تفسير سورة الشورى

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية باستثناء أربع آيات. وهي تتضمن فيضا من عظيم الحقائق والأوامر والعبر والأخبار، كالتذكير بجلال الله وعظيم شأنه وسلطانه، والتنبيه إلى جلال القرآن الذي أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لينذر به يوم الجمع لا ريب فيه. وفي السورة بيان باتفاق النبيين وأديانهم على عقيدة التوحيد الخالص لله وحده، وإنْ اختلفت شرائعهم ومناهجهم تبعا لاختلاف الأعراف والملابسات والأزمان.
وفي السورة تنديد بالذين يستعجلون بقيام الساعة، على سبيل الإنكار والاستسخار. مع أن الساعة حقيقة كونية راسخة لا ريب فيها.
وتتضمن السورة بيانا بأن الناس من حيث الاهتمامات والأهواء قسمان :
أولهما : الذين يبتغون حرث الآخرة : فأولئك يضاعف الله لهم حرثهم ويزيدهم من فضله.
وثانيهما : الذين يبتغون حرث الدنيا، أي زينتها ومتاعها، فأولئك يعطيهم الله منها ما شاء، وهم من نعيم الآخرة محرومون. وتتضمن السورة قاعدة الشورى بين المسلمين لترسّخ فيهم مبدأ التشاور وعدم الاستئثار بالرأي.
وفي السورة تقرير راسخ لحقيقة العدل وما يتلوه من جمال الفضل، في العقوبات ؛ فقد شرع الله عقوبة القصاص حقًّا للمعتدى عليه إلا أن يعفو عن المعتدي الجاني. ومجرد الاقتصاص من الجاني عدل، لكن العفو عنه سخاء وصبر وترفع واستعلاء على الهوى وحفظ النفس وذلك فضل. وهو قوله عزّ من قائل :﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾ إلى غير ذلك من عظيم المعاني والأخبار والحكم كالتنبيه إلى يوم القيامة وما يتخللها من البلايا والأحزان والأفزاع.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :﴿ حم ( ١ ) عسق ( ٢ ) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٣ ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( ٤ ) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٥ ) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾.
تقدم الكلام عما قيل في معاني حروف الهجاء من فواتح بعض السور. وجملة القول في ذلك أن الله أعلم بما يراد في هذه الحروف.
والكاف، في اسم الإشارة ﴿ كذلك ﴾ في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر النبيين من الكتب السماوية يوحى إليك في هذه السورة. أو مثل ذلك الوحي، أو القرآن يوحي إليك وإلى الرسل من قبلك ﴿ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ على أن قوله :﴿ يُوحى ﴾ يقرأ بكسر الحاء. ولفظ الجلالة ﴿ الله ﴾ مرفوع على أنه فاعل١. والمعنى : ما تتضمنه هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحى مثله إلى الرسل من قبلك. و ﴿ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، صفتان لله عز وجل ؛ فهو سبحانه القوي القاهر، منيع الجناب، وهو سبحانه ذو الحكمة البالغة في أقواله وأفعاله وتدابيره.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٤.
قوله :﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ الله الذي بيده ملكوت كل شيء ؛ فهو مالك السماوات والأرض وهن جميعا تحت قهره وقدرته ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ الله سبحانه عالي الشأن، رفيع الدرجات، وله العظمة والكبرياء.
قوله :﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ﴾ ﴿ يَتَفَطَّرْنَ ﴾ أي يتشققن، من الانفطار وهو الانشقاق. أو من الفطر، وهو الشق. وتفطّر بمعنى تشقق١ والمعنى : أن السماوات والأرض يَكَدْنَ يتشققن من علوّ شأن الله وبالغ عظمته. وقيل : تكاد كل سماء تتفطر فوق التي تليها من فظاعة قول المشركين :﴿ اتخذ الله ولدا ﴾ وقيل : يتشققن من ثقل الملائكة عليها. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد " وأطّت، بالتشديد أطًّا وأطيطا ؛ أي صوَّتت قالوا : شجاني أطيط الركاب. وأطّ البطن أي صوَّت من الجوع، أو من شرب الماء عند الامتلاء. وأطَّ الظهر، أي صوَّت من ثقل الحمل. وأطَّت الإبل : أنَّت من تعب أو ثقل حمل٢.
ولئن قيل : لم قال : من فوقهن ؛ فإنه يُجاب بأن أعظم الآيات وأدلها على جلال الله وعظمته، فوق السماوات، وهي العرش والكرسي وصفوف الملائكة المرتَجَّة بالذكر والتسبيح والتقديس من حول العرش. فلذلك قال :﴿ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ﴾ كذلك قال الزمخشري في الكشاف.
قوله :﴿ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ الملائكة عاكفون على التسبيح لا يفترون. وتسبيح الله يراد به تنزيهه عما لا ينبغي لجلاله من النقائص والعيوب. وهم كذلك يحمدون الله على الدوام لا يسأمون. وذلك من التحميد، وهو عبارة عن وصف الله بأنه المحمود الذي ينبغي له دوام الشكر والثناء والتمجيد ؛ فهو سبحانه المتفضل المنَّان بكل الخيرات والبركات والنعم.
قوله :﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ الملائكة عباد الله مكرمون، وهم أطهار أبرار، مخلوقون من نور، فهم بذلك مجبولون على الخير والبرّ والطهر والتقوى، وهم من دأبهم الاستغفار للذين في الأرض من المؤمنين، يسألون الله لهم التوبة والمغفرة والتجاوز عن سيئاتهم وذنوبهم، والله جلت قدرته أكرم الأكرمين ؛ فهو غفار للذنوب والخطايا، قابل للتوب من عباده المنيبين المستغفرين ﴿ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ الله غفّار للذنوب جميعا، وهو سبحانه رحيم بعباده فلا يعاجلهم، بالعقاب قبل التوبة، ولا يعاقبهم بعد أن يتوبوا.
١ مختار الصحاح ص ٥٠٧.
٢ المعجم الوسيط ج ١ ص ٢٠.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ يريد بذلك المشركين أن يتخذوا من دون الله آلهة مزعومة مفتراة، يتولونها ويعبدونها ﴿ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الله يحفظ أعمال هؤلاء المشركين ويحصيها عليهم ليجازيهم بها يوم القيامة ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ أي لست أنت يا محمد حفيظا على أعمالهم ولا رقيبا عليها. إنما أنت منذر، فليس عليك إلا البلاغ وإنما علينا الحساب١.
١ الكشاف ج ٣ ص ٤٥٩-٤٦٠ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٤٥-١٤٦ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ٦.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ( ٧ ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك هذا القرآن. والمعنى : أنزلنا إليك قرآنا عربيًّا ليكون بلسان قومك كما أرسلنا كل رسول من قبلك بلسان قومه ﴿ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى ﴾ أي لتبلِّغ أهل مكة دعوة الحق فتدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده، ومجانبة الشرك والوثنية. وسميت مكة أم القرى ؛ لأنها أفضل مما سواها من المدن. وذلك لشرفها وقداستها وعظيم حرمتها. ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف في سوق مكة : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت " فالله عز وجل يبين في ذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه وقد أوحى الله إليه القرآن بَيِّنا جليًّا لينذر به أهل مكة ومن حولها من سائر البلاد شرقا وغربا.
قوله :﴿ وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لتحذِّر الناس يوم القيامة فيخشعوا ربهم ويبادروا بطاعته وتوحيده والتزام شرعه ومنهاجه. وسمي يوم الجمع ؛ لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين على صعيد واحد، من أجل الحساب. وهو يوم حافل ومشهود وكائن لا محالة فلا شك في وقوعه البتة. وإذا وقع كان الناس فريقين : فريق ناج وسعيد. وفريق هالك وخاسر. وهو قوله :﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ ففريق النجاة والسعادة يلجُون الجنة ليقيموا فيها آمنين منعَّمين. وفريق الخسران والشِّقوة يلبثون في السعير ماكثين حيث النار الحارقة والعذاب الواصب.
قوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ الأمة، يراد بها ههنا الطريقة والدين والنحلة١. يعني : لو شاء الله لجعل الناس كلهم على دين واحد، إما على الهداية أو على الضلالة. ولكن الناس مفترقون على أديان ومِلل مختلفة من الهدى والضلال تبعا لمشيئة الله الأزلية التي تسبق كل عزم أو إرادة. ولله في ذلك الحجة البالغة والحكمة التي لا يدركها سواه. وهو ما يقتضيه قوله :﴿ وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾.
قوله :﴿ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ﴿ الظالمون ﴾ مرفوع على أنه مبتدأ، وخبره ﴿ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أي ليس للكافرين الخاسرين يوم القيامة من ولي وهو المحب أو الصديق أو التابع أو الحليف٢ ليس لهم من مثل هؤلاء من يتولاهم ويدفع عنهم العذاب ﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ولا معين ينصرهم أو ينجيهم من العقاب٣.
١ مختار الصحاح ص ٣٦.
٢ المعجم الوسيط ج ٢ ص ١٠٥٨.
٣ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٦ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٠٧ وفتح القدير ج ٤ ص ٥٢٦.
قوله تعالى :﴿ أَمِ اتَّخَذُ وا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٩ ) ﴾.
ذلك إنكار من الله على المشركين الذين يعبدون من دونه آلهة مزعومة مفتراة، مبيِّنا أنه هو وحده الولي القادر الذي لا تنبغي العبادة أو الإلهية لأحد سواه. وهو قوله :﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ ﴿ أَمِ ﴾ المنقطعة بمعنى بل، والهمزة المفيدة للإنكار أي بل اتخذ هؤلاء الكافرون أولياء من دون الله يتولونهم وذلك على سبيل الاستفهام الإنكاري.
قوله :﴿ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ ﴾ الله وليُّ أوليائه فليتخذوه وليًّا. وليس ما اصطنعوه من آلهة مفتراة، تجديهم نفعا، أو تدفع عنهم ضرًّا أو شرًّا ؛ بل الله هو الولي وهو الحافظ والنصير ﴿ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ الله الذي يبعث الموتى من قبورهم يوم القيامة ليلاقوا الحساب ﴿ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ الله الخالق القادر، لا يعجزه شيء في هذا الكون، ولا يعزُّ عليه أن يفعل ما يريد.
قوله :﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ يبين الله قول رسوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين : إذا خالفكم المشركون وأهل الكتاب في شيء أو في أمر من أمور الدنيا فقولوا لهم : إنما حكم ذلك إلى الله وهو وحده يقضي بيننا وبينكم وقد قضى سبحانه أن الدين عند الله الإسلام.
وقيل : هذا عام في كل ما اختلف فيه الناس من أمر الدين، فحكمه ومرجعه إلى الله ورسوله ؛ يعني : ما اختلفتم فيه من أمر أو تأويل آية فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي ﴾ ﴿ ذلكم ﴾ في موضع رفع بالابتداء. و ﴿ اللهُ ﴾، عطف بيان. و ﴿ ربي ﴾ صفة لله. وخبر المبتدأ ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ ١ الله الذي هذه صفاته من إحياء الموتى والحكم بين المختلفين، والقادر على كل شيء هو وحده ربي وليس ما تزعمونه من آلهة موهومة مفتراة.
قوله :﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ إنما اعتمادي عليه دون غيره من العباد فقد فوضت أمري كله إليه وعليه وحده الاعتماد والتكلان ﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ أي أرجع إليه في كل أمري وأبوء إليه بذنوبي.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٥.
قوله :﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ فاطر، بالجر، بدل من الضمير في ﴿ عليه ﴾ وبالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هو فاطر السماوات الأرض١ أي خالقهما ومبدعهما.
قوله :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ أي خلق لكم من أنفسكم إناثا. والمراد بذلك حواء، فقد خلقت من نفس آدم. وقيل : خلق لكم من أنفسكم نسلا بعد نسل ﴿ وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ﴾ والمراد بالأزواج الثمانية ؛ إذ جعل الله من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، ذكورا وإناثا من كلا الصنفين.
قوله :﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾ أي يخلقكم في ذلك الخلق ذكورا وإناثا نسلا بعد نسل وجيلا بعد جيل من الناس والأنعام. قوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ الكاف، زائدة للتوكيد ؛ أي ليس مثله شيء ؛ فهو خالق الأزواج كلها ؛ ولأنه الفرد الأحد الصمد الذي ليس له في الكون نظير.
قال القرطبي في هذا الصدد : والذي يعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعَليِّ صفاته لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يُشَبَّهُ به.
ونقل عن الواسطي قوله : ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ. وجَلَّت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة. وهذا مذهب أهل الحق والسنة والجماعة رضي الله عنهم.
وقال الرازي في ذلك : احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلا في المكان والجهة. وقالوا : لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾.
قوله :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ يصف الله نفسه بأنه سميع لكل ما ينطق به الخلق، وأنه البصير فيرى ما يقع من أعمال وأحداث ولا يخفى عليه من ذلك شيء فيحاسب العباد على كل ما فعلوه من الإحسان والإساءة.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٥
.

قوله :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ﴿ مقاليد ﴾ جمع مقليد، وهو المفتاح١ أي بيده مفاتيح السماوات والأرض أو خزائنهما. فهما في قبضته وتحت قهره وسلطانه.
قوله :﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ أي يوسع الله الرزق من فضله على من يشاء من عباده، فيزيد له في الخير والبسطة ﴿ ويقدر ﴾ أي ويقتِّر على من يشاء منهم فيضيِّق عليه ويفقره.
قوله :﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ الله عليم بمن يصلحه البسطة في الخير والسعة في الرزق، ومن يفسده ذلك. ويعلم من يصلحه التقتير والتضييق في الرزق، ومن يفسده ذلك. إن الله لذو علم بذلك كله ؛ فهو سبحانه خالق الإنسان وهو عليم بحقيقة طبعه، بل هو أعلم بالإنسان من نفسه ويعلم ما يصلحه من الغنى أو الفقر٢.
١ مختار الصحاح ص ٥٤٨.
٢ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٨-٩ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٥١ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ٨ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٠٨..
قوله تعالى :﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ( ١٣ ) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾.
﴿ شرع ﴾ أي سنّ وأوضح ؛ شرع في الأمر أي خاض فيه. والشريعة، وهي مورد الناس للاستفتاء، سميت بذلك لوضوحها وظهورها، وجمعها شرائع. وشرع الله لنا كذا يشرعه : أظهره وأوضحه١.
فقد شرع الله لهذه الأمة ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وشرع لهم أي سنّ ونهج لهم. ثم فسَّر الشروع الذي اشترك فيه هؤلاء المرسلون من أولي العزم بقوله :﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ في موضع نصب، بدل من قوله :﴿ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ﴾ ٢ والمراد إقامة دين الله وهو الإسلام. وهو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر وسائر أركان العقيدة وأجزائها وغير ذلك من ضروب العبادات الأساسية مما يكون المرء بإقامته مسلما. ولم يرد الشرائع التي هي مصالح العباد فإنها مختلفة متفاوتة. فقد قال فيها :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ وكأن المعنى : ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي : التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم القتل والزنا وإذاية الخلق وغير ذلك من وجوه الأخلاق والعبادات الأساسية الثابتة. فقد شرع الله ذلك كله دينا واحدا وملة متحدة اتفقت عليها كلمة الأنبياء ومللهم جميعا. ولذلك قال سبحانه ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ أي اجعلوه قائما، واعملوا بما فيه دائما أبدا، من غير خلاف فيه ولا اضطراب. فهو واحد ثابت متجانس لا يتغير ولا يختلف. وبذلك وصى الله جميع النبيين عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والاتفاق والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، فدينهم من حيث معانيه الركينة الثوابت واحد لا يختلف. وفي الحديث : " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " والمراد به القدر المشترك بين النبيين جميعا وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله سبحانه :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾.
قوله :﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ أي شق على المشركين المكذبين، وعَظُمَ عليهم ﴿ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ يا محمد من توحيد الله ومجانبة الشرك والأوثان. وقيل : اشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله.
وذلك هو ديدن الظالمين في كل زمان ؛ فإنهم يشقُّ عليهم أن يسمعوا كلمة الحق والتوحيد والإخلاص، أو تشمئز قلوبهم وطبائعهم السقيمة المعوجة من دعوة الإسلام. أولئك هم الأشرار التائهون من مرضى الطبائع، والنفوس الشوهاء.
١ المصباح المنير ج ١ ص ٣٣١..
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٦.
قوله :﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ المراد بالعلم ههنا، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان المشركون يتمنون أن يُبعث فيهم نبي. فلما بعث الله فيهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه وذلك هو تَفَرُّقهم. وكان ذلك منهم ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ فهم أهل ظلم وإيذاء وكيد. وقيل : المراد أمم النبيين السابقين ؛ فقد اختلفوا فيما بينهم لما طال عليهم الأمد، فآمن قوم وكفر قوم. وقيل : المراد أهل لكتاب من اليهود والنصارى فقد كذّبوا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم لما جاءهم. كما قال سبحانه :﴿ وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيِّنة ﴾ فقد قال المشركون : لم خُصَّ محمد بالنبوة ؟ أما أهل الكتاب فقد حسدوه ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ يعني بغيا من بعضهم على بعض حبًّا في الظهور والاستعلاء وطلبا للرياسة. فما كان تفرُّقهم لقصور في الحجة والبيان. فقد كانت الحجة ظاهرة جَليَّة، والبيان واضحا ساطعا. ولكن كان تفرّقهم للظلم وإيثارا للشهوة والاستعلاء بالباطل.
قوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لولا قول من الله سبق أن لا يعاجلهم بالعذاب في الدنيا بل يؤخره ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ وهو يوم القيامة ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لعجل بينهم العذاب. أو لأنزل عقابه بهؤلاء المتفرقين المختلفين في الحق فعُوقبوا قبل الممات جزاء ظلمهم وضلالهم.
قوله :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ وهم أهل الكتاب الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل من بعد هؤلاء المختلفين في الحق ﴿ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ إنهم لفي شك من دين الله الحق وهو دين التوحيد، الذي وصّى به نوحا وأوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مُرِيبٍ ﴾ أي موقع في الريبة والشك١.
١ أحكام القرآن لابن العربي ج ٤ ص ١٦٥٤-١٦٥٥ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ١١ وتفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٢..
قوله تعالى :﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾.
هذه الآية من عظيمات الآيات المشتملة على فيض من المعاني الجليلة العظام. وهي تتضمن عشرا من المعاني المستقلة. فقالوا : لا نظير لها في هذه الصفة إلا آية الكرسي ؛ فهي كذلك عشرة فصول كهذه. وتلكم هي الآيات وهي : قوله :﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ ﴾ أي ادع إلى ما أوحينا إليك من الكتاب الحكيم، والدين القويم، دين الإسلام الكامل العظيم ؛ فهو جماع الخير والحق والصلاح والرحمة بما حواه من قواعد وأسس ثوابت تراعي فطرة الإنسان وتحقق للبشرية كامل السعادة والنجاة والصلاح في المعاش والمعاد.
قوله :﴿ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ أي استقم على عبادة الله وطاعته والامتثال لأوامره. أو استقم على تبليغ الرسالة. رسالة الإسلام العظيم ؛ بعقيدته الراسخة المرغوبة وتشريعه الكبير الشامل.
قوله :﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ يحذِّر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في كل زمان، أهواء المشركين والظالمين والمضلين. يحذِّرُ الله عباده المؤمنين على مرِّ الزمن شرَّ الافتتان بالطغاة والمفسدين والمجرمين من الناس. أولئك الذين يريدون للإسلام أن يتزعزع ويتبدَّد وينهار، وللمسلمين أن يضعفوا ويتهافتوا تحت ضربات الضلال والفتنة والإغواء لكي يزيغوا عن دينهم الإسلام فيركبوا متن الباطل والإباحية والردة جريا وراء الكافرين على اختلاف مللهم وأهوائهم وأحزابهم ومسمياتهم.
يحذِّر الله المؤمنين على الدوام أهواء الكافرين المضلين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين بالغ الكيد.
قوله :﴿ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ﴾ أي صدَّقت بسائر الكتب السماوية المنزلة من عند الله على النبيين والمرسلين. فلا نفرِّقُ في ذلك بين أحد منهم ؛ فكلهم مرسلون صادقون مؤتمنون.
قوله :﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ أمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم فأقضي بالحق والصدق. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا تحتذي به البشرية في العدل وإحقاق الحق بين الناس. فقد كان أبعد الخلْق عن الحيف والجور. ولم يعرف الثَّقَلان من أهل هذه الأرض أحدا أعدل وأصدق وأعظم استقامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ أي الله مالكنا ومالككم. وهو يخاطب بذلك أهل الكتابين، والتوراة والإنجيل. والمراد أن يقال لهم : إننا مقرّون لله بالوحدانية والربوبية فهو وحده المعبود لا إله غيره.
قوله :﴿ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي لنا جزاءُ ما اكتسبنا ولكم جزاء ما اكتسبتم. فنحن براء من أعمالكم وأنتم براء من أعمالنا.
قوله :﴿ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ﴾ أي لا خصومة بيننا وبينكم. فقد ظهر الحق واتضح البرهان فلم يبق بعد ذلك إلا العناد منكم. وليس بعد العناد من حجة أو خصومة أو جدال.
قوله :﴿ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ إلى الله المرجع والمعاد يوم الحساب١.
١ تفسير ابن كثير ص ١٠٩ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ١٢.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( ١٦ ) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ( ١٧ ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ﴾.
ذلك وعيد من الله للمشركين الذين يصدون الناس عن عقيدة التوحيد، ويفتنون المسلمين عن دين الإسلام. أولئك الظالمون الفتانون حجتهم باطلة وسقيمة وهم هالكون خاسرون. وذلك قوله :﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ﴾ أي الذين يخاصمون المؤمنين بعد ما استجابوا لله فأسلموا – ويجادلونهم بالحجج الكاذبة الواهية ليضلوهم ويصدوهم عن دينهم، دين التوحيد والطهر والفضيلة، دين الإسلام ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي حجتهم عند الله باطلة ؛ فهي مستهجنة وزائلة ؛ لأنها لا ثبات لها. دحضت الحجة دحضا أي بطلت، ودحض الرجل أي زلق١.
قوله :﴿ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ﴾ أي غضب من الله ينزل بهم في الدنيا ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ أي يعذبهم الله عذابا شديدا يوم القيامة.
وقيل : إن هؤلاء المشركين الذين جادلوا المؤمنين ليصدوهم عن الإسلام، قوم توهموا أن الجاهلية تعود. وقيل : المراد بهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانت محاجتهم للمسلمين قولهم لهم ! نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم. وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة على غيرهم ؛ لأنهم أهل كتاب وأنهم أولاد النبيين. وكان المشركون من غير أهل الكتاب يقولون للمسلمين : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديًّا فنزلت الآية.
١ المصباح المنير ج ١ ص ٢٠٣..
قوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ أنزل الله القرآن وسائر الكتب السماوية ﴿ بالحقّ ﴾ أي بالصدق ﴿ والميزان ﴾ يعني : وأنزل الميزان وهو العدل ليقضي بين الناس بالحق والإنصاف وبما أمر الله به في كتابه الحكيم.
قوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ أي ذات قُرب. أو لعل وقت الساعة قريب١.
والمعنى : وأي شيء يعلمك، لعل الساعة قد دنا قيامها. ولم يُخبره أَيانَ تقوم لما في إخفاء أوانها من ترهيب منها وتزيد في الحياة الدنيا وزينتها، وترغيب في طاعة الله والسعي الحثيث لنيل مرضاته.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٦..
قوله :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ والمراد ههنا المشركون المكذبون بيوم الدين ؛ فإنهم يستعجلون بقيام الساعة على سبيل التهكم والاستسخار، وهم يظنون أن الساعة غير قائمة. وذلك بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم موقنون بقيام الساعة وأن الناس مجموعون لرب العالمين ليلاقوا الحساب والجزاء. وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ أي وَجِلون من مجيئها، خائفون من قيامها. وهذه هي حال المؤمنين الصادقين ؛ إذ يخشون ربهم على الدوام ولا يبرح الخوف قلوبهم من هول القيامة وفُجاءتها ومن شدة يوم الحساب. وهم لا يدرون ما الله حينئذ فاعل بهم. نسأله سبحانه النجاة.
قوله :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾ المؤمنون موقنون أن الساعة قائمة، وأنها آتية لا ريب فيها.
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ﴾ ذلك تأكيد من الله بأن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويرتابون في حقيقتها، أولئك سادرون في الغي والباطل، تائهون في الجهالة والضلالة، موغلون في الغرور ومجانبة السداد١.
١ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٦ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٠..
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( ١٩ ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( ٢٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢١ ) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾.
يبين الله لطفه بعباده وإحسانه إليهم ؛ إذ رزقهم من واسع فضله وجزيل بركاته وكرمه. وأنزل إليهم الكتاب فيه تبصرة لهم وهداية وبعث فيهم نبيين من أنفسهم لينذروهم لقاء الله ويحذروهم يوم المعاد وليستنقذوهم من خُسران الدنيا والآخرة.
فقال سبحانه في كلماته الربانية العجيبة :﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ ﴿ لطيفٌ ﴾ من اللطف وهو الرفق. واللطف من الله معناه التوفيق والعصمة. ١
وهذه حقيقة راسخة تنطق بها كلمات الله الفُضلى، ويفيض بها قوله الحق والصدق وهو أن الله رفيق بالعباد وحفيٌّ بهم فلا يظلمهم ولا يحيف عليهم ؛ بل إنه عز وعلا قد أسبغ عليهم رحمته وفضله وإحسانه ما أقام به عليهم الحجة. ومن جملة لطف الله بالعباد وبالغ رأفته لهم، ذلك الرزق الذي جعله لهم ليقتاتوا ويعيشوا مطمئنين في الأرض، فلا تقُضُّهم القلة ولا يعُضُّهم الجوع، سواء فيهم المؤمنون والكافرون. فكلهم ينالون حظهم من الرزق الذي كتب الله لهم في هذه الدنيا.
وهذا هو قوله :﴿ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ يرزق الله جميع الناس. ورزقُهُ لهم على أقدار متفاوتة. فيوسع على هذا ويضيِّقُ على هذا. وفي ذلك حكمة لله بالغة يعلمها هو سبحانه.
قوله :﴿ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ الله القوي الجبار، الذي تهبط تحت قهره وجبروته كل القوى. وهو سبحانه العزيز. أي المنيع الجناب الذي لا يغْلبُهُ غالب.
١ مختار الصحاح ص ٥٩٨ والمصباح المنير ج ٢ ص ٢١٦..
قوله :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ الحرث معناه كسب المال. وجمعه أحراث١ وفي الأثر : احرُثْ لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
والمعنى : من كان يبتغي بعمله وما رزقناه من الكسب، الدار الآخرة فأطاع الله وأدى ما عليه من حقوق، نزدْ له من الثواب أضعافا كثيرة فنجعل له بالواحد عشرا إلى سبعمائة ضعف.
قوله :﴿ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا ﴾ من كان يبتغي بما آتاه الله من المال وسعة الرزق، رياسة الدنيا وزينتها ومتاعها ولا يسعى إلا من أجل هذه العاجلة ﴿ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ أي لا يحرم منها بل يُعطى منها ما شاء الله أن يعطيه، ولكنه لا حظ له في الآخرة.
قال قتادة في هذا الصدد : إن الله يُعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يُعطي على نية الدنيا إلا الدنيا.
وجملة القول في ذلك، أن من ابتغى الدنيا وحدها أعطاهُ الله منها ما شاء، دون الآخرة فهو محروم منها. ومن ابتغى الآخرة وحدها أعطاه الله حسن جزائها وأُعطيَ من الدنيا ما شاء اللهُ له أنْ يُعطى.
١ مختار الصحاح ص ١٢٨..
قوله :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ همزة ﴿ أَمْ ﴾ للاستفهام والتقرير والتقريع. والمراد بشركائهم هنا آلهتهم المزعومة. وقيل : الشياطين الذين زينوا لهم الشرك وإنكار القيامة، والعمل للدنيا، وقيل : شركاؤهم، يعني أوثانهم.
والمعنى : أم لهؤلاء المشركين بالله شركاءُ مضلون ابتدعوا لهم من الدين ما لم يُبح اللهُ لهم ابتداعه. إن هؤلاء المشركين المكذبين لا يتبعون ما شرع الله من الدين الحق بل إنهم يتبعون ما شرعه لهم شركاؤهم من الشياطين على اختلافهم سواء كانوا من الجن أو الإنس.
قوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لولا قضاء الله السابق بتأجيل العقاب، أو لولا وعد الله بأن الفصل بين العباد يكون يوم القيامة ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لعجل العقوبة للظالمين في الدنيا ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أعد الله للمشركين المكذبين عذابا أليما يصلونه يوم القيامة.
قوله :﴿ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ ﴿ مُشْفِقِينَ ﴾ منصوب على الحال من الظالمين ؛ لأن ﴿ تَرَى ﴾، هنا من رؤية العين لا القلب١. وذلك وصف لحال الخاسرين يوم القيامة ؛ إذ يغشى قلوبهم الخوف والذعر جزاء كفرهم وعصيانهم.
والمعنى : ترى الكافرين المكذبين يوم القيامة يا محمد خائفين وجلين من عذاب الله بسبب كفرهم وعصيانهم في الدنيا ﴿ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ وما يخشونه من العذاب نازل بهم ليصلوه لا محالة.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ﴾ المؤمنون المطيعون لله، المذعنون لجلاله بالخضوع، يقيمون في روضات الجنات فيهنئون فيها ويتنعَّمون. وروضات الجنات جمع روضة وهي الموضع الذي يكثر فيه النبات والخضرة ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم وتلذُّ به أعينهم من الطيبات والنعم.
قوله :﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ الإشارة عائدة إلى ما ذكر من التنعم والتلذذ والسرور في روضات الجنات. وذلك هو الفضل من الله وقد وصفه بأنه كبير ؛ لأنه في غاية الكمال من النعمة ؛ إذ لا يعْدِله فضل ولا تساويه نعمة من نعم الدنيا. ٢
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٧..
٢ فتح القدير ج ٤ ص ٥٣٣ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٤٦ والكشاف ج ٣ ص ٤٦٤..
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( ٢٣ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
يبشر الله عباده المؤمنين الصالحين بالنعيم المقيم في روضات الجنات. وهو قوله :﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ والإشارة عائدة إلى الفضل الكبير. وثمة حذف. والتقدير هو : ذلك الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ فقد عجَّل الله لهم البشرى ليتعجلوا السرور ويزدادوا رغبة في الطاعة وعمل الصالحات.
قوله :﴿ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ قال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يديه لذلك سعة فقال الأنصار : إن هذا الرجل قد هداكم الله تعالى به وهو ابن أختكم وتنوبه نوائب وحقوق وليس في يده لذلك سعة، فاجمعوا له من أموالكم ما لا يضرُّكم ففعلوا ثم أتوا به فقالوا : يا رسول الله إنك ابن أختنا وقد هدانا الله تعالى على يديك وتنوبك نوائب وحقوق، وليست لك عندنا سعة فرأينا أن نجمع لك من أموالنا فنأتيك به فتستعين على ما ينوبك وهو هذا فنزلت هذه الآية.
وقيل : اجتمع المشركون ف مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا صلى الله عليه وسلم يسأل على ما يتعاطاه أجرا. فأنزل الله تعالى هذه الآية١ ﴿ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لقريش : لا أسألكم على دعائي لكم وتبليغي إياكم رسالة الله أجرا أو جعلا. والجعل بالضم، هو ما جُعل للإنسان من شيء على فعل. وكذا الجعالة. ٢
قوله :﴿ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ ﴿ المودّة ﴾ منصوب على الاستثناء من غير الجنس٣ والمعنى : إلا أن تودوني لقرابتي منكم فتحفظوني. قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط الناس في قريش. فليس بطن من بطونهم إلا قد ولده. فقال الله له :﴿ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ أي لا أسألكم ثوابا ولا نفعا إلا أن تودوني في قرابتي منكم فتراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني. والمراد بالقربى هنا، قرابة الرحم. فكأنه قال لقريش : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة وتذكِّرنا هذه الآية بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوب حبهم وإكرامهم وعدم الإساءة إليهم بقول أو فعل. وأيما إساءة من ذلك على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأبرار الأطهار، فإنها ( الإساءة ) عصيان وخطيئة. وأهل بيته عليه الصلاة والسلام من ذرية طاهرة فُضْلى بل إن هذا البيت المصون الطهور لهو أشرف بيت على وجه الأرض، ولاسيما إن كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة، ملتزمين شرع الله وأحكام دينه الحنيف.
قوله :﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ﴾ ﴿ يَقْتَرِفْ ﴾ من الاقتراف وهو الاكتساب. يعني ومن يكتسب حسنة، وهو أن يعمل عملا فيه طاعة لله ﴿ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ﴾ أي نضاعف له الحسنة بعشر أمثالها فأكثر ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ غفور لذنوب عباده، شكور لحسناتهم وطاعاتهم.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٥١..
٢ مختار الصحاح ص ١٠٥..
٣ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٧..
قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ هي المنقطعة ؛ أي بل أيقولون افترى محمد على الله كذبا بدعواه النبوة. والاستفهام للإنكار والتوبيخ. وافترى من الافتراء وهو الاختلاق. وافتراء الكذب اختلاقه. وهكذا يهذي المشركون المكذبون إذ يقولون إن محمدا – بما ادعاه من نبوة – قد اختلق الكذب على الله.
قوله :﴿ فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ ذلك جواب من الله لهؤلاء المكذبين السفهاء. والمعنى : لو افتريت على الله كذبا يا محمد – كما يزعم هؤلاء الضالون – لطبع الله على قلبك فأنساك القرآن.
قوله :﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ﴾ أي يذهب الله بالباطل ويمحقه ﴿ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ المراد بالحق دين الإسلام، وهو دين الله القويم جعله الله هداية للعالمين ورحمة. والله يثبت هذا الحق بكلماته وهي القرآن الكريم. هذا الكلام الرباني المعجز الذي جعله الله نورا تستضيء به البشرية في هذه الدنيا كيلا تضلَّ أو تتعثر أو تشقى.
قوله :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ الله يعلم ما تكنه صدور عباده فلا عليه من ذلك شيء. وفي ذلك إشعار من الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لو حدثته نفسه أن يفتري على الله كذبا لطبع الله على قلبه وأذهب منه ما آتاه من وحي. وذلك ليستيقن المؤمنون، ويعلمَ الكافرون أن القرآن منزل من عند الله وليس في مستطاع أحد أن يفتري على الله منه شيئا. ١
١ تفسير الطبري ج ٢٥ ص ١٧-١٨ وتفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٤-٢٥..
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( ٢٥ ) ﴾.
يخبر الله في هذه الآيات عن عظيم فضله وبالغ مَنِّه وكرمه ورحمته بالعباد ؛ إذ يعفو عن الذنوب والخطايا ويتجاوز عن سيئات المذنبين ويغفر للنادمين التائبين ما قارفوه من المعاصي والزلات مهما كثرت. ذلكم الله المتفضل الرحيم المنّان. وهو قوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ يقبل الله توبة التائبين الذين قارفوا ذنوبا ثم رجعوا إليه نادمين مستغفرين. والتوبة تعني الندم على فعل المعاصي، والعزم على عدم الرجوع إليها ﴿ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ العفو، معناه التَّرك والمحو. عفا عن ذنبه أي تركه ولم يعاقبه عليه. عفا الله عنك أي محا ذنوبك. وعفوت عن الحق أي أسقطته. عافاه الله أي محا عنه الأسقام. ١
قوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ الله عليم بكل ما يفعله العباد أو يقولونه من خير أو شر. وهو جل وعلا لا يعزب عن علمه أيُّما خبر من قول أو فعل أو خَبْءٍ مستور.
١ المصباح المنير ج ٢ ص ٦٩ ومختار الصحاح ص ٤٤٣..
قوله :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ ﴿ الذين ﴾ في موضع نصب على أنه مفعول يستجيب ؛ أي ويستجيب الله للذين آمنوا ؛ أي يجيب لهم١.
والمعنى : أن الله يستجيب الدعاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل : يستجيب لهم الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم ولإخوانهم ؛ أي يجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض.
قوله :﴿ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي يعطيهم الله من حسن الجزاء ما لم يسألوه وقيل : يعطيهم الشفاعة في إخوانهم، وإخوان إخوانهم.
وروي عن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ﴿ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ قال : " الشفاعة لمن وجبت لهم النار، ممن صنع إليهم معروفا في الدنيا ".
قوله :﴿ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ ذلك وعيد من الله للكافرين المكذبين الذين تولوا معرضين عن دين الله وعن منهج الحق، فأولئك لهم عذاب من الله موجع يوم القيامة.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٨..
قوله :﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ نزلت الآية في قوم من أهل الصِّفَّة تمنوا سعة الدنيا والغنى. قال خباب بن الأرتّ : فينا نزلت هذه الآية. وذلك أنا بطِرْنا إلى أموال قريظة والنضير فتمنيناها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية١ ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ ﴾ أي لو وسَّع الله على عباده في الرزق فأعطاهم مالا كثيرا ﴿ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ ( بغوا ) من البغي وهو الظلم والتعدي. وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء٢ والمعنى : لو أن الله وسع على عباده في الرزق فأعطاهم المال الكثير لطغوا وعصوا وتجبروا وتولوا بطِرين أشِرين.
وقيل : لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه لقوله صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا " وهذا هو معنى البغي. وقيل : لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا.
قوله :﴿ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ ينزل الله لعباده من الأرزاق ما يختاره لهم مما فيه صلاحهم. وهو سبحانه أعلم بذلك. فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر. وقد جاء في الحديث : " إن من عبادي من لا يصلحهُ إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ".
قوله :﴿ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ الله خبير بما يصلح عباده وبما يفسدهم من الغنى والفقر، أو من السعة والإقتار ؛ فهو يعلم كل ما يصلحهم أو يضرهم. وهو سبحانه بصير بتدبيرهم وتصريف أمورهم بما فيه خيرهم وصلاحهم.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٥٢..
٢ المصباح المنير ج ١ ص ٦٤ ومختار الصحاح ص ٥٩..
قوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾ من العلامات الدالة على قدرة الله الصانع الحكيم أنه ينزل الغيث وهو المطر. ينزله من السماء إلى الأرض ليغيث به العباد ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾ أي يصيبهم المطر فيحيي به الله الأرض بعد موتها فيشيع فيها الخير والخصب والنماء من بعد أن يئس الناس من نزوله ﴿ وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ المراد بالرحمة الغيث وهو المطر النزل من السماء ؛ فإن الله ينشره على العباد ليعم به الأقطار والبلاد. قوله :﴿ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ أي المستحق للحمد من عباده على ما أسبغ عليهم من جزيل الخيرات والعطايا١.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٥ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٠..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ( ٢٩ ) ﴾.
يبين الله بعض آياته الدالة على عظمته وبالغ قدرته ورفيع سلطانه ؛ فإنه خلق السماوات والأرض. وهذان خلْقان هائلان عظيمان لا يدرك مدى اتساعهما وعظمتهما غير الله. وهو سبحانه الذي خلق فيهما وما بينهما كل دابة. وهو قوله :﴿ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ ذرأ السماوات والأرض كل ذي دبيب يتحرك أو يدب على الأرض وغيرها من الأجرام. وذلك يشمل الملائكة والأناسي والجن وسائر البهائم والحيوانات على اختلاف صورها وأشكالها وأجناسها وطبائعها وأحجامها.
لقد ذرأهم الله جميعا ووزعهم توزيعا ليكونوا منتشرين في أقطار السماوات والأرض ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ يجمع الله بمشيئته وقدرته سائر المخلوقات يوم القيامة فيجمع الأولين والآخرين من الناس وغيرهم من الخلائق في صعيد واحد. وذلكم صعيد الحشر، استعدادا لملاقاة الحساب والجزاء فيحكم الله فيهم بحكمه العدل الذي لا يجوز ولا يزيغ.
قوله :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ أي ما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم أو أهليكم أو أموالكم أو غير ذلك من وجوه المصائب فإنما ذلك عقوبة لكم من الله بما اجترحتم من السيئات والذنوب.
وذلك فضل من الله ورحمة منه بعباده ؛ إذْ يعاقبهم في الدنيا ببعض العقوبات جزاء آثامهم وسيئاتهم ومعاصيهم بدلا من معاقبتهم على ذلك في النار يوم القيامة. ولا شك أن عقاب النار في الآخرة أليم وجيع وأنه أشد ويلا وفظاعة. وفي المعاقبة في الدنيا على السيئات، جاء في الصحيح : " والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وصب١ ولا هم ولا حزن ؛ إلا كفَّر اللهُ عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يُشَاكها ".
وذكر عن الحسن البصري في قوله تعالى :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ قال : لما نزلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما من خَدْشٍ عودٍ ولا اختلاج عِرْق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ".
وروى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ؛ ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها ".
وذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ف هذا الصدد : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ فتلا هذه الآية :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ قال : ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلمُ من أن يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرمُ من أن يعود في عفوه يوم القيامة.
قوله :﴿ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ أي يعفو الله عن كثير من ذنوب عباده وسيئاتهم فلا يعاقبهم بها.
١ الوصب، معناه المرض. انظر مختار الصحاح ص ٧٢٤..
قوله :﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لا تفوتون الله بأنفسكم إذا أراد أن يعاقبكم على ذنوبكم فلا تعجزونه هربا من عقابه فأنتم في قبضته وتحت قهره وسلطانه ﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أي ليس لكم من دون الله أيُّما ولي يلي أمركم فيدفع عنكم عقابه إذا نزل بكم. وليس لكم كذلك من دون الله من نصير ينصركم من عذابه إذا حاق بكم فاتقوا الله وحده واحذروه١.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٦ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ٢١..
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( ٣٢ ) ﴾.
ذلك بيان من الله عن آية من آياته، أي علاماته الدالة عن عظيم قدرته وسلطانه. وذلك في قوله :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ ( الجواري ) هي السفن التي تجري في البحر ومفردها جارية. وقد شبهها لعظمها وضخامتها بالأعلام، وهي الجبال.
وهذه ظاهرة من ظواهر الطبيعة التي أبدعها وهي ظاهرة الطَّفْو على سطح الماء. وهي خصيصة من خصائص الماء وميزة من ميزاته، لا تتحقق في غيره من السوائل أو المائعات. فأيما جسم تقل كثافته عن كثافة الماء ؛ فإنه يطفو على وجه الماء بقدرة الله الذي ذرأ في الأشياء طبائعها وخصائصها وصفاتها.
قوله :﴿ نْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ﴾ إن يشأ الله يجعل الريح ساكنا هادئا فتركد السفن على ظهر الماء لتظل فوقه سواكن ثوابت لا تتحرك.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ إن فيما ذكر من أمر السفن الجاريات في البحر بتقدير الله لدلالات وعلامات ظاهرة ﴿ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ أي كثير الصبر على البلوى، كثير الشكر على النعماء قال قُطرب : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر.
قوله :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ أي يهلكهن بالغرق بما كسبه أهلها من الذنوب والمعاصي. أو إن يشأ الله يبتلي المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فتركد السفن الجواري على متن البحر. وإما أن يرسل الريح عاصفة شديدة هوجاء فيهلكهن إغراقا بسبب ما كسبوا من الذنوب.
قوله :﴿ وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ﴾ أي ويصفح عن كثير من ذنوبهم. وقيل : يصفح عن كثير من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم فينجيهم من الغرق. وقراءة الجمهور بالجزم، عطفا على جواب الشرط. ومن قرأ ( يعفو ) بالرفع، فقد استأنف الكلام.
قوله :﴿ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ أي ويعلمَ المشركون الذين يخاصمون في دلائل الله وحججه على وحدانيته وصدق ما أنزله إليهم أنه ليس لهم محيد ولا مهرب من عقاب الله وشديد بأسه١.
١ فتح القدير ج ٤ ص ٥٣٩ والكشاف ج ٣ ص ٤٧١-٤٧٢ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٧٦..
قوله تعالى :﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٣٦ ) ﴾ تتضمن هذه الآيات جملة أحكام ومواعظ، خليق بالمسلمين أن يُمعِنوا فيها النظر والتَّبصُّر، وأن يتدبروها خير تدبر ؛ ليأخذوا بما حوته من المعاني الخيرة النافعة والمقتضيات الجليلة. وذلك في قوله :﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ يعني ما أُعطيتم من الغنى والسعة والخير في حياتكم هذه إنما هو متاع هيِّن وزائل. عما قليل يذهب ويفنى وهو بهذه الصفة من سرعة التبدد والزوال لا يستحق منكم أن تهتموا به كل هذا الاهتمام أو تعبئوا به مثل هذا الإعباء.
قوله :﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ ما عند الله من حسن الجزاء والثواب على طاعته، وما يدخره لعباده المؤمنين من عظيم الأجر في الآخرة لهو خير وأفضل وأدوم للمؤمنين الطائعين المخبتين لربهم المتوكلين عليه دون غيره من المخاليق.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ﴾ المراد بكبائر الإثم الكبائر من الذنوب. والجمهور على القراءة بالجمع. وقرأ بعضهم على الإفراد، أي كبير الإثم. وقيل : المراد به الشرك. والفواحش يراد بها الكبائر وهي داخلة فيها لكنها أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرح، والزنا بالنسبة إلى المراودة. وقيل : الفواحش والكبائر بمعنى واحد. وقيل : الفواحش موجبات الحدود.
وهذه صفة للمؤمنين الصادقين وهي أنهم يجتنبون المعاصي الكبيرة أو الفواحش.
قوله :﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ ذلك إطراء من الله للمؤمنين الذين يتجاوزون عن الإساءات إليهم فيكظمون الغيظ ولا يغضبون إذا ما استُغضبوا. وهذه مَزيّة عظمى تتجلى في خلق المؤمن الصابر ذي الهمة العالية، والعقيدة الراسخة.
إنها مَزيّة حميدة فضلى ينميها الإسلام بعقيدته وتعاليمه في المسلم ؛ ليستعلي على شدة الانفعال وعلى سَوْرة الغضب فيجنح للصفح والتجاوز عن أسباب الإثارة والاستفزاز إذا ما انتابته بواعث الإثارة والاستغضاب. وضبط النفس في ساعة الغضب سجية كريمة وخصلة عظيمة أثنى عليها الإسلام أيما ثناء ؛ لأنها تكشف عن شجاعة المرء وعن مبلغ حلمه وسعة صدره ومدى اصطباره وهو يمسك بخطام نفسه كيلا يستخفه الغضب فيزلّ ويضلّ ويهوي. وفي هذا الصدد من إطراء المؤمن الصابر الصافح عن الإساءة، أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ".
قوله :﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ﴾ المؤمنون يستجيبون لله فيبادرون بالطاعة وفعل الصالحات. وفي مقدمة ذلك أن يقيموا الصلاة ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ وهذه واحدة من خصال المؤمنين الصادقين الطائعين ؛ فإنهم يتشاورون فيما بينهم في سائر أمورهم سواء في أحوال السلم أو في أحوال الحرب. فديدن المؤمنين الصادقين الأوفياء أنهم يتشاورون في سائر أمورهم ليخلُصوا إلى القول السديد، أو الرأي السليم النافع بعيدا عن ظواهر الطغيان في الرأي والاستبداد به والاستئثار.
قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ أي يبذلون مما أعطاهم الله من أموال في وجوه الخير فيتصدّقون به على الفقراء والعالة والمحاويج. وهذه واحدة من خصال المؤمنين المتقين الذين يَسْتَعْلُون على الأثرة والشح وعلى الضن بالمال على الضعفاء ؛ إنهم أسخياء كرماء يبذلون أموالهم في سبيل الخير على اختلاف وجوهه ومناحيه، وهم في ذلك لا يبتغون من الناس ثناءهم وشكرهم، وإنما يبتغون به مرضاة الله وحده والفوز بالسعادة والنجاة في الآخرة.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ البغي معناه الظلم والتعدي وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي١ وهذه واحدة أخرى من صفات المؤمنين الراسخين في العقيدة والإيمان وهي العزة والاستعلاء على الباطل والمبطلين. وعلى هذا إذا أصابهم من المشركين ظلم أو عدوان انتصروا منهم لأنفسهم ولم يستيئسوا أو يهنوا أو يذعنوا للذل والاستكانة والضعف وغير ذلك من وجوه الاستسلام والخور التي تنافي عقيدة الإسلام وأخلاق المسلمين الصادقين ؛ فقد بغى المشركون الظالمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه إذْ آذوهم وأخرجوهم من وطنهم فمكّن الله لهم في الأرض تمكينا ثم أذن لهم بقتال الظالمين لبغيهم عليهم وانتصارا لأنفسهم منهم. وهو قوله :﴿ أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا ﴾.
ويفهم من ذلك أن يكون المسلمون أقوياء في أنفسهم. أقوياء في عقيدتهم وكل مقوماتهم النفسية والروحية والعلمية والمادية ؛ كيلا يكونوا عاجزين ولا مقهورين ولا مستذلين للطغاة والكافرين ؛ بل قادرين على الانتقام ممن بغى عليهم من الكافرين الظالمين.
على أن المسلمين إذا جنحوا للعفو والصفح عمن بغى عليهم وكان فيهم القدرة على الانتقام من الظالم المعتدي، فلا جناح عليهم في ذلك بل إن ذلك من شيم المؤمنين الأقوياء الأعزاء. وذلكم هو العفو عند المغفرة. وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الأنام وخير من حملت الغبراء على متنها من أبرار أفذاذ عظام ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام يعفو عمن أساء إليه مع قدرته على الانتقام منه. ومن جملة ذلك : أنه عفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام منهم. وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث، الذي أراد أن يفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في يده صلتًا٢ فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه. وكذلك عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية – وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة. وكانت هذه المرأة قد وضعت السمّ في ذراع شاة قُدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على ذلك ؟ " قالت : أردت إن كنت نبيًّا لم يضرك وإن لم تكن نبيًّا استرحنا منك. فأطلقها عليه الصلاة والسلام. ولكن لما مات منه بشر بن البراء ( رضي الله عنه ) قتلها به. إلى غير ذلك من وجوه العفو عن الباغين والمعتدين كيفما تكن أوجه الاعتداء ما دام المسلمون العافون قادرين على الانتقام منهم٣.
١ مختار الصحاح ص ٥٩ والمصباح المنير ج ١ ص ٦٤..
٢ الصلت: البارز، والأملس، جبين صلت: أي واضح في سعة وبريق. وسيف أو سكين صلت: صقيل ماضٍ وجمعه أصلات. انظر المعجم الوسيط ج ١ ص ٥١٩..
٣ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٧-١١٨ وتفسير القرطبي ج ١٦ ص ٣٤-٣٨ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٧٨-١٧٩..
قوله تعالى :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( ٤٠ ) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ( ٤١ ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٤٢ ) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾.
شرع الله القصاص لعباده وهو عدل. فمن وقع عليه اعتداء مُتَعَمَّد من غيره، كان للمعتدى عليه أن يقتص من الجاني بمثل جنايته لا أنْقَص ولا أزْيَد. وقد نَدَب الله لفعل ما هو أفضل وهو العفو والصفح عن مساءات المسيئين. وبذلك فإن الفضل خير وأحب إلى الله من العدل. فالفضل وهو العفو مندوب إليه شرعا، وبذلك فإن فاعله مأجور. أما الاقتصاص من أجل التشفي والانتقام للنفس من المعتدي فهو في حق المعتدى عليه مباح. والمباح قسم من أقسام الحكم لا يؤجر فاعله ولا يأثم تاركه. وعلى هذا يجدر القول إن العفو عن المسيء خير وأفضل من أخذ الحق منه بالانتقام. وهو قوله سبحانه :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ فيكتب الله الأجر وحسن المثوبة للعافين عن المسيئين إليهم، شريطة أن يكون عفوهم عن مقدرة، وهو أنهم قادرون على الانتقام.
وذلك يكشف عن حقيقة ساطعة ظاهرة وهي أن شريعة الإسلام أكمل الشرائع كافة ؛ فهي الشريعة المثلى التي تناسب البشر على اختلاف طبائعهم وتفاوت أهوائهم وفِطَرِهم. لا جرم أن هذه سمة هامة من سمات الصلوح في الإسلام ؛ أي صلوحه للإنسانية في كل زمان ومكان. وقد بينا فيما مضى أن الشرائع والملل السابقة كانت تتأرجح بين الإفراط والتفريط، أو بين المغالاة والتنطُّع بعيدا عن ظاهرة الوسط الذي تصلح عليه البشرية على الدوام. فتلكم شرائع بني إسرائيل لا تُقرُّ العفو عن الجاني بل توجب القصاص دون غيره، خلافا لأناجيل النصارى الأربعة فإنها توجب العفو وحده وتأبى لمقلديها أن يقتصوا من الظالمين المعتدين. وكِلا السبيلين مخالف للسداد والاعتدال ؛ فإن التشريع السديد هو الذي يأخذ في الاعتبار طبائع الناس جميعا. وهي طبائع كثيرة ومختلفة ومتفاوتة. فمن الناس من يجنح للاقتصاص والانتقام وإشفاء الغليل عقب الاعتداء عليه. وذلك حق. ومنهم من يجنح للصفح والإحسان مترفعا عن شهوة الانتقام، فله ذلك وهو عند الله خير وأفضل.
قوله :﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ أي المعتدين المبتدئين بالسيئة. فإنه ليس المبتدئ بالظلم والعدوان بمحمود.
قوله :﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ ﴿ ظُلمه ﴾ مصدر مضاف إلى المفعول. أي بعد أن ظلمه الظالم له، أو بعد أن ظَلَمَه ظالمه. واللام لام الابتداء. ومن شرطية، وجواب الشرط ﴿ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ أي ليس عليهم من مؤاخذة أو جُناح في الانتصار ممن ظلمهم.
﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ﴾ إنما المؤاخذة والجناح والبأس على الذين يبتدئون الاعتداء على الناس فأولئك هم المؤاخذون الخاطئون المتلبسون بإثم العدوان على الآخرين وظلمهم، وليس على الذين انتصروا ممن ظلمهم فأخذوا منهم حقهم.
قوله :﴿ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ أي يتجاوزون في أرض الله الحد الذي أباحه الله لهم فيفسدون ويؤذون ويعيثون في البلاد خرابا ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ هؤلاء الذين يظلمون الناس ويعيثون في البلاد فسادا وظلما ويشيعون فيها الشرك والمعاصي، لهم من الله يوم القيامة شديد العذاب وهي جهنم.
قوله :﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ اللام، لام الابتداء. ومن، شرطية وقيل : اسم موصول. يبين الله في ذلك فضل الصبر على الإساءة والأذية عند الاقتدار على الانتقام. والمعنى : أن من صبر على إساءة المسيء إليه فغفر له جُرمه ولم يأخذ لنفسه منه وهو قادر على الانتصار منه، مبتغيا بذلك وجه الله وجزيل ثوابه ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ يعني ذلك الصبر على الإساءة والعفو عن المسيء لمن عزم الأمور الجيدة أو من عزائم الله التي أمر بها. أو من الأمور التي ندب الله إليها عباده وعزم عليهم العمل بها. ١
١ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٤٣-٤٥ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ٢٤-٢٥ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٨٣..
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ( ٤٤ ) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ( ٤٥ ) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ﴾.
يبين الله أنه هو الهادي إلى سواء السبيل فهو الموفق عباده لسلوك الخير وسبيل الرشاد، فمن يرد الله أن يهديه يوفقه لسلوك سبيل الهداية. ومن يرد أن يضله يخذله فيتيه ويشقى وهو قوله :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ أي من يخذله الله عن الصواب والسداد فليس له من وليٍّ يليه فينفعه أو يهديه إلى سبيل الحق.
قوله :﴿ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ أي ترى الكافرين الذين أشركوا بربهم لما عاينوا عذاب جهنم يوم القيامة يقولون لربهم وهم وجلون مذعورون مستيئسون : هل لنا يا ربنا من رجوع إلى الدنيا ؟ أو هل لنا من طريق إلى رجوعنا للدنيا ؟ فهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا فرارا من هول ما رأوه من عذاب جهنم.
قوله :﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ﴾ أي ترى هؤلاء المشركين الخاسرين يعرضون على النار يوم القيامة خاضعين خاسئين ذليلين، آيسين من كل عون أو رحمة. نسأل الله النجاة والرحمة.
قوله :﴿ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ أي يسارقون إليها النظر مسارقة من فرط خوفهم منها.
قوله :﴿ وََقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ يعني يقول المؤمنون يوم القيامة وهم آمنون سالمون مطمئنون : إن الخاسرين أشد الخسارة هم الذين خسروا أنفسهم ؛ لأنهم مخلَّدون في النار. وخسروا أهليهم ؛ لأن الأهلين إن كانوا في النار فلا ينتفع بهم أحد البتة. وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبين الخاسرين الذين هووا في النار.
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ﴾ الظالمون ماكثون في العذاب أبدا سرمدا يوم القيامة فلا يبرحون ولا يخرجون.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ ﴾ أي ليس للخاسرين الذين سقطوا في النار من أعوان ولا أنصار من دون الله ينفعونهم أو ينقذونهم مما هم فيه من شديد العذاب والنكال.
قوله :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ أي من يخذله الله ولم يوفقه للسداد فما له من طريق يفضي به إلى الصواب والحق والنجاة في الآخرة١.
١ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٢٠ وفتح القدير ج ٤ ص ٤٢-٥٤٣..
قوله تعالى :﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ( ٤٧ ) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﴾.
هاتان آيتان عظيمتان حافلتان بجليل المعاني، كالتذكير بيوم القيامة وما فيها من شديد الأهوال، والأمور المخُوفة الجسام. إلى غير ذلك من التنبيه إلى أن نبي الله محمدا صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلى الناس وكيلا أو رقيبا. وإنما هو منذر وهاد. وأن الإنسان بسجيته المفطورة على الضعف، لهو شديد الفرح بالنعمة، سريع النسيان والجحود إذا دهمته المصائب.
قوله :﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ يقول الله لعباده : أجيبوا دعوة الله إليكم ؛ إذْ دعاكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر وحذركم من عصيانه ومخالفة أمره من قبل أن تقوم القيامة وهو حدث كوني هائل رعيب يتزلزل به الوجود كله ولا يره أحد بعد ما قضى الله بحدوثه.
قوله :﴿ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي ليس لكم حينئذ من مهرب أو معقل تلجأون إليه فتعتصمون به مما هو نازل بكم يوم القيامة ﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ أي ليس لكم من ناصر ينصركم. وقيل : ليس لكم من إنكار يومئذ ؛ إذ تعترفون بذنوبكم فلا تستطيعون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه من الذنوب في دنياكم.
قوله :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ إن أعرض هؤلاء المشركون عن دعوة الحق فلم يستجيبوا ولم يؤمنوا وأبوا إلا الإعراض والشرك والضلال فإنا لم نرسلك رقيبا عليهم تحفظ عليهم أعمالهم فتحاسبهم عليها، ولا موكلا بهم فلا تفارقهم حتى يؤمنوا أي ليس لك أن تكرههم على الإيمان إكراها ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ﴾ أي ليس عليك يا محمد إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم من دعوة الإيمان والتوحيد.
قوله :﴿ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ﴾ إذا أُعطي الإنسان شيئا من نعم الدنيا وزينتها بَطِرَ بها وسُرَّ بها بالغ السرور بما رزقه الله من السعة والمال وغير ذلك من وجوه النعمة والرخاء.
قوله :﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﴾ إن أصاب المشركين والعصاة بلاء من فاقة أو ضيق أو شدة في العيش بسبب معاصيهم وما أسلفوا من السيئات جحدوا نعمة الله ونسوا ما مَنَّ الله به عليهم من وجوه الخير والرزق. وذلك هو وضع الإنسان في سرعة نسيانه للمصائب وشدة جحوده لنعم الله١.
١ تفسير الطبري ج ٢٥ ص ٢٧ وتفسير القرطبي ج ١٦ ص ٤٧-٤٨..
قوله تعالى :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ( ٤٩ ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾.
يبين الله في هذه الآية أنه مالك السماوات والأرض ؛ فهو خالقهما ومالكهما وبيده مقاليدهما. وهو المتصرف فيهما، القائم على أمورهما بالتدبير والرعاية وهو سبحانه يفعل في الخلْق ما يشاء، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾ يعني يؤتي من يشاء من عباده بنات ليس معهن ذكر. ومثال ذلك نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه لم يولد له ذكر. وهو كذلك يؤتي من يشاء بنين ليس معهم أنثى. ومثال ذلك خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنه لم يولد له أنثى. وكذلك غير النبيّين من عباد الله. وتلك هي سنة الله في عطائه الذرية لعباده. فمنهم من يؤتي البنين فقط، ومنهم من يؤتى البنات فقط.
﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا ﴾ ﴿ يُزَوِّجُهُمْ ﴾ من التزويج وهو الجمع بين البنين والبنات فيعطي من يشاء من عباده، الزوجين الذكر والأنثى ومثال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أعطي من البنين ثلاثة وهم القاسم وعبد الله وهو المسمى بالطيب والطاهر. ثم إبراهيم وأعطي من البنات أربعا وهن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
قوله :﴿ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾ والعقيم الذي لا ولد له١ أي يخلق الله من الناس صنفا لا يولد له البتة. ومثال ذلك نبي الله يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام وغيره من عباد الله كثيرون ذوو عقم لا يولد لهم.
فالناس بذلك أصناف أربعة : منهم من يرزق البنات، ومنهم من يرزق البنين، ومنهم من يرزق الصنفين الذكور والإناث، ومنهم من يمنعه الله هذا وهذا فيجعله عقيما لا نسل له ولا ولد.
قوله :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ الله ذو علم بما يخلق، وقدرته بالغة على صنع ما يشاء فهو لا يعجزه شيء ولا يعز عليه أن يفعل كل شيء٢.
١ مختار الصحاح ص ٤٤٨.
.

٢ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٢١ وتفسير القرطبي ج ١٦ ص ٤٨-٥٢..
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( ٥١ ) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٥٢ ) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾.
قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تكلِّم الله وتنظر إليه وإن كنت نبيًّا كما كلم الله موسى ونظر إليه ؟ فإنا لن نؤمن بك حتى تفعل ذلك. فقال : " لم ينظر موسى إلى الله " وأنزلت الآية١ ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا ﴾ يعني ما ينبغي لبشر من ذرية آدم أن يكلمه ربه إلا أن يوحي إليه وحيا. والمراد بالوحي هنا : نفث يُنفَثُ في قلبه فيكون إلهاما. وجاء في ذلك صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن روح القدس نفث في رُوعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " والرُّوع، بالضم معناه القلب والعقل. والروع بفتح الراء معناه الفزع. والروعة، الفزعة. ٢
قوله :﴿ أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ يعني أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه كما كلَّم نبيه موسى عليه الصلاة والسلام. وقد ذكر أن موسى سأل ربه الرؤية بعد التكلم فحجب عنها. قوله :﴿ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ﴾ يعني أو يرسل الله من الملائكة رسولا كجبريل أو غيره فيوحي هذا الرسول بإذن الله على المرسل إليه ما يشاء اللهُ أن يوحيه إليه من أمر أو نهي أو خبر أو تحذير أو غير ذلك.
قوله :﴿ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ يعظِّم الله نفسه مبيِّنا أنه رفيع الدرجات والمعالي. وما من شيء إلا هو هابط دون عليائه وجبروته. وهو كذلك ذو حكمة بالغة في قوله وفعله وتدبيره.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٥٢..
٢ مختار الصحاح ص ٢٦٣..
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا ﴾ يعني، ومثل الذي أوحيناه إلى النبيين من قبلك أوحينا إليك يا محمد ﴿ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ أي رحمة من عندنا، وقيل : المراد بالروح القرآن. وقيل : جبريل. وقيل غير ذلك. والأظهر أن المراد به القرآن ؛ فقد سماه الله روحا ؛ لأنه ينشر في الناس الحياة والمعرفة بعد أن كانوا من قبله جهالا يشبهون الموتى ؛ لفساد تفكيرهم وسلوكهم، وسوء صنعهم، وتخبطهم تائهين مضطرين حيارى. فلا شك أن القرآن أشبه بالروح السارية في أعماق الإنسان لتبعث فيه الحياة والحركة وتثير فيه الإحساس والقدرة على أداء الخير والمعروف.
قوله :﴿ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ ﴾ اختلف العلماء في المراد بالكتاب والإيمان ههنا، مع إجماعهم على أنه لا يجوز القول عن الأنبياء أنهم كانوا قبل الوحي على الكفر ؛ بل كانوا طيلة حياتهم على الإيمان بالله. وفي المراد بالكتاب والإيمان أقوال كثيرة، أظهرها أنك يا محمد كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان. وذلك برهان على أنه لم يأخذ منهم ما جاءهم به عن أحد منهم. وقيل : المراد بالكتاب القرآن. وأما الإيمان فيراد به تفاصيل الشرائع. وقيل : دين الإسلام.
قوله :﴿ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ أي جعلنا القرآن نورا وضياءً يستدل العباد بكماله وجماله وإعجازه وما حواه من عظيم المعاني والأخبار والحجج – على وحدانية الله وإنه الواحد الخالق المقتدر، فيهتدي به من عبادنا من وفَّقناه للهداية والإيمان والسداد.
قوله :﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أي إنك يا محمد لتدعو الناس إلى صراط الله المستقيم وهو دينه القويم الذي لا زيغ فيه ولا عوج وهو الإسلام.
﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ ﴿ صراط ﴾ بدل، من ﴿ صراط ﴾ الأول. والمراد به القرآن، أو الإسلام فهو طريق الله المستقيم يهتدي به السالكون فيأمنون وينجون، فلا يتعثرون ولا يضلون ؛ لأنه دين الحق المبين، دين الله مالك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من ملائكة وأناسي وجنٍّ وخلائق آخرين.
قوله :﴿ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ ذلك وعيد من الله للعباد، يدركه كل بصير حاذر مدَّكر. وذلك في بضع كلمات سريعة قلائل، لهن من روعة التأثير وقوة النفاذ إلى الذهن والجنان ما يستنفر في النفس دوام الفزع والحذر والترقب من هول ما هو آتٍ، حين تصير الأشياء والخلائق كلها إلى الله يوم القيامة١.
١ تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٥٩ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٩١ وفتح القدير ج ٤ ص ٥٤٥..
Icon