللغو : يشمل النوعين وهو اختيار ابن جرير الطبري فقد قال رحمه الله :« واللغو في كلام العرب : كلّ كلام كان مذموماً، وفعلٍ لا معنى له مهجوراً، فإذا كان اللغو ما وصفتُ، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل، ولقد فعلت كذا وما فعل، على سبيل سبق لسانه، والقائل : والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به، والقائل : لا يفعل كذا والله على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام، وسبوق اللسان، على غير تعمد حلفٍ على باطل، جميعهم حالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبُهم، كان معلوماً أنهم لغاةٌ في أيمانهم لا تلزمهم كفارة ».
135
الحكم الثاني : ما هو الإيلاء، وما هو حكمه؟
تقدم معنا تعريف الإيلاء لغة، وأمّا شرعاً : فهو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر، كأن يقول : والله لا أقربك، أو لا أجامعك، أو أمثال هذه الكلمات.
قال ابن عباس :« كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقّت الله لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي ».
واتفق العلماء على أنه لو هجرها مدة تزيد على أربعة أشهر لا يكون مؤلياً حتى يحلف لقوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ ﴾ أي يحلفون، وهجرانها ليس بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة، ولا تطلق منه زوجته بالهجر.
واختلفوا في المدة التي تَبِيْنُ فيها المرأة من زوجها، فقال ابن عباس : إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفئ بانت بتطليقة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وقال مالك والشافعي وأحمد : لا تطلق بمضي المدة وإنما يؤمر الزوج بالفيئة ( الرجوع عن يمينه ) أو بالطلاق، فإذا امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه.
حجة أبي حنيفة : أن الله تعالى حدّد المدة للفيء بأربعة أشهر، فإذا لم يرجع عن يمينه في هذه المدة فكأنه أراد طلاقها وعز عليها، والعزيمة في الحقيقة إنما هي عقد القلب على الشيء تقول : عزمت على كذا أي عقدت قلبي على فعله فهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق ﴾ أي عقدوا عليه قلوبهم، ولم تشترط الآية أن يطلق بالفعل.
حجة الجمهور : أن قوله تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق ﴾ صريح في أنّ وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج، فلا يكفي المدة بل لا بدّ بعدها من الفيء أو الطلاق.
قال الشوكاني في تفسيره « فتح لقدير » :« واعلم أن أهل كل مذهب قد فسّروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدّل عليه اللفظ، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يؤلي : أي يحلف من امرأته أربعة أشهر، ثم قال مخبراً عباده بحكم هذا ( المؤلي ) بعد هذه المدة ( فإن فاءوا ) أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح ﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي لا يؤخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم ﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق ﴾ أي وقع العزم منهم عليه والقصد له ﴿ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ ﴾ لذلك منهم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة ».
136
الحكم الثالث : هل يشترط في اليمين أن تكون للإضرار؟
قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب.
وقال مالك : لا يكون إيلاءً إلا إذا حلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار.
حجة مالك : ما روي عن ( علي كرّم الله وجهه ) أنه سئل عن رجلٍ حلف ألاّ يطأ امرأته حتى تفطم ولدها، ولم يرد الإضرار بها وإنما قصد مصلحة الولد فقال له : إنما أردتَ الخير، وإنما الإيلاء في الغضب.
وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا إيلاء إلاّ بغضب.
حجة الجمهور : أن الآية عامة ﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾ فهي تشمل من حلف بقصد الإضرار، أو حلف بقصد المصلحة لولده، فالكل يشمله لفظ ( الإيلاء ).
قال الشعبي : كل يمين مَنعتْ جِماعاً حتى تمضي أربعة أشهر فهي إيلاء.
وقد رجّح ابن جرير الطبري الرأي الأول ( رأي الجمهور ) فقال :« والصواب قول من قال :» كل يمين مَنعتْ الجماع أكثر من المدة التي جعل للمؤلي التربص بها قائلاً في غضب كان ذلك أو رضى فهو إيلاء «.
الحكم الرابع : ما المراد بالفيء في الآية الكريمة؟
اختلف الفقهاء في الفيء الذي عناه الله تعالى بقوله :﴿ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
فقال بعضهم : المراد بالفيء الجماع لا فيء غيره، فإذا لم يغشها وانقضت المدة بانت منه، وهو قول ( سعيد بن جبير ) و ( الشعبي ).
وقال آخرون : الفيء : الجماع لمن لا عذر له، فإن كان مريضاً أو مسافراً أو مسجوناً فيكفي المراجعة باللسان أو القلب، وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقال آخرون : الفيء : المراجعة باللسان على كل حال فيكفي أن يقول : قد فئت إليها وهو قول النخعي.
وأعدل الأقوال القول الثاني : وهو قول جمهور الفقهاء والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - عدم جواز الحلف على المنع من فعل البر والخير.
٢ - من حلف على يمين ورأى الخير في خلافها فليفعل الخير وليكفّر.
٣ - اليمين اللغو التي لا يقصد بها اليمين لا مؤاخذة عليها ولا كفارة فيها.
٤ - الإيلاء من الزوجة بقصد الإضرار يتنافى مع وجوب المعاشرة بالمعروف.
٥ - إذا لم يرجع الزوج عن يمينه في مدة أربعة شهور تطلق عليه زوجته.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أمرت الشريعة الغرّاء بالإحسان إلى الزوجة ومعاشرتها بالمعروف، وحرّمت إيذاءها والإضرار بها بشتى الصور والأشكال ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ١٩ ].
ولمّا كان الإيلاء من الزوجة، وهجرها في المضاجع مدة طويلة من الزمن، لا يقصد منه إلا الإساءة إلى الزوجة والإضرار بها، بحيث تصبح المرأة معلقة، ليست بذات زوج ولا مطلّقة، وكان هذا مما يتنافى مع وجوب المعاشرة بالمعروف ولا يتفق مع تعاليم الإسلام الرشيدة، لذلك فقد أمر الباري جل وعلا بإمهال هذا الزوج مدة من الزمن أقصاها أربعة شهور، فإن عاد إلى رشده فكفر عن يمينه، وأحسن معاملة زوجته فعاشرها بالمعروف، ودفع عنها الإساءة والظلم فهي زوجته، وإلاّ فقد طلقت منه بذلك الإصرار، وهذا من محاسن الشريعة الغراء، حيث دفعت عن كاهل المرأة الظلم ودعت إلى البر بها والإحسان، وجعلتها شريكة الرجل في الحياة السعيدة الكريمة.
137
[ ١٦ ] مشروعية الطلاق في الإسلام
التحليل اللفظي
﴿ قرواء ﴾ : جمع قُرء بالفتح والضم، ويطلق في كلام العرب على ( الحيض ) وعلى ( الطهر ) فهو من الأضداد.
قال في « القاموس » :« والقَرْءُ بالفتح ويُضم : الحيض، والطهر والوقت، وأقرأت حاضت وطهرت، وجمع الطهر : قروء، وجمع الحيض : أقراء ».
وأصل القرء : الاجتماع وسمي الحيض قرءاً لاجتماع الدم في الرحم.
قال الأخفش :« أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت : قرأت » ومن مجيء القرء بمعنى ( الحيض ) قوله ﷺ لفاطمة بنت أبي حبيش :« دعي الصلاة أيام أقرائك » أي أيام حيضك، وقول الشاعر :
له قروء كقروء الحائض... ومن مجيئه بمعنى ( الطهر ) قول الأعشى :
مورثة عزّاً وفي الحيّ رفعةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا
﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ : أي أزواجهن جمع بعل الزوج قال تعالى :﴿ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ [ هود : ٧٢ ] والمرأة بعلة ويقال لها : بعل أيضاً أفاده صاحب « القاموس ». وأصل البعل : السيّد المالك، يقال : من بعد هذه الناقة؟ أي من ربها؟ ومن سيّدها؟
والمعنى : أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص بالعدة.
﴿ دَرَجَةٌ ﴾ : الدرجة في اللغة المنزلة الرفيعة قال تعالى :﴿ هُمْ درجات عِندَ الله ﴾ [ آل عمران : ١٦٣ ] وسميت درجة تشبيها لها بالدرج الذي يرتقى به إلى السطح، ويقال لقارعة الطريق مدرجة لأنها تطوي منزلاً بعد منزل، وأصل ( درج ) بمعنى طوى يقال : درج القوم أي طَووا عمرهم وفنوا وفي الأمثال ( هو أكذب من دبّ ودرج ) أي أكذب الأحياء والأموات.
﴿ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ : أي منيع السلطان غالبٌ لا يٌغلَب، حكيم في أحكامه وأفعاله.
﴿ الطلاق ﴾ : الطلاق حلّ عقدة النكاح، وأصله الانطلاق والتخلية، يقال : ناقة طالق أي مهملة قد تركت في المرعى بلا قيد ولا راعي، فسميت المرأة المخلّى سبيلها طالقاً لهذا المعنى.
قال الراغب : أصل الطلاق التخليةُ من الوثاق يقال : أطلقتُ البعير من عقاله وطلّقته إذا تركته بلا قيد، ومنه استعير : طلّقتُ المرأة نحو خلّيتها فهي طالق أي مخلاّة عن حِبالَة النكاح، وطلّقه المريض أي خلاه قال الشاعر :
تطلّقه طوراً وطوراً تراجع... ﴿ تَسْرِيحٌ ﴾ : التسريح : إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرّح الماشية : أرسلها لترعى السرح وهو شجر له ثمر، ثم جعل لكل إرسالٍ في الرعي.
قال الراغب :« والتسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق في كونه مستعاراً من إطلاق الإبل ».
﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ : أي قاربن إنهاء العدة، لأنه بعد انقضاء العدة لا سلطان للرجل عليها، والعرب تقول : بلغ البلد إذا شارف الوصول إليها.
قال الشوكاني :« البلوغ إلى الشيء : معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلاّ مجازاً لعلاقة مع القرينة كما هنا، لأن المرأة إذا خرجت من العدة لم يبق للزوج عليها سبيل ».
138
﴿ ضِرَاراً ﴾ : أي بقصد الإضرار، قال القفال : الضّرار هو المضارّة قال تعالى :﴿ والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ] أي ليضارّوا المؤمنين ومعنى المضارة الرجوع إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة.
﴿ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ : العضل : المنع والتضييق، يقال : أعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل، وداء عُضال أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وكل مشكلٍ عند العرب فهو معضل، ومنه قول الشافعي رضي الله عنه :
إذا المعضلاتُ تصدَّيْنني كشفت حقائقها بالنظر
قال الأزهري :« أصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج ».
والمعنى : فلا تمنعوهن من الزواج بمن أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن.
﴿ زكى لَكُمْ ﴾ : أي أنمى وأنفع يقال : زكا الزرع إذا نما بكثرة وبركة.
﴿ وَأَطْهَرُ ﴾ : من الطهارة وهي التنزه عن الدنس وعن الذنوب والمعاصي.
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه : الأزواج المطلقات اللواتي طلقهن أزواجهن لسبب من الأسباب على هؤلاء انتظار مدة من الزمن هي مدة ( ثلاثة أطهار ) أو ( ثلاث حيَض ) لمعرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب، وأزواجهن أحق بهنّ في الرجعة من الأجانب إذا لم تنقض عدتهن، وكان الغرض من هذه الرجعة ( الإصلاح ) لا ( الإضرار ) ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أمر الله تعالى، وللرجال عليهن درجة القوامة، والإنفاق والإمرة والطاعة.
ثم بين تعالى أن الطلاق الذي تجوز به الرجعة مرتان، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له حتى تتزوج بعده بزوج آخر، أما إذا لم يكن الطلاق ثلاثاً فله أن يراجعها إلى عصمة نكاحة، فإما أن يمسكها بالمعروف فيحسن معاشرتها وصحبتها وإمّا أن يطلق سراحها للتزوج بمن تشاء بعلّها تسعد بالزواج الثاني ﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ﴾ [ النساء : ١٣٠ ].
ولا يحل الله لكم أيها الرجال أن تأخذوا ممّا دفعتم إليهن من المهور شيئاً، لأنكم قد استمتعتم بهن إلا إذا خفتم سوء العشرة بين الزوجين، وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلّقها فليس هناك جناح من أخذ الفداء.
ثم بيّن تعالى أنه إذا طلّقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين، فلا تحلّ له إلاّ بالزواج بزوج آخر، بعد أن يذوق عُسيلتها وتذوق عُسيلته، فإن طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن تعود إلى زوجها الأول إن كان ثمة دلائل تدل على الوفاق والتلاق.
ثم أمر تعالى الرجال بالإحسان في معاملة الأزواج وعدم الإضرار بهن، كما أمر الأولياء بألاّ يمنعوا المرأة من العودة إلى زوجها إذا رغبت في العودة، لا سيما إذا صلحت الأحوال وظهرت أمارات الندم على الزوجين في استئناف الحياة الفاضلة، والعيشة الكريمة.
سبب النزول
أولاً : روي أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكان يطلّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فعمد رجلٌ لامرأته على عهد النبي ﷺ فقال لها : لا آويك ولا أدعك تحلّين، قالت : وكيف؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضيُّ عدتك راجعتك، فشكت ذلك للنبي ﷺ فأنزل الله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان ﴾ الآية.
139
ثانياً : وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كان الرجل يطلّق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها، يفعل بها ذلك يضارّها ويعضلها فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء... ﴾ الآية.
ثالثاً : وأخرج البخاري والترمذي عن ( مَعْقل بن يسار ) رضي الله عنه أنه زوّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبي ﷺ فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخُطَّاب فقال له : يا لكع أكرمتك بها وزوّجتك فلطّقتها! والله لا ترجع إليك أبداً قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ... ﴾ الآية فلما سمعها ( معقل ) قال : سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوّجك وأكرمك.
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ﴿ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾ بالهمزة وقرأ نافع ( ثلاثة قرُوّ ) بكسر الواو وشدها من غير همز، وقرأ الحسن ( قَرء ) بفتح القاف وسكون الراء.
٢ - قرأ الجمهور ﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ وقرأ حمزة ( إلا أن يُخافا ) بضم الياء مبنياً للمجهول، وقرئ يظنّا.
٣ - قرأ الجمهور ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا ﴾ بالياء أي يبينها الله، وقرأ عاصم ( نبينها ) بالنون وهي نون التعظيم.
وجوه الإعراب
١ - قوله تعالى :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ المطلقات مبتدأ والجملة الفعلية خبر، و ﴿ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾ منصوب على الظرفية، والمفعول به محذوف أي يتربصن الزوج.
٢ - قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ ﴾ أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل ( يحل ) والتقدير : لا يحل لهن كتمان، و ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي مفعول ل ( يكتمن ).
٣ - قوله تعالى :﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ للرجال خبر مقدم و ( درجة ) مبتدأ مؤخر، وجاز الابتداء بالنكرة لتقدم الجار والمجرور عليها.
٤ - قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ ﴾ ضراراً مفعول لأجله أي من أجل الضرار، وجوّز بعضهم أن يكون منصوباً على الحال أي ( مضارين ) و ( لتعتدوا ) متعلق ب ( ضراراً ).
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ﴾ خبرٌ والمراد منه الأمر أي ( ليتربّصْن ) وفائدته التنبيه إلى أنه ممّا ينبغي أن يتلّقى بالقبول والمسارعة إلى الإتيان به.
قال صاحب « الكشاف » :« التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر فهو يخبر عنه موجوداً، ونظيره قولهم في الدعاء : رحمك الله، أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها ».
140
اللطيفة الثانية : قيّد الله التربص في هذه الآية بذكر الأنفس بقوله :﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ ولم يذكره في الآية السابقة ﴿ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٦ ] فما هي الحكمة؟
والجواب؟ أنّ في ذكر الأنفس هنا تهييجاً لهنّ على التربص وزيادة بعث لهنّ على قمع نفوسهن عن هواها وحملها على الانتظار، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد الله تعالى أن يقمعن أنفسهن، ويغالبن الهوى بامتثال أمر الله لهن بالتربص، والمخاطب في الآية السابقة الرجال فلم يوجد ذلك الداعي إلى التقييد فتدبر ذلك السرّ الدقيق.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر ﴾ شرطٌ جوابه محذوف دلّ عليه ما سبق، وليس الغرض منه التقييد بالإيمان حتى يخرج الكتابيات بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن، وهذه طريقة متعارفة في الخطاب، تقول : إن كنت مؤمناً فلا تؤذ أباك، وإن كنت مسلماً فلا تغشّ الناس، فهذه هي النكتة في التعبير.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ... ﴾ الآية أي أحق برجعتهن.
قال الإمام الفخر : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لمّا كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وهذا التدريج والترتيب يدل كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف ﴾ فيه إيجاز وإبداع، لا يخفى على المتمكن من علوم البيان، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل : لهنّ على الرجال من الحقوق، مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق والواجبات، وفيه من علم البديع ما يسمى ب ( الطباق ) بين لفظَيْ ( لهنّ ) و ( عليهن ) وهو طباق بين حرفين، وقد وضّح عليه السلام بعض هذه الحقوق في ( حجة الوداع ) بقوله :« ألا إنّ لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فحقكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن ».
وعن ابن عباس أنه قال :« إني لأحبّ أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي، لأن الله تعالى يقولك ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ ﴾ ».
اللطيفة السادسة : الدرجة التي أشارت إليها الآية الكريمة ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله ﴾ ليست درجة ( تشريف ) وإنما هي درجة ( تكليف ) وقد بينتها الآية الثانية في سورة النساء وهي القوامة والمسؤولية والإنفاق
141
﴿ الرجال قوامون عَلَى النسآء ﴾ [ النساء : ٣٤ ] الآية والله تعالى قد وضع ميزاناً دقيقاً للتفاضل هو التقوى والعمل الصالح ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] فقد تكون المرأة أفضل عند الله من ألف رجل، وهذا هو المبدأ العادل الكريم.
اللطيفة السابعة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول خلع كان في الإسلام في « امرأة ثابت بن قيس أتت رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله : لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً، والله ما أعيب عليه في خلُق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الإسلام، ما أطيقه بغضاً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سواداً، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهاً، فقال زوجها يا رسول الله : أعطيتها أفضل ما لي ( حديقة ) لي، فإن ردّت عليّ حديقتي طلقتها، فقال لها عليه السلام ما تقولين؟ قالت : نعم، وإن شاء زدته، قال ففرق بينهما ».
اللطيفة الثامنة : قال العلامة أبو السعود : وضع الاسم الجليل في المواقع الثلاثة ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ ﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله ﴾ موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة في النفوس، وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي عدة المطلقة، والحامل، والتي لا تحيض؟
أوجب الله تعالى العدة على المطلقة ﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾ والمراد بالمطلّقات هنا ( المدخول بهن ) البالغات من غير الحوامل، أو اليائسات، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ].
وعدة الحامل وضع الحمل لقوله تعالى :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ٤ ].
والمرأة التي لا تحيض وكذا اليائسة عدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى :﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [ الطلاق : ٤ ] الآية.
فتبيّن من هذا أن الآية قد دخلها التخصيص، وأنّ العدة المذكورة في الآية الكريمة هي للمطلّقة المدخول بها إذا لم تكن صغيرة أو يائسة أو حاملاً.
الحكم الثاني : ما المراد بالأقراء في الآية الكريمة؟
تقدّم معناه أن ( القرء ) في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر، وقد اختلف الفقهاء في تعيين المراد به هنا في الآية الكريمة على قولين :
أ - فذهب مالك والشافعي : إلى أن المراد بالأقراء : الأطهار، وهو مروي عن ( ابن عمر ) و ( عائشة ) و ( زيد بن ثابت )، وهو أحد القولين عند الإمام أحمد رحمه الله.
ب - وذهب أبو حنيفة وأحمد ( في الرواية الأخرى عنه ) إلى أن المراد بالأقراء : الحيض، وهو مروي عن ( عمر ) و ( ابن مسعود ) و ( أبي موسى ) و ( أبي الدرداء ) وغيرهم.
حجة مالك والشافعي :
احتج الفريق الأول لترجيح مذهبهم بحجج نذكرها بإيجاز :
الحجة الأولى : إثبات التاء في العدد ( ثلاثة قروء ) وهو يدل على أن المعدود مذكر وأن المراد به الطهر، ولو كان المراد به الحيضة لجاء اللفظ ( ثلاث قروء ) لأن الحيضة مؤنث والعدد يذكر مع المؤنث، ويؤنث مع المذكر كما هو معلوم.
142
الحجة الثانية : ما روي عن عائشة أنها قالت :« هل تدرون الأقراء؟ الأقراء : الأطهار ».
قال الشافعي : والنساء بهذا أعلم. لأن هذا إنما يُبتلى به النساء.
الحجة الثالثة : قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] قالوا : ومعناه : فطلقوهن في وقت عدتهن، ولما كان الطلاق وقت الحيض محظوراً، دلّ على أن المراد به وقت الطهر، فيكون المراد من القروء الأطهار.
حجة أبي حنيفة وأحمد :
واحتج الفريق الثاني على ترجيح مذهبهم بما يأتي :
أولاً : إن العدة شرعت لمعرفة براءة الرحم، والذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر.
قال الإمام أحمد : قد كنت أقول : القروء : الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض.
ثانياً : واستدلوا بقوله عليه السلام لفاطمة بنت حُبيش :« دعي الصلاة أيام أقرائك » والمراد أيام حيضك، لأن الصلاة تحرم في الحيض.
ثالثاً : قوله عليه السلام :« لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة » فأمر بالاستبراء بالحيضة، وقد أجمع العلماء على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيض، فكذا العدة ينبغي أن تكون بالحيض، لأن الغرض واحد وهو براءة الرحم.
رابعاً : أقام الله تعالى الأشهر مقام الحيض في العدة في قوله :﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ ﴾ [ الطلاق : ٤ ] فدلّ على أن العدة تعتبر بالحيض لا بالطهر. وهذا من أقوى أدلة الأحناف.
خامساً : إذا اعتبرنا العدة بالحيض فيمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها، لأن المطلّقة إنما تخرج من العدة بزوال الحيضة الثالثة، بخلاف ما إذا اعتبرناها بالأطهار فإنه إذا طلقها في آخر الطهر يكون قد مر عليها طهران وبعض الثالث، فيكون ما ذهبنا إليه أقوى.
الترجيح :
ولعلّ ما ذهب إليه الفريق الثاني يكون أرجح، فإن الأحاديث الصحيحة تؤيده، والغرض من العدة في الأظهر معرفة براءة الرحم، وهو يعرف بالحيض لا بالطهر.
وقد رجّح العلامة « ابن القيم » في كتابه « زاد المعاد » هذا القول ونصره وأيده فقال :« إن لفظ ( القرء ) لم يستعمل في كلام الشارع إلاّ للحيض، ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر، فحملُه في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى، بل يتعين، فإنه عليه السلام قد قال للمستحاضة :» دعي الصلاة أيام أقرائك « وهو ﷺ المعبّر عن الله، وبلغه قومه نزل القرآن، فإذا أورد المشترك في كلامه على أد معنييه، وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت إرادة الآخر في شيء من كلامه البتة، ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها، وإن كان له معنى آخر في كلام غيره، وإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم أن هذا لغته فيتعين حمله عليها في كلامه، ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ﴾ وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين، وأيضاً فقد قال سبحانه :
143
﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض... ﴾ [ الطلاق : ٤ ] الآية فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر، وقال في موضع آخر ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] معناه لاستقبال عدتهن لا فيها، وإذا كانت العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض، فإن الطاهر لا تستقبل الطهر، إذ هي فيه وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها «.
الحكم الثالث : ما معنى قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ﴾ ؟
اختلف المفسرون في المراد من هذه الآية على أقوال :
فقال بعضهم : المراد بما خلق الله في أرحامهن :( الحمل ) وهو قول عمر، وابن عباس، ومجاهد.
وقال بعضهم : المراد به ( الحيض ) وهو قول عكرمة، والنخعي، والزهري.
وقال آخرون : المراد به ( الحمل والحيض ) معاً، وهذا قول ابن عمر، واختاره ابن العربي.
قال ابن العربي :»
والثالث هو الصحيح لأن الله تعالى جعلها أمينة على رحمها فقولها فيه مقبول إذ لا سبيل إلى علمه إلاّ بخبرها، ولا خلاف بين الأمة أن العمل على قولها في دعوى الشغل للرحم أو البراءة ما لم يظهر كذبها «.
أقول : إنما حرم الله كتمان ما في أرحامهن لأنه يتعلق بذلك حق الرجعة للرجل، وعدم اختلاط الأنساب، فربما ادعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرحم بالحمل من زوجها ثم تزوجت فأدى ذلك إلى اختلاط الأنساب، وربما حَرَمَت الرجل من حقه في الرجعة فلذلك حرّم الله كتمان ما في الأرحام.
الحكم الرابع : هل الآية عامة في كل مطلّقة؟
الآية الكريمة ﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ﴾ عامة في المبتوتة، والرجعية، وقوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ خاص في الرجعية دون المبتوتة، لأن المبتوتة قد ملكت نفسها.
قال ابن كثير رحمه الله :»
وهذا في الرجعيات، فأما المطلَّقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية ( مطلقة بائن ) وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعه امرأته وإن طلّقها مائة مرة، فلما قصوا على ثلاثة تطليقات، صار للناس مطلّقة بائن ومطلقة غير بائن «.
الحكم الخامس : ما هو حكم الطلاق الرجعي؟
الطلاق الرجعي يبيح للرجل حق الرجعة بدون عقد جديد، وبدون مهر جديد، وبدون رضا الزوجة ما دامت المرأة في العدة، فإذا انقضت العدة ولم يراجعها بانت منه، وقد أثبت الشارع له حق الرجعة بقوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي أحق بإرجاعهن في وقت التربص بالعدة، وإذا كانت الرجعية حقاً للرجل فلا يشترط رضا الزوجة ولا عملها، ولا تحتاج إلى ولي، كما لا يشترط الإشهاد عليها وإن كان ذلك مستحباً خشية إنكار الزوجة فيه بعد أنه راجعها.
144
وتصح المراجعة بالقول مثل قوله : راجعتُ زوجتي إلى عصمة نكاحي، وبالفعل مثل التقبيل، والمباشرة بشهوة، والجماع عند أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي : لا رجعة إلا بالقول الصريح ولا تصح بالوطء ودواعيه، لأن الطلاق يزيل النكاح.
قال الشوكاني :« والظاهر ما ذهب إليه الأولون، لأن العدة مدة خيار، والاختيار يصح بالقول وبالفعل، وظاهر قوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ وقوله ﷺ :» مُره فليراجعها « أنها تجوز المراجعة بالفعل لأنه لم يخص قولاً من فعل، ومن ادّعى الاختصاص فعليه الدليل ».
الحكم السادس : هل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً أم واحدة؟
دل قوله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾ على أن الطلاق ينبغي أن يكون مفرقاً مرة بعد مرة وقد اختلف العلماء في الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ هل يقع ثلاثاً أو واحدة؟
فذهب جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة إلى أنه يقع ثلاثاً، إمّا مع الحرمة، وإما مع الكراهة على حسب اختلافهم في فهم الآية الكريمة.
وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، وهو قول طاووس ومذهب الإمامية وقول ( ابن تيمية ) وبه أخذ بعض المتأخرين من الفقهاء دفعاً للحرج عن الناس، وتقليلاً لحوادث الطلاق، وفراراً من مفاسد التحليل.
دليل الجمهور :
استدل الجمهور على وقوع الطلاق الثلاث بما يلي :
أولاً : إن الله تعالى جعل للطلاق حداً وأرشد الرجل إلى أن يطلق مرة بعد مرة، وجعل له فسحة في الأمر حتى لا يضيع حقه في الرجعة، فإذا تعدى الإنسان هذه الرخصة وطلّق ثلاثاً وقع طلاقه لأن له عليها طلقتين وبالثالثة تبين منه، فإما أن يجمعها أو يفرقها. والإسلام قد أرشده إلى ما هو الأفضل والأصلح، فإذا جاوز هذا إلى ما فيه تضييق عليه أخذ بجزيرة نفسه.
ثانياً : ما روي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له : إنه طلّق امرأته ثلاثاً، قال مجاهد : فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال : يطلّق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول : يا ابن عباس، يا ابن عباس وإن الله تعالى يقول :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ [ الطلاق : ٢ ] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً عصيت ربك، وبانت منك امرأتك «.
ثالثاً : واستدلوا بإجماع الصحابة حين قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقروه عليه، ولم ينكر أحد من الصحابة وقوع الثلاث بلفظ واحد على عمر بن الخطاب فدل ذلك على الإجماع.
145
وقد ذهب البخاري إلى وقوع الثلاث وترجم على هذه الآية بقوله ( باب من أجاز الطلاق الثلاث ) بقوله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان ﴾.
وهذا إشارة منه رضي الله عنه إلى أنّ هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيّق على نفسه لزمه.
حجة الفريق الثاني :
واستدل القائلون بوقوع الطلاق الثلاث واحدة بما رواه أحمد ومسلم من حديث طاووس عن ابن عباس أنه قال :« كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ».
وقالوا : إن الله قد فرّق الطلاق بقوله :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾ أي مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لا يملك المكلف إيقاعه دفعة واحدة، مثل ( اللعان ) لا بدّ ن التفريق فيه، ولو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة، ولو قال المقر بالزنى : أنا أقر أربع مرات أني زنيت كان مرة واحدة، وقالوا : إن الشارع طلب أن يسبح العبد ربه ويحمده، ويكبّره دبر كل صلاة ( ثلاثاً وثلاثين ) ولا يكفيه أن يقول : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، ولا بدّ من التفريق حتى يكون قد أتى بالأمر المشروع.
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه « أعلام الموقعين » القول في المسألة وانتصر لرأي ابن تيمية، وفعل مثله ( الشوكاني ) في كتابه « نيل الأوطار » وله رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور.
أقول : كلُّ ما استدل به الفريق الثاني لا يقوى على ردّ أدلة الجمهور وعلى إجماع الصحابة، وكفى بهذا الإجماع حجة وبرهاناً وهذا ما ندين الله تعالى به. ونعتقد أنه الصواب، لأن مخالفة إجماع الصحابة وإجماع الفقهاء ليس بالأمر اليسير.
ويحسن بنا أن ننقل ما كتبه العلامة القرطبي في تفسير « الجامع لأحكام القرآن » حيث قال رحمه الله :« واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذّ طاوس وبعض أهل الظاهر فقالوا : إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويحكى عن داود أنه لا يقع، وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً، ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، واستدل من قال بوقوعه واحدة بأحاديث ثلاثة :
أحدهما : حديث ابن عباس من رواية طاوس، وأبي الصهباء، وعكرمة.
وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق امرأته ثلاثاً، وأن رسول الله ﷺ أمره برجعتها واحتسبت واحدة.
وثالثها : أنّ ركانة طلّق امرأته ثلاثاً فأمره رسول الله ﷺ برجعتها، والرجعة تقتضي وقوع واحدة.
146
والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي عن ( سعيد بن جبير ) و ( مجاهد ) و ( عطاء ) في روايتهم عن ابن عباس فيمن طلّق امرأته ثلاثاً أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج، وفيما رواه هؤلاء عن ابن عباس مما يوافق الجماعة، ما يدل على وهْن رواية طاوس وغيره، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه.
قال ابن عبد البر :« رواية طاوس وهمٌ وغلط، لم يعرّج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق، والمشرق والمغرب ».
قال الباجي : فإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه.
وأما حديث ابن عمر أنه طلّق ثلاثاً وهي حائض... إلخ فقد ردّه الدارقطني وقال : رواته كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدة في الحيض.
وأما حديث ( رُكانة ) فقيل : إنه حديث مضطرب منقطع لا يستند من وجه يحتج به، وهو عن عكرمة عن ابن عباس وفيه « إن رُكانة طلّق امرأته ثلاثاً فقال له رسول الله ﷺ ارجعها ».
والثابت أن ركانه طلّق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله ﷺ ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلاّ واحدة فردّها إليه.
فهذا اضطراب في الاسم والفعل ولا يحتج بشيء من مثل هذا.
والخلاصة فإن رأي الجمهور يبقى أقوى دليلاً، وأمكن حجة، لا سيما وقد تعزّز بإجماع الصحابة والأئمة المجتهدين والله أعلم.
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾.
اختلف المفسرون في معنى قول الله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ ﴾ على أقوال عديدة نذكرها بالإجمال.
أ - المراد : الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، والآية مستقلة عمّا قبلها، وهذا قول الحجّاج بن أرطأة ومذهب الرافضة.
ب - المراد : الطلاق المسنون مرتان وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومذهب مالك رحمه الله.
ج - المراد : الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، وهذا قول قتادة وعروة واختيار الجمهور.
قال الشوكاني في تفسيره « فتح القدير » : المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم من الآية الأولى، أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، أي الطلقة الأولى والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه ( مرتان ) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة «.
الحكم الثامن : هل يبلاح للزوج أخذ المال مقابل الطلاق؟
أمر الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان، ونهى الزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطى المرأة من المهر إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ والمراد عدم إقامة حدود الله التي شرعها للزوجين، من حسن المعاشرة والطاعة والقيام بحق كلٍ من الزوجين نحو الآخر، فإن ظهرت بوادر الشقاق والخلاف، واستحكمت أسباب الكراهية والنفرة جاز للمرأة أن تفتدي، وجاز للرجل أن يأخذ المال، وطلاقُ المرأة على هذا الوجه هو المعروف ب ( الخُلع ) وقد عرّفه الفقهاء بأنه »
فراقُ الرجل زوجته على بدلٍ يأخذه منها «.
147
وفي أخذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف، فإنه هو الذي أعطاها المهر، وبذل تكاليف الزواج والزفاف، وأنفق عليها، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود وطلبت الفراق فكان من الإنصاف أن تردّ عليه ما أخذت منه.
والأصل في هذا ما رواه البخاري من قصة امرأة ثابت بن قيس وقد تقدم، وفيه قال لها عليه السلام :« أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم، فقال رسول الله ﷺ : اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة ».
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أعطاها لقوله تعالى :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ ﴾ وهذا عام يتناول القليل والكثير.
وقال الشعبي والزهري والحسن البصري : لا يحل للزوج أن يأخذ زيادة على ما أعطاها، لأنه من باب أخذ المال بدون حق، وحجتهم أن الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال والنساء فلا تجوز الزيادة، والراجح أن الزيادة تجوز ولكنها مكروهة.
وقد اختلف الفقهاء هل الخلع فسخ أو طلاق؟
فذهب الجمهور إلى أنه طلاق، وقال الشافعي في القديم إنه فسخ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا خلعها هل تحسب عليه طلقة أم لا؟ والأدلة على هذه المسألة تطلب من كتب الفروع.
الحكم التاسع : ما هو حكم المطلقة ثلاثاً، وكيف تحل للزوج الأول؟
دل قوله تعالى :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ على أن المطلقة ثلاثاً تحرم على زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر، وهي التي يسميها الفقهاء ( بائنة بينونه كبرى ) وذلك لأن الله تعالى ذكر الطلاق وبيّن أنه مرتان، ثم ذكر حكم الخلع وأعقبه بقوله :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾ فدلّ على أن المراد به الطلاق الثالث.
قال القرطبي :« المراد بقوله تعالى :﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾ الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه ».
وذهب جمهور العلماء والأئمة المجتهدون إلى أن المراد بالنكاح في قوله تعالى :﴿ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ الوطء لا العقد، فلا تحل للزوج الأول حتى يطأها الزوج الثاني.
148
وروي عن ( سعيد بن المسيب ) أنه قال : إن المطلقة ثلاثاً تحل للأول بالعقد على الثاني، وهو ضعيف لمصادمته للحديث الآتي الصحيح.
واحتج الجمهور بما رواه ابن جرير عن عائشة قالت :« جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله ﷺ فقالت : كنت عند رفاعة فلطقني فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزّبير، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب فقال لها :» تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك « » رواه أصحاب السنن.
والمراد بالعُسيلة : الجماع، شبّه اللذة فيه بالعسل.
فقد وضّحتْ السنة المطهّرة أنّ المراد من فظ النكاح في الآية الكريمة هو ( الجماع ) لا العقد، وقال بعض العلماء إن الآية نفسها فيها دلالة على ذلك، فقد قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة، فقال فرّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا : نكح فلانٌ فلانةً أرادوا أنه عقد عليها، وإذا قالوا : نكح زوجته أرادوا به المجامعة، وهنا قال تعالى :﴿ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ فالمراد منه المجامعة.
الحكم العاشر : نكاح المحلّل وهل هو صحيح أم باطل؟
المحلِّل : بكسر اللام هو الذي يتزوج المطلّقة ثلاثاً بقصد أن يحلّها للزوج الأول، وقد سمّاه عليه السلام بالتيس المستعار ففي الحديث الشريف « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلَّل له ».
وقد اختلف العلماء في نكاح المحلّل فذهب الجمهور ( مالك وأحمد والشافعي والثوري ) إلى أن النكاح باطل، ولا تحل للزوج الأول.
وقال الحنفية وبعض فقهاء الشافعية : هو مكروه وليس بباطل، لأن في تسميته بالمحلّل ما يدل على الصحة لأنها سبب الحل، وروي عن الأوزاعي أنه قال : بئس ما صنع والنكاحُ جائز.
حجة الجمهور :
استدل الجمهور على فساد نكاح المحلّل بما يلي :
أولاً - حديث « لعن رسول الله ﷺ المحلّل والمحلّل له ».
ثانياً - حديث « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : هو المحلّل... » الحديث.
ثالثاً - حديث ابن عباس « سئل رسول الله ﷺ عن نكاح المحلّل فقال :( لا » أي لا يحل « إلاّ نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عُسيلتها ) ».
رابعاً - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال :« لا أوتي بمحلّل ولا بمحلّل له إلاّ رجمتهما ».
خامساً - ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلّها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال : لا، إلاّ نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله ﷺ «.
149
الترجيح :
والحق ما ذهب إليه الجمهور لأن النكاح يقصد منه الدوام والاستمرار، والتأقيت يبطله فإذا تزوجها بقصد التحليل، أو اشترط الزوج عيه أن يطلّقها بعد الدخول فقد فسد النكاح لأنه يشبه ( نكاح المتعة ) حينئذٍ، وهو باطل باتفاق العلماء.
قال العلامة ابن كثير رحمه الله :« والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، لو وطئها وهي محرمة، أو صائمة، أو معتكفة، لم تحلّ للأول بهذا الوطء، واشترط الحسن البصري الإنزال وكأنه فهمه من قوله عليه السلام » حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك «.
ثم قال : فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو ( المحلّل ) الذي وردت الأحاديث بذمة ولعنه، ومتى صرّح بمقصود، في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة... ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك في »
تفسيره « وقد أشرنا إلى بعضها فيما ذكرناه ».
« كلام السيد رشيد رضا في » المنار « »
وقال في « تفسير المنار » :« ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً هو ما كان زوجاً صحيحاً عن رغبة، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته، فمن تزوجها بقصد الإحلال كان زواجه ( صورياً ) غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها، فإن عادت إليه كانت حراماً، ومثال ذلك من طهّر الدم بالبول، وهو رجسٌ على رجس، ونكاحُ التحليل شرٌّ من نكاح المتعة وأشد فساداً وعاراً... ثم نقل ما أورده ابن حجر المكي في كتابه » الزواجر « من الأخبار والآثار الدالة على التحريم ثم قال :
وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار، الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبة سواهم، وقد رأيت في لبنان رجلاً نصرانياً ولع بشراء الكتب الإسلامية، فاهتدى إلى حقيقة الإسلام مع الميل إلى التصوف فأسلم، وقال لي : لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله، أقبحُها مسألة ( التجحيش ) أي التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع »
.
أقول : إنَّ في التحليل مفاسد كثيرة نبّه عليها العلماء، وقد عقد العلامة ( ابن القيم ) في كتابة « أعلام الموقعين » فصولاً في بيانها، وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنها أجازته، وقد علمت الرأي الصحيح في الموضوع عن النبي ﷺ وعن الصحابة والتابعين فالصواب ألا ينسب إليها حله والله المستعان.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - وجوب العدة على المطلقة رجعية كانت أو بائنة للتعرف على براءة الرحم.
150
٢ - حرمة كتمان ما في الرحم من الحمل، ووجوب الأمانة في الإخبار عن موضوع العدة.
٣ - الزوج أحق بزوجته المطلّقة رجعياً ما دامت العدة لم تنته بعد.
٤ - الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الزوجية سواء، وله عليها درجة القوامة والإشراف.
٥ - الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان فقط وفي الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر نكاحاً شرعياً صحيحاً بقصد الدوام والاستمرار.
٦ - جواز الخلع والافتداء إذا كان ثمة مصلحة شرعية توجب الفراق.
٧ - حرمة الإضرار بالزوجة لتفتدي نفسها من زوجها بالمال على الطلاق.
٨ - لا بأس بعودة المطلّقة إلى زوجها الأول إذا طلّقها الزوج الثاني بعد المساس.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أباح الإسلام الطلاق، واعتبره أبغض الحلال إلى الله، وذلك لضرورة قاهرة، وفي ظروف استثنائية ملحّة، تجعله دواءً وعلاجاً للتخلص من شقاء محتّم، قد لا يقتصر على الزوجين بل يمتد إلى الأسرة كلها فيقلب حياتها إلى جحيم لا يطاق. والإسلام يرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتصديع لبنيانها، وتمزيق لشمل أفرادها، وضرره يتعدى إلى الأولاد، فإن الأولاد حينما يكونون في حضن أمهاتهم يكونون موضعاً للرعاية وحسن التربية، وإذا حرموا عطف الأم وحنانها تعرضوا إلى التمزيق والتشتت، ومع هذا فقد أجازه الإسلام، لدفع ضررٍ أكبر، وتحصيل مصلحة أكثر، وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا، لأن الشقاق والنزاع قد استحكم بينهما، والحياةُ الزوجية ينبغي أن يكون أساسها الحب، والوفاء، والهدوء، والاستقرار، لا التناحر، والخصام، والبغضاء.
فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه، ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف ( فاحشة الزنى ) فهل يتركها تفسد عليه نسبه، وتكدّر عليه حياته أم يطلّقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة.
وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين - كما دلت على ذلك السنة المطهرة - فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الرويّة وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألاّ يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات.
يقول الأستاذ الفاضل ( أحمد محمد جمال ) في كتابه « محاضرات في الثقافة الإسلامية » ما نصه :« ومما ينبغي ملاحظته هنا في حديثنا الموجز عن الطلاق في الإسلام، أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام ( المراجعة ) في الطلاق دون الشرائع الأخرى، حرصاً على إعادة الرباط الزوجي بين الزوجين، وحفاظاً على الذرية من الضياع والتشرد، واستصلاحاً لما فسد بين الزوجين من مودة وسكن، ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام - وهو المرة الأولى والثانية - فترة اختبار للزوجين، وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة، ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظلله من مودة ورحمة وسكن وذرية.
151
كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن الإسلام جاء ليصحّح وضعاً خاطئاً، ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى، إذ كان العرب يطلّقون دون حصر أو عدد، فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها إضراراً لها، حيث تظل معلّقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة، ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا، فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حداً، ولهذا الظلم النازل بالنساء قيداً ﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان ﴾.
152
[ ١٧ ] أحكام الرضاع
التحليل اللفظي
﴿ والوالدات ﴾ : جمع والدة بالتاء، والوالد : الأب، والوالدة : الأم، وهما الوالدان كذا في « اللسان »، قال في « البحر » : وكان القياس أن يقال : والد، لكن قد أطلق على الأب والد فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد فأطلق عليهما والدان.
﴿ حَوْلَيْنِ ﴾ : أي سنتين من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلبٌ من الوقت الأول إلى الثاني.
قال الراغب : والحول السنة اعتباراً بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها.
﴿ المولود لَهُ ﴾ : أي الأب، لأن الأولاد ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات قال الشاعر :
فإنّما أمهاتُ الناسِ أوعيةٌ مستودَعاتٌ وللآباء أبناء
﴿ فِصَالاً ﴾ : فطاماً عن الرضاع، والفِصَال والفَصْلُ : الفطام، وإنما سمي الفطام بالفصال، لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات.
قال المبرّد : يقال : فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً، والفصالُ أحسن، لأنه إذا انفصل عن أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال، والضراب ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه.
﴿ وَتَشَاوُرٍ ﴾ : التشاور في اللغة : استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشور وهو استخراج العسل.
قال الراغب : والتشاور والمشاورة والمشورة : استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شِرتُ العسل إذا استخرجته من موضعه.
﴿ تسترضعوا ﴾ : أي تطلبوا الرضاع لأولادكم يقال : استرضع أي طلب الرضاع، مثل : استفتح طلب الفتح، واستنصر طلب النصر.
والمعنى : إذا أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا المراضع لأولادكم أي تطلبوا لهم من يرضعهم فلا إثم عليكم ولا حرج.
﴿ بالمعروف ﴾ : أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً الذي أمركم به الدين.
﴿ بَصِيرٌ ﴾ : أي مطلع على عمالكم، لا تخفى عليه خافية والمراد أنه مجازيكم عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
المعنى الإجمالي
أمر الله تعالى الوالدات ( المطلّقات ) بإرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة، وأنّ على الولد كفاية المرضع التي تقوم بإرضاع ولده، والإنفاق عليها لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف والقدرة والطاقة لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ثم حذّر تعالى كلاً من الوالدين أن يضارّ أحدهما الآخر بسبب الولد، فلا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع الولد إضراراً بأبيه، وأن تقول له مثلاً : اطلب له ظئراً غيري، ولا يحل للأب أن ينزع الولد منها مع رغبتها في إرضاعه، ليغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد.
ثمّ بيّن تعالى أن الوالدين إذا أرادوا فطام ولدهما بعد التشاور والتراضي قبل تمام الحولين فلا إثم ولا حرج إذا رأيا استغناء الطفل عن لبن أمه بالغذاء، فإن هذا التحديد إنما هو لمصلحة الطفل ودفع الضرر عنه، والوالدان أدرى الناس بمصلحته وأشفقهم عليه وإن أردتم - أيها الآباء - أن تطلبوا مرضعة لولدكم غير الأم بسبب إبائها، أو عجزها أو إرادتها الزواج، فلا إثم عليكم في ذلك، بشرط أن تدفعوا إلى هذه المرضعة ما اتفقتم عليه من الأجر، ولا تبخسوها حقها، فإن المرضع إذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإرضاعه ولا بسائر شؤونه، فأحسنوا معاملتهن ليحسنّ أمور أولادكم، واتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن الله مطلّع عليكم لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وأنه مجازيكم عليها يوم الدين
153
﴿ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفطار : ١٩ ].
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ﴾ وقرأ مجاهد ( أن تَتمّ الرضاعةُ ) بالتاء وبرفع الرضاعة، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة ( الرّضاعة ) بكسر الراء. قال الزجاج « الرّضاعة » بفتح الراء وكسرها والفتح أكثر.
٢ - قرأ الجمهور ﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ ﴾ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( لا تضارّ ) بالرفع على أن ( لا ) نافية.
٣ - قوله تعالى :﴿ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم ﴾ قرأ الجمهور ﴿ آتَيْتُم ﴾ بالمد، وقرأ ابن كثير ﴿ أتيتم ﴾ بالقصر.
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى :﴿ وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، و ( رزقهن ) مبتدأ مؤخر وهو مضاف أي رزق المرضعات و ( بالمعروف ) متعلق بت ( رزقهن ).
ثانياً - قوله تعالى :﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ لا ناهية جازمة و ( تضارّ ) أصلها ( تضارر ) سكنت الراء الأخيرة للجزم والراء الأولى للإدغام فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين و ( والدة ) فاعل والمفعول به محذوف تقديره : لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها.
ثالثاً - قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ ﴾ استرضع يتعدى لمفعولين الثاني بحرف الجر والمعنى : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، حذف المفعول الأول لاستغناء عنه.
قال الواحدي :« أي أولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلاّ الأولاد، ونيظره قوله تعالى :﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ﴾ [ المطففين : ٣ ] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ».
وجه الارتباط في الآيات السابقة
مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات، أنه تعالى لما ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح، والطلاق، والعدة، والرجعة، والعضل، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع، لأن الطلاق يحصل به الفراق، فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقاماً من الزوج وإيذاءً له، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ورد الأمر بصيغة الخبر للمبالغة أي ليرضعن، والجملة ظاهرها الخبر وحقيقتها الأمر كقول :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] والتعبير عنهن بلفظ ( الوالدات ) دون قوله : والمطلقات أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد، فحصول الطلاق لهن لا ينبغي أن يحرمن عاطفة الأمومة.
154
اللطيفة الثانية : العدول عن قوله : وعلى الوالد إلى قوله :﴿ وَعلَى المولود لَهُ ﴾ فيه لطيفة وهي أن الأولاد يتبعون الأب ويلتحقون بنسبه دون الأم، فالموجب المقتضي للإنفاق على الأمهات والمرضعات كون الأولاد لهم فعليهم تجب النفقة، واللفظ يشعر بالمنحة وشبه التمليك ولهذا أتى به دون لفظ الوالد.
قال الزمخشري :« فإن قلت : لم قيل ( المولود له ) دون الوالد؟ قلت : ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات ».
اللطيفة الثالثة : قال أبو حيان : وصف الله تعالى الحولين بالكمال ( حولين كاملين ) دفعاً للمجاز الذي يحتمله ذكر الحولين، إذ يقال : أقمتُ عند فلان حولين وإن لم يستكملهما، وهي صفة توكيد كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ].
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ أضاف الولد في الآية إلى كل من الأبوين ﴿ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ و ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين، هذه أمه وذاك أبوه، فمن حقهما أن يشفقا عليه، ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإضرار بالولد.
قال العلامة أبو السعود :« إضافة الولد إلى كلٍ منهما لاستعطافهما إليه، وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه، ولا ينبغي أن يضرا به أو يتضارّا بسببه ».
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى :﴿ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ ﴾ التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتلوين في التعبير لأن الآية قبله ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً ﴾ جاء بضمير التثنية للغائب، وهنا جاء بضمير الجمع للمخاطب، وفائدة هذا الالتفات هز مشاهر الآباء إلى امتثال أمر الله في الأبناء.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟
أ - قال بعضهم : لفظ الوالدات في الآية خاص بالمطلقات، وهو قول مجاهد والضحاك، والسدّي. واستدلوا بأن الآيات السابقة كانت في أحكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها، وبأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب، لأن النفقة واجبة على الزوج من أجل الزوجة، ثم تعليل الحكم بالنهي على المضارّة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات، لأنّ التي في عصمة الزوجية لا تضارّ ولدها.
ب - وقال بعضهم : إنه خالص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح، وهو اختيار الواحدي كما نقله عنه الرازي والقرطبي، ودليلهم أن المطلّقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى :﴿ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ﴾ دلّ على أن المراد بهن الأمهات الزوجات.
ج - وقال آخرون : المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواءً كنّ مزوجات أو مطلقات، عملاً بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه وهو اختيار القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي مع آخرين، ولعل هذا القول هو الأرجح وقد ذهب إليه أبو حيان في « البحر المحيط ».
155
الحكم الثاني : هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها لظاهر قوله تعالى :﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ فهو أمر في صورة الخبر أي :( ليرضعن أولادهن ).
وهذا مذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجيّة فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلاّ أن تشاء هي إرضاعه فهو أحق، ولها أجرة المثل.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر هنا للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلاّ إذا تعينّت مرضعاً بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزاص عن استئجار ظئر ( مرضعة ) ترضعه، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا بقوله تعالى :﴿ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى ﴾ [ الطلاق : ٦ ] ولو كان الإرضاع واجباً لكلفها الشرع به، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لين الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر.
الحكم الثالث : ما هي مدة الرضاع الموجب للتحريم؟
ذهب الجمهور الفقهاء ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الرضاع الذي يتعلق به حكم التحريم، ويجري به مجرى النسب بقوله عليه السلام :« يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » هو ما كان في الحولين واستدلوا بقوله تعالى :﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال :« لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين ».
وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرّم سنتان ونصف لقوله تعالى :﴿ وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ].
قال العلامة القرطبي :« والصحيح الأول لقوله تعالى :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ وهذا يدل على أن لا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين، ولقوله عليه السلام :» لا رضاع إلا ما كان في الحولين « وهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له، وقد روي عن عائشة القول به، وبه يقول :( الليث بن سعد ) وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير، وروي عنه الرجوع عنه ».
الحكم الرابع : كيف تقدر نفقة المرضع؟
دل قوله تعالى :﴿ وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف ﴾ على وجوب النفقة للمرضع على الزوج، والنفقة تكون على قدر حال الأب من السعة والضيق لقوله تعالى :﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ وقد دل على ذلك أيضاً قوله تعالى :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله ﴾ [ الطلاق : ٧ ] وأخذ الفقهاء من آية البقرة ﴿ وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ ﴾ وجوب النفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، فتجب نفقته على أبيه ا دام صغيراً لم يبلغ سن التكليف.
156
قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين :
أحدهما : أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه.
والثاني : أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان.
وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم، وهما جميعاً وارثان، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار، والكبار الزمني، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه «.
الحكم الخامس : ما المراد من قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك ﴾ ؟
واختلف المفسّرون في المراد من لفظ ﴿ الوارث ﴾ في الآية الكريمة على أقوال :
أ - قال بعضهم : المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات، وهو قول عطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة، وقال آخرون : وارثه من الرجال أو النساء وهو قول ( أحمد ) وإسحاق، وقال آخرون : وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود، وهو قول ( أبي حنيفة ) وصاحبيه.
ب - وقال بعضهم : المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن، والسُدّي.
ج - وقال بعضهم : المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري.
د - وقال آخرون : المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال.
وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - على الأمهات إرضاع الأبناء، لأن لبن الأم أصلح وشفقتها على ولدها أكمل.
٢ - نسب الأولاد للآباء، والآباءُ أحق بالتعهد والحماية والإنفاق.
٣ - النفقة على قدر طاقة الوالد عسراً ويسراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
٤ - نفقة الصغير تجب على وارثه عند فقد أبيه لأن الغُرْم بالغنم.
٥ - فطام الطفل قبل عامين ينبغي أن يكون بمشورة ورضى الأبوين.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حث الله تعالى الأمهات على إرضاع الأبناء، وحدّد مدة الرضاع بعامين كاملين، لأن هذه المدة يستغني بها الطفل عن ثدي أمه، ويبدأ بالتغذي بعدها عن طريق تناول الطعام والشراب.. وليس هناك لبن يعادل لبن الأم، فهو أفضل غذاء باتفاق الأطباء فالولد قد تكوّن من دمها في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحوّل الدم إلى لبنٍ يتغذى منه، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه لأنه قد انفصل من الأم، وقد قضت الحكمة الإلهية أن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها، ومعرفة أخلاقها وطبائعها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دماً له ينموا به اللحم، ويُنشز العظم، فيؤثر فيه جسمياً وخلقياً، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية؟!
والأم حين ترضع ولدها لا ترضعه اللبن فحسب، بل ترضعه العطف والرحمة والحنان، فينشأ مجبولاً على الرحمة، محباً للخير، وعلى العكس حال أولئك الذين يحرمون عطف وحنان أمهاتهم، يكونون معقّدين، وتفتعل في نفوسهم نوازع القسوة والشر والانتقام، وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية إلى هذا الأمر، حتى كان نساء القياصرة يرضعن أولادهن بأنفسهن، ولا يرضين تسليمهم إلى المراضع.
157
فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شؤونهم!! حتى الأمهات اللواتي فطرهن الله تعالى على التلذذ بإرضاع أولادهن والغبطة به، قد صار نساء الأغنياء منهن في هذا الزمان يرغبن عنه ترفعاً وطمعاً في السمن وبقاء الجمال وكل هذا مقام لسنة الفطرة، ومفسد لتربية الأولاد، ولسنا نرى ديناً تعرض لمحاسن تربية النشء مثل ما تعرض له الإسلام، فاللهم وفقنا للاهتداء بهديه الكريم إنك سميع مجيب الدعاء.
158
التحليل اللفظي
﴿ يُتَوَفَّوْنَ ﴾ : أي يموتون ويُقبضون قال تعالى :﴿ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] وأصل التوفي : أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات فقد استوفى عمره ورزقه.
قال أبو السعود :« أي تقبض أرواحهم بالموت، فإن التوفي هو القبض يقال : توفيت مالي أي قبضته ».
وقال الإمام الفخر :« يقال : توفىّ فلان، وتُفي إذا مات، فمن قال : تُوفّى كان معناه قُبض وأخذ، ومن قال : تَوفّى كان معناه أجله واستوفى عمره ».
﴿ وَيَذَرُونَ ﴾ : أي يتركون، وهذا الفعل لا يستعمل منه الماضي ولا المصدر، ومثله ( يدع ) ليس له ماضٍ ولا مصدر، يقال : فلان يَدع كذا ويَذر، ويأتي منهما الأمر يقال : دعْهُ وذرْه قال تعالى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ [ المدثر : ١١ ].
﴿ أَزْوَاجاً ﴾ : الأزواج هاهنا : النساء، والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له، وربما ألحقوا بها الهاء فقالوا : زوجة وهو خلاف الأفصح.
﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ : التربص الانتظار ومنه قوله تعالى :﴿ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾ [ التوبة : ٢٤ ] وقد تقدم.
﴿ بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ : الأجل : المدة المضروبة للشيء، ويقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان : أجل قال تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ... ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] والمراد هنا : انقضاء العدة.
﴿ خَبِيرٌ ﴾ : الخبير العالم بالأمور خفيّها وجليّها الذي لا تخفى عليه خافية.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : الذين يموتون من رجالكم، ويتركون أزواجهم بعد الموت، على هؤلاء الزوجات أن ينتظرن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرة أيام، يمكثن في العدة حداداً على أزواجهن، فلا يتعرضن للخُطَّاب، ولا يتزينن ولا يتطيّبن، ولا يخرجن من بيوت أزواجهن ما دُمْن في العدة فإذا انقضت عدتهن فلا جناح ولا إثم عليكم أيها الأولياء في تركهنّ أن يتزوجن، ويفعلن ما أباحه لهن الشرع من الزينة والتطيب، والله عليم بأعمالكم. خبير بأفعالكم، لا تخفى عليه خافية فاتقوه وأطيعوه في ما أمركم به، ومنه الحداد على الأزواج.
وجوه الإعراب
قوله تعالى :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ﴾ في إعرابه وجهان :
أحدهما أن ﴿ والذين ﴾ مبتدأ، و ﴿ يُتَوَفَّوْنَ ﴾ مضارع مبني للمجهول، والخبر محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون.
والثاني : أن المبتدأ محذوف و ( الذين ) قام مقامه تقديره : وأزواج الذين يتوفون منكم، ودل على المحذوف قوله :﴿ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً ﴾ والخبر ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾.
قال الطبري :« فإن قال قائل : فأين الخبر عن الذين يتوفون؟ قيل : متروك لأنه لم يقصد الخبر عنهم، وإنما قصد الخبر عن الواجب على المعتدات في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر عنهم إلى الخبر عن أزواجهم، وهو نظير قول الشاعر :
لعلّي إنْ مالتْ بي الريحُ ميلة على ابن أبي زبّان أن يتندما
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت أن يقال : تُوفي فلان، بالبناء للمفعول، والتعبير باسم الفاعل يعده البعض لحناً، لأنه مقبوضٌ لا قابض، وقد روي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان خلف جنازة، فقال له رجل : من المُتَوفّي؟ فقال :»
اللهُ تعالى « وكان هذا من أسباب وضع أحكام النحو.
159
اللطيفة الثانية : الزوج يطلق على الذكر والأنثى، وهو في الأصل العدد المكّون من اثنين، وسمي كل من الرجل والمرأة ( زوجاً ) لأن حقيقة الزوج مكونة من شيئين اتحدا فصارا شيئاً واحداً، ولهذا وضع لهما لفظ واحد، فهما في الظاهر شيئان، وفي الباطن شيء واحد، ومقتضى الزوجية أن يتحدا حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر.
اللطيفة الثالثة : روى ابن جرير الطبري عن أم سلمة رضي الله عنها، أن امرأة توفي عنها زوجها، واشتكت عينها، فأتت النبي ﷺ تستفتيه في الكحل فقال لها :« لقد كانت إحداكنّ تكون في شر أحلاسها، فتمكث في بيتها في بيتها حولاً إذا توفي زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة، أفلا أربعة أشهر وعشراً؟! » اللطيفة الرابعة : الحكمة في تحديد عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر أيام، هي أن الغاية الأصلية معرفة براءة الرحم، والجنين يتكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقه، ثم أربعين يوماً مضغة، كما دل على ذلك الحديث الصريح الصحيح، فهذه مائة وعشرون يوماً، ثم تنفخ فيه الروح بعد هذه المدة، فزيدت العشر لذلك، وقد سئل أبو العالية : لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر؟ فقال : لأن الروح فيها تنفخ.
الحكم الأول : هل الآية ناسخة لآية الاعتداد بالحول؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] فقد كانت العدة حولاً كاملاً، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في ( التلاوة ) على آية الاعتداد بالحول، إلاّ أنها متأخرة في ( النزول ) فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول بل هو توقيفي فتكون ناسخة، وذهب بعضهم إلى أنه ليس في الآية نسخ، وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما نقصت من أربع إلى اثنين لم تكن نسخاً وإنما كانت تخفيفاً.
قال القرطبي :« وهذا غلطٌ بيّن، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشراً فهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء ».
الحكم الثاني : ما هي عدة الحامل المتوفي عنها زوجها؟
عدة الحامل المتوفي عنها زوجها ( وضع الحمل ) لقوله تعالى :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ٤ ] فالآية هذه قد خصّصت العموم الوارد في قوله تعالى :﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ... ﴾ وهذا قول جمهور العلماء.
وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن الحامل تعتدّ بأبعد الأجلين، بمعنى أنها إذا كانت حاملاً فوضعت الحمل ولم تنته مدة العدة ( أربعة أشهر وعشر ) تبقى معتدة حتى تنتهي المدة، وإذا انتهت المدة ولم تضع الحمل تنتظر حتى وضع الحمل، فإذا قعدت أبعد الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح.
160
قال القرطبي : وهذا نظرٌ حسن لولا ما يعكر عليه من حديث ( سبيعة الأسلمية ) وهو في الصحيح.
حجة الجمهور :
استدل الجمهور على أن عدة الحامل وضع الحمل بالكتاب والسنة :
أ - أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ٤ ]، فهذه عامة في المطلّقة والمتوفى عنها زوجها، وقد جعل الله العدة فيها بوضع الحمل.
ب - وأما السنة فما روي عن ( سُبيعة الأسلمية ) أنها كانت تحت ( سعد بن خولة ) وهو ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنْشبْ ( أي تلبث ) أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها ( أي طهرت من دم النفاس ) تجمّلت للخُطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : ما لي أراك متجملة، لعلّك ترجِّينَ النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمرّ عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ، فأتيتُ رسول الله ﷺ فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللْتُ حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي «.
قال ابن عبد البر :»
وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث ( سُبيْعة ) لمّا احتُج به عليه، قال : ويصحّح ذلك أن أصحابه أفتوا بحديث سُبيْعة كما هو قول أهل العلم قاطبة «.
وقال القرطبي :»
فبيّن الحديثُ أن قوله تعالى :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [ الطلاق : ٤ ] محمول على عمومه في المطلقات، والمتوفّى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنْفين، ويعتضد هذا بقول ابن مسعود :« من شاء باهلته، إن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة ».
الحكم الثالث : ما هو الإحداد، وكم تحد المرأة على زوجها؟
أوجبت الشريعة الغراء أن تحد المرأة على زوجها المتوفى مدة العدة وهي ( أربعة أشهر وعشر ) ويجوز لها أن تحد على قريبها الميت ثلاثة أيام، ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك، لما روي في « الصحيحين » عن زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان ( أبوها ) فدعت أم حبيبة بطيبٍ فيه صفرة خلوق وغيره فدهنت منه جارية ثم مسّت بعارضيها، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله ﷺ يقول على المنبر :« لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ».
161
معنى الإحداد : والإحداد هو ترك الزينة، والتطيب، والخضاب، والتعرض لأنظار الخاطبين، وهو إنما وجب على الزوجة وفاءٌ للزوج، ومراعاة لحقه العظيم عليها، فإن الرابطة الزوجية أقدس رباط، فلا يصح شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل، وقد كانت المرأة تحد على زوجها حولاً كاملاً تفجعاً وحزناً على زوجها، فنسخ الله ذلك وجعله أربعة أشهر وعشراً.
روى البخاري ومسلم « عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله :» إنّ ابنتي تُوفّي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال : لا، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا! ثم قال : إنما هي أربعة أشهر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية تمكث سنة « قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً، ولبست شر ثيابها، ولم تمسّ طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو شاة فتفتضّ بها، فقلما تفتضّ بشيء إلا مات.
وقد استنبط بعض العلماء وجوب الإحداد من قوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ ﴾ أي من زينةٍ وتطيب، فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو استنباط حسن دقيق، وقال بعضهم : الإحداد يكون بالتربص عن الأزواج والنكاح خاصة وهو ضعيف.
قال ابن كثير :»
والإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة، والأمة، والمسلمة، والكافرة لعموم الآية «.
الحكم الرابع : لماذا شرعت العدة على المرأة؟
ذكر العلماء لحكمة مشروعية العدة وجوهاً عديدة نجملها فيما يلي :
أ - معرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض.
ب - للتعبد امتثالاً لأمر الله تعالى حيث أمر بها النساء المؤمنات.
ج - إظهار الحزن والتفجع على الزوج بعد الوفاة اعترافاً بالفضل والجميل.
د - تهيئة فرصة للزوجين ( في الطلاق ) لإعادة الحياة الزوجية عن طريق المراجعة.
ه - التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لا يتم إلا بانتظار طويل، ولولا ذلك لأصبح بمنزلة لعب الصبيان، يتم ثم ينفك في الساعة.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
فرض الله العدة على المسلمة، حفاظاً على كرامة الأسرة، ورعاية لها من التحلل والتفكك واختلاط الأنساب، وإحداداً على الزوج بإظهار التفجع والحزن عليه بعد الوفاة، احتراماً للرابطة المقدسة ( رابطة الزواج ) واعترافاً بالفضل والجميل لمن كان شريكاً في الحياة، وقد كانت العدة في الجاهلية حولاً كاملاً، وكانت المرأة تحد على زوجها شرّ حداد وأقبحه، فتلبس شرّ ملابسها، وتسكن شر الغُرف وهو ( الحفش ) وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمسّ ماءًن ولا تقلّم ظفراً، ولا تزيل شعراً، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر، وأنتن رائحة، فتنتظر مرور كلب لترمي عليه بعرة احتقاراً لهذه المدة التي قضتها، وتعظيماً لحق زوجها عليها.
162
فلما جاء الإسلام أصلح هذه الحال، فجعل الحداد رمز ( طهارة ) لا رمز ( قذارة )، وجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرّم إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي الزواج، دون النظافة والطهارة فإنهما شعار المسلم، وأباح له الجلوس في كل مكان من البيت، كما أباح لها الاجتماع مع النساء والمحارم من الرجال. ونساء المسلمين اليوم لا يسرن على هدي الإسلام في الحداد، فمنهن من تغالي في الحداد، وتغرق في النوح والندب، والخروج على المألوف من العادات، في اللباس والطعام والشراب، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على آبائهن أو أولادهن السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين.
فالخير كل خير في إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلاّ إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش، وفساد آداب المعاشرة، ولا سبيل إلاّ بالعودة لأحكام الشرع بالحداد ثلاثة أيام على القريب، وأربعة أشهر وعشراً على الزوج، وجعل الحداد مقصوراً على ترك الزينة والطيب والخروج من المنزل.
163
[ ١٩ ] خطبة المرأة واستحقاق المهر
التحليل اللفظي
﴿ عَرَّضْتُمْ ﴾ : التعريض : الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح، وهو مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه.
قال في « اللسان » : وعرّض بالشيء : لم يبيّنه، والتعريض خلاف التصريح، والمعاريض : التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث :« إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب » والتعريضُ في خِطْبة المرأة : أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول : إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير، كما يقول المحتاج للمعونة : جئت لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضينا... ﴿ خِطْبَةِ النسآء ﴾ : الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح، وبالضم معناها : ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة، وفي الحديث « لا يخِطبن أحدكم على خِطْبة أخيه ».
﴿ أَكْنَنتُمْ ﴾ : سترتم وأضمرتم، والإكنان : السرّ والخفاء.
قال ابن قتيبة : أكننتُ الشيء : إذا سترته، وكنتُه : إذا صُنته، ومنه قوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ [ الصافات : ٤٩ ].
﴿ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ : المراد بالسر هنا : النكاح ذكره الزجاج وأنشد :
ويحرم سرّ جارتهم عليهم ويأكل جارُهم أنف القصاع
قال ابن قتيبة : استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً بين الزوجين.
والمعنى : لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحاً.
﴿ عُقْدَةَ النكاح ﴾ : العُقدة من العقد وهو الشدُ، وفي المثل :( يا عاقدُ اذكر حلاً ).
قال الراغب : العُقدة : اسم لما يعقد من نكاح، أو يمين، أو غيرهما.
وقال الزجاج معناه : لا تعزموا على عقدة النكاح، حذفت ( على ) استخافاً كما قالوا : ضرب زيد الظهر والبطن، معناه : على الظهر والبطن.
﴿ أَجَلَهُ ﴾ : أي نهايته، والمراد بالكتاب : الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة.
ومعنى قوله :﴿ حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ﴾ : أي حتى تنقضي العدة.
﴿ فاحذروه ﴾ : أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره، وفيه معنى التهديد والوعيد.
﴿ حَلِيمٌ ﴾ : يمهل العقوبة فلا يعجّل بها، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل.
﴿ الموسع ﴾ : الذي يكون في سعة لغناه، يقال أوسع الرجل : إذا كثر ماله.
﴿ المقتر ﴾ : الذي يكون في ضيق لفقره، يقال : أقتر الرجل : إذا افتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة.
﴿ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ : المسّ : إمساك الشيء باليد، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ.
قال الراغب : المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس، وكنيّ به عن الجماع فقيل : مسّها وماسّها قال تعالى :﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ].
﴿ فَرِيضَةً ﴾ : الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله.
﴿ يَعْفُونَ ﴾ : معناه : يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر.
المعنى الإجمالي
بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه :« لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات، بطريق التلميح لا التصريح، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن، والرغبة في الزواج بهن، ولا يؤاخذكم على ذلك، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه.
164
ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، وأمر بدفع المتعة لهن تطيباً لخاطرهن، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض، إلا إذا أسقطت حقها، أو دفع الزوج لها كامل المهر، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة.
ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة، والإحسان، والجميل بين الزوجين، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى.
سبب النزول
قال الخازن في « تفسيره » :« نزلت هذه الآية ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء ﴾ في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ الآية فقال له رسول الله ﷺ أمتعها ولو بقلنسوتك ».
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ وقرأ حمزة والكسائي ( تُماسُوهنّ ) بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة.
٢ - قرأ الجمهور ﴿ عَلَى الموسع قَدَرُهُ ﴾ بالرفع، وقرأ ابن كثير ونافع ( قدْرُه ) بسكون الدال.
٣ - قرأ الجمهور ﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾ وقرئ ( وأن يَعْفوا ) بالياء.
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى :﴿ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ لكنْ حرفُ استدراك، والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن و ( سرّاً ) مفعول به لأنه بمعنى النكاح، أي لا تواعدوهنّ نكاحاً، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سراً.
ثانياً - قوله تعالى :﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح ﴾ منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح.
ثالثاً - قوله تعالى :﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ ما : مصدرية والزمان معها محذوف تقديره : في من ترك مستهنّ، وقيل :( ما ) شرطية أي ( إن لم تمسوهن ).
رابعاً - قوله تعالى :﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم، و ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه.
165
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أباح القرآن ( التعريض ) في خطبة المعتدة دون التصريح، ومن صور التعريض أن يقول : إنك لجميلة، أو صالحة، أو نافقة، أو يذكر الشخص مآثره أمامها.
روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته ( سُكينة بنت حنظلة ) قالت :« دخل عليّ ( أبو جعفر ) محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال : أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله ﷺ وحقّ جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال : أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ﷺ وموضعي، دخل رسول الله ﷺ على أم سلمة حين توفي عنها زوجها ( أبو سلمة ) فلم يزل رسول الله ﷺ يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة ».
اللطيفة الثانية : قال الزمخشري :« السرّ في الآية ﴿ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر، قال الأعشى :
ولا تقربَنْ من جارةٍ إنّ سرّها عليك حرامٌ فانكحنْ أو تأبدا
ثمّ عبر فيه عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح.
اللطيفة الثالثة : ذكر العزم في الآية ﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح ﴾ للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى.
اللطيفة الرابعة : عبّر تعالى بالمساس عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم.
قال أبو مسلم :»
وإنما كنّى تعالى بقوله :﴿ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ عن المجامعة، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به «.
اللطيفة الخامسة : الخطاب في قوله تعالى :﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾ وفي قوله :﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ﴾ للرجال والنساء جميعاً ورد بطريق التغليب.
قال الفخر :»
إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور، لأن الذكورة أصل، والتأنيث فرع، ألا ترى أنك تقول : قائم ثم تريد التأنيث فتقول : قائمة «.
اللطيفة السادسة : الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال.
قال ابن عباس : إن كان موسراً متّعها بخادم، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب.
اللطيفة السابعة : روي أن ( الحسن بن علي ) متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة :
متاعٌ قليلٌ من حبيب مفارق... وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ ( عائشة الخثعمية ) كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت : لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال : يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثاً، فتلفعت بجلبابها، وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت :
166
متاع قليل من حبيب مفارق... فلما أخبره الرسول بكى وقال : لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم خطبة النساء؟
النساء في حكم ( الخِطْبة ) على ثلاثة أقسام :
أحدها : التي تجوز خطبتها ( تعريضاً وتصريحاً ) وهي التي ليست في عصمة أحد من الأزواج، وليست في العدة، لأنه لمّا جاز نكاحها جازت خطبتها.
الثاني : التي لا تجوز خطبتها ( لا تصريحاً، ولا تعرضاً ) وهي التي في عصمة الزوجية، فإنّ خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام، وكذلك حكم المطلّقة رجعياً فإنها في حكم المنكوحة.
الثالث : التي تجوز خطبتها ( تعريضاً ) لا ( تصريحاً ) وهي المعتدة في الوفاة، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء ﴾ ومثلها المعتدة البائن المطلّقة ثلاثاً فيجوز التعريض لها دون التصريح.
والدليل على حرمة التصريح ما قاله الشافعي رحمه الله :« لمّا خُصّص التعريض بعدم الجناح، وجب أن يكون التصريح بخلافه » وهذا الاستدلال دلّ عليه مفهوم المخالفة.
الحكم الثاني : هل النكاح في العدة صحيح أم فاسد؟
حرّم الله النكاح في العدة، وأوجب التربص على الزوجة، سواءً كان ذلك في عدة الطلاق، أو في عدة الوفاة، وقد دلت الآية وهي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ﴾ على تحريم العقد على المعتدة، واتفق العلماء على أن العقد فاسد ويجب فسخه لنهي الله عنه. وإذا عقد عليها وبنى بها فُسخ النكاح، وحرمت على التأبيد عند ( مالك وأحمد ) فلا يحل نكاحها أبداً عندهما لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك، ولأنه استحلّ ما لا يحل فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه من الميراث.
وقال أبو حنيفة والشافعي : يُفسخ النكاح، فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطباً من الخطاب، ولم يتأبد التحريم، لأنّ الأصل أنها لا تحرم إلا بدليل من كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماع، وليس في المسألة شيء من هذا، وقالوا : إنّ الزنى أعظم من النكاح في العدة، فإذا كان الزنى لا يحرمها عليه تحريماً مؤبداً، فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم، وما نقل عن عمر فقد ثبت رجوعه عنه.
قضاء عمر رضي الله عنه في الحادثة
روى ابن المبارك بسنده عن مسروق أنه قال :« بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما، وقال : لا ينكحْها أبداً، وجعل الصداق في بيت المال، وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال : يرحم الله أمير المؤمنين! ما بال الصداق وبيت المال! إنما جهلا فينبغي أن يردهما السنة. قيل : فما تقول أنت فيهما؟ قال : لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثم يخطبها إن شاء.
167
فبلغ ذلك عمر فقال : يا أيها الناس ردّوا الجهالات إلى السنة «.
الحكم الثالث : ما هو حكم المطلقة قبل الدخول؟
وضحّت الآيات الكريمة أحكام المطلقات، وذكرت أنواعهنّ وهنّ كالتالي :
أولاً : مطّلقة مدخول لها، مسمّى لها المهر.
ثانياً : مطلّقة غير مدخول بها، ولا مسمّى لها المهر.
ثالثاً : مطلّقة غير مدخول بها، وقد فرض لها المهر.
رابعاً : مطلّقة مدخول بها، وغير مفروض لها المهر.
فالأولى ذكر الله تعالى حكمها قبل هذه الآية، عدّتُها ثلاثة قروء، ولا يُسترد منها شيء من المهر ﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ].
والثانية : ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، ليس لها مهرٌ، ولها المتعة بالمعروف لقوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ... ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] الآية كما أن هذه ليس عليها عدة باتفاق لقوله تالى في سورة الأحزاب [ ٤٩ ] ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ > والثالثة : ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية، لها نصف المهر ولا عدة عليها أيضاً لقوله تعالى :﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾.
والرابعة : ذكرها الله تعالى في سورة النساء [ ٢٤ ] بقوله :﴿ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ [ النساء : ٢٤ ] فهذه يجب لها مهر المثل. قال الرازي ويدل عليه أيضاً القياس الجلي، فإن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذه الحكم.
الحكم الرابع : هل المتعة واجبة لكل مطلّقة؟
دل قوله تعالى :﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ ﴾ على وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض، وقد اختلف الفقهاء هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟
فذهب ( الحسن البصري ) إلى أنها واجبة لكل واجبة لكل مطلّقة للعموم في قوله تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ [ البقرة : ٢٤١ ].
وقال مالك : إنها مستحبة للجميع وليست واجبة لقوله تعالى :﴿ حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ [ البقرة : ٢٤١ ] و ﴿ حَقّاً عَلَى المحسنين ﴾ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.
وذهب الجمهور ( الحنفية والشافعية والحنابلة ) إلى أنها واجبة للمطلّقة التي لم يفرض لها مهر، وأمّا التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة وهذا مروي عن ( ابن عمر ) و ( ابن عباس ) و ( علي ) وغيرهم، ولعله يكون الأرجح جمعاً بين الأدلة والله أعلم.
الحكم الخامس : ما معنى المتعة وما هو مقدارها؟
المتعة : ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة أو متاع لزوجته المطلّقة، عوناً لها وإكراماً، ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها، وتقديرُها مفوض إلى الاجتهاد.
قال مالك : ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
168
وقال الشافعي : المستحب على الموسم خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة.
وقال أبو حنيفة : أقلها درع وخمار وملحفة، ولا تزاد على نصف المهر.
وقال أحمد : هي درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة، ونقل عنه أنه قال : هي بقدر يسار الزوج وإعساره ﴿ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ ﴾ وهي مقدرة باجتهاد الحاكم، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - جواز التعريض في خطبة المعتدة من الوفاة ومن الطلاق البائن.
٢ - حرمة عقد النكاح على المعتدّة في حالة العدة وفساد هذا العقد.
٣ - المتعة واجبة لكل مطلّقة لم يذكر لها مهر، ومستحبة لغيرها من المطلقات.
٤ - إباحة تطليق المرأة قبل المسيس إذا كانت ثمة ضرورةٌ ملحة.
٥ - المطلّقة قبل الدخول لها نصف المهر إذا كان المهر مذكوراً.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الباري جل وعلا المتعة للمطلّقة، وجعلها على قدر حال الرجل يساراً وإعساراً، وهذه ( المتعة ) واجبة للمطلّقة قبل الدخول، التي لم يُسمّ مهر، ومستحبة لسائر المطلقات. والحكمة في شرعها أنّ في الطلاق قبل الدخول امتهاناً للمرأة وسوء سمعة لها، وفيه إيهامٌ للناس بأن الزوج ما طلّقها إلاّ وقد رابه شيء منها في سلوكها وأخلاقها، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَله، لا من قِبَلها، ولا علة فيها، فتحفظ بما كان لها من صيتٍ وشهرة طيبة، ويتسامع الناس فيقولون : إن فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو معترف بفضلها مقر بجميلها، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها، ويكون أيضاً كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.
وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال، ولهذا أمر حتى في حالة الطلاق الذي يسبّب في الغالب النزاع والبغضاء بأن لا ننسى الجميل والمودة والإحسان ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة، فينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلّق، ألاّ ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، فأين نحن المسلمين من هدي هذا الكتاب المبين؟! وأين نحن من إرشاداته الحكيمة، وآدابه الفاضلة؟!
169
[ ٢٠ ] الربا جريمة اجتماعية خطيرة
﴿ الرباوا ﴾ : الربا في اللغة : الزيادة مطلقاً، يقال ربا الشيء يربو : إذا زاد، ومنه قوله تعالى :﴿ اهتزت وَرَبَتْ ﴾ [ الحج : ٥ ] أي زادت، وفي الحديث « إلاّ رَبَا من تحتها » أي زاد الطعام الذي دعا فيه النبي ﷺ بالبركة، وأربى الرجل : إذا تعامل بالربا.
وفي الشرع : زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل.
﴿ يَتَخَبَّطُهُ ﴾ : التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده، ويقال للذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء، وتخبّطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون، وتسمّى إصابة الشيطان خبطة.
﴿ المس ﴾ : الجنون يقال : مُسّ الرجل فهو ممسوس وبه مسٌ، وأصله من المسّ باليد، كأن الشيطان يمسّ الإنسان فيحصل له الجنون.
قال الراغب : وكنّي بالمس عن الجنون، وفي قوله :« يتخبطه الشيطان من المس » والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى.
﴿ مَوْعِظَةٌ ﴾ : الموعظة : بمعنى الوعظ وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
﴿ سَلَفَ ﴾ : أي مضى وتقدم، والمعنى : من انتهى عن التعامل بالربى فإن الله تعالى يعفو ويصفح عمّا مضى من ذنبه قبل نزول آية التحريم.
﴿ يَمْحَقُ ﴾ : المحق : النقص والذهاب، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه إذا أنقصه وأذهب بركته والمراد أن الله أوعد المرابي بإذهاب ما له وإهلاكه وفي الحديث الشريف :« إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ ».
﴿ وَيُرْبِي الصدقات ﴾ : أي يزيدها وينميها ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة.
﴿ أَثِيمٍ ﴾ : أي كثير الإثم وهو المتمادي في ارتكاب المعاصي، المصر على الذنوب.
﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ﴾ : أي أيقنوا بحربٍ من الله ورسوله، وهذا وعيد لمن لم يذر الربى.
﴿ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ : العُسرة الفقر والضيق يقال : أعسر الرجل إذا افتقر.
﴿ فَنَظِرَةٌ ﴾ : أي فواجب تأخيره وانتظاره يقال : أنظره إذا أمهله وأخره.
﴿ مَيْسَرَةٍ ﴾ : أي غنى ويسار، والمعنى : إذا كان المستدين معسراً فأخروه إلى وقت السعة والغنى ولا تأخذوا منه إلا رأس المال.
المعنى الإجمالي
يخبر الولي جل وعلا المرابين، الذي يتعاملون بالربا فيمتصون دماء الناس، بأنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، إلاّ كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً، لأن به مساً من الشيطان، ذلك التخبط والتعثر بسبب أنهم استحلوا الربا الذي حرّمه الله، فقالوا : الربا مثل البيع فلماذا يكون حراماً؟ وقد ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة السقيمة بأن البيع تبادل منافع وقد أحلّه الله، والربا زيادة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه وقد حرمه الله، فكيف يتساويان؟!
ثم أخبر تعالى بأن من جاءته الموعظة والذكرى، فانتهى عمّا كان قبل التحريم، فإن الله تعالى يعفو ويغفر له، ولا يؤاخذه عمّا أخذ من الربا، وأمّا من تعامل بالربا بعد نهي الله عنه فإنه يستوجب العقوبة الشديدة بالخلود في نار جهنم لاستحاله ما حرمه الله.
170
وقد أوعد الله المرابي بمحق ماله، إمّا بإذهابه بالكلية، أو بحرمانه بركة ماله، « فالربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ » كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه، فلا بدّ أن يزهقه الله ويمحقه لأنه خبيث ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] وأمّا المتصدّق فالله يبارك له في ماله وينميّه، والله لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل. ثمّ جاء الوعيد والتهديد الشديد لمن تعامل بالربا، وخاصة إذا كان هذا الشخص من المؤمنين، فالربا والإيمان لا يجتمعان، ولهذا أعلن الله الحب على المرابين ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾.
فأي مسلم يسمع مثل هذا الوعيد ثم يتعامل بالربا؟! اللهم احفظنا من هذه الجريمة الشنيعة، وطهّرنا من أكل السحت والتعامل بالربا إنك سميع مجيب الدعاء اللهم آمين.
سبب النزول
١ - كان العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى ناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ فقال النبي ﷺ :« ألا إنّ كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس، وكل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ».
وجوه القراءات
١ - قرأ الجمهور ﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ﴾ وقرأ حمزة وعاصم ( فآذنوا بحرب ) بالمد.
قال الزجاج : من قرأ ﴿ فَأْذَنُواْ ﴾ بالقصر، فالمعنى : أيقنوا، ومن قرأ بالمد فمعناه أعلموا.
٢ - قرأ الجمهور ﴿ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ وروي عن عاصم بضم الأولى وفتح الثانية.
٣ - قرأ الجمهور ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ بتسكين السين، وضمها أبو جعفر ( عُسُرة ).
٤ - قرأ الجمهور ﴿ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ﴾ بضم التاء، وقرأ أبو عمرو بفتحها ( تَرْجعون ).
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ الذين يَأْكُلُونَ الرباوا ﴾ مبتدأ وجملة ﴿ لاَ يَقُومُونَ ﴾ خبره، والكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : إلاّ قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ جواب الشرط محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فذروا.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ كان هنا تامة بمعنى إن حدث ذو عسرة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المراد بالأكل في الآية الكريمة مطلق الأخذ والتصرف، وعبّر به هنا ﴿ الذين يَأْكُلُونَ الرباوا ﴾ لأنه الغرض الأساسي من المال، وما عداه من سائر الوجوه فتبع، وقد شاع هذا الإطلاق يقال لمن تصرف في مال غيره بدون حق : أكله، وهضمه.
171
اللطيفة الثانية : تشبيه المرابين بالمصروعين، الذين يتخبطهم الشيطان، فيه لطيفة وهي أن الله عزّ وجل أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم، فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون وتلك سيماهم يوم القيامة يعرفون بها، قال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا يوم القيامة.
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباوا ﴾ تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه المقلوب ) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يصبح المشبّه مشبهاً به مثل قولهم : القمر كوجه زيد، والبحر ككفه، على حدّ قول القائل :
فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
ومقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حله، ولكنّه بلغ اعتقادهم في حل الربا، أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل، حتى شبّهوا به البيع، فتدبّره فإنه دقيق.
اللطيفة الرابعة : النكتة في الآية الكريمة ﴿ يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات ﴾ أنّ المرابي يطلب الربا زيادة المال، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبيّن سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان، والزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ تنكير الحرب للتفخيم وقد زادها فخامة وهؤلاً، نسبتُها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته ﷺ، أي أيقنوا بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره، كائن من عند الله ورسوله، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكل الربا.
قال ابن عباس : يقال الآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ صيغة كفّار ( فعّال ) وصيغة أثيم ( فعيل ) كلاهما من صيغ المبالغة معناهما كثير الكفر والإثم، وفي الآية تغليظ لأمر الربا، وإيذانٌ بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين.
اللطيفة السابعة : رغّب الله تعالى في إنظار المستدين المعسر ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ﴾ وكذلك جاءت السنة المطهرة فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« كان رجلٌ يداين الناس، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا، فلقي الله فتجاوز عنه ».
قال المهايمي :« فإذا استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون، استوفى الله منه حقوقه بالتضييق، وإن سامحه فالله أولا بالمسامحة ».
اللطيفة الثامنة : قال بعض العلماء : من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبَرَ جرمَهُ وإثمه، فقد ترتب عليه قيامهم في الحشر مخبلين، وتخليدهم في النار، ونبذهم بالكفر، والحرب من الله ورسوله، واللعنة الدائمة لهم، وكذلك الذم والبغض، وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول القسوة والغلظة، والدعاء عليه ممن ظلمه، وذلك سبب لزوال الخير والبركة، فما أقبح هذه المعصية، وأعظم جرمها، وأشنع عاقبتها؟!
اللطيفة التاسعة : ختمت آيات الربا بهذه الآية الكريمة ﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ وهي آخر آية نزلت من القرآن، وعاش بعدها النبي ﷺ تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، وفي هذه الآية تذكير بالوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين
172
﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٨٨ - ٨٩ ] وبنزول هذه الآية انقطع الوحي، وكان ذلك آخر اتصال السماء بالأرض.
« الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا »
من المستحسن أن نذكر هنا الأدوارالتي مرّ بها تحريم الربا، حتى ندرك سر التشريع الإسلامي، في معالجته للأمراض الاجتماعية، فنم المعلوم أن التشريع الإسلامي سار ( بسُنّة التدرج ) في تقرير الأحكام.
ولقد مرّ تحريم « الربا » بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج :
الدول الأول : نزل قوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ] وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي - كما يظهر - ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا، وأن الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن ( موعظة سلبية ).
الدورالثاني : نزل قوله تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ النساء : ١٦٠-١٦١ ] وهذه الآية مدنية، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذي حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب، وهو تحريم ( بالتلويح ) لا ( بالتصريح ) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين. وهذا نظير ( الدور الثاني ) في تحريم الخمر ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] الآية حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح.
الدور الثالث : نزل قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ]. الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم ( جزئي ) لا ( كلي ) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى ( الربا الفاحش ) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذرة العليا، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى، حيث كان الدَيْنُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافاً مضاعفة، يضعف عن سداده كاهل المستدين، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئياً لا كلياً في أوقات الصلاة
173
﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ... ﴾ [ النساء : ٤٣ ] الآية.
الدور الرابع : وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع، الذي لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا، فقد نزل قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ... ﴾ الآيات.
وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريماً قاطعاً جازماً في قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ].
وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق ( التدرج ).
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية؟
الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان :( ربا النسيئة ) و ( ربا الفضل ).
أما الأول ( ربا النسيئة ) : فهو الذي كان معروفاً في الجاهلية وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل.
قال ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله :« إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجال مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة، فنهاهم الله تعالى في إسلامهم عنه ».
وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد.
أما الثاني ( ربا الفضل ) : فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر، مثاله : أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات.
والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه ( إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء ).
وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول : إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت، أو قمح بقمح، أو عنبٍ بعنب، أو تمر بتمر، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير، أو زيت بتمر مثلاً جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي ﷺ أنه قال :
174
« الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء » وفي حديث آخر « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد » أي مقبوضاً وحالاً.
الحكم الثاني : هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله تعالى :﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ] ؟
يذهب بعض ضعفاء الإيمان ( من مسلمي هذا العصر ) إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة، ويقصد منه استغلال حاجة الناس، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشاً حيث قال تبارك وتعالى :﴿ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ] فالنهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة، فإذا لم يكن كذلك، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه.
وللجواب على ذلك نقوله :
أولاً : إن قوله تعالى :﴿ أضعافا مضاعفة ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ] ليس قيداً ولا شرطاً، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية، كما يتضح من سبب النزول، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة.
ثانياً : إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره، فهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه ( كلياً ) أخذاً بقاعدة ( سدّ الذرائع ) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال؟
ثالثاً : نقول لهؤلاء الجهلة ( من أنصاف المتعلمين ) :« أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة، ولا تقرؤون قوله تعالى :﴿ وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباوا ﴾ وقوله تعالى :﴿ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا ﴾ وقوله تعالى :﴿ يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات ﴾ هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله ﷺ في حديث جابر » لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال هم سواء « فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية، والقليل والكثير في الحرمة سواء. وصدق الله حيث يقول :﴿ يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة.
٢ - الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار.
٣ - القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء.
٤ - على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه.
175
٥ - السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله.
خاتمة البحث
حكمة التشريع
اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية، وشنّت عليه حرباً لا هوادة فيها، وأوعد القرآ الكريم المتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه.
ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية - أراد الإسلام إبطاله - ما بلغ من تفظيع أمر الربا، ولا بلغ من التهديد في منكر من منكرات كما بلغ في شأن الربا، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم، وأساس المفاسد، وأصل الشرور والآثام، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان.
الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل... والربا شحّ، وقذارة، ودنس، وجشع، وأثرة، وأنانية.
الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضً ولا ردّ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله.
فلا عجب إذاً أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم، الاجتماعية والدينية، وأن يعلن على المرابين الحرب ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات :
أولاً : ضرر الربا من الناحية النفسية.
ثانياً : ضرر الربا من الناحية الاجتماعية.
ثالثاً : ضرر الربا من الناحية الاقتصادية.
أما ضرر الربا من الناحية النفسية : فإنه يولّد في الإنسان حب ( الأثرة والأنانية ) فلا يعرف إلا نفسه، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدوا الإنسان ( المرابي ) وحشاً مفترساً لا يهمه من الحياة إلا جمع المال، وامتصاص دماء الناس، واستلاب ما في أيديهم، ويصبح ذئباً ضارياً في صورة إنسان وديع، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع.
أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية : فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان، والتعاون والإحسان في نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعة، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار، وكفى ( المرابي ) مقتاً وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم.
176
أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية : فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين : طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة، والبؤس والحرمان، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين، وقد ثبت أن ( الربا ) أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن، وزادادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون.
177
Icon