تفسير سورة يس

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة يس من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

المرسل والرسالة والرسول والمرسل إليهم
" يس "
( فاتحة سورة يس )
تمهيد :
طريقتان في فواتح السور :
مثل هذا اللفظ مما افتتحت به بعض سور القرآن للعلماء فيه طريقتان :
الطريقة الأولى :
الفواتح أبهمت لحكمه :
أنه لفظ له معنى يعلمه الله، فهو من المتشابه الذي لا يعلمه الراسخون، وإنما يؤمنون به، ويردون علمه إلى عالمه.
سؤال وجوابه :
القرآن أنزل للبيان، و لا بيان إلا بالإفهام، فكيف يكون في القرآن لفظ لا يفهم له معنى ؟
والجواب : أن عدم فهم معنى من بضع عشرة كلمة افتتحت بها بعض السور، لا يخل ببيان القرآن، لما أنزل لبيانه من عقائد وآداب وأحكام وغيرها من مقاصد القرآن.
توجيه وتنظير :
إن الله تعالى أعطانا العقل، الذي به ندرك الآيات التي نصبها لنا ؛ لنستدل بها على وجوده ووحدانيته وقدرته، وعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته.
وبالنظر في هذه الآيات نصل – بتيسير الله – بعقولنا إلى إدراك بدائع عجيبة، وأسرار غريبة، ما تزال تتجلى لنا ما دمنا نتأمل فيها، ونعتبر بها.
و ما يزال الإنسان يكتشف منها حقائق مضت عليها أزمان، وهو يعدها من المحال، ويجتني منها فوائد ما كانت تخطر له – في أحقابه الماضية – على بال.
لطف الله في جعل حد للعقل :
غير أن استجلاء هذه الحقائق، واستحصال هذه الفوائد من الآيات الكونية – على نفاستها وعظيم نفعها – محفوف بخطر الإعجاب بذلك العقل، حتى يحسب أنه محيط بالحقائق كلها، وأن مدركاتها يقينيات بأسرها.
فيؤديه حسبانه الأول١ إلى الفتنة بالمدركات، فيحسب أن لا شيء بعدها فقد يخرج إلى إنكار خالقها.
و يؤديه حسبانه الثاني٢ إلى الذهاب في ظنونه وأوهامه وفرضياته، إلى غايات لا نسب بين اليقين وبينها.
فكان من لطف الله بالإنسان أن جعل لعقله حدا يقف عنده، وينتهي إليه، ليسلم من هذا الخطر : خطر الإعجاب العقل٣.
مشاهد تحير :
ففي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها، ولا تستطيع أن تعرف كنهها، كحقيقة الكهرباء في الكون، وحقيقة الروح والعقل في الإنسان.
فمثل هذه الحقائق المنغلقة التي يرتد عقل الإنسان إليه عنها خاسئا وهو حسير – هي التي تعرفه بقدره، وبعظمة هذا الكون، وفخامة أمره، فيقف بعقله عند حد النظر والاعتبار، والاستدلال ببديع الصنعة وعظيم النعمة على حكمة الله البالغة، ومنته السابغة، دون خلط للأوهام بالحقائق، ولا فتنة بالمخلوق عن الخالق.
خفاء بعض حكم الأحكام ووجهه :
هذه الحقائق التي خفيت عن العقل البشري، فلم يدرك كنهها، لم تقدح في دلالات آيات الأكوان، على ما دلت عليه من وجود الخالق ووحدانيته، وقدرته وعلمه، وحكمته، وفضله، وإحسانه، ورحمته.
فكذلك لم يقدح في بيان القرآن ودلالة آياته، خفاء معاني بضع عشرة كلمة من كلماته.
وكما كان خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية، إيقافا للعقل عند حده، وتعريفا له بقدره، وتنبيها له على عظم آيات ربه – كذلك كان خفاء هذه المعاني في الآيات القرآنية لمثل ذلك.
أمثلة لما خفي عنا :
ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية في هذا الجلاء العام، والخفاء الخاص.. جملة من الأحكام.
كعدد الصلوات، والركعات، والسجدات، التي خفيت على العقول حكمتها، وقد ظهرت الحكم الكثيرة الجليلة في سائر أحكام الشريعة غيرها.
ولم يقدح في حكمة الشريعة في أحكامها ما خفي في بعضها.
كما لم يقدح خفاء ما خفي من حقائق الآيات الكونية، ومعاني الآيات الكلامية في دلالتها وبيانها.
والحكمة هنا في هذه الأحكام هي الحكمة المتقدمة فيهما٤.
خفاء جزئي لبعض تصرفات الله :
ونظير الآيات الكونية، و الآيات الكلامية، والأحكام الشرعية، في هذا الخفاء الجزئي تصرفات الله في خلقه بمجاري أقداره.
فقد تظهر حكمة الله فيه، وقد تخفى.
وقد تخفى دهرا وتظهر بعد مدة.
يوسف :
وقد نبهنا الله على هذه الحقيقة، بما قص علينا في قصة يوسف عليه السلام، وما كان مجهولا من حكم قدر الله في مبدإ أمره، وما ظهر من تلك الحكم الباهرة للقدر في آخر أمره٥.
موسى :
وبما قصه علينا في قصة أم موسى - عليه السلام – لما أوحي إليها بقذفه في اليم، وعدم الخوف عليه، وما كان من عواقب أمره.
وكما لا ينفي الحكمة عن تدبير الله عدم ظهورها... كذلك لا ينفي الحكمة عن شرعه عدم فهمها، و لا يقدح في دلالته الآيات وبيانها، عدم إدراك كنهها، أو عدم فهم معناها.
قيام الحجة على الإنسان بما عرف :
ففي خلق الله، وفي شرع الله، وفي قدر الله، وفي كلام الله، ما يخفى على العقول إدراك حقيقته، أو حكمته، أو معناه، لطفا من الله بالإنسان وتنبيها له.
وقد قامت الحجة عليه فيما جهل بما عرف، وتجلت له بدائع الخلقة وجلائل النعمة فيما ظهرن فآمن بوجود مثلها فيما خفي :
إذ الرب الحكيم الرحيم، لا يكون منه إلا ما هو حكمة، وفيه نعمة.
فكان الإنسان في القسم الأول٦ مدركا مستدلا معتبرا، قد استعمل عقه فأداه إلى الإيمان واليقين فيما ظهر. وكان في القسم الثاني٧ مصدقا مذعنا لربه صاغرا، قد أدرك الحجة فآمن بالغيب فيما استتر، فجمع بين النظر والاستدلال، والتسليم و الإذعان.
فهذا توجيه وجود لفظ من كتاب الله لا نفهم معناه، - عند من يقول به – ببيان حكمته، مع تنظيره بمثله في خلق الله وشرعه وقدره٨.
بناء العمل على هذا العلم :
قصور العقل :
قد رأيت كيف يقف العقل عاجزا أمام بعض أسرار الخلق، والقدر والشرع.
والقرآن مع يقينه بما علم منها أن ما عجز عن إدراكه، ما هو إلا مثل ما عرف في كماله في الحق والحكمة والنعمة ؛ إذ الجميع – ما عرف وما عجز عنه – من إله واحد حكيم خبير، رحمن رحيم.
فليذكر الناظر في خلق الله، وقدره، وشرعه، وكلامه، دائما هذه الحقيقة :
وهي ثبوت الحق والحكمة والنعمة في جميعها، وإمكان عجز عقله في بعض المواضع والأحوال عن إدراكها ؛ فيكون عمله في خلق الله هو النظر والبحث والتحليل والاكتشاف، واستجلاء الحقائق الكونية، واستخراج الفوائد العلمية والعملية، إلى أقصى حد توصله إليه معلوماته وآلاته.
حتى إذا انتهى إلى مشكل استغلق عليه اعترف بعجزه، و لم يرتكب من الأوهام والفروض البعيدة ما يكسو الحقيقة ظلمة، ويوقع الباحث من بعده في ظلالة أو حيرة.
فكثيرا ما كانت الفروض الوهمية الموضوعة موضع اليقينيات، سببا في صد العقول عن النظر، وطول أمد الخطأ والجهل.
ويكون عمله في قدر الله هو الاعتبار في تصاريف القدر، واتعاظ بأحوال البشر، واستحصال قواعد الحياة من سير الحياة.
فإذا رأى من تصاريف القدر ما لم يعرف وجهه و لم يتبين له ما فيه من عدل وحكمة وإحسان ورحمة... فليذكر عجزه. وليذكر ظهور ما خفي عنه من مثل ذلك في وقت، ثم ظهر له ؛ فيوقن أن هذا مثله، وإنه إذا طالت به الأيام قد يظهر له من وجهه ما خفي منه، فيتلقاه الآن بالتسليم والتنزيه، رادا علمه إلى الله تعالى، مفوضا أمره إليه٩.
قصارى جهدنا :
و يكون عمله في شرع الله هو الفهم لنصوص الآيات والأحاديث، ومقاصد الشرع وكلام أئمة السلف، وتحصيل الأحكام، والعقائد وأدلتها، والآداب وفوائدها، والمفاسد وأضرارها.
حتى إذا بلغ إلى حكم لم يعرف حكمته وقضاء لم يدر علته. ذكر عجزه فوقف عنده، فلم يكن من المرتابين و لا من المتكلفين.
ولم يمنعه عجزه عن تعليل و تبين وجه ذلك القليل عن المضي في التفهم والتدبر لما بقي له من الكثير.
ويكون عمله في كتاب الله هو التفهم والتدبر لآياته، والتفطن لتنبيهاته، ووجوه دلالاته، واستشارة علومه من منطوقه ومفهومه، على ما دلت عليه لغة العرب في منظومها ومنثورها، وما جاء من التفاسير المأثورة، وما نقل من مفهوم الأئمة الموثوق بعلمهم وأمانتهم، المشهود لهم بذلك من أمثالهم١٠.
رد المتشابه للمحكم والتفويض :
فإذا وقف إمام المتشابه رده إلى المحكم، وإذا انتهى إلى فواتح السور ذكر عجزه فآمن بما لها من معنى، وقال الله به أعلم.
فبهذا السير، النظري، والعمل العلمي المبني على اليقين بعدل الخالق جل جلاله، وحكمته ورحمته في خلقه، وقدره وشرعه وكلامه، ومعرفة العبد بقدره ومقامه، يزداد السائر على مقتضاه إيمانا وعلما، وفوائد جمة، ويسلم من الغرور والأوهام والفتنة.
وهو سبيل الراسخين الذين يقولون فيما لا يفهمونه :
" آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولوا الألباب ".
الطريقة الثانية :
الفواتح فهمت :
وذهبت جماعة من أهل العلم، من السلف والخلف، إلى أن هذه الفواتح قد فهمت العرب المراد منها، ولذلك لم تعترض على البيان بها، ولا طعنت في عربيته بعدم فهمها، وإن كنا لا نجد في كلامها ما نعرف به المعنى الذي فهمته منها.
رأي ابن العربي :
و ممن ذهب إلى ذلك الإمام أبو بكر العربي، فقال في كتاب ( القبس على موطأ مالك بن أنس ) :
وليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فإن محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم – لو خاطب الكفار منها بما لا يفهم لكان ذك أقوى أسبابها في الطعن عليه، وكانوا يقولون : هذا يتكلم بما لا نفهم، وهو يدعي أنه بلسان عربي مبين، وما حمعسق في اللسان ؟ ! وما كفهيعص في الكلام ؟.
( فدل أنهم فهموا الغرض وعرفوا المقصود ).
اختلاف المتأولين :
طوائف الفاهمين :
أ – منهم طائفة تكلمت على كل لفظ من ألفاظ الفواتح، وذكرت له معنى، واختلفوا في تلك المعاني التي ذكروها، وهي كما ذكر الإمام ابن العربي :
لا سبيل إلى تمييز واحد منها بدليل ؛ لأنه معدوم ؛ ولا بأثر، لأنه غير منقول (.
و لا تطمئن إلى شيء منها القلوب التي عاشت على اليقين.
ب – ومنهم طائفة أخذتها كلها بوجه واحد، فقال بعض :
إنها حروف تنبيه تقرع الأسماع، فتلفت السامعين إلى الاستماع والتدبر ؛ لما اشتملت عليه السورة من الأحكام والعقائد والآداب وغيرها، من مقاصد القرآن. فهي نظير ( ألا والهاء ) في مألوف الاستعمال.
ج – وقال بعضهم : إنها حروف تعجيز وإفحام و تقريع، لأن القرآن الذي عجزوا عن معارضته، من هذه الحروف وأخواتها، تركبت كلماته
فكأنما يقال لهم :
ما هذا الذي عجزتم عنه إلا كلام من جنس كلامكم، وما ركبت كلماته إلا مما ركبت منه كلماتكم، وهذا لعجزهم أفضح، و لتقريعهم أوجع.
وما يؤيد هذا أن أكثر هذه الفواتح ذكر بعده الكتاب المعجز وصفاته مثل قوله تعالى :
" ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه " ١١، " ألم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم، نزل عليك الكتاب بالحق " ١٢. " المص. كتاب أنزل إليك " ١٣. " المر. تلك آيات الكتاب الحكيم " ١٤. " ألمر. كتاب أحكمت آياته " ١٥. " ألر. تلك آيات الكتاب المبين " ١٦. " طسم. تلك آيات الكتاب المبين " ١٧. " ألم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " ١٨. " حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " ١٩. وغيرها٢٠....
الفائدة العملية :
قد افتتحت هذه السور من القرآن العظيم بكلمات التنبيه، وجاءت اول سورة منه بعد الفاتحة مفتتحة به.
فلتكن عند قراءته في انتباه، وإقبال على استيعاب لفظه، وتفهم معناه فإن التالي للقرآن والسامع له في حضرة الرب على بساط القرب، والغفلة في هذا المقام من قلة الأدب.
ومن قل أدبه في مقام الإحسان والكرا
١ الإحاطة بالحقائق..
٢ يقينية مدركات العقل وثبوتها، مع أن العلم بالأشياء كثيرا ما يتغير: فقد قيل أولا إن الأرض ليست كروية، ثم قيل بكرويتها بعدئذ مثلا.
.

٣ ومن عجب أن العقل لا يعرف نفسه، كما أن الذكاء لم تعرف ماهيته، وإنما استدل عليه بالسلوك والتصرف الذكي أو غيره..
٤ إيقافا للعقل عند حده، وتعريضا له بقدره، وتنبيها له على عظم مخلوقات الله وقدرته التي ليست كقدرتنا....
٥ فقد ألقاه إخوته في البشر وصار وزيرا للخزانة، ومنقذا من سنوات القحط ورسولا كريما بعد البئر..
٦ فيما عرف..
٧ فيما خفي..
٨ والمعنى من هذا بعد كل ذلك أن بعض حقائق الدين لا تخضع للتفتيش العقلي كما تخضع الفلسفة مثلا.
وعجيب أن نسمع الآن من بعض الجغرافيين – مثلا : إنكار بعض المعجزات النبوية كقولهم بأن موسى لم ينفلق له البحر، وإنما كان يعلم مكانا مرتفعا، وكان يعرف المد والجزر، فعبر البحر عند الجزر؟! وذلك و لا ريب – غرور، وجهل. ولو راجعوا تاريخ المعلومات الجغرافية و تخبطه ما قالوا هذا..

٩ كما ظهر في قصة يوسف وموسى عليهما الصلاة والسلام..
١٠ نفهم كتاب الله بمثل هذا، لا بقول الفلاسفة، وتفسيره على المخترعات الحديثة..
١١ فاتحة سورة البقرة..
١٢ فاتحة آل عمران..
١٣ فاتحة الأعراف..
١٤ فاتحة يونس..
١٥ فاتحة هود..
١٦ فاتحة سورة يوسف..
١٧ فاتحة سورة القصص..
١٨ فاتحة سورة السجدة..
١٩ فاتحة سورة غافر..
٢٠ ومما ذكر في معنى يس: أنه اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وأقسم الله به على أنه رسوله. وقيل معناه يا إنسان، وقيل معناه: يا سيد. وقيل : معناه يا رجل. وقيل هو من أسماء الله تعالى..
وبعضهم أبعد وأغرب في هذا الجانب، كقولهم في ألم : الألف هو الله تعالى واللام جبيرل عليه السلام، والميم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولله تعالى أن يقسم بما يشاء تعظيما لقدره، أو تنبيها على رفعة شأنه – على ما يشاء. وليس لنا أن نقسم إلا بالله..

تابع المرسل والرسول والرسالة والمرسل إليهم :
" والقرآن الحكيم.
إنك لمن المرسلين.
على صراط مستقيم.
تنزيل العزيز الرحيم.
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ".
( سورة يس – الآيات : ٢، ٣، ٤، ٥، ٦ )
المفردات :
( الحكيم ) : هو الموصوف بالحكمة، وأصل اللفظ من حكم بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات والضلالات والسفالات ؛ فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم، وعمل مستقيم لا يحكم إلا عن تفكير، ولا يقول إلا عن علم، و لا يفعل إلا على بصيرة ؛ فإذا نظر أصاب، وإذا فعل أصاب، وإذا نطق أتى بفصل الخطاب.
ووصف القرآن بالحكيم، لأنه هو العلم الصحيح المثمر لهذا كله.
( والصراط المستقيم ) : هو دين الإسلام الذي جاء به جميع المرسلين قبل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم –
( تنزيل ) : بمعنى منزل، وهو الصراط المستقيم.
( العزيز ) : الغالب الممنع الذي لا نظير له.
( الرحيم ) : المنعم الدائم الإنعام والإحسان.
( الإنذار ) : الإعلام بوقوع ما يخاف منه، وهو الهلاك والعذاب العاجل والآجل.
( والغافل ) : عن الشيء التارك له المعرض عنه مع حضوره لديه لاشتغال باله بسواه.
المعنى :
أقسم الله تعالى – بالقرآن الحكيم على أن محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم – من المرسلين١ردا على من قالوا :" لست مرسلا "، في حال أنه على دين الإسلام الذي بعثه الله، ثابتا عليه في عقده وقوله وفعله وجميع أمره.
وأخبر تعالى أن هذا الإسلام الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – نزله عليه القوي الغالب الذي لا يغالب، العديم الشبه والنظير، والمنعم الدائم الإنعام المستمر الإحسان.
وبين تعالى : أنه كان من المرسلين لينذر الأمة العربية، ويعلمها سوء عاقبة ما هي عليه من الشرك والضلال.
تلك الأمة التي ما أنذر آباؤها، فهي مشتغلة بما توارثته من آبائها من عبادة الأوثان وارتكاب الإثم والعدوان، وأنواع الضلال والخسران. معرضة عن توحيد خالق الأرض والسموات، وعن النظر فيما نصب للدلالة عليه من الآيات، طال عليها أمد الجهالة، واستولت عليها أسباب الضلالة، فتمكنت منها الغفلة التمكن التام ؛ فذهبت في أوديتها البعيدة المدى، كالأنعام أو أضل من الأنعام.
أصل المعرفة والسلوك من هذه الآية الكريمة :
خلق الله الخلق حنفاء موحدين٢، فأتتهم الشياطين فأضلتهم عن سواء السبيل، فمن رحمته – تعالى – بهم أن أرسل إليهم رجالا منهم لهدايتهم، وأنزل عليهم كتبا منه لدلالتهم.
فالله هو المرسل، وتلك الكتب هي رسائله، وأولئك الرجال هم رسله، والخلق هم المرسل إليهم.
المعرفة :
كمال المرسل :
فللمرسل العلو والكمال، وله الخلق والأمر، ومنه الرحمة والعدل والإحسان والفضل، وله الربوبية والألوهية دون شريك ولا مثال.
عظمة الرسائل :
و في تلك الرسائل الحق والحكمة، والنور المخرج من كل ظلمة، والفرقان في كل شبهة، والفصل في كل خصومة، بها تفتح البصائر، وتطهر الضمائر، وتعرف طريق الحق والهدى من طرائق الباطل والضلال.
كمال الرسل :
ولأولئك الرسل – عليهم الصلاة والسلام – أكمل ما يمكن للإنسان من كمال، وأكمل المعرفة بالمرسل – تعالى – وأعظم الخشية له، وأكمل الرحمة بالخلق، وأشد الشفقة عليهم، وأكمل العلم بما جاءوا به، وأعظم التمسك به، وأكثر الأتباع له.
فلا كمال إلا بالإقتداء بهم، و لا نجاة إلا باتباعهم، ولا وصول إلى الله تعالى إلا باقتفاء آثارهم.
واجب المرسل إليهم :
وللمرسل إليهم عجز المخلوق وضعفه أمام خالقه، وحاجته وافتقاره إليه، وعليه حق عبادته وطاعته والرجاء لفضله، والخوف من عقابه والفكر في آياته ومخلوقاته، والنهوض للعمل في مرضاته، واستثمار أنواع نعائمه، والشكر له على جميع آلائه.
فبمعرفة هذه الأربعة حق معرفتها، ومعرفة مقام كل واحد منها وما له فيه – كمال الإنسان العلمي، الذي هو أصل كماله العملي، والشرط اللازم فيه.
وقد اشتملت هذه الآيات على هذه الأربعة في حق الأمة المحمدية :
إعجاز الآيات :
فالمرسل هو :" العزيز الرحيم ".
والرسالة هي :" القرآن الحكيم ".
والرسول هو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – المخاطب ب :" إنك لمن المرسلين ".
والمرسل إليهم هم العرب الذين :" ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ".
تمهيد :
لما ضل الخلق عن طريق الحق والكمال، الذي يوصلهم إليه : إلى مرضاته والفوز بما لديه، أرسل إليهم الرسل ليعرفوهم بأن ذلك الطريق هو الإسلام، و يكونوا أدلتهم في السير، وقادتهم إلى الغاية، وأنزل عليهم الكتب لينيروا لهم بها الطريق، ويقودوهم على بصيرة، ويتركوهم على البيضاء٣ ليلها كنهارها، لا يهلك عليها إلا من ظلم نفيه فحاد عن السواء، أو تخلف عن القافلة فكان من الهالكين.
فالقافلة هم الخلق، والطريق هو الإسلام، والأدلة هم الرسل. والمصابيح هي الكتب والغاية هو الله جل جلاله.
السلوك :
فعلى من يريد النجاة من المهالك، والفوز بأسمى المطالب، وأعلى المراتب – أن ينضم إلى القافلة الربانية، يتعاون مع أفرادها، ويقوم بحق الرفقة فيها، ويعد نفسه جزءا منها : لا سلامة لها إلا بسلامتها، فهو يحب لكل واحد منها ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، و يهديه إلى ما يهديها إليه من خير ؛ و يقيه مما يقيها منه من سوء.
وأن يطيع أولئك الأدلة، و يقتفي آثارهم، وينزل بنزولهم، ويرتحل بارتحالهم، وأن يرجع في معرفة وجوه السير وأصنافه وأوقاته ومنازله إليهم، دون أدنى اعتراض و لا مخالفة.
و يقابل ما يتحملونهم من مشاق الدلالة ومتاعب القيادة بغاية ما يستطيع من الأدب معهم، والتعظيم والانقياد لهم، والمحبة فيهم، وحسن الثناء عليهم، و طلب عظيم الجزاء من الله تعالى لهم على عظيم إحسانهم.
وأن يلتزم ذلك الطريق، ويسير في سوائه غير مائل إلى جنباته، ولا ذاهب في بنياته٤.
لا مفرطا في السير يسبق الرفقة فينفرد بلا دليل. ولا مفرطا فيه فيختلف عنها بلا معين، نمطا وسطا مع الجماعة لا من الغلاة، و لا من المقصرين.
وأن يستنير بما رفعه أولئك الأدلة من مصابيح الهداية، وأن يسير تحت أنوارها الساطعة، مفتح البصر للاستضاءة بها، غير مغلق الأجفان عنها، متعرفا بها اديم الأرض، وموقع قدمه منها.
وأن يعرف عظيم الغاية التي هو سائر إليها، فيقصر همه كله في الوصول إليها، ويحضرها قلبه في كل لحظات سيره ليسرع مع الرفعة إليها، وتخف عليها مشاق الطريق وأتعابها، ويعذب لديه كل ألم في الانتهاء إليها.
فبسلوك هذا الطريق القويم، بدلالة الرسول الكريم، وأنوار الكتاب المبين، إلى رب العالمين الرحمن الرحيم – كمال الإنسان العملي المبني على الكمال العلمي.
وقد اشتملت هذه الآيات على ذكر السالكين، وهم المنذرون، وعلى الدليل وهو الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – وعلى الطريق وهو " الصراط المستقيم " المنزل من الله.
وعلى ما يبين الطريق : ، وهو القرآن الحكيم.
الحكمة في هذه الآيات :
قال ابن وهب : سمعت مالك – رضي الله عنه – يقول :
" الحكمة الفقه في دين الله والعمل به ". ففي الفقه في دين الله الكمال العلمي، وفي العمل به الكمال العملي.
وهذه الآيات – على إيجازها قد اشتملت على أصول ما به كمال الإنسان العلمي، وكماله العملي، اللذان بهما كماله الروحي والبدني، ونعيمه الدنيوي والأخروي.
وما كماله العلمي وكماله العملي إلا بالمعرفة الصحيحة، والسلوك المستقيم، وهما اللذان تقدم الفصل السابق بيانهما.
وفسر مالك الحكمة بهما ؛ إذ الفقه في دين الله هو المعرفة الصحيحة، والعمل به هو السلوك المستقيم، وهما الحكمة التي وصف به في اظلاية الأولى القرآن العظيم ؛ لأنه كتاب العلم والعمل اللذين لا يكون بدونهما حكيم.
فكما اشتملت هذه الآيات على أصول الحكمة، دلت على أصلها ومأخذها، وما يكون الإنسان بعلمه والعمل بما فيه من أهلها، وهو القرآن الحكيم.
توجيه القسم في الآيات :
أقسم الله بالقرآن الحكيم على أن محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم – من المرسلين، لينذر الغافلين حال انه على صراط عظيم مستقيم، منزل من العزيز الرحيم ؛ لأن القرآن هو كتاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – الذي كان يتخلق به، ويهتدي بما فيه، وينذر به، ويدعو إليه ويبينه للناس بقوله وفعله، وهو برهانه وحجته، وآيته ومعجزته.
من فضائل القرآن :
كما أنه كتاب الإسلام الذي هو الصراط المستقيم.
فيه حجته و دلائله، فيه أحكامه وحكمه، فيه آدابه وشمائله.
فيه بيان حقيقته وما هو منه، و نفي ما ليس منه عنه.
فيه بيان تاريخه وتاريخ الإنسانية معه.
فيه ذكر أوليائه وحسن بلائهم في سبيله، وحسن أثره فيهم، والعود بالعاقبة المحمودة عليهم. وذكر أعدائه و جهدهم في مقاومته، وسقوط شبههم أمام حجته، وذهاب باطلهم أمام حقه، وشدة أخذه لهم على ظلمهم، ونزول نقمته بهم، وحلول دائرة السوء عليهم.
فيه الإسلام٥كله، فمن طلبه فيه وجده ونجا به ؛ ومن طلبه في غيره ضل وكان من الهالكين.
عقائد وأدلتها من هذه الآيات :
العقيدة الأولى : محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله :
دليلها الأول :
القرآن الحكيم الذي جاء به رجل أمي، ما قرأ و لا كتب، ولا دارس العلماء، ولا عرف الكتب.
ودليلها الثاني :
موافقة دعوته - صلى الله عليه وآله وسلم – لدعوة المرسلين – صلوات الله عليهم – إلى عبادة الله وحده، وتصديق ما جاءهم به من عنده، دون أن يسألهم على ذلك أجرا، وهذا من قوله تعالى :" إنك لمن المرسلين ".
فهو من المرسلين من جهة إرساله ؛ لأنه منهم في أقواله وأفعاله نظير قوله تعالى :" قل ما كنت بدعا من الرسل٦ " و قوله :" بل جاء بالحق وصدق المرسلين " ٧. وقوله :" إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " ٨.
ودليلها الثالث :
هذا الدين الكامل الجامع، الذي هدى به النوع الإنساني، أفرادا وجماعات إلى ما فيه سعادته، فأطلق فكره، وسدد نظره، وقوم عقائده، وهذب أخلاقه، ونظم اجتماعه، ووضع له قواعد الحياة والعمران على العدل والإحسان، ووجههم إلى خالقهم، وما أعد لهم عنده من النعيم المقيم والرضوان التام.
ودليلها الرابع :
سلوكه هو في حياته على الصراط المستقيم، من يوم عرف الدنيا حتى فارقها ؛ فكان يمثله على أكمل وجه، ولا يخل بشيء منه، ثابتا عليه، لا يحيد قيد شعرة عنه، دون أن تحفظ عنه زلة، ولا تعرف منه في القيام به والدعوة إليه فترة٩، و لا تقف أمامه قوة، ولا ترد له حادثة عزمه، ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ولا رهبة، ولا تبدل حاله رخاء و لا شدة١٠.
فكان في كرم خلقه، وتماما زهده، وعظيم تأهله١١ وتوجهه لربه، بعد ما فتح الله له الفتح المبين، ودخل الناس أفواجا في الدين.
كما كان أيام كان وحيدا بين أعظم أعدائه من المشركين، وما هذا من شأن البشر وطبعهم١٢ لولا عصمة وتأييد رب العالمين.
العقيدة الثانية : القرآن كلام الله ووحيه :
آيات كونية دل عليها الكتاب :
ودليلها :
أنه حكيم، فما فيه من العلم وأصول العمل، لا يمكن أن يكون إلا عند الله، في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها.
إلى ما فيه من حقائق كونية، كانت مجهول
١ قال بعض العلماء: لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له. وكما أقسم سبحانه بحياة محمد تشريفا له وإعظاما في قوله تعالى: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون "..
٢ فما من مولود إلا ويولد على الفطرة..
٣ الملة الحنيفية..
٤ بنيات الطريق جمع بنية تصغير بنت هي ما يخرج من نواحيه من طرق صغيرة تضل السائر عن السير..
٥ " ما فرطنا في الكتاب من شيء"..
٦ سورة الاحقاف. الآية – ٩..
٧ سورة الصافات. الآية – ٣٧..
٨ سورة النساء – الآية ١٦٣..
٩ ضعف وتواني..
١٠ أي لا تخيفه الشدة، ولا تبطره النعمة..
١١ أي التخلق بأخلاق الله..
١٢ إذ طبعهم الطغيان و في الأولى والوجل في الثانية.
.

لا يؤمن من سبق في علم الله عدم إيمانه
" لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون.
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون.
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ".
( سورة يس – الآيات : ٧، ٨، ٩، ١٠ )
المناسبة :
علم الله أن نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – يقوم بالنذارة لقومه ويبذل غاية جهده في تنبيههم من الغفلة، وإنقاذهم من الهلكة.
وعلم أنهم لا يؤمن به إلا أقلهم، وعلم أن ذك يكون من أعظم ما يؤلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – لشدة حرصه على إيمانهم، و عظيم شفقته عليهم، ولعدم ظهوره ثمرة ما بذل من جهد في هدايتهم.
فأراد – تعالى – أن يقوي قلب نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – على تحمل ذك بإعلامه به من أول الأمر، إذ ليس المؤلم المتوقع كالمؤلم الذي يصدم عن مفاجأة١، وأعظم منه الذي يصدم مع توقع ضده، كما هنا : فإن المتوقع منهم بعد الإنذار البالغ بالبرهان الساطع. هو إيمان أكثرهم لا كفره.
المفردات :
( حق ) : وجب و ثبت. ( القول ) : قول الله فيهم بما سبق في علمه : أنهم لا يؤمنون. ( فهم ) : أي أكثرهم.
التراكيب :
نفى الإيمان عنهم نفيا مؤكدا بالإخبار عن ضميرهم بجملة لا يؤمنون.
وقرنت الجملة بالفاء السببية ؛ لتفيد أن من سبق في علم الله عدم إيمانه لا يرجى إيمانه بحال ؛ فارتباط الثاني بالأول وارتباط لا انفكاك له.
المعنى :
لقد وجد وثبت ما سبق في علم الله، في أكثرهم، وما كان في قوله بعدم إيمانهم ؛ فلا يرجى من ذلك الأكثر – الذي سبق في علم الله عدم إيمانه – إيمان.
سؤال :
ما مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – حتى عرج الإسلام جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولا شك أن الذين ماتوا على الكفر هم الأقل بالمنسبة لمن آمنوا، فما معنى قله تعالى :" حق القول على أكثرهم ؟ ".
جوابه :
الذين قام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – بإنذارهم وأقام بين ظهرانهم مكررا للنذارة عليهم صباح مساء، مدة ثلاثة عشرة سنة، هم أهل مكة. فهم الذين تتعين إرادتهم من الضمير في قوله تعالى :" أكثرهم " و لا شك أن أكثر من أنذرهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – من أهل مكة ماتوا على الكفر.
سؤال على هذا الجواب :
هذا يقتضي أن المراد بلفظة " قوما " المتقدمة ؛ أهل مكة مع أن المفسرين فسروها بالعرب.
جوابه :
نسلم بهذا، ويكون تفسير " قوما " بالعرب نظرا لمماثلتهم لأهل مكة في وجوب إنذارهم، باعتبار مشاركتهم لهم في الوصف، وهو غفلتهم لعدم إنذار آبائهم.
لا حجة لمن مات على كفره بما سبق من علم الله فيه :
حجة الله على الخلق :
قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل، وما مكنهم من اختيار٢ وما نصب له من آيات مشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات.
وهذه كلها أمور معلومة لديهم، ضرورية عندهم، لا يستطيعون أن ينكروا شيئا منها ؛ فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل إليهم وما تلو عليهم من آيات.
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، كان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم ؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم ؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم ؟ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
توجيه للترتيب :
دقيقة في التوحيد :
تقوم حجة الله على العبد أولا.
ويعمل هو – كاسبا ومكتسبا – باختياره ثانيا :
ويظهر لنا مما سبق من على الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثا.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
تقريب :
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتها، وأخلاقهما، وسيرتهما.
ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما، وهو يعلم – بما علم من أحدهما – أنه يمتثل، ويعلم – بما علم من الآخر – أنه يخالف٣.
ويقول لأهل بيته : إن فلانا سيمتثل، و إن فلانا سيخالف.
فيظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما ؛ فجازى الممتثل على طاعته، وجازى المخالف على عصيانه.
فلا شك أن هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير، وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والإرشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما٤
كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما سبق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
عدل الله :
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علما، فعلم من سيطيعه : ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاءهم على ما عملوا، وما قدمت أيديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب٥.
تعليم :
المجازاة بعد العمل :
أرأيت كيف أن الله – تعالى – لم يجاز الخلق على مقتضى علمه فيهم، وهو العلم الذي لا يتخلف، وإنما جعل جزاءهم على أعمالهم.
فهذا تعليم لنا : كيف تكون معاملتنا بعضنا لبعض ؟ فلا نجازي على مجرد الظن، بل ولا على مجرد اليقين. وإنما تكون المجازاة بعد صدور الأعمال.
فرب شخص قدرت فيه الخير أو الشر، ففعل ضد ما قدرت ! فلو جازيته قبل الفعل لما طابق جزاؤك موضعه، ولنال كل ما لا يستحقه.
فالحكمة والعدل والمصلحة في ربط المجازاة بالأعمال، وهذا ما كان من الله في مجازاة خلقه، وهذا ما ينبغي أن نربط به المجازاة بيننا.
تمثيل حال المعرضين عن الحق المعاندين فيه :
" إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون ".
المناسبة :
لما ذكر عدم إيمانهم، وكان مبدأ ذلك بإعراضهم عن الحق واختيارهم الكفر على الإيمان، ذكر ما عاقبهم الله به من منعهم عن الخير ودوام الإعراض عنه.
المفردات :
( الغل ) : ما يجعل في العنق محيطابه.
( الذقن ) : مجمع اللحيين، ملتقى عظميهما تحت الفم.
( مقمحون ) : رافعون رؤوسهم. يقال : قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع عن الشرب. ويقال : أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه.
( السد ) : الحاجز بين الشيئين.
( فأغشيناهم ) : جعلنا عليهم غشاء أي غطاء، أحاط بجميع الذات فمنع العيون من الإبصار.
التراكيب :
( فهي إلى الأذقان ) : أي الأغلال منتهية من أسفل الأعناق إلى الأذقان.
وهذا كناية عن عرضها، ولذا فرع عليه فهم مقمحون.
وفرع عدم إبصارهم على جعل سد أمامهم وسد خلفهم ؛ لإلتزاق السدين بهم، وضغطهما عليهم، فكما لا يستطيعون معهما تحركا لا يستطيعون إبصارا.
و كيف يبصر من وجهه ملتزق بالحائط مثلا ؟
المعنى :
إنا جعلنا في أعناق هؤلاء الذين لا يؤمنون أغلالا ضيقة عريضة، تركتهم رافعين رؤوسهم عن مناهل الإيمان، لا يستطيعون أن يطأطئوا رؤوسهم إليها فيرتووا.
وجعلنا أمامهم حجابا وخلفهم حجابا محيطين و ملتزقين بهم و مغطيين لجميع ذواتهم، فلا يستطيعون معها تحريكا و لا إبصارا.
توجيه التمثيل :
الإدراك بالفطرة والنظر :
دعوا إلى الإيمان والتوحيد ومكارم الأخلاق، وهذه أمور مدرك حسنها بالفطرة السليمة، فهي كالماء الذي تقبل عليه الحيوانات بفطرتها، فلما أعرضوا عنها ؛ شبهوا بالإبل المقمحة عن الماء.
ثم إن هذه الأمور كما يدرك حسنها بالفطرة السليمة، تدرك باستعمال النظر فيما بين الإنسان من الآيات التي يراها ويشاهدها، وما خلفه من أيام الله في الأمم التي بلغته أخبارها وأنباؤها.
فلما أعرضوا عما يرون وما قد سمعوا شبهوا بمن جعل بين سدين ملتزقين و محيطين به، فجمد في مكانه ؛ فلا هو يتحرك إلى ناحية ولا هو يبصر شيئا.
ترهيب :
كل ما دعا إليه الإسلام من عقائد وأخلاق وأعمال، فهو مما تقبله الفطر السليمة، وتدركه العقول بالنظر الصحيح.
فمن قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد، وخالف فطرته، وعاكس عقله، كان حقيقا بهذا العقاب الشديد من طمس البصيرة، والطبع على القلب ؛ فذكر الله لنا هذه العقوبة بهذا التمثيل البليغ، الذي صورها في أبشع وأفظع صورة ؛ ليحذرنا من الإعراض عن الحق والعناد له، ويخوفنا بعاقبة ذلك على أهله.
تعليم :
عرض الأمور على الفطرة والعقل :
لكل إنسان فطرته وعقله، فعلينا إذا دعينا إلى شيء أن نعرضه عليهما راجعين إلى الفطرة الإنسانية، وإلى العقل البشري منزهين عن الأغراض والأهواء والأوهام والشبهات٦.
فإذا كان هلاك هؤلاء بعدم الاستفادة منهما، فإن النجاة عن ما تعرض الأمور بالرجوع إليهما.
ونجد القرآن العظيم يخاطب العقل والفطرة ؛ ليعلمنا الرجوع إليهما والاستفادة منهما.
من استوى عنده الإنذار وعدم الإنذار لا يرجى منه إيمانا :
" وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "
المناسبة :
لما ذكر – تعالى – عدم إيمانهم لما سبق من علم الله فيهم ذكر هنا سببا آخر لذلك، وهو استواء الإنذار وعدمه لديهم.
الترتيب :
ذكر هذا السبب إثر ما تقدم من وصف حالهم في شدة الإعراض، للتنبيه على أن من فسدت فطرته، وانطمس عقله، يستوي عنده الإنذار وعدمه، فلا يكون منه إيمان على كل حال.
المفردات والتراكيب :
( سواء ) : بمعنى مستو. والهمزة الأولى أصلها للاستفهام، وليس مرادا هنا، وتسمى في مثل هذا التركيب همزة التسوية، لوقوعها بعد لفظها٧، ودخولها على الأول من أمرين يراد التسوية ما بينهما. وهي حينئذ من أدوات السبك ولذا يكون تأويل الكلام هكذا : سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك.
المعنى :
إن أكثر أهل مكة الذين حكم الله بعد إيمانهم، بلغوا من شدة الإعراض والعناد إلى حيث استوى عندهم الضدان : الإنذار وعدم الإنذار، فمحقق منهم عدم الإيمان و مأيوس من صدورهم من ناحيتهم٨.
تحذير :
إهمال النظر أعظم الضرر :
يذكر الله – تعالى – حالة هؤلاء الذين استوى عندهم الشيء و ضده، يحذرنا منها، ومما يؤدي إليها، من إهمال الفطرة وترك النظر.
فإن الإنسان إنما يمتاز على بقية الحيوان بتمييزه بين الحقائق بالفطرة والفكرة، وإدراكه الفوارق ما بينها. فإذا سلب هذه المزية ؛ التحق بالعجماوات ؛ بل كانت العجماوات خيرا منه لبقاء فطرتها سليمة لإدراك ما فيها استعدادا لإدراكه٩.
١ ولذا على المرء أن يوطن نفسه في هذه الحياة على الألم قبل اللذة والشدة قبل الفرج والتعب قبل الراحة، ومن ثم يستريح ويريح، ويقابل الحياة بأفق أوسع، ونفس راضية..
٢ يرى الإمام دائما أن الإنسان حر مختار، له إرادة ومشيئة وقوة واختيار، بسبب ما ذكر، وهذا حق. وما عدا ذلك لا يلتفت إليه..
٣ وسبق العلم و شموله، هو الفرق بين علمنا وعلم الله تعالى..
٤ قيل : لإظهار ما قدر بالقوة إلى الفعل في وقته وزمانه..
٥ تحليل لطيف ودقيق من المفسر، وهو على بساطته ولطف مدخله أسلم من مزالج كبيرة حار فيها المتكلمون والباحثون عن القضاء والقدر، وتركب الصفات... وقولهم بأن الإنسان في عالم الذرة اختار مصيره ووجهته... الخ..
٦ ثم نحكم في هدوء واتزان بعد ترو وتفكير، وهذا من مناهج البحث الحديثة..
٧ بعد لفظ سواء..
٨ فاستوى عندهم الإنذار والظلم، بل أكثر من هذا :" فإنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور"..
٩ إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا..
تجديد الإنذار للمنتفعين به وتبشيرهم :
" إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ".
المناسبة :
لما ذكر تعالى المأيوس من انتفاعهم بإنذار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – ذكر الذين ينتفعون به تأنيسا له بهم، و تقوية له بظهور ثمرة إنذاره فيهم.
المفردات والتراكيب :
( الذكر ) : القرآن. وهو من أسمائه التي تكررت في التنزيل، وأل فيه العهد.
( الغيب ) : الخلوة عندما يغيب الإنسان عن عيون البشر.
( التبشير ) : الإخبار بما يسر.
( المغفرة ) : ستر الذنب بالتجاوز عنه و عدم المؤاخذة به.
( الأجر ) : الجزاء على العمل.
( الكريم ) : الطيب الشريف في نفسه الدافع في إثره الذي لا يشوب ذاته نقص، ولا منفعته ضرر.
وأفاد المضارع في ( تنذر ) تجديد الإنذار لمتبعين، وذكر اسم ( الرحمن ) ليفيد التركيب أنهم يخشونه مع العلم برحمته، وذلك يقتضي جمعهم بين الخوف والرجاء.
الترتيب :
ذكر المنتفعين بع المأيوس من انتفاعهم، ترقية من الأدنى إلى الأعلى، ولأنهم كالزبدة التي يحصل عليها بعد طرح غيرها، ولإراحة القلب من أولئك، لتتوجه العناية التامة إلى هؤلاء.
وذكرت الخشية بعد الاتباع لأنها لا تحصل إلا به.
وجيء بعد بالتبشير مقرونا بالفاء، لأنه إنما يكون لأهل الاتباع والخشية، بسبب اتباعهم وخشيتهم.
وذكر الأجر بعد المغفرة لأن التحلية بعد التخلية، والتزين بعد إزالة الأدران.
المعنى :
إنما يتجدد إنذارك و ينتفع به الذين آمنوا، وهم الذين اتبعوا القرآن وخافوا الله في خلواتهم، لصدق إيمانهم خاشين نقمته، راجين رحمته.
وهؤلاء كما تنذرهم وينتفعون بإنذارك، بشرهم – على اتباعهم للقرآن، وخشيتهم بالغيب للرحمن – بمغفرة ذنوبهم، وجزاء – شريف رفيع طيب نافع لا نقص فيه ولا تنغيص١- على أعمالهم.
دفع إشكال :
أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – بالإنذار العام، تم كان ممن أنذرهم قوم مأيوس منهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى :" لقد حق القول "...
الآيات، وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى :" فاعرض عن من تولى عن ذكرنا " ٢ إذ لا فائدة من إنذارهم٣
وكان قوم آخرون آمنوا وهؤلاء هم المرادون بقوله :" إنما تنذر " الآية ؟.
فلا منافاة بين قوله تعالى :" لتنذر قوما " الذي يقتضي التعميم، وقوله :" إنما تنذر " الذي يقتضي التخصيص، لأن الأول في مقام الإنذار العام، والثاني في مقام تجديد الإنذار والانتفاع به. وأما الإعراض فلا يكون إلا عن الميئوس منه من الكافرين.
إرشاد :
السلوك الشرعي للمؤمن :
طريق السلوك الشرعي إنما هي اتباع القرآن، وأكمل أحوال العبد أن يخشى الله و يرجو رحمته.
وأهل الإتباع والخشية لا يستغنون عن تجديد الإنذار، وذلك بدوام التذكير المشروع في الإسلام. وتذكير المؤمنين بإنذارهم وتبشيرهم ؛ فلا يؤمنون من عذاب الله و لا يقنطون من رحمته.
صفة المؤمن من هذه الآيات :
المؤمن الكامل :
المؤمن الكامل هو من سلمت فطرته، وصح إدراكه، واتبعه القرآن في عقده، وخلقه، وعمله، واستوت خلوته وجلوته، وسره وعلنه ؛ وعبد الله راجيا رحمته، خائفا عذابه، يخيفه الإنذار، وترجيه البشرى بالمغفرة والأجر الكريم.
ثبتنا الله والمسلمين على الإيمان مع هذه الصفات إلى الممات، آمين يا رب العالمين.
١ و ميزة نعيم الدنيا الخلود والعظمة والكمال..
٢ " ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم " : النجم – الآية ٢٩..
٣ أي فكيف الأمر بالإنذار وعدمه؟.
الحياة بعد الموت
" إنا نحن نحيي الموتى.
ونكتب ما قدموا وآثارهم.
و كل شيء أحصيناه في إمام مبين ".
المناسبة :
اشتملت الآيات المتقدمة على ذكر الرسول وصفته، ورسالته التي جاء بها – وهي القرآن – ووصفها. والمرسل وهو العزيز الرحيم. والمرسل إليهم، وتعميمهم بالنذارة، وانقسامهم إلى معرضين معاندين، ومقبلين متبعين ؛ فجاءت هذه الآية مشتملة على ما تكون فيه نتيجة ذلك وثمرته، وهو يوم القيامة.
أصول العقائد :
ووجه أخر١ وهو أن أمهات أصول العقائد ثلاثة : الإيمان بالله، والإيمان برسول الله، والإيمان باليوم الآخر.
وقد انتظمت الآيات المتقدمة تقرير الأصل الثاني٢ بالقسم عليه على ما تقدم من البيان٣. وانتظمت الأصل الأول ضمنا بذكر العزيز الرحيم.
فجاءت هذه الآية لتقرير الأصل الثالث.
سؤال :
كيف يذكر الأصل الأول – وهو الأصل الأول – إلا بما ذكر به من الذكر الضمني ؟
الجواب :
ذلك لأمرين :
الأول : أن هذه الأصول الثلاثة تذكر في أول السور، غير أن بعض السور تخصص بالحديث على بعض الأصول أكثر من غيره، و لا يذكر فيها غيره إلا ضمنا كما هنا.
الثاني : أن تقرير الأصل الثاني هو تقرير للأصل الأول ؛ إذ جميع دلائل النبوة، دلائل على وجود الخالق وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
المفردات :
الأحياء : إيجاد الحياة في الجسم : و لا يكون إلا من الله.
والميت : الجسم الذي يقبل الحياة ولا حياة فيه، سواء أكانت وزالت، أم لم تكن فيه بعد كالجنين قبل نفخ الروح فيه.
التراكيب :
أكدت الجملة لأن الخطاب مع منكري البعث والنشور٤. وأكد اسم إن بنحن ليفيد الاختصاص، فهو المحيي دون غيره.
وعبر عن نحيي فعلا مضارعا ليفيد تجديد الإحياء واستمراره، فيشمل إحياءه للأجنة في الدنيا، وإحياءه الإحياء الثاني في الأخرى. وكثيرا ما جاء في القرآن الاستدلال على الإحياء الثاني بالإحياء الأول، فتكون كلمة ( نحيي ) قد اشتملت على العقيدة وهي الإحياء الثاني، ودليلها وهو الإحياء الأول.
المعنى :
يعرف الله – تعالى – عباده بأنه هو الذي يحيي الموتى دون غيره، ويذكرهم بما يشاهدونه من ذلك فيهم، وهم أجنة في بطون أمهاتهم ؛ فيؤمنون بأنه يحييهم كذلك بعد موتهم، فيستعدون من حياتهم الأولى لحياتهم الثانية.
إحصاء الأعمال المباشرة وغير المباشرة :
" ونكتب ما قدموا وآثارهم "
المناسبة :
لما أعلم الخلق بأنهم يحيون بعد الموت، أعلمهم بأن أعمالهم المباشرة وغير المباشرة مكتوبة عليهم. لأن حياتهم بعد الموت، لنيل جزاء ما كتب عليهم من أعمالهم.
المفردات :
( قدم الشيء ) : جعله قدامه. وأعمال المرء التي يباشرها قدمها قبله في طريقه إلى الآخرة، فهي محفوظة حتى يلحقها.
( والأثر ) : ما يحصل من العمل، كالذي يحصل على وجه التراب من وضع الأقدام ويبقى بعد رفعها الإنسان ما يحصل من أعماله التي باشرها.
التراكيب :
عبر ( بنكتب ) : مضارعا ليفيد التجدد والاستمرار، فما من عمل أو أثر يتجدد إلا ويكتب.
وأسند الكتابة إليه، والكاتبون الملائكة، لأنهم بأمره يكتبون.
المعنى :
يعلم الله – تعالى – عباده بأنه يكتب كل أعمالهم التي يعملونها ويباشرونها بأنفسهم.
ويكتب كذلك ما يعمله غيرهم، إذا كان متسببا عن أعمالهم وأثرا لها
تنظير :
مثل هذه الآية – في الدلالة على أن العبد مؤاخذ بما عمل مباشرة، وما عمله غيره، وكان من آثار عمله – قوله تعالى :
" ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " ٥فالذي أخره، هو أثره المذكور هذه الآية.
تأييد وبيان :
في صحيح مسلم من طريق جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال :
" جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه ؛ حتى رؤي ذلك في وجهه.
قال : ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - :
" من سن في الإسلام حسنة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل أجر من عمل بها، و لا ينقص من أجورهم شيء.
ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه وزر من عمل بها و لا ينقص من أوزارهم شيء ".
وفيه من طريق أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – قال :" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ".
فتأيد بهذين الحديثين فهم المعنى المتقدم من الآية، وهو أن العبد له وعليه من آثار أعماله مما لم يباشره بنفسه، مثل ما له وما عليه من أعماله التي يباشرها.
وبين الحديث الأول : أن ما تسبب عن عمل المرء يعد أثرا لعمله عندما يعمل به في حياته مثلما يعمل به بعد مماته، إذ الذي جاء بالصرة أولا قد تسبب في مجيئه مجيء من بعده على إثره، والحديث سبق في شأنهم ؛ فتكون حالتهم أول ما يشمل.
كما بين الحديث الثاني : إن أثر القول كأثر الفعل، إذ الكل عمل.
وبين الحديثان : أن نيل المرء جزاء عمله الذي لم يباشره لا ينقص من جزاء العامل المباشر شيئا.
تنبيه :
من صورة الواقعة التي ورد فيها الحديث الأول علمنا : أن المراد بمن سن سنة حسنة أو سيئة، هو من ابتدأ طريقا من الخير في أعمل البر والإحسان، وما ينتفع به الناس من شؤون الحياة. ولا يشمل ذلك ما يحدثه المحدثون من البدع في العبادات من الزيادات والاختراعات ؛ إذ الزيادة على ما وضعه الشرع من العبادات وحدده افتيات عليه، واستنقاص ه. وهذه هي البدعة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ".
تحذير :
على العاقل – وقد علم أنه محاسب على أفعاله وعلى آثار أقواله – ألا يفعل فعلا، ولا يقول قولا حتى ينظر في عواقبه، فقد تكون تلك العواقب أضر عليه، من أصل القول وأصل الفعل : فقد يقول القول مرة، ويفعل الفعل مرة، ثم يقتدي به فيه آلاف عديدة في أزمنة متطاولة.
حقا إن هذا لشيء تنخلع منه القلوب، وترتعد منه الفرائص، وصدق القائل من السلف رضي الله عنهم :( السعيد من ماتت معه سيئاته ).
الإحصاء العام في الكتاب الإمام :
" وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ".
المناسبة :
لما أعلم العباد بأنه يكتب لهم وعليهم أعمالهم، أعلمهم بأنه تعالى قد كتب كل الأشياء لا خصوص أعمالهم تعميما بعد تخصيص.
المفردات :
( الإحصاء ) : تحصيل الشيء بالعد وضبطه والإحاطة به.
( الإمام ) : ما يؤتم و يقتدى به، والكتاب إمام لأنه يتبع فيؤخذ بما فيه ويعتمد عليه.
و ( المبين ) : المظهر لما فيه، فكل ما فيه ظاهر فيه.
التراكيب :
أصل الكلام : أحصينا كل شيء : أحصيناه. فحذف أحصينا الأول لدلالة الثاني، فكان هذا أقوى في ثبوت الإحصاء وقوعه على كل شيء.
المعنى :
يعلم الله العباد بأنه حصل كل شيء من ذوات وأقوال وأفعال، وجميع ما كان في العالم وما يكون : وأثبته فردا فردا في كتاب إمام معتمد، مظهر للأشياء التي فيه، فهي ثابتة ظاهرة جلية.
اعتبار :
فقد أحاط اله بكل شيء علما، فهو غني بعلمه عن هذه الكتابة، ولكنه جعل هذا الكتاب.
إظهارا لعظمة ملكه.
وليعلم عباده الضبط والإحصاء في جميع أمورهم.
وليبالغوا في محاسبة أنفسهم٦.
وليعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ؛ فيزول من قلوبهم الخوف من الحوادث والمخلوقات وتعظم ثقتهم بالله.
وفي ذلك أعظم قوة في هذه الحياة، وأكبر راحة للقلب من صروفها.
نسأل الله سبحانه أن يقوي قلوبنا بالإيمان، وأن يريحنا باليقين، وأن يعيذنا من الخوف إلا منه، ومن الخضوع إلا له آمين يا رب العالمين.
١ في سبب الارتباط..
٢ الإيمان بالرسول هو الأصل الأول والثاني هو الإيمان بالله..
٣ القسم بقوله تعالى :" (يس ) والقرآن الحكيم..
٤ فجاء التأكيد بإنا مراعاة لمقتضى حال الخطاب..
٥ سورة القيامة – الآية : ١٣..
٦ " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
Icon