تفسير سورة الشورى

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿يتفطَّرنْ) يتشققن، والفطور: الشقوق ومنه {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] ﴿فاطر﴾ خالد ومبدع ومخترع ﴿يَوْمَ الجمع﴾ يقوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه ﴿أُمَّ القرى﴾ مكة المكرمة ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ ينشئكم وكثِّركم ﴿مَقَالِيدُ﴾ مفاتيح جمع إقليد على غير قياس ﴿شَرَعَ﴾ بيَّن وسنَّ وأوضح ﴿كَبُرَ﴾ عظم وشقَّ ﴿يُنِيبُ﴾ يرجع ويتوب من ذنبه ﴿مُرِيبٍ﴾ موقع في الريبة والقلق ﴿دَاحِضَةٌ﴾ باطلة وزائلة يقال: دحضت حجته أي بطلت، ودَحضت رجله أي زلقت.
التفسِير: ﴿حم عسق﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وإثارة انتباه الإِنسان بحروف أولية، وبدءٍ غير مألوف ﴿كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم﴾ أي مثل ما أوحى إليك ربك يا محمد هذا القرآن، أوحى إلى الرسل من قبلك في الكتب المنزلة، اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي ما له ما في الكون مالكاً وخلقاً وعبيداً ﴿وَهُوَ العلي العظيم﴾ أي هو المتعالي فوق خلقه، المنفرد بالكبرياء والعظمة ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أي تكاد السمواتُ يتشققن من عظمة الله وجلاله، ومن شناعة ما يقوله المشركون من اتخاذ الله الولد ﴿والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي والملائكةُ الأبرار دائبون في تسبيح الله، ينزهونه عما لا يليق به ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض﴾ أي ويطلبون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين قال في التسهيل: والآية عمومٌ يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله تعالى ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [غافر: ٧] ﴿أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي ألاَ فانتبهوا أيها القوم إن الله هو الغقور لذنوب عباده، الرحيم بها حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم قال القرطبي: هيَّب وعظَّم جل وعلا في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي جعلوا له شركاء وأنداداً ﴿الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي اللهُ تعالى رقيبٌ على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوقه منها شيءٌ، وهو محاسبُهم عليها ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أي وما أنت يا محمد بموكَّل على أعمالهم حتى تقسرهم على الإِيمان، إنما أنت منذرٌ فحسب ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان قال الإِمام الفخر: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصلُ كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع﴾ أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لاشك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه ﴿فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير﴾ أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهو المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشيقاء وسعداء كقوله تعالى
﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥] {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ
123
أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كله مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى ﴿ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلاَّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال ﴿والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جلال وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ ﴿فالله هُوَ الولي﴾ أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ، الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه ﴿وَهُوَ يُحْيِي الموتى﴾ أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذولياً دون من سواه ﴿وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾ أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلا الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام ﴿ذَلِكُمُ الله رَبِّي﴾ أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلك الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً.. ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال ﴿فَاطِرُ السماوات والأرض﴾ أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق ﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات ﴿وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً﴾ أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإناثاً ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأثنى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهوالواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ وال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمُه في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم عزَّ وجلَّ بخلاف صفات
124
المخلوق، وإذْ صفِاتُهنم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحقيين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشهبةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة ﴿وَهُوَ السميع البصير﴾ أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾ أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإلهية ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ أي سنَّ وبيَّن لكم أيها المؤمنون من الشريعة السمحة والدين الحنيف، ما وصَّى به الرسل، وأرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء، كنوح ومحمد عليه السلام ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى﴾ أي وما أمرنا به بطريق الإِلزام إبراهيم وموسى وعيسى من أصول الشرائع والأحكام قال الصاوي: خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء، وأولوا العزم، وأصحاب المعظمة، فلكل واحد من هؤلاء الرسل شرعٌ جديد، وأمَّا من عداهم، فإِنما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله، ولم يزل الأمر يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، واحداً بعد واحد، وشريعةً إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملةِ أكر الرسل نبينا محمد صلى الله عليه ووسلم، فتبيَّن أن شرعنا معشَر الأمة المحمدية قد جمع جميع الشرائع المتقدمة في أصول الاعتقادات، وأصول الأحكام ولهذا قال تعالى ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ أي وصيناهم بأن أقيموا الدين الحق دين الإِسلام الذي هو توحيدُ الله وطاعتُه، والإِيمان بكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء قال القرطبي: المراد اجعلوا الدين قائماً مستمراً محفوظاً من غير خلافٍ فيه واضطراب، في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها فهذا كله مشروعاً ديناً واحداً وأملة متحدة.
﴿كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ أي عظمُ وشقَّ على الكفار ما تدعوهم إليه من عبادة الله، وتوحيد الواحد القهار ﴿الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ أي اللهُ يصطفي ويختار للإِيمان والتوحيد من يشاء من عباده، ويهدي إلى دينه الحق من يرجع إلى طاعته، فيوفقه له ويقربه إليه رحمةً وإكراماً ﴿وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ أي وما تفرَّق أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم إلاّ من بعد ما قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي ظلماً وتعدياً، وحسداً وعناداً ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ولولا أن الله قضى بتأخير العذاب عنهم إلىيوم القيامة ﴿لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ﴾ أي لعجَّل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً باستئصالهم قال ابن كثير: أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإِنظار العباد إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة سريعاً ﴿وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي وإِن بقيَّة أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من
125
بعد أسلافهم السابقين ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ أي لفي شك من التوراة والإِنجيل، موقع لهم في أشد الحيرة والريبة، لأنهم ليسوا على يقين من أمر دينهم وكتابهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان قال البيضاوي: لا يعلمون كتابهم كما هو ولا يؤمنون به حق الإِيمان، فهم في شك مقلق ﴿فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ أي فلأدل الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، فادع يا محمد إليه ولزم النهج القويم مع الاستقامة كما أمرك ربك ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي ولا تتبع أهواء المشركين الباطلة فيما يدعونك إليه من ترك دعوة التوحيد ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ﴾ أي صدَّقت بكل كتابٍ أنزله الله تعالى قال الرازي: يعني الإِيمان بجميع الكتب السماوية، لأن أهل الكتاب المتفرقين في دينهم آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض ﴿وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ أي وأمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم قال ابن جزي: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه ﴿الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي الله خالقنا جميعاً ومتولي أمورنا فيجب أن نفرده بالعبادة ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، من خير أو شرٍّ، لا نستفيد من حسناتكم ولا نتضرر من سيئاتكم قال ابن كثير: هذا تبرؤٌ منهم أي نحن برآء منكم كقوله تعالى
﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: ٤١] ﴿لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم، فإن الحقَّ قد ظهر وبَانَ كالشمس في رابعة النهار، وأنتم تعاندون وتكابرون ﴿الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير﴾ أي الله يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، وإليه المرجع والمآب فيجازي كل أحدٍ بعمله من خير وشر قال الصاوي: والغرضُ أن الحقَّ قد ظهر، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدل، والله يفصل بين الخلائق يوم المعاد، ويجازي كلاً بعمله ﴿والذين يُحَآجُّونَ فِي الله﴾ أي يخاصمون في دينه لصدِّ الناس عن الإِيمان ﴿مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ﴾ أي من بعد ما استجاب الناسُ له ودخلوا في دينه ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي حجتهم باطلة لا ثبوت لها عند الله قال ابن عباس: نزلت في طائفةٍ من بني إسرائيل همَّت برد الناس عن الإِسلام وإضلالهم ومحاجتهم بالباطل ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ أي وعليهم غضب عظيم في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، ﴿الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق﴾ أي نزَّل القرآن وسائر الكتب الإِلهية متلبساً بالصدق القاطع، والحقِّ الساطع، في أحكامه وتشريعاته وأخباره ﴿والميزان﴾ أي ونزَّل الميزان أي العدل والإِنصاف، فهو من تسمية الشيء باسم السبب ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ أي وما ينبئك أيها المخاطب لعلَّ وقت الساعة قري؟ فإن الواجب على
126
العاقل أن يحذر منها، ويستعدُّ لها. قال أبو حيان: ووجه اتصال الآية بما سبق أن الساعة يوم الحساب فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ أي يستعجل بالقيامة المشركون الذين لا يُصدِّقون بها فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى تكون؟ ﴿والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ أي والمؤمنون المصدِّقون بها خائفون وجلون من قيامها ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق﴾ أي وعلمون أنها كائنة وحاصلة لا محالة ﴿أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أي الذين يُجالدون في أمر القيامة في ضلالٍ بعيد عن الحق، لإِنكارهم عدل الله وحكمته.
127
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الساعة وما يلقاه عند قيامها المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار من الحساب والجزاء، ذكر هنا أنه لطيف بالعباد لا يعاجل العقوبة للعصاة مع استحقاقهم للعذاب، ثم ذكر مآل المتقين، ومآل المجريمن في الآخرة، دار العدل والجزاء.
اللغَة: ﴿لَطِيفٌ﴾ برٌّ رفيقٌ رحيم ﴿حَرْثَ الآخرة﴾ الحرثُ في الأصل: إلقاء البذور في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ثم استعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة {
127
الفصل} القضاء السابق ﴿يَقْتَرِفْ﴾ يكتسب ﴿رَوْضَاتِ﴾ جمع روضة وهو الموضع الكثير الأزهار والأشجار والثمار كالمنتزه وغيره ﴿يَقْتَرِفْ﴾ يكتسب ﴿الغيث﴾ المطر سمي غيثاً لأنه الخلق ﴿قَنَطُواْ﴾ يئسوا ﴿بَثَّ﴾ فرَّق ونشر ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾ فائتين من عذاب الله بالهرب.
التفسِير: ﴿الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ أي يوسِّع الرزق على من يشاء قال القرطبي: وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمه، ليحتاج البعضُ إلى البعض، وهذا من لطفه بالعباد، وأيضاً ليتمحن الغنيَّ بالفير، والفقير بالغني كقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠] ؟ ﴿وَهُوَ القوي﴾ أي القادر على كل ما يشاء ﴿العزيز﴾ أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعلية أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه وقال افي التسهيل: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله﴾ ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آهلة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإسنادٌ الشرع إلى الأوثان، وهي جمادات إسنادُ مجازي، ومن إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للماشكلة والتهكم ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن ﴿وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم غذابٌ مرجع مؤملم ﴿تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ﴾ أي ترى أيها المخاطب الكفارين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات﴾ أي والمؤمنون الصالحون في
128
رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها ﴿لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيا يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قفال تعالى ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جلا وعلا إذا قال «كبير» فمن ذا الذي يقدر قدره ﴿ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بين وبينكم من القرابة، وتؤذوني في نفسي لقرابتي منكم ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾ أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات ﴿أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ ؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب علىلله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة ﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾ أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قبلك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾ [الحاقة: ٤٤٤٦] وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ أي يزيل الله الباطل بالكلية ﴿وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ﴾ أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعمله الله وطبع على قلبك ﴿وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هوجل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إِذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإِخلاص نيّة ﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات﴾ أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ أي يعلم جميع ما تصنعون من
129
خيرٍ أو شر ﴿وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾ [المطفيين: ٣] أي كالوا لهم ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم ﴿والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض﴾ أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام، لأن الغني والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة: خير العيش مالا يُلهيك ولا يُطغيك ﴿ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ﴾ أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة المصلحة كما جاء في الحديث القدسي «إنَّ من عبادي من لا يصلُحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه» ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم، فيعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ﴿وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾ تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد ﴿وَهُوَ الولي الحميد﴾ أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض﴾ أي ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته، الدالة على وحدانيته، خلقُ السموات والأرض بهذا الشكل البديع ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ أي وما نشر وفرَّق في المسوات والأرض من مخلوقات قال ابن كثير: وهذا يشمل الملائكة والإِنس والجن، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم وقال مجاهد: هم الناسُ والملائكة ﴿وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء، في أيِّ وقتٍ شاء ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي وما أصابكم أيها الناس مصيبة من المصائب في النفس أو المال فإنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها قال الجلال: وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ لهلكتم وفي الحديث
«لا يصيب ابن آدم وخدش عود، أو عثرة قدمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ، وما يعفه عنه أكثر» ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله، ولا هاربين من قضائه، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب {وَمَا لَكُمْ
130
مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه.
فَائِدَة: المصائب التي تُصيب الناس لتكفير السيئات، وأما الأنبياء فإِنما هي لرفع الدرجات لأنهم معصومون عن الذنوب والآثام.
تنبيه: قال بعض العلماء: لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة، والعوالم العلوية مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقات الأرض، وأن يكون فيها حيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا كما تدل الدلائل الفكلية على وجود حياةٍ في المريخ، واستدلوا بهذه الآية ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ الآية، أقول: يحتمل أن يوجد في هذا الفضاء الواسع، مخلوقات حيَّة غير الإِنسان، أم الإِناسن فإِننا نقطع بأنه لا يوجد إلا فوق سطح الكوكب الأرضي لقوله تعالى: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ [الأعراف: ٢٥].
131
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السموات والأرض، وما بثَّ فيهما من مخلوقات لا تُحصى، أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإِله القادر الحكيم، وهي السفن الضخمة التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر، محمَّلة بالأقوات والأرزاق، وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي وصدق القرآن.
اللغَة: ﴿الجوار﴾ جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تجري في الماء ﴿كالأعلام﴾ جمع علم وهو الجبل العظيم الشاهق قالت الخنساء:
وإِنَّ صخْراً لتأْتمُّ الهُداةُ به كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
﴿رَوَاكِدَ﴾ ثوابت ساكنة لا تسير، من ركدَ الماء إذا سكن ووقف عن الجري ﴿مَّحِيصٍ﴾ مهرب ومخلص من العذاب ﴿يُوبِقْهُنَّ﴾ يهلكهنَّ يقال: أوبقه أي أهلكه ﴿الفواحش﴾ جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه كالزنى والقتل والشرك وغيرها ﴿نَّكِيرٍ﴾ منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب ﴿عَقِيماً﴾ لا تلد.
التفسِير: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها ﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ﴾ أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البرح لا تجري ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكن مؤمن صابر في البأساء، شاكر في الرخاء قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا وقال أبو حيان: وإنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإذا أراد أن ترسوا أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم ﴿وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾ أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك ﴿وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله قال القرطبي: أي ليعلم الكافر إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى لله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخصلون له العبادة {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ
132
الحياة الدنيا} أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى﴾ أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدينا وما فيها لأنَّ نعيم الآخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي ﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على ترك الملاذ في الدنيا ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم ﴿والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم﴾ أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين ﴿والفواحش﴾ قال ابن عباس: يعني الزنى ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ أي إذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حنيئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي «من استُغضب ولم يغضب فهو حمار» وقال الشاعر «وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل» ﴿والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة قال البيضاوي: نزل في الأنصار دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإِيمان فاستجابوا ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها ﴿وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ﴾ أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي وينفقون مما أعطاهم الله في سبيل الله بالإِحسان إلى خلق الله ﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون الظلم المعتدي قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلُوةا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة قال الإِمام الفخر: لما قال تعالى ﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أني كون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث
«وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا عزاً» ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ أي إنه جل وعلا يبغض البادئتين بالظلم، والمعتدين في الانتقام ﴿وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان ﴿فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح له من الانتصار ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس﴾ إي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم ﴿وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي
133
ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي امر الله بها وأكد عليها قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمد العاقبة ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ﴾ أي ومن يضلله اللهُ فلس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق ﴿وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم ﴿يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون: هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا؟ قال القرطبي: يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عَزَّ وَجَلَّ فلا يجابون ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذل﴾ أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه قال ابن عباس: ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل وقال قتادة والسدي: يُسارقون النظر من شدة الخوف ﴿وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم ﴿أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾ أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله﴾ أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ﴾ ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإِلى الجنة في الآخرة، لأنه قد سُدَّت عليه طريق النجاة قال ابن كثير: من يضلله الله فليس له خلاص ﴿استجيبوا لِرَبِّكُمْ﴾ أي استجيبوا أيها الناسُ إلى ما دعاكم غليه ربكم من الإِيمان والطاعة ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله﴾ أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه، لأنه ليس له دافع ولا مانع ﴿مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ﴾ أي ليس لكم مفر تلتجئون إليه ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾ أي وليس لكم مكِرٌ يثنكِر ما ينزل بكم من العذاب وقال أبو السعود: أي ما لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالهكم وتشهد عليه جوارحكم ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ﴾ أي فإِن أعرض المشركون عن الإِيمان ولم يقبلوا هداية الرحمن ﴿فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ أي فما أرسلناك يا محمداً رقيباً على أعمالهم ولا محاسباً لهم ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾ أي ما عليك إلاَّ أن تبلغهم رسالة ربك وقد فعلت قال أبو حيان: والآية تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتأنيسٌ له، وإِزالةٌ لهمِّه، ثم أخبر تعالى أن طبيعة الإِنسان الكفران لنعم الله فقال {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ
134
بِهَا} وأراد بالإِنسان الجنس بدليل قوله ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ﴾ والمعنى إنا إذا أكرمنا الإِنسان بنعمةٍ من النعم من صحة وغنى وأمنٍ وغيرها بطر وتكبَّر ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾ أي وإِن أصاب الناسَ جدبٌ ونقمة، وبلاءٌ وشدة، بسبب ما اقترفوه من آثام فإِن الإِنسان مبالغٌ في الجحود والكفران، ينسى النعمة ويذكر البلية قال الصاوي: والحكمةُ في تصدير النعمة ب «إذا» والبلاء ب «إنْ» هو الإِشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء، لأن رحمة الله تغلب عضبه وقال الإِمام الفخر: نِعمُ اللهِ في الدنيا وإِن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمَّاها ذوقاً، فبيَّن تعالى أن الإِنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا فإِنه يفرح بها ويعظم غروره وبسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المُنى، وذلك لجهله بحال الدنيا وبحال الآخرة ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ أي هو تعالى المالك للكون كلِّه، علويه وسفليّه، والمتصرف فيه بالخلق والإِيجاد، كيفما يشاء، والمقصودُ من الآية أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، وأن يعلم أن الكل ملك الله وحده، وبيده مقاليد التصرف في السموات والأرض، يعطي ويمنع، لا رادَّ لقاضه ولا معقّب لحكمه ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً﴾ أي يخص من شاء من عبداه بالإِناث دون البنين ﴿وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور﴾ أي ويخص من شاء بالذكور دون الإِناث ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾ أي جعلهم إن شاء من النوعين فيجمع للإِنسان بين البنين والبنات ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾ أي ويجعل بعض الرجال عقيماً فلا يولد له، وبعض النساء عقيماً فلا تلد قال البيضاوي: والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة، على مقتضى المشيئة، فيهب لبعضٍ إمّا صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جمعاً، ويُعقم آخرين، والمراد من الآية بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء، ولهذا قال ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ أي مبالغ في العلم والقدرة، يفعل ما فيه مصلحة وحكمة قال ابن كثير: جعل تعالى الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه النوعين الذكر والإِناث، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد، فسبحان العليم القدير.
. ثم ذكر تعالى الوحي وأقسامه وأنواعه فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً﴾ أي وما صحَّ لأحدٍ من الشر أياً كان أن يكلمه الله إلا بطريق الوحي في الناس أو بالإلهام، لأن رؤيا الأنبياء حقٌ كما وقع للخليل إبراهيم عليه السلام ﴿إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات: ١٠٢] ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ أي أو يكلمه من وراء حجاب كما كلَّم موسى عليه السلام ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ﴾ أي أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى الرسل بأمره تعالى ما يشاء تبليغه كما نزل جبريل بالوحي على الأنبياء قال في التسهيل: بيَّن تعالى في الآية أن كلامه لعباده على ثلاثة أوجه: أحدها الوحي بطريق الإلهام أو المنام، والآخر أن يُسمعه كلامه من وراء حجاب، والثالث: الومحي بواسطة الملك، وهذا خاص بالإنبياء، والثاني خاص بموسى وبمحمد إذ كلمه الله ليلة الإِسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء وقال الصاوي: وقد
135
يقع الإِلهام لغير الأنبياء كالأولياء، غير أن إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان لأنهم غير معصومين، بخلاف الأنبياء فإلهامهم محفوظ منه ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ أي إنه تعالى متعالٍ عن صفات المخلوقين، حكيم في أفعاله وصنعه، تجري أفعاله على موجب الحكمة ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ أي وكما أوحينا إلى غيرك من الرسل أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، وسمَّاه روحاً لأن فيه حياة النفوس من موت الجهل، وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيب ربيع الأرض ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ أي ما كنت يا محمد تعرف قبل الوحي ما هو القرآن، ولا كنت تعرض شرائع الإِيمان ومعالمه على وجه التفصيل ﴿ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي ولكن جعلنا هذا القرآن نوراً وضياءً نهدي به عبادنا المتقين ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي وإنك يا محمد لترشد إلى دين قيمٍ مستقيم هو الإِسلام ﴿صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي هذا الدين الذي لا اعوجاج فيه هو دينُ الله الذي له كل ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً ﴿أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾ أي ألا إلى الله وحده ترجع الأمور فيفصل فيها بين العباد بحكمه العادل وقضائه المبرم.
البَلاَغَة: تصمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز المرسل ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى﴾ [الشورى: ٧] أي لتنذر أهل مكة لأن الإِنذار لأهل القرية لا لها.
وفي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر وتقديره: لتنذر أم القرى العذاب، وتنذر الناس يوم الجمع.
٢ - توالي المؤكدات مع صيغة المبالغة ﴿أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾ [الشورى: ٥] وهي ألا، وإن، وضمير الفصل.
٣ - الطباق بين ﴿الجنة.. والسعير﴾ وبين ﴿يَبْسُطُ.. ويَقْدِرُ﴾ وبين ﴿ذُكْرَاناً.. وَإِنَاثاً﴾.
٤ - طباق السلب ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ [الشورى: ١٨].
٥ - الاستعارة ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة﴾ [الشورى: ٢٠] الآية شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة والحب، بطريق الاستعارة التمثيلية وهي من لطائف الاستعارة.
٦ - المقابلة ﴿وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ﴾ [الشورى: ٢٤].
٧ - عطف العام على الخاص ﴿يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ [الشورى: ٢٨] فالغيث خاص والرحمة عام.
٨ - التشبيه المرسل المجمل ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ أي كالجبال في الضخامة والعظم.
٩ - التقسيم ﴿يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾.
١٠ -
136
جناس الاشتقاق ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ﴾ [الشورى: ٣٠].
١١ - صيغة المبالغة ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي عظيم الصبر، كبير الشكر.
١٢ - المشاكلة ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة.
١٣ - توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية وهو كثير في القرآن العظيم.
137
Icon