ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الم١ ﴾( الروم ) سبق أن تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات السور، ولا أريد إعادة ما قلته، لكن أريد من العلماء أن يلتفتوا إلى هذه المسألة لفتة إشراقية ترينا جميعا، وتكشف لنا الحكمة والأسرار في هذه الحروف.وقلنا : إن هذه الحروف( الم ) بنيت على الوقف، كل حرف منها على حدة، مع أن القرآن في مجمله مبني على الوصل في آياته وفي سوره، فآخر حرف في السورة موصول بأول حرف في التي تليها –فهنا نقول :( وإن الله لمع المحسنين بسم الله الرحمن الرحيم... ).
بل أعجب من هذا، نجد أن آخر سورة الناس مبني على الوصل بأول الفاتحة، فنقول :(... من الجنة والناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ).
فالقرآن إذن موصول، لا انقطاع فيه. فلماذا بنيت الحروف المقطعة في أوائل السور على الوقف، لماذا لا نقول : ألف لام ميم ؟ قالوا : لأن الله تعالى لم يشأ أن يجعلها كلمة واحدة، فجاءت على القطع، ويؤنسنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " ١. فنريد وننتظر من يدركه الله ليكون من المحسنين، ويدلنا على ما في هذه الحروف من سر يوقف عنده، ولا يوصل بغيره.
كلمة﴿ غلبت... ٢ ﴾( الروم ) تدل على وجود معركة غلب فريق، وغلب فريق، فالذي غلب هنا الروم، وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب، فالعراق منها قسم ناحية العرب، وقسم ناحية فارس، والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق٢ بن إبراهيم.
٢ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٤٢٤):"الروم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم وهم أبناء عم بني إسرائيل ويقال لهم بنو الأصفر، وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافث بن نوح، أبناء عم الترك وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ويقال لها المتحيرة ويصلون إلى القطب الشمالي وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها وفيه محاريب إلى جهة الشمال فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة"..
وفي قوله سبحانه :﴿ وهم من بعد غلبهم سيغلبون٣ ﴾( الروم )بشرى للمسلمين، فالفرس قوم كانوا يعبدون النار، أما الروم فأهل كتاب، إذن : فالخلاف بيننا وبين الفرس في القمة الإلهية، أما الخلاف بيننا وبين الروم ففي القمة الرسالية، فهم أقرب إلينا ؛ لأنهم يؤمنون بإلهنا، وإن كانوا لا يؤمنون برسولنا.
وهذا من عظمة الإسلام، فالذي يؤمن بالإله أقرب إلى نفوسنا من الذي لا يؤمن بالإله ؛ لأنه على الأقل موصول بالسماء ؛ لذلك لما غلبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون، وفرح كفار قريش لأن في هزيمة الروم دليلا على أن محمدا وأصحابه سينهزمون كأصحابهم.
وكلمة﴿ غلبهم... ٣ ﴾( الروم ) مصدر يضاف للفاعل مرة، ويضاف للمفعول مرة أخرى، تقول : أعجبني ضرب الأمير مذنبا، فأضفت المصدر للفاعل. وتقول : أعجبني ضرب المذنب فأضفت المصدر للمفعول، وكذلك هنا ﴿ غلبهم... ٣ ﴾( الروم ) مصدر أضيف إلى المفعول.
لكن لماذا قال سبحانه :﴿ سيغلبون ٣ ﴾( الروم ) وجاء بالسين الدالة على الاستقبال، ثم قال بعدها﴿ في بضع سنين٤ ﴾( الروم ) وهي أيضا دالة على الاستقبال ؟ قالوا : لأن الغلبة لا تأتي فجأة، إنما لا بد لها من إعداد طويل وأخذ بأسباب النصر، وتجهيز القوة اللازمة له، فكأنهم في مدة البضع سنين يعدون للنصر، فكلما أعدوا عدة أخذوا جزءا من النصر، فالنصر إذن لا يأتي في بضع سنين، إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين.
فهتلر مثلا لما انهزم في الحرب العالمية، وتألبت عليه كل الدول، جاء في عام ١٩٣٩ وهدد العالم كله بالحرب، فهل سقطت عليه القوة يهدد بها فجأة ؟ لا، بل ظل عدة سنوات يعد العدة ويجهز الجيش والأسلحة والطرق إلى أن توفرت له القوة التي يهدد بها.
لأن كلمة بضع تعني من الثلاثة إلى العشرة، فأخذها الصديق على أدنى مدلولاتها، لماذا ؟ لأن الصديق، والحق- سبحانه وتعالى – لا يحمل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين، وهذه من الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي الله عنه.
لذلك قال أبو بكر لأبي بن خلف : والله لا يقر الله عيونكم – يعني : بما فرحتم به من انتصار الكفار- وقد أخبرنا الله بذلك في مدة بضع سنين، فقال أبي : أتراهنني ؟ قال : أراهنك على كذا من القلائص- والقلوص هي الناقة التي تركب- في ثلاث سنين عشر قلائص إن انتصرت الروم، وأعطيك مثلنا إن انتصرت فارس.
فلما ذهب أبو بكر إلى رسول الله، وأخبره بما كان قال : " يا أبا بكر زده في الخطر وماده "، يعني زد في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلاث سنين إلى تسع، وفعلا ذهب الصديق لأبي وعرض عليه الأمر، فوافق في الرهان على مائة ناقة١.
فلما اشتد الأذى من المشركين، وخرج الصديق مهاجرا٢ رآه أبي بن خلف فقال : إلى أين يا أبا فيصل ؟ وكانوا يغمزون الصديق بهذه الكلمة، فبدل أن يقولوا : يا أبا بكر. والبكر هو الجمل القوي يقولون : يا أبا فيصل والفيصل هو الجمل الصغير- فقال الصديق : مهاجر، فقال : وأين الرهان الذي بيننا ؟ فقال : إن كان يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن، فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد الرحمن أبيا فقال له : إلى أين ؟ فقال : إلى بدر، فقال : وأين الرهان إن قتلت ؟ فقال : يعطيك ولدي.
وفي بدر٣ أصيب أبيّ بجرح من رسول الله مات فيه، وقدم ولده الجعل لعبد الرحمن، فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تصدقوا به " ٤.
وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية : سبق أن تكلمنا عن الغيب وعن المشهد. وقلنا : إن الغيب أنواع : غيب له مقدمات توصل إليه، كما تعطي التلميذ تمرينا هندسيا، وكالأسرار الكونية التي يتوصل إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون، كالذي اكتشف الآلة البخارية، وأرشميدس لما اكتشف قانون الأجسام الطافية... إلخ ولا يقال لهؤلاء : إنهم علموا غيبا، إنما أخذوا مقدمات موجودة واستنبطوا منها معدوما.
أما الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات توصل إليه، فهو غيب عن كل الناس، وفيه يقول تعالى :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا٢٦ إلا من ارتضى من رسول... ٢٧ ﴾( الجن )
ومن الغيب ما يغيب عنك، لكن لا يغيب عن غيرك، كالشيء الذي يسرق منك، فهو غيب عنك لأنك لا تعرف مكانه، وليس غيبا عمن سرقه منك.
وآفة الإنسان أنه لا يستغل المقدمات للبحث في أسرار الكون ليرتقى في الكونيات، إنما يستغلها لمعرفة غيب الآخرين، ونقول له : إن كنت تريد أن تعلم غيب الآخرين، فاسمح لهم أن يعلموا غيبك، وأعتقد أن أحدا لا يرضى ذلك.
إذن : ستر الغيب عن الخلق نعمة كبرى لله تعالى ؛ لأنه سبحانه رب الناس جميعا، ويريد سبحانه أن ينتفع خلقه بخلقه، ألا ترى أنك إن علمت في إنسان سيئة واحدة تزهدك في كل حسناته، وتجعلك تكرهه، وتكره كل حسنة من حسناته، فستر الله عنك غيب الآخرين لتنتفع بحسناتهم.
والغيب حجزه الله عنا، إما بحجاب الزمن الماضي، أو الزمن المستقبل، أو بحجاب المكان، فأنت لا تعرف أحداث الماضي قبل أن تولد إلى أن يأتي من تثق به، فيخبرك بما حدث في الماضي، وكذلك لا تعرف ما سيحدث في المستقبل، أما حاجز المكان فأنت لا تعرف ما يوجد في مكان آخر غير مكانك، وقد يكون الشيء في مكانك، لكن له مكين فلا تطلع عليه.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول... ٨ ﴾( المجادلة )
فمن الذي أخبر رسول الله بما في نفوسهم ؟ لقد خرق الله له حجاب المكان، وأخبره بما يدور في نفوس القوم، وأخبرهم رسول الله به، أما كان هذا كافيا لأن يؤمنوا بالله الذي أخرج مكنون صدورهم ؟ إذن : المسألة عندهم ولحاجة وإنكار.
وكذلك ما كان من رسول الله في غزوة مؤتة٥ التي دارت على أرض الأردن ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة- ونعلم أن أهل السيرة لا يطلقون اسم الغزوة إلا على التي حضرها رسول الله، وكل حدث حربي لم يحضره رسول الله نسميه سرية إلا مؤتة هي التي انفردت بهذه التسمية، فلماذا مع أن رسول الله لم يشهدها ؟
قالوا : بل شهدها رسول الله وهو بالمدينة، بما كشف الله له من حجاب المكان وأطلعه على ما يدور هناك حتى كان يخبر صحابته بما يدور في الحرب كأنه يراها، فيقول : أخذ الراية فلان فقتل، فأخذها فلان فقتل، فلما جاءهم الخبر وجدوا الأمر كما أخبر به سيدنا رسول الله ٦.
كما خرق له حجاب الماضي، فأخبره بحوادث في الأمم السابقة كما في قوله سبحانه :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر... ٤٤ ﴾( القصص )، ﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا... ٤٥ ﴾( القصص )
كما خرق له صلى الله عليه وسلم حجاب المستقبل، كما في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها :﴿ وهم من بعد غلبهم سيغلبون٣ في بضع سنين... ٤ ﴾( الروم ) فأروني أي قوة( كمبيوتر ) في الدنيا تنبئنا بنتيجة معركة ستحدث بعد ثلاث إلى تسع سنين.
فمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي المقيم في جزيرة العرب ولا يعرف شيئا عن قوة الروم أو قوة الفرس – يخبرنا بهذه النتيجة ؛ لأن الذي يعلم الأشياء على وفق ما تكون هو الذي أخبره، وكون محمد صلى الله عليه وسلم يعلنها ويتحدى بها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة دليل على تصديقه بمنطق الله له، وأنه واثق من حدوث ما أخبر به.
ولهذه الثقة سمي الصديق صديقا، فحين أخبروه بمقالة رسول الله عن الإسراء ما كان منه إلا أن قال : إن كان قال فقد صدق٧.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بهذه النتيجة، ويراهن المشركين عليها، ويتمسك بها، وما ذاك إلا لثقته في صدق هذا البلاغ، وأنه لا يمكن أبدا أن يتخلف.
وقوله تعالى﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد... ٤ ﴾( الروم ) يعني : إياكم أن تفهموا أن انتصار الفرس على الروم أو انتصار الروم على الفرس خارج عن مرادات الله، فلله الأمر من قبل الغلب، ولله الأمر من بعد الغلب.
فحين غلبت الروم لله الأمر، وحين انتصرت الفرس لله الأمر ؛ لأن الحق سبحانه يهيج أصحاب الخير بأن يغلب أصحاب الشر، ويحرك حميتهم ويوقظ بأعدائهم مشاعرهم، وينبههم إلى أن الأعداء لا ينبغي أن يكونوا أحسن منهم.
إذن : فنصر المكروه لله على المحبوب لله جاء بتوقيت من الله ؛ لذلك إياك أن تحزن حين تجد لك عدوا، فالأحمق هو الذي يحزن لذلك، والعاقل هو الذي يرى لعدوه فضلا عليه، فالعدو يذكرني دائما بأن أكون قويا مستعدا، يذكرني بأن أكون مستقيما حتى لا يجد عدوي مني فرصة أو نقيصة. العدو يجعلك تجند كل ملكاتك للخير لتكون أفضل منه ؛ لذلك يقول الشاعر :
عداي لهم فضل علي ومنة***فعندي لهم شكر على نفعهم ليا
فهم كدواء والشفاء بمره***فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
وهم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها***وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
إذن : لله الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكمة في أن ينتصر الباطل، ألا ترى غزوة أحد، وكيف هزم المسلمون لما خالفوا أمر رسول الله وتركوا مواقعهم طمعا في مغنم، انهزموا في أول الأمر، مع أن رسول الله معهم ؛ لأن سنة الله في كونه تقضي بالهزيمة حين نخالف أمر رسول الله، وكيف يكون الحال لو انتصر المسلمون مع مخالفتهم لأمر رسولهم ؟ لو انتصروا لفقد أمر الرسول مصداقيته، ولما أطاعوا له أمرا بعد ذلك.
وفي يوم حنين :﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم.... ٢٥ ﴾( التوبة ) حتى إن أبا بكر نفسه ليقول : لن نغلب اليوم عن قلة٨، فلما نظروا إلى قوتهم ونسوا تأييد الله هزموا في بداية الأمر، ثم يحن الله عليهم، وتتداركهم رحمته تعالى، فينصرهم في النهاية.
إذن : فلله الأمر من قبل ومن بعد، فإياك أن تظن أن انتصار الباطل جاء غصبا عن إرادة الله، أو خارجا عن مراده، إنما أراده الله وقصده لحكمة.
٢ كان أبو بكر الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكونه. قاله ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٤٨٠) كان هذا في الهجرة إلى المدينة، ولكن ثبت في السيرة النبوية (١/٣٧٢) أن أبا بكر الصديق لما ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة، وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال ابن الدغنة: أين يا أبا بكر ؟ قال: أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي. ثم أدخله في جواره ورجع أبو بكر إلى مكة..
٣ أبيّ بن خلف قتل في غزوة أحد، وليس في غزوة بدر، وقت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذكره البيهقي في دلائل النبوة (٣/٢١٢))، أما الذي قتل في غزوة بدر فهو أمية بن خلف قتله بلال (السيرة النبوية لابن هشام٢/٦٣٢)..
٤ التصدق بالرهان بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أورده السيوطي في الدر المنثور(٦/٤٨٠) وعزاه لأبى يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب أن أبا بكر هو الذي حمله إلى رسول الله فقال: "هذا السحت تصدق به" ولم يرد فيه ذكر لعبد الرحمن بن أبي بكر. فالله تعالى أعلم..
٥ كانت في جمادى الأولى سنة ثمان، وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحرث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بصري فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر فبعث البعث واستعمل عليه زيد بن حارثة "زاد المعاد لابن القيم(٢/١٥٥)..
٦ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم". أخرجه البخاري في صحيحه(٤٢٦٢)..
٧ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/٣٦١)، وكذا الحاكم في مستدركه (٣/٦٢-٦٣) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه "..
٨ أخرجه البيهقي في الدلائل(٥/١٢٣) عن الربيع بن أنس أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، وكانوا اثنى عشر ألفا فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله﴿ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم.... ٢٥﴾(التوبة) وأورده السيوطي في أسباب النزول(ص١٣٨)..
إنهم يفرحون لأنهم أصابوا الحق، فكلما جاءت آية فرح كل منهم بنفسه ؛ لأنه كان محقا حينما آمن بالإله الواحد الذي يعلم الأمور على وفق ما ستكون واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذن : لا تقصر هذه الفرحة على شيء واحد، إنما عدها إلى أمور كثيرة متداخلة.
كما أن اليوم الذي انتصر فيه الروم صادف اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في بدر١.
وقوله تعالى ﴿ ينصر من يشاء.... ٥ ﴾( الروم ) الفرس أو الروم، ما دام أن له الأمر من قبل ومن بعد﴿ وهو العزيز الرحيم٥ ﴾( الروم ) الحق سبحانه وصف نفسه بهاتين الصفتين : العزيز الرحيم، مع أن العزيز هو الذي يغلب ولا يغلب، فقاهريته سبحانه عالية في هذه الصفة- ومع ذلك أتبعها بصفة الرحمة ليحدث في نفس المؤمن هذا التوازن بين صفتي القهر والغلبة وبين صفة الرحمة.
كما أننا نفهم من صفة العزة هنا أنه لا يحدث شيء إلا بمراده تعالى، فحين ينتصر طرف وينهزم طرف آخر حتى لو انتصر الباطل لا يتم ذلك إلا لمراده تعالى ؛ لأن الله تعالى لا يبقي الباطل ولا يعلي الكفر إلا ليظهر الحق، فحين يعض الناس بالباطل، ويشقون بالفكر يفزعون إلى الإيمان ويتمسكون به.
واقرأ قوله تعالى :﴿ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا... ٤٠ ﴾( التوبة ) ولم يقل : وجعل كلمة الله هي العليا ؛ لأنها ليست جعلا لأن الجعل تحويل شيء إلى شيء، أما كلمة الله فهي العليا بداية ودائما، وإن علت كلمة الباطل إلى حين.
﴿ وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ٦ ﴾
الوعد : هو الإخبار بما يسر قبل أن يكون﴿ لا يخلف الله وعده... ٦ ﴾( الروم ) وفرق بين وعد الله ووعد الناس ؛ لأنك قد تعد إنسانا بخير، وتحول الأسباب بينك وبين إنفاذ ما وعدت به، كأن يتغير رأيك أو تضعف إمكاناتك، أو يتغير السبب الذي كنت ستفعل من أجله.
إذن : أنت لا تملك عناصر الوفاء وأسبابه، أما وعد الحق سبحانه وتعالى فوعد محقق، حيث لا توجد قوة تخرجه عما وعد، وهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما دام الوعد وعد الله فثق أنه محقق.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ٢٣ إلا أن يشاء الله... ٢٤ ﴾( الكهف ) والمعنى : اجعل لنفسك مخرجا من الكذب إن حالت الأسباب بينك وبين ما وعدت به، بأن تجعل أمرك تحت مشيئة ربك، لا مشيتك، لأنك لا تملك من عناصر إتمام الفعل شيئا.
إذن : أدرك نفسك، وقل إن شاء الله، حتى إذا حالت الأسباب بينك وبين ما أدرت قلت : شئت، ولكن الله تعالى لم يشأ.
والله تعالى لا يخلف وعده ؛ لأنه سبحانه يعلم الأشياء على وفق ما تكون، ولا توجد قوة تحوله عن مراده، وليس له شريك يراجعه، أو يخرجه عن مراده.
وإن شئت فاقرأ :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب١ ما أغنى عنه ماله وما كسب٢ سيصلى نارا ذات لهب٣ وامرأته حمالة الحطب٤ في جيدها حبل من مسد٥ ﴾( المسد )
ألم يكن من الممكن وقتها أن يسلم أبو لهب كما أسلم حمزة وعمر وخالد وعكرمة وغيرهم ؟ أليست له حرية الاختيار كهؤلاء ؟ بل ألم يسمع هذه السورة ؟ ومع هذا كله كفر وأصر على كفره، ولم ينطق بكلمة الإيمان، ولو حتى للكيد لرسول الله فيقول في نادى قريش ولو نفاقا : قال محمدا كذا وأنا أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. أليس هذا دليلا على غبائه ؟
إذن : ما دام أن القرآن أخبر فلا بد أن يتم الأمر على وفق ما أخبر به.
ونلحظ هنا أن كلمة الوعد تعني البشارة بالخير القادم في المستقبل والكلام هنا عن فريقين : فريق منتصر يفرح بالنصر، وفريق منهزم يحزن للهزيمة، فكيف يستقيم الوعد من حقه ؟ فالفرح للمؤمن غم لغير المؤمن.
ولتوضيح هذه المسألة نذكر أن المستشرقين وقفوا عند قوله تعالى من سورة الرحمن :﴿ خلق الإنسان من صلصال كالفخار١٤ وخلق الجان من مارج من نار١٥ فبأي آلاء ربكما تكذبان١٦ ﴾( الرحمن )
وقالوا : هذا الكلام معقول بالخلق من نعم الله، لكن ماذا عن قوله :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران٣٥ فبأي آلاء ربكما تكذبان٣٦ ﴾( الرحمن ) فأي نعمة في النار وفي الشواظ١ ؟
وفات هؤلاء أنه من النعمة أن ننبهك إلى الخطر قبل أن تقع فيه، ونحذرك من عاقبة الكفر لتنتهي عنه كالوالد الذي يقول لولده : إن أهملت دروسك ستفشل، وساعتها سأفعل بك كذا وكذا.
إذن : فذكر النار والعذاب نعمة لكل من خالف منهج الحق، فلعله حين يسمع الإنذار يعود ويرعوى.
وقوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون٦ ﴾( الروم ) نفي عنهم العلم أي : ببواطن الأمور وحقيقتها.
﴿ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون٧ ﴾
إذا رأيت فعلا نفي مرة، وأثبت مرة أخرى، فاعلم أن الجهة منفكة، فهم لا يعلمون بواطن الأمور، إنما يعلمون ظواهرها، وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء، إنما ظواهر الدنيا فحسب، ولا يعلمون بواطنها، فما بالك بالآخرة ؟
حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر، ثم رجعوا عنها بعد حين، تجد أننا لا نعلم من الدنيا إلا الظاهر، فمثلا قانون الإصلاح الزراعي الذي نعمل به منذ عام١٩٥٢، وكنا متحمسين له نمجده ولا نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم، ويطلبون إعادة النظر فيه، بل إلغائه ؛ لأنه لم يعد صالحا للتطبيق في هذا العصر، روسيا التي تنبت النظام الشيوعي ودافعت عنه بكل قوة هي التي نقضت هذا النظام وأسقطته.
ما أسقطته أمريكا مثلا، ولو أسقطته أمريكا لانتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها ؛ لذلك يقولون : ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها. ومن الممكن أن ينتحر هؤلاء كما انتحرت نظمهم فأولى بهم أن يستقيموا لله، وأن يخلصوا للناس.
إذن : لا نعرف من الدنيا إلا ظواهر الأشياء، ولا نعرف حقيقتها، كما نشقى الآن بسبب المبيدات الحشرية التي ظننا أنها ستريحنا وتوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية ؟
كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلا من تلوث في البيئة وقتل للأرواح كل يوم، ولك أن تقارن بين وسائل المواصلات في الماضي ووسائل المواصلات اليوم، فإن كان للوسائل الحديثة نفع عاجل، فلها ضرر آجل، ويكفي أن عادم المخلوق لله يصلح الأرض، وعادم المخلوق للبشر يفسدها، لماذا ؟ لأننا نعلم ظواهر الأشياء. ولو علم الذي اكتشف السولار مثلا حقيقته لما استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الآن.
هذا من علمنا بأمور الدنيا، أما الآخرة فنحن في غفلة عنها ؛ لذلك يقول سيدنا الحسن : أعجب للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه، و( يرنه ) فيعرف زيوفه من جيده، ولا يحسن الصلاة١.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى... ١٧ ﴾( الأنفال ) فنفى الرمي، وأثبته في آية واحدة، لأن الجهة منفكة، فالإثبات لشيء، والنفي لشيء آخر. وسبق أن مثلنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويقلب صفحاته ويهز رأسه، كأنه يقرأ، فإذا ما اختبرته فيما قرأ تجده لم فهم شيئا، فتقول له : ذاكرت وما ذاكرت ؛ لأنه فعل فعل المذاكرة، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر ؛ لأنه لم يحصل شيئا مما ذكره.
كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار، لكن﴿ وما رميت إذ رميت... ١٧ ﴾( الأنفال ) هذه الحفنة ؛ لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش، فهذه إذن قدرة الله.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون٦ ﴾( الروم ) أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نغير النظم الدنيوية والقوانين على الجميع ؟ قالوا : لأنه حين وضعت هذه القوانين وشرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.
والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه متع وملاذ وشهوات، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة، وينسى عاقبة ذلك في الآخرة ؛ لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حسابا للعواقب :( الديب بلع منجل، فيقول الآخر : ساعة خراه تسمع عواه )
واقرأ قوله تعالى :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب١٤ ﴾( آل عمران )
فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسوا الباقيات الصالحات في الآخرة، والعاقل هو الذي يستطيع أن يوازن بينهما، وسبق أن قلنا عن الدنيا بالنسبة لك : هي مدة بقائك فيها، هي عمرك أنت لا عمر الدنيا كلها، كما أن عمرك فيها محدود مظنون لا بد أن ينتهي بالموت.
أما الآخرة فدار الباقية دائمة، دار نعيم لا ينتهي، ولا يفوتك بحال، فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية ؟ لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة ؟
لذلك لما سئل الإمام علي : أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ فقال : لم يدع الله الجواب لي، إنما الجواب عندك أنت، فإن دخل عليك اثنان : واحد جاء بهدية، والآخر جاء يسألك عطية، فإن كنت تهش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تهش لمن يطلب العطية فأنت من أهل الآخرة.
لماذا ؟ لأن الإنسان يحب من يعمر ما يحب، فإن كنت تحب الآخرة فإنك تحب بالتالي من يعمرها لك، وإن كنت تحب الدنيا فإنك تحب من يعمرها لك ؛ لذلك كان أحد الصالحين إن جاءه سائل يطرق بابه يهش في وجهه، ويبش ويقول : مرحبا بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.
لكن، لماذا أعاد الضمير في﴿ وهم عن الآخرة هم غافلون ٧ ﴾( الروم ) لماذا لم يقل : وهم عن الآخرة غافلون ؟
لو قال الحق سبحانه وهم عن الآخرة غافلون لفهم أن الغفلة مسيطرة عليهم، وليست هناك أدلة توقظهم، إنما﴿ وهم عن الآخرة هم غافلون٧ ﴾( الروم ) يعني : الغفلة واقعة منهم أنفسهم، وإلا فالأدلة واضحة، لكن ما جدوى الأدلة مع قوم هم غافلون.
﴿ أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافررون٨ ﴾
المعنى : أن يكون ذلك منهم : لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ولم يتفكروا في أنفسهم، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم، ومرة في السموات والأرض.
الدليل في الأنفس يقول لك : فكر في نفسك. أي : اجعلها موضوع تفكيرك، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل، فإلى الآن ومع ما توصل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تكتشف بعد.
تأمل في مقومات حياتك : الأكل والشرب والتنفس، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر، تتغذى من المخزون في جسمك، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير.
لذلك من حكمته تعالى حين أمن للبشر هذه المقومات أن جعل مدة صبرك على الطعام أطول، لأن طعامك قد يحتكره غيرك، فتحتاج إلى طلبه والسعي إليه، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلا.
أما الهواء الذي لا تصبر عليه بمقدار شهيق وزفير، فمن حكمة الله تعالى ألا يملك لأحد أبدا، وإلا لو احتكر الناس الهواء لما استقامت الحياة، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمت قبل أن يرضى عنك.
تأمل في نفسك حين تأكل الطعام، وفيك مدخلان متجاوران : القصبة الهوائية، وهي مجرى الهواء للرئتين، والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة، تأمل ما يحدث لك إن دخلت حبة أرز واحدة في القصبة الهوائية، فبلا شعور تشرق بها، وتظل تقاومها حتى تخرج، وتأمل حركة لسان المزمار حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع، هذه الحركة التلقائية التي لا دخل ك فيها، ولا قدرة لك عليها بذاتك.
تأمل وضع المعدة، وكيف أن الله جعل لها فتحة يسمونها فتحة الفؤاد، هي التي تغلق المعدة بإحكام بعد الطعام، حتى لا تؤذيك رائحته بأن تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك، فمن أصابه خلل في إغلاق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه( أبخر ).
كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعيا مستريحا ؟ وفجأة تحتاج إلى الحمام وإلى قضاء الحاجة، ماذا حدث ؟ والأمر كذلك في شربة الماء، ذلك لأن لجسمك طاقة تحمل في الأمعاء وفي المثانة، ففي لحظة يزيد الحمل عن الطاقة، فتشعر بحاجة إلى الإخراج.
وهذا مجال لا حصر له مهما تقدمت العلوم، ومهما بحثنا في أنفسنا. ويكفي أن نقرأ :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون٢١ ﴾( الذاريات ) فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض ؛ لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السموات والأرض من آيات، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.
﴿ أو لم يتفكروا في أنفسهم.... ٨ ﴾( الروم ) أي : فكروا في أنفسكم بعيدا عن ضجيج الناس وجدالهم ومرائهم، فحين تجادل الناس تجد لحاجة وحرصا على الظهور، ولو بالباطل، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها، فلا مهيج ولا معاند، لا تخجل أن ينتصر عليك خصمك، ولا تطمع في مكانة أو منزلة ؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.
لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ قل إنما أعظكم بواحدة... ٤٦ ﴾( سبأ )يعني : يا من تفكرون في صدق هذا الرسول، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر... الخ أريد منكم شيئا واحدا ﴿ أن تقوموا لله مثنى وفرادى... ٤٦ ﴾( سبأ ) أي : مثنى مثنى، أو منفردين، كل على حدة﴿ ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شدد٤٦ ﴾( سبأ )
إذن : الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه، أو مع مثله، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العلو والانتصار ؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك ( حسيبك تراجع نفسك ) يعني : تفكر وحدك بحيث لا تحرج من أحد، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق.
وبعد أن أمرنا ربنا بالتفكر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السموات والأرض﴿ ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى... ٨ ﴾( الروم )
وهناك آية أخرى تقدم التفكر في السماء والأرض على التفكر في النفس، هي قوله تعالى :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس... ٥٧ ﴾( غافر )
لماذا ؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أن يولد، ويموت بعد عدة سنوات، أو حتى بعد مئات السنين، أما السموات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر... إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير، وهي تؤدي مهمتها دون تخلف، ودون صيانة، ودو أعطال، فهي بحق أعظم من خلق الناس وأكبر.
إذن : الآيات والأدلة في أنفسكم وفي السموات والأرض، لكن أيهما الآية أقوى ؟ قالوا : ما دامت السموات والأرض أكبر من خلق الناس فهي أقوى، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك ؛ لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد، المفيد هو الله- عز وجل- فحينما يضرب لي مثلا يضرب لي بالأقوى، فإن لم أطقه يأتي لي بالأقل، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر.
ومعنى﴿ وما بينهما... ٨ ﴾( الروم ) أي : من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جو السماء، وكانوا في الماضي لما أرادوا أن يقربوا أمور الدين لعقول الناس يقولون : الكواكب السبعة هي السموات السبع، ووقع فيها علماء كبار، لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها دون السماء الدنيا، واقرأ قول الله تعالى :﴿ وزينا السماء الدنيا بمصابيح... ١٢ ﴾( فصلت )
فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها ؟ ! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس، أو بينك وبين القمر ؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية، وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية.
ولك أن تضرب مليون سنة في ٣٦٥ يوما، وتضرب الناتج في ٢٤ ساعة، وتضرب الناتج في ستين دقيقة، ثم في ستين ثانية، ثم تضرب الناتج من ذلك في ٣٠٠ ألف كيلو، ثم تأمل الرقم الذي وصلت إليه.
وما أسكت القائلين بأن الكواكب السبعة هي السموات السبع إلا أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكبا حول الشمس، وبعد سنوات اكتشفوا آخر. كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر أسرع هؤلاء( الفلاحسة ) يقولون : لقد سبق القرآن، وأخبر بهذا في قوله تعالى :
﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذوا إلا بسلطان٣٣ ﴾( الرحمن )
وقالوا : إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكننا من اعتلاء سطح القمر، وعجيب أن يقول هذا الكلام علماء كبار، فأين القمر من السماء ؟ المر ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض كمصر الجديدة بالنسبة للقاهرة، ثم إن كان السلطان هنا هو سلطان العلم، فماذا تقولون في قوله تعالى بعدها :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران٣٥ ﴾( الرحمن )
لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة، وبين علوم الكونيات، وهذه آفة علماء الدين أن يتدخلوا فما لا علم لهم به، فالكونيات يؤخذ منها الدليل على عظمة الصانع وقدرته سبحانه، إنما لا يؤخذ منها حكم شرعي.
ورأينا من هؤلاء من ينكر كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، ومنهم من ظن أن علماء الكونيات- مع أنهم كفرة- يعلمون الغيب لأنهم توصلوا بحسابات دقيقة لحركة الأرض إلى موعد الخسوف والكسوف، وجاء الواقع وفق ما أخبروا به بالضبط.
وهذه المسألة- كما سبق أن قلنا- ليست من الغيب المطلق، بل من الغيب الذي أعطانا الله المقدمات التي توصل إليه، وقد توصل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون، ونفهم هذا في ضوء قوله تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ٥٣ ﴾( فصلت )
وهذه أيضا من الآيات التي تقدم فيها أدلة السماوات والأرض على أدلة النفس. إذن : فالكونيات تبنى على علوم ودراسات، لا دخل للدين بها، الدين جاء ليقول لك : افعل كذا، ولا تفعل كذا، ثم ترك الكونيات إلى أن تتسع العقول لفهمها.
وقوله سبحانه :﴿ إلا بالحق... ٨ ﴾( الروم ) لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبدا، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وفق نظام دقيق منضبط تماما.
فالشمس لم تتخلف يوما فتقول مثلا : لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس ؛ لأنهم ظالمون، لأن لها قانونا تسير به، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير، وما دامت هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتك منضبطة.
لذلك يقول سبحانه :﴿ الشمس والقمر بحسبان٥ ﴾( الرحمن ) أي : مخلوقة بحساب ؛ ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب، فقال :﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ٣٩ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون٤٠ ﴾( يس )
ويقول سبحانه :﴿ وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب... ٥ ﴾( يونس ) وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب، إلا إذا كان هو مخلوق بحساب ؟
ومع ذلك، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باق ؛ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل﴿ إلا بالحق وأجل مسمى.... ٨ ﴾( الروم ) فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجله الله تكور الشمس وتنكدر النجوم، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فالأمر ليس مجرد أن يتغير الشيء الثابت، إنما يزول وينتهي.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون٨ ﴾( الروم ) كنا نجادل الشيوعيين نقول لهم : لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من الإقطاعيين والرأسماليين، وتعديتم في عقابهم، قالوا : لأنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع، فقلنا لهم : فما بال الذين ظلموا قبل هؤلاء وماتوا ولم ينالوا ما يستحقون من العقاب ؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يعاقبون فيها على ما اقترفوه ؟
ألا يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة، ووجوب الإيمان بها ؟ من أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه الله تعالى في الآخرة، ثم أنتم ترون مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء، فالذي أطلق لنفسه العنان في الدنيا، وسار فيها على هواه، وعاث في الأرض فسادا، ولم تنله يد العدالة فهو الفائز إن لم تكن له دار أخرى يحاسب فيها.
إذن : فالإيمان بالآخرة وبلقاء الله ضرورة يقتضيها المنطق السليم، ومع ذلك يكفر بها كثير من الناس﴿ وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون٨ ﴾( الروم )
فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء ؛ لأن قوانين الأرض إنما تحمي من ظاهر المنكر، وأما باطن المنكر فلا يعلمه إلا الله، فلا بد من فترة يعاقب فيها أصحاب باطن المنكر.
فإن كنا صدقنا ما وقع للمكذبين في الدنيا وشاهدناها بأعيننا، فينبغي أن نصدق ما أخبر به الله عن الآخرة ؛ لأنك إن أردت أن تعلم ما تجهل فخذ له وسيلة مما تعلم. إذن : سيروا في الأرض، وانظروا بعين الاعتبار لمصير الذين كذبوا، وماذا فعل الله بهم ؟
والسير : قطع المسافات من مكان إلى مكان﴿ أو لم يسيروا في الأرض... ٩ ﴾( الروم ) لكن أنسير في الأرض على أرض ؟ هذا من دقه الأداء القرآني، ومظهر من مظاهر إعجازه، فالظاهر أننا نسير على الأرض، لكن التحقيق أننا نسير في الأرض ؛ لأن الذي خلقنا وخلق الأرض قال :﴿ سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ١٨ ﴾( سبأ )
ذلك لأن الأرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء، والتي نعيش عليها، إنما الأرض تشمل كل ما يحيط بها من الغلاف الجوي ؛ لأنها بدونه لا تصلح للعيش عليها، إذن : فغلاف الأرض من الأرض، فحين نسير لا نسير على الأرض إنما في الأرض.
والسير في الأرض نظر له الدين من ناحيتين : سير يعد سياحة للاعتبار، وسير يعد سياحة للاستثمار، فالسير للاعتبار أن تتأمل الآيات في الأرض التي تمر بها، فالجزيرة العربية مثلا صحراء وجبال يندر فيها الزرع، فإن ذهبت إلى أسبانيا مثلا تجدها بلادا خضراء لا تكاد ترى سطح الأرض من كثرة النباتات بها.
وفي كل منهما خيرات ؛ لأن الخالق سبحانه وزع أسباب الفضل على الكون كله، وترى أن هذه الأرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشق على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم الله خيرها من باطن الأرض، فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي لا يستغنى عنه يوما واحدا في هذه البلاد، وحينما قطعناه عنهم في عام ١٩٧٣ ضجوا وكاد البرد يقتلهم.
حين تسير في الأرض وتنظر بعين الاعتبار تجد أنها مثل ( البطيخة )، لو أخذت منها قطاعا طوليا فإنه يتساوى مع باقي القطاعات، كذلك الأرض وزع الله بها الخيرات على اختلاف ألوانها، فمجموع الخير في كل قطاع من الأرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الأخرى.
الجبال التي هجرناها في الماضي وقلنا إنها جدب وقفر لا حياة فيها، هي الآن مخازن للثروات وللخيرات قد اتجهت إليها الأنظار لإعمارها والاستفادة منها، وانظر مثلا إلى ما يحدث من نهضة عمرانية في سيناء.
إذن : فالخالق سبحانه وزع الخيرات على الأرض، كما وزع المواهب على الخلق ليظل الجميع مرتبطا بعضه ببعض برباط الحاجة لا يستغنى الناس بعضهم عن بعض، ولا البلاد بعضها عن بعض، وهنا لفتة إيمانية : أن الخلق كلهم عباد الله وصنعته، والبلاد كلها أرض الله وملكه، وليس لله ولد، وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة، الجميع عنده سواء، لذلك سبق أن قلنا : لا ينبغي لك أن تحقد على صاحب الخير أو تحسده ؛ لأن خيره سيعود عليك حتما.
ومعنى﴿ الذين من قبلهم... ٩ ﴾( الروم ) أي : الأمم التي كذبت الرسل، وفي آية أخرى يوضح سبحانه عاقبة هؤلاء المكذبين :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون٤٠ ﴾( العنكبوت )
ويخاطب سبحانه كفار قريش :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ١٣٧ وبالليل أفلا تعقلون١٣٨ ﴾( الصافات )
أي : في أسفاركم ورحلات تجارتكم ترون مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب ما زالت شاخصة لكل ذي عينين.
ويقول سبحانه :﴿ ألم تر كيف ربك بعاد٦ إرم ذات العماد ٧ التي لم يخلق مثلها في البلاد٨ ﴾( الفجر ) وكانوا في رمال الأحقاف﴿ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ٩ وفرعون ذي الأوتاد ١٠ ﴾( الفجر ) وهي الأهرامات﴿ الذين طغوا في البلاد١١ فأكثروا فيها الفساد ١٢ فصب عليهم ربك سوط عذاب١٣ ﴾( الفجر )
لقد كان لكل هؤلاء حضارات ما زالت حتى الآن تبهر أرقى حضارات اليوم، فيأتون إليها ليتأملوا ما فيها من أسرار وعجائب، ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أن تحمي نفسها من الدمار والزوال، وما استطاعت أن تمنع نفسها من عذاب الله حين حل بها، إذن : لكم في هؤلاء عبرة.
وكأن الحق سبحانه في قوله :﴿ أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.... ٩ ﴾( الروم ) يقول لكفار قريش : أنتم يا مشركي قريش أقل الأمم، لا قوة لكم، ولا مال ولا حضارة ولا عمارة، فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا من هم أوى منكم، إنما سبق أن أخذتم العهد في قوله سبحانه :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون٣٣ ﴾( الأنفال )
لذلك يقول بعدها :﴿ كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها... ٩ ﴾( الروم ) فالأمم المكذبة التي أخذها الله وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم، وأخصب أرضا، لذلك أثاروا الأرض. أي : حرثوها للزراعة وللإعمار، وأنتم بواد غير ذي ذرع، والحرث يطلق على الزرع كما في قوله سبحانه :﴿ ويهلك الحرث والنسل... ٢٠٥ ﴾( البقرة )
ذلك لأن الأرض لا تنبت النبات الجيد إلا إذا أثارها الفلاح، وقلبها ليتخلل الهواء تربتها، فتجود عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي، أما إن تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات، فإنها تمسك النبات ولا تعطي فرصة للجذور البسيطة لأن تمتد في التربة، خاصة في بداية الإنبات.
وفي موضع آخر يقول – سبحانه وتعالى- عن النبات :﴿ أفرأيتم ما تحرثون٦٣ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ٦٤ ﴾( الواقعة )
وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها، قال لهم الحق سبحانه :﴿ إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث... ٧١ ﴾( البقرة )
يعني : بقرة مرفهة غير سهلة الانقياد، فلا تستخدم، لا في حرث الأرض وإثارتها، ولا في سقيها بعد أن تحرث ؛ لذلك تجد أن الفلاح الواعي لا بد أن يثير الأرض ويقلب تربتها قبل الزراعة، ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس، ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها، كما يقولون أيضا : قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما لا تحتاج إليه.
إذن : فهؤلاء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها.
ومعنى﴿ عمروها... ٩ ﴾( الروم ) أي : بما يسر الله لهم من الطاقات والإمكانات، وأعملوا فيها الموهبة التي جعلها الله فيهم، فاستخرجوا من الأرض خيراتها، كما قال سبحانه :﴿ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها... ٦١ ﴾( هود )
وإعمار الأرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة، إما بالزرع أو الغرس، وإما بالبناء، وإما بشق الأنهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس، ونرق هنا بين الزرع والغرس :
فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلا، أما الغرس فما تغرسه ويظل فترة طويلة يدر عليك، فمحصوله متجدد كحدائق الفاكهة، والزرع يكون ببذر الحب، أما الغرس فنبتة سبق إعدادها تغرس.
ثم يقول سبحانه :﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات... ٩ ﴾( الروم ) فبعد أن أعطاهم مقومات الحياة وإمكانات المدة وطاقاتها، وبعد أن جنوا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم والدين، فأرسل لهم الرسل﴿ بالبينات... ٩ ﴾( الروم ) أي : الآيات الواضحات الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات.
وسبق أن ذكرنا أن كلمة الآيات تطلق على معان ثلاثة : آيات كونية دالة على قدرة الصانع سبحانه كالشمس والقمر، وآيات تؤيد الرسل وتثبت صدقهم في البلاغ عن الله وهي المعجزات، وآيات القرآن التي تحمل الأحكام والمنهج، وكلها أمور واضحة بينة.
وقوله تعالى :﴿ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ٩ ﴾( الروم ) نعم، ما ظلمهم الله ؛ لأنه سبحانه أمدهم بمقومات الحياة وإمكانات المادة، ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم، فإن حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إلا أنفسهم.
ثم نقول : كيف يتأتى الظلم من الله تعالى ؟ الظلم يقع نعم من الإنسان لأخيه الإنسان ؛ لأنه يحقد عليه، ويريد أن يتمتع بما في يده، فالظالم يأخذ حق المظلوم الذي لا قدرة له على حماية حقه، فكيف إذن نتصور الظلم من الله- عز وجل- وهو سبحانه مالك كل شيء، وغنى عن كل شيء ؟ إذن : ما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق الله ومنهجه.
والحق- سبحانه وتعالى- خلق الكون على هيئة الصلاح، ولو تركناه كما خلقه ربه لظل على صلاحه، إذا لا يأتي الفساد إلا من تدخل الإنسان، لذلك يقول سبحانه :﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون١١ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون١٢ ﴾( البقرة )
وينبغي على الإنسان أن يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده، أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة ١٩٥٠ كنا ننتظر السقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء، ويأخذ أجرة حملها، وكنا نضعها في ( البزان ) وهو مثل( الزير ) عندنا، فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزا واحدا ويقول : نويت نية الاغتراف، ولا يزيد في ضوئه عن هذا الكوز ؛ لأننا نشري الماء، أما الآن فالواحد منا لا تكفيه ( صفيحة ) لكي يتوضأ من حنيفة الماء. وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضا للصرف الصحي وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية.
لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراف في استعمال الماء حتى لو كنا على نهر جار١.
فمعنى الذين أساءوا : أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفسادا جديدا، وطبيعي أن تكون عاقبته من جنس فعله﴿ ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى... ١٠ ﴾( الروم ) والسوأى : مؤنث سيء مثل : حسن للمذكر، وحسنى للمؤنث. وأصغر وصغرى، فهي أفعل تفضيل من السوء.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون ١٠ ﴾( الروم ) فالأمر لم يقف عند حد التكذيب بالآيات، إنما تعدى التكذيب إلى الاستهزاء، فما فلسفة أهل الاستهزاء حينما يستهزؤون بالآخرين ؟ كثيرا ما نلاحظ أن التلميذ الفاشل يستهزئ بالمجتهد، والمنحرف يستهزئ بالمستقيم، لماذا ؟
﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون٢٩ وإذا مروا بهم يتغامزون٣٠ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين٣١ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون٣٢ ﴾( المطففين )
لكن لا تتعجل، وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلاء المؤمنون أماكنهم في الجنة، ويجلسون على سررها وأرائكها :﴿ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون٣٤ على الأرائك ينظرون٣٥ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ٣٦ ﴾( المطففين )
والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والاستهزاء في الدنيا : أقدرنا أن نجازيهم على ما فعلوه بكم ؟
إذن : فلسفة الاستهزاء أن الإنسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل، فيغيظه كل صاحب فضيلة، ويؤلمه أن يرى مستقيما ينعم بعز الطاعة، وهو في حمئة المعصية ؛ لذلك يسخر منه لعله ينصرف عما هو فيه من الطاعة والاستقامة.
﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إله ترجعون١١ ﴾
هل بدأ الله الخلق بالفعل، أم ما زال يبدأ الخلق ؟ الأسلوب هنا أسلوب رب يتكلم، فهو سبحانه بدأ الخلق أصوله أولا، وما يزال خالقا سبحانه، وما دام هو الذي خلق بدءا، فهو الذي يعيد﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده... ١١ ﴾( الروم )
وفي أعراف البشر أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه ؛ لأن الابتداء يكون من عدم، أما الإعادة فمن موجود، لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه... ٢٧ ﴾( الروم ) أي : بمقاييسكم وعلى قدر فهمكم، لكن في الحقيقة ليس هناك هين وأهون في حقه تعالى ؛ لأنه سبحانه لا يفعل بمزاولة الأشياء وعلاجها، إنما بكن فيكون، لكن يخاطبنا سبحانه على قدر عقولنا.
فالحق سبحانه بدأ الخلق وما يزال سبحانه يخلق، وانظر مثلا إلى الزرع تحصده وتأخذ منه التقاوى للعام القادم، وهكذا في دورة مستمرة بين بدء وإعادة﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده... ١١ ﴾( الروم )
وسبق أن ضربنا مثلا بالوردة الغضة الطرية بما فيها من جمال في المنظر والرائحة، فإذا ما قطفت جفت، لأن المائية التي بها تبخرت، وكذلك رائحتها ولونها انتشر في الأثير، ثم يتفتت الباقي ويصير ترابا، فإذا ما زرعت وردة جديدة أخذت من المائية التي تبخرت ومن اللون ومن الرائحة التي في الجو.
وهكذا تبدأ دورة وتنتهي أخرى ؛ لأن مقومات الحياة التي خلقها الله هي هي في الكون، لا تزيد ولا تنقص، فالماء في الكون كما هو منذ خلقه الله : هب أنك شربت طوال حياتك عشرين طنا من الماء، هل تحمل معك هذا الماء الآن ؟ لا إنما تم إخراجه على هيئة عرق وبول ومخاط وصماخ أذن.. الخ، وهذا كله تبخر ليبدأ دورة جديدة.
ثم يقول سبحانه :﴿ ثم إليه ترجعون١١ ﴾( الروم ) نلحظ أن الكلام هنا عن الخلق﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده... ١١ ﴾( الروم ) لكن انتقل السياق من المفرد إلى الجمع﴿ ثم إليه ترجعون١١ ﴾( الروم ) ولم يقل يرجع أي : الخلق، فلماذا ؟
قالوا : لأن الناس جميعا لا يختلفون في بدء الخلق ولا في إعادته، لكن يختلفون في الرجوع إلى الله، فهذا مؤمن، وهذا كافر، هذا طائع، وهذا عاص، وهذا بين بين، ففي حال الرجوع إلى الله ستفترق هذه الوحدة إلى طريقين : طريق للسعداء، وطريق للأشقياء، لذلك لزم صيغة الإفراد في البدء وفي الإعادة، وانتقل إلى الجمع في الرجوع إلى الله لاختلافهم في الرجوع.
﴿ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون١٢ ﴾
معنى﴿ يبلس المجرمون١٢ ﴾( الروم ) أي : يسكتون سكوت اليائس الذي لا يجد حجة، فينقطع لا يدري ما يقول ولا يجد من يدافع عنه، حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب، فلم يعد لهم أمل في النجاة، كما قال تعالى :﴿ قدم قومه يوم القيامة... ٩٨ ﴾( هود )، ومن ذلك سمي ( إبليس ) ؛ لأنه يئس من رحمة الله.
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون٤٤ ﴾( الأنعام )
أي : لما نسوا منهج الله أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا، وحين يعاقبهم الله في الدنيا لا يأخذهم على حالهم إنما يرخى لهم العنان، ويزيد لهم في الخيرات، ويوسع عليهم متع الدنيا وزخارفها، حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أخذه أليما، وكانت سقطتهم من أعلى.
كما أنك مثلا لا توقع عدوك من على الحصيرة، إنما نرفعه إلى أعلى ليكون الانتقام أبلغ، أما إن أخذهم على حال الضيق والفقر، فالمسألة إذن هينة، وما أقرب الفقر من العذاب !
ولنا ملحظ في قوله تعالى ﴿ فتحنا عليهم... ٤٤ ﴾( الأنعام ) فمادة فتح إن أراد الحق سبحانه الفتح لصالح المفتوح عليه يقول﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا١ ﴾( الفتح ) وإن أراد الفتح لغير صالحه يقول﴿ فتحنا عليهم... ٤٤ ﴾( الأنعام ) والفرق بيّن بين المعنيين، لأن اللام هنا للملك ﴿ فتحنا لك... ١ ﴾( الفتح ) إنما على﴿ فتحنا عليهم.... ٤٤ ﴾( الأنعام ) فتعني ضدهم وفي غير صالحهم، كما نقول في المحاسبة : له وعليه، له في المكسب وعليه في الخسارة.
وكذلك يقول التابعون :﴿ ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين٢٩ ﴾( فصلت )
وما أشبه هاذين : التابع والمتبوع بتلميذين فاشلين تعودا على اللعب وتضييع الوقت، وشغل كل منهما صاحبه عن دروسه، وأغواه بالتسكع في الطرقات، إلى أن داهمهما الامتحان وفاجأتهما الحقيقة المرة، فراح كل منهما يلعن الآخر ويسبه، ويلقي عليه بالمسؤولية.
إذن : ساعة الجد تنهار كل هذه الصلات الواهية، وتتقطع كل الحبال التي تربط أهل الباطل في الدنيا﴿ وكانوا بشركائهم كافرين ١٣ ﴾( الروم ) ولم لا وقد تكشفت الحقائق، وظهر زيفهم وبان ضلالهم ؟
﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون١٤ ﴾
أي : الذين اجتمعوا في الدنيا على الشر وعلى الضلال يتفرقون يوم القيامة، ويصيرون أعداء وخصوما بعد أن كانوا أخلاء، فيمتاز المؤمنون في ناحية والكافرون في ناحية، حتى العصاة من المؤمنين الذين لهم رائحة من الطاعة لا يتركهم المؤمنون، إنما يشفعون لهم ويأخذونهم في صفوفهم.
والتنوين في﴿ يومئذ... ١٤ ﴾( الروم ) بدل من جملة﴿ ويوم تقوم الساعة.... ١٤ ﴾( الروم ) أي : يوم تقوم الساعة يتفرقون.
لذلك ؛ فالرياض والبساتين عندهم شيء عظيم ونعمة كبيرة، ومعنى﴿ يحبرون١٥ ﴾( الروم ) من الحبور١، وهو الفرحة حينما يظهر عليك أثر النعمة، هذا عن المؤمنين، فماذا عن الكافرين ؟
﴿ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون١ ١٦ ﴾
المحضر بالفتح : الذي يحضره غيره، ولا تقال إلا في الشر، وفيها ما يدل على الإدانة، وإلا لحضر هو بنفسه، ونحن نفزع لسماع هذه الكلمة ؛ لأن المحضر لا يأتيك إلا لشر، كذلك حال الكفار والمكذبين يوم القيامة تجرهم الملائكة، وتجبرهم، وتسوقهم للحضور رغما عنهم.
﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون١٧ ﴾
هنا تتجلى عظمة الإيمان، وتتجلى محبة الله تعالى لخلقه، حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم والليلة، في الصباح وفي المساء، في العشية والظهيرة.
والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به، إنما لحبه لهم، وحرصه عليهم ليعطيهم، ويفيض عليهم من آلائه، وإلا فهو سبحانه بصفات الكمال والجلال غني عنهم، فإيمان المؤمنين لا يزيد في ملكه سبحانه شيئا، كذلك كفر الكافرين لا ينقص من ملكه سبحانه شيئا.
إذن : المسألة أنه سبحانه يريد أن يبر صنعته، ويكرم خلقه وعباده ؛ لذلك يستدعيهم إلى حضرته، وقربنا هذه المسألة بمثل- ولله تعالى المثل الأعلى-، قلنا : إذا أردت أن تقابل أحد العظماء، أو أصحاب المراكز العليا، فدون هذا اللقاء مشاق لا بد أن تتجشمها.
لا بد أن يؤذن لك أولا في اللقاء، ثم يحدد لك الزمان والمكان، بل ومدة اللقاء وموضوعه، وربما الكلمات التي ستقولها، ثم هو الذي ينهي اللقاء، لا أنت.
هذا إن أردت لقاء الخلق، فما بالك بلقاء الخالق عز وجل ؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى حضرته، ويجعل ذلك فرضا وحتما عليك، ويطلبك قبل أن تطلبه، ويذكرك قبل أن تذكره، لا مرة واحدة، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فإذا لبيت طلبه أفاض عليك من رحمته، ومن نعمه، ومن تجلياته، وما بالك بصنعة تعرض على صانعها خمس مرات كل يوم، أيصيبها عطب ؟
ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة، فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع، فإن أردت أن تطيل أمد المقابلة، فإن ربك لا يمل حتى تمل ؛ لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا لله تعالى قدره، وعرفوا عطاءه، وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولون :
حسب نفسي عزا بأني عبد***يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن***أنا ألقي كيفما وأين أحب
والعبودية كلمة مكروهة عند البشر ؛ لأن العبودية للبشر ذل ومهانة، حيث يأخذ السيد خير عبده، أما العبودية لله فهي قمة العز كله، وفيها يأخذ العبد خير سيده ؛ لذلك أمتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية في قوله سبحانه :﴿ سبحان الذي أسرى بعده... ١ ﴾( الإسراء )
وكلمة﴿ فسبحان الله... ١٧ ﴾( الروم ) هي في ذاتها عبادة وتسبيح لله تعني : أنزه الله عن أن يكون مثله شيء ؛ لذلك يقول أهل المعرفة : كل ما يخطر ببالك فالله غير ذلك ؛ لأنه سبحانه :﴿ ليس كمثله شيء... ١١ ﴾( الشورى )
وقلنا : إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب الله تجد في أول الإسراء :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده... ١ ﴾( الإسراء ) وفي أول سورة الحديد :﴿ سبح لله ما في السماوات والأرض... ١ ﴾( الحديد ) ثم﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض... ١ ﴾( الجمعة )
فكأن الله تعالى مسبح أزلا قبل أن يخلق من يسبحه، فالتسبيح ثابت لله أولا، وبعد ذلك سبحت له السماوات والأرض، ولم ينقطع تسبيحها، إنما ما زالت مسبحة لله.
فإذا كان التسبيح ثابتا لله تعالى قبل أن يخلق من يسبحه، وحين خلق السماوات والأرض سبحت له السماوات والأرض وما زالت، فعليك أنت أيها الإنسان ألا تشذ عن هذه القاعدة، وألا تتخلف عن هذه المنظومة الكونية، وأن تكون أنت كذلك مسبحا ؛ لذلك جاء في القرآن :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ١ ﴾( الأعلى )
فاستح أنت أيها الإنسان، فكل شيء في الوجود مسبح﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ٤٤ ﴾( الإسراء )
لكن أراد بعض العلماء أن يقرب تسبيح الجمادات التي لا يسمع لها صوتا ولا حسا، فقال : إن تسبيحها تسبيح دلالة على الله، ونقول : إن كان تسبيح دلالة كما تقول فقد فهمته، والله يقول ﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم... ٤٤ ﴾( الإسراء )
إذن : ففهمك له غير حقيقي، وما دام أن الله أخبر أنها تسبح فهي تسبح على الحقيقة بلغة لا نعرفها نحن، ولم لا والله قد أعطانا أمثلة الأشياء غير ناطقة سبحت ؟ ألم يقل عن الجبال أنها تسبح مع داود عليه السلام :﴿ يا جبال أوبي١ معه والطير... ١٠ ﴾( سبأ ) ألم يثبت للنملة وللهدهد كلاما ومنطقا ؟ وقال في عموم الكائنات :﴿ كل قد علم صلاته وتسبيحه... ٤١ ﴾( النور )
إذن : فالتسبيح لله تعالى من كل الكائنات، والحق سبحانه يعطينا المثل في ذواتنا : فأنت إذا لم تكن تعرف الإنجليزية مثلا، أتفهم من يتكلم بها ؟ وهي لغة لها أصوات وحروف تنطق، وتسمعها بنفس الطريقة التي تتكلم أنت بها.
لذلك تأتي كلمة( سبحان الله ) في الأشياء التي يجب أن تنزه الله فيها، واقرأ إن شئت قوله تعالى في الإسراء :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده... ١ ﴾( الإسراء ) كأنه سبحانه يقول لنا : نزهوا الله عن مشابهة البشر، وعن قوانين البشر في هذه المسألة، إياك أن تقول : كيف ذهب محمد من مكة إلى بيت المقدس، ثم يصعد إلى السماء، ويعود في ليلة واحدة.
فباقون البشر يصعب عليك فهم هذه المسألة، وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا : كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا٢، وتدعي أنك أتيتها في ليلة ؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم هم، فاستبعدوا ذلك وكذبوه.
ولو تأملوا الآية﴿ سبحان الذي أسرى بعبده... ١ ﴾( الإسراء ) وهم أهل اللغة لعرفوا أن الإسراء لم يكن بقوة محمد، فلم يقل أسريت، ولكن قال " أسري بي "، فلا دخل له في هذه المسألة وقانونه فيها ملغى، إنما أسرى بقانون من أسرى به.
إذن : عليك أن تنزه الله عن قوانينك في الزمان وفي المسافة، وإن أردت أن تقرب هذه المسألة للعقل، فالمسألة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة، فالذي يسير غير الذي يركب دابة، غير الذي يركب سيارة أو طائرة أو صاروخا وهكذا.
فإذا كان في قوانين البشر : إذا زادت القوة قل الزمن، فكيف لو نسبت القوة إلى الله عز وجل ؟ عندها نقول : لا زمن فإن قلت : إن ألغينا الزمن مع قوة الله وقدرته تعالى، فلماذا ذكر الزمن هنا وقدر بليلة ؟
قالوا : لأن الرحلة لم تقتصر على الذهاب والعودة، إنما تعرض فيها النبي صلى الله عليه وسلم لمراء كثيرة، وقابل هناك بعض الأنبياء، وتحدث معهم، فهذه الأحداث لرسول الله هي التي استغرقت الزمن، أما الرحلة فلم تستغرق وقتا.
كذلك جاءت كلمة ( سبحان ) في قوله تعالى :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون٣٦ ﴾ ( يس ) لماذا ؟ لأن مسألة الخل من المسائل التي يقف عندها العقل، وينبغي أن ننزه الله عن يشاركه فيها أحد.
ولما نزلت هذه الآية كان الناس يعرفون الزوجية في النبات لأنهم كانوا يلقحون النخل، ويعرفونها في الإنسان ؛ لأنهم يتزوجون وينجبون، وكذلك يعرفونها في الحيوان، هذه حدود العقل في مسألة الزوجية.
لكن الآية لم تقتصر على ذلك، إنما قال سبحانه﴿ ومما لا يعلمون ٣٦ ﴾( يس ) لأن المستقبل سيكشف لهم عن أشياء أخرى تقوم على نظرية الزوجية، وقد عرفنا نحن هذه النظرية في الكهرباء مثلا حيث ( السالب )و( الموجب )، وفي الذرات حيث( الإلكترونات )، و( البروتونات )... الخ.
إذن : ساعة تسمع كلمة التسبيح فاعلم أنك ستستقبل حدثا فريدا، ليس كأحداث البشر، ولا يخضع لقوانينهم.
٢ أورد ابن هشام في السيرة النبوية(١/٣٩٨)"أن أكثر الناس في قريش قالوا: هذا والله الإمر البين، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة"..
﴿ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون١٨ ﴾
نلحظ أن قوله تعالى﴿ وله الحمد في السماوات والأرض... ١٨ ﴾( الروم ) فصلت بين الأزمنة المذكورة، فجعلت﴿ تمسون وحين تصبحون ١٧ ﴾( الروم ) في ناحية، و﴿ وعشيا وحين تظهرون١٨ ﴾( الروم ) في ناحية، مع أنها جميعا أوقات وأزمنة في اليوم والليلة، لماذا ؟
قالوا : لأنه سبحانه يريد أن يشعرنا أن له الحمد، ويجب أن تحمده على أنه منزه عن المثيل ؛ لأنها في مصلحتك أنت، وأنت الجاني لثمار هذا التنزيه، فإن أرادك بخير فلا مثيل له سبحانه يمنعه عنك، وله وحده الكبرياء الذي يحميك أن يتكبر أحد عليك، وله وحده تخضع وتسجد، لا تسجد لغيره، فسجودك لوجه ربك يكفيك كل الأوجه، كما قال الشاعر :
فالسجود الذي تجتويه١ فيه***من ألوف السجود نجاة
إذن : من مصلحتك أن يكون الله تعالى هو الواحد الذي لا مثيل له، والقوى الذي لا يوجد أقوى منه، والمتكبر بحق ؛ لأن كبرياءه يحمي الضعيف أن يتكبر عليه القوي، يجب أن تحمد الله الذي تعبدنا بالسجود له وحده، وبالخضوع له وحده ؛ لأنه أنجاك بالسجود له أن تسجد لكل قوي عنك، وهذا من عظمته تعالى ورحمته بخلقه ؛ لذلك تستوجب الحمد.
لذلك نقول في العامية( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) لماذا ؟ لأنه لا يعيش عزيزا مكرما إلا إذا كان له كبير يحميه، ويدافع عنه، كذلك أنت لا تكون عزيزا إلا في عبوديتك لله.
والخلق جميعا بالنسبة لله تعالى سواء، فليس له سبحانه من عباده ولد ولا قريب، فلا مؤثرات تؤثر عليه، فيحابى أحدا على أحد. فنحن جميعا شركة في الله ؛ لذلك يقول سبحانه﴿ ما اتخذ صاحبه ولا ولدا٣ ﴾( الجن ) أي : لا شيء يؤثر عليه سبحانه.
وقال بعد التسبيح﴿ وله الحمد... ١٨ ﴾( الروم ) لأن التسبيح ينبغي أن يتبع بالحمد فتقول : سبحان الله والحمد لله، أي : الحمد لله على أنني سبحت مسبحا.
وحين نتأمل هذه الأوقات التي أمرنا الله فيها بالتسبيح، وهي المساء والصباح والعشى، وهي من العصر إلى المغرب. ثم الظهيرة نجد أنها أوقات عامة سارية في كون الله لا تنقطع أبدا، فأي صباح وأي مساء ؟ صباحي أنا ؟ أم صباح الآخرين ؟ مسائي أم مساء غيري في أقصى أطراف المعمورة ؟
إن المتأمل في دورة الوقت يجد أن كل لحظة فيه لا تخلو من صباح ومساء، وعشية وظهيرة، وهذا يعني أن الله تعالى مسبح معبود في كل لحظة من لحظات الزمن.
وفي ضوء هذا نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " ٢ فالكون لا يخلو في لحظة واحدة من ليل أو نهار، وهذا يعني أن يد الله سبحانه مبسوطة دائما لا تقبض :﴿ بل يداه مبسوطتان... ٦٤ ﴾( المائدة )
٢ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٧٥٩) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
﴿ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون١٩ ﴾
أولا : ما مناسبة الحديث عن البعث، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي بعد الحديث عن تسبيح الله وتحميده ؟ قالوا : لأنه تلكم عن المساء والصباح، وفيهما شبه بالحياة والموت، ففي المساء يحل الظلام، ويسكن الخلق وينامون، فهو وقت للهدوء والاستقرار، والنوم الذي هو صورة من صور الموت ؛ لذلك نسميه الموت الأصغر، وفي الصباح وقت الحركة والعمل والسعي على المعاش، ففيه إذن حياة، كما يقول سبحانه :﴿ وجعلنا الليل لباسا١٠ وجعلنا النهار معاشا١١ ﴾( النبأ )
ويمثل الموت والبعث بالنوم والاستيقاظ منه، كما جاء في بعض المواعظ :" لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون ".
وما دمنا قد شاهدنا الحالين، وعاينا النوم واليقظة، فلنأخذ منهما دليلا على البعث بعد الموت، وإن أخبرنا القرآن بذلك، فعلينا أن نصدق، وأن نأخذ من المشاهد دليلا على الغيب، وهذا ما جاءت به الآية :
﴿ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.... ١٩ ﴾( الروم )
وقوله تعالى هنا( الحي الميت ) أي : في نظرنا نحن وعلى حد علمنا وفهمنا للأمور، وإلا فكل شيء من الوجود له حياة تناسبه، ولا يوجد موت حقيقي إلا في الآخرة التي قال الله فيها :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه... ٨٨ ﴾( القصص )
فضد الحياة الهلاك بدليل قوله تعالى :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة... ٤٢ ﴾( الأنفال )
وما دام كل شيء هالكا إلا وجهه تعالى، فكل شيء بالتالي حي، لكنه حي بحياة تناسبه. وأذكر أنهم كانوا يعلموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة ممغنطة إلى قطعة أخرى بالدّلك في اتجاه واحد، وفعلا شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية.
وتستطيع أن تجذب إليها قطعة أخرى، أليس هذا مظهرا من مظاهر الحياة ؟ أليست هذه حركة في الجماد الذي نراه نحن جمادا لا حياة فيه، وهو يؤثر ويتأثر بغيره، وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت ولها قانون.
إذن : نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به، وإن كنا لا ندركها ؛ لأننا نفهم أن الحياة في الأحياء فحسب، إنما هي في كل شيء وكونك لا تفقه حياة هذه الأشياء، فهذه مسألة أخرى.
لذلك سيدنا سليمان –عليه السلام- لما سمع كلام النملة، وكيف أنها تفهم وتقف ديدبانا لقبيلتها، وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه، فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم، وكيف كانت واعية، وعادلة في قولها.
﴿ لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون١٨ ﴾( النمل ) فهي تعلم أن الجيش لو حطم النمل، فهذا عن غير مقصد منهم، وعندها أحس سيلمان بنعمة الله عليه بأن يعلم ما لا يعلمه غيره من الناس، فقال﴿ رب أوزعني١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي... ١٩ ﴾( النمل )
فمعنى﴿ يخرج الحي من الميت... ١٩ ﴾( الروم ) أي : في عرفنا نحن، وعلى قدر فهمنا للحياة وللموت، والبعض يقول : يعني يخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج الدجاجة من البيضة، وهذا الكلام لا يستقيم مع منطق العقل، وهل كل بيضة بالضرورة تخرج دجاجة ؟ لا بل لا بد أن تكون بيضة مخصبة. إذن : لا تقل البيضة والدجاجة، ولكن قل يخرج الحي من الميت من كل شيء موجود.
ثم يقول الحق سبحانه﴿ ويخرج الميت من الحي... ١٩ ﴾( الروم ) وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي.... ٩٥ ﴾( الأنعام ) فأتى باسم الفاعل ( مخرج ) بدلا من الفعل المضارع.
لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن، يقولون : إن كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة، وهذا منهج نتيجة طبيعية لعدم فهمه للغة القرآن، وليست لديهم الملكة العربية التي تستقبل كلام الله.
وهنا نقول : إن الذي يتكلم رب يعطي لكل لفظة وزنها، ويضع كل كلمة في موضعها الذي لا تؤديه كلمة أخرى.
فقوله تعالى﴿ يخرج الحي من الميت.... ١٩ ﴾( الروم ) هذه في مصلحة من ؟ في مصلحتنا نحن ؛ لأن الإنسان بطبعه يحب الحياة، وربما استعلى بها، واغتر بهذا الاستعلاء، كما قال ربنا :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى٦ أن رآه استغنى٧ ﴾( العلق )
لذلك يذكره ربه تعالى بالمقابل : فأنا كما أخرج الحي من الميت أخرج الميت من الحي فانتبه، وإياك أن تتعالى أو تتكبر، وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أن يسلبها منك في أي لحظة.
وعبر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع ( يخرج ) الدال على الاستمرار والتجدد، ومرة باسم الفاعل ( مخرج ) الدال على ثبوت الصفة وملازمتها للموصوف، لا مجرد حدث عارض.
لذلك تأمل قول الله تعالى :﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير١ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ٢ ﴾( الملك )وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت، لكن الحق سبحانه يريد أن يقتل في الإنسان صفة الاغترار بالحياة، فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها، فقال﴿ الذي خلق الموت والحياة... ٢ ﴾( الملك ) فقدم الموت على الحياة، فقبل أن تفكر في الحياة تذكر الموت حتى لا تغتر بها ولا تطغى.
ويتجلى هذا المعنى أيضا في سورة الواقعة :﴿ أفرأيتم ما تمنون ٥٨ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ٥٩ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ٦٠ ﴾( الواقعة )
يعني : خذوا بالكم، وافهموا أنني واهب الحياة، وأستطيع أن أسلبها فلا تغتر بها ولا ( تتفرعن )، وكأن الحق سبحانه يريد أن يدك في الإنسان صفة الكبرياء والتعالي، فيحدث هذه المقابلة دائما بين ذكر الموت وذكر الحياة في آيات القرآن
ثم ألا ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سببا من أسباب العمر والسنين، فواحد يموت قبل أن يولد، وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر، وآخر يموت بعد عدة أعوام، وآخر بعد مائة عام.
إذن : مسألة لا ضابط لها إلا أقدار الله وأجله الذي أجله سبحانه، وفي هذه إشارة للإنسان : احذر فقد تسلب منك الحياة التي ينشأ منها غرورك في أي لحظة، ودون أن تدري ودون سابق إنذار أو مقدمات، فاستقم إذن على منهج ربك، ولا تجترئ على المعصية ؛ لأنك قد تموت قبل أن تتدارك نفسك بالتوبة.
لذلك يقولون : إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بينه بالإبهام غاية البيان، كيف ؟ قالوا : لأنه سبحانه لو حدد لك موعد الموت لكنت تستعد له قبل أوانه، إنما حين أبهمه جعلك تستعد له كل لحظة من لحظات حياتك.
ثم يقول سبحانه :﴿ ويحيي الأرض بعد موتها... ١٩ ﴾( الروم ) وفي موضع آخر :﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ٥ ﴾( الحج )
فالأرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء، لا أثر فيها لحياة، فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر تحركت وأنبتت من كل زوج بهيج، فهي نموذج حي مشاهد للخلق وللحياة.
وفي آية أخرى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة... ٦٣ ﴾( الحج ) فهل اخضرت الأرض ساعة نزل عليها المطر ؟ لا، إنما بعد فترة، كأنه سبحانه يقول لك : لاحظ الحدث ساعة يوجد، واستحضر صورته، فبعد نزول الماء ترى الأرض تخضر تدريجيا، وإن لم تبذر فيها شيئا، ففيها بذور شتى حملتها الرياح، ثم استقرت في التربة ولو لسنوات طوال تظل صالحة للإنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها.
والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة، وقد رأيناها في عرفة بعد أن نزل عليها المطر، وعدنا بعد عدة أيام، فإذا الأرض تكتسي باللون الأخضر. لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه الإنسان، وإلا فمن أين جاءت أول بذرة زرعها الإنسان. إذن : هناك زراعات لا دخل للإنسان بها.
ولنقرأ قصة مريم عليها السلام :﴿ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ٤٢ ﴾( آل عمران ) فالاصطفاء الأول لم يقل على من. فالمعنى : اصطفاك على الخلق جميعا، بأن طهرك وجعلك صالحة تقية قوامة... الخ.
أما الاصطفاء الآخر فليس على الخلق جميعا، إنما على النساء ؛ لأنها تفردت عن نساء العالمين بأن تلد بغير ذكورة.
والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لاحظ على مريم علامات الحمل وهو يعلم من هي مريم، وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها، فلم يرد على ذهنه المعنى الثاني، ويريد أن يستفهم عما يراه، فسألها بأدب : يا مريم، أتوجد شجرة بدون بذرة ؟ فقالت وقد لقنها الحق سبحانه : نعم، الشجرة التي أنبتت أول بذرة.
إذن : الحق سبحانه يمتن علينا بالشيء، ثم يذكرنا بقدرته تعالى على سلبه، وعلى نقيضه حتى لا نغتر به، ليس في مسألة الموت والحياة فحسب، إنما في الزرع وفي الماء وفي النار، واقرأ قوله تعالى :
﴿ أفرأيتم ما تمنون ٥٨ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ٥٩ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين٦٠ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ٦١ ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون٦٢ أفرأيتم ما تحرثون٦٣أأنتم تزرعون أم نحن الزارعون ٦٤ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون٦٥ إنا لمغرمون٦٦ بل نحن محرومون٦٧ أفرأيتم الماء الذي تشربون٦٨ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ٦٩ لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون٧٠ أفرأيتم النار التي تورون ٧١ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشون ٧٢ ﴾( الواقعة )
ونلحظ في الأداء القرآني في هذه الآيات الدقة في استخدام لام التوكيد في﴿ لجعلناه حطاما... ٦٥ ﴾( الواقعة ) في الحديث عن الزرع ؛ لأن للإنسان دورا فيه، حيث يحرث ويغرس ويسقى، وربما ظن لنفسه قدرة عليه.
لكن لما تحدث عن الماء ذكر في نقضه﴿ لو نشاء جعلناه أجاجا... ٧٠ ﴾( الواقعة ) بدون توكيد، لماذا ؟ لأن الماء لا دخل لأحد فيه، ولا يدعيه أحد، فلا أنت بخرت الماء، ولا أنت أنزلت المطر، لذلك قال﴿ جعلناه... ٧٠ ﴾( الواقعة ) بدون توكيد.
أما عند ذكر النار كنعمة من نعم الله لم يذكر ما ينقضها، فقال :﴿ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون٧٢ ﴾( الواقعة ) ولم يقل مثلا : لو نشاء لأطفأناها، ترى لماذا ؟ قالوا : لتظل النار ماثلة أمامنا على حال اشتعالها لا تخمد أبدا، وكأن الحق-سبحانه وتعالى- يلوح بها لكل عاص عله يعود إلى الجادة.
ثم يقول سبحانه :﴿ وكذلك تخرجون١٩ ﴾( الروم ) كذلك : إشارة إلى ما سبق ذكره من إحياء الأرض بعد موتها، كمثل ذلك تخرجون وتبعثون، فمن أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الأرض الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها.
.
لو أن الحيوان المنوي كان ميتا لما حدث الإنجاب. إذن : جاء أولاد آدم من ميكروب أبيهم آدم، وانتشروا في الأرض وأنجبوا، وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الأول آدم عليه السلام. وبالتالي فكل منا فيه ذرة حية من عهد آدم، وحتى الآن لم يطرأ عليها فناء أبدا، وهذا هو عالم الذر الذي شهد خلق الله لآدم، إنها أبعاضنا التي شهدت هذا العهد الأول بين الخلق والخالق سبحانه :
﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلون ١٧٢ ﴾( الأعراف )
إذن : في كل منا الآن وحتى قيام الساعة ذرة حية من أبيه آدم، هذه الذرة الحية هي التي شهدت هذا العهد، وهي التي تمثل الفطرة الإيمانية في كل نفس بشرية، لكن هذه الفطرة قد تطمس أو تغلف بالغفلة والمعاصي.... الخ
والحق-سبحانه وتعالى- أخبرنا أنه يخلق الأشياء ويوجدها بكن﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون٨٢ ﴾( يس ) إلا الإنسان، فقد بلغ من تكريمه أن سواه ربه بيده، وجعله خليفة له في الأرض، وتجلى عليه بصفات من صفاته، فأعطاه من قدرته قدرة، ومن علمه علما، ومن حكمته حكمة، ومن غناه غنى.
وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخلق يريد منا أن نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا، كما يستعملها هو سبحانه، فالله تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا، فعليك أنت بما وهبك الله من القدرة أن تعمل ما ينفع، والله بحكمته رتب الأشياء، فعليك بما لديك من حكمة أن ترتب الأشياء... وهكذا.
ونشير إلى أن القدرة تختلف، فقدرة تفعل لك، وقدرة عليا تجعلك تفعل بنفسك، هب أنك قابلت رجلا ضعيفا لا يقوى على حمل متاعه مثلا، فتحمله أنت له، فأنت إذن عديت إليه أثر قوتك، إنما ظل هو ضعيفا.
أما الحق- تبارك وتعالى- فلا يعدي أثر قوته إلى عبده فحسب، إنما يعدي له القدرة ذاتها، فيقوي الضعيف ؛ فيحمل متاعه بنفسه.
إذن : أعظم تكريم للإنسان أن يقول الخالق سبحانه : إنني خلقته بيدي في قوله سبحانه لإبليس :
﴿ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي... ٧٥ ﴾( ص )
ثم لك أيها الإنسان بعد هذا التكريم أن تكون كريما على نفسك كما كرمك الله، ولك أن تنزل بها إلى الحضيض، فنفسك حيث تجعلها أنت.
يقول تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم٤ ثم رددناه أسفل سافلين ٥ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... ٦ ﴾( التين ) فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين.
وكلمة﴿ من تراب... ٢٠ ﴾( الروم ) أي : الأصل الذي خلق منه آدم، والتراب مع الماء يصير طينا، فإن تعطن وتغيرت رائحته فهو حمأ مسنون، فإن جف فهو صلصال كالفخار، إذن : هذه هي العناصر التي وردت ومراحل خلق الإنسان، وكلها مسميات للتراب، وحالات طرأت عليها.
فإن جاء من يقول في مسألة الخلق بغير هذا فلا نصدقه ؛ لأن الذي خلق الإنسان أخبرنا كيف خلقه، أما هؤلاء فلم يشهدوا من خلق الإنسان شيئا، وهم في نظر الدين مضللون، يجب الحذر من أفكارهم ؛ لأن الله تعالى يقول في شأنهم :
﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا٥١ ﴾( الكهف )
وبالله لو لم يخض العلماء في مسألة الخلق خلق الإنسان وخلق الشمس والقمر والأرض... الخ. لو لم تسمع بنظرية داروين أكانت تصدق هذه الآية ؟ وإلا لقالوا : أين المضللون الذين تكلم القرآن عنهم ؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم، يريدون أن يكذبوا دين الله، وأن يشككوا فيه، وإذا بهم يقومون جميعا دليلا على صدقه من حيث لا يشعرون.
وعلى شاكلة هؤلاء الذين نسمعهم الآن ينكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويشككون في صحتها، هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول الله ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذه المسألة، إنما أخبر عنها ونبهنا إليها، وأعطانا المناعة اللازمة- الثلاثي الذي نسمع عنه من رجال الصحة.
يقول صلى الله عليه وسلم :" يوشك رجل من أمتى يتكئ على أريكته يحدث بالحديث عنى فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله " ١.
لماذا ؟ لأن الله تعالى أعطاه تفويضا في أن يشرع لأمته، فقال تعالى :﴿ وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا... ٧ ﴾( الحشر ) فللرسول إيتاء، وللرسول أمر ونهي يجب أن يطاع بطاعتنا لله.
وتعالى لمن ينكر السنة ويقول : علينا بالقرآن- عندما يصلي المغرب مثلا واسأله : كم ركعة صليت المغرب ؟ سيقول : ثلاث ركعات، فمن أين علم أن المغرب ثلاث ركعات ؟ أمن القرآن الذي يتعصب له، أم من السنة التي ينكرها. إذن : كيف يتعبد على قول رسول الله ثم ينكره ؟
إذن : فالحق سبحانه وتعالى- بين مراحل خلق الإنسان من تراب، صار طينا، ثم صار حمأ مسنونا، ثم صلصالا كالفخار، ثم نفخ فيه الله من روحه، ونحن لم نشاهد هذه المسألة، إنما أخبرنا بها، ومن رحمته تعالى بخلقه، ولكي لا تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون المشاهد توضح لنا الغيب الذي لم نشاهده.
ففي أعرافنا أن هدم الشيء أو نقض البناء يأتي على عكس البناء، فما بني أولا يهدم آخرا، وما بني آخرا يهدم أولا، وأنت لم تشاهد عملية الخلق، لكن شاهدت عملية الموت، والموت تقض للحياة.
ولك أن تتأمل الإنسان حينما يموت، فأول تقض لبنيته أن تخرج منه الروح، وكانت آخر شيء في بنائه، ثم يتصلب الجسد ويتجمد، كما كان في مرحلة الصلصالية، ثم يتعفن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم تمتص الأرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه خالقه من تراب، إذن : صدق الله تعالى في المشهد حين بين لنا الموت، فصدقنا ما قاله في الحياة.
وكما أن التراب والطين هما أصل الإنسان فهما أيضا مصدر الخصب والنماء، ومخازن للقوت وهما مقوم من مقومات حياتنا ؛ لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانه :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها.... ١٠ ﴾( فصلت ) يعني : في الجبال لأنها أقرب مذكور أو في الأرض عموما، لأن الرواسي في الأرض﴿ وقدر فيها أقواتها.... ١٠ ﴾( فصلت )
فالقوت يأتينا من طينة الأرض، ومن التراب الذي يفتت من الجبال مكونا الطمى أو الغرين الذي يحمله إلينا ماء المطر، فالأرض هي أمنا الحقيقية، منها خلقنا، ومنها مقومات حياتنا.
وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين من يثبت صدق القرآن في مسألة خلق الإنسان من طين حين حللوا عناصر الأرض فوجدوها ستة عشر عنصرا هي نفسها التي وجدوها في جسم الإنسان، وكأن الحق سبحانه يجند من يثبت صدق آياته ولو من الكفار.
وصدق الله العظيم حين قال :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ٥٣ ﴾( فصلت ). وفي القرآن آيات تدل على معادلات لو بحثها ( الكمبيوتر ) الآن لا بد أن نؤمن بأن هذا الكلام من عند الله وأنه صدق.
تأمل ظاهرة اللغة، وكيف نتكلم ونتفاهم، فأنت إذا لم تتعلم الإنجليزية مثلا لا تفهمها ؛ وكذلك هو لا يفهم العربية. لماذا ؟ لأن اللغة وليدة المحاكاة، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، وهي ظاهرة اجتماعية، فلو عاش الإنسان وحده لما احتاج للغة ؛ لأنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط.
أما حين يعيش في جماعة فلا بد له أن يتفاهم معهم، يأخذ منهم ويأخذون منه، يسمع منهم ويسمعون منه، حتى الأخرس لا بد من لغة يتفاهم بها مع من حوله، ويستخدم فعلا لغة الإشارة، وقد أقدره الله على فهمها.
والله سبحانه يبقي للإنسان المتكلم دلالات الإشارة في النفس الناطقة، فمثلا لو اضطررت للكلام وفي فمك طعام، فإنك تشير لولدك أو لخادمك مثلا ويفهم عنك ويفعل ما تريد.
إذن : فينا نحن الأسوياء بقايا خرس نستعمله، حينما لا يسعفنا النطق إذن : التفاهم أمر ضروري، واللغة وليدة المحاكاة ؛ لذلك نقول للولد الصغير : لا تخرج إلى الشارع، لماذا ؟ حتى لا تسمع أذنه كلاما قبيحا فيحكيه هو.
إذن : كيف تعلمت اللغة ؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي، وتعلمها أي من أبيه، ومن المحيطين به، وهكذا. ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في الإنسان، وسوف نعود بالتالي إلى أبينا آدم عليه السلام، وعندها نقول : ومن علم آدم اللغة ؟ يرد علينا القرآن :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها... ٣١ ﴾( البقرة ) هذا كلام منطقي استقرائي يدل دلالة قاطعة على صدق آيات القرآن.
وقوله سبحانه :﴿ ثم إذا أنتم بشر تنتشرون٢٠ ﴾( الروم ) ثم : أي بعد أن خلقنا الله من تراب تكاثر الخلق وتزايدوا بسرعة ؛ لأن السياق استعمل هنا( إذا ) الفجائية الدالة على الفجأة، والتي يمثلون لها بقولهم : خرجت فإذا أسد الباب، يعني : فاجأني، فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الأرض بسرعة.
﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٢١ ﴾
قلنا إن الآية هي الشيء العجيب الذي يقف عند العقل مندهشا دهشة تورث إعجابا، وإعجابا يورث يقينا بحكمة الخالق. من هذه الآيات العجيبة الباهرة﴿ أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا... ٢١ ﴾( الروم ) يعني : من جنسكم ونوعكم.
فلم يشأ سبحانه أن يحدث التكاثر مثلا بين إنسان وبقرة، لا إنما إنسان مع إنسان، يختلف معه فقط في النوع، هذا ذكر وهذه أنثى، والاختلاف في النوع اختلاف تكامل، لا اختلاف تعاند وتصادم، فالمرأة للرقة والليونة والحنان، والرجل للقوة والخشونة، فهي تفرح بقوته ورجولته، وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها، فيحدث التكامل الذي أراده الله وقصده للتكاثر في بني الإنسان.
وعجيب أن يرى البعض أن الذكورة نقيض الأنوثة، ويثيرون بينهما الخلاف المفتعل الذي لا معنى له، فالذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعا، هل نجري مقارنة بين الليل والنهار... أيهما أفضل ؟ الذكر والأنثى، وتدبر هذا المعنى الدقيق :
﴿ والليل إذا يغشى ١ والنهار إذا تجلى٢ وما خلق الذكر والأنثى ٣ إن سعيكم لشتى ٤ ﴾( الليل )أي : مختلف، فلكل منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سعيكما ينشأ التكامل الأعلى.
فلا داعي إذن لأن أطلب المساواة بالمرأة، ولا أن تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى :﴿ إن سعيكم لشتى ٤ ﴾( الليل )
وعجيب أن نسمع من يقول- من الرجال- ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل، وأن تؤدي ما يؤديه. ونقول : لا تستطيع أن تحمل المرأة مهمة الرجل إلا إذا حملت الرجل مهمة المرأة، فيحمل كما تحمل، ويلد كما تلد، ويرضع كما ترضع. فدعونا من شعارات ( البلطجية ) الذين يهرفون بما لا يعرفون.
ومثل هذا قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ١٢٨ ﴾( التوبة ) أي : من جنسكم وبشريتكم، فهو نفس لها كل طاقات البشر، ليكون لكم أسوة، ولو جاء الرسول ملكا لما تحققت فيه الأسوة، ولقلتم هذا ملك، ونحن لا نقدر على ما يقدر هو عليه. أو﴿ من أنفسكم... ١٢٨ ﴾( التوبة ) يعني : من العرب ومن قريش.
والبعض١ يرى أن ﴿ من أنفسكم... ١٢٨ ﴾( التوبة ) يعني : خلق حواء من ضلع آدم، فهي من أنفسنا يعني : قطعة منا، لكن الكلام هنا﴿ من أنفسكم... ١٢٨ ﴾ ( التوبة ) مخاطب به الذكر والأنثى معا، كما أن الأزواج تطلق عليهما أيضا، على الرجل وعلى المرأة، والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين، لكن الزوج مفرد معه مثله ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين... ٣ ﴾( الرعد )
وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة، لكن القرآن يقول غير ذلك :﴿ ألم يك نطفة من مني يمنى ٣٧ ﴾( القيامة ) فماء المرأة لا دخل له في نوع الجنين، ذكرا كان أم أنثى، الذكورة والأنوثة يحددها ماء الرجل.
وهذا ما أثبته العلم الحديث، وعلى هذا نقول ﴿ خلق لكم من أنفسكم أزواجا... ٢١ ﴾( الروم ) يعني : من ذكور الأزواج٢، خلق منك ميكروبا هو( الإكس أو الإكس واى ) كما اصطلح عليه العلم الحديث، وهو يعني الذكورة والأنوثة.
وسبق أن ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته، لأنها لا تنجب البنين، وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية، وقولها دليل على علم العرب قديما بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخرا، قالت :
ما لأبى حمزة لا يأتينا***غضبان ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا*** ونحن كالأرض لزارعينا
نعطي لهم مثل الذي أعطينا
والحق سبحانه بهذا يريد أن يقول : إنني أريد خليفة متكاثرا ليعمر هذه الأرض الواسعة، فإذا رأيت مكانا قد ضاق بأهله فاعلم أن هناك مكانا آخر خاليا، فالمسألة سوء توزيع لخلق الله على أرض الله.
لذلك يقولون : إن سبب الأزمات أن يوجد رجال بلا أرض، وأرض بلا رجال، وضربنا مثلا لذلك بأرض السودان الخصبة التي لا تجد من يزرعها، ولو زرعت لكفت العالم العربي كله، في حين نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقت بنا، فإن فكرت في الهجرة إلى هذه الأماكن الخالية واجهتك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها، وما أنزل الله بها من سلطان.
لذلك لما أتيح لنا الحديث في الأمم المتحدة قلت لهم : آية واحدة في كتاب الله لو عملتم بها لحلت لكم المشاكل الاقتصادية في العالم كله، يقول تعالى :﴿ والأرض وضعها للأنام١٠ ﴾( الرحمن ) فالأرض كل الأرض للأنام، كل الأنام على الإطلاق.
واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة :﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها... ٩٧ ﴾( النساء ) إذن : لا تعارض منهج الله وقدره في أحكامه، ثم تشكو الفساد والضيق والأزمات، إنك لو استقرأت ظواهر الكون لما وجدت فسادا أبدا إلا فيما تتناوله يد الإنسان على غير القانون والمنهج الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه، أما ما لا تتناوله يد الإنسان فتراه منضبطا لا يختل ولا يتخلف.
إذن : المشاكل والأزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون الله على غير هدى الله وبغير منهجه ؛ لذلك تسمع من يقول : العيشة ضنك، فلا يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إلا مشكلة الفقر، لكن الضنك أوسع من ذلك بكثير، فقد يوجد الغنى والترف ورغد العيش، وترى الناس مع ذلك في ضنك شديد.
فانظر مثلا إلى السويد، وهي من أغنى دول العالم، ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد النفسية، ويكثر بها الانتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه، مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل الفرد.
فالمسألة- إذن- ليست حالة اقتصادية، إنما مسألة منهج لله تعالى غير مطبق وغير معمول به، وصدق الله :﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى١٢٤ ﴾( طه )
لذلك لو عشنا بمنهج الله لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر.
وقوله تعالى :﴿ لتسكنوا إليها... ٢١ ﴾( الروم ) هذه العلة الأصيلة في الزواج، أي : يسكن الزوجان أحدهما للآخر، والسكن لا يكون إلا عن حركة، كذلك فالرجل طوال يومه في حركة العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب، فيريد آخر النهار أن يسكن إلى من يريحه ويواسيه، فلا يجد غير زوجته عندها السكن والحنان والعطف والرقة، وفي هذا السكن يرتاح ويستعيد نشاطه للعمل في غد.
لكن تصور إن عاد الرجل متعبا فلم يجد هذا السكن، بل وجد زوجته ومحل سكنه وراحته تزيده تعبا، وتكدر عليه صفوه. إذن : ينبغي للمرأة أن تعلم معنى السكن هنا، وأن تؤدي مهمتها لتستقيم أمور الحياة.
ثم إن الأمر لا يقتصر على السكن إنما﴿ وجعل بينكم مودة ورحمة... ٢١ ﴾( الروم ) المودة هو الحب المتبادل في ( مشوار ) الحياة وشراكتها، فهو يكدح ويوفر لوازم العيش، وهي تكدح لتدبر أمور البيت وتربية الأولاد ؛ لأن الله يقول﴿ إن سعيكم لشتى ٤ ﴾( الليل ) هذا في إطار من الحب والحنان المتبادل.
أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات : سكن ومودة ورحمة، ذلك لن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيرا ما تتغير أحوالهم، فالقوى قد يصير إلى الضعف، والغنى قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تغيرها الأيام أو يهدها المرض... الخ
لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إن قصرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إن أقعده المرض أو أصابه الفقر... الخ
وكثير من كبار السن من الذين يتقون الله ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا المبدأ مبدأ الرحمة، لذلك حينما يلمحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول :( أنا آكله لحم وأرميه عظم ؟ ).
هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول الله في اختيار الزوجة :" تنكح المرأة لأربع : لمالها، ولحسبها، ولجمالها- وهذه كلها أغيار-ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " ٣. فأنت وهي أبناء أغيار، لا يثبت أحد منكما على حاله، فيجب أن تردا إلى شيء ثابت ومنهج محايد لا هوى له، يميل به إلى أحدكما، منهج أنتما فيه سواء، ولن تجدوا ذلك إلا في دين الله.
لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ٤.
وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنما لم تعد تملأ نظري، أو كذا وكذا، لأن الزوجة ما جعلها الله إلا سكنا له وأنثى ووعاء، فإذا هاجت غرائزك بطبيعتها تجد مصرفا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته- أي : تعجبه وتحرك في نفسه نوازع- فليأت أهله، فإن البضع واحد " ٥.
وكلما طبق الزوجان المقاييس الدينية، وتحليا بآداب الدين وجد كل منهما في الآخر ما يعجبه، فإن ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها، سيبقي في المرأة جمال الطبع والسلوك، وكلما تذكرت إخلاصها لك وتفانيها في خدمتك وحرصها على معاشك ورعايتها لحرمة بيتك كلما تمسكت بها، وازددت حبا لها.
وكذلك الحال بالنسبة للزوجة، فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يعوضنا ما فات.
ولما كان من طبيعة المرأة أن يظهر عليها علامات الكبر أكثر من الرجل ؛ لذلك كان على الرجل أن يراعي هذه المسألة، فلما سأل أحدهم الحسن : لقد تقدم رجل يخطب ابنتي وصفته كيت وكيت، قال : لا تنكحها إلا رجلا مؤمنا، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن في الآيات لقوم يتفكرون٢١ ﴾( الروم ) يتفكرون في هذه المسائل وفي هذه المراحل التي تمر بالحياة الزوجية، وكيف أن الله تعالى جعل لنا الأزواج من أنفسنا، وليست من جنس آخر، وكيف بنى هذه العلاقة على السكن والحب والمودة، ثم في مرحلة الكبر على الرحمة التي يجب أن يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معا.
٢ أخذ بهذا الرأي القرطبي في تفسيره(٧/٥٢٧٣)، فقال: ﴿من أنفسكم... ٢١﴾(الروم) أي: من نطف الرجال ومن جنسكم "وذكر قول قتادة بصيغة التمريض (بالميم) "قيل" قال الشيخ أحمد شاكر في كتابه"الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" لابن كثير –ص٣٤- مطبعة صبيح: "صيغة الجزم، قال، وروى، وجاء، وعن"وصيغة التمريض (بالميم) نحو،" قيل، وروي عن، ويروى، ويذكر" ونحوها..
٣ أخرجه أحمد في مسنده (٢/٤٢٨)، وأبو داود في سننه(٢٠٤٧)، وابن ماجة في سننه (١٨٥٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٤ أخرجه الترمذي من سننه(١٠٨٤)، وابن ماجه في سننه (١٩٦٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال البوصيري في الزوائد:" الحديث قد أخرجه الترمذي ورجح إرساله. ثم أخرجه من حديث أبي حاتم المزنى، وقال فيه: إنه حسن"..
٥ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣/٣٣٠-٣٤١-٣٤٨-٣٩٥)، وكذا مسلم في صحيحه (١٤٠٣) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه فقال:" إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه..
﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين٢٢ ﴾
في خلق السماوات والأرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر أنها تقول على غير عمد :﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها... ١٠ ﴾( لقمان )
فالسماء التي ترونها على امتداد الأفق تقوم بغير أعمدة١، ولكم أن تسيروا في الأرض، وأن تبحثوا عن هذه العمد فلن تروا شيئا. أو﴿ بغير عمد ترونها... ١٠ ﴾( لقمان ) يعني : هي موجودة لكن لا ترونها٢.
والمنطق يقتضى أن الشيء العالي لا بد له إما من عمد تحمله من أسفل، أو قوة تمسكه من أعلى ؛ لذلك ينبغي أن نجمع بين الآيات لتكتمل لدينا هذه الصورة، فالحق سبحانه يقول في موضع آخر :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا... ٤١ ﴾( فاطر )
إذن : ليست للسماء أعمدة، إنما يمسكها خالقها- عز وجل- من أعلى، فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، ولا تتعجب من هذه المسألة، فقد أعطانا الله تعالى مثالا مشاهدا في قوله سبحانه :﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله... ٧٩ ﴾( النحل )
فإن قلت : يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء، فترتفع به، وتمسك نفسها في الجو، نقول : وتمسك أيضا في جو السماء بدون حركة الجناحين، واقرأ إن شئت قوله تعالى :﴿ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن... ١٩ ﴾( الملك )
فترى الطير في السماء مادا جناحيه ثابتا بدون حركة، ومع ذلك لا يقع على الأرض ولا يمسكه في جو السماء إذن إلا قدرة الله.
إذن : خذ مما تشاهد دليلا على صدق ما لا تشاهد ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس... ٥٧ ﴾( غافر ) مع أنها خلقت لخدمة الإنسان.
فمع أنك أيها الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله، وفيك انطوى العالم الأكبر، إلا أن عمرك محدود لا يعد شيئا إذا قيس بعمر الأرض والسماء والشمس والقمر... الخ.
ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات الله في الإنسان :﴿ واختلاف ألسنتكم وألوانكم... ٢٢ ﴾( الروم ) اللسان يطلق على اللغة كما قال تعالى ﴿ بلسان عربي مبين١٩٥ ﴾( الشعراء ) وقال :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين١٠٣ ﴾( النحل )
ويطلق أيضا على هذه الجارحة المعروفة، وإنما أطلق اللسان على اللغة ؛ لأن أغلبها يعتمد على اللسان وعلى النطق، مع أن اللسان يمثل جزءا بسيطا في عملية النطق، حيث يشترك معه في النطق الفم والأسنان والشفتان والأحبال الصوتية... الخ، لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية. إذن : فاختلاف الألسنة يعني اختلاف اللغات.
وسبق أن قلنا : إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به، وحين تسلسلها لا بد أن نصل بها إلى أبينا آدم عليه السلام، وقلنا : إن الله تعالى هو الذي علمه اللغة حين علمه الأسماء كلها، ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه الأسماء ليتفاهموا بها، وليضيفوا إليها أسماء جديدة.
لذلك نرى أولادنا مثلا حينما نريد أن نعلمهم ونرقيهم نعلمهم أولا أسماء الأشياء قبل أن يتعلموا الأفعال ؛ لأن الاسم أظهر، ألا ترى أن الفعل والحدث يدل عليه باسم، فكلمة( فعل ) هي ذاتها اسم.
لكن، كيف ينشأ اختلاف اللغات ؟ لو تأملنا مثلا اللغة العربية نجدها لغة واحدة، لكن بيئاتها متعددة : هذا مصري، وهذا سوداني، وهذا سوري، مغربي، عراقي... الخ نشترك جميعا في لغة واحدة، لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد لا تفهم في البيئة الأخرى، أما إذا تحدثنا جميعا باللغة العربية لغة القرآن تفاهم الجميع بها.
أما اختلاف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض، هذا الانعزال يؤدي إلى وجود لغة جديدة، فمثلا الإنجليزية والفرنسية والألمانية و... الخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة اللاتينية، فلما انعزلت البيئات أرادت كل منها أن يكون لها استقلالية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة بألفاظها وقواعدها.
أو﴿ واختلاف ألسنتكم... ٢٢ ﴾( الروم ) يعني : اختلاف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلات الكلام من أصوات مختلفة، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أن يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر كبصمة الأصابع، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد.
ورأينا لذلك خزائن تضبط على بصمة صوت صاحبها، فساعة يصدر لها صوتا تفتح له.
ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوتات كثيرة منها : الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء، ومنها : الحيوان، نقول : نقيق الضفادع وصهيل الخيل، ونهيق الحمار، وثغاء الشاة، ورغاء الإبل... الخ لكن بالله أسألك : لو سمعت صوت حمار ينهق، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان ؟ لا، لأن كل الأصوات من كل الأجناس خلا الإنسان صوتها واحد لا يميزه شيء.
أما في الإنسان، فلكل هنا صوته المميز في نبرته وحدته واستعلائه أو استفاله، أو في رقته أو في تضخيمه... الخ. فلماذا إذن تميز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات ؟
قالوا : لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أن تضبط وأن تحدد كما للإنسان، وإلا كيف نميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف شيئا من أوصافه ؟ وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها لا تدلنا عليه دلالة قاطعة تحدد المسئولية ويترتب عليها الجزاء.
وقال سبحانه بعدها﴿ وألوانكم.. ٢٢ ﴾( الروم ) فاختلاف الألسنة والألوان ليحدث هذا التميز بين الناس، ولأن الإنسان هو المسئول خلق الله فيه اختلاف الألسنة والألوان ؛ لنستدل عليه بشكله : بطوله أو قصره أو ملابسه... الخ.
وفي ذلك ما يضبط سلوك الإنسان ويقومه حين يعلم أنه ن يفلت بفعلته، ولا بد أن يدل عليه شيء من هذه المميزات.
لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول، لماذا ؟ لأنهم يريدون أن يضيقوا دائرة البحث فيخرجون منها من لا تنطبق عليه مواصفاتهم، وما يزالون يضيقون الدائرة حتى يصلوا للجاني.
والحق- تبارك وتعالى- يقول :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... ١٣ ﴾( الحجرات )
فالتميز والتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة، ألا ترى الرجل يضع لكل ولد من أولاده اسما يميزه، فإن عشق اسم محمد مثلا، وأحب أن يسمي كل أولاده محمدا لا بد أن يميزه، فهذا محمد الكبير، وهذا محمد الصغير، وهذا الأوسط... الخ.
إذن : لا بد أن يتميز الخلق لنستطيع تحديد المسئوليات.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن في ذلك... ٢٢ ﴾( الروم ) أي : في الخلق على هذه الهيئة الحكيمة المحكمة﴿ لآيات... ٢٢ ﴾( الروم ) لنعتبر بها، فالخالق سبحانه إن وحد الصفات فدليل على الحكمة، وإن اختلف فدليل على طلاقة القدرة. وانظر مثلا إلى الصانع الذي يصنع أكواب الزجاج، تراه يأخذ عجينة الزجاج ويصبها في قالت فتخرج جميعها على شكل واحد، أما الخباز مثلا فيأخذ العجينة ويجعلها رغيفا فلا ترى رغيفا مثل الآخر.
أما الخالق- عز وجل- فيخلق بحكمة وبطلاقة قدرة، ويخلق سبحانه ما يشاء، غير محكوم بقالب معين.
وقوله﴿ للعالمين.... ٢٢ ﴾( الروم ) أي : الذين يبحثون في الأشياء، ولا يقفون عند ظواهرها، إنما يتغلغلون في بطونها، ويسبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها.
لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ١٠٥ ﴾( يوسف ) فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمت البشرية، كالذي اخترع عصر البخار، والذي اخترع العجلة، والذي اكتشف الكهرباء والجاذبية والبنسلين.... الخ. إذن : نمر على آيات الله في الكون بيقظة، وكل العلوم التجريبية نتيجة لهذه اليقظة.
والعالمون : جمع العالم، وكانت تطلق في الماضي على من يعرف الحلال والحرام، لكن هي أوسع من ذلك، فالعالم : كل من يعلم قضية كونية أو شرعية، ويسمى هذا " عالم الكونيات " وهذا عالم بالشرع، وإن شئت فاقرأ :
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود٢٧ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك... ٢٨ ﴾( فاطر )
فذكر سبحانه النبات، ثم الجماد، ثم الناس، ثم الحيوان.
ثم يقول سبحانه :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء... ٢٨ ﴾( فاطر ) على إطلاقها فلم يحدد أي علماء : علماء النبات، أو الحيوان، أو الجمادات، أو علماء الشرع، إذن : العالم كل من يعلم حقيقة في الكون وجودية أو شريعة من عند الله.
لكن، لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة ؟ قالوا : لأنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها ؛ لذلك رأينا من آداب العلم في الإسلام ألا يدخل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات، وألا يدخل علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع.
والذي أحدث الاضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلا علماء الكونيات بأن الأرض تدور حول الشمس، فيقوم من علماء الدين من يقول : هذا مخالف للدين- هكذا عن غير دراسة، سبحان الله، لماذا تقحم نفسك فيما لا تعلم ؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الأرض كرة تدور أو لا تدور ؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الأرض وما الحلال الذي انتقص ؟ كذلك الحال لما صعد الإنسان إلى القمر، اعترض على ذلك بعض رجال الدين.
كذلك نسمع من لا علم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول : هذه لا يقبلها العقل. إذن : آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما لا يعلم، ولو التزم كل بما يعلم لارتاح الجميع، وتركت كل ساحة لأهلها.
وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الأرض بقوله تعالى :﴿ والأرض مددناها... ١٩ ﴾( الحجر ) ولو تأملوا معنى ﴿ مددناها... ١٩ ﴾( الحجر ) لما اعترضوا ؛ لأن معنى مددناها يعني : كلما سرت في الأرض وجدتها ممتدة لا تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهذا يعني أنها كرة لا نهاية لها، ولو كانت مسطحة أو مثلثة مثلا لكان لها نهاية.
إذن : نقول للعلماء عموما : لا تدخلوا أنوفكم فيما لا علم لكم به، ودعوا المجال لأصحابه، عملا بقوله تعالى :﴿ قد علم كل أناس مشربهم... ٦٠ ﴾( البقرة )
٢ قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد: لها عمد لا ترونها.(نقله ابن كثير في تفسيره ٣/٤٤٢) وقال(٢/٤٩٩):"روى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى..
﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون٢٣ ﴾
كذلك من الآيات العجيبة الدالة على قدرة الله ﴿ منامكم... ٢٣ ﴾( الروم ) فحتى الآن لم يكشف علماء وظائف الأعضاء والتشريح عن سر النوم، ولم يعرفوا- رغم ما قاموا به من تجارب- ما هو النوم.
لكن هو ظاهرة موجودة وغالبة لا يقاومها أحد مهما أوتي من القوة، ومهما حاول السهر دون أن ينام، لا بد أن يغلبه النوم فينام، ولو على الحصى والقتاد، ينام وهو واقف وهو يحمل شيئا لا بد أن ينام على أية حالة.
وفلسفة النوم، لا أن نعرف كيف ننام، إنما أن نعرف لماذا ننام ؟ قالوا : لأن الإنسان مكون من طاقات وأجهزة لكل منها مهمة، فالعين للرؤية، والأذن للسمع... الخ، فساعة تجهد أجهزة الجسم تصل بك إلى مرحلة ليست قادرة عندها على العمل، فتحتاج أنت – بدون شعورك وبأمر غريزي- إلى أن ترتاح كأنها تقول لك كفى لم تعد صالحا للعمل ولا للحركة فنم.
ومن عجيب أمر النوم أنه لا يأتي بالاستدعاء ؛ لأنك قد تستدعي النوم بشتى الطرق فلا يطاوعك ولا تنام، فإن جاءك هو غلبك على أي حال كنت، ورغم الضوضاء والأصوات المزعجة تنام. لذلك يقول الرجل العربي : النوم طيف إن طلبته أعنتك، وإن طلبك أراحك.
ولأهل المعرفة نظرة ومعنى كونى جميل في النوم، يقولون في قوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده... ٤٤ ﴾( الإسراء ) فكل ما في الوجود يسبح حتى أبعاض الكافر وأعضاؤه مسبحة، إنما إرادته هي الكافرة، وتظل هذه الأبعاض خاضعة لإرادة صاحبها إلى أن تنفك عن هذه الإرادة يوم القيامة، فتشهد عليه بما كان منه، وبما أجبرها عليه من معصية الله.
وسبق أن مثلنا لذلك بقائد الكتيبة حين يطيعه جنوده ولو في الخطأ ؛ لأن طاعته واجبة إلى أن يعودوا إلى القائد الأعلى فيتظلمون عنده، ويخبرونه بما كان من قائدهم.
وذكرنا أن أحد قواد الحرب العالمية أراد أن يستخدم خدعة يتفوق بها على عدوه، رغم أنها تخالف قانون الحرب عندهم، فلما أفلحت خطته وانتصر على عدوه كرموه على اجتهاده، لكن لم يفتهم أن يعاقبوه على مخالفته للقوانين العسكرية، وإن كان عقابا صوريا لتظل للقانون مهابته.
كذلك أبعاض الكافر تخضع له في الدنيا، وتشهد عليه يوم القيامة :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون٢٤ ﴾( النور )
مع أن هذه الجوارح هي التي نطقت بكلمة الكفر، وهي التي سرقت... الخ ؛ لأن الله أخضعها لإرادة صاحبها، أما يوم القيامة فلا إرادة له على جوارحه :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.... ٢١ ﴾( فصلت ) لذلك يطمئننا الحق سبحانه بقوله :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار١٦ ﴾( غافر )
فإذا ما نام الكافر ارتاحت منه أبعاضه وجوارحه، ارتاحت من مرادات الشر عنده ؛ لذلك يحدثنا إخواننا الذين يحجون بيت الله يقولون : هناك النوم فيه بركة، ويكفيني أقل وقت لأرتاح، لماذا ؟ لأن فكرك في الحج مشغول بطاعة الله، ووقتك كله للعبادة، فجوارحك في راحة واطمئنان لم ترهقها المعصية ؛ لذلك يكفيها أقل وقت من النوم لترتاح.
وفي ضوء هذا الفهم نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم :" تنام عيني ولا ينام قلبي " ١ لأنه صلى الله عليه وسلم حياته كلها للطاعة، فجوارحه مستريحة، فيكفيه من النوم مجرد الإغفاءة.
وفي العامية يقول أهل الريف : نوم الظالم عبادة، لماذا ؟ لأنه مدة نومه لا يأمر جوارحه بشر، ولا يرغمها على معصية فتستريح منه أبعاضه، ويستريح الناس والدينا من شره، وأي عبادة أعظم من هذه ؟
ونلحظ هذه الآية﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله... ٢٣ ﴾( الروم ) فجعل الليل والنهار محلا للنوم، ولابتغاء الرزق، وفي آية أخرى :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه٧٣ ﴾( القصص ) فجمعهما معا، ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب﴿ لتسكنوا فيه٧٣ ﴾( القصص ) أي : في الليل﴿ ولتبتغوا من فضله ٧٣ ﴾( القصص ) أي : في النهار.
وهذا أسلوب يعرف في اللغة باللف والنشر، وهو أن تذكر عدة أشياء محكوما عليها، ثم تذكر بعدها الحكم عليها جملة، وتتركه لذكاء السامع ليرجع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب.
ومن ذلك قول الشاعر :
قلبي وجفني واللسان وخالقي*** راض وباك شاكر وغفور
فجمع المحكوم عليه في ناحية، ثم الحكم في ناحية، فجمع المحكوم عليه يسمى لفا، وجمع الحكم يسمى نشرا.
وهاتان الآيتان من الآيات التي وقف أمامها العلماء، ولا نستطيع أن نخرج منهما بحكم إلا بالجمع بين الآيات، لا أن نفهم كل آية على حدة، فنلحظ هنا في الآية التي معنا﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله... ٢٣ ﴾( الروم ) أن الله تعالى جعل كلا من الليل والنهار محلا للنوم، ومحلا للسعي.
وفي الآية الأخرى :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه٧٣ ﴾( القصص ) ثم قال﴿ ولتبتغوا من فضله ٧٣ ﴾ ( القصص ) ولم يقل ( فيه ) ويجب هنا أن نتنبه، فهذه آية كونية أن يكون الليل للنوم والسكون والراحة، والنهار للعمل وللحركة، فلا مانع أن نعمل بالليل أيضا، فبعض الأعمال لا تكون إلا بليل، كالحراس ورجال الأمن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم، وسكن هؤلاء يكون بالنهار، وبهذا الفهم تتكامل الآيات في الموضوع الواحد.
إذن : فقوله تعالى :﴿ وابتغاؤكم من فضله... ٢٣ ﴾( الروم ) يعني : طلب الرزق والسعي إليه يكون في النهار ويكون في الليل، لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل، والقلة على عكس ذلك.
فإن قلت : هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار، فما بالك بالبلاد التي يستمر ليلها مثلا ثلاثة أشهر، ونهارها كذلك، نريد أن نفسر الآية على هذا الأساس، هل يعملون ثلاثة أشهر وينامون ثلاثة أشهر ؟ أم يجعلون من أشهر الليل ليلا ونهارا، ومن أشهر النهار أيضا ليلا ونهارا ؟ لا مانع من ذلك ؛ لأن الإنسان لا يخلو من ليل للراحة، ونهار للعمل أو العكس، فكل من الليل والنهار ظرف للعمل أو للراحة.
لذلك، فالحق- تبارك وتعالى- يمتن علينا بتعاقب الليل والنهار، فيقول سبحانه :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون٧١ ﴾( القصص ) وذيل الآية بأفلا تسمعون﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون٧٢ ﴾ ( القصص ) وذيل هذه بأفلا تبصرون، لماذا ؟
قالوا : لأن النهار محل الرؤية والبصر، أما الليل فلا بصر فيه، فيناسبه السمع، والأذن هي الوسيلة التي تؤدى مهمتها في الليل عندما لا تتوفر الرؤية.
وفي موضع آخر :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا٦٢ ﴾( الفرقان ) فالليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، هذا في الزمن العادي الذي نعيشه، أما في بدء الخلق فأيهما كان أولا، ثم خلفه الآخر ؟
فإن قلت : إن اللي جاء أولا، فالنهار بعده خلفة له، لكن الليل في هذه الحالة لا يكون خلفة لشيء، والنص السابق يوضح أن كلا منهما خلفة للآخر، إذن : فما حل هذا اللغز ؟
مفتاح هذه المسألة يكمن في كروية الأرض، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر في بداية البعثة بهذه الحقيقة لما صدقوه، كيف ونحن نرى من ينكر هذه الحقيقة حتى الآن.
والحق- سبحانه وتعالى- لا يترك قضية كونية كهذه دون أن يمسها ولو بلطف وخفة، حتى إذا ارتقت العقول تنبهت إليها، فلو أن الأرض مسطوحة وخلق الله تعالى الشمس في مواجهة الأرض لاستطعنا أن نقول : إن النهار جاء أولا، ثم عندما تغيب الشمس يأتي الليل، أما إن كانت البداية خلق الأرض غير مواجهة للشمس، فالليل في هذه الحالة أولا، ثم يعقبه النهار، هذا على اعتبار أن الأرض مسطوحة.
وما دام أن الخالق- عز وجل- أخبر أن الليل والنهار كل منهما خلفة للآخر، فلا بد أنه سبحانه خلق الأرض على هيئة بحيث يوجد الليل ويوجد النهار معا، فإذا ما دارت دورة الكون خلف كل منهما الآخر، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت الأرض مكورة، فما واجه الشمس منها صار نهارا، وما له يواجه الشمس صار ليلا.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون٤٠ ﴾( يس )
فالحق سبحانه ينفي هنا أن يسبق الليل النهار، فلماذا ؟
قالوا : يعتقدون أن الليل سابق النهار، ألا تراهم يلتمسون أول رمضان بليله لا بنهاره ؟ وماداموا يعتقدون أن الليل سابق النهار، فالمقابل عندهم أن النهار لا يسبق الليل، هذه قضية أقرها الحق سبحانه ؛ لذلك لم يعدل فيها شيئا إنما نفى الأولى﴿ ولا الليل سابق النهار... ٤٠ ﴾( يس )
إذن : نفى ما كانوا يعتقدونه﴿ ولا الليل سابق النهار... ٤٠ ﴾( يس ) وصدق على ما كانوا يعتقدونه من أن النهار لا يسبق الليل. فنشأ عن هذه المسألة : لا الليل سابق النهار، ولا النهار سابق الليل، وهذا لا يتأتى إلا إذا وجدا في وقت واحد، فما واجه الشمس كان نهارا، وما لم يواجه الشمس كان ليلا.
﴿ ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ٢٤ ﴾
نلحظ في تذييل الآيات مرة يقول سبحانه﴿ لقوم يتفكرون٢١ ﴾( الروم ) ومرة﴿ للعالمين ٢٢ ﴾( الروم ) ومرة﴿ لقوم يسمعون ٢٣ ﴾( الروم ) أو﴿ لقوم يعقلون٢٤ ﴾( الروم ) فتختلف الأدوات الباحثة في الآيات.
والبعض يظن أن العقل آلة يعملها في كل شيء، فالعقل هو الذي يصدق أو لا يصدق، والحقيقة أنك تستعمل العقل في مسألة الدين مرة واحدة تغنيك عن استعماله بعد ذلك، فأنت تستعمل العقل في أن تؤمن أو لا تؤمن، فإن هداك العقل إلى أن الكون له إله قادر حكيم خالق لا إله إلا هو ووثقت بهذه القضية، فإنها لا تطرأ على تكفيرك مرة أخرى، ولا يبحثها العقل بعد ذلك، ثم إنك في القضايا الفرعية تسير فيها على وفق قضية الإيمان الأولى فلا تحتاج فيها للعقل.
لذلك العقلاء يقولون : العقل كالمطية توصلك إلى حضرة السلطان، لكن لا تدخل معك عليه، وهكذا العقل أوصلك إلى الإيمان ثم انتهى دوره، فإذا ما سمعت قال الله فأنت واثق من صدق القول دون أن تعمل فيه العقل.
وحين يقول سبحانه : يعقلون يتفكرون يعلمون، حين يدعوك للتدبر والعظة إنما ينبه فيك أدوات المعارضة لتتأكد، والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج.
كما لو ذهبت مثلا لتأجر القماش فيعرض عليك بضاعتك : فهذا صوف أصلي، وهذا قطن خالص، ولا يكتفي بذلك إنما يريك جودة بضاعته، فيأخذ ( فتلة ) من الصوف، و( فتلة ) من القطن، ويشعل النار في كل منهما لترى بنفسك، فالصوف لا ترعى فيه النار على خلاف القطن.
إذن هو الذي ينبه فيك وسائل النقد، ولا يفعل ذلك إلا وهو واثق من جودة بضاعته، أما الآخر الذي لا يثق في جودة بضاعته فإنه يلجأ إلى ألاعيب وحيل يغرى بها المشتري ليغره.
كذلك الخالق- عز وجل- ينبهنا إلى البحث والتأمل في آياته فيقول : تفكروا تدبروا، تعقلوا، كونوا علماء واعين لما يدور حولكم، وهذا دليل على أننا لو بحثنا هذه الآيات لتوصلنا إلى مطلوبه سبحانه، وهو الإيمان.
والبرق : ظاهرة من ظواهر فصل الشتاء، حيث نسمع صوتا مدويا نسميه الوعد، بعد أن نرى ضوءا شديدا يلمع في الجو نسميه ( برق )، وهو عامل من عوامل كهربة الجو التي توصل إليها العلم الحديث، لكن قبل ذلك كل الناس عندما يرون البرق لا يفهمون منه إلا أحد أمرين : إما أن يأتي بصاعقة تحرقهم، أو ينزل عليهم المطر، فيخافون من الصاعقة ويرجون المطر.
﴿ ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء... ٢٤ ﴾( الروم ) ليظل العبد دائما مع ربه بين الخوف والرجاء.
لكن أكل الناس يرجون المطر ؟ هب أنك مسافر أو مقيم في بادية ليس لك كن تكن فيه، ولا مأوى يأويك من المطر، فهذا لا يرجو المطر ولا ينتظره، لذلك من رحمته تعالى أن يغلب انفعال الطمع في الماء الذي به تحيا الأرض بالنبات.
﴿ وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها... ٢٤ ﴾( الروم )
وكلمة السماء لها مدلولان : مدلول غالب، وهي السموات السبع، ومدلول لغوي، وهي كل ما علاك فأظلك، وهذا هو المعنى المراد هنا﴿ وينزل من السماء ماء... ٢٤ ﴾( الروم ) لأن المطر إنما ينزل من السحاب، فالسماء هنا تعني : كل ما علاك فأظلك.
ولو تأملت الماء الذي ينزل من السماء لوجدته من سحاب متراكم ﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله... ٤٣ ﴾( النور )
وسبق أن تحدثنا عن كيفية تكون السحب، وأنها نتيجة لبخر الماء، لذلك من حكمته تعالى أن جعل ثلاثة أرباع الأرض ماء والربع يابسة، ذلك لتتسع رقعة بخر الماء، فكأن الثلاثة الأرباع جعلت لخدمة الربع، وليكفي ماء المطر سكان اليابسة.
وبينا أهمية اتساع مسطح الماء في عملية البخر، بأنك حين تترك مثلا كوبا من الماء على المنضدة لمدة طويلة يظل كما هو، ولو نقص منه الماء لكان قليلا، أما لو سكبت ماء الكوب على أرض الغرفة مثلا فإنه يجف في عدة دقائق لماذا ؟ لأن مسطح الماء اتسع فكثر الماء المتبخر.
ومثلنا لتكون السحب بعملية التقطير التي نجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي المعقم، وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلى، ثم تمريره على سطح بارد فيتكثف البخار مكونا الماء الصافي، إذن : فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماء مقطرا في غاية الصفاء والنقاء، جون أن تشعر أنت بهذه العملية، ودون أن نكلفك فيها شيئا.
وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر، فحرارة الشمس على سطح الأرض تبخر الماء بالحرارة، وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثف للماء ويتكون السحاب، ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا ٣٠ مترا عن الأرض تقل الحرارة درجة، مع أننا نقترب من الشمس ؛ ذلك لأن الشمس لا تسخن الجو، إنما تسخن سطح الأرض، وهو بدوره يعطي الحرارة للجو ؛ لذلك كلما بعدنا عن الأرض قلت درجة الحرارة.
ومن حكمة الله أن جعل ماء الأرض الذي يتبخر منه الماء العذب جعله مالحا ؛ لأن ملوحته تحفظه أن يأسن، أو يعطن، أو تتغير رائحته، تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة، وليظل على صلاحه ؛ لأنه مخزن للماء العذب الذي يروى بعذوبته الأرض.
﴿ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ٢٥ ﴾
السماء هنا بمعنى السموات السبع التي تقوم بلا عمد، وقلنا : إن الشيء الذي يعلوك إما أن يحمل على أعمدة، وإما أن يشد إلى أعلى، مثل الكباري المعلقة مثلا، وكذلك السماء سقف مرفوع لا نرى له أعمدة. إذن : لا تبقى إلا والوسيلة الأخرى، وهي أن الله تعالى ﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.... ٦٥ ﴾( الحج ) فهي قائمة بأمره.
﴿ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره.... ٢٥ ﴾( الروم ) لا يهتز لها نظام أبدا، ولا تجد فيها فروجا، لأنها محكمة البناء، وانظر إليها حين صفاء السماء وخلوها من السحب تجدها ملساء ذات لون واحد على اتساعها، أيستطيع أحد من أن يطلي لنا مثل هذه المساحة بلون واحد لا يختلف ؟
وإذا أخذنا السماء على أنها كل ما علاك فأظلك، فانظر إلى الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكيف أنها تقوم بأمر الله خالقها على نظام دقيق لا اختلال فيه، فلم نر مثلا كوكبا اصطدم بآخر، ولا شيئا منها خرج عن مساره.
وصدق الله تعالى﴿ كل في فلك يسبحون ٣٣ ﴾( الأنبياء ) فلكل منها سرعة، ولكل منها مداره الخاص ونظام بحسبان ؛ ذلك لأنها تقوم بأمر الله وقردته تعالى فهي منضبطة تؤدي مهمتها دون خلل، ودون تخلف.
فمعنى﴿ تقوم... ٢٥ ﴾( الروم ) يعني : تظل قائمة على حالها دون فساد، وهو فعل مضارع دال على استمرار. وحين تتأمل : قبل أن يخترع الإنسان المجاهر والميكروسكوبات لم نكن نرى من المجموعة الشمسية غير الشمس، فلما اخترعوا المجهر رأينا الكواكب الأخرى التي تدور حولها.
والعجيب أنها لا تدور في دوائر متساوية، إنما في شكل إهليلي، يتسع من ناحية، ويضيق من ناحية، وهذه الكواكب لها دورة حول الشمس، ودورة أخرى حول نفسها. فالأرض مثلا لها مدار حول الشمس ينشأ عنه الفصول الأربعة، ولها دورة حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار، وكل هذه الحركة المركبة تتم بنظام دقيق محكم منضبط غاية الانضباط.
وهذه الكواكب تتفاوت في قربها أو بعدها عن الشمس، فأقربها من الشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المشتري، ثم المريخ، ثم زحل، ثم أورانوس، ثم نبتون، ثم أبعدها عن الشمس بلوتو. ولكل منها مداره الخاص حول الشمس وتسمى ( عام )، ودورة حول نفسه تسمى ( يوم ).
وعجيب أن يوم الزهرة، وهو ثاني كوكب من الشمس يقدر ب٢٤٤ يوما من أيام الأرض، في حين أن العام بالنسبة لها يقدر ب٢٢٥ يوم يوما من أيام الأرض، فالعام أقل من اليوم، كيف ؟ قالوا : لأن هذه الدورة مستقلة، وهذه دورة مستقلة، فهي سريعة في دورانها حول الشمس، وبطيئة في دورانها حول نفسها.
ولو علمت أن في الفضاء وفي كون الله الواسع مليون مجموعة مثل مجموعاتنا الشمسية في ( سكة التبانة )، وهذا كله في المجرة التي نعرفها- لو علمت ذلك لتبين لك عظم هذا الكون الذي لا نعرف عنه إلا القليل ؛ لذلك حين تقرأ :﴿ والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ٤٧ ﴾( الذاريات ) فاعلم أنها مسألة لا نهاية لها ولا حدود في علمنا وفي عقولنا، لكن لها نهاية عند الله.
ولا أدل على انضباط حركة هذه الكونيات من انضباط موعد الكسوف أو الخسوف الذي يحسبه العلماء فيأتي منضبطا تماما، وهم يبنون حساباتهم على حركة الكواكب ودورانها ؛ لذلك نقول لمن يكابر حتى الآن ويقول بعدم دوران الأرض : عليك أن تعترف إذن أن هؤلاء الذين يتنبأون بالكسوف والخسوف يعلمون الغيب. فالأقرب –إذن- أن نقول : إنها لله الذي خلقها على هذه الهيئة من الانضباط والدقة، فاجعلها لله بدل أن تجعلها للعلماء.
ثم يقول سبحانه :﴿ قم إذا دعاكم دعوة من الأرض... ٢٥ ﴾( الروم ) معنى﴿ دعاكم دعوة من الأرض.... ٢٥ ﴾( الروم ) المراد النفخة الثانية، فالأولى التي يقول الله عنها :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون٢٩ ﴾( يس ) والثانية يقول فيها :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضورون٥٣ ﴾( يس )
فالأولى للموت الكلي، والثانية للبعث الكلي، ولو نظرت إلى هاتين النفختين وما جعل الله فيهما من أسرار تلتقي بما في الحياة الدنيا من أسرار لوجدت عجبا.
فكل لحظة من لحظات الزمن يحدث فيها ميلاد، ويحدث فيها موت، فنحن مختلفون في مواليدنا وفي آجالنا، أما في الآخرة فالأمر على الاتفاق، فالذين اختلفوا في المواليد سيتفقون في البعث﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون٥٣ ﴾( يس )
والذين اختلفوا في الموت سيتفقون في الخمود :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ٢٩ ﴾( يس ) فالميلاد يقابله البعث، والموت يقابله الخمود. إذن : اختلاف هذه يعالج اتفاق هذه، واتفاق هذه يعالج اختلاف هذه ؛ لذلك يقول :﴿ يوم يجمعكم ليوم الجمع... ٩ ﴾( التغابن )
والنفخة الثانية يؤديها إسرافيل بأمر الله ؛ لأن الحق- سبحانه وتعالى- يزاول أشياء بذاته، ولا نعلم منها إلا أنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وسواه بيده، كما قال سبحانه :﴿ يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي... ٧٥ ﴾( ص ) أما غير ذلك فهو سبحانه يزاول الأشياء بواسطة خلقه في كل مسائل الكونيات.
تأمل مثلا :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها... ٤٢ ﴾( الزمر ) فالمتوفي هنا الله عز وجل، وفي موضع آخر :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم... ١١ ﴾( السجدة ) فتقلها إلى ملك الموت، وفي موضع آخر :﴿ توفته رسلنا... ٦١ ﴾( الأنعام ) فنقلها إلى رسل الموت من الملائكة، وهم جنود لملك الموت.
وبيان ذلك أنه سبحانه نسب الموت لنفسه أولا ؛ لأنه صاحب الأمر الأعلى فيه، فيأمر به ملك الموت، وملك الموت بدوره يأمر جنوده، إذن : فمردها إلى الله.
ثم يقول سبحانه :﴿ إذا أنتم تخرجون٢٥ ﴾( الروم ) أي : حين يسمع الموتى هذه الصيحة يهبون جميعا أحياء، فإذا هنا الفجائية الدالة على الفجأة، وهذا هو الفارق بين ميلاد الدنيا وميلاد الآخرة، ميلاد الدنيا لم يكن فجأة، بل على مهل، فالمرأة قبل أن تلد نشاهد حملها عدة أشهر، وتعاني هي آلام الحمل عدة أشهر، فلا فجأة إذن.
تأمل مثلا الحمار تحمله القاذورات فيحمل، فإذا رقيته وجعلته مطية للركوب لا يعترض، لا عصى في الأولى، ولا عصى في الأخرى ؛ لأنه مذلل لك بتذليل الله، مل ذللته لك بعقلك ولا بقوتك ﴿ أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون٧١ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون٧٢ ﴾( يس )
وضربنا لذلك مثلا بالجمل لما ذلله الله لك استطاع الغلام الصغير أن يقوده وينيخه ويركبه ويحمله، أما الثعبان الصغير فيخيفك رغم صغره ؛ لأن الله لم يذلله لك.
ونقف هنا عند قوله تعالى﴿ من في السماوات والأرض... ٢٦ ﴾( الروم ) فمن في السموات نعم هم قانتون لله أي : خاضعون له سبحانه، مطيعون لإرادته لأنهم ملائكة مكرمون﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون٦ ﴾( التحريم )
﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ٢٠ ﴾( الأنبياء )
فما بال أهل الأرض، وفيهم ملاحدة وكفار ليسوا قانتين، فكيف إذن نفهم﴿ كل له قانتون ٢٦ ﴾( الروم )
قالوا : لأنهم لما تمردوا على الله وكفروا به، أو تمردوا على حكمه فعصوه لم يتمردوا بذواتهم، إنما بما خلق الله فيهم من اختيار، ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما شذ واحد منهم عن مراد ربه، والله عز وجل لا يريد أن يحكم الإنسان بقهر القدرة، إنما يريد لعبده أن يأتيه طواعية مختارا، بإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن، وبإمكانه أن يعصى ومع ذلك أطاع.
فلو أرادهم الله مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلا، ولعصمهم كما عصم الأنبياء، ربك يريدك مؤمنا عن محبة وإخلاص لا عن قهر وغلبة ؛ لذلك قال إبليس في جداله :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ٨٢ إلا عبادك منهم المخلصين٨٣ ﴾( ص )
فلا قدرة له على عباد الله المخلصين، الذين اختارهم الله لنفسه، ولا سلطان له عليهم، فإبليس إذن ليس في معركة مع ربه، إنما في معركة مع الإنسان. وفي موضع آخر قال تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان... ٤٢ ﴾( الحجر )
ولما عشق هؤلاء المتمردون على الله التمرد، وأحبوه زادهم الله منه وأعانهم عليه ؛ لأنه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فختم على قلوبهم فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، وهو سبحانه الغني عن خلقه ؛ لذلك لما خلق الجنة خلقها لتتسع للناس جميعا إن آمنوا، ولما خلق النار خلقها لتتسع للناس جميعا إن كفروا، وترك لنا سبحانه الاختيار :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر٢٩ ﴾( الكهف )
وكأن الحق سبحانه يقول لنا : أنتم أحرار، فأنا مستعد للجزاء على أي حال تسعكم جنتي، إن آمنتم جميعا، ولا تضيق بكم النار إن كفرتم جميعا.
ونقول لمن تمرد على الله : ينبغي أن تكون منطقيا مع نفسك، وأن تظل متمردا على الله في كل شيء ما دمت قد ألفت التمرد، فإن جاءك المرض تتأبى عليه، وإن جاءك الموت ترفضه، فإذا لم تستطع فأنت مقهور لله خاضع له﴿ كل له قانتون٢٦ ﴾( الروم ) خاضعون، إما عن اختيار، وإما عن قهر في كل أمر لا اختيار لك فيه، إذن : فأنت قانت رغما عنك، وقنوتك مع تمردك أبلغ في الشهادة لله.
إذن : فالمؤمن خاضع لله في منطقة الاختيار، وهي الإيمان والتكاليف، وخاضع لله فيما لا اختيار له فيه كالقضاء والأمور الاضطرارية، فهو يستقبلها عن رضا، أما الكافر فهو خاضع لله لا يستطيع الفكاك عن قضائه ولا عن قدره رغما عنه في الأمور التي لا اختيار له فيها، لكنه يستقبلها بالسخط وعدم الرضا، فهو كافر بالله كاره لقضائه.
فنقول لمن تمرد على الله فكفر به، أو تمرد على أحكامه فعصاها : ما لكم لا تتمردون على الله فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية ؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الاختيار في غير محله ؛ لأن الذي يختار ينبغي أن يأخذ الاختيار في كل شيء، لكن أن تختار في شيء ولا تختار في شيء آخر، فهذا لا يجوز.
قوله تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده... ٢٧ ﴾( الروم ) استهلت الآية بقوله تعالى( وهو ) وفي آية أخرى﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده... ١١ ﴾ ( الروم ) فكأن ( هو ) مدلولها ( الله ) وهو كما نعلم ضمير غيبة، والحق سبحانه غيب عن الأنظار، ومن عظمته سبحانه أنه غيب، فلو كان مدركا محسا ما استحق أن يكون إلها، وكيف نطمع في إدراكه سبحانه ونحن لا نستطيع أن ندرك بعض مخلوقاته ؟
فالمعاني التي خلقها الله لتسوس حركة الحياة : كلمة الحق، العدل، الحق الذي يقف القضاء كله ليؤديه ويعلنه، والعدل الذي يحكم موازين الحياة ؛ ليوازن بين الشهوات وبين الحقائق، هذه المعاني لا تدرك بالحواس، فهل رأيتم العدل ؟ هل سمعتم العدل ؟ هل شممتم العدل ؟.... الخ.
إذن : فالمعاني العالية لا يمكن أن تدرك لأنها أرفع من الإدراك ؛ لأن بها يكون الإدراك، أيكون المخلوق للحق أسمى من أن يدرك، ويكون الحق سبحانه موضعا للإدراك ؟
فإذا سمعت ( هو ) فاعلم أنها لا تنصرف إلا إلى الإله الواحد الذي من عظمته أنه لا يدرك ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.... ١٠٣ ﴾( الأنعام )
لذلك نقرأ في سورة الإخلاص﴿ قل هو الله أحد١ ﴾( الإخلاص ) فترى أن ( الله ) لفظ الجلالة، وهو علم على واجب الوجود يأتي بعد ( هو ) فكأن ( هو ) أدل على وجود الحق سبحانه من لفظ الجلالة ( الله )، فكأنه لا يصح حين يطلق ضمير الغيبة ( هو ) على شيء إلا الله ؛ لأنه لا شيء في الكون إلا الله.
وقوله تعالى هنا﴿ وهو الذي يبدأ الخلق... ٢٧ ﴾( الروم ) بالفعل المضارع الدال على الاستمرارية، مع أنه سبحانه بدأ الخلق بالفعل :﴿ كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾( الأعراف ) فإن ذكرت الأولى فقد بدأ الخلق، وإن ذكرت الاستمرارية في الإيجاد فهو يبدأ دائما، وفي كل وقت ترى في الخلق الله شيئا جديدا، فالخلق لم يأت مرة واحدة، ثم توقف، بل بدأ ثم استمر.
ونلحظ أن القرآن يذكر هذه المسألة مرة الماضي ( بدأ ) ومرة بالمضارع ( يبدأ ) ؛ لأن الخالق سبحانه بدأ الخلق فعلا بخلق آدم عليه السلام الإنسان الأول :﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين٧ ﴾( السجدة ) ولا يزال سبحانه بقيوميته خالقا، يبدأ كل يوم وكل لحظة خلقا جديدا نشاهده في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات... الخ.
وبالخلق المتجدد للإنسان، حيث يولد كل لحظة مولود جديد نرد على الذين يقولون بتناسخ الأرواح –يعني : أن الروح تخرج من جسد فتحل في جسد آخر- وهذا يعني أن تكون المواليد على قدر الوفيات، ويعني أن يظل العالم على تعداد واحد دون زيادة، ونحن نرى الآن مدى الكثافة السكانية التي يشكو العالم منها الآن، وهذه تكفى لهدم هذه النظرية.
والحق سبحانه يحذرنا أن نأخذ قصة بدء الخلق من غير الخالق سبحانه، فمن الناس مضلون سيضلونكم في هذه المسألة، فلا تصغون إليهم ؛ لأن الله يقول :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا٥١ ﴾( الكهف )
وقد رأينا من هؤلاء المضلين من يقول بأن الإنسان أصله قرد متطور إلى إنسان، والرد على هذه الضلالات يسير، فإذا كان القرد تطور إلى إنسان، فلماذا لم تتطور باقي القرود ؟ ولماذا لم يتطور الإنسان منذ أن خلق آدم وحتى الآن إلى شيء آخر ؟ وكيف نصدق هذه الضلالات، وربنا سبحانه يقول :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون٤٩ ﴾( الذاريات )
ويقول سبحانه :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ٣٦ ﴾( يس ) فإياك أن تقول : إن شيئا تطور عن شيء، فكل جنس قائم بذاته منذ خلقه الله.
إذن : احذروا مثل هذه الأقوال، ولا تأخذوا قصة بدء الخلق إلا من الله وحده.
كلمة﴿ يعيده.... ٢٧ ﴾( الروم ) أي : إلى الخلق فهي بمعنى يخلقه، فالمعنى : يبدأ الخلق ثم يميته ثم يعيده، البعض يظن أن يعيده يعني يبعثه في الآخرة، لكن الله تعالى يقول :﴿ الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون١١ ﴾( الروم ) فيعيده غير ترجعون، ترجعون أي : في القيامة.
وقوله﴿ وهو أهون عليه.... ٢٧ ﴾( الروم ) أي : على حسب فهمكم أنتم للأشياء، وإلا فالله تعالى لا يقال في حقه هذا سهل وهذا أسهل، ولا هين ولا أهون ؛ لأنه سبحانه لا يزاول الأشياء كما نزاولها نحن، ولا يعالج الأفعال، إنما يفعل سبحانه بكن فيكون.
ومن ذلك قوله تعالى لزكريا عليه السلام لما تعجب أن يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر :﴿ هو علي هين.... ٩ ﴾( مريم ) ذلك لأن طلاقة القدرة لا تقف عند أسبابكم، وكذلك قال لمريم :﴿ كذلك قال ربك هو علي هين.... ٢١ ﴾( مريم )
فالأمر عجيب في نظر مريم، أن تأتي بولد بدون زوج ؛ لكنه ليس عجيبا في قدرة الله، فإن كانت العادة أن يأتي الولد بالأسباب فالله سبحانه هو خالق الأسباب، يفعل ما يشاء بدونها.
وسبق أن تحدثنا عن طلاقة قدرة الله في قصة إبراهيم عليه السلام حينما أراد القوم أن يحرقوه، فلو كانت المسألة مسألة نجاة إبراهيم من النار ما مكنهم الله من الإمساك به، أو : حتى إن أمسكوه وألقوه في النار كان بالإمكان أن ينزل الله على النار مطرا فتنطفئ.
لكن الحق سبحانه يريد أن يسد على الكافرين منافذ الحجاج، ويبطل كفرهم، فهاهم قد ظفروا به وألقوه في قعر النار، وهي على حال الاشتعال والإحراق، لكنهم غفلوا عن شيء هام، هو أن تعالى رب هذه النار وخالقها وخالق قوة الإحراق فيها، وهو وحده القادر على أن يسلبها هذه الخاصية، فيلقي فيها نبيه إبراهيم دون أن يحترق. وهذا تكمن العظمة وتظهر الحجة﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ ﴾( الأنبياء )
ونلحظ فصاحة الأداء في ﴿ وهو الذي يبدأ الخلق... ٢٧ ﴾( الروم ) فهو أسلوب قصر، حيث قدم المتعلق الذي حقه أن يكون مؤخرا، كما في﴿ إياك نعبد... ٥ ﴾( الفاتحة ) فقدم المفعول، ومن حق المفعول أن يؤخر عن الفعل والفاعل، وقدمه هنا، لنقصر العبادة على الله وحده دون سواه، وحتى لا نعطف على الله تعالى شيئا، فلو قلت نعبدك لجاز أن تقول : ونعبد غيرك. كذلك هنا﴿ وهو الذي يبدأ الخلق.... ٢٧ ﴾( الروم ) أفادت تخصيص الخلق لله وحده دون أن نعطف عليه أحدا.
وقوله تعالى﴿ وهو أهون عليه... ٢٧ ﴾( الروم ) الحقيقة ليس في الأمور بالنسبة لله تعالى هين وأهون، إنما في عرفنا نحن، وليقرب لنا الحق سبحانه فهم المسائل، وإلا فالحق سبحانه لا يعالج الأمور ولا يزاولها كما نعالجها نحن، وإنما يفعل سبحانه بكن فيكون.
لذلك لما نتأمل قول مريم عليها السلام لما بشرتها الملائكة بالمسيح قالت :﴿ رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر... ٤٧ ﴾( آل عمران ) فكيف فهمت مريم هذه المسألة، ومن أخبرها بأن الولد سيكون دون أن يمسها بشر ؟
لقد فهمت مريم هذا من قول الملائكة﴿ إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم... ٤٥ ﴾( آل عمران ). فلو كان له أب لذكرته الملائكة، وما داموا قد نسبوه إلى أمه فلا أب له.
ثم يقول سبحانه :﴿ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض... ٢٧ ﴾( الروم ) له المثل الأعلى يعني : أن الله تعالى لا مثيل له، فإن شابهه سبحانه شيء من خلقه في صفة من الصفات فخذها في إطار التقريب للمعنى، وفي إطار﴿ ليس كمثله شيء... ١١ ﴾( الشورى ) فلك وجود ولله تعالى وجود، لكن وجودك ليس كوجود الله، أنت حي والله حي، لكن حياتك ليست كحياته عز وجل... وهكذا.
وقوله﴿ المثل الأعلى... ٢٧ ﴾( الروم ) نقول : عال أعلى، فهي أفعل تفضيل بمعنى : الذي لا يشابه ولا يضاهى ؛ لذلك يقول سبحانه ﴿ ليس كمثله شيء... ١١ ﴾( الشورى ) فينفي أن يوجد شبيه لمثل الله لا شبيه لله ؛ لأن الكاف هنا بمعنى : مثل. فكأنك قلت : ليس مثل مثله شيء.
وطريقة العرب في الأداء في مسألة المشابهة يقولون : زيد مثل الأسد في الشجاعة، فأنت تريد أن تعطيني صورة لشجاعة زيد، فذكرت أوضح شيء لهذه الصفة وهو الأسد، فهو مشبه به.
إذن : فالأسد الأقوى من زيد في هذه الصفة، وإلا لما جعلت المشبه به توضيحا لما لا تعلم.
فحين تقول﴿ ليس كمثله شيء... ١١ ﴾( الشورى ) تعني : إن وجد مثل لله لا يوجد مثل لهذا المثل، فنفيت المثل من الباب أولى ؛ لن الأضعف وهو المثل المشبه أضعف من المشبه به، فإذا كان المثل أضعف من الممثل ولا يوجد مثل للأضعف، فكيف يوجد مثل للأقوى ؟
وانظر إلى جمال الحق سبحانه حين يجلي للخلق مثلا في دنياهم، ويجعل من ذاته- سبحانه وتعالى- المماثلة، يقول تعالى ليقرب لأفهامنا كيفية نوره :﴿ الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء... ٣٥ ﴾( النور )
فالله – سبحانه وتعالى- يضرب المثل لنوره بالمشكاة، السطحيون يظنون أن المشكاة هي المصباح، لكن الله يقول ﴿ كمشكاة فيها مصباح... ٣٥ ﴾( النور ) والمشكاة تجويف في الحائط، مثل الطاقة غير نافدة، فإن كانت نافذة نسميها شباكا، وكانوا في الماضي يضعون المصباح في هذه الفجوة ليضيء الحجرة، والفجرة هذه أو المشكاة تجمع الضوء، وتقويه ؛ لذلك يكون الضوء فيها أقوى من ضوء الحجرة، أو : أن المصباح يستوعب المشكاة أكثر من استيعابه للحجرة كلها.
وبتأمل هذا المعنى نرى أن الحق سبحانه لا يضرب لما مثلا لنوره إنما لتنويره، فتنوير الله تعالى مثل المشكاة التي فيها المصباح، والمصباح يدل على الرقي في وسائل الإضاءة، فدونه مثلا الشعلة، وهو فتيل يوقد في الهواء ويكون له دخان أسود، أما المصباح فله زجاجة تحجز عنه الهواء إلا بقدر ما يكفي لاحتراق الفتيل، فيأتي الضوء منه صافيا.
ثم فضلا عن ذلك في زجاجة ليست عادية، إنما﴿ كأنها كوكب دري.... ٣٥ ﴾( النور ) أي : مثل الدرة التي تضيء بذاتها. هذا المصباح يوقد من شجرة زيتونة معتدلة المزاج﴿ لا شرقية ولا غربية.... ٣٥ ﴾( النور ) فتصور هذا المصباح في مكان ضيق لا في الحجرة كلها، إنما في المشكاة كيف يكون ضوؤه ؟
كذلك تنوير الله – سبحانه وتعالى – للسماوات وللأرض على سعتهما، فنوره تعالى يستوعبهما، لا يترك منهما مكانا مظلما كالطاقة بالنسبة لهذا المصباح الذي وصفنا.
ولهذا المثل قصة شهيرة في الأدب العربي، فقد فطن إليها أبو تمام١ في مدحه أحد الخلفاء، وحين أراد أن يجمع له ملكات العرب ومواهبهم من الجود والشجاعة والحلم والذكاء، قال مادحا :
إقدام عمرو في سماحة حاتم***وفي حلم أحنف في ذكاء إياس
وقد اشتهر عمرو بن معدي كرب بالشجاعة والأقدام، واشتهر حاتم الطائي بالكرم، وأحنف بن قيس بالحلم حتى قيل " أحلم العرب " فلا يغضبه شيء أبدا، ولا يخرجه عن حلمه، حتى أن جماعة قصدوا أن يخرجوه عن حلمه، فتكون سابقة لهم فتبعوه في الطريق، وأخذوا يهزءون به وهو يضحك، حتى قارب من الحي، فنظر إلى هؤلاء الفتية وقال : أيها الفتية، لقد قربنا من الحي، فإن كان في
﴿ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ٢٨ ﴾
ضرب المثل أسلوب من أساليب القرآن للبيان وللتوضيح وتقريب المسائل إلى الأفهام، ففي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها... ٢٦ ﴾( البقرة )
وقال سبحانه :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له.... ٧٣ ﴾( الحج ) فهذا كثير في كتاب الله، والمثل يضرب ليجلي حقيقة. والضرب هنا لا يعني إحداث أثر ضار بالمضروب، إنما إحداث أثر نافع إيجابي كما في قوله تعالى :﴿ وآخرون يضربون في الأرض.... ٢٠ ﴾( المزمل )
وقولنا في مسألة سك العملة : ضرب في كذا، فكأن الضرب يحدث في المضروب أثرا باقيا، ففي الأرض بإثارة دفائنها واستخراج كنوزها، وفي العملة بترك أثر بارز لا تمحوه الأيدي في حركة التداول، وكأنه ضرب المثل يوضح الشيء الغامض توضيحا بينا كما تسك العملة، ويجعل الفكرة في الذهن قائمة واضحة المعالم. وللضرب عناصر ثلاثة : الضارب، والمضروب، والمضروب به.
ويروى في مجال الأمثال أن رجلا خرج للصيد معه آلاته، الكنانة وهي جعبة السهام، والسهام، والقوس، فلما رأى ظبيا أخذ يعد كنانته وقوسه للرمي لكن لم يمهله الظبي وفر هاربا، فقال له آخر وقد رأى ما كان منه : قبل الرماء تملأ الكنائن، فصارت مثلا وإن قيل في مناسبة بعينها إلا أنه يضرب في كل مناسبة مشابهة، ويقال في أي موضع كما هو وبنفس ألفاظه دون أن نغير فيه شيئا.
فمثلا، حين ترى التلميذ المهمل يذاكر قبيل الامتحان، وحين ترى من يقدم على أمر دون أن يعد له عدته لك أن تقول : قبل الرماء تملأ الكنائن. إذن : هذه العبارة صار لها مدلولها الواضح، وترسخت في الذهن حتى صارت مثلا يضرب.
وتقول لمن تسلط عليك وادعى أنه أقوى منك : إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا.
والحق سبحانه يضرب له المثل للتوضيح ولتقريب المعاني للأفهام ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.... ٢٦ ﴾( البقرة ) يقف هنا بعض المتمحكين الذين يحبون أن يستدركوا على كلام الله، يقولون : ما دام الله تعالى لا يستحى أن يضرب مثلا بالبعوضة فما فوقها من باب أولى، فلماذا يقول :﴿ فما فوقها... ٢٦ ﴾( البقرة )
وهذا يدل على عدم فهمهم للمعنى المراد لله عز وجل، فالمعنى : فما فوقها أي : في الغرابة وفي القلة والصغر، لا ما فوقها الكبر٢.
ومن الأمثلة التي ضربها الله لنا ليوضح لنا قضية التوحيد قوله تعالى :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون٢٩ ﴾( الزمر )
فالذي يتخذ مع الله إلها آخر كالذي يخدم سيدين وليتهما متفقان، إنما متشاكسان مختلفان، فأن أرضي أحدهما أسخط الآخر، فهو متعب بينهما، فهل يستوي هذا العبد وعبد آخر يخدم سيدا واحدا ؟ كذلك في عبادة الله وحده لا شريك له. فبالمثال اتضحت القضية، ورسخت في الأذهان ؛ لذلك يقول سبحانه : أنا لا أستحي أن أضرب الأمثال ؛ لأنني أريد أن أوضح لعبادي الحقائق، وأبين لهم المعاني.
﴿ ضرب لكم مثلا من أنفسكم... ٢٨ ﴾( الروم )
في هذه الآية وبهذا المثل يؤكد الحق- سبحانه وتعالى- في قمة تربية العقيدة الإيمانية، يؤكد على واحدية الله وعلى أحديته، فالواحدية شيء والأحدية آخر : الواحدية أنه سبحانه واحد لا فرد آخر معه، لكن هذا الفرد الواحد قد يكون في ذاته مركبا من أجزاء، فوصف نفسه سبحانه بأنه أحد أي : ليس مركبا من أجزاء.
أكد الله هذه الحقيقة في قرآنه بالحجج وبالبراهين، وضرب لها المثل. وهنا يضرب لنا مثلا من أنفسنا ليؤكد على هذه الوحدانية.
وقوله تعالى :﴿ من أنفسكم... ٢٨ ﴾( الروم ) يعني : ليس بعيدا عنكم، وأقرب شيء للإنسان نفسه، إذن : فأوضح مثل ما غاب عنك أن يكون من نفسك، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ١٢٨ ﴾( التوبة ) أي : من جنسكم تعرفون نشأته، وتعرفون خلقه وسيرته.
لكن، ما المثل المراد ؟
المثل :﴿ هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم... ٢٨ ﴾( الروم )
يقول سبحانه : أريد أن أضرب لكم مثلا على أن الإله الواحد يجب عقلا ألا تشركوا به أشياء أخرى، والمثل أني أرزقكم، ومن رزقي لكم موال وعبيد، فهل جئتم للرزق الذي رزقكم الله وللعبيد وقلتم لهم : أنتم شركاء لنا في أموالنا تتصرفون فيها كما نتصرف نحن، ثم جعلتم لهم مطلق الحرية والتصرف. ليكونوا أحرارا أمثالكم تخافونهم في أن تتصرفوا دونهم في شيء كخيفتكم أنفسكم ؟ هل فعلتم ذلك ؟ بل هل تقبلونه على أنفسكم ؟ إذن : لماذا تقبلونه في حق الله تعالى وترضون أن يشاركه عبيده في ملكه ؟
إنكم لم تقبلوا ذلك في مواليكم وهم بشر أمثالكم ملكتموهم بشرع الله فائتمروا بأمركم. هذا معنى﴿ من أنفسكم... ٢٨ ﴾( الروم ) أي : من البشر، فهم مثلكم في الآدمية، وملكيتكم لهم ليست مطلقة، فأنتم تملكون رقابهم، وتملكون حركة حياتهم، لكن لا تملكون مثلا قتلهم، ولا تملكون منعهم من قضاء الحاجة، لا تملكون قلوبهم وإرادتهم، ثم هو ملك قد يفوتك، كأن تبيعه أو تعتقه أو حتى بالموت. ومع ذلك ما اتخذتموهم شركاء، فعيب أن تجعلوا لله ما تستنكفون منه لأنفسكم.
ونلحظ هنا أن الله تعالى لم يناقشهم في مسألة الشركاء بأسلوب الخبر منه سبحانه، إنما اختار أسلوب الاستفهام وهو أبلغ في تقرير الحقيقة :﴿ هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم... ٢٨ ﴾( الروم )
وأنت لا تعدل عن الخبر إلى الاستفهام عنه إلا وأنت تعلم وتثق بأن الإجابة ستكون في صالحك، فمثلا حين يذكر شخص جميلك فتقول مخبرا : فعلت معك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وقد ينكر فيقول : لا لم تفعل معي شيئا.
أما حين تقول مستفهما : ألم أفعل معك كذا وكذا ؟ فإنك تلجئه إلى واقع لا يملك إنكاره، ولا يستطيع أن يفر منه، ولا يملك إلا أن يعترف لك بجميلك ولا أقل من أن يسكت، والسكوت يعني أن الواقع كما قلت.
لذلك يستفهم الحق سبحانه وهو أعلم بخلقه﴿ هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء... ٢٨ ﴾( الروم ) لا بد أن يقولوا : لا ليس لنا شركاء في أموالنا، إذن : لماذا جعلتم الله شركاء ؟
وقوله تعالى :﴿ في ما رزقناكم... ٢٨ ﴾( الروم ) سبق أن تحدثنا في مسألة الرزق وقلنا : إن الله تعالى هو الرازق، ومع ذلك احترم ملكية خلقه، واحترم سعيهم ؛ لأنه سبحانه واهب هذا الملك، ولا يعود سبحانه في هبته لخلقه ؛ لذلك لما أراد أن يحنن قلوب خلقه على خلقه قال :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا... ٢٤٥ ﴾( لبقرة ) فاعتبر صدقتك على أخيك الفقير قرضا يرده إليك مضاعفا.
والرزق لا يقتصر على المال- كما يضن البعض- إنما رزقك كل ما انتفعت به فهو رزق ينبغي عليك أن تفيض منه على من يحتاجه، وأن تعديه إلى من يفتقده، فالقوي رزقه القوة يعديها للضعيف، والعالم رزقه العلم يعيده للجاهل، والحليم رزقه حلم يعديه للغضوب وهكذا، وإلا فالمال أهون ألوان الرزق ؛ لأن الفقير الذي لا يملك مالا ولم يتصدق أحد عليه قصارى ما يحدث له أن يجوع ويباح له في هذه الحالة أن يسأل الناس، وما رأينا أحدا مات جوعا.
لكن ينبغي على الفقير إن ألجأته الحاجة للسؤال أن يسأل بتلطف ولين، فإن كان جائعا لا يسأل الناس مالا إنما لقمة عيش وقطعة جبن أو ما تيسر من الطعام ليسد جوعته، وسائل الطعام لا يكذبه أحد لأنه ما سأل إلا عن جوع، حتى لو سألك وهو شبعان فأعطيته ما استطاع أن يأكل، أما سائل المال فقد نظن فيه الطمع وقصد الادخار. إذن : أفضح سؤال سؤال القوت.
لذلك في قصة الخضر وموسى عليهما السلام :﴿ حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما.. ٧٧ ﴾( الكهف ) فلما منعوهم حتى لقمة العيش استحقوا أن يوصفوا بألأم الناس، وقد أباح الشرع للجائع أن يسأل الطعام من اللئيم فإن منعه فللجائع أن يأخذه ولو بالقوة، وإذا رفع أمره إلى القاضي أيده القاضي، لذلك يقولون : فيه : طالب قوت ما تعدى.
والحق سبحانه تكفل لك برزقك، إنما جعل للرزق أسبابا وكل ما عليك أن تأخذ بهذه الأسباب ثم لا تشغل بالك هما في موضوعه، وإياك أن تظن أن السعي هو مصدر الرزق، فالسعي سبب، والرزق من الله، وما عليك إلا أن تتحرى الأسباب، فإن أبطأ رزقك فأرح نفسك ؛ لأنك لا تعرف عنوانه، أما هو فيعرف عنوانك وسوف يأتيك يطرق عليك الباب٣.
والذي يتعب الناس أن يظل الواحد منهم مهموما لأمر الرزق مفكرا فيه، ولو علم أن الذي خلقه واستدعاه للوجود قد تكفل برزقه لاستراح، فإن أخطأت أسباب الرزق في ناحية اطمئن فسوف يأتيك من ناحية أخرى.
ونذكر هنا قصة عروة بن أذينة٤ وكان صديقا لهشام بن عبد الملك بالمدينة قبل أن يتولى هشام الخلافة، فلما أصبح هشام أميرا للمؤمنين انتقل إلى دمشق بالشام، أما عروة فقد أصابته فاقة، فلما ضاق به الحال تذكر صداقته القديمة لهشام، وما كان بينهما من ود، فقصده في دمشق عله يفرج ضائقته.
جاء عروة إلى دمشق واستأذن على الخليفة فأذن له، فدخل وعرض على صاحبه حاجته وكله أمل في أن ينصفه ويجبر خاطره، لكن هشاما لم يكن موفقا في الرد على صديقه حيث قال : أتيت من المدينة تسألني حاجتك وأنت القائل :
لقد علمت وما الإسراف من خلقي***أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
فقال عروة بعد أن كسر صديقه بخاطره : جزاك الله عنى خيرا يا أمير المؤمنين، لقد نبهت منى غافلا، وذكرت منى ناسيا، ثم استدار وخرج.
وعندها أراد هشام الأمر في نفسه وتذكر ما كان لعروة من ود وصداقة، وشعر بأنه أساء إليه فأنبه ضميره، فاستدعى صاحب الخزانة، وأمر لعروة بعطية كبيرة، وأرسل بها من يلحق به.
لكن كلما وصل الرسول إلى ( محطة ) وجد عروة قد فارقها حتى وصل إلى المدينة، ودق على عروة بابه، وكان الرسول لبقا، فلما فتح عروة الباب قال : ما بكم ؟ قال : رسل هشام، وتلك صلة هشام لك لم يرض أن تحملها أنت خوفا عليك من قطاع الطريق، أو تحمل مؤونة حملها، فأرسلنا بها إليك.
فقال عروة : جزى الله أميرا المؤمنين خيرا، قولوا له لقد ذكرت البيت الأول، ولو ذكرت الثاني لأرحت واسترحت، لقد قلت :
لقد علمت وما الإسراف من خلقي***أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه***ولو قعدت أتاني لا يعنيني٥
ثم يقول سبحانه بعد هذا المثل :﴿ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ٢٨ ﴾( الروم ) أي : نبينها ونوضحها، بحيث لو عرضت على العقل مجردا عن الهوى لا ينتهي إلا إليها، ومعنى﴿ يعقلون٢٨ ﴾( الروم ) من العقل، وسمي عقلا ؛ لأنه يعقل صاحبه ويقيده عما لا يليق.
والبعض يظن أن العقل إنما جعل لترتع به في خواطرك، إنما هو جاء ليقيد هذه الخواطر، ويضبط السلوك، يقول لك : اعقل خواطرك وادرسها لا تنطلق فيها على هواك تفعل ما تحب، بل تفعل ما يصح وتقول ما ينبغي. إذن : ما قصرنا في البيان ولا في التوضيح.
ويتجلى دور العقل المجرد وموافقته حتى للوحي في سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه، وفي وجود رسول الله، وهو ينزل عليه الوحي يأتي عمر ويشير على رسول الله بأمور، فينزل الوحي م
٢ قول ابن كثير في تفسيره (١/٦٤): "قوله تعالى:﴿فما فوقها... ٢٦﴾(البقرة)فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر والحقارة. وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين.
والثاني: فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير"..
٣ ومن شعر الشيخ رضي الله عنه:
تحر إلى الرزق أسبابه ولا تشغلن بعدها بالكا
فإنك تجهل عنوانه ورزقك يعرف عنوانكا.
٤ هو: عروة بن يحى(ولقبه أذينة) بن مالك بن الحارث الليثي: شاعر غزل مقدم، من أهل المدينة، وهو معدود من الفقهاء والمحدثين أيضا، ولكن الشعر أغلب عليه. توفى نحو١٣٠ هـ (الأعلام للزركلي ٤/٢٢٧). قال الإمام أبو عبيد البكري في " التنبيه على أوهام أبي على في أماليه" (ص٢٩): "روى عنه مالك وغيره من الأئمة"..
٥ ذكر هذه الأبيات خير الدين الزركلي في الأعلام(٤/٢٢٧) وعزاها لعروة بن أذينة. وأورد الأصفهاني أخباره في كتاب "الأغاني" ص ١٩١١ وذكر هذا الخبر بين عروة وهشام بن عبد الملك، وأورد هذين البيتين..
إياك أن تقدم الهوى على العقل ؛ لأنك حين تقدم الهوى يصير العقل عقلا تبريريا، يحاول أن يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته. لكن بالعقل أولا حدد الهوى، ثم اجعل حركة حياتك تبعا له.
والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلاقه، لكن الهوى الواحد غير مذموم، أما المذموم فهي الأهواء المتعددة المتضاربة ؛ لأن الهوى الواحد في القلب يجند القالب كله لخدمة هذا الهوى، فحين يكون هواي أن أذهب إلى مكان كذا، فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية، فيحدد الطريق، ويعد الزاد، ويأخذ بأسباب الوصول.
وهذا الهوى الواحد هو المعني في الحديث الشريف : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ١ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أن يكون للإنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه ؛ لأن ذلك الهوى يعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة.
أما حين تتعدد الأهواء فلك محبوب، ولي محبوب آخر، فإنها لا شك تتعارض وتتعاند، والله تعالى يريد من المجتمع الإيماني أن تتساند كل أهوائه، وأن تتعاضد لا تتعارض، وأن تتضافر لا تتضارب، لأن تضارب الأهواء يبدد حركة الحياة ويضيع ثمرتها.
أما إن كان هواي هو هواك، وهو هوى ليس بشريا، إنما هوى رسمه لنا الخالق –عز وجل- فسوف نتفق فيه، وتثمر حركة حياتنا من خلاله ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ١٤ ﴾( الملك )
وسبق أن قلنا : إن صاحب الصنعة في الدنيا يجعل معها كتالوجا يبين طريقة صيانتها، والحق –سبحانه وتعالى- هو الذي خلقك، وهو الذي يحدد لك هواك، وأول فشل في الكون أن الناس المخلوقين لله يريدون أن يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم.
ونقول : هذا لا يصح ؛ لأن الذي يقنن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط : أولها : أن يكون على علم محيط لا يستدرك عليه، وأنت أيها الإنسان علمك محدود كثيرا ما تستدرك أنت عليه بعد حين، ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلاحيته.
بل وتتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره، كما يجب على من يشرع للناس الهوى الواحد أن يكونوا جميعا بالنسبة له سواء، وألا ينتفع هو بما يشرع، وإلا لو كانت له منفعة فإنه سوف يميل إلى ما ينفعه، فلا يكون موضوعيا كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من المذاهب البشرية.
والحق –سبحانه وتعالى- هو وحده الذي لا يستدرك عليه ؛ لأن علمه محيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية، والخلق جميعا الذين يشرع لهم أمامه سواء، وكلهم عباده، لا يحابى منهم أحدا، ولا يميز أحدا على أحد، وليس له سبحانه من خلقه صاحبة ولا ولد.
لذلك يطمئننا سبحانه بقوله :﴿ وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا٣ ﴾( الجن )
وكأن الله تعالى يقول : اطمئنوا، فربكم ليس له صاحبة تؤثر عليه، ولا ولد يحابيه، فالصاحبة والولد نقطة الضعف، وسبب الميل في مسألة التشريع.
وكذلك هو سبحانه لا ينتفع بما يشرعه لنا، لأنه سبحانه خلقنا بقدرته، وهو الغني عنا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، إذن : فهو سبحانه وحده المستكمل لشروط التشريع، والمستحق لها سبحانه، وبيان الهوى الواحد الذي يجتمع عليه كل الخلق.
وسبق أن ذكرنا في مسألة التشريع أنه لا ينبغي أن تنظر إلى ما أخذ منك، بل قارن بين ما أخذت وما أعطيت، فالذي منعك أن تعتدي على الآخرين وأنت فرد واحد منع الخلق جميعا أن يعتدوا عليك، فالتشريع إذن في صالحك أنت.
إذن : لو علقنا لأخذنا هوانا الواحد من إله واحد هو الله – عز وجل – لكن الخيبة أنهم ما استمعوا هذا الكلام وما عقلوه.
﴿ بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم... ٢٩ ﴾( الروم ) ظلموا لأنهم عزلوا الهوى الواحد، ونحوه جانبا، وأخذوا أهواء شتى تعارضت وتضاربت، فلم يصلوا منها إلى نتيجة.
وما ظلموا بالشرك إلا أنفسهم، والله تعالى يقول :﴿ إن الشرك لظلم عظيم١٣ ﴾( لقمان ) ظلموا أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية، وغفلوا عن عاقبة ذلك، فهم إما كارهون لأنفسهم، أو يحبونها حبا أحمق، وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه.
وقوله تعالى :﴿ بغير علم... ٢٩ ﴾( الروم ) أولا : ما هو العلم ؟ في الكون قضايا نجزم بها، فإن كان ما نجزم به مطابقا للواقع ونستطيع أن ندلل عليه- كما نعلم مثلا الولد الصغير : الله أحد، فإن استطاع أن يدلل عليها فهي علم، وإن لم يستطع فهي تقليد.
وكمن يقول مثلا : الأرض كروية وهي فعلا كذلك، أما من يكابر حتى الآن ويقول ليست كروية، والواقع أنها كروية، فهذا الجهل.
إذن : نقول ليس الجهل ألا تعلم، إنما الجهل أن تعلم قضية على خلاف الواقع ؛ لذلك نفرق بين الجاهل والأمي : الأمي خالي الذهن ليست لديه قضية من أساسه، فإن أخبرتها بقضية أخذها منك دون عناد، ودون مكابرة، أما الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة، فيحتاج منك أولا لأن تخرج القضية الفاسدة لتلقي إليه بالقضية الصحيحة.
فإن كانت القضية لا تصل إلى مرتبة أن نجزم بها، فتنظر : إن تساوي الإثبات فيها مع النفي فهي الشك، إذن : فالشك قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الإثبات والنفي، فإن غلبت جانب الإثبات ورجحته فهو ظن، أما إن غلبت جانب النفي فهو وهم. فعندنا – إذن- من أنواع القضايا : علم، وجهل، وتقليد، وظن، ووهم.
فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها، مطابقة للواقع، وعليها دليل، لكن ما دام هؤلاء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة، وأخذوها بدون أصولها من العلم، فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبوا﴿ فمن يهدي من أضل الله... ٢٩ ﴾( الروم ) فقد ألغوا عقولهم وعطلوها وعشقوا الكفر بعد ما سقنا لهم الأدلة والبراهين.
إذن : لم يبق إلا أن أعينكم على ما تعتقدون، وأن أساعدكم عليه، فأختم على قلوبكم، فلا يدخلها إيمان ولا يفارقها كفر، لأنني رب أعين عبدي على ما يريد، وهكذا يضل الله هؤلاء، بمعنى، يعينهم على ما هم عليه من الضلال بعد أن عشقوه، كما قال سبحانه :﴿ ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم٧ ﴾( البقرة )
لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة، ثم لا يسلون، ولا ينسون، ويلازمون الحزن، نحذرهم ونقول لهم : لا تدعو باب الحزن مفتوحا، وأغلقوه بمسامير الرضا، وإلا تتابعت عليكم الأحزان ؛ لأن الله تعالى رب يعين عبده على ما يحب، حتى الساخط على قدره تعالى.
فالمعنى﴿ فمن يهدي من أضل الله... ٢٩ ﴾( الروم ) يعني : من ينقذه ؟ ومن يضع له قانون صيانته إن تخلى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له ؟ لا أحد. وأنت إذا نصحت صاحبك وكررت له النصح فلم يطعك تتخلى عنه، بل إن أحد الحكماء يقول : انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، فإن لم يطاوعك ضلله- أو أكمل له بقية النهار غشا.
وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها، فلا تدخل إلى العلم بهوى سابق، بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها، ثم ابحث القضية بموضوعية، فما تقتنع به الموازين العقلية وترجحه أدخله إلى قلبك.
والذي يتعب الناس الآن أن نناقش قضية الإسلام مثلا وفي القلب ميل للشيوعية مثلا، فننتهي إلى نتيجة غير سليمة.
ثم يقول سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين٢٩ ﴾ ( الروم ) يعني : يا ليت لهم من ينقذهم إن أضلهم الله فختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، فليس لهم من الله نصير ينصرهم، ولا مجير يجيرهم من الله، وهو سبحانه يجير ولا يجار عليه.
﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون٣٠ ﴾
الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد، ما دام الأمر كذلك، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا، وأصروا على ضلالهم، فدعك منهم ولا تتأثر بإعراضهم.
كما قال له ربه :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾( الشعراء )
وقال له :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ٦ ﴾ ( الكهف )
فما عليك يا محمد إلا البلاغ، واتركهم لي، وإياك أن يؤثر فيك عنادهم، أو يحزنك أن يأتمروا بك، أو يكيدوا لك، فقد سبق القول منى أنهم لن ينتصروا عليك، بل ستنتصر عليهم.
وهذه قضية قرآنية أقولها، وتسجل علي :﴿ ولقد سبق كلمتنا لعبادنا المسرلين١٧١ إنهم لهم المنصورون ١٧٢ وإن جندنا لهم الغالبون١٧٣ ﴾ ( الصافات )
ولينصرن الله من ينصره... ٤٠ } ( الحج )
﴿ إن تنصروا الله ينصركم.... ٧ ﴾ ( محمد )
هذه قضية قرآنية مسلم بها ومفروغ منها، وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا، فإن جاء واقعنا مخالفا لهذه القضية، فقد سبق أن أكدها واقع الأمم السابقة، وسيحدث معك مثل ذلك ؛ لذلك يطمئن الحق نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ٧٧ ﴾( غافر )
فهنا﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا... ٣٠ ﴾ ( الروم ) أي : دعك من هؤلاء الضالين، وتفرغ لمهمتك في الدعوة إلى الله، وإياك أن يشغلوك عن دعوتك.
ومعنى إقامة الوجه للدين يعني : اجعل وجهتك لربك وحده، ولا تلتفت عنه يمينا ولا شمالا، وذكر الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها ؛ لأن الوجه سمة الإقبال.
ومنه قوله سبحانه :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه... ٨٨ ﴾( القصص ) يعني : ذاته تعالى.
ومعنى﴿ حنيفا... ٣٠ ﴾( الروم ) هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذبا عند الذين يحاولون أن يستدركوا على كلام الله ؛ لأن معنى الحنيف : مائل الساقين فترى في رجله انحناء للداخل، يقال : في قدمه حنف أي ميل، فالمعنى : فأقم وجهك للدين مائلا، نعم هكذا المعنى، لكن مائلا عن أي شيء ؟
لا بد أن تفهم المعنى هنا، حتى لا تتهم أسلوب القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليصلح مجتمعا فاسدا منحرفا يدين بالشرك والوثنية، فالمعنى : مائلا عن هذا الفساد، ومائلا عن هذا الشرك، وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها، ومعنى : مال عن الباطل. يعني : ذهب إلى الحق.
و( أقم ) هنا بمعنى : أقيموا، لأن خطاب الرسول خطاب لأمته، بدليل أنه سبحانه سيقول في الآية بعدها :﴿ منيبين إليه... ٣١ ﴾( الروم ) ولو كان الأمر له وحده لقال منيبا إليه، ومثال ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن... ١ ﴾( الطلاق )
فالخطاب للأمة كلها في شخص رسول الله، لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلغ، والمبلغ هو الذي يتلقى الأمر، ويقتنع به أولا ليستطيع أن يبلغه ؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة... ٢١ ﴾( الأحزاب )
وقال﴿ حنيفا... ٣٠ ﴾( الروم ) لأن الرسل لا تأتي إلا على فساد شمل الناس جميعا ؛ لأن الحق سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية، فالإنسان تحدثه نفسه بشهوة وتغلبه عليها، فيقع فيها، لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويؤنبه ضميره، فيبكي على ما كان منه، وربما يكره من أعانه على المعصية.
وهذه هي النفس اللوامة، وهي علامة وجود الخير في الإنسان، وهذه هي المناعة الذاتية التي تصدر من الذات.
وفرق بين من تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه، ومن يرتب لها ويسعى إليها، وهذا بين في قوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب... ١٧ ﴾( النساء )
فرق بين من يذهب إلى باريس لطلب العلم، فتعترض طريقه إحدى الفتيات، ومن يذهب إلى باريس لأنه سمع عما فيها من إغراء، فهذا وقع في المعصية رغما عنه، ودون ترتيب لها، وهذا قصدها وسعي إليها، الأول غالبا ما يؤنب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية، أما الآخر فقد ألفت نفسه المعصية واستشرت فيها، فلا بد أن تكون له مناعة، ليست من ذاته، بل من المجتمع المحيط به، على المجتمع أن يمنعه، وأن يضرب على يديه.
والمناعة في المجتمع لا تعني أن يكون مجتمعا مثاليا لا يعرف المعصية، بل تحدث منه المعاصي، لكنها مفرقة على أهواء الناس، فهذا يميل إلى السرقة، وهذا يميل إلى النظر إلى المحرمات، وهذا يحب كذا.... الخ.
إذن : ففي الناس مواطن قوة، ومواطن ضعف، وعلى القوى في شيء أن يمنع الضعيف فيه، وأن يزجره ويقومه ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ والعصر١ إن الإنسان لفي خسر٢ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ٣ ﴾ ( العصر )
فإذا عم الفساد وطم كما قال تعالى عن اليهود :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... ٧٩ ﴾ ( المائدة ) وفقد المجتمع أيضا مناعته. فلا بد أن تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، لينقذ هؤلاء.
ثم يقول تعالى :﴿ فطرت الله التي فطر الناس عليها... ٣٠ ﴾( الروم ) فنحن نرى البشر يتخذون الطعوم والأمصال للتحصين من الأمراض، كذلك الحق سبحانه- وله المثل الأعلى- جعل هذا المصل التطعيمي في كل نفس بشرية، حتى في التكوين المادي.
ألا ترى قوله تعالى في تكوين الإنسان :﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة... ٥ ﴾( الحج )
فالمخلقة هي التي تكون الأعضاء، وغير المخلقة هي الرصيد المختزن في الجسم، وبه يعوض أي خلل في الأعضاء المخلقة، فهي التي تمده بما يصلحه، كذلك في القيم جاء دين الله فطرت الله التي فطر الناس عليها، فإذا تدخلت الأهواء وحدثت الغفلة جاءت المناعة، إما من ذات النفس، وإما من المجتمع، وإما برسول ومنهج جديد.
وقد كرم الله أمة محمد بأن يكون رسولها خاتم الرسل، فهذه بشرى لنا بأن الخير باق فينا، ولا يزال إلى يوم القيامة، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبدا بحيث يفقد كله هذه المناعة، فإذا فسدت فيه طائفة وجدت أخرى تقومها، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
" لا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " ١.
وقال صلى الله عليه وسلم : " الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة " ٢.
وإلا لو عم الفساد هذه الأمة لاقتضى الأمر شيئا آخر.
وحين نقرأ الآية نجد أن كلمة ﴿ فطرت... ٣٠ ﴾ ( الروم ) منسوبة، ولم يتقدم عليها ما ينصبها، فلماذا نصبت ؟ الأسلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب، وللفعل المحذوف هنا، لتبحث عنه بنفسك، فكأنه قال : فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرت الله التي فطر الناس عليها.
لذلك يسمى علماء النحو هذا الأسلوب أسلوب الإغراء، وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثك على فعله، كذلك الحق سبحانه يغرى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم بأن يقيم وجهه نحو الدين الخالص، وأن يلزم فطرت الله، وألا يلفت إلى هؤلاء المفسدين، أو المعوقين له.
والفطرة : يعني الخلقة٣ كما قال سبحانه :﴿ فاطر السماوات والأرض.... ١٠١ ﴾( يوسف ) يعني : خالقها، والفطرة المرادة هنا قوله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون٥٦ ﴾( الذاريات )
فالزم هذه الفطرة، واعلم أنك مخلوق للعبادة.
أو : أن فطرت الله تعني : الطبيعة التي أودعها الله في تكوينك منذ خلق الله آدم، وخلق منه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم ﴿ ألست بربكم قالوا بلى.... ١٧٢ ﴾( الأعراف )
وسبق أن بينا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا، فالإنسان لا ينشأ إلا من الميكروب الذكرى الحي الذي يخصب البويضة، وحين تسلسل هذه العملية لا بد أن تصل بها إلى آدم عليه السلام.
وهذه الدرية الباقية في كل منا هي التي شهدت العهد الأول الذي أخذه الله علينا، وإلا فالكفار في الجاهلية الذين جاء رسول الله لهدايتهم، كيف اعترفوا لله تعالى بالخلق :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله... ٣٨ ﴾( الزمر )
من أين عرفوا هذه الحقيقة ؟ نقلت إليهم من هذا العهد الأول، فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خلق الله أن يدعي هذا الخلق لنفسه، فظلت هذه القضية سليمة في الأذهان مع ما حدث من فساد في معتقدات البشر.
وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الأول، حتى عند الكفار والملاحدة، فحين تكتنفهم الأحداث وتضيق بهم أسبابهم، تراهم يقولون وبلا شعور : يا رب، لا يدعون صنما ولا شجرا، ولا يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها، فهم يعلمون أنها كذب في كذب، ونصب في نصب.
والآن لا يخدعون أنفسهم ولا يكذبون عليها، الآن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إلا لله يلجئون إليه، ليس إلا الحق والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وما دام الله قد فطرنا على هذه الفطرة، فلا تبديل لما أراده سبحانه﴿ لا تبديل لخلق الله... ٣٠ ﴾( الروم ) يعني : ما استطاع أحد أن يقول : أنا خلقت السموات والأرض، ولا أن يقول : أنا خلقتكم أو خلقت نفسي.
﴿ ذلك الدين القيم... ٣٠ ﴾( الروم ) أي : الدين الحق ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون٣٠ ﴾( الروم ) أي : لا يعلمون العلم على حقيقته والتي بيناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع، ويمكن إقامة الدليل عليها.
٢ قال ابن حجر العسقلاني: لا أعرفه، ولكن معناه صحيح. ذكره القاري في "الأسرار المرفوعة" (٤٥٧) وكذا السيوطي في 'الدرر المنتثرة"(٢٢٠) والعجلوني في كشف الخفاء (١/٤٧٦)..
٣ قال ابن عطية : الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي المعدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن بها"(ذكره القرطبي في تفسيره ٧/٥٢٨٤)..
﴿ * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ٣١ ﴾
أناب : يعني رجع وقطع صلته بغير الحق﴿ إليه... ٣١ ﴾( الروم ) إلى الله، فلا علاقة له بالخلق في مسألة العقائد، فجعل كل علاقته بالله.
ومنه يسمون الناب ؛ لأنه يقطع الأشياء، ويقولون : ناب إلى الرشد، وناب إلى رشده، كلها بمعنى : رجع، وما دام هناك رجوع فهناك أصل يرجع إليه، وهو أصل الفطرة.
وقوله تعالى﴿ واتقوه... ٣١ ﴾ ( الروم ) لأنه لا يجوز أن تنيب إلى الله، وأن ترجع إليه، وأن تجعله في بالك ثم تنصرف عن منهجه الذي شرعه لينظم حركة حياتك، فالإنابة وحدها والإيمان بالله لا يكفيان ؛ بل لا بد من تطبيق المنهج بتقوى الله، لذلك كثيرا ما يجمع القرآن بين الإيمان والعمل الصالح :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... ٢٢٧ ﴾( الشعراء )
لأن فائدة الإيمان وثمرته بعد أن تؤمن بالإله الحق، وأن منهجه هو الصدق، وفيه نفعك وسلامتك في حركة حياتك، وأنه الذي يوصلك إلى سعادة الدارين، ولا معنى لهذا كله إلا بالعمل والتطبيق.
﴿ واتقوه... ٣١ ﴾( الروم ) أي : اتقوا غضبه، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية، وهذه الوقاية تتحقق باتباع المنهج في افعل ولا تفعل. وسبق أن تكلمنا في معنى التقوى وقلنا : إنها تحمل معنيين يظن البعض أنهما متضاربان يحن نقول : اتقوا الله. واتقوا النار. لكن المعنى واحد في النهاية ؛ لأن معنى اتق الله : اجعل بينك وبين عذاب الله وغضبه وقاية، وهذا نفسه معنى : اتق النار. يعني : ابتعد عن أسبابها حتى لا تمسك.
وقوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة... ٣١ ﴾( الروم ) أقيموا الصلاة أدوها على الوجه الأكمل، وأدوها على ما أحب منكم في أدائها، فساعة أناديك : الله أكبر يجب أن تقبل علي، وأنت حين تلبي النداء التي لا تأتي لتعينني على شيء، ولا أنتفع بك في شيء، إنما تنتفع أنت بهذا اللقاء، وتستمد مني العون والقوة، وتأخذ شحنة إيمان ويقين من ربك.
وقلنا : ما تصورك لآلة تعرض على صانعها كل يوم خمس مرات أيبقي بها عطب ؟ لذلك يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبنا أمر أن نهرع إلى الصلاة، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم إذا عز عليه شيء، أو ضاقت به الأسباب، وإلا فما معنى الإيمان بالله إن لم تلجأ إليه.
وما دام ربك غيبا، فهو سبحانه يصلحك بالغيب أيضا، ومن حيث لا تدري ؛ لذلك أمرنا ربنا بإقامة الصلاة، وجعلها عماد الدين والركن الذي لا يسقط عنك بحال، فالزكاة والحج مثلا يسقطان عن الفقير وعن غير القادر، والصوم يسقط عن المريض أو المسافر، في حين مرضه أو سفره، ثم يقضيه بعد انقضاء سبب الإفطار.
أما الصلاة فهي الركن الدائم، ليس مرة واحدة في العمر، ولا مرة واحدة في العام، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فبها يكون إعلان الولاء لله تعالى إعلانا دائما، وهذا إن دل فإنما يدل على عظمة الإنسان ومكانته عند ربه وخالقه.
وسبق أن قلنا : إنك إن أردت مقابلة أحد المسئولين أو أصحاب المنزلة كم تعاني ليؤذن لك، ولا بد أن يحدد لك الموعد والمكان، بل وموضوع المقابلة وما ستقوله فيها، ثم لصاحب المقابلة أن ينهيها متى يشاء.
إذن : لا تملك من عناصر هذا اللقاء شيئا، أما في لقائك بربك –عز وجل- فالأمر على خلاف ذلك، فربك هو الذي يطلبك ويناديك لتقبل عليه، لا مرة واحدة بل خمس مرات كل يوم، ويسمح لك أن تناجيه بما تحب، وتطلب منه ما تريد.
ولك أن تنهي أنت المقابلة بقولك : السلام عليكم، فإن أحببت أن تطيل اللقاء، أو أن تعتكف في بيت ربك فإنه سبحانه لا يمل حتى تملوا، فهذه –إذن ليست عبودية، بل عز وسيادة.
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى١ :
حسب نفسي عزا بأني عبد***يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن أنا ألقي متى وأين أحب
ولأن للصلاة هذه المنزلة بين أركان الإسلام لم تفوض بالوحي كباقي الأركان، إنما فرضت مباشرة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، حين استدعاه ربه للقائه في السماء في رحلة المعراج.
وسبق أن مثلنا لذلك- ولله تعالى المثل الأعلى- برئيس العمل الذي يلقي أوامره بالتليفون، أو بتأشيرة على ورقة، فأن تعرض لأمر هام استدعى الموظف المختص إلى مكتبه، وأعطاه الأمر مباشرة لأهميته، كذلك كانت الصلاة، وكذلك فرضت على سيدنا رسول الله بالتكليف المباشر.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تكونوا من المشركين ٣١ ﴾( الروم ) وهنا وقفة : فكيف بعد الإنابة إلى الله والتقوى، وبعد الأمر بإقامة الصلاة يقول﴿ ولا تكونوا من المشركين٣١ ﴾( الروم ) ؟ وأين الشرك ممن يؤدي التعاليم على هذا المنهج ؟ قالوا : الشرك المنهي عنه هنا ليس الإشراك مع الله إلها آخر، إنما أشركوا مع الله نية أخرى، فالإشراك هنا بمعنى الرياء، والنظر إلى الناس لا إلى الله.
لذلك يقولون : العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجل الناس شرك، فالذي يصلي أو يبني لله مسجدا للشهرة، وليحمده الناس فهو مراء، وهو خائب خاسر ؛ لأن الناس انتفعوا بعمله ولم يحصل هو من عمله شيئا.
أما من ترك العمل خوفا من الوقوع في الرياء، فيمتنع عن الزكاة مثلا، خوف أن يتهم بالرياء، فهو والعياذ بالله مشرك، لأن الناس ينتفعون بالعمل حتى وإن كان رياء، لكن إن امتنعت عن العمل فلا ينتفع الناس منك بشيء.
فالمعنى :﴿ ولا تكونوا من المشركين ٣١ ﴾( الروم ) أي : الشرك الخفي وهو الرياء ؛ لذلك رأينا سيدنا رسول الله وهو الأسوة للأمة الإيمانية يدعو ربه ويقول " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " ٢.
فالعمل الإيماني ما كان لله خالصا، وعلى قدر الإخلاص يكون الجزاء، فمن الناس من يفعل الصلاح فيوافق شيئا في نفسه، كأن يساعده على استقامة الحياة أو على التوفير في النفقات أو غير ذلك، فيستمر عليه، لا لله إنما لمصلحته هو.
وفي هؤلاء يقول تعالى :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خير الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ١١ ﴾( الحج )
وكالتاجر الذي يلتزم الصدق في تجارته، لا حبا في الصدق ذاته، إنما طمعا في الشهرة والصيت وكسب المزيد من الزبائن، ومثل هؤلاء ينالون من الدنيا على قدر سعيهم لها، ولا يحرمهم الله ثمرة مجهوداتهم، كما قال سبحانه :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب٢٠ ﴾( الشورى )
فما أشبه في نياتهم من الأعمال بركب يتصدون وجهة واحدة، لكن لكل منهم غاية يسعى إليها، فهذا يسعى للطعام أو أكلة شهية، وهذا يسعى لامرأة جميلة، وهذا يسعى لدرس علم ينتفع به، وآخر يسعى لرؤية من يحب، وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله :
قصدت بالركب من أهوى وقلت لهم هيا كلوا وخذوا ما حظكم فيه
لكن دعوني ألاقي من أؤمله عيني تراه ووجداني يناجيه
كذلك الحق- تبارك وتعالى- يريد من عبده أن يقصده لذاته، لا خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته، وفرق بين أن تنعم بنعمة الله، وأن تنعم بالنظر إلى الله، فأنت في الجنة تأكل، لا عن جوع ولا عن حاجة، إنما لمجرد التنعم.
لذلك يقول سبحانه عن الشهداء :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ١٦٩ ﴾( آل عمران ) فتكفيهم هذه العندية، وأن ينظروا إلى الله سبحانه وتعالى.
لذلك تقول رابعة العدوية ٣ : الله إني كنت تعلم أني أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فأدخلني فيها، لكني أعبدك لأنك أحق أن تعبد.
ولا شك أن القليل من الناس يخلصون النية لله، وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية، لا تعينهم هذه المسألة، ولا يهتمون بها، كما قال سبحانه :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله وإلا وهم مشركون١٠٦ ﴾( يوسف )
٢ ذكره ابن رجب الحنبلي في كتابه " جامع العلوم والحكم" (ص٢٧) من دعاء مطرف ابن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول: "اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف لك به، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت" وقد أورده أبو نعيم في حلية الأولياء (٢/٢٠٧)..
٣ هي: رابعة بنت إسماعيل العدوية، أم خير، مولاة آل عتيك البصرية، صالحة مشهورة من أهل البصرة ومولدها بها، لها أخبار في العبادة والنسك، توفيت بالقدس عام ١٣٥هـ (الأعلام للزركلي٣/١٠)..
أو شرا مثل :﴿ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا... ٤ ﴾( القصص )
وفي آية أخرى :﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض... ٦٥ ﴾( الأنعام )
وقوله تعالى :﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ٣٢ ﴾( الروم ) لما لهم من سلطة زمنية، ولما لهم من مكانة يخافون أن تهتز كالسلطة الزمنية التي منعت يهود المدينة من الإيمان برسول الله، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويعرفون زمانه، وكانوا يقيمون بالمدينة ينتظرون ظهوره، وكل ذلك عندهم في التوراة، حتى إنهم يظهر آخر الزمان سنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم ١.
﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.... ٨٩ ﴾( البقرة )
لماذا ؟ حفاظا على سلطتهم الزمنية، وقد كانوا أهل علم وغنى ومكانة، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ألغى هذه السلطة، فلا كلام بعد كلامه صلى الله عليه وسلم، أما من ثبت منهم على دينه الحق، وعمل بما في التوراة فقد آمن بمحمد كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود.
فالسلطة الزمنية هي التي حالت بين الناس وبين الحق الذي يؤمنون به، وهذه السلطة الزمنية هي التي نراها الآن في هذه الفرق والأحزاب التي يدعي كل منها أنها على الحق وما سواها على الباطل.
يقول تعالى :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن... ٧١ ﴾( المؤمنون )
فكل منهم يناطح الآخرين ليعلى مذهبه، ويظهر هو على الساحة.
﴿ إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون٣٣ ﴾
الضر : هو الشيء الذي نتضرر منه، ولا تستطيبه النفس، فإن أصابهم الضر وأسبابهم لا تفي بالخلاص منه﴿ دعوا ربهم منيبين إليه... ٣٣ ﴾( الروم ) أي : رجعوا إليه سبحانه، والآن علموا أن لهم ربا يلجئون إليه، وهذا يذكرنا بما قاله العرب عندما فتر الوحي عن رسول الله، فسرهم ذلك، وقالوا : إن رب محمد قلاه١. سبحان الله الآن عرفتم أن لمحمد ربا.
وقلنا : إن ساعة الضيق والمحنة لا يكذب الإنسان نفسه ولا يخدعها، وسبق أن ذكرنا قصة حلاق الصحة الذي كان يحل محل الطبيب الآن، فلما أنشئت كليات للطب وخرجت أطباء، وذهب أحدهم إلى قرية الحلاق، فأخذ الحلاق يهاجمه ويدعي أنه حديث لا خبرة له، فلما مرض ابنه وأحس بالخطر أخذه خفية في ظلام الليل، وذهب به إلى الطبيب، لماذا ؟ لأنه لن يغش نفسه في هذه اللحظة.
﴿ ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون٣٣ ﴾( الروم ) أي : يعودون إلى ما كانوا عليه من الشرك بالله.
وحين نتأمل هذه المسألة نجد أن القرآن عرضها مرة بصيغة الإفراد، فقال :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا... ٨ ﴾( الزمر )
وقال :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه... ١٢ ﴾( يونس )
لكن الكلام عن الإنسان المفرد لا يكفي لإثبات الظاهرة، لأن الإنسان الواحد يمكن أن يستذل أمام ربه، ويعود إليه بعد أن تجرأ على معصيته، يكون ذلك بينه وبين نفسه، فلا يفضح نفسه أمام الناس، فأراد سبحانه أن يثبت هذه المسألة عند الناس جميعا، ليفضح بعضهم بعضا، فذكر هنا﴿ وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه... ٣٣ ﴾( الروم )
وفي آية أخرى :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون٦٥ ﴾( العنكبوت )
فجاء بصيغة الجمع يفضح الكافرين بعضهم أمام بعض، وقد يكون في هؤلاء الداعين من كان يؤلبهم على الله، ويصرفهم عن الإيمان به، وها هو الآن يدعو ويتضرع، وحين يفتضح أمرهم يكون ذلك أدعى لاستقامتهم وأدعى ألا يتكبر أحد على أحد.
لذلك قلنا في ميزان الصلاة أنها تسوي بين الناس، فيجلس الرجل العادي بجوار من لم يكن يؤمل أن يجلس بجواره، ويجده خاضعا معه مطاوعا للإمام... الخ ففي الصلاة، الجميع سواء، والجميع منتفع بهذه المساواة، آخذ منها عبرة، فلا يتكبر بعدها أحد على أحد.
ونقف هنا عند﴿ مس... ٣٣ ﴾( الروم ) وهو المس الخفيف، فالمعنى مسه اليسير من الضر، ومع ذلك ضاقت أسبابهم عن دفعه، وضجوا يطلبون الغوث.
وكلمة﴿ أذاقهم... ٣٣ ﴾( الروم ) الذوق حاسة من حواس الإنسان يحس بها الطعام عند مروره على منطقة معينة في اللسان، فإذا ما تجاوز الطعام هذه المنطقة لا يشعر الإنسان بطعمه.
إذن : فلذة الطعام مقصورة على هذه المنطقة في الفم، والتذوق أقوى انفعالات النفس في استقبال المذاق ؛ لذلك يقولون في الأمثال ( اللي يفوت في اللسان بقى نتان ).
وتأمل، كيف استعمل الحق سبحانه الإذاقة في مجال العذاب حين ضرب لنا هذا المثل :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا٢ من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون١١٢ ﴾( النحل )
فذكر الإذاقة مع أن اللباس يستوعب الجسم كله، وكذلك الجوع والخوف، فكل منهما إحساس يستولي على الإنسان كله، ومع ذلك قال﴿ فأذاقها.... ١١٢ ﴾( النحل ) لأن الإذاقة أقوى أنواع الإدراك.
وكلمة﴿ منه... ٣٣ ﴾( الروم ) أي : من الله تعالى، يعني بلا أسباب، أو﴿ أذاقهم منه... ٣٣ ﴾( الروم ) أي : بدل الضر برحمة، وخلصهم من الضر برحمة. كما أن الإذاقة وإن دلت على الانفعال الشديد للمستقبل، فإنها أيضا تدل على التناول الخفيف بلطف، كما تقول : ذقت الطعام. أو تقول : والله ما ذقت لفلان طعاما يعني : ما أكلت عنده من باب أولى.
لذلك الحق سبحانه وتعالى عبر عن الرحمة هنا بالإذاقة ؛ لأن رحمة الدنيا لا تستوعب كل رحمة الله، فالقليل منها في الدنيا، وجلها في الآخرة.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ إذا فريق منهم بربهم يشركون٣٣ ﴾( الروم )، أما في الآية الأخرى :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون٦٥ ﴾( العنكبوت )
فلماذا قال في الأولى﴿ إذا فريق منهم... ٣٣ ﴾( الروم ) وفي الأخرى :﴿ إذا هم يشركون ٦٥ ﴾( العنكبوت ) فلم يستثن منهم أحدا ؟
قالوا : لأن الآية الأولى تتكلم عن الذين دعوا الله في البر، والناس في البر عادة ما يكونون مختلفين، فيهم الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فهم مختلفون في رد الفعل، فالمؤمنون لما عاينوا النجاة ورحمة الله قالوا : قالوا الحمد لله الذي نجانا، أما المشركون فعادوا إلى كفرهم وعنادهم.
أما الآية الأخرى فتتكلم عن الذين دعوا الله في البحر، وعادة ما نرى الذين يركبون البحر على شاكلة واحدة، وهم لا يركبونه كوسيلة للسفر، إنما للترف، كما نرى البعض يتخذ لنفسه يختا مثلا أو عوامة يجمع فيها أتباعه ومن هم على شاكلته، ولا بد أنهم يجتمعون على شيء يحبونه، فهم على مذهب واحد، وطريقة واحدة، وسلوك واحد.
إذن : ما دام هؤلاء كانوا في البحر فلا بد أنهم كانوا مجرمين عتاة، وكانوا سواسية في الشرك وفي التخلي عن الله، بمجرد أن أمنوا الخطر، لذلك استخدم الأسلوب هنا﴿ إذا... ٣٣ ﴾( الروم ) الفجائية واستخدمه في آية أخرى﴿ إذا هم يشركون٦٥ ﴾( العنكبوت ) فبعد أن أنجاهم الله أسرعوا العودة إلى ما كانوا عليه من الشرك.
ففي هذه الآية الحق سبحانه يبين لنا حقيقة الإنسان، ومدى حرص على جلب الخير لنفسه، فإن كان الخير الذي أعده الله له يبطره ويطغيه كما قال سبحانه ﴿ كلا إن الإنسان ليطغى٦ أن رآه استغنى٧ ﴾( العلق )
فإنه لا مناص له من أن يرجع إلى ربه حين ينفض الله عنه كل أسباب الخير، ويهدده في نفسه وفي ذاته التي لم تنتفع بآيات الله في الكون، فتظل في حضانة الله، فيأتي له بالضر الذي ينفض عنه كل أسباب البطر والأشر والاستعلاء.
ولكنه لا يسلم نفسه للضر الذي يهلكه، بل عندها يتنبه أن له ربا يلجأ إليه، ولا يجد مفزعا في الكون إلا هو ؛ لأنه يعلم جيدا أن الذين أخذوه من الله فآمن بهم وكفر بالله لن ينفعوه بشيء ؛ لأنه عبد من دون الله آلهة لا تضر ولا تنفع.
لذلك يقول تعالى :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه... ٦٧ ﴾ ا( لإسراء ) فهؤلاء الذين تدعونهم لا يعرفون طريقكم، وإن عرفوا لا يملكون أن يصلوا إليكم، أما أنا فربكم الأعلم بكم، والقادر على إغاثتكم، وإنزال الرحمة بكم.
إذن : فهؤلاء المشركون أشركوا بالله في وقت الرخاء، أما في وقت الضيق والكرب فلن يخدع أحدهم نفسه، ولن يغشها لن يقول : يل هبل. لأنه يعلم أن هبل لا يسمعه ولا يجيبه، فلا ينفعه الآن، ولا ينجيه إلا الإله الحق، فقد ألجأته الضرورة أن يعترف به ويدعوه.
٢ رغد العيش: اتسع وطاب. وقوله:﴿وكلا منها رغدا حيث شئتما... ٣٥﴾(البقرة) أي: أكلا طيبا موسعا عليكم فيه. (القاموس القويم ١/٢٦٩)..
﴿ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون٣٤ ﴾
يتبادر إلى الذهن أن اللام في﴿ ليكفروا... ٣٤ ﴾ ( الروم ) لام التعليل، أو لام السببية التي يكون ما بعدها سببا لما قبلها، كما تقول : ذاكر لتنجح، وكذلك في الشرط والجواب : إن تذاكر تنجح فعلة المذاكرة النجاح.
فهل يستقيم المعنى هان على هذا الفهم ؟ وهل نجاهم الله وأذاقهم الرحمة ليكفروا به ؟
نقول : ليس الشرط سببا في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة، بل الجواب هو السبب في الشرط، لكنهم لم يفرقوا بين سبب دافع وسبب واقع، فالتلميذ يذاكر لأن الناجح ورد بباله، وتراءت له آثاره الطيبة أولا فدفعته للمذاكرة.
إذن : فالجواب سبب في الشرط أي : سبب دافع إليه، فإذا أردت أن يكون واقعا فقدم الشرط ليجيء الجواب.
وكما تقول : ركبت السيارة لأذهب إلى الإسكندرية، فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للإسكندرية ؛ لأنك أردت أولا الذهاب فركبت السيارة، فلما ركبتها وصلت بالفعل. إذن : نقول : الشرط سبب للجواب دافعا يدفع إليه، والجواب سبب للشرط واقعا.
فهنا نجاهم الله من الكرب، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به، إنما ليبين لهم أنه لا مفزع لهم إلا إليه، فيتمسكون به سبحانه، فيؤمن منهم الكافر، ويزداد مؤمنهم إيمانا، لكن جاء رد الفعل، منهم على خلاف ذلك، لقد كفروا بالله ؛ لذلك يسمون هذه اللام لام العاقبة أي : أن كفرهم عاقبة النجاة والرحمة.
ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- لو ضممت طفلا مسكينا إلى حضانتك وربيته أحسن تربية، فلما شب وكبر تنكر لك، واعتدى عليك، فقلت للناس : ربيته ليتعدى علي، والمعنى : ربيته ليحترمني ويحبني، لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلاف ذلك، وهذا يدل على فساد التقدير عند الفاعل الذي ربى، وعلى لؤم وفساد طبع الذي ربى.
فالأسلوب هنا﴿ ليكفروا... ٣٤ ﴾( الروم ) يحمل معنى التقريع ؛ لأن ما بعد لام العاقبة ليس هو العلة الحقيقية لما قبلها، إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللام : أذاقهم الرحمة، ونجاهم ليؤمنوا، أو ليزدادوا إيمانا، فما كان منهم إلا أن كفروا.
ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في قصة موسى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون عدوا وحزنا... ٨ ﴾( القصص )
ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل، وكما يقولون في الأمثال ( بيربي خناقه ).
فهذا دليل على غفلة الملتقط، وعلى غبائه أيضا، فكيف وهو يقتل الأولاد في هذا الوقت بالذات لا يشك في ولد جاء في تابوت ملقي في البحر ؟ أليس في هذا دلالة على أن أهله يريدون نجاته من القتل ؟ لكن كما قال سبحانه :﴿ واعلموا أن الله يحول١ بين المرء وقلبه... ٢٤ ﴾( الأنفال )
فأنت تقتل في الأطفال لرؤيا أخبرك بها العارفون، فسيأتي من تخاف منه إلى بابك، وستأخذه وتربيه في حضنك، وسيكون زوال ملكك على يديه، فلا تظن أنك تمكر على الله.
والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين، فإذا كنت قد صدقت العرافين فيما أخبروك به فما جدوى قتل الأطفال، وأنت لن تدرك من سيكون زوال ملكك على يديه ولن تتمكن منه ؟ فلماذا تحتاط إذن ؟
لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر ربا، والرب يكلف العدو ليأتي بعدو له يقضي عليه، وهو سبحانه خير الماكرين، والمكر الحق أن يكون خفية بحيث لا يشعر به الممكور به.
وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول : الصراحة مكر القرن العشرين. يعني : من أراد أن يمكر فليقل الحق وليكن صريحا ؛ لأننا أصبحنا في زمن قلت فيه الصراحة وقول الحق، لدرجة أنك حين تحدث الناس بالحق يشكون فيك، ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق، كالذي قال لجماعة يطلبونه ليقتلوه : أنا سأذهب إلى المكان الفلاني في الوقت الفلاني فقالوا : إنه يضللنا ويمكر بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به.
وبعد أن تربى موسى- عليه السلام- في بيت فرعون، ثم كلفه ربه بالرسالة، وذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله قال له :﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين١٨ ﴾( الشعراء )
نعم ربيتني وليدا، لكن الذي رباني ورباك هو الذي بعثني إليك، فأنا أبر المربى الأعلى قبل أن أبر بك، وفي هذا إشارة إلى أن عناية الله هي الأصل في تربية من تحب، فإياك أن تقول : ربيت ولدي حتى صار كذا وكذا، بل عليك بالأخذ بأسباب التربية، وتترك المربي الأعلى هو الذي يربي على الحقيقة.
وهذا المعنى فطن إليه الشاعر، فقال :
إذا لم تصادف في بنيك عناية فقد كذب الراجي وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
ثم يقول سبحانه :﴿ فتمتعوا فسوف تعلمون٣٤ ﴾( الروم ) لأنه كفر ليتمتع بكفره في الدنيا ؛ لأن للإيمان مطلوبات صعبة تشق على النفس، فيأمرك بالشيء الثقيل على نفسك، وينهاك عن الشيء المحبب إليها، أما الأصنام التي عبدوها من دون الله وغيرها من الآلهة فلا مطلوب لها ولا منهج.
لكنه متاع الحياة الدنيا ومتاع الدنيا قليل ؛ لأن الدنيا بالنسبة لك مدة بقائك فيها فلا تقل إنها ممتدة من آدم إلى قيام الساعة، فهذا العمر الطويل لا يعنيك في شيء، الذي يعنيك عمرك أنت.
ومهما كان عمر الإنسان في الدنيا فهو قصير وتمتعه بها قليل، ثم إن هذا العمر القصير مظنون غير متيقن، فربما داهمك الموت في أي لحظة، ومن مات قامت قيامته٢.
لذلك أبهم الحق- سبحانه وتعالى- الموت، ونثر أزمانه في الخلق : فهذا يموت قبل أن يولد، وهذا يموت طفلا، وهذا يموت شابا... الخ وإبهام الموت سببا وموعدا ومكانا هو عين البيان ؛ لأنه أصبح شاخصا أمام كل منا ينتظره في أي لحظة، فيستعد له.
ونلحظ هنا أن الأسلوب القرآني عطف فعل الأمر﴿ فتمتعوا... ٣٤ ﴾( الروم ) على الفعل المضارع ﴿ ليكفروا... ٣٤ ﴾( الروم )، وفي موضع آخر قال سبحانه :﴿ ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا... ٦٦ ﴾( العنكبوت ) فجعل التمتع ليس خاضعا لفعل الأمر، إنما للعلة : ليكفروا وليتمتعوا.
لذلك اختلفوا حول هذه اللام. أهي للأمر أم للتعليل، ﴿ فسوف تعلمون٣٤ ﴾( الروم ) جاءت بعد﴿ فتمتعوا... ٣٤ ﴾( الروم )، وهذه جاءت معطوفة على ﴿ ليكفروا... ٦٦ ﴾( العنكبوت ) فكأنه قال : اكفروا وتمتعوا، لكن ستعلمون عاقبة ذلك.
ولذلك جعلهم يقولون عن اللام هنا لام التعليل أنها مكسورة، أما لام الأمر فساكنة، فلما رأوا اللام مكسورة قالوا لام التعليل، أما الذي فهم المعنى منهم فقال : ما دام السياق عطف فعل الأمر فتمتعوا على المضارع المتصل باللام، فاللام للأمر أيضا، لأنه عطف عليها فعل الأمر، وهو هنا للتهديد.
لكن، لماذا كسرت والقاعدة أنها ساكنة ؟ قال أحد النحاة : لام الأمر ساكنة، ويجوز أن تكسر، واستشهد بهذه الآية﴿ ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا... ٦٦ ﴾( العنكبوت )
ونقول لمن يقول : إنها لام التعليل : إذا سمعت لام التعليل فاعلم أنها تعني لام العاقبة ؛ لأن الكفر والتمتع لم يكن سببا في إذاقة الرحمة.
ويا من تقول لام الأمر سيقولون لك : لماذا كسرت ؟ وفي القرآن شواهد كثيرة تدل على أنها قد تكسر، واقرأ قوله تعالى :﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق٢٧ ليشهدوا منافع لهم... ٢٨ ﴾( الحج ) فاللام هنا مكسورة لأنها لام التعليل.
ثم قال بعدها :﴿ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق٢٩ ﴾( الحج ) فاللام سكنت لأنها لام الأمر.
وفي آية أخرى جمعت اللامان :﴿ لينفق ذو سعة من سعته.... ٧ ﴾( الطلاق ) فجاءت لام الأمر مكسورة ؛ لأنها في أول الجملة، ولا يبتدأ في اللغة بساكن، فحركت بالكسر للتخلص من السكون، ثم يقول سبحانه :﴿ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله... ٧ ﴾( الطلاق ) فجاءت لام الأمر ساكنة، لأنها واقعة في وسط الكلام.
لذلك يجب أن يتنبه إلى هذه المسألة كتاب المصحف، وأن يعلموا أن كلام الله غالب، فقد فات أصحاب رسم المصحف أنه مبني من أوله إلى آخره على الوصل، حتى في آخر آيات سورة الناس وأول الفاتحة نقول﴿ الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس بسم الله الرحمن الرحيم... ﴾.
فآخر القرآن موصول بأوله، حتى لا ينتهي أبدا، وعليه فلا ترسم﴿ لينفق ذو سعة من سعته... ٣٧ ﴾( الطلاق ) بالكسر، إنما بالسكون، لأنها موصولة بما قبلها.
وكلمة﴿ فسوف تعلمون٣٤ ﴾ ( الروم ) تدل على التراخي واستيعاب كل المستقبل، سواء أكان قريبا أم بعيدا، فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة، أو سيموت بعده بوقت طويل.
٢ رواه الديلمي في مسنده (١١١٧) عن أنس رفعه بلفظ: "إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته" وقال العجلوني في كشف الخفاء (٢٦١٨): "روي عن أنس: أكثروا ذكر الموت فإنكم إن ذكرتموه في غنى كدره عليكم، وإن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم، الموت القيامة، إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته، يرى ماله من خير وشر"..
﴿ أما أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون٣٥ ﴾
كلمة( أم ) لا تأتي بداية، لأنها أداة تفيد التخيير بين أمرين، كما تقول : أجاء زيد أم عمرو ؟ فلا بد أن تأتي بين متقابلين، والتقدير : أهم اتبعوا أهواءهم، أم عندهم كتاب أنزل إليهم فهو حجة لهم على الشرك ؟ وحيث إنهم لم ينزل عليهم كتاب يكون حجة لهم فلم يبق إلا الاختيار الآخر أنهم اتبعوا أهواءهم.
والفعل﴿ أنزلنا... ٣٥ ﴾( الروم ) الإنزال يقتضي علو المنزل منه، وأن المنزل عليه أدنى، فالإنزال من علو الربوبية إلى ذل العبودية. ونحن لم نر الإنزال، إنما الذي تلقى القرآن أول مرة وباشر الوحي هو الذي رآه وأخبرنا به.
والأصل في الإنزال أن يكون من الله تعالى، وحين ينزل الله علينا إنما ليعطينا سبحانه شيئا من هذا العلو، سواء أكان العلو معنويا ؛ لأن الله سبحانه ليس له مكان، أم علوا حسيا كما في ﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.... ٢٥ ﴾( الحديد )
والسلطان : من التسلط، وهي تدل على القوة، سواء أكانت قوة الحجة والبرهان، فمن أقنعك بالحجة والبرهان فهو قوي عليك، أو قوة قهر وإجبار كمن يرغمك على فعل شيء وأنت كاره، أما سلطان الحجة فتفعل وأنت راض ومقتنع.
وإذا استقرأنا كلمة سلطان نجد أن الله تعالى عرضها لنا في موقف إبليس في الآخرة، حين يتبرأ من الذين اتبعوه :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم... ٢٢ ﴾( إبراهيم )
أي : لم يكن لي عليكم سلطان حجة وإقناع أستحوذ به على قلوبكم، ولم يكن لي عليكم سلطان قهر، فأقهر به قوالبكم، والحقيقة أنكم كنتم( على تشويرة ) مجرد أن دعوتكم جئتكم مسرعين، وأطعتم مختارين.
وهذا المعنى يفسر لنا شيئا في القرآن خاض الناس فيه طويلا- عن خبث نية أو عن صدق نية- هذا في قوله تعالى مرة لإبليس﴿ ما منعك أن تسجد... ٧٥ ﴾( ص ) ومرة أخرى :﴿ ما منعك ألا تسجد... ١٢ ﴾( الأعراف )
فالأول تدل على سلطان القهر، كأنك كنت تريد أن تسجد فجاء من منعك قهرا عن السجود، والأخرى تدل على سلطان الحجة والإقناع، فلم تسجد وأنت راض ومقتنع بعدم السجود١.
وقوله تعالى :﴿ فهو يتكلم بما كانوا به يشركون٣٥ ﴾( الروم ) أي : ينطق لما كانوا به يشركون، يقول : اعملوا كذا وكذا، فجاء هذا على وفق هواهم.
﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون٣٦ ﴾
جميل أن يفرح الناس، وأن يستبشروا برحمة الله، لكن ما لهم إذا أصابتهم سيئة بما قدمت أيديهم يقنطون ؟ فمجرى الرحمة هو مجرى السيئة، لكنهم فرحوا في الأولى لأنها نافعة في نظرهم، وقنطوا في الأخرى ؛ لأنها غير نافعة في نظرهم، وكان عليهم أن يعلموا أن هذه وتلك من الله، وأن له سبحانه حكمة في الرحمة وحكمة في المصيبة أيضا.
إذن : أنتم نظرتم إلى شيء وغفلتم عن شيء، نظرتم إلى ما وجد من الرحمة وما وجد من المصيبة، ولم تنظروا إلى من أوجد الرحمة، ومن أوجد المصيبة، ولو ربطتم وجود الرحمة أو المصيبة بمن فعلها لعلمتم أنه حكيم في هذه وفي تلك، فآفة الناس أن يفصلوا بين الأقدار ومقدرها. إذن : ينبغي ألا تنظروا إلى ذات الواقع، إنما إلى من أوقع هذا الواقع.
فقد دخل عليك ولدك يبكي ؛ لأن شخصا ضربه، فأول شيء تبادر به : من فعل بك هذا ؟ فإن قال لك : فلان تقول : نعم إنه يكرهنا ويريد إيذاءنا... الخ فإن قال لك : عمي ضربني فإنك تقول : لا بد أنك فعلت شيئا أغضبه، أو أخطأت في شيء فعاقبك عليه.
إذن : لم تنظر إلى الواقع في ذاته، إنما ربطت ببينه وبين من أوقعه، فإن كان من العدو فلا بد أنه يريد شرا، وإن كان من الحبيب فلا بد أنه يريد بك خيرا.
وهكذا ينبغي أن نربط بين الموجود ومن أوجده، فإن كان الذي أوجد الواقع رب فيجب أن تتأمل الحكمة، ولن نتحدث عن الرحمة، لأن النفع ظاهر فيها للجميع، لكن تعال نسأل عن المصيبة التي تحزن الناس، فيقنطوا وييأسوا بسببها.
ونقول : لو نظرت إلى من أنزلها بك لارتاح بالك، واطمأنت نفسك، فالمصيبة تعني الشيء الذي يصيبك، خيرا كان أم شرا، ألا ترى قوله تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك... ٧٩ ﴾( النساء )
فالمصيبة لا تذم في ذاتها، إنما النتيجة منها، وكلمة أصاب في الحسنة وفي السيئة تدل على أن سهمها أطلق عليك، وعمرها مقدار وصولها إليك، فهي لا بد صائبتك، لن تتخلف عنك أبدا، ولن تخطئك ؛ لأن الذي أطلقها إله ورب حكيم، فإن كانت حسنة فسوف تأتيك فلا تتعب نفسك، ولا تزاحم الناس عليها، وإن كانت مصيبة فإياك أن تقول : أحتاط لها لأدفعها عن نفسي ؛ لأنه لا مهرب لك منها.
ثم لماذا تقنط وتيأس إن أصابتك مصيبة ؟ لماذا لا تنتظر وتتأمل، لعل لها حكمة، ولعل من ورائها خيرا لا تعلمه الآن، وربما كانت ضائقة سوف يكون لها فرج قريب.
ألم تقرأ :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.... ٢١٦ ﴾( البقرة )
أتذكرون حادث عمارة الموت وقد طردوا منها البواب وأسرته، وجعلوا منها قضية في المحكمة، وبعد أن انهارت العمارة، وتبين للبواب وأسرته أن ما ظنوه شرا ومصيبة كان هو عين الخير.
إذن : لا تقنط من ضر أصابك، واعلم أن الذي أجراه عليك ربك، وأن له حكمة فانتظر حتى تتكشف لك، ولا يقنط إلا من ليس له رب يلجأ إليه.
ثم تعال نناقش في المصيبة التي قنط من أجلها : ألك دخل فيها ؟ أم ليس لك دخل ؟ إن كان لك دخل فيها كالتلميذ الذي أهمل دروسه فرسب في الامتحان، فعليك أن تستقبل هذه المصيبة بالرضا، فالرسوب يعدل لك خطأك، ويلفتك إلى ما كان منك من إهمال حتى تتدارك الأمر وتجتهد.
فإن كانت المصيبة لا دخل لك فيها، كالذي ذاكر واجتهد، ومع ذلك لم يوفق لمرض ألم به ليلة الامتحان، أو لعارض عرض له، نقول : إياك أن تفصل المصيبة عن مجريها وفاعلها، بل تأمل ما يعقبها من الخير، ولا تفصل المصيبة عن مجريها عليك ولا تقنط.
وابحث عن حكمة ربك من إنزال هذه المصيبة بك، كالأم التي تقول لابنها : يا بني أنت دائما متفوق والناس تحسدك على تفوقك، فلعل رسوبك يصرف عنك حسدهم، وينجيك من أعينهم، فيكفوا عنك.
وحينما يأتي أبوه يقول له : يا بني هون عليك، فلعلك إن نجحت هذا العام لم تحصل على المجموع الذي تريده، وهذه فرصة لتتقوى وتحصل على مجموع أعلى. إذن : لن تعدم من وراء المصيبة نفعا، لأن ربك قيوم، لا يريد لك إلا الخير.
لذلك حين تستقرئ الأحداث تجد أناسا فضحوا وأخذوا بما لم يفعلوا، وذهبوا ضحية شاهد زور، أو قاض حكم عن هوى... إلخ لكن لأن ربك قيوم لا يغفل يعوض هذا المظلوم ويقول له : لقد أصبح لك نقطة عندي في حسابك، فأنت اتهمت ظلما، فلك عندي إذا ارتكبت جريمة أن أنجيك منها فلا تعاقب بها، وأنت يا من عميت على العدالة، وشهدت زورا، أو : أخذت ما ليس لك، أو أفلت من العقاب فسوف أوقعك في جريمة لم تفعلها.
إذن : القنوط عند المصيبة لا محل له، ولو ربطت المصيبة بمجريها لعلمت أنه حكيم، ولا بد أن تكون له حكمة قد تغيب عنك الآن، لكن إذا أدرت المسألة في نفسك، فسوف تصل إلى هذه الحكمة.
وحين ننظر إلى أسلوب الآية نجد فيه مفارقات عديدة، ففي الكلام عن الرحمة قال﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها... ٣٦ ﴾( الروم ) فاستخدم أداة الشرط( إذا ).
أما في المصيبة فقال﴿ وإن تصيبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ٣٦ ﴾( الروم ) فاستخدم أداة الشرط ( إن )، فلماذا عدل عن رتابة الأسلوب من إذا إلى إن ؟
قالوا : حين تقارن بين النعم وبين المصائب التي تنزل بالإنسان في دنياه تجد أن النعم كثيرة والمصائب قليلة، فنعم الله متوالية عليك في كل وقت لا تعد ولا تحصى، أما المصائب فربما تعد على الأصابع.
لذلك استخدم مع النعم ( إذا ) الدالة على التحقيق، ومع المصيبة استخدم( إن ) الدالة على الشك، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ١ ﴾( النصر ) فاستعمل إذا لأنها تدل على التحقيق وترجح حدوث النصر، وقال سبحانه :﴿ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره... ٦ ﴾( التوبة )
كما نلحظ في أسلوب الآية أنها لم تذكر السبب في إذاقة الرحمة، إنما ذكرت سبب المصيبة﴿ بما قدمت أيديهم... ٣٦ ﴾( الروم ) ليدل على عدله تعالى في إنزال المصيبة، وتفضله في إذاقة الرحمة ؛ لأن الرحمة من الله والنعم فضل من الله.
لكن في المصيبة قال ﴿ بما قدمت أيديهم... ٣٦ ﴾( الروم ) فذكر العلة حتى لا يظن أحد أن الله تعالى يجري المصيبة على عبده ظلما، بل بما قدمت يداه، فالمسألة محكومة بالعدل الإلهي.
وبين الفضل والعدل بون شاسع، فلو جاءك خصمان لتحكم بينهما تقول : أحكم بينكما بالعدل، أم بأفضل من العدل ؟ يقول : وهل هناك أفضل من العدل ؟ إذن : نريد العدل، لكن تنبه لأن العدل يعطيك حقك، والفضل يتركك١ حقك.
فكأن الحق سبحانه يقول لنا : إياكم أن تظنوا أنكم ناجون بأعمالكم، لا إنما بالتفضل عليكم :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون٥٨ ﴾( يونس )
يعني : مهما جمعتم من الطاعات فلن تكفيكم، ولا نجاة لكم إلا برحمة من الله وفضل.
فالحق- تبارك وتعالى- يريد منا أن نعرف أن رحمة الله وسعت كل شيء، وأنه مع ما أنعم به عليكم من نعم لا تعد ولا تحصى لا يعاقبكم إلا بشيء اقترفتموه يستحق العقاب ؛ ذلك لأنه رب رحيم حكيم.
وما دام الأمر كذلك فانظر إلى آثار رحمة ربك في الكون، وتأمل هذه النعم، وقف عند دقة الأسلوب في قوله سبحانه :﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها... ٣٤ ﴾( إبراهيم )
فالعد يقتض الكثرة و﴿ نعمت... ٣٤ ﴾( إبراهيم ) مفرد، فكيف نعد يا رب ؟ قالوا : نعم هي نعمة واحدة، لكن في طياتها نعم فلو فتشتها لوجدت عناصر الخيرية فيها لا تعد ولا تحصى.
لذلك لما تعرضت الآيات لعد نعم الله استخدمت( إن ) الدالة على الشك ؛ لأنها لا تقع تحت الحصر ولا العد، لكن على فرض إن حاولت عدها فلن تحصيها، والآن مع تقدم العلوم وتخصص كليات بكاملها لدراسة علم الإحصاء، وخرجوا علينا بإحصاءات لأمور ولأشياء كثيرة في حياتنا، لكن لم يتعرض أحد لأن يحصي نعمة الله، لماذا ؟
لأن الإقبال على الإحصاء لا يكون إلا مع مظنة أن تعد وتستوعب ما تحصيه، فإن كان خارج نطاق استيعابك فلن تتعرض لإحصائه كما لم يتعرض أحد مثلا لعد الرمال في الصحراء ؛ لذلك يشكككم الله في أن تعدوها﴿ وإن تعدوا... ٣٤ ﴾( إبراهيم ) فهو أمر مستبعد، ولن يكون.
يعني : ألم يروا هذه المسألة، فواحد يوسع الله عليه الرزق، وآخر يضيق عليه، وربما صاحب السعة لم يتعب فيها، إنما جاءته من ميراث أو خلافه، وصاحب الضيق يكد ويتعب، ومع ذلك فعيشته كفاف، لذلك استقبل الفلاسفة هذه المسألة بما في ضمائرهم من إيمان أو إلحاد، فهذا ابن الراوندى١ الملحد يقول :
كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
فرد عليه آخر ممن امتلأت قلوبهم بالإيمان :
كم عالم عالم قد بات في عسر وجاهل جاهل قد بات في يسر
تحير الناس في هذا فقلت لهم هذا الذي أوجب الإيمان بالقدر
فالعالم لا يسير بحركة ميكانيكية ثابتة، إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه، فانظر إلى البسط لمن بسط الله له، والقبض لمن قبض الله عنه، ولا تعزل الفعل عن فاعله سبحانه، وتأمل أن الله تعالى واحد، وأن عباده عنده سواء، ومع ذلك يوسع على أحدهم ويضيق على الآخر.
إذن : لا بد أن في هذه حكمة، وفي تلك حكمة أخرى، ولو تتبعت عواقب السعة هنا والتضييق هناك لتراءت لك الحكمة.
ألا ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة، ومع ذلك لم يستطع تربية أولاده ؛ لأن مظاهر الترف جرفتهم إلى الانحراف، ففشلوا في حياتهم العملية. وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على الكفاف يتفوق أولاده، ويأخذون أعلى المراتب ؟ إذن :﴿ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر... ٣٧ ﴾( الروم ) وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في الإلحاد، إحداهما لواحد اسمه ( جبيل )، والأخرى ل ( بختر ) أحدهما : ينكر أن يكون للعالم إله، يقول : لو كان للعامل إله حكيم ما خلق الأعمى والأعرج والأعور... الخ فالحكمة في الخلق تقتضي المساواة، فأخذ من الشذوذ في الخلق دليلا على إلحاده.
أما الآخر فقال : ليس للكون إله، إنما يسير سيرا ميكانيكيا رتيبا، ولو كان فيه إله لكان يخلق الخلق على صور مختلفة، وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا، فأخذ ثبات النظام دليلا على إلحاده ليناقض مذهب سابقه.
إذن : المسألة عندهم رغبة في الإلحاد بأي شكل، وعلى أية صورة، واستخدام منهج معوج يخدم القضية التي يسعون إلى إثباتها.
ونقول في الرد على الأول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلا على عدم وجود إله حكيم : الشذوذ الذي ذكرت شذوذ في الأفراد الذي يعوض بعضهم عن بعض، فواحد أعمى، وآخر أعور يقابلهم ملايين المبصرين، فوجود هذه النسبة الضئيلة لا تفسد القاعدة العامة في الخلق، ولا تؤثر على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح.
أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى الملأ الأعلى، وفي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم... الخ فسيرى فيه نظاما ثابتا لا يتغير، لأن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله ؛ لذلك خلقه الله على هيئة الثبات وعدم الشذوذ.
إذن : في النظام العام للكون نجد الثبات، وفي الأفراد الذين يغنى الواحد منهم عن الآخر نجد الشذوذ والاختلاف، فالثبات يثبت حكمة القدرة، والشذوذ يثبت طلاقة القدرة.
فيا من تريد ثبات النظام دليلا على الإيمان، فالثبات موجود، ويا من تريد شذوذ النظام دليلا على الإيمان، فالشذوذ موجود، فما عليكما إلا أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الآخر لتصلا إلى الصواب.
ومسألة الرزق لها فلسفة في الإسلام، فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزاق، فمرة يرزق بالأسباب، ومرة يرزق بلا أسباب، لكن إياك أن تغتر بالأسباب، فقد تقدم الأسباب وتسعى ثم يأتيك منها رزق، ويخيب سعيك كالفلاح الذي يأخذ بالأسباب حتى يقارب الزرع على الاستواء فتأتيه جائحة فتهلكه، فاحذر أن تغتر بالأسباب، وانظر إلى المسبب سبحانه.
وقلنا : ينبغي أن تتحرى إلى الرزق أسبابه ولا تشغلن بعدها بالك بأمره، فقد تكفل به خالقك الذي استدعاك للوجود، وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله :
تحر إلى الرزق أسبابه ولا تشغلن بعدها بالكا
فإنك تجهل عنوانه ورزقك يعرف عنوانك
ثم يقول سبحانه :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ٣٧ ﴾( لروم ) قال( لقوم يؤمنون ) لأن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه في الإعطاء وفي المنع.
ونلحظ على أسلوب الآية تعالى في البسط :﴿ لمن يشاء... ٣٧ ﴾( الروم ) وفي التضييق﴿ ويقدر... ٣٧ ﴾( الروم ) ولم يقل لمن يشاء ؛ لأن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه فقال ﴿ لمن يشاء... ٣٧ ﴾( الروم ) لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلاء الذين سيبسط لهم في الرزق، أما في التقتير فلم يقل( لمن ) ليظل مبهما يستبعده كل منا عن نفسه.
﴿ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون٣٨ ﴾
حينما نتأمل النسق القرآني هنا نجد أن الله تعالى أولا البسط في الرزق، ثم التقتير فيه، ثم أكد بعده مباشرة على حق ذي القربى والمسكين وابن السبيل، وكأنه يلفت أنظارنا أن هذه الحقوق لا تقتصر على من بسط له الرزق، إنما هي على الجميع حتى من كان في خصاصة، وضيق عليه رزقه، فلا ينسى هؤلاء.
لذلك يذيل الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون٣٨ ﴾( الروم ) والجميع : من بسط له، ومن قتر عليه يريدون وجه الله.
وبمقارنة هذه الآية بآية الزكاة :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين١ وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم٦٠ ﴾( التوبة )
فلم تذكر ذا القربى الذي ذكر هنا، وكأن الآية تشير لنا إلى أمر ينبغي أن نلتفت إليه، وهو أن القريب عيب أن نعطيه من مال الزكاة، وهذه آفة وقع فيها كثير من الأغنياء وحتى المتدينين منهم، فكثيرا ما يسألون : لي ابن عم، أو لي قريب أأعطيه شيئا من زكاة مالي ؟
وكنت أقول للسائل : والله، لم علم ابن عمك أنك تعطيه من مال الزكاة ما قبله منك ؛ لأن للقريب حقا، سواء أكنت غنيا تملك نصاب الزكاة، أو لم تصل إلى حد النصاب.
إذن : لا تربط هؤلاء الثلاثة- القريب والمسكين وابن السبيل- بمسألة الزكاة، فلم حق حتى على الفقير الذي لا يملك نصابا، وعلى من ضيق عليه رزقه.
ومع هذا الحق الذي قرره الشرع للقريب نجد كثيرين يأكلون حقوق الأقارب، ويحتالون لحرمانهم منها، فمثلا بعض الناس لا ينجب ذكورا، فيكتب أملاكه للبنات ليحرم عمهم أو أبناء عمومتهم من الميراث، مع أن البنت لها نصف التركة، وإن كن أكثر من واحدة فلهن الثلثان، ويوزع الثلث على العم أو ابن العم ؛ ذلك لأن البنات في هذه الحالة ليس لهن ذكر عصبة، فيجعلها الشرع في العم أو ابن العم.
والشارع الحكيم يوازن بين الأطراف، فيأخذ منك ويعطيك، فلماذا في حالة موت الوالد عن هؤلاء البنات، وليس لهن ميراث يعدن على العم أو ابن العم بالنفقة ويقاضونه في المحاكم، فلماذا نحرمهم حقوقهم ونطالب نحن بحقوقنا، فهذا نوع من التغفيل.
لماذا لا نعطي العم أو ابن العم وهو الذي سيحمي البنات ويسهر على راحتهن، ويقف بجوارهن حال شدتهن ؟
إياك- إذن- أن تدخل الأقارب في الزكاة أو تربط مساعدتهم بالقدرة ؛ لأن لهم عليك حقا حال رخائك وحال شدتك.
ويكفي أن الحق سبحانه خصهم بقوله﴿ ذا القربى... ٣٨ ﴾( الروم ) ولم يقل : ذا المسكنة، أو ذا السبيل، وكلمة( ذو ) بمعنى صاحب، تدل على المصاحبة الدائمة والملازمة، فلا نقول : فلان ذو علم لمن علم قضية أو قضيتين، إنما لمن اتصف بالعلم الواسع وتمكن منه، كذلك لا نقول فلان ذو خلق إلا إذا كان الخلق صفة ملازمة له لا تنفك عنه.
ومن ذلك نقول : ذو القربى يعني ملاصقا لك لا ينفك عنك، فيجب أن تراعي حقه عليك، فتجعل له نصيبا، حتى إن لم تكن تملك نصابا، وكذلك للمسكين وابن السبيل ؛ لأن الله ذكرهم معا في غير بند الزكاة، فدل ذلك على أن لهم حقا غير الزكاة الواجبة.
ونلحظ أن القرآن رتبهم حسب الأهمية والحاجة، فأولهم القريب لقرابته الثابتة منك، ثم المسكين وهو متوطن معروف لك، ثم ابن السبيل العابر الذي تراه يوما ولا تراه بعد ذلك، فهو حسب موضعه من الحال.
والمسكين قد يتغير حاله، ويتيسر له الرزق فيوسع الله عليك، وابن السبيل يعود إلى بلده، فالوصف الثابت لذي القربى ؛ لذلك وصفه الله تعالى بما يدل على الثبات.
ثم قال﴿ حقه... ٣٨ ﴾( الروم ) فالحق ملازم له وهو أولى به، لذلك لم يقل مثلا : وآت ذا القربى حقه، والمسكين، وابن السبيل حقوقهم.
وقد مثلوا لذلك بقولهم : قال الأمير : يدخل على فلان، وفلان، وفلان، فالإذن بالدخول للأول يتبعه في ذلك الباقون.
إذن : لهؤلاء الثلاثة خصوصية، فقد أمرك الله أن تعطيهم لحمك، وألا تربطهم بالزكاة ولا يبسط الرزق، أما باقي السبعة المستحقون للزكاة فلم يلزمك نحوهم بشيء غير الزكاة المفروضة.
ولما حدث نقاش بين العلماء حول المراد بالمسكين والفقير، أيهما أحوج من الآخر ؟ قالوا : المسكين من له مال، ولكن لا يكفيه٢، واستشهد أبو حنيفة على هذا المعنى بقوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر... ٧٩ ﴾( الكهف ) فأثبت لهم ملكية وسماهم مساكين. أما الفقير فهو الذي لا شيء له، وعلى هذا فالفقير أحوج من المسكين، فيدخل في هذه الآية من باب أولى.
وقوله تعالى :﴿ ذلك... ٣٨ ﴾( الروم ) أي : الإيفاء لهؤلاء ﴿ خير... ٣٨ ﴾( الروم ) كلمة خير تطلق في اللغة، ويراد بها أحد معنيين : مرة نقول خير ويقابلها شر كما في قوله تعالى :﴿ فمن يعمل مقال ذرة خيرا يره٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾( الزلزلة )، ومرة نقول : خير ونقصد الأخير كالأحسن أي : أفعل تفضيل، كما جاء في قول الشاعر :
زيد خيار الناس وابن الأخير
لكن الشائع أن تستعمل خير في أفعل التفضيل كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير " ٣ فخير الأولى بمعنى أخير. لكن لمن ؟
﴿ للذين يريدون وجه الله... ٣٨ ﴾( الروم ) أي : في الوفاء بحق ذي القربى والمسكين وابن السبيل، يريد بذلك وجه الله، لا يريد رياء ولا سمعة، لأن الذي يفعل خيرا يأخذ أجره ممن فعل من أجله، فمن عمل لله مخلصا فأجره على الله، ومن عمل للناس رياء وسمعة فليأخذ أجره منهم.
وهؤلاء اللذين وصفهم الله تعالى بقوله :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب٣٩ ﴾( النور ) أي : فوجئ بوجود إله لم يكن في باله ولم يعمل من أجله.
فمعنى﴿ يريدون وجه الله... ٣٨ ﴾( الروم ) أي : يقصدون بعملهم وجه الله، سواء رآه الناس، أو أخفى عمله، حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه ؛ لأن الأمر قائم على النية، فقد تعطى أمام الناس ونيتك أن يتأسوا بك، أو لتكف عنك ألسنتهم وقدحهم في حقك.
وحين تعطي علانية بنية خالصة لله فإنها صدقة مخصبة للعطاء، مخصبة للأجر ؛ لذلك ستكون أسوة لغيرك فيعطى، ويكون لك من الأجر مثله، لا من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
والقرآن الكريم عرض علينا هذه القضية في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر... ٢٦٤ ﴾( البقرة )
ثم يعطينا مثلا توضيحيا :﴿ فمثله كمثل صفوان٤ عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين٢٦٤ ﴾( البقرة )
فمثل المرائي كهذا الحجر الناعم الأملس حين يصيبه المطر، وعليه طبقة من التراب يزيحها المطر، ويبقى هو صلدا ناعما لا يحتفظ بشيء، ولا ينبت عليه شيء.
وهذا المثل يجسد لنا خيبة سعي المرائي، وأنها مغفل، سعى واجتهد فانتفع الناس بسعيه، وتعدى خيره إلى غيره، وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب.
ثم يذكر الحق سبحانه المقابل :﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير ٢٦٥ ﴾( البقرة )
فالصدقة ابتغاء وجه الله كالأرض الخصبة حين ينزل عليها المطر، فيأتي نباتها مضاعفا مباركا فيه، فإن لم يكن مطر كفاها الطل لتنبت وتؤتي ثمارها، ولو قال : كمثل جنة لكانت كافية لكنها ﴿ جنة بربوة... ٢٦٥ ﴾( البقرة ) يعني : على مكان مرتفع ليدل على خصوبتها، فكلما كانت الأرض مرتفعة زادت خصوبتها، وخلت من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات.
وهذه الجنة تروى بالمطر يأتيها من أعلى، فيغسل الأوراق والغصون، فتزيد نضارتها وجودتها، والأوراق هي رئة النبات.
والله تعالى يترك لآثار الذات في الناس تذكرة وعبرة، فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به، أو ليخضع عنقه بهذا الجميل، فتكون النتيجة الطبيعية أن ينكر الآخر جميله، بل ويكرهه ويحقد عليه، وهذا جزاء وفاق لمن عمل العمل لغير وجه الله.
وهو معنى قولهم : اتق شر من أحسنت إليه، لماذا ؟ لأنه حين يراك يتذكر ما لك من يد عليه، وما لك من فضل، فيخزى ويشعر بالذلة ؛ لأن وجودك يدك كبرياءه ؛ لذلك يكره وجودك، ويكره أن يراك.
فالحق سبحانه يقول : احذروا أن تبطلوا المعروف بالرياء، أو بالأغراض الدنية ؛ لأن معروفك هذا سينكر، وسينقل ما قدمت، من خير شرا عليك. إذن : عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه الله لا إلى غيره، فإن حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند الله، وكأن ربك – عز وجل- يغار عليك، ويريد أن يحفظ لك الجميل، ويدخره عنده.
وهذا المعنى عبر عنه الشاعر بقوله٥ :
أقول لأصحاب المروءات قولة تريحهم إن أحسنوا وتفضلوا
يسير ذوو الحاجات خلفك خضعا فإن أدركوها خلفوك وهرولوا
فلا تدع المعروف مهما تنكروا فإن ثواب الله أربى وأجزل
وسبق أن ذكرت قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في الجزائر، فأشار لنا لنوصله في طريقنا، فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب، لكنه قبل أن يركب قال( على كام ) ؟. يعني : ثمن توصيله. فقال صاحب السيارة : لله. فقال الرجل ( غلتها يا شيخ ).
لذلك يقول بعض العارفين : إن الذين يريدون بأعمالهم وجه الله هم الذين يغلون أعمالهم، أي : يرفعون قيمتها، ويضاعفون ثوابها.
وقوله تعالى :﴿ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل... ٣٨ ﴾( الروم ) بعد قوله :﴿ ويقدر... ٣٧ ﴾( الروم ) يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مقل، وهذا يدخل في إطار قوله تعالى :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة... ٩ ﴾( الحشر )
وقلنا إن الشارع حكيم، فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إن احتجت، وكأنه يقول لك : اطمئن فقد أمنت لك حياتك، إن أصابك الفقر، أو كنت في يوم من الأيام مسكينا أو ابن سبيل، فكما فعلت سيفعل بك.
وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم، فلو أن المجتمع الإيماني عوضه عن أبيه عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " ٦ لاطمأن كل أب على أولاده إن مات وتركهم ؛ لأنهم في مجتمع يعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين.
والإنسان إن كان آمنا منعما، فإنما ينغص هذه النعمة أنها عرضة لأن تزول، فيريد الله أن يؤمن لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده، وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله الله قضية تأمينية في الكون، ليست في شركات التأمين، إنما في يده سبحانه حيث قال :
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا٩ ﴾( النساء ) فإذا اتقوا الله وقالوا القول السديد، فإن يتيمهم يصادف أناسا يكفلونه، ويخافون عليه، ويتولون أمره.
وسبق أن تعرضنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر- عليه السلام- ببنائه مع أنه في قرية أهلها لئام٧ منعوهم حتى الطعام. وقلنا : إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال، ولا يرد سائله
٢ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، فترك اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا" أخرجه البخاري في صحيحه (٤٥٣٩) وكذا مسلم في صحيحه(١٠٣٩) كتاب الزكاة، واللفظ لمسلم..
٣ أخرجه أحمد في مسنده (٢/٣٦٦-٣٧٠)، ومسلم في صحيحه (٢٦٦٤)، وابن ماجه في سننه (٧٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٤ الصفوان: الحجر الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. (لسان العرب –مادة: صفا) والصلد: الأملس الذي لا يصلح للزرع. والوابل: المطر الغزير. (القاموس القويم للقرآن الكريم)..
٥ من شعر الشيخ رحمه الله..
٦ أخرجه البخاري في صحيحه(٦٠٠٥)من حديث سهل بن سعد، وأخرجه مسلم في صحيحه(٢٩٨٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وتمام الحديث: "وقال بإصبعيه السبابة والوسطى " ومعنى السبابة: لأنها يسب بها الشيطان حينئذ. وفي رواية "السباحة" لأنها يسبح بها في الصلاة فيشار بها في التشهد لذلك. قاله ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(١٠/٤٣٦)..
٧ اللئام: جمع لئيم، وهو الدنيء الأصل الشحيح النفس. (لسان العرب-مادة: لأم)..
وما آتيتم من ربا ١ ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون٣٩ }
الحق- سبحانه وتعالى- يعرف أن خلقه يفعلون الخير، ويطلبون الأجر عليه، لكن هذا الطلب قد يضيع إذا راءوا في أعمالهم، وقد يكون الأجر على قدر العمل إذا خلا من الرياء، لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عال، فيأخذ صاحبها الثمن من يد الله سبحانه مضاعفا، وطلب الزيادات يكون في النية.
فالمؤمن مثلا يعلم أنه إذا حيي بتحية فعليه أن يردها بخير منها، فقد يأتي فقير ويقدم لأحد الأغنياء هدية على قدر استطاعته، وفي نيته أن يردها الغنى بما يناسب غناه، إذن : فهو حين أعطى يطمع في الزيادة، وإن كانت غير مشروطة، ويجوز أن يرد الغني على الهدية بأفضل منها، ويجوز ألا يردها أصلا.
فقوله تعالى :﴿ وما آتيتم من ربا... ٣٩ ﴾( الروم ) أي : الزيادة بأي ألوانها عما تعطي، وهذه الزيادة غير مشروطة في عقد، والزيادة تكون في المال، أو بأي وسيلة أخرى فيها نفع ؛ لأنهم قالوا في تعريف الربا : كل قرض جر نفعا فهو ربا٢.
حتى إن الإمام أبا حنيفة كان يجلس في ظل جدار لجاره، فلما طلب منه جاره مالا وأقرضه رآه الجار لا يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس، فسأله عن ذلك فقال : كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم أنه تفضل منك، أما الآن فأخاف أن أجلس فيه حتى لا تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذته منى.
فالمعنى : وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكانت نفعا، أو مالا، أو غير مال، سواء أكانت مشروطة أو غير مشروطة. قالوا : فما حكم الهدايا إن ردت بأحسن منها ؟ وما ذنبي أنا المعطى في ذلك ؟ قالوا : لا شيء فيها بشرط ألا تكون في نيتك الزيادة، وألا تكون هديتك مشروطة، إنما تكون تحببا وتوددا ومعروفا بين الناس، إنما لا تأخذ عليها ثوابا من الله.
وقوله﴿ ليربو في أموال الناس... ٣٩ ﴾( الروم ) في هنا للظرفية، فالمال ظرف، وما تضعه فيه ينقص منه، ويزيد ما عندك﴿ فلا يربو عند الله... ٣٩ ﴾( الروم ) يربو عندك أنت بالزيادة التي تأخذها ممن حييته، أما عند الله فلا يربو.
هكذا قال ابن عباس٣، وإن كان بعض العلماء قال : هي مطلق في الربا الأصل، وهذه مسألة كان يجب أن يشرع لها، لكن رأى ابن عباس أن آية الربا معروفة، وهذه للربا في زيادات التحية والمجاملات بين الناس.
ثم يقول سبحانه :﴿ وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك... ٣٩ ﴾( الروم ) أي : الذين يؤتون الزكاة ويريدون بها وجه الله ﴿ هم المضعفون٣٩ ﴾( الروم ) ليست من الإضعاف، إنما من الأضعاف، فالزكاة أضعاف بالفتح كما في قوله :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له.... ١١ ﴾( الحديد ) أما الربا فإضعاف بالكسر.
وهذه المسألة وقف عندها بعض المستشرقين الذين يحبون أن يستدركوا على كلام الله، قالوا : في القرآن آيات تصادم الحديث النبوي، فالقرآن يقول :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعف له... ١١ ﴾( الحديد )
إذن : القرض الحسن يضاعف به الله الثواب، وعندكم أن الحسنة بعشر أمثالها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مكتوب على باب الجنة : الحسنة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر " ٤ فلو أن القرض الحسن يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فهو بعشرين لا بثمانية عشر.
فقلنا له : لو تصدقت بدولار مثلا فقد عملت حسنة تضاعف لك إلى عشر، لكن أرد إليك دولارك الذي تصدقت به ؟ لا، إذن حقيقة الأمر أنك أخذت تسعة تضاعف إلى ثمانية عشر.
قالوا : فلماذا زاد ثواب القرض ؟ نقول : لأن المتصدق حين يتصدق ينقطع أمله فيما قدم، لكن المقرض لا يزال معلق البال في القرض ينتظر رده، فكلما صبر عليه أخذ أجرا، ثم أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما المتصدق عليه فقد يقبل الصدقة وهو غير محتاج إليها، وربما كان ممن يكنزون المال.
إذن : فالحق سبحانه يريد أن ينمي القرض لماذا ؟ قالوا : لأن الله يريد أن تسير حركة الحياة، وأن تتكامل، وأنت تعتز بمالك وتخاف عليه وتريد له النماء، وسوف تجد هذا كله في القرض، فاجعله قرضا، فهو الباب الذي فتحه الله لك للزيادة وللثواب.
ثم إن الله تعالى احترم ملكيتك لمالك، وحرص على حمايته لك، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه... ٢٨٢ ﴾( البقرة )
فالله يحفظ عليك مالك لتهدأ بالا من ناحيته، ومع ذلك يترك مجالا لأريحية المعطي ومروءته ﴿ فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه... ٢٨٣ ﴾( البقرة )
وبهذه الفلسفة الإيمانية يدور المال وتسير به حركة الحياة، بحيث يضمن لصاحب المال ماله، لأنه محب له حريص عليه، ويضمن لمن لا مال له أن يتحرك من مال الغير، فإذا كانت هناك أمانة أداء، فكل صاحب أمانة عليه أن يؤديها لمستحقها.
فإن اختلت هذه الموازين، وماطل الفقير الغني، وضن عليه أن يرد إليه حقه، فقد فسد حال المجتمع وانهارت فيه هذه القيم، وساعتها لا نلوم القادر على العطاء إن أمسك ماله عن المحتاجين للقرض ولم لا ؟ والناس يأكلون الحقوق، وبذلك تتوقف حركة الحياة ويتراجع المجتمع عن مسايرة حركة التقدم.
فإذا كان الربا غير المشروط، وهو الربا في الهدايا والمجاملات والتحية بين الناس جعله الله للمروءات بين الناس، لا يثيب عليه ولا يعاقب، وقال عنه﴿ فلا يربو عند الله... ٣٩ ﴾( الروم )
أما الربا المشروط فقد وقف معه وقفة حازمة، وشرع له عقابا، وجعل هذا العقاب من جنس ما يضاد غرض الذي رابى، فأنت ترابى لتزيد من مالك، فيقابلك الله بالنقصان﴿ يمحق الله الربا.... ٢٧٦ ﴾( البقرة ) لماذا ؟
قالوا : لأن المعطى غني واجد، لديه فائض من المال يعطي منه، أما الآخذ فمحتاج، فكيف نطلب من المحتاج أن يزيد في مال الواجد غير المحتاج ؟ وكيف تكون نظرة المحتاج إليك حين يعلم أن عندك مالا يزيد عن حاجتك، ومع ذلك ترفض أن تقرضه القرض الحسن، بل تشترط عليه الزيادة، فتأخذ الزيادة منه وهو محتاج ؟
ثم افرض أنني أخذت هذا القرض لأثمره وأنميه فخسر، أليس كافيا أن أخسر أنا عملي، وأن يضيع مجهودي ؟ أمن العدل أن أخسر عملي، ثم أكون ضامنا للزيادة أيضا ؟ هذه ليست من العدالة ؛ لأن شرط العقد أن يحمي مصلحة الطرفين، أما عقد الربا فلا يحمى إلا مصلحة الدائن.
ونحن نرى حتى التشريعات الوضعية في الاقتصاد إذا أعطى البنك مالا لشخص لعمل مشروع مثلا ثم خسر وأرادوا تسوية حالته، أول شيء في إجراءاتهم أن يسقطوا عنه الفوائد.
وهذا يوافق شرع الله في قوله تعالى :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون٢٧٩ ﴾( البقرة ) ( لا تظلمون ) بمعنى : أن نرد إليكم رءوس أموالكم ؛ ( ولا تظلمون )أي : لا نظلمك من ناحية أخرى، فنقول لك :
إن أردت أن تتوب فرد ما أخذته بالربا بأثر رجعي ؛ لأن ما أخذته قد صرف وتصعب إعادته، وبذلك نراعي مصلحة الدائن حين نعيد إليه رأس المال، ومصلحة المدين، فلا نكلفه رد ما لا يقدر على رده.
وحين نتأمل هذه المسألة : الدول أقوى أم الأفراد ؟ الدول، أرأيتم دولة اقترضت مالا من دولة أخرى، ثم استطاعت أن تسدد فوائد هذا الدين فضلا عن أصل الدين ؟ كذلك الأفراد الأقوياء الذين يأخذون القروض، ثم لا يسددون مجرد الفوائد، ولا يستطيعون جدولتها ولا تسوية حالتهم، فيقعون في خصومات ومشاكل.
شيء آخر، هب أن رجلا لديه مثلا ألف جنيه ورجل لا عند له، صاحب الألف يستطيع أن يديرها، وأن يعيش منها، أما الآخر الذي لا يملك شيئا فيقترض ليعيش مثل صاحبه، فإن قلت له : الألف قرضا بمائة جنيه، فمن أين يوفر هذه المائة ؟
إن أخذها من عائد المال يخسر، وإن أخذها من السلعة بأن يقلل من الجودة أو من العناصر الفعالة في السلعة، أو في التغليف، جاءت السلعة أقل من مثيلاتها وبارت. إذن : لا بد أن يتحملها المستهلك، وهذا إضرار به، وهو ليس طرفا في العقد، إذن : العقد باطل.
وحين نقول : إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان يجب أن نفهم هذه القضية جيدا، وإياك أن تقول : إن الإسلام لا يصلح في زمان كذا، أو في مكان كذا.
والآن نسمع البعض ينصرف عن منهج الإسلام ويقول لك﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... ٢٨٦ ﴾( البقرة ) أي : ليس في وسعه الآن تنفيذ شرع الله. لكن نقول له : من الذي يحدد الوسع ؟ أنت أم المشرع سبحانه ؟
ما دام الله تعالى قد كلف، فاعلم أن التكليف في وسعك، فخذ الوسع من التكليف، لا أن تقدر أنت الوسع وتنسى ما كلفك الله به، لذلك ترى أن الله تعالى إذا ضاق الوسع يخفف عنك دون أن تطلب أنت التخفيف، كما في صلاة وصوم المريض والمسافر... الخ وكما في التيمم إن تعذر استعمال الماء.
فلا معنى لأن نقول : عن تعاليم الدين لا تناسب العصر، إذن : اجعل العصر هو المشرع، وانصرف عن تشريع السماء إلى ما يحتمله العصر.
لذلك قلنا : إن الحق سبحانه حينما يلقى تكاليفه يقول :﴿ قل تعالوا... ١٥١ ﴾( الأنعام ) فمعنى تعالوا : ارتفعوا عن مستوى أهواء البشر، واعلوا إلى تكاليف الله، فإن هبطت بالتكاليف إلى مستواك، وقلت ظروف العصر تحتم علي كذا وكذا فقد أخضعت منطق السماء لمنطق الأرض، وما جاء منطق السماء إلا ليعلو بك.
فإن نظرنا إلى مواقف العلماء من مسألة الربا، فمنهم من يحلل، ومنهم من يحرم وهم الكثرة، وهب أنهم متساوون من يحرم ومن يحلل، فما حكم الله فيما تساوت فيه الاجتهادات ؟
النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لنا هذه القضية في قوله : " الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه " ٥.
فهل قال رسول الله : فمن فعل الشبهات أم : فمن ترك الشبهات ؟ إذن : من وقع في الشبهات لم يستبرئ، لا لدينه ولا لعرضه، وهل يرضى أحد أن يوصف هذا الوصف ؟ وعجيب أن نسمع من يقول : وما علاقة العرض بهذه المسألة ؟ نقول : والله حتى غير المؤمن بدين يستنكف أن يقال عنه أنه مراب، عرضه لا يقبلها فضلا عن دينه.
لذلك ؛ فالماكرون الذين يريدون أن يغلوها، ويريدون أن يعيشوا على دماء الناس لا يدرون أن النفعية هي القانون الذي يحكم الله به خلقه، فيجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها، لذلك يقول اليهود : كيف تحرمون الربا والله يعاملكم به ؟
نعم، الحق- سبحانه وتعالى- يعاملنا بالربا، ويعطينا بالزيادة ؛ لأن هذه الزيادة لا تنقص مما عنده سبحانه، أما الزيادة من الناس ومن المحتاجين فإنها ترهقهم وتزيدهم فقرا وحاجة.
ثم دعك من هذا كله، وتأمل في المحيط الذي تعيش فيه، ففي كل بلد أناس يحبون الربا ويتعاملون به، أرأيتم مرابيا مات بخير ؟ أمات مراب وثروته كاملة ؟ لا، لأن الله تعالى لم يكن ليقول﴿ يمحق الله الربا... ٢٧٦ ﴾( البقرة ) ثم يترك مرابيا ينمو ماله، ويسلم له إلى أن يموت، فإن اغتنى لحين، فإنما غناه كيد فيه، ومبالغة في إيذائه، كما جاء في الأثر " إذا غضب الله على إنسان رزقه من الحرام، فإن اشتد غضبه عليه بارك له فيه ".
واقرأ قول
٢ قال الشوكاني في نيل الأوطار (٥/٢٣٢):" مما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ "كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا" ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبى ابن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم. ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي عليه السلام بلفظ "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جو منفعة" وفي رواية" كل قرض جر منفعة فهو ربا" وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك. قال عمر بن زيد في المغنى: لم يصح فيه شيء..
٣ قال ابن عباس وابن جبير وطاوس ومجاهد: هذه آية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية: وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى. ذكره القرطبي في تفسيره (٧/٥٢٩٣)..
٤ أخرجه ابن ماجه في مسنده (٢٤٣١) من حديث أنس بن مالك قال قال صلى الله عليه وسلم "رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده. والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة"..
٥ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٢٠٥١)، وكذا مسلم في صححه (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه..
﴿ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون٤٠ ﴾
سبق أن قلنا : إن قضية الخلق مسلم بها ؛ لأنها قضية لم يدعها أحد لنفسه مع كثرة المتبجحين بالكفر والإلحاد ؛ لذلك لما ادعاها النمروذ الذي حاج إبراهيم في ربه فقال : أنا أحيى وأميت، فعلم إبراهيم عليه السلام أنه يريد اللجاج والسفسطة التي لا طائل منها، وإلا فكيف يكون الأمر بقتل واحد إماتة، والأمر بترك الآخر والعفو عنه إحياء ؟
ثم ما بال الذين خلقوا قبلك وميلادهم قبل ميلادك ؟ إذن : أنت لم تخلق ولم تحى أحدا، وسبق أن بينا الفرق بين القتل والموت مع أنهما يشتركان في إنهاء الحياة وإزهاق الروح، لكن الموت يكون بإزهاق الروح أولا، يتبعه نقض البنية وتحطم الجسم.
أما القتل فينقض البنية أولا نقضا يترتب عليه إزهاق الروح فالروح لا تقيم إلا في بنية سليمة، ومثلنا لذلك بلمبة الكهرباء حين تحرق فينطفئ نورها، فهل يعني ذلك أن التيار انقطع عنها ؟ لا بل هو موجود لكنه يحتاج لبنية سليمة بدليل أننا إذا استبدلنا اللمبة تضيء.
والحق- سبحانه وتعالى- يبين لنا هذا الفرق في قوله سبحانه :﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم... ١٤٤ ﴾( آل عمران ) إذن : فالنمروذ لا يحيى، بل يبقى على الحياة، ولا يميت بل يقتل ويزهق الروح.
وكان بمقدور إبراهيم عليه السلام أن يرد عليه هذه الحجة، وأن يكشف تزييفه، لكنه أراد أن يأخذه إلى ميدان آخر لا يستطيع التلفيق فيه ولا التمحك، فقال له :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر... ٢٥٨ ﴾( البقرة )
كذلك مسألة الرزق فهي مسلمة لله لم يدعها أحد :﴿ الله الذي خلقكم ثم رزقكم... ٤٠ ﴾( الروم )
بدليل أن الله تعالى جعل بعض المناطق جدباء، يجوع فيها القادر والعاجز، ويجوع فيها ذو المال وغير ذي المال، ولو كان هناك رازق غير الله فليحي هذه المناطق الجدباء.
وقوله تعالى :﴿ ثم يميتكم ثم يحييكم... ٤٠ ﴾( الروم ) ولم يقل : يقتلكم﴿ هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء... ٤٠ ﴾( الروم )أي : اسألهم هذا السؤال، ودعهم يجيبون هم عليه : أتستطيع الأصنام التي تشركونها مع الله أن تفعل شيئا من الخلق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة ؟
أفي قدرتها شيء من ذلك وأنتم الذين تصنعونها وتنحتون حجارتها بأيديكم، وتصورونها كما تشاؤون، فإذا هبت عاصفة أطاحت بها وربما كسرت ذراع أحد الأصنام فتجتمعون لإقامتها وإصلاحها ؟ فأين عقولكم ؟ وها هذه الخيبة التي أصابتكم ؟
لذلك يقول سبحانه عنهم :﴿ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون٢٠ ﴾( النحل )
ويقول سبحانه :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.... ٧٣ ﴾( الحج ) بل وأكثر من ذلك﴿ إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب٧٣ ﴾( الحج )
بالله، أيستطيع أحد أن يسترد ما أخذته منه الذبابة ؟
ونلحظ في الآية تكرار( من ) وهي للتبعيض :﴿ هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء... ٤٠ ﴾( الروم ) والمعنى : لا يستطيع أحد من شركائكم أن يفعل شيئا ولو هينا من الخلق، أو الرزق، أو الإحياء، أو الإماتة.
لذلك يجب أن تعلقوا على هذه القضايا من الله بقول واحد ﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون٤٠ ﴾( الروم ) لا تعليق إلا هذا.
لذلك لما تكلم سيدنا إبراهيم عن الأصنام قال :﴿ فإنهم عدو... ٧٧ ﴾( الشعراء ) أي : أنتم وما تعبدون من دون الله ؛ لأنهم كانوا يشركون آلهتهم مع الله، فالله سبحانه داخل في هذه الشركة ؛ لذلك استثناه ربه﴿ إلا رب العالمين ٧٧ الذي خلقني فهو يهدين٧٨ ﴾( الشعراء )
وتلحظ هنا في قوله﴿ الذي خلقني... ٧٨ ﴾( الشعراء ) أنه لم يؤكدها بشيء، ولم يذكر قبل الخلق الضمير( هو ) ؛ لأن مسألة الخلق كما قلنا لم يدعها أحد، أما في الهداية وهي مجال ادعاء، فقال ( فهو ) أي : الحق سبحانه يقصر الهداية على الله﴿ فهو يهدين٧٨ ﴾( الشعراء )
وفي هذا إشارة إلى أن القانون الذي ينظم حياتي والمنهج الذي يهديني قانون ربي لا آخذه من أحد سواه، وكثيرا ما نرى من يدعى الهداية ويقول : إنني وضعت قانونا يسعد حياة الناس، ويفعل كذا وكذا، سمعنا هذه النغمة مرة من الرأسمالية، ومرة من الاشتراكية ومن الشيوعية... الخ.
إذن : هذا مجال ادعاء واسع، فقيده إبراهيم – عليه السلام- وقصره على الله، حيث لا منهج إلا منهج الله، ولا قانون يحكمنا إلا قانون ربنا، كما نقول في العامية ( مفيش إلا هو )
كذلك في مسألة الإطعام قال :﴿ والذي هو يطعمني... ٧٩ ﴾( الشعراء ) فاستخدم القصر هنا بذكر الاسم الموصول( الذي ) ثم الضمير المفرد الغائب( هو ) ؛ ليؤكد أن الذي يطعمه إنما هو الله ؛ لأن الإنسان قد يظن أن أباه هو الذي يطعمه، أو أن أمه هي التي تطعمه ؛ لأنها تعد له طعامه، فهما السببان الظاهران في هذه المسألة، فاحتاج الأمر إلى أكثر من مؤكد.
ثم يقول عليه السلام :﴿ والذي يميتني ثم يحيين٨١ ﴾( الشعراء ) هكذا دون توكيد ؛ لأن الموت والحياة مسألتان مسلمتان لله مفروغ منهما، وكذلك :﴿ الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين٨٢ ﴾( الشعراء ) وهذه أيضا لا تكون إلا لله تعالى.
إذن : ما كان للغير فيه شبهة عمل يؤكدها ويخصها لله تعالى، أما الأخرى التي لا دخل لغير الله فيها فيسوقها مطلقة دون اختصاص.
فالتعليق في هذا الأمر العجيب لا يكون إلا بقولنا :﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون٤٠ ﴾( الروم ) أي : تنزيها له عن الشركة. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الله تعالى قال : لا إله إلا أنا، ولم يقم لهذه القضية منازع، ولم يدعها أحد لنفسه.
إذن : فهي مسلم بها، وإلا فإن كان هناك إله آخر فأين هو ؟ ولماذا لم يدافع عن حقه في الألوهية ؟ إن كان لا يدري فهو غافل، وإن كان يدري ولم يعارض فهو جبان، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلها.
لذلك ربنا حكمها بقضية واحدة، فقال :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا٤٢ ﴾( الإسراء )
﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون٤١ ﴾
ظهر : بان ووضح. والظهور : أن يبين شيء موجود بالفعل لكنا لا نراه، وما دام الحق سبحانه قال :﴿ ظهر الفساد.... ٤١ ﴾( الروم ) فلا بد أن الفساد كان موجودا، لكن أصحاب الفساد عموه وجنوه إلى أن فقس وفرخ في المجتمع.
والفساد لا يظهر إنما يظهر أثره، أتذكرون الزلزال الذي حدث والذي كشف الفساد والغش والتدليس بين المقاول والمهندس، وكانت المباني قائمة والفساد مستترا إما لغفلتنا عنه، أو لتواطئنا معه، أي لعدم اهتمامنا بالأشياء إلى أن طمت المسائل، ففضح الله الأرض بالزلزال، ليكشف ما عندنا من فساد.
فإذا ازداد العش، وانتشر وفاق الاحتمال لا بد أن يظهره الله للناس، فلم يعد أحد قادرا على أن يقف في وجه الفساد، أو يمنعه ؛ لذلك يتدخل الحق سبحانه، ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما عملت أيديهم.
وتأتي ظهر بمعنى " الغلبة " كما في قوله تعالى :﴿ فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ١٤ ﴾( الصف ) أي : غالبين. وفي سورة التحريم :﴿ وإن تظاهرا عليه... ٤ ﴾( التحريم )
وبمعنى " العلو " في قوله تعالى :﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا٩٧ ﴾( الكهف )
فالمعنى﴿ ظهر الفساد... ٤١ ﴾( الروم ) أي : غلب الصلاح وعلا عليه، والكون خلقه الله تعالى على هيئة الصلاح، وأعده لاستقبال الإنسان إعدادا رائعا، وللتأكد من صدق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفلاكه وأجوائه، فلن ترى فسادا إلا فيما تتناوله يد الإنسان.
أما ما لا تتناوله يد الإنسان، فلا ترى فيه خللا، لأن الله خلقه منسجم الأجناس ومنسجم التكوين :﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون٤٠ ﴾( يس )
فهل خلقنا الحق سبحانه وخلق اختيارنا لنفسد في الكون ؟
لا، إنما هو ابتلاء الاختيار حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانونا لحركتك بافعل ولا تفعل، وما لم أقل فيه( افعل ) أو ( لا تفعل ) فأنت حر فيه، فلا يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون، أما أنا فقد قلت افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله، وقلت لا تفعل في الذي يحصل ضرر في فعله.
فالفساد يأتي حين تدخل يدك في شيء وأنت تطرح قانون الله في افعل ولا تفعل، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإن علا تيار الفساد وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس.
وعندها ينبهنا الحق سبحانه بالأحداث تطرقنا وتقول لنا : انظروا إلى من خالف منهج الله ماذا حدث له ؛ لذلك في أعقاب الأحداث نزداد عشقا لله، وحبا لطاعته، وترى الناس ( تمشي على العجين متلخبطه )، لكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من الإهمال والغفلة، على حد قول الشاعر :
تروعنا الجنائز مقبلات***ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلة لمغار ذئب***فلما غاب عادت راتعات
فالحق يقول :﴿ ظهر الفساد... ٤١ ﴾( الروم ) أي : غلب على قانون الصلاح الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون، الذي لو نالته يد الإنسان لفسد هو الآخر، كما قال سبحانه :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض... ٧١ ﴾( المؤمنون )
فظواهر الكون أشياء وقضايا لكل العامة، ومن الحكمة ألا تنالها يد الإنسان ؛ لأن الله تعالى يريد للكون البقاء، ولم يأت أوان انتهائه، لذلك الحق سبحانه يجعل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى حين، إلى أن يصل إلى درجة التشبع، فتتفجر الأوضاع.
فقوله :﴿ ظهر الفساد في البر... ٤١ ﴾( الروم ) نتيجة لدعوته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كلمة( ظهر ) تدل على أن شيئا وقع، فكأنه يقول لنا : إن كررتم الفساد والغفلة تكرر ظهور الفساد، فهو يعطينا ملخصا بما حدث بالفعل من عداوتهم لرسول الله، ومقاطعته وعزله وإغراء السفهاء منهم للتحرش به، ثم عداوة أصحابه وإجبارهم على الهجرة إلى الحبشة حتى لا يستقر لهم قرار بمكة.
لذلك دعا عليهم رسول الله : " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " ١ فأصابهم الجدب والقحط، حتى روي أنهم كانوا يذهبون للبحر لصيد السمك، فيبتعد عنهم ولا يستقيم لهم فيعودون كما أتوا.
وهذا معنى﴿ ظهر الفساد في البر والبحر.... ٤١ ﴾ ( الروم )
ثم يوضح الحق سبحانه سبب هذا الفساد :﴿ بما كسبت أيدي الناس... ٤١ ﴾( الروم ) فتلحظ هنا أن الحق سبحانه لما يذكر الرحمة لا يذكر علتها، لكن يذكر علة الفساد ؛ لأن الرحمة من الله سبحانه أولا وأخيرا تفضل، أما الأخذ والعذاب فبعدله تعالى ؛ لذلك يبين لك أنك فعلت كذا، وتستحق كذا، فالعلة واضحة.
هناك قضية أخرى أحب أو أوضحها لكم، وهي أن الحق سبحانه يعامل خلقه معاملته في الجزاء، فالله يقول :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها... ١٦٠ ﴾( الأنعام )
إذن : فالحسنة الواحدة تستر عشر سيئات، وكذلك في جسم الإنسان، فيقول بعض علماء وظائف الأعضاء والتشريح : إن الكلية بها مليون خلية يعمل منها العشر بالتبادل، فمجموعة تعمل، والباقي يرتاح وهكذا. فانظر كم ترتاح الخلية حتى يأتي عليها الدور في العمل.
فكأن ربنا – سبحانه وتعالى- خلق لها العشر يقول مقام المليون، لذلك قالوا لو أن في أحد الدواوين عشرة موظفين، منهم واحد محسن، يستر إساءة الباقين، وكثيرا ما تلاحظ هذه الظاهرة في دواوين الحكومة، فترى غالبية الموظفين منشغلين : هذا يقرأ الجرائد، وهذا يشرب الشاي، وآخر لم يأت أصلا.
وخلف كومة من الملفات تجد موظفا نحيلا غارقا في العمل، يقصده الجميع، ويتحمل هو تقصير الآخرين، ويؤدى عنهم، وبه تسير دفة الأمور، لكن إن فقدنا هذا أيضا، فلا بد أن تأتي﴿ ظهر الفساد... ٤١ ﴾( الروم ) إذن : إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود.
وما دام الحق سبحانه قال :﴿ بما كسبت أيدي الناس... ٤١ ﴾( الروم ) فلا بد أن الفساد جاء من ناحيتهم، وبالله هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلا ؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبت أيدي الناس، أما حين نذهب إلى الخلاء حيث لا يوجد الإنسان، نجد الهواء نقيا كما خلقه الله.
الحق سبحانه تكفل لنا بالغذاء فقال :﴿ وقدر فيها أقواتها... ١٠ ﴾( فصلت ) لكنا نشتكي أزمة طعام، لماذا ؟ لأن الطعام يحتاج إلى عمل، ونحن تكاسلنا، وأسأنا التصرف في الكون، إما بالكسل والخمول عن استخراج خيرات الأرض وأقواتها، وإما بالأنانية حيث يضن الواجد على غير الواجد.
وقد قرأنا مثلا أن أمريكا تكسب اللبن في البحر، وتعدم الكثير من المحصولات، وفي العالم أناس يموتون جوعا، إذن : هذه أنانية، أما التكاسل فقد حدث منا في الماضي.
وانظر الآن إلى صحرائنا التي كانت جرداء قاحلة، كيف اخضرت الآن، وصارت مصدرا للخيرات لما اهتممنا بها ويسرنا ملكيتها للناس، فإن ضنت الأرض في منطقة ما فقد جعل الله لنا سعة في غيرها، فالخالق سبحانه لم يجعل الأرض لجنس ولا لوطن، إنما جعلها مشاعا لخلق الله جميعا.
واقرأ قوله تعالى :﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها... ٩٧ ﴾( النساء )
ولذلك قلت في هيئة الأمم : إن في القرآن آية واحدة، لو أخذ العالم بها لضمنت له الرخاء والاستقرار والأمان، إنها قوله تعالى :﴿ والأرض وضعها للأنام١٠ ﴾( الرحمن ) فالأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، لكن الواقع خلاف ذلك، فقد وضعوا للأرض حدودا، وأقاموا عليها الحواجز والأسوار، فإن أردت التنقل من قطر إلى آخر تجشمت في سبيل ذلك كثيرا من المشاق في إجراءات وتأشيرات... إلخ.
وكانت نتيجة ذلك أن يوجد في الكون رجال ازدحموا بلا أرض، وفي موضع آخر أرض بلا رجال، ولو حدث التكامل بين هذه وتلك لاستقامت الأمور.
إذن : الذين وضعوا الحدود والحواجز في أرض الله أخذوها لأنفسهم، فلم تعد أرض الله الواسعة التي تستقبل خلق الله من أي مكان آخر، إنما جعلوها أرضهم، وأخضعوها لقوانينهم هم، وتعجب حين تتأمل حدود الدول على الخريطة، فهي متداخلة، فترى جزءا من هذه الدول يدخل في نطاق دولة أخرى، على شكل مثلث مثلا، أو تمتد أرض دولة في دولة أخرى على شكل لسان أو مناطق متعرجة، فما دمتم قد وضعتم بينكم حدودا، فلماذا لا تجعلونها مستقيمة ؟
وكان واضعي هذه الحدود أرادوها بؤرا للخلاف بين الدول، ولا يخلو هذا التقسيم من الهوى والعصبيات القبلية والجنسية والقومية والدينية، لكن لو أخذنا بقول ربنا :﴿ والأرض وضعها للأنام١٠ ﴾( الرحمن ) لما عانينا كل هذه المعاناة.
وقوله تعالى :﴿ كسبت... ٤١ ﴾( الروم ) عندنا : كسب واكتسب، الغالب أن تكون كسب للحسنة، واكتسب للسيئة ؛ لأن الحسنة تأتي من المؤمن طبيعة بدون تكلف أو افتعال، فدل عليها بالفعل المجرد ( كسب ).
أما السيئة، فعلى خلاف الطبيعة، فتحتاج منك إلى تكلف وافتعال، فدل عليها بالفعل المزيد الدال على الافتعال( اكتسب ).
ألا ترى أنك في بيتك تنظر إلى زوجتك وبناتك كما تشاء، أما الأجنبية فأنك تختلس النظرات إليها وتحتال لذلك ؟ فكل حركاتك مفتعلة، لماذا ؟ لأنك تفعل شيئا محرما وممنوعا، أما الخير فتصنعه تلقائيا وطبيعيا بلا تكلف.
كما أن الحسنة لا تحتاج منك إلى مجهود، أما السيئة فتحتاج إلى أن تجند لها كل قواك، وأن تحتاط، كالذي يسرق مثلا، فيحتاج إلى مجهود، وإلى محاربة لجوارحه ؛ لأنها على الحقيقة تأبى ما يفعل.
ومع ذلك نلحظ قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار... ٨١ ﴾( البقرة )
فجعل السيئة كسبا لا اكتساب. قالوا : لأن السيئة هنا صارت عادة عنده، وسهلت عليه حتى صارت أمرا طبيعيا يفعله ولا يبالي كالذي يفعل الحسنة، وهذا النوع والعياذ بالله أحب السيئة وعشقها، حتى أصبح يتباهى بها ولا يسترها ويتبجح بفعلها.
وهذا نسميه ( فاقد )، فقد أصبح الشر والفساد حرفة له، فلا يتأثر به، ولا يخجل منه كالذي يقبل الرشوة، ويفرح لاستقبالها، فإن سألته قال لك : وماذا فيها ؟ أنا لا أسرق الناس.
وقوله تعالى :﴿ ليذيقهم بعض الذي عملوا... ٤١ ﴾( الروم ) الإذاقة هنا عقوبة، لكنها عقوبة الإصلاح كما تعاقب وتضر به حرصا عليه، وسبق أن قلنا : إنه لا ينبغي أن نفصل الحدث عن فاعله، فقد يعتدي ولد على ولدك، فيجرحه فتذهب به للطبيب، فيجرحه جرحا أبلغ، لكن هذا جرح المعتدي، وهذا جرح المداوي.
وحين يذيق الله الإنسان بعض ما قدمت يداه يوقظه من غفلته، وينبه فيه الفطرة الإيمانية، فيحتاط للأمر ولا يهمل ولا يقصر، وتظل عنده هذه اليقظة الإيمانية بمقدار وعيه الإيماني، فواحد يظل يقظا شهرا، ثم يعود إلى ما كان عليه، وآخر يظل سنة، وآخر يظل عمره كله لا تنتابه غفلة.
وقد أذاق الله أهل مكة عاقبة كفرهم حتى جاعوا ولم يجدوا ما يأكلونه إلا دم الإبل المخلوط بوبرها، وهو العلهز.
وقوله :﴿ لعلهم يرجعون ٤١ ﴾( الروم ) لأن الكلام هنا في الدنيا، وهي ليست دار جزاء، فالحق يذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه سبحانه، ويتوبوا ويعودوا إلى حظيرة الإيمان ؛ لأنهم عبيده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها.
والحق سبحانه ساعة يقول﴿ ظهر الفساد... ٤١ ﴾( الروم ) أي : على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أن الرسل إنما جاءوا لإنقاذ البشرية من هذا الفساد
﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين٤٢ ﴾
السير : الانتقال من حيز مكاني إلى حيز آخر، وسبق أن قلنا : إن النظرة السطحية في ظاهر الأمر أن السير يكون على الأرض لا فيها ؛ لأننا نسكن على الأرض لا فيها، لكن الحق سبحانه يبصرنا بقوله :﴿ قل سيروا في الأرض... ٤٢ ﴾( الروم ) أن الأرض ليست هي اليابسة والماء على سطح الكرة الأرضية، أما الأرض فتشمل غلافها الجوى لذلك يدور معها وهو إكسير الحياة فيها ؛ فلا حياة لها إلا به.
إذن : فهؤلاء الأرض من الأرض، وهو أهم الأقوات للأحياء عليها، فحين يقول تعالى :﴿ وقدر فيها أقواتها.... ١٠ ﴾( فصلت ) فالهواء داخل فيها، لذلك قال﴿ قل سيروا في الأرض... ٤٢ ﴾ ( الروم )
وقلنا : لو أنك استقرأت أجناس الوجود لوجدت أنك الجنس الأعلى في الكون، وكل الأجناس تحتك تخدمك، فأنت تنتفع بالحيوان وبالنبات وبالجماد، فأدنى الأجناس في الكون وهو الجماد له مهمة يؤديها.
فأنت أيها الإنسان الذي كرمك الله على كل أجناس الوجود إذا لم تبحث لك مهمة تؤديها في الحياة، ودور تقوم به، فأنت أقل منزلة من أدنى الأجناس وهو الجماد، إذا لم تبحث بعقلك عن شيء ترتبط به يناسب سيادتك على من دونك، فأنت أتفه من الحجر ؛ لأن الحجر له مهمة يؤديها، وأنت لا مهمة لك.
لكن هذا الجنس الأدنى إن أراد سبحانه أعطاه عزة فوق السيد المخدوم وهو الإنسان، ففي فرض الحج يسن لك أن تقبل هذا الحجر، وتسعى جاهدا لكي تقبله، وتأمل الإنسان- وهو سيد هذا الوجود- وهو يحاول أن يقبل الحجر، ويغضب إن لم يتمكن من ذلك.
وتأمل الرد من دولة الأحجار على من عبدها من دون الله١
عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين بالأسحار
تخذوا صمتنا علينا دليلا فغدونا لهم وقود النار
قد تجنوا جهلا كما قد تجنوه على ابن مريم والحواري
للمغالي جزاؤه والمغالى فيه تنجيه رحمة الغفار
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فانظروا كيف كان عاقبة الدين من قبل... ٤٢ ﴾( الروم ) فالسير في الأرض يكون إما للسياحة والتأمل في آيات الله في كونه، لذلك يستخدم فيها الفاء﴿ فانظروا... ٤٢ ﴾( الروم ) أو يسير في الأرض في الأرض لطلب الرزق.
وفي آية أخرى :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا... ١١ ﴾( الأنعام ) والمعنى : سيروا في الأرض للاستثمار، وطلب القوت، وقضاء المصالح، لكن لا يفوتكم النظر والتأمل في آيات الله وفي مخلوقاته لتأخذوا منها العبرة والعظة.
ومعنى :﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبل... ٤٢ ﴾( الروم ) أي : الذين ظهر الفساد بينهم، فأذاقهم الله الألم بما كسبت أيديهم، فهذه ليست عندك وحدك، إنما حدثت في الأمم السابقة، كما قال سبحانه :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين١٣٧ ﴾( الصافات )
فهناك مدائن صالح والأحقاف وعاد وثمود والفراعنة.... إلخ انظر ما حل بهم من الحضارة والنضارة، بعد ما توصلوا إليه من علم التحنيط الذي لم يعرف العلم أسراره حتى الآن، ويضعون مع جثث الموتى حبوب القمح أو الشعير، فتظل على حالها، بحيث إذا زرعت بعد آلاف السنين تنبت.
إنها قدرة علمية فائقة، ومع ذلك ما استطاعت هذه الحضارة أن تحمي نفسها من الاندثار، وإذا كان القرآن قد قال عن الحضارة الفرعونية﴿ وفرعون ذي الأوتاد١٠ ﴾( الفجر ) فقد قال عن إرم﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد٨ ﴾( الفجر )
فأي حضارة هذه ؟ وأين هي الآن ؟ طمرتها رمال الأحقاف٢، ودفنتها تحت أطباق الثرى، ولا تعجب من ذلك، ففي هذه المنطقة إن هبت عاصفة واحدة، فإنها تغطي قافلة كاملة بجمالها ورجالها تحت الأرض، فما بالك بالعواصف منذ قرون طوال ؛ لذلك نجد كل الآثار يتم التنقيب عنها حفرا.
إذن : فالحضارات مع عظمها لم تستطع أن تحمي نفسها من الزوال، وهذا دليل على وجود قوة أعلى منها تزيلها وتقضي عليها.
وقوله تعالى :﴿ كان أكثرهم مشركين ٤٢ ﴾( الروم ) أي : أن القليل منهم لم يكن مشركا، قالوا : هذه القلة هم الصبيان والمجانين، ومن ليس له إرادة حرة، وإن أخذت هذه القلة مع الكثرة المشركة، فإن الله إنما أراد بهم خيرا ؛ لأن مثواهم إلى الجنة بغير حساب.
لذلك لما تكلمنا عن موسى والعبد الصالح في سورة الكهف : لما قتل الحضر الغلام تعجب موسى، ففي المرة الأولى خرق السفينة واعتدى على ملك، أما في هذه المرة فقد أزهق روحا ؛ لذلك قال في الأولى﴿ لقد جئت شيئا إمرا٧١ ﴾( الكهف ) أي : عجيبا، أما في الثانية فقال :﴿ لقد جئت شيئا نكرا٧٤ ﴾( الكهف )
ثم بين الخضر الحكمة من قتل الغلام فقال : إن له أبوين صالحين، وفي علم الله تعالى أن سيفسد عليهما دينهما ؛ لأن الفتنة تأتي الإنسان غالبا من الزوجة أو من الولد، كما قال سبحانه :﴿ إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم... ١٤ ﴾( التغابن )لماذا ؟ لأنهما يحملانك على ما لا تطيق، ويضطرانك ربما للسرقة أو للرشوة لتوفر لهما ما يلزمهما، ولأن الفساد يأتي من ناحيتهما قال سبحانه :
﴿ ما اتخذ صاحبة ولا ولدا٣ ﴾( الجن ) يعني : طمئنوا عبادي، فلا أحد يؤثر على إرادتي.
إذن : فالخضر صنع الجميل بالوالدين، حيث أنقذهما من هذا الابن، وصنع أيضا جميلا بالغلام حيث قتله قبل سن التكليف، وجعل مصيره إلى الجنة، وربما لو تركه لكان كافرا بالله عاقا لوالديه، وهذا كله إنما جرى بأمر الله وحكمه :﴿ وما فعلته عن أمري... ٨٢ ﴾( الكهف )
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول لنبيه في هذه المسألة بداية من﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس... ٤١ ﴾( الروم ) ثم إنزال العقاب بهم جزاء ما عملت أيديهم وأجبتك في دعوتك عليهم.
كل ذلك إنما يعني أنني أقوي مركزك، ولن أتخلى عنك، وما دام الأمر كذلك فإياك أن يؤثر فيك مكرهم أو تركن إلى أحد منهم ممن قالوا لك : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك سنة٣، لكن يقول الحق سبحانه :
﴿ فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون٤٣ ﴾.
٢ قال الأزهري: الأحقاف رمال بظاهر بلاد اليمن كانت عاد تنزل بها. (لسان العرب-مادة: حقف).
٣ ذكره الواحدي في أسباب النزول(ص٢٦١) في نزول سورة(الكافرين) أن رهطا من قريش قالوا: يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة..
﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون٧٧ ﴾( غافر ) يعني : من لم تنله عقوبة الدنيا نالته عقوبة الآخرة.
وقال :﴿ فأقم وجهك... ٤٣ ﴾( الروم ) لأن الوجه محل التكريم، وسيد الكائن الإنساني، وموضع العزة فيه، بدليل أن السجود والضراعة لله تعالى تكون بوضع هذا الوجه على الأرض ؛ لذلك حين ترسل شخصا برسالة أو تكلفه أمرا يقضيه برجله، أو بيده، أو بلسانه، أو بأي جارحة من جوارحه تقول له : أرجو أن تبيض وجهي ؛ لأن الوجه هو السيد.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه... ٨٨ ﴾( القصص ) لأنك لا تعرف سمة الناس إلا بوجوههم، ومن أراد أن يتنكر أو يخفي شخصيته يستر مجرد عينيه، فما بالك إن ستر كل وجهه، وأنت لا تعرف الشخص من قفاه، ولا من كفته، ولا من رجله، إنما تعرفه بوجهه، ويقولون : فلان وجيه القوم، أو له وجاهته في القوم، كلها من ناحية الوجه.
وما دام خص الوجه، وهو أشرف شيء فيك، فكل الجوارح مقصودة من باب أولى فهي تابعة للوجه، فالمعنى : أقم يدك فيما أمرك الله أن تفعل ورجلك فيما أمرك الله أن تسعى، وقلبك فيما أمرك الله أن تشغل به، وعينك فيما أمرك الله أن تنظر فيه... الخ.
يعني : انتهز فرصة حياتك ﴿ من قبل أن يأتي يوم... ٤٣ ﴾( الروم ) هو يوم القيامة ﴿ لا مرد له من الله... ٤٣ ﴾( الروم ) المعنى : أن الله حين يأتي به لا يستطيع أحد أن يسترده من الله، أو يأخذه من يده، أو يمنعه أن يأتي به، أو أنه سبحانه إذا قضى الأمر لا يعود ولا يرجع فيه.
فكلمة﴿ من الله... ٤٣ ﴾( الروم ) تعطينا المعنيين، كما في قوله تعالى :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله... ١١ ﴾( الرعد ) فكيف تحفظه المعقبات من أمر الله ؟ قالوا : كونهم معقبات للحفظ أمر صادر من الله أصلا، وبناء على أمره تعالى بالحفظ.
وقوله :﴿ يومئذ.... ٤٣ ﴾( الروم ) يعني : في اليوم الذي لا مرد له من الله﴿ يصدعون٤٣ ﴾( الروم ) أي : هؤلاء الذين تكاتفوا على حربك وعلى عداوتك وإيذائك، وتعصبوا ضدك ﴿ يصدعون٤٣ ﴾( الروم ) أي : ينشقون بعضهم على بعض، ويتفرقون، وقد وردت هذه المسألة في آيات كثيرة.
والتفريق إما إيمان وكفر أي : أشقياء وسعداء، وإما أن يكون التفريق في القوم الذين عاندوا واتبعوا أتباعهم على الشرك، فيتبرأ كل منهم من الآخر، كما قال سبحانه :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا.... ١٦٦ ﴾( البقرة )
ثم قال الحق ليبين لنا ذلك التفريق في الآخرة بعلته، وعلته ما حدث في الدنيا، فالله تعالى لا يظلم أحدا.
﴿ من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون٤٤ ﴾
ما دامت القيامة أمرا لا مرد له من الله، فلننتبه للعواقب، ولنحسب لها حسابا، فمن كفر فعليه كفره، عليه لا له، وهذه قضية تقتضي أن نقول في مقابلها : ومن آمن فله إيمانه.
بعد أن بين الدلائل الواضحة على واحديته في الكون، وأحديته في ذاته سبحانه، وبين الأدلة الكونية بكل صورها برهانا وحجة، وضرب أمثالا وتفصيلا بعد ذلك قال : سأقول لكم أنكم أصبحتم مختارين أي : خلقت فيكم الاختيار في التكليف حتى لا أقهر أحدا على الإيمان بي.
وخلق الاختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدل على أن الله تعالى لا يريد من عباده قوالب تأتمر بأمر القهر، ولكنه يريد أن يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الأحد.
وإلا فكان من الممكن أن يخلقهم جميعا مهتدين، وأن يخلقهم على هيئة لا تتمكن من الكفر، وتسير إلى الطاعة مرغمة، كما قال سبحانه حكاية عن السماء والأرض :﴿ أتينا طائعين١١ ﴾( فصلت ) وذلك يفسر لنا أمانة خلق الاختيار في الناس.
والحق- سبحانه وتعالى- حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.... ٧٢ ﴾( الأحزاب ) والإباء هنا ليس إباء تكبر على مراد الله، إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي، فقالوا : لا لحمل الأمانة ؛ لأننا لا نأمل أنفسنا ولا نضمنها عند الأداء.
والإنسان كذلك ابن أغيار، فقد يحمل الأمانة، ويضمن أداءها في وقت التحمل، لكنه لا يضمن نفسه عند الأداء، وسبق أن مثلنا لذلك بمن يقبل الأمانة، ويرحب بها عند التحمل، ثم تطرأ عليه من أحداث الحياة ما يضطره لأن يمد إلى هذه الأمانة وإن كان في نيته الأداء، لكن يأتي وقته فلا يستطيع، وآخر يقدر هذه المسئولية ويرفض تحمل الأمانة، وهذا هو العاقل الذي يقدر الظروف وتغير الأحوال.
ومعلوم أن الأمانة لا توثق، فإن كتبت وشهد عليها فإنها لم تعد أمانة، فالأمانة إذن مردها لاختيار المؤتمن إن شاء أقر بها، وإن شاء أنكرها.
فالحق سبحانه قال حكاية عن السموات والأرض والجبال﴿ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.... ٧٢ ﴾( الأحزاب ) لأنهم يقدرون مسئوليتها، أما الإنسان فقد تعرض لحملها وقال : عندي عقل أفكر به، وأختار بين البدائل، وسوف أؤدي، فضمن وقت التحمل، لكنه لا يضمن وقت الأداء، فظلم نفسه وجهل حقائق الأمور.
﴿ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ٧٢ ﴾( الأحزاب ) ظلموا لنفسه، جهولا بما يمكن أن يطرأ عليه من الأغيار.
وما دام الإنسان ابن أغيار، فإنه لا يثبت على حال ؛ لذلك قلنا : إذا صعد الإنسان الجبل إلى قمته وهو ابن أغيار فليس أمامه إلا أن ينزل، والعقلاء يخافون أن تتم لهم النعمة ؛ لأنه ليس بعد التمام إلا النقصان، كما قال الشاعر :
إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل تم
فإذا قلت : لماذا خلق الله الاختيار في الإنسان ولم يخلقه في الأجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان ؟ نقول : كن دقيقا، وأفهم أنها أيضا خيرت بقوله تعالى﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.... ٧٢ ﴾( الأحزاب )
إذن : هذه الأجناس أيضا خيرت، لكنها اختارت اختيارا واحدا يكفيها كل الاختيارات، فقال : نريد يا رب أن نكون مقهورين لكل ما تريد.
ولما كنا مختارين أعطانا الله تعالى هذه القضية :﴿ من كفر فعليه كفره... ٤٤ ﴾( الروم ) وكلمة( عليه ) تفيد الدين والوزر، و( له ) تفيد النفع، فإذا جئنا بالمقابل بقول : ومن آمن فله إيمانه، كما في :﴿ إن الأبرار لفي نعيم١٣ وإن الفجار لفي جحيم١٤ ﴾( الانفطار )
لكن القرآن لم يأت بهذا المقابل، إنما عدل إلى مسألة أخرى :﴿ ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون٤٤ ﴾( الروم ) فلماذا ؟ قالوا : لأن فائدة الإيمان أن تعتقد بوجود إله قادر واحد هو الله فتؤمن به، فإذا ما أمرك تطيع، فعلة الإيمان التكليف ؛ لذلك حين تبحث أي تكليف إياك أن تنظر إلى علته فتقول : كلفني بكذا لكذا، فعلة التكليف وحكمته عنده تعالى.
فإذا قلنا مثلا : حكمة الصيام أن يشعر الغني ويذوق ألم الجوع فيعطف على الفقير، فهل يعني هذا أن الفقير المعدم لا يصوم ؟ إذن : ليست هذه حكمة الصيام، والأصوب أن تقول : أصوم ؛ لأن الله أراد منى أن أصوم، وحكمة الصيام عنده هو.
ومثلنا لذلك ولله تعالى المثل الأعلى : أنت حين تشكو مرضا أو ألما تسأل عن الطبيب الماهر والمتخصص حتى تنتهي إليه، وعندها تنتهي مهمة عقلك، فتضع نفسك بين يديه يفحصك ويشخص مرضك، ويكتب لك الدواء، فلا تعارضه في شيء، ولا تسأله لماذا كتب هذا الدواء.
فإذا سألك زائر مثلا : لماذا تأخذ هذا الدواء ؟ لا تقول : لأن من خصائصه كذا، ومن تفاعلاته كذا، إنما تقول : لأن الطبيب وصفه لي، مع أن الطبيب بشر قد يخطئ، وقد يكتب لك دواء، أو يعطيك حقنة تريدك، ومع ذلك تسلم له بما يراه مناسبا لك، فإذا كنت لا تناقش الطبيب وهو خطأ، فكيف تناقش الله فيما فرضه عليك وتطلب علة لكل شيء ؟
ولا يناقش في علل الأشياء إلا المساوي، فلا يناقش الطبيب إلا طبيب مثله، كذلك يجب أن نسلم لله تعالى بعلل الأشياء وحكمتها إلى أن يوجد مساو له سبحانه يمكن أن يناقشه.
والحق سبحانه يبين لنا علة الإيمان – لا الإيمان في ذاته – إنما ما يترتب عليه من طاعة أوامر هذا الإله. وعلى طاعة هذه الأوامر يترتب صلاح الكون، بدليل أن الله يطلب من المؤمنين أن ينشروا الدعوة، وأن يبلغوها، وأن يحاربوا من يعارضها ويمنعهم من نشرها.
فما شهر السيف في الإسلام إلا لحماية بلاغ الدعوة، فإن تركوك وشأنك فدعهم، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام ظل بها أصحاب ديانات أخرى على دياناتهم، وهذا دليل على أن الإسلام لم يرغم أحدا على اعتناقه.
لكن ما دام الإسلام قد فتح البلاد فلا بد أن تكون له الغلبة، وأن يسير الجميع معه في ظل منهج الله، فيكون للكافر ولغير ذي الدين ما لصاحب الدين.
فكأن الحق سبحانه يريد لقوانينه أن تحكم آمنت به أو لم تؤمن ؛ لأن صلاح الكون لا يكون إلا بهذه القوانين.
إذن : فأنت حر، تؤمن أو لا تؤمن، لكن مطلوب ممن آمن أن يحمى الدعوة في البلاغ، ثم يترك الناس أحرارا، من آمن فيها ونعمت، ومن أبى نقول له : لك ما لنا، وعليك ما علينا.
إذن : فأصل الإيمان لصلاح الخلافة، ولا يهتم الله سبحانه بأنك تؤمن أو لا تؤمن، ما دام منهج الخلافة قائما، وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر، فإذا كان الإيمان يربي الإنسان على ألا يفعل إلا خيرا وصلاحا، فالكافر لا بد وأن يستفيد من هذا الصلاح. وهل قال الشرع للمؤمن : لا تسرق من المؤمن ؟ لا إنما أيضا لا تسرق من الكافر... الخ، فالكل أمام منهج الله سواء.
وفي القرآن آية ينبغي أن نتنبه لها، ونعرف غير المؤمنين بها، ليعلموا أن الإيمان إنما يحمي مصلحة الناس جميعا، إنها قوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله... ١٠٦ ﴾( النساء ) يعني : إن خطر لك أن تكون لصالح الخائن، استغفر الله من هذا﴿ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ ﴾( النساء ) ولو كان مؤمنا به.
ولهذه الآية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين، وقد جاءه طعمة بن أبيريق-وكان مؤمنا- وقال : يا زيد خذ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد، وإذا بالدرع مسروق قد سرقه ابن أبيريق من قتادة بن النعمان١ ووضعه في جوال من الدقيق، فكان على الدرع أثار الدقيق، فلما بحث ابن النعمان عن درعه دله أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته.
ثم جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم في أمره، فقص عليه ما كان من أمر ابن أبيريق، وأنه وضعه عنده على سبيل الأمانة.
وعندها عز على المسلمين أن يسرق واحد منهم، وأن يأخذها اليهود ذلة في حقهم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدبر الأمر في رأسه، فإن حكم على المسلم أخذها اليهود حجة، وإن حكم للمسلم كانت عيبا وسبة في الدين، فأسعفه ربه بهذه الآية :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ ﴾( النساء ) فقال : بين الناس لا بين المؤمنين فحسب.
ومعنى﴿ ولا تكن للمؤمنين خصيما١٠٥ ﴾( النساء ) البعض يقولون : لا تخاصم الخائن حتى لا يضطهدك، إنما المراد : لا تكن خصيما لصالحه. ﴿ واستغفر الله.... ١٠٦ ﴾( النساء ) إن طرأت عليك مسألة الإسلام وصورته بين غير المسلمين ؛ لأن الله في مبدأ الإصلاح لا يحب كل خوان أثيم.
ولو أن غير المسلمين تنبهوا إلى هذه القضية، وعلموا أن الله تعالى عدل الحكم للمؤمنين، وأعلنه لرسول الله، وقرر أن الحق هو الحق، والكل أمامه سواء المؤمن وغير المؤمن لعلموا أن الإسلام هو الدين الحق ولأقبلوا عليه، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عادى ذميا فأنا خصيمه يوم القيامة " ٢.
لأنك إن عاديته واضطهدته أو هددته في حياته، أو في عرضه، أو في ماله لصارت حجة له في ألا يؤمن، وله أن يقول : إذا كان هذا هو حال المؤمنين، فما الميزة في الإسلام حتى أعتنقه ؟ بل من مصلحتي أن أبتعد عنه، لكن إن عاملته بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى الإسلام، وجعلته يؤنب نفسه ألا يكون مسلما.
لذلك سبق أن قلنا : إن سيدنا إبراهيم- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- جاءه رجل فاشتم منه أنه غير مسلم، فلما سأله قال : أنا مجوسي فرد الباب في وجهه، فانصرف الرجل، وإذا بإبراهيم –عليه السلام- يتلقى الوحي من الله : يا إبراهيم لم تقبل أن تضيفه لأنه على غير دينك، وأنا قبلته طوال عمره في ملكي وهو كافر بي.
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه، فقال الرجل : وماذا جرى لقد طردتني ونهرتني منذ قليل ؟ فقال : إن ربي عاتبني في أمرك، فقال الرجل : إن ربا يعاتب أنبياءه بشأن أعدائه لحقيق أن يعبد. لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله.
إذن : نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب الإيمان، وإذا آمنت بإله لتأخذ الحكم منه وأنت مطمئن أنه إله حق، فلا يهم بعد ذلك أن تؤمن أو لا تؤمن، المهم قاعدة الصلاح في الكون وفي حركة الحياة، لذلك لم يقل ومن آمن فله إيمانه، كأن المراد بالإيمان العمل ﴿ ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون٤٤ ﴾( الروم ) لأنه لا يعمل صالحا إلا إذا كان مؤمنا.
ونلحظ هنا أن الآية تتحدث عن صيغة المفرد :﴿ من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا... ٤٤ ﴾( الروم ) ثم يتحول إلى صيغة الجمع ﴿ فلأنفسهم يمهدون٤٤ ﴾( الروم ) ولم يقل : فهو يمهد لنفسه، فلماذا ؟
قالوا : لأن الذي يعمل الصالح لا يعمله لذاته، إنما له ولذريته من بعده، كما جاء في قوله سبحانه :﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم... ٢١ ﴾( الطور ) إذن : ساعة تكلم عن الإيمان جاء بالمفرد، وساعة تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع.
كما أن العمل الصالح يأتي من ذات الإنسان، ويستقبله هو من غيره، وكلمة( من ) هنا تصلح للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعيه، وتحل محل جميع الأسماء الموصولة تقول : من جاء فأكرمه، ومن جاءتك فأكرمها، ومن جاءاك فأكرمهما، ومن جاءوك فأكرمهم.
٢ أخرج أبو داود في سننه(٣٠٥٢) عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ". قال السخاوي في المقاصد الحسنة: سنده لا بأس به، ولا يضر جهالة من لم يسم من أبناء الصحابة، فإنهم عدد منجبر به جهالتهم..
﴿ ليجزي الذين آمنوا وعموا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين ٤٥ ﴾
وذكر هنا الإيمان فقال :﴿ ليجزي الذين آمنوا.... ٤٥ ﴾( الروم ) ثم ﴿ وعملوا الصالحات.... ٤٥ ﴾( الروم ) حتى لا يظن أحد أن العمل الصالح ربما يغني عن الإيمان. وهذه مسألة شغلت كثيرا من الفلاسفة، يقولون : كيف أن الرجل الكافر الذي يعمل الصالحات لا يجازى عليها ؟
نقول له : أجر ويجازى على عمله الصالح لكن في الدنيا ؛ لأنه لم يعمل لله، بل عمل للشهرة وللصيت، وقد أخذ منها تكريما وشهرة وتخليدا لذكراه وأقيمت لهم التماثيل... إلخ، أما جزاء الآخرة فلمن عمل العمل لوجه لله خالصا.
والقرآن ينبهنا إلى هذه المسألة يقول : إياكم أن تغشوا بمن يعمل الأعمال للدنيا.
﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا٢٣ ﴾( الفرقان )
وجاء في الحديث :" فعلت ليقال وقد قيل " ١ نعم بنيت مسجدا، لكن كتبت عليه : بناه فلان، وشرف الافتتاح فلان.... الخ فماذا تنتظر بعد ذلك، إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى، كما جاء في الحديث " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه " ٢.
فقوله تعالى ﴿ ليجزي الذين آمنوا... ٤٥ ﴾( الروم ) يدل على أن العمل الصالح إن كان صالحا بحق يفيد صاحبه في الدنيا، لكن لا يفيده في الآخرة إلا أن يكون صادرا عن إيمان بالله، ثم يربط الإيمان بالعمل الصالح حيث لا يغنى أحدهما عن الآخر.
وقوله تعالى :﴿ من فضله... ٤٥ ﴾( الروم ) أي : تفضلا من الله، حتى لا ينخدع أحد بعمله، ويظن أنه نجا به، وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون : مرة يقول القرآن﴿ من فضله... ٤٥ ﴾( الروم ) ومرة يقول :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ٣٢ ﴾( النحل ) أي : أنها حق لكم بما قدمتم من عمل، فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من الله ؟
ونقول : العمل الذي يطلبه الله تكليفا من المؤمنين به يعود على من ؟ يعود على الإنسان، ولا يستفيد الله منه بشيء ؛ لأن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخلق.
لذلك قال في الحديث القدسي :" يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألني كل مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر، ذلك أني جواد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له : كن فيكون " ٣.
ويقول سبحانه :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باق... ٩٦ ﴾( النحل )
إذن : فالأعمال التكليفية لخير الإنسان نفسه، وإن كانت في الظاهر تقييدا لحريته، فهو مثلا يريد أن يسرق ليزيد ماله، فنأخذ على يديه، ونمنعه ونقول له : تنبه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد، ومنعنا الناس جميعا أن يسرقوا منك، فأنت إذن المستفيد من منهج الله، فلا تنظر إلى ما أخذه منك التكليف، ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير.
وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت، فإن أثابك الله عليه بعد ذلك فهو فضل من الله عليك، كما تقول لولدك مثلا : إن تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق، فتكون الجائزة بعد ذلك فضلا.
كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أن يتقن عمله، وأن يجتهد فيه ؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع أننا المستفيدون منه.
ويقول سبحانه :﴿ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق... ٢٥ ﴾( النور ) فجعله حقا عليه سبحانه، كما قال :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ٤٧ ﴾( الروم )
ولو بحثنا كلمة " حق " فلسفيا لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك، فلا يكون حقا لك إلا إذا كان واجبا على غيرك، فحقك هنا واجب إذن على الله تعالى، لكن الواجب يقتضي موجبا فمن أوجب على الله ؟ لا أحد ؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه.
إذن : فالحق الذي جعله لك تفضلا منه سبحانه، والحق في أنه جعل لك حقا، كالذي ليس له حق في الميراث، فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له، فتصير حقا واجبا، له أن يطالب الورثة به شرعا ؛ لأن المورث تفضل وجعله حقا له.
ثم يقول سبحانه :﴿ إنه لا يحب الكافرين٤٥ ﴾( الروم ) نلحظ في الآية أنها تتحدث عن جزاء المؤمنين، فما مناسبة ذكر الكافرين هنا ؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أن يلفت نظر عبده الكافر إلى الإيمان ومزاياه، كأن يقول له : تعال إلى الإيمان لتنال هذا الجزاء.
ومثال ذلك- ولله المثل الأعلى- رجل عنده ثلاثة أولاد وعدهم بهدية لكن من ينجح في دراسته، فجاء آخر العالم ونجح اثنان، وأخذ كل منهما هديته، وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان مثل أخويه.
وكذلك الحق سبحانه لا يحب الكافرين ؛ لأنه يحب أن يكون الخلق جميعا مؤمنين لينالوا جزاء الإيمان ؛ لأن الجميع عباده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها، وهم خلقته وصنعته، وهل رأيتم صانعا حطم صنعته وكسرها، إذن : فالله تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم.
وجاء في الحديث القدسي : " قالت السماء : يا رب ائذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم، فقد طعم خيرك، ومنع شكرك، وقالت الأرض : يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال : يا رب ائذن لي أن أخر على ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فماذا قال الرب الخالق للجميع ؟ قال :" دعوني ومن خلقت، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم " ٤.
لذلك يفرح الله تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض، ويضرب لنا سيدنا رسول الله مثلا لتوضيح هذه المسألة فيقول : " لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره، وقد أضله في فلاة " ٥.
فالله لا يحب الكافرين لأنهم لم يكونوا أهلا لتناول هذا الفضل، وما ذاك إلا لأنه سبحانه محب لهم حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه.
٢ أخرجه مسلم في صحيحه(١٠٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ضمن حديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"الحديث..
٣ أخرجه أحمد في مسنده (٥/٧٧-١٥٤) والترمذي في سننه(٢٤٩٥) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: حديث حسن، في إسناده شهر بن حوشب، ضعفه بعضهم وقد حسن البخاري حديثه وقوى أمره..
٤ أورده أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين"(٤/٥٢) من قول بعض السلف ولفظه: "ما من عبد يعصي إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به، واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفا، فيقول الله تعالى للأرض والسماء: كفا عن عبدي، وأمهلاه فإنكما لم تخلقاه، ولو خلقتماه لرحمتماه، ولعله يتوب إلي فأغفر له، ولعله يستبدل صالحا، فأبدله له حسنات"..
٥ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٦٣٠٩) وكذا مسلم في صحيحه (٢٧٤٧) عن أنس بن مالك رضي الله عنه واللفظ للبخاري. و"وقع على بعيره" أي: صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به بعد أن ضل منه. والأرض الفلاة هي الصحراء المهلكة..
﴿ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون٤٦ ﴾
هذه نعم خمس من نعم الله على عباده.
فإرسال الرياح وحدها نعمة، وتبشيرها بالمطر نعمة، وإجراء الفلك نعمة، والابتغاء من فضل الله نعمة، ثم الشكر على هذا كله نعمة أخرى.
والآيات : جمع آية، وهي كما قلنا : الشيء العجيب الذي يجب أن يلفت الأنظار، وألا يغفل الإنسان عنه طرفة عين، ومن ذلك قولنا :
فلان آية في الفصاحة، أو آية في الجمال... الخ.
وتطلق الآيات ويراد بها معان ثلاثة : آيات كونية تلفت إلى المكون سبحانه، وتثبت قدرة الخالق.
﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر... ٣٧ ﴾( فصلت )
وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل ؛ لتثبت صدقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.
وهنا يتكلم الحق سبحانه عن الآيات الكونية﴿ ومن آياته أنه يرسل الرياح مبشرات... ٤٦ ﴾( الروم ) كلمة الرياح جمع ريح، والرياح هنا بالمعنى العام : الهواء، وهو أنواع : هواء ساكن ﴿ إن يشأ يسكن الريح... ٣٣ ﴾( الشورى )
والهواء الساكن يضايق الإنسان، حيث يصعد عليه عملية التنفس، فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو بمروحة. لماذا ؟ ليجدد الأكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس، والهواء يأتي مرة ساخنا يلفح الوجوه، ومرة نسيما رطبا منعشا عليلا، ويأتي عاصفا مدمرا... الخ.
والحق سبحانه – كما سبق أن بينا- رتب مقومات حياة الخليفة في الأرض على : الهواء، ثم الماء، ثم الطعام على هذا الترتيب، وحسب أهمية هذه المقومات. فالهواء هو أهم مقوم في حياة الكائن الحي، حيث لا يصبر عليه الإنسان إلا لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حبس عنه لمات. ثم الماء ويصبر عليه الإنسان إلى عشرة أيام، ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر.
لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألا يملك الهواء لأحد، ولو ملكه أحد وغضب عليك لمت قبل أن يرضى عنك، أما الماء فقليل أن يملكه للناس، أما الطعام فكثيرا ما يملك، لأن الإنسان يصبر عليه فترة طويلة تمكنه أن يكتسبه، ويحتال عليه، أو لعل مالك الطعام يرق قلبه ويعطيك.
لذلك نسمع من عبارات التهديد : والله لأكتم أنفاسه، كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن فعله ؛ لأنك قد تمنع عنه الماء أو الطعام ولا يموت، لكن إن منعت عنه الهواء فهي نهايته، وهي أسرع وسائل الإبادة للإنسان وأيسرها وأقلها أثرا، فلا يترتب عليها دم ولا جروح مجرد منديل مبلل بالماء. إذن : الهواء مقوم هام حياة وإماتة.
وقلنا : إذا حبس الهواء أو سكن لا يتجدد فيه الأكسوجين فيتضايق الإنسان ؛ لأن أنفاسه تكتم، أما إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج : افتحوا النوافذ، لماذا ؟ ليتجدد الهواء.
إذن : إرسال الرياح في ذاتها نعمة، فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تبشرك بالمطر، لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويقدر مسافة السحابة التي ستمطره، إذن : فالتبشير بالمطر نعمة أخرى.
وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر، لا دخل للإنسان فيهما﴿ وليذيقكم من رحمته.... ٤٦ ﴾( الروم ) أي : بالمطر أما في آية الفلك﴿ ولتجري الفلك بأمره.... ٤٦ ﴾( الروم ) فنسب الجريان إلى الفلك لأن للإنسان يدا فيها وعملا، فهو صانعها ومسيرها بأمر الله ﴿ ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون٤٦ ﴾( الروم ) أي : تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق، أو حتى للنزهة والسياحة.
إذن : الآية التي لا دخل للإنسان فيها تنسب إلى الله وحده، وإن كان للإنسان فيها عمل نسبها إليه، كما في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ما تمنون ٥٨ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون٥٩ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين٦٠ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون٦١ ﴾( الواقعة )
فأعطانا نعمة الحياة، ثم ذكر ما ينقضها، حتى لا نستقبل الحياة بغرور، ولما كانت آية الحياة وآية الموت لا دخل للإنسان فيها اكتفى بهذا الاستفهام﴿ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون٥٩ ﴾( الواقعة ) ولا أحد يستطيع أن يقول أنا خلقت.
أما في آية الحرث، فنسب الحرث إلى الإنسان ؛ لأنه عمله كثير في هذه الآية، حيث يحرث ويبذر ويروى... إلخ لذلك قال في نقض هذه النعمة﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما... ٦٥ ﴾( الواقعة ) وأكد الفعل باللام حتى لا تغتر بعملك في الزرع.
أما في الماء، فلم يذكر هذا التوكيد ؛ لأن الماء نعمة لا يد للإنسان فيها ؛ لذلك قال في نقضها﴿ لو نشاء جعلناه أجاجا.... ٧٠ ﴾( لواقعة ) بدون توكيد.
النعمة الخامسة :﴿ ولعلكم تشكرون٤٦ ﴾( الروم ) وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها، فإن شكرت لله نعمه عليك زادك منها :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم... ٧ ﴾( إبراهيم )
﴿ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين٤٧ ﴾
يعني : يا محمد، إن كنت تعبت في الدعوة، ولقيت من صناديد قريش عنتا وعنادا وإيذاء ومكرا وتبييتا، فنحن مع ذلك نصرناك، وخذ لك أسوة في إخوانك من الرسل السابقين، فقد تعرضوا لمثل ما تعرضت له، فهل أسلمنا رسولنا لأعدائه ؟ إذن : اطمئن، فلن ينال هؤلاء منك شيئا.
ومعنى﴿ فجاءوهم بالبينات... ٤٧ ﴾( الروم ) أي : الآيات الواضحات التي تثبت صدقهم في البلاغ عن الله، ومع ذلك لم يؤمنوا وكذبوا ﴿ فانتقمنا من الذين أجرموا... ٤٧ ﴾( الروم ) وهنا إيجاز لأمر يفهم من السياق، فلم يقل القرآن أنهم كذبوا، إنما جاء بعاقبة التكذيب﴿ فانتقمنا... ٤٧ ﴾( الروم )
وهذا الإيجاز واضح في قصة هدهد سليمان، في قوله تعالى :﴿ اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون٢٨ ﴾( النمل ) ثم أتبعها مباشرة :{ قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلي
كتاب كريم ٢٩ }( النمل ) وحذف ما بين العبارتين من أحداث تفهم من السياق، وهذا مظهر من مظاهر بلاغة القرآن الكريم.
وتكذيب الأمم السابقة للآيات التي جاءتهم على أيدي الرسل دليل على أنهم أهل الفساد، ويريدون أن ينتفعوا بهذا الفساد، فشيء طبيعي أن يعاندوا الرسل الذين جاءوا للقضاء على هذا الفساد، وأن يضطهدوهم، فيغار الله تعالى على رسله﴿ فانتقمنا من الذين أجرموا... ٤٧ ﴾( الروم )
ثم يقرر هذه القضية :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين٤٧ ﴾( الروم ) وما كان الله تعالى ليرسل رسولا، ثم يسلمه لأعدائه، أو يتخلى عنه ؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين١٧١ إنهم لهم المنصورون١٧٢ وإن جندنا لهم الغالبون١٧٣ ﴾( الصافات )
وسبق أن قلنا : لا ينبغي أن تبحث في هذه الجندية : أصادق هذا الجندي في الدفاع عن الإسلام أم غير صادق ؟ إنما انظر في النتائج، إن كانت له الغلبة فاعلم أن طاقة الإيمان فيه كانت مخلصة، وإن كانت الأخرى فعليه هو أن يراجع نفسه ويبحث عن معنى الانهزام الذي كان ضد الإسلام في نفسه، لأنه لو كان من جند الله بحق لتحقق فيه﴿ وإن جندنا لهم الغالبون١٧٣ ﴾( الصافات ) ولا يغلب جند الله إلا حين تنحل عنهم صفة من صفات الجندية.
وتأمل مثلا ما حدث في غزوة أحد، حيث انهزم المسلمون- وإن كانت كلمة الهزيمة هنا ليست على سبيل التحقيق لأن المعركة كانت سجالا، وقد انتصروا في أولها، لكن النهاية لم تكن في صالحهم ؛ لأن الرماة خالفوا أمر رسول الله١، والهزيمة بعد هذه المخالفة أمر طبيعي.
وهل كان يسرك أيها المسلم أن ينتصر المسلمون بعد مخالفتهم أمر رسولهم ؟ والله لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر رسولهم لهان كل أمر لرسول الله بعدها، ولقالوا : لقد خالفنا أمره وانتصرنا. إذا فمعنى ذلك أن المسلمين لم ينهزموا، إنما انهزمت الانهزامية فيهم، وانتصر الإسلام بصدق مبادئه.
كذلك في يوم حنين الذي يقول الله فيه﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم... ٢٥ ﴾( التوبة ) حتى أن الصديق نفسه يقول : لن نغلب اليوم عن قلة، فبدأت المسألة بالهزيمة، لكن الأمر كما تقول ( صعبوا على ربنا ) فأنزل السكينة عليهم، وشاء سبحانه أن يسامحهم في هذه الزلة مراعاة لخاطر أبي بكر.
فقوله تعالى﴿ وكان حقا٢ علينا نصر المؤمنين ٤٧ ﴾( الروم ) نعم، نصر المؤمنين حق على الله، أوجبه سبحانه على نفسه، فهو تفضل منه سبحانه، كما يتفضل الموصى بماله على الموصى له.
٢ قال القرطبي في تفسيره (٧/٥٣٠٠):"كان أبو بكر يقف على "حقا" أي: وكان عقابنا حقا، ثم قال: "علينا نصر المؤمنين" ابتداء وخبر، أي: أخبرنا به ولا خلف في خبرنا"..
﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون٤٨ ﴾
الحق سبحانه يعطينا هنا مذكرة تفصيلية لعملية حركة الرياح، وسوق السحاب، وإنزال المطر، وكلمة الرياح إذا جمعت دلت على الخير كما في قوله تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح... ٢٢ ﴾( الحجر )
أي : تلقح النباتات فتأخذ من الذكر، وتضع في الأنثى، فيحدث الإثمار، ومن عجيب هذه العملية أن ترى الذكر والأنثى في العود الواحد كما في نبات الذرة مثلا، ففي( الشوشة ) أعلى العود حبات اللقاح الذكر، وفي الشعيرات التي تخرج من الكوز متصلة بالحبات توجد أعضاء الأنوثة، ومع حركة الرياح تتناثر حبات اللقاح من أعلى وتنزل على هذه الشعيرات، فتجد الشعيرة التي لقحت تنمو الحبة المتصلة بها، أما الأخرى التي لا يصلها اللقاح فتموت.
ولذلك نلحظ أن العيدان التي في مهب الريح أو ناحية بحرى أقل محصولا من التي تليها، لماذا ؟ لأن الرياح تحمل حبات لقاحها إلى العيدان الأخرى التي تليها، فيزداد محصولها.
فإذا كانت بعض النباتات نعرف فيها الذكر من الأنثى كالنخيل، والجميز مثلا، فأين الذكر والأنثى في القمح، أو في الجوافة، أو في الموز.
ولما درسوا حبوب اللقاح هذه وجدوا أن كل حبة مهما صغرت فيها أهداب دقيقة مثل القطيفة تتناثر مع الرياح، ويحملها الهواء إلى أماكن بعيدة ؛ لذلك ترى الجبال والصحراء تخضر بعد نزول المطر، فمن بذر فيها هذه البذور ؟ إنها الرياح اللواقح بقدرة الخالق عز وجل.
ولنا وقفة عند قوله تعالى :﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره... ٣٣ ﴾( الشورى ) أي : السفن التي تسير بقوة الرياح تظل راكدة على صفحة الماء لا يحركها شيء، فإن قلت : كيف نفهم هذا المعنى الآن مع تقدم العلم الذي سير السفن بقوة البخار والديزل أو الكهرباء، واستغنى عن الرياح ؟
ونقول : الرياح من معانيها الهواء، وهي أيضا تعني القوة مطلقا، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم... ٤٦ ﴾( الأنفال ) أي : قوتكم، فالريح تعني القوة على أي وضع، سواء أسارت بالرياح أو بالآلة، فهو سبحانه قادر على أن يسكنها.
لذلك تجد أن الرياح بمعنى القوة لها قوة آنية، وقوة آتية، آنية يعني الآن، وآتية تأتي فيما بعد، وكذلك كل إنسان وكل شيء في الكون له نفس وريح وكيماوية خاصة به تميزه عن غيره وهذه مهمة كلاب البوليس التي تشم رائحة المتهمين والمجرمين في قضايا المخدرات مثلا، فالشخص له رائحة الآن وهو موجود، وله رائحة تظل في المكان حتى بعد أن يفارقه.
لذلك يعلمنا القرآن أن الريح هو أثبت الآثار في الإنسان، واقرأ في ذلك قوله تعالى عن يوسف ويعقوب عليهما السلام :﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا..... ٩٣ ﴾ ( يوسف )
وكان يوسف في مصر، ويعقوب في أرض فلسطين، فلما فصلت١ العير بقميص يوسف، وخرج من نطاق المباني التي ربما حجزت الرياح، قال يعقوب﴿ إني لأجد ريح يوسف... ٩٤ ﴾( يوسف ) على بعد ما بينهما من المسافات٢.
وإذا أفردت الرياح دلت على الشر، ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا ريح من هنا.... فتأتيك بالأكسوجين أينما كان، وتحمل إليك عبير العطور في الكون، فهي إذن تأتيك بالفائدة.
وقلنا : إن الأشياء الثابتة اكتسبت الثبات من وجود الهواء في كل نواحيها وجهاتها، ولو فرغت الهواء من ناحية من نواحي إحدى العمارات لانهارت في الحال، كذلك الريح إن جاءت مفردة فهي مدمرة، وفيها العطب كما في قوله تعالى :﴿ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم٤١ ﴾( الذاريات )
وقال :﴿ بريح صرصر عاتية ٦ ﴾( الحاقة )
فقوله تعالى :﴿ الله الذي يرسل الرياح.... ٤٨ ﴾( الحاقة ) فإرسال الرياح في ذاته نعمة﴿ فتثير سحابا... ٤٨ ﴾( الروم ) إثارة السحاب أي : تهيجه وتحركه، وهذه نعمة أخرى.
والسحاب عبارة عن الماء المتبخر من الأرض، وتجمع بعضه على بعض في طبقات الجو، وماء المطر ماء مقطر بقدرة الله، كما نجرى نحن عملية التقطير في المعامل مثلا، فيأتينا المطر بالماء العذب النقي الزلال الذي قطرته لنا عناية الخالق سبحانه دون أن ندري.
وإذا كان تقطير كوب واحد يحتاج إلى كل هذه العمليات، وكل هذه التكلفة، فما بالك بماء المطر ؟
وسبق أن قلنا : إن من حكمة الخالق سبحانه أن جعل ثلاثة أرباع اليابسة ماء لتتسع رقعة البخر ليكفي الربع الباقي، وضربنا لتوضيح ذلك مثلا بكوب الماء حين تتركه على المنضدة مثلا، وحين تسكبه في أرض الغرفة، ففي الحالة الأولى يظل الماء فترة طويلة ؛ لأن البخر قليل، أما في الأخرى فإنه سرعان ما يتبخر.
ثم يقول سبحانه :﴿ فيبسطه في السماء كيف يشاء... ٤٨ ﴾( الروم ) وانظر إلى طلاقة المشيئة، فالمطر يصرفه الله كيف يشاء إلى الأماكن التي تحتاج إلى مطر، ومن العجيب أن الله تعالى حين يريد أن يرزق إنسانا ربما يرزقه من سحاب لا يمر على بلده، وانظر مثلا إلى النيل، من أين يأتي ماؤه ؟ وأين سقط المطر الذي يروى أرض النيل من أوله إلى آخره ؟
ومعنى﴿ ويجعله كسفا... ٤٨ ﴾( الروم )كسفا، جمع كسفة، وهي القطعة﴿ فترى الودق... ٤٨ ﴾( الروم ) المطر﴿ يخرج من خلاله.... ٤٨ ﴾( الروم ) أي : من بين هذه السحب.
﴿ فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون٤٨ ﴾( الروم ) والإصابة قد تكون مباشرة، فيهطل المطر عليهم مباشرة، وقد تكون غير مباشرة بأن تكون الأرض منحدرة، فينزل المطر في مكان ويسقى مكانا آخر، بل ويحمل إليه الخصب والنماء، كما كان النيل في الماضي يحمل الطمي من الحبشة إلى السودان ومصر.
وكان هذا الطمي يستمر مع الماء طوال مجرى النيل وإلى دمياط، فلماذا لم يترسب طوال هذه المسافات ؟
لم يتسرب قوة دفع الماء وشدة انحداره، بحيث لا يستقر هذا الطمي ولا يترسب.
وقوله :﴿ إذا هم يستبشرون٤٨ ﴾( الروم ) لأن الرياح حين تمر عليهم تبشرهم بالمطر، وحين ينزل المطر يبشرهم بالزرع والنماء والخصب والخير، كما قال تعالى :﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج٥ ﴾( الحج )
وأذكر وأنا صغير وبلدنا على النسل، والنيل من أمامها متسع، وبه عدة جزر يزرعها الناس، فأذكر أننا كنا نزرع الذرة، وجاء الفيضان فأغرقه وهو ما يزال أخضر لم ينضج بعد، وكان الناس يذهبون إليه ويجمعونه بالقوارب، ورأيت النساء تزغرد والفرحة على الوجوه، فكنت أسأل أبى رحمه الله : النيل أغرق الزرع، فلماذا تزغرد النساء ؟
فكان والدي يضحك ويقول : تزغرد النساء لأن النيل أغرق الزرع، وهذا هو مصدر الخير، وسبب خصوبة الأرض، فلما كبرت وقرأت قصيدة أحمد شوقي٣ رحمه الله في النيل :
من أي عهد في القرى تتدفق وبأي كف في المدائن تغدق
الماء ترسل فيصبح عسجدا٤ والأرض تغرقها فيحيا المغرق
لما قرأت هذه القصيدة عرفت لماذا كانت النساء تزغرد حين يغرق النيل الزرع.
والاستبشار لنزول المطر يأتي على حسب الأحوال، فإن جاء بعد يأس وقحط وجفاف كانت الفرحة أكبر، والاستبشار أبلغ حيث يأتي المطر مفاجئا﴿ إذا هم يستبشرون٤٨ ﴾( الروم ) أما إن جاء المطر في الأحوال العادية فإن الاستبشار به يكون أقل.
٢ للعلماء في تقدير هذه المسافة أقوال:
عن ابن عباس عدة أقوال: مسيرة ثمانية أيام- عشرة أيام- مسيرة ثمانين فرسخا- مسيرة ستة.
وعن الحسن البصري أنها مسيرة شهر.
وعن محمد بن كعب- أنها مسيرة سبعة أيام. (ذكر السيوطي هذه الأقوال في"الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (٤/٥٨١)) وعلى قول ابن عباس أنه مسيرة ثمانين فرسخا، يكون معنى هذا أن المسافة هي أكثر من ٤٠٠كيلو متر. على أساس أن الفرسخ ثلاثة أميال على الأقل، والميل ١٧٦٠ مترا. والله تعالى أعلم..
٣ هو: أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي، أشهر شعراء العصر الأخير، بلقب بأمير الشعراء، ولد ١٨٦٨ م بالقاهرة وتوفى ١٩٣٢ م عن ٦٤ عاما، نشأ في ظل البيت المالك، درس الحقوق واطلع على الأدب الفرنسي، كانت حياته كلها للشعر يستوحيه من المشاهدات والحوادث، اتسعت ثروته وعاش مترفا في نعمة واسعة.(الأعلام للزركلي ١/١٣٧)..
٤ العسجد: الذهب. وقيل: هو اسم جامع للجوهر كله من الدر والياقوت. (لسان العرب – مادة: عسجد)..
﴿ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين٤٩ ﴾
معنى﴿ مبلسين٤٩ ﴾( الروم ) آيسين من نزول المطر، فإن جاءهم المطر بعد هذا اليأس كانت فرحتهم به مزدوجة ومضاعفة.
وللعلماء١وقفة حول هذه الآية ؛ لأنها كررت كلمة من قبل، وبالتأمل نجد المعنى : من قبل أن ينزل عليهم، وإن كانوا من قبل هذا القبل يائسين، فهنا إذن قبلان.
ولا بد أن نفهم أن هناك إرسالا للرياح التي تبشر بالمطر، وهناك إنزال المطر، فلما ينزل المطر يكون هناك قبلية له هي الإرسال، فقبل الإرسال كان عندهم يأس، وبعد الإرسال قالوا ربما لا تمطر.
إذن : هنا كم قبل ؟ قبل الإنزال وقبل الإرسال. فالمعنى : فهم من قبله- أي من قبل أن ينزل المطر- من قبل هذا عندهم يأس.
عند الأخفش: هذا تكرار معناه التأكيد. وأكثر النحويين على هذا القول. قاله النحاس.
وقال قطرب: إن"قبل" الأولى للإنزال والثانية للمطر. أي: وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر.
وقيل: المعنى: من قبل السحاب من قبل رؤيته. واختار هذا القول النحاس..
أما في إحياء الموتى فجاء بالاسم محيى، والاسم يفيد ثبوت الصفة ؛ ليؤكد إحياء الموتى، ومعلوم أن الموت لا يشك فيه أحد ؛ لأنه مشاهد لنا، أما البعث فهو محل شك لدى البعض لأنه غيب.
ومع ذلك يقول تعالى عن الموت :﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ١٥ ﴾( المؤمنون )، فيؤكد هذه القضية مرة بإن، ومرة باللام، والموت شيء واقع لا ننكره، فلماذا كل هذا التأكيد ؟
قالوا : نعم هو واقع لا نشك فيه، لكنه واقع مغفول عنه، فكأن الغفلة عنه كالإنكار، ولو كنتم متأكدين منه ما غفلتم عنه.
فلماذا ذكر البعث قال :﴿ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون١٦ ﴾( المؤمنون ) فأكدها بمؤكد واحد، مع أنه محل شك، فكأنه لما قامت الأدلة عليه كان ينبغي ألا يشك فيه ؛ لذلك لم يأكده كما أكد الموت، ولما غفلنا عن الأدلة كان واجبا أن يؤكد الموت، ولم يؤكد البعث.
ومعنى﴿ فانظر... ٥٠ ﴾( الروم ) الأمر بالنظر هنا ليس( فنطزية ) ولا ( للفرجة ) أو التسلية، لأننا نقول : هذا الأمر فيه نظر يعني : محلا للبحث والتقصي لنصل إلى وجه الحق فيه، بترجيح بعض الأدلة على بعض.
إذن :( فانظر ) أي : نظر اعتبار وتأمل ؛ لأننا نريد أن نقيس الغائب عنا والذي نريد أن نخبر به من أمور الآخرة بالمنظور لنا من إحياء الأرض بعد موتها.
ففي الآية دليل جديد من أدلة قدرة الحق ووحدانيته، وهو دليل كوني نراه جميعا، والحق سبحانه يلون الأدلة ليلفت المخلوق إلى عظمة الخالق ليؤمن به إلها واحدا قاهرا قيوما مقتدرا، وهذه الأدلة حجة تضيء العقل، وآيات في الكون تبرهن على الصدق، وأمثال يضربها للناس في الكون وفي أنفسهم، ووعد لمن آمن، ووعيد لمن خالف.
وهنا أيضا دليل كوني مشهود في الكون، فالذي أحيا الأرض الميتة كما تشاهدون ( لمحى الموت ) في الآخرة كما يخبركم، وجاء بصيغة اسم الفاعل الدال على ثبوت صفة الإحياء قبل أن يحيي، كما نقول : فلان شاعر فلم يكتسب هذه صفة الإحياء قبل أن يحيي، كما نقول : فلان شاعر فلم يكتسب هذه الصفة لأنه قال شعرا، إنما هو شاعر قبل أن يقول، كذلك الخالق سبحانه( محى ) قبل أن يوجد منه الفعل، وقادر قبل أن يخلق مقدورا له، وخالق قبل أن يخلق خلقا، فبالصفة فيه سبحانه خلق.
ولكي نقرب الشبه بين إحياء الأرض بالنبات وإحياء الموتى يوم القيامة نقول : لو نظرنا إلى الإنسان لوجدنا هذا الهيكل الضخم الذي يزن إلى مائة كيلو أو يزيد، أصل تكوينه ميكروب لا يرى بالعين المجردة، حتى قالوا : إن أنسال العالم كله من الحيوان المنوى يمكن أن توضع في حجم كستبات الخياطة، إذا ملئ نصفه من المنى، ثم يأخذ هذا الحيوان المنوي من الغذاء من الرزق فينمو ويكبر في الحجم فقط، لكن تظل الشخصية كما هي.
فإذا مات الإنسان يبلى هذا الجسد، ويتحلل إلى عظمة الذنب، فتبقى لا تتحلل ولا تأكلها الأرض لتكون هي البذرة التي تنبت الإنسان بقدرة الله يوم القيامة ؛ لذلك جاء في حديث إحياء الموتى يوم القيامة : " فينبتون كما ينبت البقل " ١
ففي هذه العظمة الصغيرة كل صفات الإنسان وخصائصه، ومنها يعود كما كان قبل الموت، كما نرى حبة السمسم مثلا، فهي رغم صغرها إلا أنها تحمل كل خصائص هذا النبات كلها، إذن : صغر الحجم دليل على القدرة، فإذا ما وضعت هذه الحبة الصغيرة في البيئة المناسبة تأخذ الغذاء من التربة ومن الهواء وتنمو وتكبر، وهذا النمو وهذا الكبر لا يعطى شخصية جديدة إنما الشخصية ثابتة، إنما يعطى تكبيرا لها فحسب.
لذلك لما شرحوا الأرنب وجدوه صورة طبق الأصل من تشريح الإنسان، بمعنى أن فيه كل جوارح الإنسان وكل أجهزته، حتى البعوضة في حجمها الضئيل فيها كل الأجهزة، لكن أين جهازها الهضمي وجهازها الدموي وجهازها العصبي والسمبتاوي والبولى... الخ، فدقة هذه المخلوقات دليل على القدرة.
وفي حضارتنا الحالية نجد أن من علامات التقدم العملي أن نصغر الكبير إلى أقصى درجة ممكنة، وانظر مثلا إلى الراديو أول ما اخترعوه كما في حجم النورج، أما الآن فهو في حجم علبة الكبريت.
إذن : فالعظمة أن تضع كل الأجهزة في هذا الحجم الصغير، أو تجعلها كبيرة فوق العادة وفوق القدرة، كما في ساعة " بج بن " مثلا.
لذلك نرى الخالق سبحانه خلق الشيء الدقيق المتناهى في الصغر، بحيث لا يدرك بالعين المجردة، ومع ذلك يحتوي على كل خصائص الشيء الكبير، وخلق من المخلوقات الضخم الذي لا تستطيع أن تحده.
إذن : حينما ينمو الشيء لا يزداد خصائص جديدة، إنما تكبر عنده نفس الخصائص ونفس المشخصات الأصلية فيه.
وسبق أن قلنا : لو أن إنسانا يزن مثلا مائة كيلو أصابه مرض والعياذ بالله أفقده نصف وزنه، نقول : أين ذهب هذا النقص ؟ ذهب إلى فضلات نزلت منه ؛ لأن الإنسان ينمو حينما يكون الداخل إليه من الغذاء أكثر من الخارج منه من الفضلات، فإن تساوى يقف عند حد معين لا يزيد ولا ينقص.
فإذا سخر الله لهذا المريض طبيبا يداويه، فإنه يستعيد عافيته إلى أن يعود إلى وزنه الطبيعي مائة كيلو كما كان، فهل عاد إليه ما فقده في نقص الوزن، أم عاد إليه مثله من عناصر الغذاء والتكوين ؟ عاد إليه مثل الذي فقده. إذن : فالشخصية هي هي باقية لا تتغير مع النقص أو الزيادة.
كذلك فالشخصية أو الخصائص موجودة في هذا الميكروب الدقيق أو في هذه الحبة الصغيرة، إلى أن توضع قي بيئتها المناسبة، فتعطى نفس الشخصية أو نفس الخصائص لنوعها، حتى قالوا : إن قدماء المصريين وضعوا مع الموتى بعض الحبوب، وحفظوها طوال آلاف السنين، بحيث إذا وضعت الحبة منها في التربة المناسبة فإنها تنبت.
فإذا كان الإنسان يستطيع أن يستنبت الحبة بعد بضعة آلاف من السنين، أيكون عزيزا على الله أن يستنبت بذرة الإنسان، ويحيى الذرة الباقية منه في الأرض حين ينزل عليها المطر بأمره تعالى يوم القيامة ؟
ثم إن الحبة الواحدة التي يستنبتها الإنسان تعطيه آلافا من نوعها، أما بذرة الإنسان والذرة الباقية منه فتعطى شخصا واحدا لا غير، أيصعب هذا على القدرة الإلهية ؟
لذلك يحثنا الحق سبحانه على التأمل في قوله﴿ فانظر... ٥٠ ﴾( الروم ) لا نظر عين، ولكن نظر تأمل وتعقل واستنباط، وربنا ينعى علينا الغفلة في التأمل، فيقول سبحانه :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ١٠٥ ﴾( يوسف )
ونسمى الجدل لإظهار الحقائق( مناظرة )، يناظر كل منا الآخر، لا نظر عين، ولكن نظر عقل واستنباط.
﴿ فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى... ٥٠ ﴾( الروم ) أي : الذي أحياها﴿ لمحيي الموتى... ٥٠ ﴾( الروم ) وما دام قد ثبتت له صفة الإحياء، فإذا أخبرك بأنه يحيي الموتى، فصدق وخذ مما شاهدته دليلا على ما غاب عنك.
ثم يختم الحق سبحانه هذه الآية بصفة أخرى تؤكد صفة الخلق والإحياء﴿ وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾( الروم ) فغير أنه سبحانه حي ومحيي له سبحانه صفات الكمال، والقدرة على كل شيء علما وقدرة وحكمة وبسطا وقبضا ونفعا وضرا... إلخ.
فبعد أن ذكر الحدث في الفعل المضارع الدال على الاستمرار ﴿ يحيي... ٥٠ ﴾( الروم ) ذكر الاسم الدال على ثبوت الصفة﴿ لمحيي... ٥٠ ﴾( الروم ) ثم جاء بكل صفات الكمال في﴿ وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾( الروم )
يريد الله أن يبين أن الإنسان كنود٢، وأنه خلق جزوعا، إن مسه الشر يجزع، وإن مسه الخير يمنع، فلما كان يائسا من الهواء يهب عليه أرسل الله إليه الرياح، وبعد أن كان يائسا من قطرة الماء أنزل الله عليه المطر مدرارا، فهل أخذ في باله هذا العطاء، بحيث إذا أصابه يأس من شيء طلب فرجه من الله، وأزاح اليأس عن نفسه وقال : إن لي ربا ألجأ إليه، ولا ينبغي لي أن أقنط وهو موجود ؟
فالذي فرج عليك من يأس الرياح ومن يأس المطر قادر أن يفرج عنك كل كرب ؛ لذلك ينبغي أن يكون شعار كل مؤمن : لا كرب وأنت رب، ما دام لك رب فلا تهتم ولا تيأس، فليست مع الله مشكلة المشكلة ألا يكون لك رب تلجأ إليه.
وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر المؤمن له رب يلجأ إليه إن عزت عليه الأسباب، أما الكافر فما أشقاه، فإن ضاقت به الأسباب لا يجد صدرا حنونا يحتويه، فيلجأ في كثير من الأحوال إلى الانتحار.
لذلك كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يقوم إلى الصلاة، وكان يقول : " أرحنا بها يا بلال " ٣ ففي الصلاة تختلى بربك وخالقك، وتعرض عليه حاجتك، وتستمد منه العون والقوة.
كذلك يعلمنا هذا الدرس نبي الله موسى- عليه السلام- فحينما خرج ببني إسرائيل وأدركه فرعون وقومه، فوجدوا أنفسهم محاصرين، البحر من أمامهم والعدو من خلفهم، قالوا لموسى﴿ إنا لمدركون٦١ ﴾( الشعراء ) وهذا منطق البشر وواقع الأشياء، لكن كان لموسى منطق آخر ينطلق فيه من وجود رب قادر يلجأ إليه فيه وقت الشدة فيفرجها عنه.
فقال موسى بملء فيه( كلا ) قالها على سبيل اليقين قولة الواثق من أن ربه لن يتخلى عنه، لم يقلها برصيد من عنده، إنما برصيد إيمانه في الله﴿ إن معي ربي سيهدين٦٢ ﴾( الشعراء ) وهذا هو المفزع لكل مؤمن.
لم لا، وأنت إن كانت لديك قضية ترتاح إن وكلت فيها محاميا يدافع عنك، فما بالك إن وكلت رب الأرض والسماء، فكان هو سبحانه المحامي والقاضي والشاهد والمنفذ للحكم ؟
وأنت ترى القاضي في الدنيا يحكم ببينة قد يدلس فيها ويحكم، ويحكم بإقرار لا يستطيع أن ينتزعه من صاحبه، أو بشاهدة الشهود، وقد يكونون شهود زور، ثم هو بعد ذلك لا يملك تنفيذ حكمه، فهناك سلطة قضائية تحكم وسلطة تنفيذية تنفذ، حتى السلطة التنفيذية يستطيع المجرم أن يفلت منها.
أما في محكمة العدل الإلهي، فقاضيها هو الحق- سبحانه وتعالى- فلا يحتاج إلى بينة أو إقرار أو شهود، ولا يستطيع أحد أن يدلس عليه سبحانه، أو أن يفلت من حكمه ؛ لذلك قال تعالى عن نفسه :﴿ وهو خير الحاكمين٨٧ ﴾( الأعراف )
٢ كند النعمة يكندها: جحدها ولم يشكرها فهو كاند، وصيغة المبالغة كنود أي: كفور شديد الجحود (القاموس القويم٢/١٧٥)..
٣ عن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى" أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥/٣٨٨) وأبو داود في سننه (١٣١٩)..
﴿ ولئن ﴾ تلحظ الفرق بين أسلوب هذه الآية ﴿ ولئن أرسلنا ريحا... ٥١ ﴾( الروم ) والآية السابقة﴿ الله الذي يرسل الرياح... ٤٨ ﴾( الروم ) فيرسل : مضارع دال على الاستمرار، والرياح كما قلنا لا تستعمل إلا في الخير، فكأن إرسال الرياح أمر متوافر، وكثيرا ما يحدث فضلا من الله وتكرما.
أما هنا، وفي الحديث عن الريح، وسبق أن قلنا : إنها تستعمل إلا في الشر، فلم يقل يرسل، بل اختار ( إن ) الدالة على الشك، والفعل الماضي الدال على الانتهاء لماذا ؟ لأن ريح الشر نادرا ما تحدث، ونادرا ما يسلطها الله على عباده، فمثلا ريح السموم تأتي مرة في السنة، كذلك الريح العقيم جاءت في الماضي مرة واحدة، كذلك الريح الصرصر العاتية.
إذن : فهي قليلة نادرة، ومع ذلك إن أصابتهم يجزعون وييأسون، وهذا لا ينبغي منهم، أليست لهم سابقة في عدم اليأس حتى يئسوا من إرسال الرياح، فأرسلها الله عليهم ومن إنزال المطر فأنزله الله لهم، فلماذا القنوط والرب موجود ؟
ومعنى﴿ فرأوه.... ٥١ ﴾( الروم ) أي : رأوا الزرع الذي كان أخضر نضرا﴿ مصفرا... ٥١ ﴾( الروم )أي : متغيرا ذابلا﴿ لظلوا من بعده يكفرون٥١ ﴾( الروم ) يكفرون باليأس الذي يعزل الحق سبحانه عن الأحداث، مع أن لهم سابقة، وقد يئسوا وفرج الله عليهم.
ذلك لأن الإنسان لا صبر له على البلاء، فإن أصابه سرعان ما يجزع، ولو قال أنا لي رب أفزع إليه فيرفع عني البلاء، وأن له حكمة سأعرفها لاستراح ولهان عليه الأمر.
ولك أن تسأل : لماذا قال القرآن﴿ ولئن أرسلنا... ٥١ ﴾( الروم ) ولم يقل وإن ؟ قالوا : هذه اللام الزائدة يسمونها اللام الموطئة للقسم، فتقدير الكلام : والله لئن أرسلنا، فالواو هنا واو القسم واللام موطئة له، وللحق سبحانه أن يقسم بما يشاء على ما يشاء، وكل قسم يحتاج إلى جواب، تقول : والله لأضربنك.
كذلك الشرط في( إن ) يحتاج إلى جواب للشرط، والحق سبحانه هنا مزج بين القسم والشرط في جملة واحدة، فإن قلت فالجواب هنا للقسم أم للشرط ؟
قالوا : فطنة العرب تأبى أن يوجد جوابان في جملة واحدة، فيأتي السياق بجواب واحد نستغني به عن الجواب الآخر، والجواب يكون لما تقدم، فإن تقدم القسم فالجواب للقسم، وإن تقدم الشرط فالجواب للشرط. وهنا﴿ ولئن أرسلنا ريحا... ٥١ ﴾( الروم ) قدم القسم ؛ لأن التقدير : والله لئن أرسلنا ريحا...
وكلمة﴿ لظلوا.... ٥١ ﴾( الروم ) مأخوذة من الظل وظل فعل ماض ناقص مثل بات يعني في البيتوتة، وأضحى يعني : استمر في وقت الضحى، وأمسى في وقت المساء، كذلك ظل أي : استمر في الوقت الذي فيه ظل يعني : طوال النهار، إذن : نأخذ الزمن من المشتق منه.
﴿ فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين٥٢ ﴾
يريد الحق سبحانه أن يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يألم لما يلاقيه من قومه، يقول له : يا محمد لا تتعب نفسك ؛ لأن هؤلاء لن يؤمنوا، وما عليك إلا البلاغ، فلا تيأس لإعراض هؤلاء، ولا تتراجع عن تبليغ دعوتك والجهاد في سبيلها والجهر بها ؛ لأنني أرسلتك لمهمة، ولن أتخلى عنك، وما كان الله ليرسل رسولا ثم يخذله أو يسلمه.
وقد قال تعالى لنبيه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾( الكهف ) ولو أردت لجعلتهم مؤمنين قسرا لا يملكون أن يكفروا :﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين٤ ﴾( الشعراء )
وهنا يقول تعالى لنبيه :﴿ فإنك لا تسمع الموتى... ٥٢ ﴾( الروم ) فجعلهم في حكم الأموات، وهم أحياء يرزقون، لماذا ؟ لأن الذي لا ينفع لما يسمع ولا يتأثر به، هو والميت سواء.
أو نقول : إن للإنسان حياتين : حياة الروح التي يستوي فيها المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وحياة المنهج والقيم، وهذه للمؤمن خاصة، والتي يقول الله فيها :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم... ٢٤ ﴾( الأنفال )
فهو سبحانه يخاطبهم هذا الخطاب وهم أحياء، لكن المراد هنا حياة المنهج والقيم، وهي الحياة التي تورثك نعيما دائما باقيا لا يزول، خالدا لا تتركه ولا يتركك.
لذلك يقول سبحانه عن هذه الحياة :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون٦٤ ﴾( العنكبوت )
لذلك سمى الله المنهج الذي أنزله على رسوله روحا :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا... ٥٢ ﴾( الشورى ) لأن المنهج يعطيك حياة باقية لا تنزوى ولا تزول.
وسمى الملك الذي نزل به روحا :﴿ نزل به الروح الأمين١٩٣ ﴾( الشعراء ) فالمنهج روح من الله، نزل به روح من الملائكة هو جبريل عليه السلام على قلب سيدنا رسول الله ليحمله رسول مصطفى فيبثه في الناس جميعا، فيحيون الحياة الآخرة.
فالكفار بهذا المعنى يحيون حياة روح القالب التي يستوي فيها جميع البشر، لكن هم أموات بالنسبة للروح الثانية، روح القيم والمنهج.
لذلك، إذا كان عندنا شخص شقى أو بلطجي يفسد في المجتمع أكثر مما يصلح نقول له : أنت وجودك مثل عدمه، لماذا ؟ لأن الحياة إذا لم تستغل في النافع الدائم، فلا معنى لها.
وهنا يقول تعالى لنبيه : لا تحزن، ولا تذهب نفسك على هؤلاء القوم الحسرات، فهم موتى لم يقبلوا روح المنهج وروح القيم، وما داموا لم تدخلهم هذه الروح، فلا أمل في إصلاحهم، ولن يستجيبوا لك، فالاستجابة تأتي ممن أصغى سمعه، وأعمل عقله في الكون من حوله ليصل إلى حقيقة الحياة ولغز الوجود.
وسبق أن قلنا : إنك إذا سقطت بك طائرة مثلا في صحراء، وانقطعت عن الناس، فلا أنيس ولا شيء من حولك، ثم فجأة رأيت أمامك مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، فطبيعي قبل أن تمتد يدك إليها لا بد أن تسأل نفسك : من أتى بها ؟
كذلك أنت أيها الإنسان طرأت على كون معد لاستقبالك، ملئ بكل هذا الخير، بالله ألا يستدعى هذا أن تسأل من أعد لي هذا الكون ؟
ثم لم يدع أحد هذا الكون لنفسه، ثم جاءك رسول من عند الله يخبرك بحقائق الكون، ويحل لك لغز الحياة والوجود، لكن هؤلاء القوم لما جاءهم رسول الله أبوا أن يستمعوا إليه، ولم يقبلوا الروح الذي جاءهم به.
والحق سبحانه يعرض لنا هذه المسألة في آية أخرى :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا... ١٦ ﴾( محمد ) وهذا يعني أن روح المنهج لم تباشر قلوبهم.
ويرد الحق عليهم :﴿ قل هل للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ٤٤ ﴾( فصلت )
فالقرآن واحد، لكن المستقبل للقرآن مختلف، فواحد يسمعه بأذن مرهفة وقلب واع فيستفيد، ويصل إلى حل اللغز في الكون وفي الخلق ؛ لأنه استجاب للروح الجديدة التي أرسلها الله له، وآخر أعرض.
وهؤلاء الذين أعرضوا عن القرآن إنما يخافون على مكانتهم وسيادتهم، فهم أهل فساد وطغيان، ويعملون أن هذا المنهج جاء ليقيد حرياتهم، ويقضي على فسادهم وطغيانهم ؛ لذلك رفضوه.
لذلك تجد أن الذين تصدوا لدعوات الرسل وعارضوهم هم السادة والكبراء، ألا تقرأ قول الحق سبحانه عن مقالتهم :﴿ إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا٦٧ ﴾( الأحزاب )
إذن : لا تتعجب من أن القرآن يسمعه إنسان فيقول مستلذا به : الله، أعد، وآخر ينصرف عنه ولا يدري ما يقول، والمنصرف عن القرآن نوعان : إما ينصرف عنه تكبرا يعني : وعي القرآن وفهمه لكن تكبر على الانصياع لأوامره، وآخر سمعه لكن لم يفهمه ؛ لأن الله ختم على قلبه.
ومهمة الداعي أن يتعهد المدعو، وألا ييأس لعدم استجابته، وعليه بتكرار الدعوة له، لعله يصادف عنده فترة صفاء وفطرة، وخلو نفس، فتثمر فيه الدعوة ويستجيب.
وإلا فقد رأينا من أهل الجاهلية من أسلم بعد فترة طويلة من عمر الدعوة أمثال : خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة، وغيرهم.
ونعلم كم كان عمر بن الخطاب كارها للإسلام معاديا لأهله، وقصة ضربه لأخته بعد أن أسلمت قصة مشهورة لأنها كانت سبب إسلامه، فلما ضربها وشجها حتى سال الدم منها رق قلبه لأخته، فلما قرأت عليه القرآن صادف منه قلبا صافيا، وفطرة نقية نفضت عنه عصبية الجاهلية الكاذبة فانفعل للآيات وباشرت بشاشتها قلبه فأسلم١.
لذلك أمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة، وأن يصدع بما يؤمر، لعل السامع تصادفه فترة تنبه لفطرته، كما حدث مع عمر.
وحين نلحظ الفاء في بداية هذه الآية﴿ فإنك لا تسمع الموتى... ٥٢ ﴾( الروم ) نجد أن التقدير : فلا تحزن، ولا يهولنك إعراضهم ؛ لأنك ما قصرت في البلاغ، إنما التقصير من المستقبل ؛ لأنهم لم يقبلوا الروح السامية التي جاءتهم، بل نفروا من السماع، وتناهوا عنه، كما حكى القرآن عنهم :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون٢٦ ﴾( فصلت )
ونهي بعضهم بعضا عن سماع القرآن دليل على أنهم يعلمون أن من يسمع القرآن بأذن واعية لا بد أن يؤمن به وأن يقتنع.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين٥٢ ﴾( الروم ) وفي موضع آخر :﴿ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر... ٤٤ ﴾( فصلت ) وقال أيضا :﴿ صم بكم... ١٨ ﴾( البقرة )
وقد علمنا من وظائف الأعضاء أن البكم يأتي نتيجة الصمم، لأن اللسان يحكي ما سمعته الأذن، فإذا كانت صماء فلا بد أن يكون اللسان أبكم، ليس لديه شيء يحكيه.
لذلك نجد الطفل العربي مثلا حين ينشأ في بيئة إنجليزية يتكلم الإنجليزية لأنه سمعها وتعلمها، بل نجد صاحب اللغة نفسه تعرض عليه الكلمات الغريبة من لغته فلا يعرفها لماذا ؟ لأنه لم يسمعها، فحين يقول العربي عن العجوز : أنها الحيزبون والدردبيس٢... الخ تقول : ما هذا الكلام، مع أنه عربي لكن لم تسمعه أذنك.
والأذن هي أداة الالتقاط الأولى لبلاغ الرسالة، وما دام الله تعالى قد حكم عليهم بأنهم في حكم الأموات، فالإحساس لديهم ممتنع، فالأذن لا تسمع آيات القرآن، والعين لا ترى آيات الكون ولا تتأملها.
لذلك قال تعالى عنهم :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور٤٦ ﴾( الحج )
وكلمة أعمى نقولها للمبصر صحيح العينين حينما يخطئ في شيء، فتقول له : أنت أعمى ؟ لماذا، لأنه وإن كان صحيح العينين، إلا أنه لم يستعملهما في مهمتهما، فهو والأعمى سواء.
وهؤلاء القوم وصفهم الله بأنهم أولا في حكم الأموات، ثم هم مصابون بالصمم، فلا يسمعون البلاغ، وتكتمل الصورة بأنهم عمي لا يرون آيات الإعجاز في الكون، وليتهم صم فحسب، فالأصم يمكن أن تتفاهم معه بالإشارة فينتفع بعينيه إن كان مقبلا عليك، لكن ما الحال إذا كان مدبرا، كما قال تعالى :﴿ إذا ولوا مدبرين٥٢ ﴾( الروم ) يعني : أعطوك ظهورهم، إذن : لم يعد لهم منفذ للتلقي ولا للإدراك، فهم صم بكم، وبالإدبار تعطلت أيضا حاسة البصر، فلا أمل في مثل هؤلاء، ولا سبيل إلى هدايتهم.
٢ الحيزبون: العجوز. والنون زائدة، كما زيدت في الزيتون. (اللسان- مادة حزب).
- الدردبيس: الشيخ الكبير الهم(البالي) الفاني، والعجوز أيضا يقال لها دردبيس (اللسان مادة: دردب، دربس)..
وقوله سبحانه :﴿ إن تسمع... ٥٣ ﴾( الروم ) أي : ما تسمع﴿ إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون٥٣ ﴾وهؤلاء هم أصفياء القلوب والفطرة، الذين يلتفتون إلى كون الله، فيستدلون بالخلق على الخالق، وبالكون على المكون سبحانه، ولم لا، ونحن نعرف من اخترع أبسط الأشياء في حياتنا ونؤرخ له، ونخلد ذكراه، ألسنا نعرف أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي، والله الذي خلق الشمس لهو أولى بالمعرفة.
فإذا جاءك رسول من عند الله يخبرك بوجوده تعالى، ويحل لك لغز هذا الوجود الذي تحتار فيه، فعلك أن تصدقه، وأن تؤمن بما جاءك به ؛ لذلك الحق سبحانه يعلم الرسل أن يقولوا للناس في أعقاب البلاغ﴿ وما أسألكم عليه من أجر... ١٠٩ ﴾( الشعراء )
وفي هذا إشارة إلى أن العمل الذي يؤديه الرسل لأقوامهم عمل يستحقون عليه أجرا بحكم العقل، لكنهم يترفعون عن أجوركم ؛ لأن عملهم غال لا يقدره إلا من أرسلهم، وهو وحده القادر على أن يوفيهم أجورهم.
ومعنى﴿ يؤمن بآياتنا... ٥٣ ﴾( الروم ) يعني : ينظر فيها ويتأملها، ويقف على ما في الكون من عجائب الخلق الدالة على قدرة الخالق، فإذا ما جاءه رسول من عند الله أقبل عليه وآمن به ؛ لذلك قال بعدها :﴿ فهم مسلمون٥٣ ﴾( الروم )
﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير٥٤ ﴾
الحق- تبارك وتعالى- بعد أن عرض علينا بعض الأدلة في الكون من حولنا يقول لنا : ولماذا نذهب بعيدا إذا لم تكف الآيات في الكون من حولك، فانظر في آيات نفسك، كما قال سبحانه :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون٢١ ﴾( الذاريات ) وجمع بين النوعين في قوله سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ٥٣ ﴾( فصلت )
فهنا يقول : تأمل في نفسك أنت :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف... ٥٤ ﴾( الروم )، فإن قال الإنسان المكلف الآن : أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خلقت منها.
نقول : نعم لم تشاهدها في نفسك، فلم تكن لك ساعتها مشاهدة، لكن شاهدتها في غيرك، شاهدتها في الماء المهين الذي يتكون منه الجنين، وفي الأم الحامل، وفي المرأة حين تضع وليدها صغيرا ضعيفا، ليس له قدم تسعى، ولا يد تبطش، ولا سن تقطع، ومع ذلك ربي بعناية الله حتى صار إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الآن.
إذن : فدليل الضعف مشهود لكل إنسان، لا في ذاته، لكن في غيره، وفي مشاهداته كل يوم، وكل منا شاهد مئات الأطفال في مراحل النمو المختلفة، فالطفل يولد لا حول له ولا قوة، ثم يأخذ في النمو والكبر فيستطيع الجلوس، ثم الحبو، ثم المشي، إلى أن تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشد والفتوة.
وعندها يكلفه الحق- سبحانه وتعالى- وينبغي أن نكلفه نحن أيضا، وأن نستغل فترة الشباب هذه في العمل المثمر، فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه، وكأنها تريد أن تؤدى مهمتها التي خلقها الله من أجلها.
لذلك، فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا، فنعامل الشاب حتى سن الخامسة والعشرين على أنه طفل، ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته لا ينقصنا إلا أن نرضعه.
آفتنا أن لدينا حنانا( مرق ) لا معنى له، أما في خارج بلادنا، فبمجرد أن يبلغ الشاب رشده لم يعد له حق على أبيه، بل ينتقل الحق لأبيه عليه، ويتحمل هو المسئولية.
والحق سبحانه يعلمنا في تربية الأبناء أن نعودهم تحمل المسئولية في هذه السن :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم... ٥٩ ﴾( النور )
فانظر أنت أيها الإنسان الذي جعلت كل الأجناس الأقوى منك في خدمتك، انظر في نفسك وما فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة الله، فقد نشأت ضعيفا لا تقدر على شيء يخدمك غيرك.
ومن حكمته تعالى في الطفل ألا تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى لا يؤذي أمه، ثم تخرج له أسنان مؤقتة يسمونها الأسنان اللبنية ؛ لأنه ما يزال صغيرا لا يستطيع تنظيفها، فيجعلها الله مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكن من تنظيفها، فتسقط ويخرج مكانها الأسنان الدائمة، ولو تأملت في نفسك لوجدت ما لا يحصى من الآيات.
﴿ ثم جعل من بعد ضعف قوة... ٤٥ ﴾( الروم ) أي : قوة الشباب وفتوته ﴿ ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة... ٥٤ ﴾( الروم ) أي : ضعف الشيخوخة، وهذا الضعف يسرى في كل الأعضاء، حتى في العلم، وفي الذاكرة ﴿ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا... ٥ ﴾( الحج )
ويظل بك هذا الضعف حتى تصير إلى مثل الطفل في كل شيء تحتاج إلى من يحملك ويخدمك إذن : لا تأخذ هذه المسألة بطبع تكوينك، ولكن بإرادة مكونك سبحانه، فبعد أن كنت ضعيفا يقويك، وهو سبحانه القادر على أن يعيدك إلى الضعف، بحيث لا تستطيع عقاقير الدنيا أن تعيدك إلى القوة ؛ لذلك يسخر أحد العقلاء ممن يتناولون( الفيتامينات ) في سن الشيخوخة، ويقول : يا ويل من لم تكن( فيتاميناته ) من ظهره.
لذلك تلحظ الدقة في الأداء في قول سيدنا زكريا :﴿ قال رب إني وهن العظم مني.. ٤ ﴾( مريم ) ؛ لأن العظم آخر مخزن لقوت الإنسان، حيث يختزن فيه ما زاد عن حاجة الجسم من الطاقة، فإذا لم يتغذ الجسم بالطعام يمتص من هذا المخزون من الشحوم والدهون، ثم من العضل، ثم من نخاع العظم، وهو آخر مخزن للقوت في جسمك.
فمعنى قول سيدنا زكريا :﴿ إني وهن العظم مني... ٤ ﴾( مريم ) يعني : وصلت إلى مرحلة الحرض١ التي لا أمل معها في قوة، ويؤكد هذا المعنى بقوله﴿ واشتعل الرأس شيبا... ٤ ﴾( مريم )
وقلنا : إن بياض الشعر ليس لونا، إنما البياض انعدام اللون ؛ لذلك فاللون الأبيض ليس من ألوان الطيف، ومع الشيخوخة تضعف أجهزة الإنسان، وتضعف الغدد المسئول عن لون الشعر عن إفراز اللون الأسود، فيظهر الشعر بلا لون.
ونلحظ أن أغلب ما يشيب الناس يشيبون مما يعرف ب " السوالف " من هنا ومن هنا، لماذا ؟ قالوا : لأن الشعرة عبارة عن أنبوب دقيق، فإذا قصت أثناء الحلق ينفتح هذا الأنبوب، وتدخله بعض المواد الكيماوية مثل الصابون والكولونيا، فتؤثر على الحويصلات الملونة وتقضي عليها ؛ لذلك نلاحظ هذه الظاهرة كثيرا في المترفين خاصة ؛ لذلك تجد بعض الشباب يظهر عندهم الشيب في هذه المناطق من الرأس.
وقد رتب سيدنا زكريا مظاهر الضعف بحسب الأهمية، فقال أولا ﴿ وهن العظم مني... ٤ ﴾( مريم ) ثم ﴿ واشتعل الرأس شيبا... ٤ ﴾( مريم ) ومع كبر سيدنا زكريا وضعفه، ومع أن امرأته كانت عاقرا إلا أن الله تعالى استجاب له في طلبه للولد الذي يرث عنه النبوة، فبشره بولد وسماه يحيى، وكأن الحق-تبارك وتعالى- يقول لنا : إياكم، ألا أستطيع أن أخلق مع الشيب والكبر والضعف ؟ لذلك قال بعدها :﴿ يخلق ما يشاء... ٥٤ ﴾( الروم )
وقال في شأن زكريا عليه السلام :﴿ قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا٩ ﴾( مريم )
وقوله تعالى :﴿ وهو العليم القدير٥٤ ﴾( الروم ) أي : أن هذا الخلق ناشئ عن علم﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير١٤ ﴾( الملك ) لكن العلم وحده لا يكفى، فقد تكون عالما لكنك غير قادر على تنفيذ ما تعلم، كمهندس الكهرباء، لديه علم واسع عنها، لكنه لا يستطيع تنفيذ شبكة معمل كهرباء، فيذهب إلى أحد الممولين ليعينه على التنفيذ، لذلك وصف الحق سبحانه نفسه بالعلم والقدرة.
إذن : هذا هو الدليل النفسي على الموجد الحق الفاعل المختار الذي يفعل الأشياء بعلم وقدرة، ولا يكلفه العمل شيئا ولا يستغرق وقتا ؛ لأنه سبحانه يقول للشيء : كن فيكون، ولا تتعجب أن ربك يقول للشيء كن فيكون ؛ لأنك أيها المخلوق الضعيف تفعل هذا مع أعضائك وجوارحك.
وإلا فقل لي : ماذا تفعل إن أردت أن تقوم مثلا أو تحمل شيئا مجرد أن تريد الحركة تجد أعضاءك طوع إرادتك، ودون أن تدري بما يحدث بداخلك من انفعالات وحركات، وإن قلت فأنا كبير وأستطيع أداء هذه الحركات كما أريد، فما بالك بالطفل الصغير ؟
وسبق أن ضربنا مثلا لتوضيح هذه المسألة بالبلدوزر، فلكل حركة منه ذراع خاص بها يحركه السائق، وأزرار يضرب عليها، وربما احتاج السائق لأكثر من أداة لتحريك هذه الآلة حركة واحدة.
أما أنت فمجرد أن تريد تحريك العضو تجده يتحرك معك كما تريد دون أن تعرف العضلات والأعصاب التي شاركت في حركته، فإذا كنت أنت على هذه الصورة، أتعجب من أن الله تعالى يقول للشيء كن فيكون ؟
﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون٥٥ ﴾
بعد أن عرض الحق- سبحانه وتعالى – الدليل ليهتدي به من يشاء، ومن لم يهتد يلوح له بهذا التهديد :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) معنى كلمة﴿ تقوم الساعة... ٥٥ ﴾ ( الروم ) تدل على أنها موجودة، لكن نائمة تنتظر الإذن لها، فتقوم تنتظر أن نقول لها : كن فتكون.
فالقيام هنا له دلالته ؛ لأن الساعة أمر لا يتأتى به القيام، إنما يقيمها الحق سبحانه، فقوله﴿ تقوم... ٥٥ ﴾( الروم ) كأنها منضبطة كما تضبط المنبه مثلا، ولها وقت تنتظره، وهي من تلقاء نفسها إن جاء وقتها قامت.
وحين تتأمل كلمة﴿ تقوم... ٥٥ ﴾( الروم ) تجد أن القيام آخر مرحلة للإنسان ليؤدى مهمته، فيقابلها ما قبلها، فقبل القيام القعود، ثم الاضطجاع، ثم النوم، فمعنى قيام الساعة يعني : أنها جاءت لتؤدى مهمتها أداء كاملا.
وسميت الساعة ؛ لأنها دالة على الوقت الذي يأذن الله فيه بإنهاء العالم، وإن كانت الساعة عندنا كوحدة لحساب الزمن نقول : صباحا أو مساء وفق حساب الحكومة أو الأهالي، توقيت كذا أو كذا.
هذه الآلة التي في أيدينا بما تضبطه لنا من وقت أمرها هين، ليست مشكلة أن تقدم أو تؤخر عدة ثوان أو عدة دقائق، تعمل ﴿ أتوماتيكيا ﴾أو بالحجارة، صنعت في سويسرا، أو في الصين، هذه الساعة لا تهم، المهم الساعة الأخرى، الساعة التي لا ساعة بعدها، واعلم أنها منضبطة عند الحق سبحانه، وما عليك إلا أن تضبط نفسك عليها، وتعمل لها ألف حساب.
وعجيب أن يقسم الكفار يوم القيامة﴿ ما لبثوا غير ساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) فإن كذبوا في الدنيا، فهل يكذبون أيضا في الآخرة ؟ قالوا : بل يقولون ذلك على ظنهم، وإلا فالكلام منهم في هذا الوقت ليس اختياريا، فقد مضى وقت الاختيار، ولم يعد الآن قادرا على الكذب.
لذلك سيقول الحق سبحانه في آخر الآية :﴿ كذلك كانوا يؤفكون ٥٥ ﴾( الروم ) فقد كانوا يقلبون الحقائق في الدنيا، أما في الآخرة فلن يقلبوا الحقائق، إنما يقولون على حسب نظرهم.
والمجرمون : المجرم هو الذي خرج عن المطلوب منه بذنب يخالفه، فنقول : فلان أجرم، والقانون يسمي الفعل جريمة.
ومعنى﴿ ما لبثوا... ٥٥ ﴾( الروم ) اللبث : المكث طويلا أي في الدنيا، أو : ما لبثوا في قبورهم بعد الموت إلى قيام الساعة التي تحيى.
فهذه فترات ثلاث للبثهم في القبور، أطولها للذين ماتوا منذ آدم عليه السلام، ثم أوسطهم الذين جاءوا بعد ذلك أمثالنا، ثم أقلها لبثا وهم الذين يموتون بين النفختين. وفي كل هذه الفترات يوجد كفار، وعلى عهد آدم كان هناك كفار، وعلى مر العصور بعده يوجد كفار، حتى بين النفختين يوجد كفار، إذن : فكلمة لبثوا هنا على عمومها : أطول، وطويل، وقصيرة، وأقصر.
وهؤلاء يقولون يوم القيامة " ما لبثنا غير ساعة " مع أن الآخرة لا كذب فيها، لكنهم يقولون ذلك على حسب ظنهم ؛ لأن الغائب عن الزمن لا يدري به، والزمن ظرف لوقت الأحداث، كما أن المكان ظرف لمكانها، فالنائم مثلا لا يشعر بالزمن ؛ لأن الزمن يحسب بتوالي الأحداث فيه، فإذا كنت لا تشعر بالحدث فبالتالي لا تشعر بالوقت، سواء أكان بنوم كأهل الكهف، أو بموت كالذي أماته الله مائة عام ثم بعثه١.
ولما قاموا من النوم أو الموت لم يوقتوا إلا على عادة الناس في النوم، قالوا :﴿ لبثنا يوما أو بعض يوم... ١٩ ﴾( الكهف ) ؛ لأنه في هذه الحالة لا يدري بالزمن، إنما يدري بالزمن الذي يتتبع الأحداث، وما دام الإنسان في هذه الحالة لا يدرك الزمن، فهو صادق فيما يخبر به على ظنه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى :﴿ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين١١٢ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين١١٣ ﴾( المؤمنون )
أي : اسأل الذين يعدون الزمن ويحصونه علينا، والمقصود الملائكة٢، فهم الذين يعرفون الأحداث، ويسجلونها منذ خلق آدم عليه السلام وإلى الآن، وإلى قيام الساعة.
فلا يسأل عن عدد إلا من عد بالفعل، أو من يمكن أن يعد، أما الشيء الذي لا يكون مظنة العد والإحصاء فلا يعد، وهل عد أحد في الدنيا رمال الصحراء مثلا ؟ لذلك نسمع في الفكاهات : أن واحدا سأل الآخر : تعرف في السماء كم نجم ؟ قال : تسعة آلاف مليون وخمسمائة ألف ثلاثة وتسعون نجما، فقال الأول : أنت كذاب، فقال الآخر : اطلع عدهم.
لكن، لماذا يستقل الكفار الزمن فيقسمون يوم تقوم الساعة ما لبثوا غير ساعة ؟ وفي موضع آخر يقول عنهم :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها٤٦ ﴾( النازعات )
قالوا : لأن الزمن يختلف بحسب أحوال الناس فيه، فواحد يتمنى لو طال به الزمن، وآخر يتمنى لو قصر، فالقوت الذي يجمعك ومن تحب يمضي سريعا وتتمنى لو طال، على خلاف الوقت الذي تقضيه على مضض مع من تكره، فيمر بطيئا متثاقلا.
على حد قول الشاعر :
حادثات السرور توزن وزنا والبلايا تكال بالقفزان ٣
ويقول آخر :
ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطى إذ شيعك
إلى أن يقول :
إن يطل بعدك ليلى فلكم بت أشكو قصر الليل معك
ففي أوقات السرور، الزمن قصير، وفي أوقات الغم الزمن طويل ثقيل، ألم تسمع للذي يقول- لما جمع الليل شمله بمن يحب :
يا ليل طل يا نوم زل يا صبح قف لا تطلع
كذلك الذي ينتظر سرورا يستبطئ الزمن، ويود لو مر سريعا ليعاين السرور الذي ينتظره، أما الذي يتوقع شرا أو ينتظره فيود لو طال الزمن ليبعده عن الشر الذي يخافه.
لذلك نجد المؤمنين يودون لو قصر الزمن ؛ لأنهم واثقون من الخير الذي ينتظرهم والنعيم الذي وعدوا به، أما المجرمون فعلى خلاف ذلك، يودون لو طال الزمن ليبعدهم عما ينتظرهم من العذاب ؛ لذلك يقولون ما لبثنا في الدنيا إلا قليلا ويا ليتها طالت بنا. إما لأنهم لا يدرون بالزمن يقولون حسب ظنهم، أو لأنهم يريدون شيئا يبعد عنهم العذاب.
إذن : أقسموا ما لبثوا غير ساعة، إما على سبيل الظن، أو لأن الغافل عن الأحداث لا يدري بالزمن، ولا يستطيع أن يحصيه، كالعزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه﴿ قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم... ٢٥٩ ﴾ ( البقرة ) فأخبره ربه أنه لبث مائة عام﴿ قال بل لبثت مائة عام... ٢٥٩ ﴾( البقرة )
والذي لا شك فيه أن الله تعالى صادق فيما أخبر به، وكذلك العزير كان صادقا في حكمه على الزمن ؛ لذلك أقام الحق- سبحانه وتعالى- الدليل على صدق القولين فقال :﴿ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه... ٢٥٩ ﴾( البقرة ) والطعام لا يتغير في يوم أو بعض يوم، فقام الطعام والشراب دليلا على صدق الرجل.
ثم قال سبحانه﴿ وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحما... ٢٥٩ ﴾( البقرة )
فقامت العظام البالية دليلا على صدقه تعالى في المائة عام. ولا تقل : كيف نجمع بين صدق القولين ؟ لأن الذي أجرى هذه المسألة رب، هو سبحانه القابض الباسط، يقبض الزمن في حق قوم، ويبسطه في حق آخرين.
وهذه الآية :﴿ ويوم تقوم الساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) جاءت بعد إعذار الله للكافرين برسله، ومعنى إعذارهم أي : إسقاط عذرهم في أنه سبحانه لم يبين لهم أدلة الإيمان في قمته بإله واحد، وأدلة الإيمان بالرسول بواسطة المعجزات حتى يؤمنوا بآيات الأحكام في : افعل، ولا تفعل.
فالآيات كما قلنا ثلاث : آيات تثبت قمة العقيدة، وهو الإيمان بوجود الإله القادر الحكيم، وآيات تثبت صدق البلاغ عن الله بواسطة رسله، وهذه هي المعجزات، وآيات تحمل الأحكام.
والحق سبحانه لا يطلب من المؤمنين به أن يؤمنوا بأحكامه في : افعل ولا تفعل إلا إذا اقتنعوا أولا بالرسول المبلغ عن الله بواسطة المعجزة، ولا يمكن أن يؤمنوا بالرسول المبلغ عن الله إلا إذا ثبت عندهم وجود الله، ووجود الله ثابت في آيات الكون.
لذلك دائما ما يعرض علينا الحق سبحانه آياته في الكون، لكن يعرضها متفرقة، فلم يصبها علينا صبا، إنما يأتي بالآية ثم يردفها بما حدث منهم من التكذيب والنكران، فيأتي بالآية ونتيجتها منهم، ذلك ليكرر الإعذار لهم في أنه لم يعد لهم عذر في ألا يؤمنوا.
فنلحظ هذا التكرار في قوله سبحانه :﴿ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ٤٦ ﴾
ثم يذكر أن هذه الآيات لم تجد معهم :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين٤٧ ﴾( الروم )
ثم يسوق آية أخرى :
﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون٤٨ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ٤٩ فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾( الروم )
ثم يذكر سبحانه ما كان منهم بعد كل هذه الآيات :﴿ ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون٥١ ﴾( الروم )
وهكذا يذكر الحق سبحانه الآية، ويتبعها بما حدث منهم نكران، ويكررها حتى لا تبقى لهم حجة للكفر، ثم تأتي هذه الآية :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) لتقول لهم : إن كنتم قد كذبتم بكل هذه الآيات، فستأتيكم آية لا تستطيعون تكذيبها هي القيامة.
وعجيب أن يقسموا بالله في الآخرة ما لبثوا غير ساعة، وقد كفروا به سبحانه في الدنيا.
وفي الآية جناس بين كلمة الساعة الأولى، والساعة الثانية، فاللفظ واحد لكن المعنى مختلف﴿ ويوم تقوم الساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) أي : القيامة ﴿ يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) أي : من الوقت. ومن ذلك قول الشاعر :
رحلت عن الديار لكم أسير وقلبي في محبتكم أسير
أي : مأسور
ولي أنا وزميلي الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة- أطال الله بقاءه – قصة مع الجناس، ففي إحدى الحصص البلاغة، قال الأستاذ : لا يوجد في القرآن جناس تام إلا في هذه الآية بين ساعة وساعة، لكن يوجد فيه جناس ناقص، فرفع الدكتور محمد أصبعه وقال : يا أستاذ أنا لا أحب أن يقال : في القرآن شيء ناقص.
فضحك الشيخ منه وقال له : إذن ماذا نقول ؟ وقد قسم أهل البلاغة الجناس إلى تام وناقص : الأول تتفق فيه الكلمتان في عدد الحروف وترتيبها وشكلها، فإن اختلف من ذلك شيء فالجناس بينهما ناقص، كما في قوله تعالى :﴿ ويل لكل همزة لمزة١ ﴾( الهمزة ) فبين همزة ولمزة جناس ناقص، لأنهما اختلفا في الحرف الأول.
أذكر أن الشيخ أشار إلي وقال : ما رأيك فيما يقول صاحبك ؟ فقلت : نسميه جناس كل، وجناس بعض، يعني : تتفق الكلمتان في كل الحروف أو في بعضها، وبذلك لا نقول في القرآن : جناس ناقص.
فقولهم﴿ ما لبثوا غير ساعة... ٥٥ ﴾( الروم ) أي : الساعة الزمنية التي نعرفها، والزمن له مقاييس : ثانية، ودقيقة، وساعة، ويوم، وأسبوع، وشهر، وسنة، وقرن، ودهر، وهم يقصدون الساعة الزمنية المعروفة لنا.
إذن : فهم يقللون مدة مكثهم في الدنيا أو في القبور لما فاجأتهم القيامة، وقد أخبرناهم وهم في سعة الدنيا أن متا
٢ قاله مجاهد. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦/١٢٢) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ القفزان جمع: قفيز. وهو مكيال تتواضع الناس عليه. قال ابن منظور في(لسان العرب- مادة: قفز): "هو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق. والمكوك:. ثلاث كيلات" أي: أن القفيز الواحد: ٢٤ كلية. أي: ٢٨٨ كيلوجرام..
﴿ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون٥٦ ﴾
قال هنا﴿ العلم والإيمان... ٥٦ ﴾ ( الروم ) فهل العلم ينافي الإيمان ؟ لا، لكن هناك فرق بينهما، فالعلم كسب، والإيمان أنت تؤمن بالله وإن لم تره. إذن : شيء أنت تراه وتعلمه، وشيء يخبرك به غيرك بأنه رآه، فآمنت بصدقه فصدقته، فهناك تصديق للعلم وتصديق للإيمان ؛ لذلك دائما يقال : الإيمان للغيبية عنك، أما حين يقوى إيمانك، ويقوي يقينك يصير الغيب كالمشاهد بالنسبة لك.
وقد أوضحنا هذه المسألة في الكلام عن قوله تعالى في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ﴾( الفيل )
فقال : ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، ولم يتسن له رؤية هذه الحادثة، قالوا : لأن إخبار الله له أصدق من رؤيته بعينه.
فقوله :﴿ أوتوا العلم والإيمان... ٥٦ ﴾( الروم ) لأن العلم تأخذه أنت بالاستنباط والأدلة... الخ، أو تأخذه ممن يخبرك وتصدقه فيما أخبر، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابى١ :" كيف أصبحت " ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا، قال :" لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك " ؟
يعني : ما مدلول هذه الكلمة التي قلتها ؟
فقال الصحابي : عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها، ومدرها٢، وكأني أنظر إلى أهل الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون- يريد أن يقول رسول الله : ولقد أصبحت وكأني أرى ما أخبرتنا به- فقال له رسول الله : " عرفت فالزم " ٣.
لكن، من هم الذين أوتوا العلم ؟ هم الملائكة الذين عاصروا كل شيء، لأنهم لا يموتون، أو الأنبياء لأن الذي أرسلهم أخبره، أو المؤمنون لأنهم صدقوا الرسول فيما أخبر به.
وقال﴿ أوتوا العلم... ٥٦ ﴾( الروم ) ولم يقل : علموا، كأن العلم ليس كسبا، إنما إيتاء من عالم أعلم منك يعطيك، فإن قلت : أليس للعلماء دور في الاستدلال والنظر في الأدلة ؟ نقول : نعم، لكن من نصب لهم هذه الأدلة ؟ إذن : فالعلم عطاء من الله.
ثم يقول سبحانه :﴿ لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث... ٥٦ ﴾( الروم ) يعني : مسألة مرسومة ومنضبطة في اللوح المحفوظ إلى يوم البعث﴿ فهذا يوم البعث... ٥٦ ﴾( الروم ) الذي كنتم تكذبون به، أما الآن فلا بد أن تصدقوا فقد جاءكم شيء لا تقدرون على تكذيبه ؛ لأنه أصبح واقعا ومن مصلحتكم أن يقبل عذركم، لكن لن يقبل منكم، ولن نسمع لكم كلاما لأننا قدمنا الإعذار سابقا.
وقوله تعالى :﴿ ولكنكم كنتم لا تعلمون٥٦ ﴾( الروم ) في أول الآية قال :﴿ أوتوا العلم.... ٥٦ ﴾( الروم ) فنسب العلم إلى الله، أما هنا فنسبه إليهم ؛ لأن الله تعالى نصب لهم الأدلة فلم يأخذوا منها شيئا، ونصب لهم الحجج والبراهين والآيات فغفلوا عنها، إذن : لم يأخذوا من الدلائل والحجج ما يوصلهم إلى العلم.
٢ المدر: قطع الطين اليابس. وقيل: الطين العلك الذي لا رمل فيه. (لسان العرب- مادة: مدر)..
٣ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد(١/٥٧) وعزاه للطبراني في الكبير من حديث الحارث ابن مالك الأنصاري..
﴿ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ٥٧ ﴾
قوله﴿ فيومئذ... ٥٧ ﴾( الروم ) أي : يوم قيام الساعة ﴿ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون٥٧ ﴾( الروم ) أي : لا يقبل منهم عذر، ومعنى﴿ ظلموا... ٥٧ ﴾( الروم ) أي : ظلموا أنفسهم، والظالم يلجأ إلى الظلم ؛ لأنه يريد أن يأخذ من الغير ما عجزت حركته عن إدراكه.
فالظلم أن تأخذ نتيجة عرق غيرك لتحوله إلى دم فيك، لكن دمك إن لم يكن من عرقك فهو دم فاسد عليك، ولا تأتي منه أبدا حركة إجابة في الوجود لا بد أن تكون نتيجته حركات شر ؛ لأنه دم حرام، فكيف يتحرك في سبيل الحلال ؟
لذلك ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم٥١ ﴾( المؤمنون )وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون١٧٢ ﴾( البقرة ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعت أغبر ثم يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، فأنى يستجاب له " ١.
إذن : كيف يستجاب لنا وأبعاضنا كلها غير أهل لمناجاة الله بالدعاء ؟
ولا يقف الأمر عند عدم قبول العذر، إنما﴿ ولا هم يستعتبون ٥٧ ﴾( الروم ) العتاب : حوار بلطف ودلال بين اثنين في أمر أغضب أحدهما، وكان من المظنون ألا يكون، ويجب أن يعرض عليه ليصفى نفسه منه، كأن يمر عليك صديق فلا يسلم عليك فتغضب منه، فإن كنت حريصا على مودته تقابله وتقول : والله أنا في نفسي شيء منك، لأنك مررت فلم تسلم علي يوم كذا، فيقول لك : والله كنت مشغولا بكذا وكذا ولم أرك، فيزيل هذا العذر ما في نفسك من صاحبك.
ونقول : عتب فلان على فلان فأعتبه أي : أزال عتابه ؛ لذلك يقولون : ويبقى الود ما بقى العتاب، ويقول الشاعر :
أما العتاب فبالأحبة أخلق والحب يصلح بالعتاب ويصدق
والهمزة في أعتب تسمى همزة الإزالة، ومنها قول الشاعر :
أريد سلوكم – أي بعقلي- والقلب يأبى وأعتبكم وملء النفس عتبى
ومنه ما جاء في مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لربه يوم الطائف بعد أن لقي منهم ما لقي، حتى لجأ إلى حائط، وأخذ يناجي ربه :" رب إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني٢، أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي... إلى أن يقول : لك العتبى حتى ترضى " ٣.
يعني : يا رب إن كنت غضبت لشيء بدر مني، فأنا أريد أن أزيل عتابك علي.
ومن همزة الإزالة قولنا : أعجمت الكلمة أي : أزلت عجمتها وخفاءها، وأوضحت معناها، ومن ذلك نسمي المعجم لأنه يزيل خفاء الكلمات ويبينها.
وتقرأ في ذلك قوله تعالى :﴿ إن للساعة آتية أكاد أخفيها.... ١٥ ﴾( طه ) أي : أقرب أن أزيل خفاءها بالآيات والعلامات.
وهذه الكلمة﴿ يستعتبون٥٧ ﴾( الروم ) وردت في القرآن ثلاث٤ مرات، ووردت مرة واحدة مبنية للفاعل٥ ( يستعتبون )، لأنهم طلبوا إزالة عتابهم، فلم يزله الله ولم يسمح لهم في إزالته، أما ( يستعتبون ) فلأنهم لم يطلبوا العتب بأنفسهم، إنما جعلوا لهم شفعاء يطلون لهم، لكن خاب ظنهم في هذه وفي هذه.
فالمعنى﴿ ولا هم يستعتبون٥٧ ﴾( الروم ) لا يجرؤ شفيع أن يقول لهم : استعتبوا ربكم، واسألوه أن يعتبكم أي : يزيل العتاب عنكم.
٢ جهمه: استقبله بوجه كريه. أي: يلقاني بالغلظة والوجه الكريه. ورجل جهم الوجه أي: كالح الوجه.(لسان العرب-مادة: جهم)..
٣ هذا الدعاء أورده ابن هشام في السيرة النبوية(٢/٤٢٠)، وذلك أن أهل الطائف أغروا به صلى الله عليه وسلم سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه لحائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بهذا الدعاء..
٤ وردت يستعتبون بالبناء للمجهول في ثلاثة مواضع:
﴿ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون٨٤﴾(النحل)
﴿فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون٥٧﴾(الروم)
﴿فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون٣٥﴾(الجاثية)..
٥ وذلك في قوله تعالى: ﴿وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين٢٤﴾(فصلت)..
﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون٥٨ ﴾
وهذه الآية تعني أننا لم نترك معذرة لأحد ممن كفروا برسلهم ؛ لأننا جئنا لهم بأمثال متعددة وألوان شتى من الأدلة المشاهدة ليستدلوا بها على غير المشاهد ليأخذوا من مرائيهم ومن حواسهم دليلا على ما غاب عنهم.
فحين يريد سبحانه أن يقنعهم بأن يؤمنوا بإله واحد لا شريك له يضرب لهم هذا المثل من واقع حياتهم :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا... ٢٩ ﴾( الزمر )
هل يستوي عبد لسيد واحد مع عبد لعدة أسياد يتجاذبونه، إن أرضي واحد أسخط الآخرين ؟
ثم يقرب المسألة بمثل من الأنفس، وليس شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، فيقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون٢٨ ﴾
والمعنى : إذا كنتم لا تقبلون أن يشارككم مواليكم فيما رزقكم الله، فتكونوا في هذا الرزق سواء، فكيف تقبلون الشركة في حق الله تعالى ؟
وحين يريد الحق سبحانه أن يبطل شركهم وعبادتهم للآلهة يضرب لهم هذا المثل﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب٧٣ ﴾( الحج )
والمثل يعني أن تشبه شيئا بشيء، وتلحق خفيا بجلي، لتوضحه وليستقر في ذهن السامع، كأن تشبه شخصا غير معروف بشخص معروف، ويسمى هذا : مثل أو مثل، نقول : فلان مثل فلان.
أما المثل فقول من حكيم شاع على الألسنة، وتناقله الناس كلما جاءت مناسبته، وسبق أن مثلنا لذلك بالملك الذي أرسل امرأة تخطب له أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، وكان اسمها( عصام )، فلما عادت من المهمة بادرها بقوله : ما وراءك يا عصام ؟ فصارت مثلا يقال في مثل هذه المناسبة مع أنه قيل في حادثة مخصوصة.
والمثل يقال كما هو، لا نغير فيه شيئا، فنقول : ما وراءك يا عصام للمذكر وللمؤنث، وللمفرد وللمثنى وللجمع.
ومن ذلك نشبه الكريم بحاتم، والشجاع بعنترة... الخ لأن حاتما الطائي صار مضرب المثل في الكرم، وعنترة في الشجاعة، وفي المثال نقول لمن يواجه بمن هو أقوى منه : إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، ونقول لمن لم يعد للأمر عدته : قبل الرماء تملأ الكنائن.
إذن : المثل قول شبه مضربه الآن بمورده سابقا لأن المورد كان قويا وموجزا لذلك حفظ وتناقلته الألسنة.
والقرآن يسير على أسلوب العرب وطريقتهم في التعبير وتوضيح المعنى بالأمثال حتى يضرب المثل بالبعوضة، والبعض يأنف أن يضرب القرآن بجلاله وعظمته مثلا بالبعوضة، وهو لا يعلم أن الله يقول :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. ٢٦ ﴾( البقرة )
وليس معنى :﴿ فما فوقها... ٢٦ ﴾( البقرة ) أي : في الكبر كما يظن البعض، فيقولون : لماذا يقول فما فوقها وهو من باب أولى، لكن المراد ما فوقها في الصغر وفيما تستنكرونه من الضآلة، كالكائنات الدقيقة والفيروسات... الخ.
لكن، لماذا يضرب الله الأمثال للناس ؟ قالوا : لأن الإنسان له حواس متعددة، فهو يرى ويسمع ويشم ويتذوق ويلمس... الخ، ولو تأملت كل هذه الحواس لوجدت أن ألصق شيء بالحس أن يضرب ؛ لذلك حين تريد أن توقظ شخصا من النوم فقد لا يسمع نداءك فتذهب إليه وتهزه كأنك تضربه فيقوم.
إذن : فالضرب هو الأثر الذي لا يتخلف مدلوله أبدا، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله... ٢٠ ﴾( المزمل ) أي : يؤثرون فها تأثيرا واضحا كالحرث مثلا، وهو أشبه ما يكون بالضرب.
والضرب لا يكون ضربا يؤدى مهمة وله أثر إلا إذا كان بحيث يؤلم المضروب، ولا يوجع الضارب، وإلا فقد تضرب شيئا بقوة فتؤلمك يدك، فكأنك ضربت نفسك. وهذا المعنى فطن إليه الشاعر، فقال للذين لا يؤمنون بقدر الله :
أيا هازئا من صنوف القدر بنفسك تعنف لا بالقدر
ويا ضاربا صخرة بالعصا ضربت العصا أم ربت الحجر
فالحق سبحانه يضرب المثل ليشعركم به، وتحسون به حس الألم من الضرب، فإذا لم يحس الإنسان بضرب المثل فهو كالذي لا يحس بالضرب الحقيقي المادي، وهذا والعياذ بالله عديم الإحساس أو مشلول الحس.
فالمعنى :﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل... ٥٨ ﴾( الروم ) يعني : أتيناهم بأمثال ودلائل لا يمكن لأحد إلا أن يستقبلها كما يستقبل الضرب ؛ لأن الضرب آخر مرحلة من مراحل الإدراك.
وسبق أن قلنا : إن الحق سبحانه ضرب المثل لنفسه سبحانه في قوله :﴿ الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح... ٣٥ ﴾( النور )
والمثل هنا ليس لنوره تعالى كما يظن البعض، إنما مثل لتنويره للكون الواسع، وهو سبحانه ينورك حسيا بالشمس وبالقمر وبالنجوم، وينورك معنويا بالمنهج وبالقيم.
ففائدة النور الحسي أن يزيل الظلمة، وأن تسير على هدى وعلى بصيرة فتسلم خطاك واتجاهك من أن تحطم ما هو أقل منك أو يحطمك ما هو أقوى منك، والمحصلة ألا تضر الأضعف منك، وألا يضرك الأقوى منك.
كذلك النور المعنوي، وهو نور القيم والمنهج يمنعك أن تضر غيرك، ويمنع غيرك أن يضرك، وكما ينجيك الحسى من المعاطب الحسية كذلك ينجيك نور القيم من المعاطب المعنوية.
لذلك يقول سبحانه بعد أن ضرب لنا هذا المثل :﴿ نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ٣٥ ﴾
وسبق أن ذكرنا ما كان من مدح أبي تمام١ لأحد الخلفاء :
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقال أحد حساده على مكانته من الخليفة : أتشبه الخليفة بأجلاف العرب ؟ فأطرق هنيهة، ثم أكمل على نفس الوزن والقافية :
لا تنكروا ضربى له من دونه مثلا شرودا في الندى والباس٢
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس٣
الأعجب من هذا أنهم أخذوا الورقة التي معه، فلم يجدوا فيها هذين البيتين، وهذا يعني أنه ارتجلهما لتوه. وقد قلت : والله لو وجدوا هذه الأبيات معدة معه لما قلل ذلك من شأنه، بل فيه دلالة على ذكائه واحتياطه لأمره وتوقعه لما قد يقوله الحساد والحاقدون عليه.
لكن ما تجد هذه الأمثال ولم ينتفعوا بها، وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد بل :﴿ ولئن جئتهم بآية... ٥٨ ﴾( الروم ) أي : جديدة ﴿ ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون٥٨ ﴾( الروم ) فيتهمون الرسل في بلاغهم عن الله بأنهم أهل باطل وكذب.
والحق سبحانه يحتج على الناس في أنه لم يجبهم إلى الآيات التي اقترحوها ؛ لأن السوابق مع الأمم التي كذبت الرسل تؤيد ذلك، فقد كانوا يطلبون الآيات، فيجيبهم الله إلى ما طلبوا، فما يزدادون إلا تكذيبا.
لذلك يقول سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون... ٥٩ ﴾( الإسراء )
فالأمر لا يتعدى كونهم يريدون إطالة الإجراءات وامتداد الوقت في جدل لا يجدى، ثم إن إجابتهم إلى ما طلبوا رغم تكذيبهم بالآيات السابقة احتراما لعدم إيمانهم، ودليلا على أن الآيات السابقة كانت غير كافية، بدليل أنه جاءهم بآية أخرى، إذن : فعدم مجيء الآيات يعني أن الآيات السابقة كانت كافية للإيمان لكنهم لم يؤمنوا ؛ لذلك لن نجيبهم في طلب آيات أخرى جديدة.
وهذه القضية واضحة في جدل إبراهيم- عليه السلام- مع النمروذ في قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت... ٢٥٨ ﴾( البقرة )
وعندها شعر إبراهيم عليه السلام بأن خصمه يميل إلى الجدل والسفسطة، وأنها يريد إطالة أمد الجدل، ويريد تضييع الوقت في أخذ ورد ؛ لذلك أضرب عن هذه الحجة- مع أن خصمه لا يميت ولا يحيي على الحقيقة- وألجأه إلى حجة أخرى لا يستطيع منها فكاكا، ولا يجد معها سبيلا للمراوغة فقال :
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ... ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ] فماذا يقول هذا المعاند ؟ ﴿ فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( ٢٥٨ ) ﴾. ( البقرة )
كذلك كان فرعون يلجأ إلى هذا الأسلوب في حواره مع موسى وهارون عليهما السلام، ففي كل موقف كان يقول :﴿ فمن ربكما يا موسى ( ٤٩ ) ﴾ [ طه ] إنه الجدل العقيم، يلجأ إليه من أفلس، فلم يجد حجة يستند إليها.
ونلحظ في أسلوب الآية صيغة الإفراد في ﴿ ولئن جئتهم بآية.. ( ٥٨ ) ﴾ [ الروم ] ثم تنتقل إلى صيغة الجمع في ﴿ إن أنتم إلا مبطلون ( ٥٨ ) ﴾ [ الروم ] فلم يقولوا لرسولهم مثلا : أنت مبطل، فلماذا ؟ قالوا : لأن الرسول حين يكذبه قومه فيقولون : أنت مبطل، فلعل من أتباعه المؤمنين به من يدافع عنه ويشهد بصدقه، فجاءت صيغة الجمع لتفيد الشمول، فكأنهم يقولون : أنت مبطل وكل من ( يتشدد لك ).
أو : يكون المعنى ﴿ إن أنتم... ( ٥٨ ) ﴾ [ الروم ] يعني : كل الرسل ﴿ مبطلون ( ٥٨ ) ﴾ [ الروم ] أي : كاذبون تختلقون من عند أنفسكم وتقولون : هو من عند الله. وعجيب من هؤلاء أن يؤمنوا بالله ويكذبوا رسله، ككفار مكة الذين شمتوا في رسول الله حين فتر عنه الوحي فقالوا : " إن رب محمد قلاه " ٤.
وهم لا يدرون أن الوحي كان يجهد رسول الله، وكان يشق عليه في بداية الأمر، حتى جاء زوجه خديجة يقول : زملوني زملوني، دثروني دثروني، وكان جبينه يتفصد عرقا، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عن الملك : " وضمني حتى بلغ مني الجهد " ٥.
وما ذاك إلا لالتقاء الملكية بالبشرية : لذلك كان جبريل عليه السلام يتمثل لسيدنا رسول الله في صورة بشر، ليس عليه غبار السفر ولا يعرفه أحد، كما جاء لرسول الله وهو في مجلس الصحابة يسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان٦.
إذن : مسألة فتور الوحي وانقطاعه مدة عن رسول الله أراد الله به أن يستريح رسول الله من مشقة الوحي حتى يزول عنه الألم والعناء، وعندها يشتاق للوحي من جديد، ويهون عليه فيحتمله ويصير له دربة على تلقيه من الملك، فشوق الإنسان إلى الشيء يجعله يتحمل المشاق في سبيله، ويهون عليه الصعاب، كالذي يسير إلى محبوبه فلا يبالي حتى لو سار على الشوك، أو اعترضته المخاوف والأخطار.
والوحي لقاء بشرى بملكى، فإما أن ينتقل الرسول إلى مرتبة الملك، أو ينتقل الملك إلى مرتبة البشر، وهذا التقارب لم يحدث في بداية نزول الوحي فأجهد رسول الله واحتاج إلى هذه الراحة بانقطاع الوحي.
لذلك يقول سبحانه :﴿ ووضعنا عنك وزرك ( ٢ ) الذي أنقض ظهرك ( ٣ ) ﴾ [ الشرح ] أي : جعلناه خفيفا لا يجهدك. ويقول سبحانه في الرد عليهم :﴿ والضحى ( ١ ) والليل إذا سجى ( ٢ ) ما ودعك ربك وما قلى ( ٣ ) ﴾ [ الضحى ].
فعجيب أن يقولوا " إن رب محمد قلاه " فيعترفون برب محمد ساعة الشدة والضيق الذي نزل به، فأشمتهم فيه حتى قالوا : إن رب محمد جفاه، فلما وصله ربه بالوحي ودعاهم إلى الإيمان كفروا وكذبوا.
٢ المثل الشرود: الخارج عن المألوف والعادة. والندى: السخاء والكرم. والبأس: القوة والحرب..
٣ النبراس: المصباح والسراج. والمشكاة: كوة في جدار البيت ليست بنافذة وتعرف في قرانا بـ"الطاقة" مع نطق القاف همزة..
٤ عن حندب بن عبد الله البجلي قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتت امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله ﴿والضحى (١) والليل إذا سجى (٢) ما ودعك ربك وما قلى (٣)﴾ [الضحى] رواه البخاري ومسلم، وفي رواية قال جندب: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: ودع محمدا ربه. قاله ابن كثير في تفسيره (٤/٥٢٢)..
٥ قالت عائشة رضي الله عنها: "لقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه. وإن جبينه ليتفصد عرقا" أخرجه البخاري في صحيحه (٢) كتاب بدء الوحي. قال ابن حجر في الفتح (١/٢١): "شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق "والفصد هو قطع العرق لإسالة الدم..
٦ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن هند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام (فيجيبه)، فأخبرني عن الإيمان (فيجيبه)، فأخبرني عن الإحسان (فيجيبه)، فأخبرني عن الساعة (فيجيبه) قال عمر: ثم قال صلى الله عليه وسلم: أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم". أخرجه مسلم في صحيحه (٨) كتاب الإيمان، وكذا الإيمان، وكذا البخاري في صحيحه (٥٠) ولكن من حديث أبي هريرة..
فإن قلت : فمن المصلحة أن تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئا من الهداية والنور. نقول : الختم على قلوب هؤلاء لا يكون إلا بعد استنفاد كل وسائل الدعوة، فلم يستجيبوا فلا أمل في هدايتهم ولا جدوى من سماعهم.
والحق سبحانه وتعالى ربّ يعين عبده على ما يحب ويبلى له رغبته، حتى وإن كانت الكفر، وهؤلاء أرادوا الكفر وأحبوه، فأعانهم الله على ما أرادوا، وختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان، ولا يفارقها كفر.
لذلك سبق أن حذرنا أصحاب المصائب، أو الذين يفقدون عزيزا، حذرناهم أن يستديموا الحزن، وأن يألفوه مخافة أن يوافقكم الله على هواكم في محبة الحزن وعشقه، فتتوالى عليكم الأحزان وتتابع المصائب، إياكم أن تدعوا باب الحزن مواربا، بل أغلقوه بمسمار الرضا، فالحزن إن ظل بك فلن يدع لك حبيبا.
وكذلك نقول : إن شغل عنك شخص فلا تذكره بنفسك، بل أعنه على هجرك، وساعده بألا تذكره.
فإذا قلت : إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم لا يعلمون، فلماذا يختم على قلوبهم، ولماذا يحاسبهم ؟ نقول : لأن عدم العلم نتيجة تقصيرهم، فالحق سبحانه أقام لهم الأدلة والآيات الكونية الدالة على وجوده تعالى، فلم ينظروا في هذه الآيات ولم يستدلوا بالأدلة على وجود الخالق القادر سبحانه، وضرورة البلاغ عن الله، إذن : فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم.
لكن، ماذا بعد أن كذبوا الرسل وأنكروا الآيات، أتتوقف مسيرة الدعوة، لأنهم صموا آذانهم عنها ؟ لقد خلق الله الكون ونثر فيه الآيات التي تدل على وجود الإله الواحد الأحد، وجعل فيه المعجزات التي تثبت صدق الرسل في البلاغ عن الله، والحق سبحانه لا ينتفع بهذه الآيات ؛ لأن ملكه تعالى لا يزيد بطاعتنا، ولا ينقص بمعاصينا، فالمسألة تعود إلينا نحن أولا وآخرا، إذن : فالحسم في هذه المسألة : دعك من هؤلاء المكذبين يا محمد، واثبت على ما أنت عليه.
اصبر على كرههم، واصبر على لددهم وعنادهم، واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك، اصبر على هذا كله ؛ لأن العاقبة في صالحك ﴿ إن وعد الله حق.. ( ٦٠ ) ﴾ [ الروم ] وقد وعد الله رسله بالنصرة والغلبة، ووعد الله حق، فتأكد أن النصر آت.
لكن ما دام النصر آتيا، فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين ؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء في سبيل الدعوة ؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أن يمحص أتباع محمد، وأن يدربهم على مسئولية حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول الله، لا إلى أهل الجزيرة العربية وحدها، إنما إلى الكون كله.
فلا بدّ أن يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين لا تزعزعهم الشدائد، والدليل على ذلك أنهم يؤذون ويضطهدون فيصبرون، وهذه أهم صفة فيمن يعد لتحمل الأمانة.
لذلك نقول : إذا رأيت منهجا أو مبدأ يغدق على أصحابه أولا، فاعلم أنه مبدأ باطل : لأن المبدأ الحق يضحى أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم، يعطونه قبل أن يأخذوا منه، لماذا ؟ لأن صاحب المبدأ الباطل لن يجد من يناصره على باطله إلا إذا أغراهم بالمال أولا واشترى ذممهم، وإلا فماذا يلجئه إلى مبدأ باطل، ويحمله على اتباعه ؟ إذن : لا بد أن يقبض الثمن أولا.
أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مؤجل للآخرة، فهو ممنّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها ويعمل من أجلها، فتهون عليه نفسه، ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ.
وفي رحلة الدعوة، رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما تحدث لرسول الله آية أو هزة تهز الناس، وكأن الشدة غربال يميز هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يبقى تحت راية لا إله إلا الله إلا الصناديد الأقوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله.
فالله يقول لنبيه : اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك، فنحن مؤيدوك، ولن نتخلى عنك، وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيتوا لك في الخفاء فانتصرت على تبييتهم، واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك، ففضح الله تدبيرهم ونجاك منهم.
إذن : فاطمئن، فنحن لهم بالمرصاد، ولن نسلمك أبدا، بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من العقاب في الدنيا، وتراه بعينك، أو في الآخرة بعد موتك :﴿ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ( ٧٧ ) ﴾ [ غافر ].
ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول الله ما حاق بهم يوم بدر من قتل وأسر وتشريد، وقلنا : إن عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر، فقد كان القرآن ينزل على وفق رأيه، ومع ذلك لما نزلت :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( ٤٥ ) ﴾ [ القمر ] تعجب وقال : أيّ جمع هذا الذي سيهزم، ونحن عاجزون حتى عن حماية أنفسنا، فلما كانت بدر، ورأى ما رأى قال : صدق الله ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( ٤٥ ) ﴾ [ القمر ].
وقوله تعالى :﴿ إن وعد الله حق... ( ٦٠ ) ﴾ [ الروم ] الوعد : هو البشارة بخير لم يأت زمنه الآن، وفرق بين الوعد بالخير من إنسان، والوعد من الله تعالى، فوعدك قد يتخلف لأنك ابن أغيار، ولا تملك كل عناصر الوفاء بالوعد، وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته فتبخل عليه، أو تراه لا يستحق.. إلخ.
إذن : الأغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة، وقد تحول بينك وبين الوفاء بما وعدت.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه أن نحتاط لهذا الأمر، فيقول سبحانه :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الكهف ] فاربط فعلك بمشيئة الله التي تيسر لك الفعل، ولا ينبغي أن تجزم بشيء أنت لا تملك شيئا من أسبابه.
قلنا : هب أنك قلت : سألقاك غدا في المكان الفلاني، وسأعطيك كذا وكذا، فأنت قلت هذه المقولة ووعدت هذا الوعد وأنت لا تضمن أن تعيش لغد، ولا تضمن أن يعيش صاحبك، وإن عشتما لغد فقد يتغير رأيك، أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء، إذن : فقولك إن شاء الله يحميك أن توصف بالكذب في حالة عدم الوفاء ؛ لأنك وعدت ولم يشأ الله، فلا دخل لك في الأمر.
فالوعد الحق يأتي ممن ؟ من الذي يملك كلّ أسباب الوفاء، ولا يمنعه عنه مانع.
وقوله تعالى :﴿ ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ( ٦٠ ) ﴾ [ الروم ] خف الشيء : لم يعد له ثقل، واستخف غيره : طلب منه أن يكون خفيفا، فمثلا حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك : خف عنه. واستخفه مثل استفزه يعني : حرّكه وذبذبه من ثباته، فإن كان قاعدا مثلا هبّ واقفا.
لذلك نقول في مثل هذه المواقف ( خليك ثقيل.. فلان بيستفزك يعني : يريد أن يخرجك عن حلمك وثباتك.. متبقاش خفيف.. إلخ ) ونقول للولد ( فز ) يعني قف انهض، ومنه قوله تعالى ﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك١.. ( ٦٤ ) ﴾ [ الإسراء ].
إذن : فالمعنى استخفه : حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه.
فالمعنى : إياك يا محمد أن يستفزك القوم، أو يخرجوك عن ثباتك، فتتصادم معهم، لكن ظلّ على ثباتك في دعوتك ولا تقلق ؛ لأن الله وعدك بالنصرة ووعد الله حق. والحق سبحانه ساعة يرخي العنان لمن كفر به إنما يريد أن يخرج كل ما عندهم حتى لا يبقى لهم عذر، ثم يقابلهم ببعض ما عنده مما يستحقون في الدنيا، والباقي سيرونه في الآخرة.
والله يقول :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الصافات ].
ومن سيرة الإمام على رضى الله عنه وكرم الله وجهه علمنا أنه ابتلى بجماعتين : الخوارج الذين يكفرونه، والشيعة الذين يؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة، حتى صدق فيه قول رسول الله : " هلك فيك اثنان : محب غال، ومبغض قال٢ " ٣.
ويروى٤ أنه رضي الله عنه كان يصلي يوما الفجر بالناس، فلما قرأ :( ولاالضالين ) اقترب منه أحد الخوارج وقرأ :﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ( ٦٥ ) ﴾ [ الزمر ] يريد أن يقول له : أنت كافر ولن يقبل منك عملك.
وسرعان ما فطن على لما أراده الرجل، فقرأ بعدها مباشرة :﴿ فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ( ٦٠ ) ﴾ [ الروم ] يعني : لن تخرجني عن ثباتي وحلمي ولن تستفزني.
والعظمة في هذا الموقف أن يرد على لتوه بالقول الشافي من كتاب الله دون سابق إعداد أو ترتيب، ولم لا، وهو علي بن أبي طالب الذي أوتي باعا طويلا في البلاغة والفصاحة والحجة.
ومعنى :﴿ الذين لا يوقنون ( ٦٠ ) ﴾ [ الروم ] من اليقين، وهو الإيمان الثابت الذي لا يتزعزع، فيصير عقيدة في القلب لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد.
٢ القلى: البغض. قال ابن سيده: قليته قلى وقلاء: أبغضته وكرهته غاية الكراهة فتركته. [لسان العرب ـ مادة: قلى]..
٣ عن علي بن أبي طالب قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن فيك مثلا من عيسى أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به، ألا وإنه يهلك في اثنان: محب مفرط يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآنى على أن يبهتني، ألا وإني لست بنبي ولا يوحي إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٩/١٣٣) وعزاه للبراز وأبى يعلى الموصلي..
٤ أورده ابن كثير في تفسيره (٣/٤٤٠) من عدة طرق:
ـ من طريق قتادة. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ـ من طريق على بن ربيعة. رواه ابن جرير.
ـ من طريق أبي يحى. رواه ابن أبي حاتم..