ﰡ
١٥٧ - قال اللَّه تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧)
١ - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، فإنا كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية ولو نرى قتالاً لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا، أنرجع ولما يحكم اللَّه بيننا وبينهم؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني اللَّه أبداً) فانطلق عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً، فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: (نعم).
٢ - أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما انصرف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحديبية نزلت هذه الآية: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) قال المسلمون: يا رسول اللَّه هنيئاً لك ما أعطاك اللَّه فما لنا فنزلت: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥).
٣ - أخرج البخاري والترمذي عن زيد بن أسلم عن أببه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً فسأله عمر بن
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه السورة. وقد ذكر المفسرون هذه الأحاديث عند تفسيرها على اختلاف بينهم في إيرادها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال ابن عطية: (هذه السورة نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منصرفه من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما تقتضي صحته) اهـ.
وقال القرطبي: (نزلت ليلاً بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها) اهـ.
وقال ابن كثير: (نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وهذا الذي ذكره المفسرون يوافق ما جاء في حديثي سهل بن حنيف، وزيد بن أسلم عن أبيه.
فقد جاء في حديث سهل: (فنزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر إلى آخرها).
وجاء في حديث زيد بن أسلم عن أبيه: (فقال: لقد أُنزلت عليَّ الليلةَ سورةٌ هي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) فالحديثان يتحدثان عن سورة كاملة وليس عن آية فقط.
أما حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه: أن المسلمين قالوا: هنيئًا لك ما أعطاك اللَّه فما لنا فنزلت: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... ) الآية. فهذا مرجوح لوجهين:
الأول: من جهة الإسناد فقد جاء في لفظ البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا). قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئًا مريئًا فما لنا؟ فأنزل الله: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) قال شعبة: فقدمت الكوفة، فحدثت بهذا كلِّه عن قتادة، ثم رجعتُ فذكرتُ له فقال: أما: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) فعن أنس، وأما هنيئًا مريئًا فعن عكرمة.
وقد فصّل شعبة القول في هذا فقال: (كان قتادة يذكر هذا الحديث في قصصه عن أنس بن مالك قال: نزلت هذه الآية لما رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحديبية (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ثم يقول: قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنيئًا لك... هذا الحديث. قال: فظننت أنه كله عن أنس، فأتيت الكوفة، فحدثت عن قتادة عن أنس ثم رجعتُ
وإذا كان الأمر كذلك وأن قوله: هنيئًا مريئاً وما بعده عن عكرمة، فلا ريب أن المقدم قول الصحابة في نزولها جميعاً.
الثاني: من حيث النظر فقد قال الشنقيطي: (أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله: (لِيُدْخِلَ) متعلقه بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ). وإيضاح المعنى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي السكون والطمأنينة إلى الحق في قلوب المؤمنين ليزدادوا بذلك إيمانًا لأجل أن يدخلهم بالطمانينة إلى الحق وازدياد الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار) اهـ.
وإذا كان إنزال السكينة علةً لزيادة الإيمان ودخول الجنات، فكيف ساغ الفصل بين الإنزال وعلته حسبما تدل عليه رواية عكرمة؟.
* النتيجة:
أن سورة الفتح بكمالها نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرجعه من الحديبية، وكان موضوعها على تلك القضية يدور بما فيها من قصص وأحداث متفرقة وذلك لصحة أسانيد الأحاديث في ذلك، وصراحة ألفاظها، واتفاق المفسرين عليها واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال جابر: بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن لا نفِرَّ ولم نبايعه على الموت.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن بيعه الرضوان ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: لقد رضي اللَّه يا محمد عن المؤمنين (إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يعني بيعة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسول اللَّه بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب وعلى أن لا يفروا ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أرسل عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برسالته إلى الملأ من قريش. فأبطأ عليه عثمان بعض الإبطاء، فظن أنه قد قتل فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم فبايعوه على ذلك وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان). اهـ. بتصرف.
قال السعدي: (يخبر تعالى بفضله ورحمته برضاه عن المؤمنين إذا يبايعون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك المبايعة التي بيضت وجوههم واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان ابن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق أن عثمان قتله المشركون.
فجمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من معه من المؤمنين وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين وأن لا يفروا حتى يموتوا.
ومن نظر إلى أن حديث جابر خلا من التصريح بنزول الآية قال المراد به التفسير وليس ذكر النزول.
وأيًّا كان مراد جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن من الثابت أن البيعة سبب النزول وإن لم يَدُلَّ حديث جابر على هذا فقد دلت عليه أدلة أخر واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة بيعة الرضوان التي كانت تحت الشجرة وإن كان الحديث الذي معنا لا يحتج به على تلك النتيجة لضعف سنده، وإعراض المفسرين عنه، مع عدم تصريح جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بنزول الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمنا الحديبية مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن أربع عشرةَ مائة، وعليها خمسون شاةً لا تُرويها. قال: فقعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جبا الرَّكيَّة فإما دعا وإما بسق فيها، قال: فجاشت. فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال: فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع. حتى إذا كان في وسط من الناس قال: (بايع يا سلمة) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول اللَّه في أول الناس - قال: (وأيضاً) قال: ورآني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزلاً - يعني ليس معه سلاح -. قال: فأعطاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَفَةً أو درَقَةً ثم بايع. حتى إذا كان في آخر الناس قال: (ألا تبايعني يا سلمة) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس. قال: (وأيضاً) قال: فبايعته الثالثة. ثم قال لي: (يا سلمة أين حَجَفَتُك أو درَقَتُك التي أعطيتك؟) قال: قلت: يا رسول اللَّه لقيني عمي عامر عَزِلاً فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليَّ من نفسي) ثم إن المشركين راسلونا الصلح، حتى مشى بعضنا في
٢ - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن
٣ - أخرج البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان في قصة الحديبية قالا: خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق فذكرا الحديث... إلى أن قالا: وينفلت منهم أبو جندلِ بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعيرٍ خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناشده باللَّه والرحم: لمَّا أَرسل: - فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) - حتى بلغ - (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم. وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد جاء في نزولها أربعة أحاديث ثلاثة منها اتفق النزول فيها على قصة الحديبية. أما الرابع وهو حديث المسور بن مخرمة ومروان فالنزول فيه إنما هو في قصة أبي جندل وأبي بصير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولعل هذا هو سبب إعراض المفسرين عنه فلم يذكر هذا الحديث إلا البغوي.
أما الأحاديث الثلاثة الأخرى فقد ذكرها جمهور المفسرين على تفاوت بينهم في إيراد بعضها أو جميعها ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذين بايعوا بيعة
وقال السعدي: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) أي أهل مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي: من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد، وهم نحو ثمانين رجلاً، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غِرة فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم فتركوهم ولم يقتلوهم رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (اتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية). اهـ. وأما الجواب عن حديث المسور بن مخرمة ومروان في نزول الآية في قصة أبي جندل وأبي بصير فقد قال ابن حجر مجيباً عن هذا الإشكال: (قوله: فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) كذا هنا، وظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن حديث أنس بن مالك أيضاً، وأخرجه أحمد والنَّسَائِي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذي أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غِرة فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية) اهـ.
* النتيجة:
أن الأحاديث المذكورة معنا باستثناء حديث المسور ومروان سبب نزول الآية الكريمة لصحة أسانيدها وصراحة ألفاظها وموافقتها لسياق القرآن واحتجاج المفسرين بها.
أما حديث المسور ومروان فلئن كان سنده صحيحاً ولفظه صريحاً فإنه لا يوافق سياق القرآن ولم يحتفِ به المفسرون واللَّه أعلم.
قد تقدم عند دراسة السبب رقم (١٥٧) أن السورة نزلت بكمالها، وفي السبب رقم (١٥٨، ١٥٩) نزول بعض المقاطع، وليس بينهما تعارض فالأمر لا يخلو من حالين:
الأولى: أن تكون السورة بكمالها نزلت بعد قوله - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة، وهذا لا يمنع السببية، فقد تأخر نزول براءة أم المؤمنين شهرًا، ومع هذا لم يمنع السببية، فكيف إذا كان التأخر لا يُجاوز أياماً؟
الثانية: أن هذين المقطعين نزلا في وقت الحادثتين، ثم ضم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقاطع إلى بعضها، فظن بعض الصحابة أنها الآن نزلت بكمالها. وأيًّا كان الأمر فهذا لا يمنع السببية. واللَّه أعلم.
* * * * *