تفسير سورة آل عمران

الموسوعة القرآنية
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب الموسوعة القرآنية المعروف بـالموسوعة القرآنية .
لمؤلفه إبراهيم الإبياري . المتوفي سنة 1414 هـ

(٣) سورة آل عمران
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)
١- الم:
م، حقها أن يوقف عليها كما وقف على ألف ولام، وأن يبدأ بما بعدها.
٢- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ:
الْحَيُّ أي الذي لا يجوز عليه الفناء.
الْقَيُّومُ وقرىء: القيام، وكلاهما بمعنى واحد، أي الذي لا ند له.
٣- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ:
الْكِتابَ يعنى القرآن.
بِالْحَقِّ أي بالصدق، وقيل: بالحجة الغالبة، وهى فى موضع الحال من الْكِتابَ ولا تتعلق بالفعل نَزَّلَ لأنه قد تعدى الى مفعولين أحدهما بحرف جر ولا يتعدى الى ثالث. والباء متعلقة بمحذوف التقدير:
آتيا بالحق.
وإذا كان القرآن قد نزل نجوما، أي شيئا بعد شىء، لذلك قال نزل. والتنزيل مرة بعد مرة.
مُصَدِّقاً حال مؤكدة غير منتقلة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق.
لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعنى من الكتب المنزلة.
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال: أنزل، لأنهما نزلا دفعة واحدة.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤ الى ٧]

مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
٤- مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ:
مِنْ قَبْلُ يعنى القرآن.
هُدىً لِلنَّاسِ أي هدى للناس المتقين، وهى فى موضع نصب على الحال.
الْفُرْقانَ: القرآن.
بِآياتِ اللَّهِ من كتبه المنزلة وغيرها.
ذُو انْتِقامٍ له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم.
٥- إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ:
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي فى العالم فعبر عنه بالسماء والأرض، فهو مطلع على كفر من كفر وايمان من آمن وهو مجازيهم عليه ٦- هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:
كَيْفَ يَشاءُ من الصور المختلفة المتفاوتة.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا خالق ولا مصور سواه.
الْعَزِيزُ الذي لا يغالب.
الْحَكِيمُ ذو الحكمة، أو المحكم.
٧- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ:
مُحْكَماتٌ: ما عرف تأويلها وفهم معناها وتفسيرها.
مُتَشابِهاتٌ: ما لم يكن لأحد الى علمها سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمها دون خلقه وذلك مثل وقت الساعة.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل، يعنى أهل البدع.
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أي فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب اليه المبتدع مما لا يطابق الحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق.
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم.
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي لا يعلم تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا فى العلم، أي ثبتوا فيه وتمكنوا. ويكون قوله يَقُولُونَ حالا من الراسخين، هذا لمن جعل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفا على ما قبله فلا يقف عند قوله اللَّهُ. أما من وقف فيجعل وَالرَّاسِخُونَ مبتدأ، خبره جملة يَقُولُونَ.
آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه.
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي كل واحد منه ومن المحكم، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف، ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل.
وقيل: ان الجملة مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
٨- رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ:
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا فى الكلام حذف، تقديره: يقولون، أي لا تبتلينا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ونميل عن الحق.
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي بعد أن أرشدتنا لدينك.
مِنْ لَدُنْكَ من عندك.
رَحْمَةً نعمة بالتوفيق والمعونة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
٩- رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ:
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ أي تجمعهم لحساب يوم، أو لجزاء يوم.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي ان الالهية تنافى خلف الميعاد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
١٠- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله.
مِنَ اللَّهِ أي لن تغنى عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله.
شَيْئاً أي بدل رحمته وطاعته وبدل الحق.
وقيل: أي لا تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.
١١- كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ:
كَدَأْبِ الدأب: الكدح، وضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله. والكاف مرفوع المحل، تقديره دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم.
ويجوز أن ينتصب محل (الكاف) بقوله لَنْ تُغْنِيَ أو بقوله وَقُودُ.
أي لن تغنى عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو توقد بهم النار كما توقد بهم.
كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لدأبهم ما فعل وفعل بهم، على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
١٢- قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هم مشركو مكة.
سَتُغْلَبُونَ يعنى يوم بدر.
وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ أي وتساقون جميعا الى جهنم.
وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس المستقر.
وقيل: بئس ما مهدتم لأنفسكم، أي بئس فعلكم الذي أداكم الى جهنم.
١٣- قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ:
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لمشركى قريش.
فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر.
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أي يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين.
أراهم الله إياهم من قتلهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا من الله لهم، كما أمدهم بالملائكة.
رَأْيَ الْعَيْنِ أي رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات.
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ كما أيد أهل بدر بتكثيرهم فى عين العدو.

[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
١٤- زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ المزين هو الله تعالى، للابتلاء.
وقيل: المزين، هو الشيطان، وتزيينه انما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. وتزيين الله تعالى انما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل الى هذه الأشياء.
حُبُّ الشَّهَواتِ جعل الأعيان التي ذكرها بعد شهوات مبالغة فى كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها.
والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، وقال زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ثم جاء بالتفسير ليقرر أولا فى النفوس أن المزين لهم حبه ما هو الا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجع طلبها على طلب ما عند الله.
وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار، وزن معروف، يريد الكثير.
الْمُقَنْطَرَةِ للتوكيد، كما يقال: ألف مؤلفة.
الْمُسَوَّمَةِ: المعلمة، أو المطهمة، أو المرعية.
وَالْأَنْعامِ: كل ما يرعى.
وَالْحَرْثِ أي الزرع.
ذلِكَ المذكور.
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى.
وهذا منه تعالى تزهيد فى الدنيا وترغيب فى الآخرة.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ابتداء وخبر. والمآب: المرجع.
يشير الى تقليل الدنيا وتحقيرها، والترغيب فى حسن المرجع الى الله تعالى فى الآخرة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥ الى ١٧]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
١٥- قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ:
مِنْ ذلِكُمْ منتهى الاستفهام.
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خبر مقدم.
جَنَّاتٌ رفع بالابتداء. وفى هذا دلالة على ما هو خير من ذلكم.
وقيل: منتهى الاستفهام عِنْدَ رَبِّهِمْ. و (جنات) على هذا رفع بابتداء مضمر تقديره: ذلك جنات.
ويجوز على هذا التأويل (جنات) بالخفض بدلا من (خير).
وَرِضْوانٌ مصدر من: الرضا.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي يثيب ويعاقب على الاستحقاق.
أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذلك أعد لهم جنات.
١٦- الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ:
الَّذِينَ يَقُولُونَ نصب على المدح، أو رفع، ويجوز الجر صفة (للمتقين) أو (للعباد).
١٧- الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ:
الواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم فى كل واحدة منها.
الصَّابِرِينَ أي عن المعاصي والشهوات. وقيل: على الطاعات.
وَالصَّادِقِينَ أي فى الأفعال والأقوال.
وَالْقانِتِينَ أي الطائعين.
وَالْمُنْفِقِينَ يعنى فى سبيل الله.
بِالْأَسْحارِ لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل فيحسن طلب الحاجة بعده.
وقيل: كانوا يصلون فى أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا فى الدعاء والاستغفار، هذا نهارهم، وهذا ليلهم.
والسحر: من حين يدبر الليل الى أن يطلع الفجر الثاني.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ١٩]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
١٨- شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:
شَهِدَ اللَّهُ أي بين وأعلم.
قائِماً نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى فى قوله شَهِدَ اللَّهُ أو من قوله إِلَّا هُوَ.
وقيل: هو منصوب على القطع، كان أصله (القائم) فلما قطعت الألف واللام نصب.
بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم البعض والعمل على السوية.
فيما بينهم.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كرر، لأن الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم.
وقيل: الأول وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعنى: قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم.
١٩- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ:
إِنَّ الدِّينَ يعنى الطاعة والملة.
جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى.
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى، يعنى فى نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعنى بيان صفته ونبوته فى كتبهم.
بَغْياً نصب على المعقول من أجله، أو على الحال من الَّذِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١)
٢٠- فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ:
فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جاءوك بالأقاويل المزورة والمغالطات.
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ فأسند أمرك الى ما كلفت من الايمان والتبليغ وعلى الله نصرك. ووجهى أي ذاتى. وقيل: الوجه: القصد.
وَمَنِ اتَّبَعَنِ من، فى محل رفع عطفا على التاء فى قوله أَسْلَمْتُ، أي: ومن اتبعن أسلم أيضا. وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما.
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، يعنى اليهود والنصارى.
وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم، وهم مشركو العرب.
أَأَسْلَمْتُمْ استفهام معناه التقرير وفى ضمنه الأمر، أي أسلموا.
وقيل: أأسلمتم، تهديد.
فَقَدِ اهْتَدَوْا بالماضي، مبالغة فى الاخبار بوقوع الهدى لهم وتحصيله.
الْبَلاغُ أي انما عليك أن تبلغ.
٢١- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ:
بِالْقِسْطِ أي بالعدل.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
٢٢- أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:
حَبِطَتْ أي خسرت.
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لأن لهم اللعن والخزي فى الدنيا والعذاب فى الآخرة.
٢٣- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ:
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يريد أحبار اليهود، وأنهم حصلوا نصيبا وافرا من التوراة. و (من) للتبعيض أو للبيان.
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ هو التوراة.
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذا ما تبينوا ما فيه.
ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض، وفيه استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع الى كتاب الله واجب.
وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي وهم قوم لا يزال الاعراض دينهم.
٢٤- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ:
ذلِكَ أي التولي والاعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم فى الخروج من النار بعد أيام قلائل.
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آباءهم هم الأنبياء يشفعون لهم كما غرت أولئك شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فى كبائرهم.
٢٥- فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ:
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ فكيف يصنعون، فكيف تكون حالهم. وهو استعظام لما أعد لهم وتهويل لهم وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم فى دفعه والمخلص منه، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل باطل وتطمع بما لا يكون.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يرجع الى كُلُّ نَفْسٍ على المعنى، لأنه فى معنى كل الناس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
٢٦- قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
اللَّهُمَّ الميم عوض عن (يا) ولذلك لا يجتمعان.
مالِكَ الْمُلْكِ أي تملك جنس الملك تتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون.
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أي تعطى من تشاء النصيب الذي قسمته له واقتضته حكمتك من الملك.
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ النصيب الذي أعطيته منه.
فالملك الأول عام وشامل. والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل.
بِيَدِكَ الْخَيْرُ ذكر الخير دون الشر، لأن الكلام انما وقع فى الخير الذي يسوقه الله الى المؤمنين وهو الذي أنكره الكفرة، فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على الرغم من أعدائك ولأن كل أفعال العباد من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله، كإيتاء الملك ونزعه.
٢٧- تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ:
ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار فى المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت فى إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب، على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق
من يشاء من عباده بغير حساب، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
٢٨- لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ:
نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق ويتعاشر عليها.
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي الا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد.
ويجوز أن يضمن تَتَّقُوا معنى: تحذروا وتخافوا فيتعدى بالحرف (من) وينتصب تُقاةً على المصدر.
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي والى جزاء الله المصير وفيه اقرار بالبعث.
٢٩- قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ من ولاية الكفار وغيره مما لا يرضى الله.
يَعْلَمْهُ اللَّهُ فلا يخفى عليه سركم وعلنكم.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على عقوبتكم، وهذا بيان لقوله:
ويحذركم الله نفسه، لأن نفسه وهى ذاته المميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم فهى متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهى قادرة على المقدورات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح، ولا يقصر عن واجب، فان ذلك مطلع عليه لا محالة، فلا حق به العقاب.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٠ الى ٣١]

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
٣٠- يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ:
يَوْمَ تَجِدُ منصوب بالفعل تَوَدُّ.
ويجوز أن ينتصب يَوْمَ بمضمر، نحو: اذكر، ويقع على ما عملت وحده، أي يقع فعل الوجدان على ما عَمِلَتْ من خير وحده.
وَما عَمِلَتْ يرتفع على الابتداء.
تَوَدُّ خبره. أي والذي عملته من سوء هى تود لو تباعد ما بينها وبينه.
ولا يصح أن تكون (ما) شرطية، لارتفاع تَوَدُّ.
ويجوز أن يعطف وَما عَمِلَتْ على ما عَمِلَتْ ويكون تَوَدُّ حالا أي يوم تجد عملها محضرا وادّة تباعد ما بينها وبين اليوم، أو عمل السوء محضرا.
وَبَيْنَهُ الضمير لليوم، أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهوله أمدا بعيدا.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه.
وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يعنى أن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروه.
دعاهم ذلك الى طلب رضاه واجتناب سخطه.
وقيل: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه.
وقيل: انه مع كونه محذورا لعلمه وقدرته، مرجو لسعة رحمته.
٣١- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:
تُحِبُّونَ اللَّهَ محبة العباد الله مجاز عن ارادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها. ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم.
والمعنى: ان كنتم مريدين لعبادة الله على الحقيقة.
فَاتَّبِعُونِي حتى يصح ما تدعونه من ارادة عبادته.
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يرض عنكم ويغفر لكم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
٣٢- قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ:
فَإِنْ تَوَلَّوْا يحتمل أن يكون ماضيا، وأن يكون مضارعا، بمعنى:
فان تتولوا، ويدخل فى جملة ما يقول الرسول لهم.
٣٣- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ:
اصْطَفى: اختار.
آلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل وإسحاق وأولادهما.
وَآلَ عِمْرانَ ابنا عمران بن يصهر.
وقيل: عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان.
٣٤- ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:
ذُرِّيَّةً بدل من آل ابراهيم وآل عمران.
بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ يعنى أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها تتشعب من بعض: موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوى، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق.
وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق.
وقيل: بعضها من بعض فى الدين.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم من يصلح للاصطفاء، أو يعلم أن بعضهم من بعض فى الدين، أو سميع عليم لقول امرأة عمران وبنتها.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
٣٥- إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:
إِذْ منصوب بقوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وقيل بإضمار: اذكر.
امْرَأَتُ عِمْرانَ هى امرأة عمران بن ماثان، أم مريم البتول، جدة عيسى عليه السّلام.
وقوله إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ على أثر قوله آلَ عِمْرانَ مما يرجح أن عمران، هو عمران بن ماثان، جد عيسى.
وقد تزوج زكريا بن آذان، بنت عمران بن ماثان، وهى أخت مريم، واسمها ايشاع، فولدت له يحيى فكان يحيى وعيسى ابني خالة.
مُحَرَّراً معتقا لخدمة بيت المقدس، لا يتولى عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشىء.
وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم.
وقيل: محررا، أي مخلصا للعبادة. وما كان التحرير الا للغلمان.
٣٦- فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ:
فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير لما فِي بَطْنِي وانما أنث على المعنى، لأن ما فى بطنها كان أنثى فى علم الله. أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة.
أُنْثى حال من الضمير فى وَضَعَتْها، وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى. والأصل: وضعته أنثى، وانما أنث لتأنيث الحال، لأن الحال وذا الحال لشىء واحد.
ولقد قالت ما قالت إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى تحسرا على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها فتحزنت الى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرا، ولذلك نذرته محررا للسدانة.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهى جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا، فلذلك تحسرت.
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى بيان لما فى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ من التعظيم للموضوع والرفع منه.
والمعنى: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها. واللام فيهما للعهد.
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وما بينهما جملتان معترضتان. ومريم، بمعنى: العابدة. ولهذا أتبعته بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان الرجيم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
٣٧- فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ:
فَتَقَبَّلَها رَبُّها فرضى بها فى النذر مكان الذكر، أو فاستقبلها.
بِقَبُولٍ حَسَنٍ قد يكون القبول اسم ما تقبل به الشيء، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر فى النذر، ولم يقبل قبلها أنثى فى ذلك، أو بأن تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة.
وقد يكون القبول مصدرا على تقدير حذف المضاف، بمعنى:
فتقبلها بذي قبول حسن، أي بأمر ذى قبول حسن، وهو الاختصاص.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها فى جميع أحوالها.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا الفعل لله تعالى، أي وضمها الى زكريا وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها.
الْمِحْرابَ: أشرف المجالس ومقدمها، كأنها وضعت فى أشرف موضع فى بيت المقدس.
وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي طعاما.
أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك.
قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا تستبعد.
إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ من كلام مريم عليها السلام، أو من كلام رب العزة، عز من قائل.
بِغَيْرِ حِسابٍ، أي بغير تقدير، لكثرته، أو تفضلا بغير محاسبة ولا مجازاة على عمل بحسب الاستحقاق.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
٣٨- هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ:
هُنالِكَ فى ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم فى المحراب، أو فى ذلك الوقت لما رأى حال مريم فى كرامتها على الله ومنزلتها رغب فى أن يكون له من ايشاع مثل ولد أختها.
ذُرِّيَّةً ولدا. والذرية يقع على الواحد والجمع، وكانت ايشاع عجوزا عاقرا كأختها.
سَمِيعُ الدُّعاءِ مجيبه.
٣٩- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ:
فَنادَتْهُ وقرىء: فناداه.
الْمَلائِكَةُ على ارادة المفرد، وهو جبريل عليه السّلام.
أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ أن، بالفتح على تقدير: بأن الله، وبالكسر على ارادة القول، أو لأن النداء نوع من القول.
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعيسى مؤمنا به. قيل: وهو أول من آمن به.
وَحَصُوراً الحصور: الذي لا يقرب النساء حصرا لنفسه، أي منعا لها من الشهوات.
وقيل: هو الذي لا يدخل مع القوم فى الميسر، فاستعير لمن لا يدخل فى اللعب واللهو.
مِنَ الصَّالِحِينَ أي ناشئا من الصالحين، لأنه كان من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
٤٠- قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ:
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استبعاد، من حيث العادة.
وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي أثر فىّ الكبر فأضعفنى.
كَذلِكَ أي يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر.
أو كَذلِكَ اللَّهُ مبتدأ وخبره، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات.
٤١- قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ:
اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر.
قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ: ألا تقدر على تكليم الناس. وانما خص
تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة، مع ابقاء قدرته على التكليم بذكر الله، ولذلك قال:
إِلَّا رَمْزاً حال منه ومن الناس، أي الا مترامزين، كما يكلم الناس الأخرس بالاشارة ويكلمهم. والرمز وان كان ليس من جنس الكلام الا أنه يؤدى مؤدى الكلام ويفهم منه ما يفهم منه، لذا سمى كلاما، وصح الاستثناء.
ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
٤٢- وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ:
يا مَرْيَمُ يقال ان التكليم كان شفاها إرهاصا لنبوة عيسى.
اصْطَفاكِ أولا حين تقبلك من أباك ورباك واختصك بالكرامة السنية.
وَطَهَّرَكِ مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود.
وَاصْطَفاكِ آخرا.
عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء.
٤٣- يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ:
اقْنُتِي وَاسْجُدِي أمر بالصلاة، فالقنوت والسجود من هيئات الصلاة وأركانها.
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي لتكن صلاتك مع المصلين وفى عدادهم.
٤٤- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ:
ذلِكَ اشارة الى ما سبق من نبأ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام.
نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي إن ذلك من الغيوب التي لا تعرفها الا بالوحى.
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي شاهدهم.
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ إذ يطرحون أقلام. والأقلام: الأزلام، وهى قداحهم التي طرحوها مقترعين أيهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ متعلق بمحذوف دل عليه يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ، كأنه قيل: يلقونها ينظرون أيهم يكفل، أو ليعلموا.
إِذْ يَخْتَصِمُونَ فى شأنها تنافسا فى التكفل بها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٥]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
٤٥- إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ:
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بدل من قوله إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ.
ويجوز أن يبدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ على أن الاختصام والبشارة وقعا فى زمان واسع.
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ذكر ضميرها لأن المسمى بها ذكر.
الْمَسِيحُ بالعبرانية: مشيحا، بمعنى: المبارك.
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إعلام بنسبه إليها إذ الأبناء ينسبون الى الآباء لا الى الأمهات فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب الا الى أمه.
وقال: المسيح عيسى بن مريم، فذكر ثلاثة أشياء، الاسم منها:
عيسى، وأما المسيح والابن، فلقب وصفة، ليشير الى أن الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة.
وَجِيهاً حال من بِكَلِمَةٍ. والوجاهة فى الدنيا: النبوة والتقدم على الناس، وفى الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة فى الجنة.
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ حال أخرى من كلمة يعنى رفعه الى السماء.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
٤٦- وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ:
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ حال ثالثة من كلمة.
فِي الْمَهْدِ المهد: ما يمهد للصبى من مضجعه، سمى بالمصدر.
وفى المهد، فى محل النصب على الحال.
وَكَهْلًا عطف عليه، بمعنى: ويكلم الناس طفلا وكهلا، أي يكلم الناس فى هاتين الحالتين كلام الأنبياء. والكهل ما بين حال الغلومة وحال الشيخوخة.
وَمِنَ الصَّالِحِينَ حال رابعة من كلمة أي يبشرك به موصوفا بهذه الصفات: وجيها، ومن المقربين، ويكلم الناس، ومن الصالحين.
٤٧- قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ:
رَبِّ نداء لجبرئيل عليه السلام، بمعنى: يا سيدى.
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي بنكاح.
٤٨- وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ:
وَيُعَلِّمُهُ عطف على يُبَشِّرُكِ، أو على وَجِيهاً أو على يَخْلُقُ أو هو كلام مبتدأ.
الْكِتابَ أي الكتابة. وقيل: كتاب غير التوراة والإنجيل.
٤٩- وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:
وَرَسُولًا حال للضمير فى وَيُعَلِّمُهُ فى الآية السابقة.
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ على إضمار (وأرسلت) على ارادة القول،
تقديره: ونعلمه الكتاب والحكمة، ويقول: أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم.
أو على أن الرسول فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقا بأنى قد جئتكم.
أَنِّي أَخْلُقُ نصب، بدل من أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو جزء بدل من آية أو رفع على: هى أنى أخلق. وقرىء بالكسر على الاستئناف.
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي أقدر لكم شيئا على صورة الطير.
فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للكاف، أي فى ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
فَيَكُونُ طَيْراً أي فيصير طيرا كسائر الطيور حيا.
الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى.
بِإِذْنِ اللَّهِ التكرير دفعا لو هم من توهم فى عيسى الألوهية.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٠]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
٥٠- وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ:
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ على إضمار (وأرسلت) على ارادة القول، تقديره، ونعلمه الكتاب والحكمة، ويقول: أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم، ومصدقا لما بين يدى.
ويجوز أن يكون ردا على قوله بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي جئتكم بآية وجئتكم مصدقا.
أو على أن المصدق فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقا بأنى أصدق ما بين يدى. وما حرم عليهم فى شريعة موسى: الشحوم، ولحوم الإبل، والسمك، وكل ذى ظفر، فأحل لهم عيسى بعض ذلك.
وَلِأُحِلَّ رد على قوله بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم.
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قرىء (حرم) على تسمية الفاعل، وهو لِما بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ
أو الله عز وجل، أو موسى عليه السّلام، لأن ذكر التوراة دل عليه.
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ شاهدة على صحة رسالتى وهى قوله إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه.
فَاتَّقُوا اللَّهَ لما جئتكم به من الآيات.
وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم اليه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
٥١- إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ:
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ على الابتداء. وقرىء بالفتح على البدل من آية وقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ اعتراض.
ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربى وربكم فاعبدوه.
٥٢- فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ:
فَلَمَّا أَحَسَّ أي فلما علم.
الْكُفْرَ علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس.
إِلَى اللَّهِ من صلة أَنْصارِي متضمنا معنى الاضافة، كأنه قيل:
من الذين يضيفون أنفسهم الى الله ينصروننى كما ينصرنى.
أو هو متعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصارى ذاهبا إلى الله ملتجئا اليه.
الْحَوارِيُّونَ حوارى الرجل: صفوته وخالصته.
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أنصار دينه ورسوله.
وَاشْهَدْ طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدا لايمانهم، لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]

رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
٥٣- رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ:
مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون بالوحدانية.
٥٤- وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ:
وَمَكَرُوا أي كفار بنى إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة.
وَمَكَرَ اللَّهُ أن رفع عيسى الى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقوالهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب، من حيث لا يشعر المعاقب.
٥٥- إذ قال الله يا عيسى إنى متوفاك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون:
إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف لخير الماكرين، أو لمكر الله. أو مَكَرُوا.
إنى متوفاك أي مستوفى أجلك وعاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك الى أجل كتبته لك. وقيل: متوفيك أي قابضك من الأرض.
وَرافِعُكَ إِلَيَّ أي الى سمائى.
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم وخبث صحبتهم.
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعلونهم بالحجة.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فأجازى كلا بما فعل، ان خيرا فخير، وان شرا فشر. وسيأتى تفصيل هذا فى الآية التالية:
٥٦- فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي من يدفع عنهم ما ينالهم فى الدنيا من سوء ولا ما سوف يلقون فى الآخرة من عذاب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
٥٧- وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ:
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي أجرا غير منقوص فالله لا يحب أن يظلم انسان أجره.
٥٨- ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ:
ذلِكَ اشارة الى ما سبق من نبأ عيسى وغيره، وهو مبتدأ، خبره نَتْلُوهُ.
مِنَ الْآياتِ خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف.
ويجوز أن يكون ذلِكَ بمعنى: الذي. ونتلوه، صلته. ومن الآيات، الخبر.
ويجوز أن ينتصب ذلِكَ بمضمر تفسيره: نتلوه.
وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ القرآن، وصف بصفة من هو سببه، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.
٥٩- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى ان شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم.
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم، أي خلق آدم من تراب، ولم يكن ثمة أب ولا أم، وكذلك حال عيسى.
وصح تشبيهه به، وقد وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم، لأنه مثيله فى أحد الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأن المماثلة مشاركة فى بعض الأوصاف، وهو قد
شبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما فى ذلك نظيران، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه.
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ قدره جسدا من طين.
ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أي أنشأه بشرا.
فَيَكُونُ حكاية حال ماضية.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
٦٠- الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ونهيه عن الامتراء، وجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يكون ممتريا، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفا بغيره.
٦١- فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ:
فَمَنْ حَاجَّكَ من النصارى.
فِيهِ أي فى عيسى.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من البينات الموجبة للعلم.
تَعالَوْا هلموا والمراد المجيء بالرأى والعزم.
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي يدعو كل منى ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه الى المباهلة.
ثُمَّ نَبْتَهِلْ بأن نقول: بهلة الله على الكافرين منا ومنكم. والبهلة، بالفتح وبالضم: اللعنة.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
٦٢- إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:
إِنَّ هذا الذي قص عليك من نبأ عيسى.
لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هو، ضمير فصل بين اسم (ان وخبرها)، وقد يكون مبتدأ، والقصص الحق، خبره، والجملة خبر إِنَّ.
وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ رد على النصارى فى تثليثهم.
٦٣- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ:
تَوَلَّوْا أعرضوا.
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ: وعيد لهم بالعذاب.
٦٤- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ:
يا أَهْلَ الْكِتابِ هم أهل الكتابين. وقيل: وفد نجران. وقيل:
يهود المدينة.
سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل.
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ: تفسير قوله كَلِمَةٍ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن أعرضوا.
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم.
ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
٦٥- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ:
زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن ابراهيم كان منهم، وجادلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فيه، فقيل لهم: ان اليهودية انما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين ابراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون ابراهيم على دين لم يحدث الا بعد عهده بأزمنة متطاولة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.
٦٦- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها، للتنبيه. وأنتم، مبتدأ. وهؤلاء: خبره.
وقيل: ها أنتم، أي: أأنتم، على الاستفهام. فقلبت الهمزة. هاء، ومعنى الاستفهام: التعجب من حماقتهم. وقيل: هؤلاء، بمعنى:
الذين، وحاجَجْتُمْ صلته.
حاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى. يعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم:
فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مما نطق به التوراة والإنجيل.
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ولا ذكر له فى كتابيكم من دين ابراهيم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ علم ما حاججتم به.
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ جاهلون به.
٦٧- ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يعلمهم أن ابراهيم برىء من دينكم وما كان الا حنيفا مسلما.
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما لم يكن منكم. أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لا شراكهم به عزيرا والمسيح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٨ الى ٧١]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
٦٨- إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ:
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي إن أخصهم به وأقربهم منه.
لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فى زمانه وبعده.
وَهذَا النَّبِيُّ خصوصا. وقرىء: وهذا النبي، بالنصب عطفا على الهاء فى اتَّبَعُوهُ أي: اتبعوه واتبعوا هذا النبي، كما قرىء بالجر، عطفا على إِبْراهِيمُ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا من أمته.
٦٩- وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ:
وَدَّتْ طائِفَةٌ هم اليهود.
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي وما يعود وبال الإضلال الا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم واضلالهم.
٧٠- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ:
بِآياتِ اللَّهِ بالتوراة والإنجيل، وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وغيرها، أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول.
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وأنتم تعترفون أنها آيات الله.
٧١- يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ:
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تخلطون. وقرىء: تلبسون، بفتح الباء، أي تلبسون الحق مع الباطل.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
٧٢- وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ:
وَجْهَ النَّهارِ: أوله. والمعنى: أظهروا الايمان بما أنزل على المسلمين فى أول النهار.
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ أي واكفروا به فى آخره، لعلهم يشكون فى دينهم ويقولون: ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم الا الأمر قد تبين لهم.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فيرجعون برجوعكم.
٧٣- وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ:
وَلا تُؤْمِنُوا متعلق بقوله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ وما بينهما اعتراض. أي:
ولا تظهروا ايمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم الا لأهل دينكم دون غيرهم. أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتاب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه الا الى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم الى الإسلام.
أَنْ يُؤْتى أي لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشىء آخر، يعنى أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب، دعاكم الى أن قلتم ما قلتم.
ويجوز أن يكون هُدَى اللَّهِ بدلا من الْهُدى، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ خبر إِنَّ. ويكون المعنى: قل ان هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم.
وقرىء: ان يؤتى أحد، على أن (إن) النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، بمعنى: ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم.
ويجوز أن ينتصب أَنْ يُؤْتى بفعل مضمر يدل عليه قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ. كأنه قيل: قل ان الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، لأن قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ انكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى والضمير فى يُحاجُّوكُمْ، لقوله أَحَدٌ لأنه فى معنى الجمع. أي ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
٧٤- يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ:
بِرَحْمَتِهِ أي بنبوته وهدايته.
مَنْ يَشاءُ أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف.
٧٥- وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ:
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتى أوقية ذهبا فأداه اليه.
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه.
إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً الا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما
على رأسه متوكلا عليه بالمطالبة والتعنيف، أو بالرفع الى الحاكم واقامة البينة عليه.
ذلِكَ اشارة الى ترك الأداء الذي دل عليه لا يُؤَدِّهِ أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم:
لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي لا يتطرق علينا عتاب وذم فى شأن الأميين أي الذين ليسوا من أهل الكتاب. وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون: لم يجعل لهم فى كتابنا حرمة.
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم أن ذلك فى كتابهم.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
٧٦- بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ:
بَلى إثبات لما نفوه من السبيل عليهم فى الأميين. أي بلى، عليهم سبيل فيهم.
مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدت بَلى مسدها. والضمير فى بِعَهْدِهِ راجع الى مَنْ أَوْفى على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله فى ترك الخيانة والغدر، فان الله يحبه.
وقام مقام الضمير الراجع من الجزاء الى مَنْ عموم المتقين.
٧٧- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
يَشْتَرُونَ يستبدلون.
بِعَهْدِ اللَّهِ بما عاهدوه عليه من الايمان بالرسول المصدق لما معهم.
وَأَيْمانِهِمْ وبما حلفوا به من قولهم: والله لنؤمنن به ولننصرنه.
ثَمَناً قَلِيلًا متاع الدنيا من الترؤس.
لا خَلاقَ لَهُمْ لا نصيب لهم.
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم.
وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا يثنى عليهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
٧٨- وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ:
لَفَرِيقاً نفرا، منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيى ابن أخطب.
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يفتلونها بقراءته عن الصحيح الى المحرف.
لِتَحْسَبُوهُ الضمير يرجع الى ما دل عليه يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ وهو المحرف. ويجوز أن يراد: يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب.
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيد لقوله وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودلالة على أنهم لا يعرضون ولا يورون وانما هم يصرحون أنه فى التوراة هكذا.
٧٩- ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ:
ما كانَ لِبَشَرٍ تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى.
وَالْحُكْمَ الحكمة، وهى السنة.
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ولكن يقول: كونوا ربانيين. والرباني،
منسوب الى الرب، بزيادة الألف والنون، وهو الشديد التمسك بدين الله وطاعته.
بِما كُنْتُمْ أي بسبب كونكم.
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ تعلمون، من التعليم. وقرىء (تعلمون) من التعلم.
تَدْرُسُونَ تقرءونه على الناس. وقرىء: تدرسون، من التدريس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
٨٠- وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ وقرىء: أيأمركم، بالنصب عطفا على ثُمَّ يَقُولَ، وعليه:
فإما أن تكون (لا) مزيدة لتأكيد معنى النفي فى قوله ما كانَ لِبَشَرٍ، والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء الى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له.
وإما أن تكون (لا) غير مزيدة، والمعنى:
أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
والقراءة بالرفع على ابتداء (الكلام) أظهر.
أَيَأْمُرُكُمْ الهمزة للإنكار.
بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له.
٨١- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
239
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أي أخذ الميثاق على النبيين.
ويجوز أن يضيف الميثاق الى النبيين إضافته الى الموثق عليه، كما تقول: ميثاق الله وعهد الله، كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم.
ويجوز أن يراد ميثاق أولاد النبيين، وهم بنو إسرائيل، على حذف المضاف.
ويجوز أن يراد أهل الكتاب، وأن يرد على زعمهم تهكما بهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون.
لَما آتَيْتُكُمْ اللام لام التوطئة، لأن أخذ الميثاق فى معنى الاستحلاف.
و (ما) يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط. ولتؤمنن، سادّ مسد جواب القسم والشرط جميعا، كما يحتمل أن تكون موصولة بمعنى:
الذي آتيتموه لتؤمنن به.
وقرىء: لما، بكسر اللام، ومعناه: لأجل ايتائى إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجىء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، على أن (ما) مصدرية، والفعلان معها آتَيْتُكُمْ وجاءَكُمْ فى معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أنى آتيتكم الحكمة وأن الرسول الذي آمركم بالايمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. وقرىء: لما، بالتشديد، بمعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الايمان به ونصرته.
240
وقيل: أصله: لمن ما، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات، وهى الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها فى الميم، فحذفوا احداها، فصارت: لما، ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به.
لَتُؤْمِنُنَّ لام جواب القسم.
إِصْرِي: عهدى، وسمى إصرا، لأنه مما يؤصر، أي يشد ويعقد.
فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار.
وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ من إقراركم وتشاهدكم.
مِنَ الشَّاهِدِينَ توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض.
وقيل: الخطاب للملائكة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
٨٢- فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ:
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الميثاق والتوكيد.
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون من الكفار.
٨٣- أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ دخلت همزة الاستفهام على الفاء العاطفة جملة على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما.
ويجوز أن يعطف على محذوف، تقديره: أيتولون.
وقدم المفعول الذي هو فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه الى المعبود بالباطل.
طَوْعاً بالنظر فى الأدلة والانصاف من نفسه.
وَكَرْهاً بالسيف، أو بمعاينة ما يلجىء الى الإسلام ثم كنتق الجبل على بنى إسرائيل، وادراك الغرق فرعون.
وانتصب: طوعا، وكرها، على الحال، بمعنى طائعين ومكرهين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
٨٤- قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ:
آمَنَّا صدقنا.
بِاللَّهِ المعبود وحده.
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا عدى بحرف الاستعلاء، وعدى قيل بحرف الانتهاء، لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحى ينزل من فوق وينتهى الى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ موحدون مخلصون، أنفسنا له، لا تجعل له شريكا فى عبادتها.
٨٥- وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ يعنى التوحيد واسلام الوجه لله تعالى.
مِنَ الْخاسِرِينَ من الذين وقعوا فى الخسران.
٨٦- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ:
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم من تصميمهم على كفرهم ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد ايمانهم، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق، وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوة، وهم اليهود، كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة ايمانهم من البينات.
وقيل: نزلت فى رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم: طعمة بن أبيرق، ووحوح بن الأسلت، والحارث بن سويد ابن الصاحب.
وَشَهِدُوا عطف على ما فى إِيمانِهِمْ من معنى الفعل، لأن معناه: بعد أن آمنوا. ويجوز أن تكون (الواو) للحال بإضمار (قد) بمعنى: كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
٨٧- أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ:
جَزاؤُهُمْ عقوبتهم عند الله.
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ استحقاق غضب الله عليهم ولعنته.
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ولعنة صفوة الخلق جميعا من ملائكة وبشر.
٨٨- خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ:
خالِدِينَ فِيها لا تفارقهم اللعنة.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ولا هم يمهلون.
٨٩- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر والارتداد.
وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا، أو دخلوا فى الإصلاح.
٩٠- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد ايمانهم بموسى والتوراة.
ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بكفرهم بمحمد والقرآن، أو كفروا برسول الله بعد ما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا بإصرارهم على ذلك وطعنهم فى كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الايمان، وسخريتهم بكل آية تنزل.
لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عبارة عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
٩١- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:
ذَهَباً نصب على التمييز. وقرىء: ذهب، بالرفع، ردا على مِلْءُ.
وَلَوِ افْتَدى بِهِ محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا.
٩٢- لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تبلغوا حقيقة البر، ولن تكونوا أبرارا.
وقيل: لن تنالوا بر الله، وهو ثوابه.
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أي: حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها.
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي بكل شىء تنفقونه فمجازيكم بحسبه.
٩٣- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:
كُلُّ الطَّعامِ أي: كل أنواع الطعام.
كانَ حِلًّا الحل، مصدر، يقال: حل الشيء حلا، ولذلك استوى فى الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع.
إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ إسرائيل، هو يعقوب عليه السلام، وكان حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها.
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ يعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوراة، لم يحرم منها شىء قبل ذلك غير
المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه.
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث، لا تحريم قديم كما يدعونه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
٩٤- فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
بزعمه أن ذلك كان محرما على بنى إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة.
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم، ولا يلتفتون الى البينات.
٩٥- قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ تعريض بكذبهم، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون.
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهى ملة الإسلام التي عليها محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ومن آمن معه.
٩٦- إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ:
وُضِعَ لِلنَّاسِ صفة لبيت، والواضع هو الله عز وجل.
لَلَّذِي بِبَكَّةَ بكة، هى مكة، علم للبلد الحرام.
مُبارَكاً كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده.
وانتصابه على الحال من المستكن فى الظرف، لأن التقدير: للذى ببكة هو، والعامل فيه المقدر فى الظرف من فعل الاستقرار.
وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
٩٧- فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ:
مَقامُ إِبْراهِيمَ عطف بيان لقوله آياتٌ بَيِّناتٌ.
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً دل على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام ابراهيم وأمن داخله.
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته.
وَمَنْ كَفَرَ مكان: ومن لم يحج، تغليظا على تارك الحج.
٩٨- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ:
وَاللَّهُ شَهِيدٌ الواو للحال والمعنى: لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، والحال أن الله شهيد على أعمالكم فمجازيكم عليها.
٩٩- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ:
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها، وهو الإسلام.
تَبْغُونَها عِوَجاً تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة.
وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أنها سبيل الله لا يصد عنها الا ضال مضل.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ وعيد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)
١٠٠- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعنى الأوس والخزرج.
إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً يعنى شأس بن قيس اليهودي، وكان قد دس على الأوس والخزرج من يذكرهم بما كان بينهم من الحروب، ولقد هموا أن يثيروها حربا ويرتدوا فى جاهليتهم كفارا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
١٠١- وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ استفهام فيه معنى الإنكار والتعجيب، أي من أين يتطرق إليكم الكفر.
وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ أي والحال أن آيات الله، وهى القرآن المعجز، تتلى عليكم على لسان الرسول، وبين أظهركم رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم، ينبهكم ويعظكم ويزيج شبهكم.
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي ومن يتمسك بدينه.
فَقَدْ هُدِيَ أي فقد حصل له الهدى لا محالة.
١٠٢- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:
حَقَّ تُقاتِهِ أي واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بما أوجب واجتناب ما حرم.
وَلا تَمُوتُنَّ أي ولا تكونن على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.
١٠٣- وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهارهم به ووثوقهم بحمايته، بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده، والاعتصام لوثوقه بالعهد.
أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه، والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه.
وَلا تَفَرَّقُوا أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، كما كنتم متفرقين فى الجاهلية.
إِخْواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد.
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي وكنتم مشرفين على أن تقعوا فى نار جهنم.
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإسلام، والضمير للحفرة، أو للنار، أو للشفا، وانما أنت لاضافته الى الحفرة. وشفا الحفرة: حرفها.
كَذلِكَ مثل ذلك البيان البليغ.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ارادة أن تزدادوا هدى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٦]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
١٠٤- وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ من، للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم.
١٠٥- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ:
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا هم اليهود والنصارى.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهى كلمة الحق.
١٠٦- يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ نصب بالظرف، وهو (لهم) أو بإضمار: اذكر.
والبياض من النور. والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره واشراقه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده.
أَكَفَرْتُمْ فيقال لهم: أكفرتم؟ والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
١٠٧- وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:
فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ففى نعمته، وهى الثواب المخلد.
هُمْ فِيها خالِدُونَ فى موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
١٠٨- تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ:
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الواردة فى الوعد والوعيد.
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه.
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد فى عقاب مجرم، أو ثواب محسن. ونكر ظُلْماً وقال لِلْعالَمِينَ على معنى:
ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه.
١٠٩- وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ:
لما ذكر تعالى أحوال المؤمنين والكافرين، وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصل هذا بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما فى السماوات وما فى الأرض فى قبضته.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١١]

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
١١٠- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أي وجدتم خير أمة. وقيل كنتم فى علم الله خير أمة.
أُخْرِجَتْ: أظهرت.
تَأْمُرُونَ كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة.
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جعل الايمان بكل ما يجب الايمان ايمانا بالله، لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله.
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع ايمانهم بالله.
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي لكان الايمان خيرا لهم مما هم عليه، لأنهم انما آثروا دينهم على دين الإسلام، حبا للرياسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا، ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الايمان من إيتاء الأجر مرتين.
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه.
وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ المتمردون فى الكفر.
١١١- لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ:
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً إلا ضرارا مقتصرا على أذى بقول من طعن فى الدين أو تهديد أو نحو ذلك.
وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر.
ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
١١٢- ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يعنى اليهود.
أَيْنَ ما ثُقِفُوا أين ما وجدوا.
إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ فى محل النصب على الحال، والتقدير: الا معتصمين متمسكين أو متلبسين بحبل من الله، وهو استثناء من أعم عام الحال. والمعنى: ضربت عليهم الذلة فى عامة الأحوال الا فى حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعنى ذمة الله وذمة المسلمين، أي لا عز لهم قط الا هذه الواحدة. وهى التجاؤهم الى الذمة لما قبلوه من الجزية.
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي استوجبوه.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون فى المسكنة غير ظاعنين عنها.
ذلِكَ اشارة الى ما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله، أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء.
ذلِكَ بِما عَصَوْا أي ذلك كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده ليعلم أن الكفر وحده ليس بسبب فى استحقاق سخط الله، وأن سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر.
١١٣- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ:
لَيْسُوا الضمير لأهل الكتاب. أي ليس أهل الكتاب مستوين.
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كلام مستأنف لبيان قوله لَيْسُوا سَواءً.
أُمَّةٌ قائِمَةٌ مستقيمة عادلة، وهم الذين أسلموا منهم.
يَتْلُونَ فى محل رفع صفة لقوله أُمَّةٌ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٤ الى ١١٧]
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
١١٤- يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ:
يُؤْمِنُونَ فى محل رفع صفة لقوله أُمَّةٌ.
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ المسارعة فى الخير فرط الرغبة فيه، لأن من رغب فى الأمر سارع فى توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي.
وَأُولئِكَ الموصوفون بما وصفوا به.
مِنَ الصَّالِحِينَ الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم.
١١٥- وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ:
فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي فلن يحرموا جزاءه. وقرىء: فلن تكفروه، بالتاء المثناة الفوقية.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ بشارة للمتقين بجزيل الثواب.
١١٦- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن تغنى عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا. وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم.
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ابتداء وخبر.
١١٧-ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
الصر من الرياح: الباردة، فوصف بها القرة، بمعنى: فيها قرة صر، كما تقول: برد بارد على المبالغة. وقد يكون الصر مصدرا، فجىء به على أصله فشبه ما كانوا ينفقون من أموالهم فى المكارم والمفاخر وكسب حسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما.
َهْلَكَتْهُ
عقوبة لهم على معاصيهم.
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول.
أو يكون الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، وما ظلمهم الله باهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
١١٨- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ:
بِطانَةً بطانة الرجل: خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بشقوره ثقة به، شبه ببطانة الثوب.
مِنْ دُونِكُمْ أي من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون.
لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا ألا فى الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل فعدى الى مفعولين فى قولهم: لا آلوك نصحا، على التضمين، والمعنى:
لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال: الفساد.
وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ودوا عنكم، على أن (ما) مصدرية. والعنت:
شدة الضرر والمشقة.
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين.
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وجوب الإخلاص فى الدين، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما بينا لكم فعملتم به.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
١١٩- ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ:
(ها) للتنبيه.
(أنتم) مبتدأ.
أُولاءِ خبره، أي أنتم أولاء الخاطئون فى موالاة منافقى أهل الكتاب.
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ بيان لخطئهم فى موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء.
وقيل: أولاء، موصول، وتُحِبُّونَهُمْ صلته.
وَتُؤْمِنُونَ الواو للحال.
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فهو يعلم ما فى صدور المنافقين من الحنق والبغضاء، وما يكون منهم فى حال خلو بعضهم ببعض.
١٢٠- إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ:
حَسَنَةٌ الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع.
سَيِّئَةٌ السيئة، ما كان ضد ذلك.
هذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير، ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدة. والمس مستعار لمعنى الاصابة فهما بمعنى.
وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم.
وَتَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم.
بِما يَعْمَلُونَ فى عداوتهم.
مُحِيطٌ فمعاتبهم عليه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
١٢١- وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ بالمدينة. وهو غدوه الى أحد من حجرة عائشة رضى الله عنها.
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم.
مَقاعِدَ لِلْقِتالِ مواطن ومواقف.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم.
١٢٢- إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ:
إِذْ هَمَّتْ بدل من إِذْ غَدَوْتَ، أو عمل فيه معنى سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
طائِفَتانِ حيان من الأنصار، بنو مسلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان، خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فى ألف، والمشركون فى ثلاثة آلاف، ووعدهم الفتح ان صبروا، فانخزل عبد الله ابن أبىّ بثلث الناس، وقال: يا قوم، علام نقتل أنفسنا وأولادنا، وهم الحيان باتباع عبد الله، فعصمهم الله، فمضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
أَنْ تَفْشَلا أن تجبنا وتخورا.
وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما ومتولى أمرهما.
١٢٣- وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:
بِبَدْرٍ اسم ماء بين مكة والمدينة.
أَذِلَّةٌ جمع قلة، وجاء به ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم: ما كانوا فيه من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب.
وقلتهم: أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عددهم زهاء ألف مقاتل.
فَاتَّقُوا اللَّهَ فى الثبات مع رسوله.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٦]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
١٢٤- إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ:
(إذ) ظرف لنصركم، أو بدل ثان من إِذْ غَدَوْتَ.
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ انكار ألا يكفيهم الامداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وجىء بلفظة أَلَنْ الذي هو لتأكيد النفي، للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم وشوكتهم كالآيسين من النصر.
١٢٥- بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ:
بَلى إيجاب لما بعد (لن)، والمعنى: بل يكفيكم الامداد بهم، فأوجب الكفاية.
إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا يمددكم بأكثر من ذلك العدد.
وَيَأْتُوكُمْ يعنى المشركين.
مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي من ساعتهم هذه.
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بالملائكة فى حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم.
مُسَوِّمِينَ معلمين بعلامات، على بناء اسم المفعول. وقرىء:
مسومين، بكسر الواو المشددة، أي معلمين أنفسهم وخيلهم.
١٢٦- وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ:
وَما جَعَلَهُ الهاء ل- (أن يمد)، أي وما جعل الله امدادكم بالملائكة الا بشارة لكم بأنكم تنصرون.
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ كما كانت السكينة لبنى إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم.
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة، ولكن ذلك مما يقوى به الله رجاء النصرة والطمع فى الرحمة ويربط به قلوب المجاهدين.
الْعَزِيزِ الذي لا يغالب فى حكمه.
الْحَكِيمِ الذي يعطى النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
١٢٧- لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ:
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم.
أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة.
فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ غير ظافرين بمبتغاهم.
١٢٨- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض. والمعنى: أن الله مالك أمرهم، فاما يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم ان أسلموا، أو يعذبهم ان أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شىء، انما أنت مبعوث لانذارهم ومجاهدتهم.
أَوْ يَتُوبَ منصوب بإضمار (أن). و (أن يتوب) فى حكم اسم معطوف بأو على الْأَمْرِ، أو على شَيْءٌ، أو المثوبة عليهم، أو تعذيبهم.
وقيل (أو) بمعنى: الا أن، على معنى: ليس لك من أمرهم شىء الا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٣]

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
١٢٩- وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر الا للتائبين.
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ولا يشاء أن يعذب الا المستوجبين للعذاب.
١٣٠- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:
لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً نهى عن الربا، مع توبيخ فيما كانوا عليه من تضعيفه، فلقد كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد فى الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون.
١٣١- وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ:
قيل: هى أخوف آية فى القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين ان لم يتقوه فى اجتناب محارمه.
١٣٢- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ أي أطيعوا الله فى الفرائض.
وَالرَّسُولَ فى السنن.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي كى يرحمكم الله.
١٣٣- وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ:
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سارعوا وبادروا الى ما يوجب المغفرة، وهى الطاعة.
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ المراد وصفها بالسعة والبسطة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه. وخص العرض، لأنه فى العادة أدنى من الطول، للمبالغة.
والمسارعة الى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٥]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
١٣٤- الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ:
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فى حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر لا يخلون بأن ينفقوا فى كلتا الحالتين ما قدروا عليه من قليل أو كثير.
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يمسكون على ما فى نفوسهم منه بالصبر فلا يظهر له أثر.
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ إذا جنى أحد لم يؤاخذوه.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ اللام فى (المحسنين) للجنس، فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون. وقد تكون للعهد فتكون اشارة الى هؤلاء.
١٣٥- وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ:
وَالَّذِينَ عطف على (المتقين)، أي أعدت للمتقين وللتائبين.
فاحِشَةً فعلة متزايدة القبح.
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي: أو أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذون به.
وقيل: الفاحشة: الكبيرة. وظلم النفس: الصغيرة.
ذَكَرُوا اللَّهَ تذكروا عقابه، أو وعيده، أو نهيه.
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين على عدم العودة.
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وأنه لا مفزع للمذنبين الا فضله وكرمه، وأنه وحده معه مصححات المغفرة. وهى جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
وَلَمْ يُصِرُّوا ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فعل (الإصرار) وحرف النفي منصب عليهما معا. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها وبالوعيد عليها.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٩]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
١٣٦- أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ:
أُولئِكَ اشارة الى الفريقين.
أَجْرُ الْعامِلِينَ قال أَجْرُ الْعامِلِينَ بعد قوله جَزاؤُهُمْ لأنهما فى معنى واحد، وانما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه. والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العالمين ذلك، يعنى المغفرة والجنات.
١٣٧- قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يريد ما سنه الله فى الأمم المكذبين من وقائعه.
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ العاقبة آخر الأمر.
يقول: فأنا أمهلهم وأستدرجهم وأملى لهم حتى يبلغ الكتاب أجله.
١٣٨- هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ:
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب.
وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يعنى أنه مع كونه بيانا وتنبيها للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين.
١٣٩- وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين
عما أصابهم يوم أحد وتقوية من قلوبهم. يعنى ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم، أي لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا ولا تبالوا به ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح.
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب، أي وأنتم الأعلون منهم فى العاقبة.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالنهى، بمعنى: ولا تهنوا ان صح ايمانكم على أن صحة الايمان توجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه.
أو متعلق بقوله الْأَعْلَوْنَ أي ان كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
١٤٠- إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قرح: جراح. أي ان نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ تلك، مبتدأ، والأيام صفته. والمراد بالأيام:
أوقات الظفر والغلبة.
نُداوِلُها خبر المبتدأ، أي نصرفها بين الناس، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا المعلل محذوف، أي وليتميز الثابتون على الايمان منكم من الذين على حرف، وهو من باب التمثيل، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الايمان منكم من غير الثابت، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها.
وقد تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، ويكون المعنى:
وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم الله. وانما حذف للايذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجرى عليه من المصائب، ولا يشعر أن لله فى ذلك من المصالح ما هو غافل عنه.
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وليكرم ناسا منكم بالشهادة. يريد المستشهدين يوم أحد. أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ اعتراض بين بعض التعليل وبعض.
والمعنى: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الايمان، المجاهدين فى سبيل الله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤١ الى ١٤٣]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
١٤١- وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ:
لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا التمحيص: التطهير.
وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يهلكهم.
أي ان كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص.
وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
١٤٢- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ:
أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للانكار.
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ أي: ولما تجاهدوا، لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقة لأنه منتف بانتفائه.
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ نصب بإضمار (أن) والواو بمعنى الجمع.
وقرىء بالجزم على العطف.
١٤٣- وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ:
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خوطب به الذين لم يشهدوا بدرا وكانوا ينمنون أن يحضروا مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر.
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا.
وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
١٤٤- وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ:
أَفَإِنْ ماتَ الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها، على معنى التسبيب، والهمزة لانكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لا للانقلاب عنه.
فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً فما ضر إلا نفسه، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضار والمنافع.
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الذين لم ينقلبوا. وسماهم الشاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.
وكان عبد الله بن قمئة رمى رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم بحجر فكسر رباعيته، وشج وجهه ثم أقبل يريد قتله، فذب عنه صلّى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير، وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد، فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال: قد قتلت محمدا. وصرح صارخ: ألا إن محمدا قد قتل. ففشا فى الناس خبر قتله فانكفئوا،
فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدعو:
إلى عباد الله، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه. وفى هذا نزلت هذه الآية.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]

وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
١٤٥- وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ:
كِتاباً مصدر مؤكد، لأن المعنى: كتب الموت كتابا.
مُؤَجَّلًا مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد.
نُؤْتِهِ مِنْها من ثوابها، أي ثواب الآخرة.
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شىء عن الجهاد.
١٤٦- وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
رِبِّيُّونَ ربانيون.
فَما وَهَنُوا عند قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعده.
وَمَا اسْتَكانُوا للعدو.
وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم.
١٤٧- وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ:
وَما كانَ قَوْلَهُمْ هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين، هضما لها واستقصارا.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا تقدم الدعاء بالاستغفار منها على طلب تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب، والنصرة على العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع وأقرب إلى الاستجابة.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٢]

فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
١٤٨- فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ:
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر.
وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ خص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله، وأنه هو المعتد به عنده.
١٤٩- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ:
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا أي إن تستنصحوهم وتقبلوا منهم.
يَرُدُّوكُمْ عن دينكم إلى الكفر.
١٥٠- بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ:
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي متوليكم ولا تحتاجون معه إلى ولاية أحد.
١٥١- سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ:
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يشير إلى ما قذف الله به فى قلوب المشركين يوم أحد من خوف فرجعوا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة.
بِما أَشْرَكُوا بسبب إشراكهم.
ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة، ولم يعن أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم، لأن الشرك لا يستقيم أن يقوم عليه حجة، وإنما المراد نفى الحجة ونزولها جميعا.
١٥٢- وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وعدهم الله النصر بشرط الصبر والتقوى.
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ إذ تقتلونهم قتلا ذريعا.
حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ الفشل: الجبن وضعف الرأى. وحَتَّى إِذا متعلق بمحذوف، تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره.
وَتَنازَعْتُمْ أي اختلفتم. يقول بعضهم- أي بعض الرماة-:
قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا؟ ويقول بعض: لا نخالف أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد أقام الرماة عند جبل أحد، وأمرهم أن يثبتوا فى مكانهم ولا يبرحوا، كانت الدولة للمسلمين أو عليهم.
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وهم الذين برحوا مكانهم وتعقبوا المشركين يغنمون.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الذين ثبتوا مكانهم لا يبرحونه.
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ردكم عنهم بالانهزام.
لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان.
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لما علم ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالعفو.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
١٥٣- إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ:
إِذْ تُصْعِدُونَ نصب بقوله صَرَفَكُمْ أو بقوله لِيَبْتَلِيَكُمْ، أو بإضمار (اذكر). والإصعاد: الذهاب فى الأرض والإبعاد فيها. يقال:
صعد فى الجبل، وأصعد فى الأرض.
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا.
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ يعنى قوله: إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة.
فِي أُخْراكُمْ أي فى ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهى المتأخرة.
فَأَثابَكُمْ عطف على صَرَفَكُمْ، أي فجازاكم الله.
غَمًّا حين صرفكم عنهم وابتلاكم.
بِغَمٍّ أي بسبب غم أذقتموه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعصيانكم له، أو غما مضاعفا، غما بعد غم، وغما متصلا بغم، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر.
لِكَيْلا تَحْزَنُوا لتتمرنوا على تجرع الغموم وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
١٥٤- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ:
أَمَنَةً أمنا.
نُعاساً بدل من أَمَنَةً ويجوز أن يكون هو المفعول، وأَمَنَةً حال منه مقدمة عليه.
طائِفَةً مِنْكُمْ هم أهل الصدق واليقين.
وَطائِفَةٌ هم المنافقون.
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي ما بهم إلا هم أنفسهم، لا هم الذين، ولا هم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
267
غَيْرَ الْحَقِّ فى حكم المصدر. والمعنى: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظهر به.
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل منه. وقد يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية، وغير الحق، تأكيد لقوله يَظُنُّونَ.
يَقُولُونَ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يسألونه.
هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط يعنون النصر والإظهار على العدو.
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وهو النصر والغلبة.
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي يقولون لك فيما يظهرون:
هل لنا من الأمر شىء سؤال المؤمنين المسترشدين، وهم فيما يبطنون على النفاق، يقولون فى أنفسهم، أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم: إن الأمر كله لله.
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي لو كان الأمر كما قال محمد صلّى الله عليه وآله وسلم:
إن الأمر كله لله، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل فى هذه المعركة.
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ يعنى من علم الله أنه يقتل ويصرع فى هذه المصارع لم يكن بد من وجوده، فلو قعدتم فى بيوتكم.
لَبَرَزَ من بينكم.
الَّذِينَ علم الله أنهم يقتلون.
إِلى مَضاجِعِهِمْ أي مصارعهم، ليكون ما علم الله أنه يكون.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي وليمتحن الله ما فى صدور المؤمنين من الإخلاص.
وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ من وساوس الشيطان.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي ما فيها من خير وشر. وذات الصدور، هى الصدور، لأن ذات الشيء نفسه.
268

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٦]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
١٥٥- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ:
اسْتَزَلَّهُمُ طلب منهم الزلل ودعاهم إليه.
بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من ذنوبهم.
يعنى أن الذين انهزموا يوم أحد كان السبب فى توليهم أنهم أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا.
وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي، وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم، لأن الذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة.
وقيل: بعض ما كسبوا، هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالثبات فيه فجرهم ذلك إلى الهزيمة.
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم واعتذارهم.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب.
حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة.
١٥٦- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:
وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ يعنى فى النفاق، أو فى النسب فى السرايا التي بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى بئر معونة.
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي إذا سافروا بعد للتجارة أو غيرها.
أَوْ كانُوا غُزًّى غزى، جمع غاز.
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا. وحسرة، أي ندامة فى قلوبهم.
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي الأمر بيده، قد يحيى المسافر والغازي، ويميت المقيم، والقاعد، كما يشاء.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تكونوا مثلهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٧ الى ١٥٩]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
١٥٧- وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ:
لَمَغْفِرَةٌ جواب القسم، وهو ساد مسد جواب الشرط.
١٥٨- وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ:
لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ وعظ، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره.
١٥٩- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ:
فَبِما ما، مزيدة للتوكيد، والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله.
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا جافيا.
غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسية.
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم.
فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك.
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق الله إتماما للشفقة عليهم.
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يعنى فى أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر برأيهم.
فَإِذا عَزَمْتَ فإذا قطعت الرأى على شىء بعد الشورى.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فى إمضاء أمرك على الأرشد والأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا من تشاور.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)
١٦٠- إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ:
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم يوم بدر.
فَلا غالِبَ لَكُمْ فلا أحد يغلبكم.
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما خذلكم يوم أحد.
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ فهذا تنبيه على أن الأمر كله الله، وعلى وجوب التوكل عليه.
مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل، والتفويض إليه، لعلمهم أنه لا ناصر سواه ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه.
١٦١- وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ:
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي وما صح له ذلك، يعنى أن النبوة تنافى الغلول، وهو الأخذ فى خفية.
يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي يعدل بينهم فى الجزاء، كل جزاؤه على قدر كسبه.
١٦٢- أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ:
فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي بترك الغلول، والصبر على الجهاد.
كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي بكفر أو غلول، أو تول عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فى الحرب.
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي مثواه النار، إن لم يتب أو يعفو الله عنه.
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٥]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
١٦٣- هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ:
هُمْ دَرَجاتٌ أي ذوو درجات، والمعنى: تفاوت منازل المثابين ومنازل المعاقبين.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بأعمالهم ودرجاتها، فمجازيهم على حسبها.
١٦٤- لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ على من آمن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من قومه.
مِنْ أَنْفُسِهِمْ من جنسهم عربيا مثلهم، وفى هذا شرف لهم.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ بعد ما كانوا أهل جاهلية.
وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم من دنس القلوب بالكفر.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ القرآن والسنة.
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ من قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. و (إن) هنا، هى المخففة من الثقيلة.
لَفِي ضَلالٍ اللام هى الفارقة بين (إن) المخففة وبين (إن) النافية. والتقدير: وإن الشأن والحديث، كانوا من قبل فى ضلال.
مُبِينٍ ظاهر لا شبهة فيه.
١٦٥- أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم. و (لما) نصب بقوله قُلْتُمْ. وأَصابَتْكُمْ محل الجر، بإضافة (لما) إليها. والتقدير: أقلتم حين أصابتكم.
قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين.
أَنَّى هذا نصب لأنه مقول، أي: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل فى سبيل الله، وحن مسلمون، وفينا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والوحى، وهم مشركون.
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعنى مخالفة الرماة.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على النصر وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة، ويصيب منكم أخرى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
١٦٦- وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ:
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين.
فَبِإِذْنِ اللَّهِ فهو كائن بإذن الله وتخليته. استعار الإذن لتخليته الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الآذن مخل بين المأذون ومراده.
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون، وليظهر إيمان هؤلاء، ونفاق هؤلاء.
١٦٧- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ:
وَقِيلَ لَهُمْ من جملة الصلة، عطف على نافَقُوا، كأنه قيل:
فماذا قالوا لهم؟ فقيل: قالوا لو نعلم. ويجوز أن تقصر الصلة على نافَقُوا ويكون وَقِيلَ لَهُمْ مبتدأ.
أَوِ ادْفَعُوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا، لأن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه.
قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا.
لَاتَّبَعْناكُمْ يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم ليس بشىء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، فلقد كان من رأى عبد الله الإقامة بالمدينة، وما كان يستصوب الخروج.
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يعنى أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان. وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين، وقالوا ما قالوا، تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر.
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ لا يتجاوز إيمانهم أفواههم، ولا تعى قلوبهم منه شيئا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٨]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
١٦٨- الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:
الَّذِينَ قالُوا نصب على الذم، أو على الرد على الذين نافقوا، ويصح أن يكون رفعا على: هم الذين قالوا، أو على الإبدال من (واو) يَكْتُمُونَ. ويصح أن يكون بدلا من الضمير فى بِأَفْواهِهِمْ أو قلوبهم.
لِإِخْوانِهِمْ من المنافقين يوم أحد، أو إخوانهم فى النسب، أو سكنى الدار.
وَقَعَدُوا أي قالوا وقد قعدوا عن القتال.
لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا لو أطاعونا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل.
قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: قل إن كنتم صادقين فى أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلا وهو القعود عن القتال فجدوا إلى دفع الموت سبيلا. يعنى أن ذلك الدفع غير مغن عنكم لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولا بد لكم من أن يتعلق بكم بعضها.
وقوله فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ استهزاء بهم، أي إن كنتم دفاعين لأسباب الموت فادرءوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٠]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
١٦٩- وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ:
وَلا تَحْسَبَنَّ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أو هو عام.
وقرىء (ولا يحسبن) بالياء، ويكون الَّذِينَ قُتِلُوا فاعلا، أي:
ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا.
أَحْياءٌ أي هم أحياء.
عِنْدَ رَبِّهِمْ مقربون عنده ذوو زلفى.
يُرْزَقُونَ مثل ما يرزق سائر الأحياء، وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله.
١٧٠- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ:
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو التوفيق فى الشهادة، وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها.
وَيَسْتَبْشِرُونَ بإخوانهم المجاهدين.
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي لم يقتلوا فيلحقوا بهم. وقيل: لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.
مِنْ خَلْفِهِمْ يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بدل من الذين. والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشرهم الله بذلك فهم يستبشرون به.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧١ الى ١٧٢]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
١٧١- يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ:
يَسْتَبْشِرُونَ كرر ليعلق به ما هو بيان لقوله أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من ذكر النعمة والفضل وأن ذلك أجر لهم يجب فى عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع.
وَأَنَّ اللَّهَ قرىء بالفتح عطفا على النعمة والفضل، وبالكسر، على الابتداء، وعلى أن الجملة اعتراض.
١٧٢- الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا مبتدأ، خبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا، أو صفة لقوله الْمُؤْمِنِينَ فى الآية السابقة، أو منصوب على المدح.
وكان أبو سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج فى طلب أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد، وهى من المدينة على ثمانية أميال، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للنبيين.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٣ الى ١٧٥]

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
١٧٣- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ:
قالَ لَهُمُ النَّاسُ المثبطون.
إِنَّ النَّاسَ هم أبو سفيان وأصحابه.
فَزادَهُمْ إِيماناً أي فزادهم هذا القول إيمانا وعزما على الجهاد.
حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا.
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ونعم الموكول إليه هو.
١٧٤- فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ:
فَانْقَلَبُوا فرجعوا من بدر.
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهى السلامة وحذر العدو منهم.
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوهم.
وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بجرأتهم وخروجهم.
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم فيما فعلوا.
١٧٥- إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:
الشَّيْطانُ خبر ذلِكُمُ. والمعنى: إنما ذلكم المثبط هو الشيطان.
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جملة مستأنفة بيان لشيطنته، أو الشَّيْطانُ صفة لاسم الإشارة، ويُخَوِّفُ الخبر، ويُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه. وقيل: يعنى القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
فَلا تَخافُوهُمْ أي فلا تخافوا الناس الذين جمعوا لكم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا.
وَخافُونِ فجاهدوا مع رسولى وسارعوا إلى ما يأمركم به.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن الإيمان يقتضى أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٧٨]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
١٧٦- وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ:
لا يَحْزُنْكَ أي لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك.
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعا ويرغبون فيه أشد الرغبة.
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي إنهم لا يضرون بمسارعتهم فى الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائدا على غيرهم.
يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أي نصيبا من الثواب يبين كيف يعود وبال مسارعتهم فى الكفر عليهم.
وَلَهُمْ بدل الثواب.
عَذابٌ عَظِيمٌ وهذا أبلغ ما ضروا به أنفسهم.
١٧٧- إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ كرر ذكرهم للتأكيد والتسجيل بما أضاف إليهم، وإما أن يكون عاما.
شَيْئاً نصب على المصدر، أي شيئا من الضرر وبعض الضرر.
١٧٨- وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ:
وَلا يَحْسَبَنَّ قرىء: ولا تحسبن.
الَّذِينَ كَفَرُوا مع من قرأ بالياء رفع، ومع من قرأ بالتاء نصب.
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ بدل، أي ولا تحسبن أن ما نملى للكافرين خير لهم. و (أن) مع ما فى حيزه ينوب عن المفعولين. وما مصدرية، أي:
ولا تحسبن أن إملاءنا خير. والإملاء لهم: تخليتهم وشأنهم.
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ ما، هنا، كافة. وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرا لهم، فقيل: إنما نملى لهم ليزدادوا إثما. فازدياد الإثم علة للإملاء وليس غرضا.
وقرىء بكسر (إنما) الأولى، وفتح (أنما) الثانية، على معنى، ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاء لازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا فى الإيمان، ويكون أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ اعتراض بين الفعل ومعموله، والمعنى: أن املاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة وترك المعاجلة بالعقوبة.
ويكون معنى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على هذه القراءة: ولا تحسبوا أن إملاءنا لزيادة الإثم والتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
١٧٩- ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ:
لِيَذَرَ اللام لتأكيد النفي.
عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين.
والخطاب للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق.
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ حتى يعزل المنافق عن المخلص.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي وما كان الله ليؤتى أحدا منكم علم الغيوب فلا تتوهموا عند إخبار الرسول بنفاق رجل وإخلاص آخر أنه يطلع على ما فى القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها.
وَلكِنَّ اللَّهَ يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأن الغيب كذا، وأن فلانا فى قلبه النفاق، وفلانا فى قلبه الإخلاص فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن تقدروه حق قدره وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب، وتنزلوهم منازلهم بأن تعلوهم عبادا مجتبين، لا يعلمون إلا ما علمهم الله، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٠ الى ١٨١]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
١٨٠- وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ:
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ المفعول الأول محذوف، والتقدير:
ولا يحسبن الذين بخلوا بخلهم.
ومن قرأ بالتاء قدر مضافا محذوفا، أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون.
هُوَ خَيْراً لَهُمْ هو، فاصلة، وخيرا، هو المفعول الثاني.
سَيُطَوَّقُونَ تفسير لقوله شَرٌّ لَهُمْ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق.
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وله ما فيها مما يتوارثه أهله من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه فى سبيله.
بِما تَعْمَلُونَ على الالتفات وهى أبلغ فى الوعيد. وقرىء (يعلمون) بالياء على الظاهر.
١٨١- لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ:
قال ذلك اليهود حين سمعوا قول الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ أي لم يخف عليه وأنه أعد له كفاءه من العقاب.
سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي سنحفظه ونثبته فى علمنا كما يثبت المكتوب.
وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء، وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذانا بأنهما فى العظم أخوان.
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب الحريق.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٣]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
١٨٢- ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ:
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من عقابهم.
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وذكر الأيدى لأن أكثر الأعمال تزاول بهن، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدى على سبيل التغليب.
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي إنه عادل عليهم، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن.
١٨٣- الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:
عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا فى التوراة وأوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه الآية الخاصة، وهو أن يرينا قربانا تنزل نار من السماء فتأكله، وكانت تلك معجزة أنبياء بنى إسرائيل، وهذه وسائر الآيات سواء.
قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي إن أنبياءهم جاءوهم بالبينات الكثيرة التي أوجبت عليهم التصديق وجاءوهم أيضا بهذه الآية التي اقترحوها.
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فلم قتلوهم إن كانوا صادقين، أي أن الإيمان يلزمهم بإتيانها.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٤ الى ١٨٦]

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
١٨٤- فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ:
بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات.
وَالزُّبُرِ أي الكتب، الواحد: زبور.
وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح، يعنى التوراة والإنجيل. وجمع بين الزبر والكتاب، وهما بمعنى واحد، لاختلاف لفظهما.
١٨٥- كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ:
وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم.
فَمَنْ زُحْزِحَ أي أبعد ونحى.
فَقَدْ فازَ أي فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله، والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه، ثم يتبين له فساده ورداءته.
١٨٦- لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ البلاء فى الأنفس: القتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. وفى الأموال:
الإنفاق فى سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
ما كانوا يسمعونه من أهل الكتاب وممن أشركوا من المطاعن فى الدين، وصد عن الإيمان، وتخطئة لمن آمن.
فَإِنَّ ذلِكَ فإن الصبر والتقوى.
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزومات الأمور، أي مما يجب العزم عليه من الأمور، أو مما عزم الله أن يكون.
أي إن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٩]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
١٨٧- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب.
لَتُبَيِّنُنَّهُ الضمير للكتاب. أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم وقيل له: آلله لتفعلن.
فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعنى لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه.
والنبذ وراء الظهر مثل فى الطرح وترك الاعتداد.
١٨٨- لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
لا تَحْسَبَنَّ خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ المفعول الأول.
بِما أَتَوْا بما فعلوا. وقرىء (آتوا) أي أعطوا.
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد.
بِمَفازَةٍ مفعول ثان، أي بمنجاة.
١٨٩- وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أمرهم، وهو على كل شىء قدير، فهو يقدر على عقابهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٢]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
١٩٠- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ:
لَآياتٍ لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته.
لِأُولِي الْأَلْبابِ للذين يفتحون بصائرهم للنظر، وللاستدلال والاعتبار.
١٩١- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ذكرا دائبا على أي حال كانوا، من قيام وقعود واضطجاع، لا يخلون بالذكر فى أغلب أحوالهم.
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها بما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه.
ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على إرادة القول، أي يقولون ذلك، وهو فى محل الحال، بمعنى: يتفكرون قائلين. والمعنى: ما خلقته خلقا باطلا بغير حكمة، بل خلقته لداعى حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين. وأدلة على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك.
فَقِنا عَذابَ النَّارِ جزاء من عصى ولم يطع، ولذلك وصل بما قبله.
١٩٢- رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ:
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي فقد أبلغت فى إخزائه.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم من عذاب الله.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٣ الى ١٩٥]

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
١٩٣- رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ:
أَنْ آمِنُوا أي آمنوا، أو بأن آمنوا.
ذُنُوبَنا كبائرنا.
سَيِّئاتِنا صغائرنا.
مَعَ الْأَبْرارِ مخصوصين بصحبتهم، معدودين فى جملتهم.
١٩٤- رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ:
وَآتِنا ما وَعَدْتَنا أي التوفيق فيما يحفظ علينا أسباب إنجاز الميعاد. والموعود، هو الثواب أو النصرة على الأعداء.
وَلا تُخْزِنا أي لا تبعدنا.
١٩٥- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ أي أجابهم.
أَنِّي لا أُضِيعُ بالفتح على حذف الباء، أي بأنى، وقرىء بالكسر على ارادة القول.
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان لعامل.
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر، أي من أصله. وقيل: المراد وصلة الإسلام.
فَالَّذِينَ هاجَرُوا تفصيل لعمل العامل. أي فارين الى الله بدينهم من دار الفتنة.
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي واضطروا الى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشئوا بما سامهم المشركون من الخسف.
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي سبيلى، أي سبيل الدين، من أجله وبسببه.
وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا أي غزوا المشركين واستشهدوا.
ثَواباً فى موضع المصدر المؤكد، بمعنى إثابة.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ فهو المختص به وبقدرته وفضله، لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٨]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
١٩٦- لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ:
لا يَغُرَّنَّكَ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أو عام. أي لا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم فى الأرض وتصرفهم فى البلاد يتكسبون ويتجرون.
١٩٧- مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ:
مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك متاع قليل، وهو التقلب فى البلاد. أراد قلته فى جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو أنه قليل فى نفسه لانقضائه، وكل زائل قليل.
وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وساء ما مهدوا لأنفسهم.
١٩٨- لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ:
نُزُلًا النزل: ما يقام للنازل، وانتصابه إما على الحال من جَنَّاتٌ، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد، كأنه قيل: رزقا، أو عطاء.
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من الكثير الدائم.
خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٠]

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
١٩٩- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود والنصارى.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين.
خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يُؤْمِنُ لأن من يؤمن فى معنى الجمع.
لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم.
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ما يختص بهم من الأجر، وهو ما وعدوه.
٢٠٠- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:
اصْبِرُوا على الدين وتكاليفه.
وَصابِرُوا أعداء الله فى الجهاد، أي غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا.
وَرابِطُوا أي أقيموا فى الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو.
Icon