تفسير سورة سورة الشورى من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة حم عسق وتسمى سورة الشورى مكية
وهي ثلاث وخمسون آية وخمس ركوعات
ﰡ
﴿ حم عسق ﴾ قيل : فصل بينهما ليطابق سائر الحواميم
﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ﴾ أي : مثل ما في هذه من المعاني أوحى الله تعالى إليك، وإلى من قبلك من الرسل. قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من رسول إلا وقد أوحى إليه حم عسق، فعلى هذا " كذلك " إشارة إليه، وذكر المضارع للاستمرار وبيان العادة، وكذلك في موقع المصدر أو المفعول به، ومن قرأ " يوحى " بصيغة المجهول، فالله مرفوع بمحذوف كأن قائلا قال : من يوحى فقال : الله
﴿ له ما في السماوات والأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن ﴾ يتشققن من عظمته، أو من قولهم :﴿ اتخذ الرحمن ولدا ﴾ [ يونس : ٦٨، مريم : ٨٨، الأنبياء : ٢٦ ] ﴿ من فوقهن ﴾ أي : يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية، فإن أعظم آياته الدالة على جلاله، وهي العرش والكرسي وغيرهما من تلك الجهة ﴿ والملائكة يسبحون ﴾ ملتبسين ﴿ بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ : من المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ ويستغفرون للذين آمنوا ﴾ [ غافر : ٧ ] وقيل : الاستغفار طلب هدايتهم التي هي موجب الغفران، فيعم الكافر ﴿ ألا إن الله هو الغفور الرحيم ﴾
﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ﴾ شركاء ﴿ الله حفيظ عليهم ﴾ : رقيب على أعمالهم، يحصيها ويجزيهم ﴿ وما أنت ﴾ يا محمد ﴿ عليهم بوكيل ﴾ : موكل بهم، ﴿ إنما أنت نذير ﴾ [ هود : ١٢ ]
﴿ وكذلك ﴾ أي : مثل ذلك الإيحاء لبين ﴿ أوحينا إليك قرآنا ﴾ مفعول أوحينا ﴿ عربيا لتنذر أم القرى ﴾ : مكة، أي : أهلها ﴿ ومن حولها ﴾ قرئ الأرض كلها، أو المراد العرب، وترك المفعول الثاني لقصد العموم أي : بأنواع الإنذار ﴿ وتنذر يوم الجمع ﴾ يقال : أنذرته النار وبالنار. وترك المفعول الأول للعموم أيضا، أي : لتنذر كل أحد عن هول يوم القيامة، الذي يجمع فيه الأولون والآخرون ﴿ لا ريب فيه ﴾ اعتراض لا محل له ﴿ فريق ﴾ أي : منهم فريق يعني مشارفين للتفريق، والضمير للمجموعين الدال على يوم الجمع ﴿ في الجنة وفريق في السعير ﴾ والجملة حال من مفعول الجمع، لذلك قدرنا الجار والمجرور مقدما ؛ لأنه إذا كانت الجملة الاسمية حالا بغير واو، ولم يكن فيما صدرته الجملة ضمير إلى ذي الحال، لكان ضعيفا
﴿ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ﴾ : على دين واحد ﴿ ولكن يدخل من يشاء في رحمته ﴾ بالهداية ﴿ والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ﴾ : يدفع عنهم العذاب وينصرهم، وتغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد، وتكثير الفائدة
﴿ أم اتخذوا ﴾ بل اتخذوا الهمزة للإنكار ﴿ من دونه أولياء فالله هو الولي ﴾ أي : إن أرادوا وليا، فالله هو الولي بالحق عن ابن عباس- رضي الله عنهما- فالله هو وليك، وولي من تبعك ﴿ هو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ﴾.
﴿ وما اختلفتم فيه من شيء ﴾ لإرادة العموم أتى بهذا البيان ﴿ فحكمه إلى الله ﴾ هذا كقوله :﴿ وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ]. وهذا حكاية لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على طريقة التعليم لقوله :﴿ ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ : أرجع
﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ خبر آخر لذلكم، أو مبتدأ خبره قوله :﴿ جعل لكم من أنفسكم ﴾ أي : من جنسكم ﴿ أزواجا ﴾ : نساء ﴿ ومن الأنعام أزواجا ﴾ : وخلق للأنعام من جنسها أزواجا، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا ﴿ يذرؤكم فيه ﴾ : يكثركم في ذلك الطريق والتدبير، وهو جعلكم أزواجا يكون سببا للتوالد ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ : قولنا : ليس كذاته، ليس كمثله، عبارتان عن معنى واحد إلا أن الأولى صريحة والثانية : كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية ممن يكون مثله وعلى صفته، فكيف عن نفسه. وهذا لا يستلزم وجود المثل، وقيل : الكاف أو المثل : صلة﴿ وهو السميع البصير ﴾
﴿ له مقاليد ﴾ : مفاتيح، أو خزائن ﴿ السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ : ويضيف ﴿ إنه بكل شيء عليم ﴾
﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾ أي : ظهر وسن لكم من الدين، دين نوح وهو أول أنبياء الشريعة، محمد وهو آخرهم، ومن بينهما من أولي العزم ﴿ أن أقيموا الدين ﴾ بدل من مفعول شرع، أو " أن " مفسرة بمعنى : أي ﴿ ولا تتفرقوا فيه ﴾ المراد إقامة دين الإسلام وعدم الاختلاف فيه، أي : في التوحيد والطاعة ونحو ذلك من الأصول، لا الشرائع العملية المختلفة باختلاف مصالح الأمم ﴿ كبر ﴾ : عظم وشق ﴿ على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾ من ترك الشرك ﴿ الله يجتبي ﴾ : يصطفي ﴿ إليه ﴾ : إلى الله ﴿ من يشاء ويهدي إليه من ينيب ﴾ : من يقبل إليه، وقيل : يجتبي من جبى الخراج أي : جمعه ؛ لأن الكلام في عدم التفرق يناسب الجمع والانتهاء إليه، وضمير إليه للدين
﴿ وما تفرقوا ﴾ أهل الأديان، أو أهل الكتاب ﴿ إلا من بعد ماجاهم العلم ﴾ بأن الفرقة ضلالة، أو المراد من العلم الكتب السماوية ﴿ بغيا ﴾ : لعداوة وعناد ﴿ بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ : بالإمهال ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ : يوم القيامة، أو آخر أعمارهم ﴿ لقضي بينهم ﴾ بأن جزيناهم بما يستحقون في أسرع وقت ﴿ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ﴾ إنجيل المتأخر بعد القرون الأولى ﴿ لفي شك منه ﴾ : من دينهم أو من القرآن ﴿ مريب ﴾ : مدخل في الريبة
﴿ فلذلك ﴾ أي : إلى ما أوحينا إليك وإلى غيرك ﴿ فادع ﴾ الناس. يقال : دعوت له وإليه، وقيل : لأجل ذلك التفرق ادع الناس إلى الاتفاق على دين الإسلام ﴿ واستقم ﴾ على عبادة الله تعالى ﴿ كما أمرت لا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ لا كمن آمن ببعض، وكفر ببعض ﴿ وأمرت لأعدل ﴾ : لأن أعدل في الحكم ﴿ بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ﴾ وكل يجازى بعمله ﴿ لا حجة ﴾ : لا خصومة ﴿ بيننا وبينكم ﴾ وهذا قبل نزول آية السيف فإن السورة مكية. وقيل : لا إيراد حجة بيننا، فإنه قد ظهر الحق ﴿ الله يجمع بيننا ﴾ : يوم المعاد ﴿ إليه المصير ﴾ فيفصل بيننا
﴿ والذين يحاجون ﴾ : يجادلون ﴿ في الله ﴾ : في دينه ﴿ من بعد ما استجيب له ﴾ أي : بعد ما استجاب الناس لله تعالى ودخلوا الإسلام، وقيل : بعد ما استجاب الله تعالى لرسوله بإظهار دينه، وقيل : بعد ما استجاب أهل الكتاب له أقروا بنبوته ﴿ حجتهم داحضة ﴾ : باطلة زائلة ﴿ عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ﴾
﴿ الله الذي أنزل الكتاب ﴾ جنسه ﴿ بالحق ﴾ متلبسا بعيدا من الباطل ﴿ والميزان ﴾ : العدل وهو شرعه، أو إنزال العدل عبارة عن الأمر به، أو المراد إنزال الميزان على الحقيقة، كما سنذكره في سورة الحديد من أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به ﴿ وما يدريك لعل الساعة ﴾ : التي هي يوم الجزاء، ووضع الميزان والعدل ﴿ قريب ﴾ فواظب على العدل، وتذكير قريب، لأن الساعة بمعنى البعث، أو لأن تقديره : لعل مجيء الساعة
﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾ : استهزاء ﴿ والذين آمنوا مشفقون ﴾ : خائفون ﴿ منها ويعلمون أنها الحق ﴾ : الكائن البتة فيستعدون لها ﴿ ألا إن الذين يمارون ﴾ : يجادلون ﴿ في الساعة لفي ضلال بعيد ﴾ عن طريق الصواب
﴿ الله لطيف بعباده ﴾ : بار بالبر والفاجر ﴿ ويرزق من يشاء ﴾ أي : يرزق من يشاء ما يشاء على مقتضى حكمته ﴿ وهو القوي العزيز ﴾ القادر المطلق الذي لا يغلب.
﴿ من كان يريد ﴾ بعمله ﴿ حرث الآخرة ﴾ أي : زرعها. سمي عمله زرع الآخرة ؛ لأن الفائدة تحصل فيها، كما يقال : زرع الصيف ﴿ نزد له في حرثه ﴾ بتضعيف ثوابه ﴿ من كان يريد ﴾ بعمله ﴿ حرث الدنيا نؤته منها ﴾ : شيئا منها بقدر ما قسمنا له ﴿ وما له في الآخرة من نصيب ﴾ نصيب من عمله، إذ لكل امرئ ما نوى
﴿ أم لهم شركاء ﴾ : بل ألهم آلهة وهم الشياطين، والهمزة للتحقيق والتثبيت ﴿ شرعوا ﴾ : أظهروا ﴿ لهم من الدين ﴾ غير دين الإسلام ﴿ ما لم يأذن به الله ﴾ وهذا إضراب عن قوله :﴿ شرع لكم من الدين ﴾ ( الشورى : ١٣ ) إلخ ﴿ ولولا كلمة الفصل ﴾ : القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة ﴿ لقضي بينهم ﴾ بين المؤمنين والكافرين في الدنيا ﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾
﴿ ترى الظالمين ﴾ في القيامة ﴿ مشفقين ﴾ : خائفين ﴿ مما كسبوا ﴾ : من وباله ﴿ وهو واقع بهم ﴾ لا محالة ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ﴾ : أحسن بقاعها ﴿ لهم ما يشاءون عند ربهم ﴾ ظرف ل " لهم " أي : حصل لهم عنده وفي كرمه، أو حال ﴿ ذلك هو الفضل الكبير ﴾
﴿ ذلك ﴾ الثواب ﴿ الذي يبشر الله عباده ﴾أي : به، حذف الجار ثم العائد ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه ﴾ : على التبليغ ﴿ أجرا ﴾ : نفعا منكم ﴿ إلا المودة في القربى ﴾ : إلا أن تحبوني في حق قرابتي منكم ومن أجلها، أو إلا أن تحبوا أهل قرابتي وتجعلوهم مكان المودة، فالظرف حال، وعن الإمام أحمد قال عليه الصلاة والسلام للعباس :" لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي " أو إلا أن تحبوا الله في تقربكم إليه بطاعته ﴿ ومن يقترف ﴾ : يكتسب ﴿ حسنة ﴾ طاعة ﴿ نزد له فيها ﴾ : في الحسنة ﴿ حسنا ﴾ بأن نضاعف أجرها ﴿ إن الله غفور شكور ﴾ يقبل الطاعة وإن قللت
﴿ أم يقولون ﴾ بل أيقولون : إضراب آخر أشد من قوله :" أم لهم شركاء " إلخ ﴿ افترى ﴾ محمد ﴿ على الله كذبا فإن يشأ الله ﴾ أي : خذلانك اللازم للافتراء ﴿ يختم على قلبك ﴾ فلا تعي القرآن ولا تفهم الوحي، ويسلبك ما أتاك من الله تعالى، أو فتجترئ على الافتراء عليه، وهذا رد واستبعاد لافترائه على الله تعالى. وعن مجاهد : يربط على قلبك بالصبر فلا يشق عليك أذاهم ﴿ ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ﴾ كلام ابتدائي عطف جملة على جملة لا على الجزاء، ولهذا أعاد اسم الله تعالى، ورفع يحق وحذف الواو من يمحو في اللفظ لالتقاء الساكنين، وفي الخط في بعض المصاحف على خلاف القياس كما في ﴿ ويدع الإنسان ﴾ [ الإسراء : ١١ ] وهذا عدة بمحو الباطل الذي هم عليه، وإثبات الحق الذي عليه المؤمنون بحججه أو بالقرآن أو بقضائه، وقيل : حاصله أن من عادته محو الباطل وإثبات الحق، فلو كان مفتريا لمحقه وأثبت الحق ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ فيعلم ضميرك وضميرهم، فيجزي الأمر على حسب ذلك
﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾ : بالعفو عما تاب عنه، وعدم المؤاخذة به ﴿ ويعفوا عن السيئات ﴾ من شأنه قبول التوبة والعفو عن الذنوب، والظاهر من لفظ العفو وعطفه على يقبل التوبة، أن هذا في غير التائب ﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ فيثبت ويعاقب
﴿ ويستجيب الذين آمنوا ﴾ أي : يجيب الله تعالى دعاءهم ويثيبهم ﴿ وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ﴾ عما استحقوا، وفي الحديث في تفسير " ويزيدهم " قال- عليه الصلاة والسلام :" الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا " . وعن بعض السلف في قوله :" ويستجيب الذين آمنوا "، قال : يشفعون في إخوانهم وفي قوله :" ويزيدهم من فضله " قال : يشفعون في إخوان إخوانهم ﴿ والكافرون لهم عذاب شديد ﴾
﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده ﴾ بأن أغناهم جميعا وفر الدنيا للكل ﴿ لبغوا ﴾ : أفسدوا ﴿ في الأرض ﴾ بطرا أي : ولم يبسط لئلا يعم البغي ولا يغلب الفساد على الصلاح ﴿ ولكن ينزل بقدر ما يشاء ﴾ أي : ينزل ما يشاء من أرزاقهم بتقدير وتعيين، وفي الحديث " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن منهم من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه " ﴿ إنه بعباده خبير بصير ﴾ فيقدر لهم ما يناسبهم
﴿ وهو الذي ينزل الغيث ﴾ : المطر، قيل : هو المطر النافع ﴿ من بعد ما قنطوا ﴾ : أيسوا منه ﴿ وينشر رحمته ﴾ : يبسط منافع الغيث، أو ينشر سائر رحمته ﴿ وهو الولي ﴾ المتصرف للأمور ﴿ الحميد ﴾ : المستحق للحمد
﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرٍض وما بث ﴾ أي : نشر، وما موصولة عطف على السماوات ﴿ فيهما من دابة ﴾ : من حي، ذكر اللزوم وأراد اللازم، أو في السماء دواب من مراكب أهل الجنة وغيرها، وقيل : فيهما، أي : في بينهما مما يدب على الأرض ﴿ وهو على جمعهم ﴾ للحشر ﴿ إذا يشاء ﴾ أي وقت شاء ﴿ قدير ﴾.
﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ من الجرائم فأنتم السبب، والفاء لتضمين " ما " معنى الشرط، ومن قرأ بغير الفاء فمن غير تضمين ﴿ ويعفوا عن كثير ﴾ فلا يعاقبكم لا في الدنيا ولا في الآخرة بها ﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ﴾[ فاطر : ٤٥ ] وعن علي- رضي الله عنه- قال : ألا أخبركم بأفضل آية حدثنا بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم ؟ ﴿ ما أصابكم من مصيبة ﴾ الآية قال : وسأفسرها لك يا على ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم والله أحلم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفى الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه "
﴿ وما أنتم بمعجزين في الأٍرض ﴾ فيصل إليكم لا محالة ما قدر الله تعالى لكم ﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ فإنه هو المتولي والناصر وحده
﴿ ومن آياته الجوار ﴾ السفن ﴿ في البحر كالأعلام ﴾ أي : السفن كالجبال في العظم، والظرف متعلق بما يتعلق به " من آياته " وكالأعلام حال من ضميره
﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن ﴾ : يصرن ﴿ رواكد ﴾ : ثوابت ﴿ على ظهره ﴾ أي : ظهر البحر ﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾ : لكل مؤمن سافر البحر ورأى عجائبه، فإنه صبر على شدائد البحر وشكر عند الخلاص، والكافر يجزع فلا يشكر
﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾ : يهلك أهلهن بالغرق بسبب ذنوبهم، عطف على يسكن الريح ﴿ ويعف عن كثير ﴾ تقديره : أو إن يشأ يعصف الريح، فيوبق بعضا من أهلهن، وينج بعضا على العفو عنهم
﴿ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ﴾ لإبطالها ﴿ ما لهم من محيص ﴾ : مهرب عن عذابه المقدر، ومن قرأ بنصب " يعلم " فعنده عطف على تعليل محذوف، أي : يوبقهن لينتقم منهم ويعلم
﴿ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ﴾ لا يبقى بعد الموت ﴿ وما عند الله ﴾ من الثواب ﴿ خير وأبقى ﴾ لما كانت سببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمرا مقررا في العقول، غنيا عن الدلالة عليه بحرف موضوع له، بخلاف سببية كون الشيء عندكم لقلته وحقارته أتى بالفاء في الأول دون الثاني ﴿ للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ قيل : نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه- حين تصدق بجميع ماله ولامه الناس
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ عطف على اللذين، والأصح أن الكبائر : كل ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب والسنة ﴿ والفواحش ﴾ : تزايد قبحه، أو ما يتعلق بالفروج، تخصيص بعد تعميم ﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ سجيتهم الصفح لا الانتقام
﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ : أجابوه حين دعاهم إلى الطاعة بلسان رسوله- عليه الصلاة والسلام ﴿ وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ﴾ : ذو شورى، لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾
﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ : الظلم ﴿ هم ينتصرون ﴾ يعني : يعفون في محل العفو، وينتقمون في محل الانتقام، ليسوا أدلة عاجزين
﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ عقب وصف الانتقام بهذا إشارة إلى منع التعدي، وسمى الثانية سيئة للازدواج ﴿ فمن عفا وأصلح ﴾ بينه وبين عدوه ﴿ فأجره على الله ﴾ أبهم الجزاء للتعظيم ﴿ إنه لا يحب الظالمين ﴾ : الذين يبدءون بالظلم
﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه ﴾ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي : بعد ظلم الظالم إياه ﴿ فأولئك ﴾ إشارة إلى معنى " من " ﴿ ما عليهم من سبيل ﴾ بعقوبة ومؤاخذة
﴿ إنما السبيل ﴾ أي : ما السبيل بالمعاقبة إلا ﴿ على الذين يظلمون الناس ﴾ لا على من ينتصر ﴿ ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ﴾
﴿ ولمن صبر ﴾ على الأذى ﴿ وغفر ﴾ ولم ينتصر ﴿ إن ذلك ﴾ إشارة إلى صبره، لا إلى مطلق الصبر، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ﴿ لمن عزم الأمور ﴾ : لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة.
﴿ ومن يضلل الله فما له من ولي ﴾ : من ناصر يتولاه ﴿ من بعده ﴾ : من بعد إضلال الله إياه ﴿ وترى الظالمين لما رأوا العذاب ﴾ في القيامة ﴿ يقولون هل إلى مرد من سبيل ﴾ : هل طريق إلى رجعة إلى الدنيا ؟ !
﴿ وتراهم يعرضون عليها ﴾ : على النار﴿ خاشعين ﴾ : خاضعين ﴿ من الذل ﴾ : مما يلحقكم من الذل ﴿ وينظرون ﴾ : إلى النار ﴿ من طرف خفي ﴾ : مسارقة فإن الكاره لشيء، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليه ﴿ وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ﴾ بالضلال ﴿ وأهليهم ﴾ بالضلال وقيل : خسروا أهليهم بأن فرقوا بأنفسهم وبينهم، لأنهم في النار وأهليهم في الجنة ﴿ يوم القيامة ﴾ ظرف خسروا، وقال : على التنازع. وهذا القول من المؤمنين حين رأوا أن العذاب أحاط بهم، والماضي من باب ونادى أصحاب الأعراف [ الأعراف : ٤٨ ]، أو هذا القول منهم في الدنيا ﴿ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ﴾ تصديق من الله تعالى أو تتمة كلامهم
﴿ وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل ﴾ إلى الهداية والجنة
﴿ استجيبوا لربكم ﴾ أي : أجيبوا أمره وداعيه ﴿ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ﴾ من متعلق بمتعلق له لا بمرد أي : لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به، وقيل : متعلق بيأتي ﴿ ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير ﴾ : إنكار لأعمالكم، وجاز أن يراد إنكار لوعد الله تعالى وعيده
﴿ فإن أعرضوا ﴾ عن الإجابة ﴿ فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ : رقيبا تحفظ أعمالهم ﴿ إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان ﴾ أي : جنسه ﴿ منا رحمة ﴾ كصحة وغنى ﴿ فرح بها ﴾ فأشر وبطر ﴿ وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم ﴾ بسبب قبائحهم ﴿ فإن الإنسان كفور ﴾ : بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويقنط، علق الحكم بصريح اسم الجنس دون الضمير العائد إلى مثله، تسجيلا على أن هذا الجنس موسوم بالكفران
﴿ لله ملك السماوات والأرض ﴾ فيقسم الرحمة والسيئة كيف يشاء ﴿ يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ﴾ وإن لم يشأها ﴿ ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ تأخير الذكور ؛ لأن سياق الكلام في إطلاق مشيئة الله تعالى من غير اختيار لغيره، والإناث مما لم يشأه الولدان، وأيضا للمحافظة على الفواصل، ولذا عرفه، أو لجبر التأخير أو قدمهن توصية برعايتهن لضعفهن، لا سيما وكن قريبات العهد بالوأد
﴿ أو يزوجهم ﴾ أي : المولودين ﴿ ذكرانا وإناثا ﴾ في موضع الحال من المفعول، وذكر هذا القسم بلفظه أو من غير ذكره المشيئة ؛ لأنه ليس قسيما على حدة، بل تركيب من السابقين ؛ كأنه قيل : يهب لمن يشاء إناثا منفردات وذكورا كذلك أو مجتمعين ﴿ ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ﴾ فيفعل ما يعلم صلاحه
﴿ وما كان ﴾ : ما صح ﴿ لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ﴾ : وهو الإلهام أو المنام ﴿ أو من وراء حجاب ﴾ : يسمع كلامه ولا يراه، كما لموسى عليه الصلاة والسلام ﴿ أو يرسل رسولا ﴾ : ملكا ﴿ فيوحي ﴾ ذلك الرسول إلى المرسل إليه ﴿ بإذنه ﴾أي : الله ﴿ ما يشاء ﴾ أي : الله، ووحيا وأن يرسل بمعنى : موحيا ومرسلا، ويقدر مسمعا قبل من وراء الحجاب، وكل منها حال، أو الكل مصدر، فإن الوحي والإرسال نوعان من التكلم، ويقدر قبل من وراء حجاب إسماعا، أو تقديره : بأن يوحى أو يسمع من وراء حجاب، أو يرسل فنصبه بنزع الخافض ﴿ إنه علي ﴾ عن مماثلة خلقه ﴿ حكيم ﴾ فيفعل ما تقتضيه حكمته
﴿ وكذلك أوحينا إليك ﴾ يا محمد ﴿ روحا ﴾ أي : وحيا، فإنه حياة القلوب بما أوحى إليه ﴿ من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ على التفصيل الذي عرفت بعد الوحي، وعن بعضهم المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، كقوله :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾[ البقرة : ١٤٣ ] ﴿ ولكن جعلناه ﴾ الكتاب أو الإيمان ﴿ نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾
﴿ صراط الله ﴾ بدل ﴿ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ﴾ فيحكم فيها بمقتضى عدله وفضله.
الحمد لله رب العالمين.