تفسير سورة الشورى

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة حم عسق وتسمى سورة الشورى مكية
وهي ثلاث وخمسون آية وخمس ركوعات

﴿ حم عسق١ قيل : فصل بينهما ليطابق سائر الحواميم
١ وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، ونعيم بن حماد والخطيب عن [كذا في الأصل، عن ابن المنذر، وكذا في الدر المنثور للسيوطي (٥/ ٦٩٢)، وهو أرطاة بن المنذر كما في تفسير الحافظ ابن كثير (٤/ ١٠٥).]، ابن المنذر حديثا طويلا في تفسير حم عسق، وهو حديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول، والحط من شأنهم، والإزراء عليهم. وكذا ما أخرجه أبو يعلى وابن عساكر عن أبي معاوية قال السيوطي: بسند ضعيف عجيب وقلت: بسند موضوع، ومتن مكذوب، وقد قال ابن كثير في الحديث الأول: أنه غريب عجيب منكر [كذا في الأصل، ووصفه ابن كثير كما في الموضع السابق بأنه أثر غريب عجيب منكر] وفي الثاني: أنه أغرب من الأول، وعندي إنهما موضوعان مكذوبان، وذكر هذا كله صاحب الفتح، وما أضنه إلا من كلام الشوكاني لكنه ما عزاه إليه..
﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ﴾ أي : مثل ما في هذه من المعاني أوحى الله تعالى إليك، وإلى من قبلك من الرسل. قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من رسول إلا وقد أوحى إليه حم عسق، فعلى هذا " كذلك " إشارة إليه، وذكر المضارع للاستمرار وبيان العادة، وكذلك في موقع المصدر أو المفعول به، ومن قرأ " يوحى " بصيغة المجهول، فالله مرفوع بمحذوف كأن قائلا قال : من يوحى فقال : الله
﴿ له ما في السماوات والأرض وهو العلي ١ العظيم تكاد السماوات يتفطرن ﴾ يتشققن من عظمته، أو من قولهم :﴿ اتخذ الرحمن ولدا ﴾ [ يونس : ٦٨، مريم : ٨٨، الأنبياء : ٢٦ ] ﴿ من فوقهن٢ أي : يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية، فإن أعظم آياته الدالة على جلاله، وهي العرش والكرسي وغيرهما من تلك الجهة ﴿ والملائكة يسبحون ﴾ ملتبسين ﴿ بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ : من المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ ويستغفرون للذين آمنوا ﴾ [ غافر : ٧ ] وقيل : الاستغفار طلب هدايتهم التي هي موجب الغفران، فيعم الكافر ﴿ ألا إن الله هو الغفور الرحيم ﴾
١ في ذاته وصفاته/١٢ٍ وجيز..
٢ في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن الضحاك:﴿يتفطرن من فوقهن﴾، يقول: يتصدعن من عظمة الله. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس ﴿تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن﴾، قال: ممن فوقهن، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وعن ابن عباس ﴿تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن﴾، قال: من الثقل، انتهى. وفي الفتح، ويدل على هذا المعنى مجيئه بعد قوله: ﴿العلي العظيم﴾/١٢.
﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ﴾ شركاء ﴿ الله حفيظ عليهم ﴾ : رقيب على أعمالهم، يحصيها ويجزيهم ﴿ وما أنت ﴾ يا محمد ﴿ عليهم بوكيل ﴾ : موكل بهم، ﴿ إنما أنت نذير ﴾ [ هود : ١٢ ]
﴿ وكذلك ﴾ أي : مثل ذلك الإيحاء لبين ﴿ أوحينا إليك قرآنا ﴾ مفعول أوحينا ﴿ عربيا لتنذر أم القرى ﴾ : مكة، أي : أهلها ﴿ ومن حولها ﴾ قرئ الأرض كلها، أو المراد العرب، وترك المفعول الثاني لقصد العموم أي : بأنواع الإنذار ﴿ وتنذر يوم الجمع ﴾ يقال : أنذرته النار وبالنار. وترك المفعول الأول للعموم أيضا، أي : لتنذر كل أحد عن هول يوم القيامة، الذي يجمع فيه الأولون والآخرون ﴿ لا ريب فيه ﴾ اعتراض لا محل له١ ﴿ فريق ﴾ أي : منهم فريق يعني مشارفين للتفريق، والضمير للمجموعين الدال على يوم الجمع ﴿ في الجنة وفريق في السعير ﴾ والجملة حال من مفعول الجمع، لذلك قدرنا الجار والمجرور مقدما ؛ لأنه إذا كانت الجملة الاسمية حالا بغير واو، ولم يكن فيما صدرته الجملة ضمير إلى ذي الحال، لكان ضعيفا
١ من الأعراب /١٢منه..
﴿ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة١ : على دين واحد ﴿ ولكن يدخل من يشاء في رحمته ﴾ بالهداية ﴿ والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ﴾ : يدفع عنهم العذاب وينصرهم، وتغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد، وتكثير الفائدة
١ قال الشوكاني: وهاهنا مخاصمات بين المتمذهبين المتحامين على ما درج عليه أسلافهم، فذبوا عليه من بعدهم، وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة، كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا، فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق، ويدور مع مدلولات النظم الشريف، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه، وتبرأ من التعصب قلبه ولحمه ودمه/١٢ فتح..
﴿ أم اتخذوا ﴾ بل اتخذوا الهمزة للإنكار ﴿ من دونه أولياء فالله هو الولي ﴾ أي : إن أرادوا وليا، فالله هو الولي بالحق عن ابن عباس- رضي الله عنهما- فالله هو وليك، وولي من تبعك ﴿ هو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ﴾.
﴿ وما اختلفتم فيه من شيء ﴾ لإرادة العموم أتى بهذا البيان ﴿ فحكمه إلى الله ﴾ هذا كقوله :﴿ وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ]. وهذا حكاية لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على طريقة التعليم لقوله :﴿ ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ : أرجع
﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ خبر آخر لذلكم، أو مبتدأ خبره قوله :﴿ جعل لكم من أنفسكم ﴾ أي : من جنسكم١ ﴿ أزواجا ﴾ : نساء ﴿ ومن الأنعام أزواجا ﴾ : وخلق للأنعام من جنسها أزواجا، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا ﴿ يذرؤكم فيه ﴾ : يكثركم في ذلك الطريق والتدبير، وهو جعلكم أزواجا يكون سببا للتوالد ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ : قولنا : ليس كذاته٢، ليس كمثله، عبارتان عن معنى واحد إلا أن الأولى صريحة والثانية : كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية ممن يكون مثله وعلى صفته، فكيف عن نفسه. وهذا لا يستلزم وجود المثل، وقيل : الكاف أو المثل : صلة﴿ وهو السميع البصير ﴾
١ أو خلق حواء من ضلع آدم/١٢ منه..
٢ الأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتا ففي ﴿ليس كمثله شيء﴾ رد التشبيه، وفي قوله:﴿وهو السميع البصير﴾ رد للإلحاد والتعطيل. قال الحافظ العلامة ابن القيم، في كتابه حادي الأرواح، في باب الرؤية" هذه الآية يعني قوله: ﴿ليس كمثله شيء﴾ من أعظم الأدلة الدالة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، فإنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها، وهكذا جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مثل له وليس له نظير ولا شبيه، أنه قد تميز عن الناس بأوصاف ونعوت لا يشاركونه فيها، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فاق أمثاله، وبعد عن مشابهة أضرابه، فكيف بالحي القيوم الذي لا مثيل له في ذاته وصفاته؟! فقوله:﴿ليس كمثله شيء﴾ من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته. انتهى. وأيضا قال: في إغاثة اللهفان بعد البيان الطويل: قوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، ولم يقصد به نفي صفات كماله وعلوه على خلقه، وتكلمه بكتبه وتكليمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم، كما يرى الشمس والقمر في الصحو، فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق رده على المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء، فقال:﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء﴾ ثم ساق الآيات إلى قوله:﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾، ثم قال: فانظر وتأمل كيف ذكر هذا النفي تقريرا للتوحيد وإبطالا لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم به حتى عبدوهم، فحرفها المحرفون وجعلوها ترسا لهم في نفي صفات كماله، وحقائق أسمائه وأفعاله انتهى. ومن أراد زيادة تفصيل فليرجع إلى خاتمة هذا الكتاب /١٢..
﴿ له مقاليد ﴾ : مفاتيح، أو خزائن ﴿ السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ : ويضيف ﴿ إنه بكل شيء عليم١
١ فإنه إذا علم أن الغنى صلاح لعبده أغناه وإلا أفقره، ولما هدد ووبخ في شأن من اتخذ من دونه أولياء، أعقبه بأن التوحيد شرع جميع الرسل فقال: ﴿شرع لكم﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾ أي : ظهر وسن لكم من الدين، دين نوح وهو أول١ أنبياء الشريعة، محمد وهو آخرهم، ومن بينهما من أولي العزم ﴿ أن أقيموا الدين ﴾ بدل من مفعول شرع، أو " أن " مفسرة بمعنى : أي ﴿ ولا تتفرقوا فيه ﴾ المراد إقامة دين الإسلام وعدم الاختلاف فيه، أي : في التوحيد والطاعة ونحو ذلك من الأصول، لا الشرائع العملية المختلفة باختلاف مصالح الأمم ﴿ كبر ﴾ : عظم وشق ﴿ على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾ من ترك الشرك ﴿ الله يجتبي ﴾ : يصطفي ﴿ إليه ﴾ : إلى الله ﴿ من يشاء ويهدي إليه من ينيب ﴾ : من يقبل إليه، وقيل : يجتبي من جبى الخراج أي : جمعه ؛ لأن الكلام في عدم التفرق يناسب الجمع والانتهاء إليه، وضمير إليه للدين
١ وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال في حديث الشفاعة المشهور الكبير: " ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" [جزء من حديث الشفاعة الطويل، أخرجاه في الصحيحين]، وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول رسول نبي بغير إشكال إلا أن آدم لم يكن معه إلا نبوة ولم تفرض الفرائض، ولا شرعت له المحارم، إنما كان شرعه تنبيه على بعض الأمور، واقتصارا على ضرورات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء واستمر إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب والديانات، ولم يزل ذلك بالتأكيد بالرسل ويتناصر بالأنبياء عليهم السلام واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم /١٢ فتح.
﴿ وما تفرقوا ﴾ أهل الأديان، أو أهل الكتاب ﴿ إلا من بعد ماجاهم العلم ﴾ بأن الفرقة ضلالة، أو المراد من العلم الكتب السماوية ﴿ بغيا ﴾ : لعداوة وعناد ﴿ بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ : بالإمهال ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ : يوم القيامة، أو آخر أعمارهم ﴿ لقضي بينهم ﴾ بأن جزيناهم بما يستحقون في أسرع وقت ﴿ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ﴾ إنجيل المتأخر بعد القرون الأولى ﴿ لفي شك منه ﴾ : من دينهم أو من القرآن ﴿ مريب ﴾ : مدخل في الريبة
﴿ فلذلك ﴾ أي : إلى ما أوحينا إليك وإلى غيرك ﴿ فادع ﴾ الناس. يقال : دعوت له وإليه، وقيل : لأجل ذلك التفرق ادع الناس إلى الاتفاق على دين الإسلام ﴿ واستقم ﴾ على عبادة الله تعالى ﴿ كما أمرت لا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾ لا كمن آمن ببعض، وكفر ببعض ﴿ وأمرت لأعدل ﴾ : لأن أعدل في الحكم ﴿ بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ﴾ وكل يجازى بعمله ﴿ لا حجة ﴾ : لا خصومة ﴿ بيننا وبينكم ﴾ وهذا قبل نزول آية السيف فإن السورة مكية. وقيل : لا إيراد حجة بيننا، فإنه قد ظهر الحق ﴿ الله يجمع بيننا ﴾ : يوم المعاد ﴿ إليه المصير ﴾ فيفصل بيننا
﴿ والذين يحاجون ﴾ : يجادلون ﴿ في الله ﴾ : في دينه ﴿ من بعد ما استجيب له ﴾ أي : بعد ما استجاب الناس لله تعالى ودخلوا الإسلام، وقيل : بعد ما استجاب الله تعالى لرسوله بإظهار دينه، وقيل : بعد ما استجاب أهل الكتاب له أقروا بنبوته ﴿ حجتهم داحضة ﴾ : باطلة زائلة ﴿ عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ﴾
﴿ الله الذي أنزل الكتاب ﴾ جنسه ﴿ بالحق ﴾ متلبسا بعيدا من الباطل ﴿ والميزان ﴾ : العدل وهو شرعه، أو إنزال العدل عبارة عن الأمر به، أو المراد إنزال الميزان على الحقيقة، كما سنذكره في سورة الحديد من أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به ﴿ وما يدريك لعل الساعة ﴾ : التي هي يوم الجزاء، ووضع الميزان والعدل ﴿ قريب ﴾ فواظب على العدل، وتذكير قريب، لأن الساعة بمعنى البعث، أو لأن تقديره : لعل مجيء الساعة
﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾ : استهزاء ﴿ والذين آمنوا مشفقون ﴾ : خائفون ﴿ منها ويعلمون أنها الحق ﴾ : الكائن البتة فيستعدون لها ﴿ ألا إن الذين يمارون ﴾ : يجادلون ﴿ في الساعة لفي ضلال بعيد ﴾ عن طريق الصواب
﴿ الله لطيف بعباده ﴾ : بار بالبر والفاجر ﴿ ويرزق من يشاء ﴾ أي : يرزق من يشاء ما يشاء على مقتضى حكمته ﴿ وهو القوي العزيز ﴾ القادر المطلق الذي لا يغلب.
﴿ من كان يريد ﴾ بعمله ﴿ حرث الآخرة ﴾ أي : زرعها. سمي عمله زرع الآخرة ؛ لأن الفائدة تحصل فيها، كما يقال : زرع الصيف ﴿ نزد له في حرثه ﴾ بتضعيف ثوابه ﴿ من كان يريد ﴾ بعمله ﴿ حرث الدنيا نؤته منها ﴾ : شيئا منها بقدر ما قسمنا له ﴿ وما له في الآخرة من نصيب١ نصيب من عمله، إذ لكل امرئ ما نوى
١ ولما قرأ أن الله شرع لكم من الدين ما وصى به النبيون، فهو شرع الله وشرع أهل الهدى، فمن له طريق وشرع غير شرعهم، فما هو إلا من الأصنام والشياطين فقال: ﴿أم لهم شركاء﴾ الآية ١٢/وجيز..
﴿ أم لهم شركاء ١ : بل ألهم آلهة وهم الشياطين، والهمزة للتحقيق والتثبيت ﴿ شرعوا ﴾ : أظهروا ﴿ لهم من الدين ﴾ غير دين الإسلام ﴿ ما لم يأذن به٢ الله ﴾ وهذا إضراب عن قوله :﴿ شرع لكم من الدين ﴾ ( الشورى : ١٣ ) إلخ ﴿ ولولا كلمة الفصل ﴾ : القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة ﴿ لقضي بينهم ﴾ بين المؤمنين والكافرين في الدنيا ﴿ إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾
١ والآية بعمومها تشمل كل شيء لم يأمر به الله سبحانه وتعالى أو رسوله، فيدخل فيه التقليد لأنه مما لم يأذن به الله، بل ذمة في كتابه في غير موضع ولم يأذن به رسوله، ولا إمام من أئمة الدين ولا أحد من سلف الأمة وسادتها وقادتها، بل نهى عنه المجتهدون الأربعة، ومن كان بعدهم من أهل الحق بترك الإيمان وأتباع سنته المطهرة، وإنما أحدثه من أحدث من الجهال والعوام بعد القرون المشهود لها بالخير، فرحم الله امرءا سمع الحق فاتبعه وسمع الباطل فتركه وأدمغه، وبالله التوفيق /١٢ فتح..
٢ اعلم أن الله تعالى لما بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الآخرة والدنيا، أردفه بالتنبيه على ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال:﴿أم لهم شركاء﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ ترى الظالمين ﴾ في القيامة ﴿ مشفقين ﴾ : خائفين ﴿ مما كسبوا ﴾ : من وباله ﴿ وهو واقع بهم ﴾ لا محالة ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات١ في روضات الجنات ﴾ : أحسن بقاعها ﴿ لهم ما يشاءون عند ربهم ﴾ ظرف ل " لهم " أي : حصل لهم عنده وفي كرمه، أو حال ﴿ ذلك هو الفضل الكبير ﴾
١ ولما كانت العادة جارية بأن المبشر يطلب شيئا وإن لم يسأل، لأن بشارته بمنزلة سؤاله قال:﴿قل لا أسألكم عليه أجرا﴾ الآية /١٢وجيز..
﴿ ذلك ﴾ الثواب ﴿ الذي يبشر الله عباده ﴾أي : به، حذف الجار ثم العائد ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه ﴾ : على التبليغ ﴿ أجرا١ : نفعا منكم ﴿ إلا المودة في القربى ﴾ : إلا أن تحبوني في حق قرابتي منكم ومن أجلها، أو إلا أن تحبوا أهل قرابتي وتجعلوهم مكان المودة، فالظرف حال، وعن الإمام أحمد قال عليه الصلاة والسلام للعباس :" لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي " ٢ أو إلا أن تحبوا الله في تقربكم إليه بطاعته ﴿ ومن يقترف ﴾ : يكتسب ﴿ حسنة ﴾ طاعة ﴿ نزد له فيها ﴾ : في الحسنة ﴿ حسنا ﴾ بأن نضاعف أجرها ﴿ إن الله غفور شكور ﴾ يقبل الطاعة وإن قللت
١ قيل: جمع قريش مالا، وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك من سب آلهتهم، فنزلت /١٢ وجيز..
٢ أخرجه أحمد (١/٢٠٨) وغيره، وصحح إسناده الشيخ شاكر في تعليقه على المسند..
﴿ أم يقولون ﴾ بل أيقولون : إضراب آخر أشد من قوله :" أم لهم شركاء١ " إلخ ﴿ افترى ﴾ محمد ﴿ على الله كذبا فإن يشأ الله ﴾ أي : خذلانك اللازم للافتراء ﴿ يختم على قلبك ﴾ فلا تعي القرآن ولا تفهم الوحي، ويسلبك ما أتاك من الله تعالى، أو فتجترئ على الافتراء٢ عليه، وهذا رد واستبعاد لافترائه على الله تعالى. وعن مجاهد : يربط على قلبك بالصبر فلا يشق عليك أذاهم ﴿ ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ﴾ كلام ابتدائي عطف جملة على جملة لا على الجزاء، ولهذا أعاد اسم الله تعالى، ورفع يحق وحذف الواو من يمحو في اللفظ لالتقاء الساكنين، وفي الخط في بعض المصاحف على خلاف القياس كما في ﴿ ويدع الإنسان ﴾ [ الإسراء : ١١ ] وهذا عدة بمحو الباطل الذي هم عليه، وإثبات الحق الذي عليه المؤمنون بحججه أو بالقرآن أو بقضائه، وقيل : حاصله أن من عادته محو الباطل وإثبات الحق، فلو كان مفتريا لمحقه وأثبت الحق ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ فيعلم ضميرك وضميرهم، فيجزي الأمر على حسب ذلك
١ كأنه قال: شرع لهم دينا كذا أو كذا ثم قال: بل لهم دين شرع لهم شياطينهم، بل هم في الكفر أشد، لأنهم ينسبون نبينا وكلامنا إلى الافتراء، ثم الافتراء على الله /١٢ وجيز.
٢ لكن الله قد شرح صدرك وأنار قلبك، فحاشاك على الافتراء على الله/١٢ وجيز..
﴿ وهو١ الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾ : بالعفو عما تاب عنه، وعدم المؤاخذة به ﴿ ويعفوا عن السيئات ﴾ من شأنه قبول التوبة والعفو عن الذنوب، والظاهر من لفظ العفو وعطفه على يقبل التوبة، أن هذا في غير التائب ﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ فيثبت ويعاقب
١ وفي المعالم عن ابن عباس– رضي الله عنه- لما نزل ﴿إلا المودة في القربى﴾ وقع في بعض القلوب منها شيء، وقالوا: يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فجاء جبريل وأخبره بأنهم اتهموك، وأنزل ﴿أم يقولون افترى على الله﴾ الآية فاعتذروا، قالوا: يا نبي الله إنا نشهد بصدقك فنزل ﴿وهو الذي يقبل التوبة عن عباده﴾ الآية /١٢ وجيز.
﴿ ويستجيب الذين آمنوا ﴾ أي : يجيب الله تعالى دعاءهم ويثيبهم ﴿ وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ﴾ عما استحقوا، وفي الحديث في تفسير " ويزيدهم " قال- عليه الصلاة والسلام :" الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا " ١. وعن بعض السلف في قوله :" ويستجيب الذين آمنوا "، قال : يشفعون في إخوانهم وفي قوله :" ويزيدهم من فضله " قال : يشفعون في إخوان إخوانهم ﴿ والكافرون لهم عذاب شديد ﴾
١ ضعيف، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة وغيره..
﴿ ولو بسط١ الله الرزق لعباده ﴾ بأن أغناهم جميعا وفر الدنيا للكل ﴿ لبغوا ﴾ : أفسدوا ﴿ في الأرض ﴾ بطرا أي : ولم يبسط لئلا يعم البغي ولا يغلب الفساد على الصلاح ﴿ ولكن ينزل بقدر ما يشاء ﴾ أي : ينزل ما يشاء من أرزاقهم بتقدير وتعيين، وفي الحديث " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن منهم من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه٢ " ﴿ إنه بعباده خبير بصير ﴾ فيقدر لهم ما يناسبهم
١ لما قال الله:﴿يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾، وقال الله تعالى ﴿لطيف بعباده يرزق من يشاء﴾، كان للواهم أن يقول: كمال البسط واللطف أن يوفر الدنيا لكل من عباده فقال ﴿ولو بسط الله الرزق﴾الآية ١٢ وجيز..
٢ جزء من حديث طويل أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخه عن أنس مرفوعا، كما في الدر المنثور(٥/ ٧٠٤، ٧٠٥) وهو ضعيف كما في الحلية (٨/ ٣١٩)..
﴿ وهو الذي ينزل الغيث ﴾ : المطر، قيل : هو المطر النافع ﴿ من بعد ما قنطوا ﴾ : أيسوا منه ﴿ وينشر رحمته ﴾ : يبسط منافع الغيث، أو ينشر سائر رحمته ﴿ وهو الولي ﴾ المتصرف للأمور ﴿ الحميد ﴾ : المستحق للحمد
﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرٍض وما بث ﴾ أي : نشر، وما موصولة عطف على السماوات ﴿ فيهما من دابة ﴾ : من حي، ذكر اللزوم وأراد اللازم، أو في السماء دواب من مراكب أهل الجنة وغيرها، وقيل : فيهما، أي : في بينهما مما يدب على الأرض ﴿ وهو على جمعهم ﴾ للحشر ﴿ إذا يشاء ﴾ أي وقت شاء ﴿ قدير ﴾.
﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ من الجرائم فأنتم السبب، والفاء لتضمين " ما " معنى الشرط، ومن قرأ بغير الفاء فمن غير تضمين ﴿ ويعفوا عن كثير ﴾ فلا يعاقبكم لا في الدنيا ولا في الآخرة بها ﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ﴾[ فاطر : ٤٥ ] وعن١ علي- رضي الله عنه- قال : ألا أخبركم بأفضل آية حدثنا بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم ؟ ﴿ ما أصابكم من مصيبة ﴾ الآية قال : وسأفسرها لك يا على ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم والله أحلم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفى الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه "
١ رواه الإمام أحمد في مسنده/١٢ وجيز.[أخرجه أحمد (١/٨٥) وفي سنده ضعيف ومجهولان، وضعفه الهيثمي في "المجمع"، (٧/ ١٠٣، ١٠٤) ومع ذلك حسنه الشيخ شاكر في تعليقه على المسند.].
﴿ وما أنتم بمعجزين في الأٍرض ﴾ فيصل إليكم لا محالة ما قدر الله تعالى لكم ﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ فإنه هو المتولي والناصر وحده
﴿ ومن آياته الجوار١ السفن ﴿ في البحر كالأعلام ﴾ أي : السفن كالجبال في العظم، والظرف متعلق بما يتعلق به " من آياته " وكالأعلام حال من ضميره
١ قال صاحب البحر: أصله السفن الجواري، فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه/١٢ وجيز..
﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن ﴾ : يصرن ﴿ رواكد ﴾ : ثوابت ﴿ على ظهره ﴾ أي : ظهر البحر ﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾ : لكل مؤمن سافر البحر ورأى عجائبه، فإنه صبر على شدائد البحر وشكر عند الخلاص، والكافر يجزع فلا يشكر
﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾ : يهلك أهلهن بالغرق بسبب ذنوبهم، عطف على يسكن الريح ﴿ ويعف١ عن كثير ﴾ تقديره : أو إن يشأ يعصف الريح، فيوبق بعضا من أهلهن، وينج بعضا على العفو عنهم
١ يعني: أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين، إما سكون الريح فلا تجري السفن ولا يصل أهلها إلى مقاصدهم، وما ذلك إن طال إلا من عظائم أهوال البحر، لا يعرفه إلا من وقع فيه، أو يهلكهن بعصف الريح، أو بغير ذلك من أسباب إغراق السفن بشؤم ذنوبهم، وإن يشأ يعف عن كثير فلا يسكن ريحهم ولا يهلكون، بل تهب رياحهم فيصلون بالسلامة إلى مقاصدهم، وتلطفا عليهم بالعفو عن جرائمهم وعلى هذا "أو يوبقهن" عطف على يسكن الريح لأن التقدير: إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها/١٢ وجيز..
﴿ ويعلم١ الذين يجادلون في آياتنا ﴾ لإبطالها ﴿ ما لهم من محيص ﴾ : مهرب عن عذابه المقدر، ومن قرأ بنصب " يعلم " فعنده عطف على تعليل محذوف، أي : يوبقهن لينتقم منهم ويعلم
١ معنى الآية: وليعلم الذين ينازعون على وجه التكذيب، ألا مخلص لهم إذا وقفت السفن وإذا عصفت الرياح، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها؛ لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه، فإذا أصغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل فقال:﴿فما أوتيتم من شيء﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ﴾ لا يبقى بعد الموت ﴿ وما عند الله ﴾ من الثواب ﴿ خير وأبقى ﴾ لما كانت سببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمرا مقررا في العقول، غنيا عن الدلالة عليه بحرف موضوع له، بخلاف سببية كون الشيء عندكم لقلته وحقارته أتى بالفاء في الأول دون الثاني ﴿ للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ قيل : نزلت في أبي بكر١ - رضي الله عنه- حين تصدق بجميع ماله ولامه الناس
١ كما روى عن علي/١٢ وجيز..
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ عطف على اللذين، والأصح أن الكبائر : كل ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب والسنة ﴿ والفواحش ﴾ : تزايد قبحه، أو ما يتعلق بالفروج، تخصيص بعد تعميم ﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ سجيتهم الصفح لا الانتقام
﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾ : أجابوه حين دعاهم إلى الطاعة بلسان رسوله- عليه الصلاة والسلام ﴿ وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ﴾ : ذو شورى، لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾
﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ : الظلم ﴿ هم ينتصرون ﴾ يعني : يعفون في محل العفو، وينتقمون في محل الانتقام، ليسوا أدلة عاجزين
﴿ وجزاء١ سيئة سيئة مثلها ﴾ عقب وصف الانتقام بهذا إشارة إلى منع التعدي، وسمى الثانية سيئة للازدواج ﴿ فمن عفا وأصلح ﴾ بينه وبين عدوه ﴿ فأجره على الله ﴾ أبهم الجزاء للتعظيم ﴿ إنه لا يحب الظالمين ﴾ : الذين يبدءون بالظلم
١ لما قال:﴿والذين إذا أصابهم البغي هن ينتصرون﴾ أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل، فإن النقصان حيف الزيادة ظلم والتساوي هو العدل، وبه قامت السماوات والأرض، فلهذا السبب قال: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ الآية /١٢ كبير..
﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه ﴾ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي : بعد ظلم الظالم إياه ﴿ فأولئك ﴾ إشارة إلى معنى " من " ﴿ ما عليهم من سبيل ﴾ بعقوبة ومؤاخذة
﴿ إنما السبيل ﴾ أي : ما السبيل بالمعاقبة إلا ﴿ على الذين يظلمون الناس ﴾ لا على من ينتصر ﴿ ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ﴾
﴿ ولمن صبر ﴾ على الأذى ﴿ وغفر ﴾ ولم ينتصر ﴿ إن ذلك ﴾ إشارة إلى صبره، لا إلى مطلق الصبر، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ﴿ لمن عزم الأمور ﴾ : لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة.
﴿ ومن يضلل الله فما له من ولي ﴾ : من ناصر يتولاه ﴿ من بعده ﴾ : من بعد إضلال الله إياه ﴿ وترى الظالمين لما رأوا العذاب ﴾ في القيامة ﴿ يقولون هل إلى مرد من سبيل ﴾ : هل طريق إلى رجعة إلى الدنيا ؟ !
﴿ وتراهم يعرضون عليها ﴾ : على النار﴿ خاشعين ﴾ : خاضعين ﴿ من الذل ﴾ : مما يلحقكم من الذل ﴿ وينظرون ﴾ : إلى النار١ ﴿ من طرف خفي ﴾ : مسارقة فإن الكاره لشيء، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليه ﴿ وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ﴾ بالضلال ﴿ وأهليهم ﴾ بالضلال وقيل : خسروا أهليهم بأن فرقوا بأنفسهم وبينهم، لأنهم في النار وأهليهم في الجنة ﴿ يوم القيامة ﴾ ظرف خسروا، وقال : على التنازع. وهذا القول من المؤمنين حين رأوا أن العذاب أحاط بهم، والماضي٢ من باب ونادى أصحاب الأعراف [ الأعراف : ٤٨ ]، أو هذا القول منهم في الدنيا٣ ﴿ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ﴾ تصديق من الله تعالى أو تتمة كلامهم
١ دل عليها لفظ العذاب /١٢ منه..
٢ أي: قال والمناسب المضارع/١٢ منه. [غير أنه عدل إلى الماضي لتحقق وقوعه].
٣ فلا يكون من قبيل التنازع بل الظرف ل "خسروا" وحده/١٢ منه..
﴿ وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل ﴾ إلى الهداية والجنة
﴿ استجيبوا لربكم ﴾ أي : أجيبوا أمره وداعيه ﴿ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ﴾ من متعلق بمتعلق له لا١ بمرد أي : لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به، وقيل : متعلق بيأتي ﴿ ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير ﴾ : إنكار لأعمالكم٢، وجاز أن يراد إنكار لوعد الله تعالى وعيده
١ لأنه لو كان متعلقا بمرد معمولا له، لما صح بناؤه على الفتح، لكونه مشابها للمضاف فلا تغتر بظاهر عبارة الكشاف/١٢ منه..
٢ فإنهم في هذا اليوم مقرون بقبائح أعمالهم/١٢ منه..
﴿ فإن أعرضوا ﴾ عن الإجابة ﴿ فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ : رقيبا تحفظ أعمالهم ﴿ إن عليك إلا البلاغ١ وإنا إذا أذقنا الإنسان ﴾ أي : جنسه ﴿ منا رحمة ﴾ كصحة وغنى ﴿ فرح بها ﴾ فأشر وبطر ﴿ وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم ﴾ بسبب قبائحهم ﴿ فإن الإنسان كفور ﴾ : بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويقنط، علق الحكم بصريح اسم٢ الجنس دون الضمير العائد إلى مثله، تسجيلا على أن هذا الجنس موسوم بالكفران
١ والآية تسلية وتأنيس لقلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولما ضمن هذه الآية ما أرسله له، أتبعه ما جبل عليه الإنسان؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم- لا حكم له على الطباع، وأن الذي عليه الإسماع لا السماع، وبين السبب وإصرارهم على مذاهبهم الباطلة، وذلك أنهم وجدوا في الدنيا الفوز بالمطالب، ومطالب الدنيا يفيد الغرور والفجور والتكبر وعدم الانقياد للحق. فقال:﴿وإنا إذا أذقنا الإنسان﴾ الآية/١٢ كبير مع الوجيز..
٢ أي: قال: إن الإنسان ولم يقل: أنه/١٢ منه..
﴿ لله١ ملك السماوات والأرض٢ فيقسم الرحمة والسيئة كيف يشاء ﴿ يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ﴾ وإن لم يشأها٣ ﴿ ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ تأخير الذكور ؛ لأن سياق الكلام في إطلاق مشيئة الله تعالى من غير اختيار لغيره، والإناث مما لم يشأه الولدان، وأيضا للمحافظة على الفواصل، ولذا عرفه، أو لجبر التأخير أو قدمهن توصية برعايتهن لضعفهن، لا سيما وكن قريبات العهد بالوأد
١ ولما فصل من أول السورة أن التصرف والقدرة الكاملة لله وحده، وأن الإنسان من جملة الخلق وكل ما وصل إليهم من الرحمة فما هي إلا من فضلنا، وما وصل إليهم من سيئة فمن شؤم أنفسهم، بين أنهم مجبورون في أصل وجودهم وخلقتهم قال: ﴿لله ملك السماوات والأرض﴾ الآية/١٢ وجيز..
٢ والمقصود منه ألا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، بل إذا علم أن الكل ملك الله وملكه، وأن ما حصل من إنعامه وفضله تعالى، فحينئذ يصير ذلك حاملا على مزيد الطاعة والخدمة، وأما إذا اعتقد أن تلك النعم إنما تحصل بسبب عقله وجده واجتهاده بقي مغرورا بنفسه معرضا عن طاعة الله تعالى، ثم ذكر أقسام تصرف الله في العالم/١٢ كبير..
٣ يقصد: الأب، أو الأب الكافر لأنهم كانوا يكرهون الإناث فيئدونها خشية العار أو العفو..
﴿ أو يزوجهم ﴾ أي : المولودين ﴿ ذكرانا وإناثا ﴾ في موضع الحال من المفعول، وذكر هذا القسم بلفظه أو من غير ذكره المشيئة ؛ لأنه ليس قسيما على حدة، بل تركيب من السابقين ؛ كأنه قيل : يهب لمن يشاء إناثا منفردات وذكورا كذلك أو مجتمعين ﴿ ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ﴾ فيفعل ما يعلم صلاحه
﴿ وما كان١ : ما صح ﴿ لبشر٢ أن يكلمه الله إلا وحيا ﴾ : وهو الإلهام٣ أو المنام٤ ﴿ أو من وراء حجاب ﴾ : يسمع كلامه ولا يراه، كما لموسى عليه الصلاة والسلام ﴿ أو يرسل رسولا٥ : ملكا ﴿ فيوحي ﴾ ذلك الرسول إلى المرسل إليه ﴿ بإذنه ﴾أي : الله ﴿ ما يشاء ﴾ أي : الله، ووحيا وأن يرسل بمعنى : موحيا ومرسلا، ويقدر مسمعا قبل من وراء الحجاب، وكل منها حال، أو الكل مصدر، فإن الوحي والإرسال نوعان من التكلم، ويقدر قبل من وراء حجاب إسماعا، أو تقديره : بأن يوحى أو يسمع من وراء حجاب، أو يرسل فنصبه بنزع الخافض ﴿ إنه علي ﴾ عن مماثلة خلقه ﴿ حكيم ﴾ فيفعل ما تقتضيه حكمته
١ ولما ذكر قدرته التامة أعقبه بالنعمة العظيمة التي ليست لأحد، إلا من خصه الله تعالى من فضله، فقال:﴿وما كان لبشر﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ وفي المعالم وغيره أن اليهود قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى- صلى الله عليه وسلم- ونظر إليه؟ فنزل قوله:﴿وما كان لبشر﴾ الآية/١٢ وجيز..
٣ كما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر/١٢ لباب..
٤ كما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده وهو وحي /١٢ لباب..
٥ قال ابن عباس- رضي الله عنه:" إلا أن يبعث ملكا يوحى إليه من عنده أو يلهمه فيقذف في قلبه أو يكلمه من راء حجاب/١٢ در منثور..
﴿ وكذلك أوحينا إليك ﴾ يا محمد ﴿ روحا ﴾ أي : وحيا، فإنه حياة القلوب بما أوحى إليه ﴿ من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ على التفصيل١ الذي عرفت بعد الوحي، وعن بعضهم المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، كقوله :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾[ البقرة : ١٤٣ ] ﴿ ولكن جعلناه ﴾ الكتاب أو الإيمان ﴿ نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾
١ إشارة إلى جواب ما يقال: إن الأنبياء قبل البعثة مؤمنون عارفون بالإيمان بلا خلاف، فالجواب: أن المراد من الإيمان، الإيمان على التفصيل وهذا بعد البعثة البتة /١٢ منه..
﴿ صراط الله ﴾ بدل ﴿ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ﴾ فيحكم فيها بمقتضى عدله وفضله.
الحمد لله رب العالمين.
Icon